العبر في خبر من غبر، من سنة 321 إلى 330
سنة إحدى وعشرين
وثلاثمئة
فيها بدت من القاهر شهامة وإقدام، فتحيّل حتى قبض على مؤنس الخادم
ويلبق، وابنه علي بن يلبق، ثم أمر بذبحهم، وطيف برؤوسهم ببغداد، ثم أمر
بذبح يمن وابن زيرك، فاستقامت بغداد، وأطلقت أرزاق الجند، وعظمت هيبة
القاهر في النفوس، ثم أمر بتحريم القيان والخمر، وقبض على المغنّين،
ونفى المخانيث، وكسر آلات الطرب، إلا أنه كان لا يكاد يصحو من السكر،
وسماع القينات.
وفيها توفي أبو حامد، ويقال أبو تراب الأعشمي، أحمد بن حمدون
النيسابوري الحافظ، وكان قد جمع حديث الأعمش كله وحفظه فلقب
(2/10)
بذلك سمع محمد بن رافع، وأبا سعيد الأشجّ
وطبقتهما. وكان صاحب بسط ودعابة.
وفيها أحمد بن عبد الوارث بن جرير، أبو بكر الأسواني العسّال، في جمادي
الآخرة، وهو آخر من حدث عن محمد بن رمح، وثقّه ابن يونس.
وفيها أبو جعفر الطَّحاوي، أحمد بن محمد بن سلامة الأزدي الحجري
المصري، شيخ الحنفية، سمع هارون بن سعيد الأيلي، وطائفة من أصحاب ابن
عيينة وابن وهب، وصنف التصانيف، وبرع في الفقه والحديث، توفي في ذي
القعدة، وله اثنان وثمانون سنة. قال ابن يونس: كان ثقة ثبتاً لم يخلف
مثله. وقال الشيخ أبو إسحاق: انتهت إليه رئاسة الحنفية بمصر، أخذ الفقه
عن أبي جعفر بن أبي عمران، وأبي حازم القاضي.
وفيها أبو علي أحمد بن محمد بن علي بن زين الدين الباشاني بهراه ثقة
روى عن علي بن بن خشرم وسفيان بن وكيع وطائفة.
وفيها الأمير تكين الخاصة، ولي دمشق ثم مصر وبها مات، ونقل إلى بيت
المقدس.
وفيها أبو يزيد حاتم بن محبوب الشامي، بهراة، حج وسمع محمد بن زنبور،
وسلمة بن شبيب، وكان ثقة.
وفيها الحسن بن محمد البصري، أبو علي بن أبي هريرة،
(2/11)
بأصبهان، روى عن إسماعيل بن يزيد القطّان،
وأحمد بن الفرات، وهو من كبار شيوخ ابن منده.
وفيها أبو هاشم الجبّائي، شيخ المعتزلة وابن شيخهم، عبد السلام ابن
محمد بن عبد الوهاب البصري، توفي في شعبان ببغداد.
وفيها ابن دريد، وهو أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد، بن عتاهية الأزدي
البصري اللغوي العلامة، صاحب، صاحب التصانيف، أخذ عن الرَّياشي، وأبي
حاتم السِّجستاني، وابن أخي الأصمعي، وعاش ثمانياً وتسعين سنة.
قال أحمد بن يوسف الأزرق: ما رأيت أحفظ من ابن دريد، ما رأيته قرئ عليه
ديوان، إلاّ وهو يسابق في قراءته. وقال الدَّارقطني: تكلموا فيه.
وفيها مكحول البيروتي، واسمه أبو عبد الرحمن محمد بن عبد الله بن عبد
السلام الحافظ، سمع محمد بن هاشم البعلبكيّ، وأبا عمير بن النحاس،
وطبقتهما بمصر والشام والجزيرة.
وفيها محمد بن هارون، أبو حامد الحضرمي، محدّث بغداد في وقته، وله نيّف
وتسعون سنة. روى عن إسحاق بن أبي إسرائيل، وأبي همام السَّكوني.
وفيها مؤنس الخادم، الملقب المظفَّر، توفي عن نحو تسعين سنة. وكان
(2/12)
أميراً معظماً شجاعاً منصوراً، لم يبلغ من
الخدّام منزلته، إلا كافور صاحب مصر، وقد مرّت أخبار مؤنس ومحاربته
للمقتدر.
سنة اثنتين وعشرين وثلاثمئة
فيها انفرد عن مرداويج الدَّيلمي، أحد قواده، الأمير علي بن بويه،
والتقى هو ومحمد بن ياقوت أمير فارس، فهزم محمداً واستولى على مملكة
فارس، وهذا أول ظهور بني بويه، وكان بويه من أوساط الناس يصيد السمك،
فملَّك أولاده الدنيا.
وفيها قتل القاهر بالله الأمير أبا السَّرايا، نصر بن حمدان، والرئيس
إسحاق بن إسماعيل النَّوبختي، وقتل قبلهما ابن أخيه أبا أحمد بن
المكتفي بلا ذنب، وتفرعن وطغى، وأخذ أبو علي بن مقلة وهو مختفى، يراسل
الخواصّ من المماليك، ويجسّرهم على القاهر، ويوحشّهم منه، فما برح حتى
اجتمعوا على الفتك به، فركبوا إلى الدار، والقاهر سكران نائم، وقد طلعت
الشمس، فهرب الوزير - في إزار - وسلامة الحاجب، فوثبوا على القاهر،
فقام مرعوباً وهرب، فتبعوه إلى السَّطح، وبيده سيف، فقالوا: إنزل،
فأبى، فقالوا: نحن عبيدك، فلم تستوحش منا، فلم ينزل، ففوَّق واحدٌ منهم
سهماً وقال: إنزل وإلا قتلتك، فنزل فقبضوا عليه في جمادى الآخرة،
وأخرجوا محمد بن المقتدر بالله ولقبوه الراضي بالله وكحل القاهر، ووزّر
ابن مقلة.
(2/13)
قال الصولي: كان القاهر أهوج سفّاكاً
للدماء، قبيح السيرة، كثير الاستحالة، مدمن الخمر، كان له حربة يحملها،
فلا يضعها حتى يقتل إنساناً، ولولا جودة حاجبه سلامة، لأهلك الحرث
والنَّسل.
وفيها هلك مرداويج الدَّيلمي بأصبهان، وكان قد عظم سلطانه وتحدثوا أنه
يريد قصد بغداد، وكان له ميل إلى المجوس، وأساء إلى أصحابه، فتواطأوا
على قتله في الحمام، وبعث الراضي بالعهد إلى علي بن بويه، على البلاد
التي استولى عليها، والتزم بحمل ثمانية آلاف ألف درهم في العالم.
وفيها اشتهر محمد بن علي الشَّلمغاني ببغداد، وشاع أنه يدّعي الآلهية،
وأنه يحيي الموتى، وكثر أتباعه، فأحضره ابن مقلة عند الراضي بالله،
فسمع كلامه، وأنكر الآلهية، وقال: إن لم تنزل العقوبة بعد ثلاثة أيام
وأكثره تسعة أيام، وإلاّ فدمي حلال. وكان هذا الشقيّ قد أظهر الرفض، ثم
قال بالتناسخ والحلول، ومخرق على الجهال، وضلّ به طائفة، وأظهر شأنه
الحسين بن روح زعيم الرافضة، فلما طلب، هرب إلى الموصل، وغاب سنين ثم
عاد، ودعى إلى آلهيِّته، فتبعه فيما قيل، الذي كان وزر للمقتدر، الحسين
بن الوزير القاسم بن الوليد بن الوزير عبيد الله
(2/14)
ابن وهب، وابنا بسطام، وإبراهيم بن أبي
عون، فلما قبض الآن عليه ابن مقلة، كبس بيته، فوجد فيه رقاعاً وكتباً
مما قيل عنه، ويخاطبون في الرِّقاع مما لا يخاطب به البشر، فأحضر
وأصرَّ على الإنكار، فصفعه ابن عبدوس، وأما ابن أبي عون فقال، آلهي
وسيدي ورازقي. فقال الراضي للشَّلمغاني: أنت زعمت أنك لا تدّعي
الربوبية، فما هذا؟ فقال: وما عليّ من قول ابن أبي عون، ثم أحضروا غير
مرّة، وجرت لهم فصول، وأحضرت الفقهاء والقضاة، ثم أفتى الأئمة بإباحة
دمه، فأحرق في ذي القعدة، وضربت رقبة ابن أبي عون ثم أحرق، وهو فاضل
مشهور صاحب تصانيف أدبية، وكان من رؤساء الكتَّاب - أعني ابن أبي عون -
وشلمغان من أعمال واسط.
وقتل الحسين بن القاسم الوزير، وكان في نفس الراضي منه.
وفيها جعل الراضي أبو بكر محمد بن ياقوت على الحجبة ورئاسة الجيش وبلغ
هارون بن غريب الخال، وهو على الدِّينور، فكاتب أمراء بغداد وقال: أنا
أحق برئاسة الجيوش، فواطأوه، فعسكر وسار حتى أطل على بغداد، فشخص لحربه
محمد بن ياقوت، والتقيا فتقنطر بهارون فرسه وصرع، فبادر مملوك لمحمد بن
ياقوت، فقتله وانهزم جمعه، ونهبوا وتمزقوا، ولم يحجّ أحد من بغداد في
سنة سبع وعشرين، خوفاً من القرامطة.
(2/15)
وفيها توفي أبو عمر أحمد بن خالد بن
الجبّاب القرطبي حافظ الأندلس، وكان أبوه يبيع الجباب. روى عن بقيّ بن
مخلد وطائفة وارتحل إلى اليمن فأخذ عن إسحاق الدَّبري وغيره، وعاش
بضعاً وسبعين سنة، وصنّف التصانيف.
قال القاضي عياض: كان إماماً في وقته في مذهب مالك، وفي الحديث لا
ينازع.
وفيها قاضي مصر، أبو جعفر أحمد بن عبد الله بن مسلم بن قتيبة، حدّث
بكتب أبيه كلها من حفظه بمصر، ولم يكن معه كتاب، وهي أحد وعشرون
مصنفاً، وولي قضاء مصر شهرين ونصف.
وفيها القدوة العارف، خير النسَّاج أبو الحسن البغدادي الزاهد، وكانت
له حلقة يتكلم فيها، وعمر دهراً، فقيل إنه لقي سريّا السَّقطي، وله
أحوال وكرامات.
وفيها المهديُّ عبيد الله، والد الخلفاء الباطنية العبيدية الفاطمية،
افترى أنه من ولد جعفر الصادق، وكان بسلمية، فبعث دعاته إلى اليمن
والمغرب، وحاصل الأمر أنه استولى على مملكة المغرب، وامتدت دولته بضعاً
وعشرين سنة، ومات في ربيع الأول بالمهدية التي بناها، وكان يظهر
الرَّفض ويبطن الزندقة.
(2/16)
قال أبو الحسن القابسي صاحبي الملخص: الذي
قتله عبيد الله وبنوه بعده، أربعة آلاف رجل في دار النَّحر في العذاب،
ما بين عالم وعابد، ليرّدهم عن الترضّي على الصحابة، فاختاروا الموت،
وفي ذلك يقول بعضهم من قصيدة:
وأحل دار النحر في أغلاله ... من كان ذا تقوى وذا صلوات
وفيها الدَّيبلي، أبو جعفر محمد بن إبراهيم، محدّث مكة، في شهر جمادى
الأولى، روى عن محمد بن زنبور وطائفة.
والعقيلي، أبو جعفر محمد بن عمرو الحافظ، صاحب الجرح والتعديل، عداده
في أهل الحجاز. روى عن إسحاق الدَّبري، وأبي إسماعيل التَّرمذي وخلق.
توفي بمكة في ربيع الأول.
والكتَّاني الزاهد، أبو بكر محمد بن علي بن جعفر، شيخ الصوفية المجاور
بمكة، أخذ عن أبي سعيد الخزّار وغيره، وهو مشهور.
والرًّوذباري الزاهد، أبو علي البغدادي، نزيل مصر وشيخها في زمانه، صحب
الجنيد وجماعة، وكان إماماً مفتياً، ورد عنه أنه قال: أستاذي في التصوف
الجنيد. وفي الحديث، إبراهيم الحربي، وفي الفقه، ابن سريج، وفي الأدب
ثعلب.
(2/17)
سنة ثلاث وعشرين
وثلاثمئة
فيها تمكّن الراضي بالله بحيث أنه قلّد ولديه وهما صبيان، إمرة المشرق
والمغرب.
وفيها محنة ابن شنبود، كان يقرأ في المحراب بالشواذّ، فطلبه الوزير ابن
مقلة، أحضر القاضي والقراء وفيهم ابن مجاهد. فناظروه، فأغلظ للحاضرين
في الخطاب، ونسبهم إلى الجهل، فأمر الوزير بضربه لكي يرجع، فضرب سبع
درر، وهو يدعو على الوزير، فتوّبوه غصباً، وكتبوا عليه محضراً، وكان
مما أنكر عليه قراءته: فامضوا إلى ذكر الله وذروا البيع. وكان أمامهم
ملكٌ يأخذ كلّ سفينةٍ صالحة غصباً وهذا الأنموذج مما روي ولم يتواتر.
وفيها هاشت الجند وطلبوا أرزاقهم، وأغلظوا لمحمد بن ياقوت، وأخرجوا
المحبوسين، ووقع القتال والجد ونهبت الأسواق، وبقي البلاء أياماً، ثم
أرضاهم ابن ياقوت، وبعد أيام قبض الراضي بالله، على ابن ياقوت وأخيه
المظفّر، وعظم شأن الوزير ابن مقلة، وتفرد بالأمور، ثم هاجت عليه
الجند، فأرضاهم بالمال.
وفيها استولت بنو عبيد الرافضة، على مدينة جنوه بالسيف.
وفيها فتنة البربهاري أبو محمد، شيخ الحنابلة، فنودي أن لا يجتمع اثنان
من أصحابه، وحبس منهم جماعة، واختفى هو.
(2/18)
وفيها وثب ناصر الدّولة، الحسن بن عبد الله
بن حمدان أمير الموصل، على عمه سعيد بن حمدان، فقتله لكونه أراد أن
يأخذ منه الموصل، فسار لذلك ابن مقلة في الجيش، فلما قرب من الموصل،
نزح عنها ناصر الدولة، ودخلها ابن مقلة، فجمع منها نحو أربعمئة ألف
دينار، ثم أسرع إلى بغداد، لتشويش الحال، ثم هزم ناصر الدولة جيش
الخليفة، ودخل الموصل.
وفيها أخذ القرمطي أبو طاهر، لعنه الله، الركب العراقي، وانهزم الأمير
لؤلؤ، وبه ضربات، وقتل خلق من الوفد، وسبيت الحريم، وهلك محمد بن ياقوت
في الحبس.
وفيها جمع محمد بن رائق أمير واسط، وحشد وتمكن وأضمر الخروج.
وفيها توفي الحافظ أبو بشر، أحمد بن محمد بن عمرو بن مصعب الكندي
المصعبي المروزي، روى عن محمود بن آدم وطائفة، وهو أحد الوضاعين
الكذابين، مع كونه كان محدّثاً إماماً في السُّنّة، والرد على
المبتدعة.
وفيها أبو طالب الحافظ، أحمد بن نصر البغدادي روى عن عبّاس الدُّوري
وطبقته، ورحل إلى أصحاب عبد الرزّاق، وكان الدّراقطني يقول: هو أستاذي.
وفيها نفطويه النحوي، أبو عبد الله إبراهيم بن محمد بن عرفه العتكي
(2/19)
الواسطي، صاحب التصانيف، روى عن شعيب بن
أيوب الصَّريفني وطبقته، وعاش ثمانين سنة، وكان كثير العلم، واسع
الرواية، صاحب فنون.
وفيها أبو نعيم عبد الملك بن محمد بن عدّي الجرجانب الحافظ، الجوّال
الفقيه الإستراباذي، سمع علي بن حرب، وعمر بن شبّة وطبقتهما.
قال الحاكم: كان من أئمة المسلمين، سمعت أبا الوليد الفقيه يقول: ولم
يكن في عصرنا من الفقهاء، أحفظ للفقهيات وأقاويل الصحابة بخراسان، من
أبي نعيم الجرجاني، ولا بالعراق، من أبي بكر بن زياد.
وقال أبو علي النَّيسابوري: ما رأيت بخراسان بعد ابن خزيمة، مثل أبي
نعيم، كان يحفظ الموقوفات والمراسيل، كما نحفظ نحن المسانيد.
قلت: عاش إحدى وثمانين سنة رحمه الله.
وفيها قاضي الكوفة، أبو الحسن علي بن محمد بن هارون الحميري الكوفي
الفقيه، روى عن أبي كريب والأشجّ، وكان ثقة يحفظ عامة حديثه.
وفيها أبو عبيد المحاملي، القاسم بن إسماعيل، أخو القاضي الحسين، سمع
أبا حفص الفلاس وطبقته.
وفيها أبو الحسن محمد بن أحمد بن عمارة الدّمشقي العطار، وله ست وتسعون
سنة. روى عن أبي هشام الرفاعي وطبقته.
(2/20)
سنة أربع وعشرين
وثلاثمئة
فيها ثارت الغلمان الحجرية، وتحلفوا واتفقوا، ثم قبضوا على الوزير ابن
مقلة، واحرقوا داره، ثم سلّم إلى الوزير عبد الرحمن بن عيسى، فضربه
وأخذ خطّه بألف دينار، وجرت له عجائب من الضرب والتعليق، ثم عزل عبد
الرحمن، ووزر أبو جعفر محمد بن القاسم الكرخي.
وكان ياقوت والد محمد والمظفر، بعسكر مكرم يحارب عليّ بن بويه لعصيانه،
فتمّت له أمور طويلة، ثم قتل وقد شاخ، وتغلب ابن رائق وابن بويه على
الممالك، وقلَّت الأموال على الكرخي، فعزل بسليمان بن الحسن، فدعت
الراضي بالله الضرورة، إلى أن كاتب محمد بن رائق ليقدم، فقدم في جيشه
إلى بغداد، وبطل حينئذ أمر الوزارة والدواوين، واستولى ابن رائق على
الأمور، وتحكّم في الأموال، وضعف أمر الخلافة، وبقي الراضي معه صورة.
وفيها توفي أحمد بن بقيّ بن مخلد، أو عمر الأندلسي، قاضي الجماعة في
أيام الناصر لدين الله، ولي عشرة أعوام، وروى الكتب عن أبيه.
وفيها أبو الحسن جحظة النديم، وهو أحمد بن جعفر بن موسى بن يحيى ابن
خالد بن برمك البرمكي الأديب الأخباري، صاحب الغناء والألحان والنوادر.
(2/21)
وفيها ابن مجاهد، مقرئ العراق، أبو بكر
أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد، روى عن سعدان بن نصر، والزيادي وخلق.
وقرأ على قنبل، وأبي الزَّعراء وجماعة. وكان ثقة حجة بصيراً بالقراءات
وعللها ورجالها عديم النظير. توفي في شعبان عن ثمانين سنة.
وفيها ابن المغلِّس الداودي وهو العلامة أبو الحسن عبد الله بن أحمد
ابن محمد بن المغلِّس البغدادي الفقيه، أحد علماء الظّاهر، له مصنفات
كثيرة، وخرّج له عدّة أصحاب، تفقه على محمد بن داود الظاهري.
وفيها ابن زياد النيسابوري، أبو بكر عبد الله بن محمد بن زياد بن واصل
الفقيه الشافعي الحافظ، صاحب التصانيف والرِّحلة الواسعة، سمع محمد بن
يحيى الذُّهلي، ويونس بن عبد الأعلى، وطبقتهما بمصر والشام والعراق
وخراسان.
قال الدارقطني: ما رأيت أحفظ منه.
وقال الحاكم: كان إمام عصره من الشافعية بالعراق، ومن أحفظ الناس
للفقيهات، واختلاف الصحابة.
وقال يوسف القواس: سمعت أبا بكر بن زياد يقول: نعرف من أقام أربعين سنة
لم ينم الليل، ويتقوّت بلداً، ويصليّ الغداة بطهارة العشاء، ثم قال:
أنا هو.
وفيها قاضي حمص، أبو القاسم عبد الصمد بن سعيد الكندي روى
(2/22)
عن محمد بن عوف الحافظ، وعمران بن بكار
وطائفة، وجمع التاريخ.
وفيها أبو الحسن الأشعري، علي بن إسماعيل بن أبي بشر، المتكلم البصري،
صاحب المصنفات، وله بضع وستون سنة، أخذ الحديث عن زكريا السَّاجي، وعلم
الكلام الجدل والنَّظر، عن أبي علي الجبائي، ثم ردّ على المعتزلة ذكر
ابن حزم: أن للأشعري خمسة وخمسين تصنيفاً، وأنه توفي في هذا العام.
وقال غيره: توفي سنة ثلاثين، وقيل بعد الثلاثين، وكان قانعاً متعففاً.
وفيها علي بن عبد الله بن مبشر، أبو الحسن الواسطي المحدث، سمع عبد
الحميد بن بيان، وأحمد بن سنان القطَّان، وجماعة.
سنة خمس وعشرين وثلاثمئة
فيها أشار محمد بن رائق على الراضي بالله، بأن ينحدر معه إلى واسط،
ففعل. ولم يمكنه المخالفة، فدخلها يوم عاشر المحرم، وكانت الحجّاب
أربعمئة وثمانين نفساً، فقرر ستين، وأسقط عامّتهم، وقلّل أرزاق الحشم،
فخرجوا عليه وعسكروا، فالتقاهم ابن رائق، فهزموا وضعفوا، وتمزقت
السّاجيّة والحجرية، فأشار حينئذٍ على الراضي، بالتقدّم إلى الأهواز،
وبها أبو عبد الله البريدي ناظرها، وكان شهماً مهيباً حازماً، فتسحّب
إليه خلق من المماليك والجند، فأكرمهم وأنفق فيهم الأموال، ومنع
الخراج، ولم يبق بيد الراضي، غير
(2/23)
بغداد والسَّواد، يحكم عليه ثم رجع إلى
بغداد ووقعت الوحشة بين ابن رائق وأبي عبد الله البريدي الكاتب، وجاء
القرمطي، فدخل الكوفة، فعاث ورجع، وأذن ابن رائق للراضي، أن يستوزر أبا
الفتح الفضل بن الفرات، فطلبه من الشام، وولاه. والتقى أصحاب ابن رائق،
وأصحاب ابن البريدي غير مرّة، وينهزم أصحاب ابن رائق، وجرت لهم أمور
طويلة، ثم إن البريدي، دخل إلى فارس، فأجاره عليّ بن بويه، وجهّز معه
أخاه أحمد، لفتح الأهواز، ودام أهل البصرة على عصيان ابن رائق لظلمه،
فحلف إن ظفر بها يجعلها رماداً، فجدُّوا في مخالفته، وقلَّت الأموال
على محمد بن رائق، فساق إلى دمشق، وزعم أن الخليفة ولاه إياه، ولم يجسر
أحد أن يحج خوفاً من القرمطي.
وفيها توفي وكيل أبي صخرة، أبو بكر بن عبد الله البغدادي النحاس، وقد
قارب التسعين، روى عن عمرو بن علي الفلاس وجماعة.
وفيه أبو حامد الحافظ بن الشَّرقي، المؤرخ المصنف، أحمد بن محمد ابن
الحسن، تلميذ مسلم، روى عن عبد الرحمن بن بشر وطبقته.
قال إمام الأئمة ابن خزيمة: حياة أبي حامد، تحجز بين الناس، وبين الكذب
على رسول الله صلى الله عليه وسلم. توفي في رمضان، عن خمس وثمانين سنة.
(2/24)
وفيها إبراهيم بن عبد الصمد بن موسى بن
محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس الأمير أبو إسحاق
الهاشمي، في المحرم، وهو آخر من روى الموطّأ، عن أبي مصعب.
وفيها أبو العباس الدَّغولي، محمد بن عبد الرحمن، الحافظ الفقيه، روى
عن عبد الرحمن بن بشر بن الحكم ومحمد بن إسماعيل الأحمسي وطبقتهما،
وكان من كبار الحفاظ.
وفيها علي بن عبدان، أبو حامد التميمي النيسابوري، الثقة الحجة، روى عن
عبد الله بن هاشم، والذُّهلي وطائفة، ولم يرحل.
وفيها أبو مزاحم الخاقاني، موسى بن الوزير عبيد الله بن يحيى بن خاقان
البغدادي، المقرئ المحدث السني، أخذ عن أبي بكر المروزي، وعباس
الدُّوري، وطائفة. ومات في آخر السنة.
سنة ست وعشرين وثلاثمئة
فيها أقبل البريدي في مدد من ابن بويه، فانهزم من بين يديه بجكم، لأن
الأمطار عطلت نشاب جنده وقسّهم، وتقهقروا إلى واسط، وتمت فصول طويلة.
وأما ابن رائق، فانه وقع بينه وبين ابن مقلة، وأخذ ابن مقلة يراوغ
ويكاتب، فقبض عليه الراضي بالله وقطع يده، ثم بعد أيام، قطع محمد بن
رائق لسانه، لكونه كاتب بجكم، فأقبل بجكم بجيوشه من واسط، وضعف عنه ابن
(2/25)
رائق، فاختفى ببغداد ودخل بجكم، فأكرمه
الراضي، ولقبه أمير الأمراء، وولاه الحضرة.
وفيها توفي أبو ذر، أحمد بن محمد بن محمد بن سليمان بن الباغندي.
روى عن عمر بن شبة، وعلي بن إشكاب، وطائفة.
وفيها عبد الرحمن بن أحمد بن محمد بن الحجاج، أبو محمد الرشيدي المهري
المصري الناسخ، عن سنّ عالية، روى عن أبي طاهر بن السَّرح، وسلمة بن
شبيب.
وفيها محمد بن القاسم، أبو عبد الله المحاربي الكوفي. روى عن أبي كريب
وجماعة. وفيه ضعف.
سنة سبع وعشرين وثلاثمئة
فيها سار الراضي وبجكم، لمحاربة ناصر الدولة ابن حمدان، فتخلّف الخليفة
بتكريت، والتقى ابن حمدان وبجكم فهزمه بجكم وساق وراءه إلى نصيبين،
وهرب ابن حمدان إلى آمد، ودخل الراضي بالله الموصل، فتسحّب طائفة إلى
بغداد مغاضبين، وظهر ابن رائق، فانضم إليه ألف نفس، ثم راسله الخليفة،
وولاه حلب، فسار إليها، وأعدم عبد الصمد بن المكتفي بالله، لكونه راسل
ابن رائق عند ظهوره، أن يبايعه.
وفيها ظاهر بجكم، ناصر الدولة ابن حمدان.
(2/26)
وفيها استوزر الراضي أبا عبد الله البريدي،
وحجّ الركب، وأخذ القرمطي على الجمل، خمسة دنانير.
وفيها توفي عبد الرحمن بن أبي حاتم محمد بن إدريس بن المنذر الحافظ
العلم أبو محمد الحافظ العلم الجامع التميمي الرازي بالريّ، وقد قارب
التسعين.
رحل به أبوه في سنة خمس وخمسين ومئتين، فسمع أبا سعيد الأشجّ، والحسن
ابن عرفة وطبقتهما.
قال أبو يعلى الخليلي: أخذ علم أبيه وأبي زرعة، وكان بحراً في العلوم
ومعرفة الرجال، صنّف في الفقه، واختلاف الصحابة والتابعين وعلماء
الأمصار، ثم قال: وكان زاهداً يعدّ من الأبدال.
وفيها أبو الفتح الفضل بن جعفر بن محمد بن الفرات الوزير ابن حنزابة
الكاتب، وزر للمقتدر في آخر أيامه، ثم وزر للراضي بالله، رأى لنفسه
التروح خوفاً من فتنة ابن رائق، فأطعمه في تحصيل الأموال في الشام
ليمده لها، فشخص إليها، فتوفي بالرَّملة كهلاً.
وفيها محدّث حلب الحافظ أبو بكر محمد بن بركة القنَّسريني برداغس روى
عن أحمد بن شيبان الرَّملي، وأبي أمية الطَّرسوسي وطبقتهما.
قال أبو أحمد الحاكم: رأيته حسن الحفظ.
(2/27)
وفيها أبو بكر محمد بن جعفر الخرائطي
السَّامري، مصنف مكارم الأخلاق ومساوئ الأخلاق "، وغير ذلك. سمع الحسن
بن عرفة، وعمر بن شبَّة وطبقتهما، توفي بفلسطين، في ربيع الأول، وقد
قارب التسعين.
وفيها محدث الأندلس، الحافظ محمد بن قاسم بن محمد بن قاسم بن محمد
الأموي مولاهم القرطبي. أكثر عن أبيه، وبقيّ بن مخلد، ورحل بأخرة، فسمع
من مطيِّن، والنسائي وطبقتهما فأكثر، توفي في آخر العام.
وفيها مبرمان النحوي، مصنف شرح سيبويه؛ وما أتمّه، وهو أبو بكر محمد بن
علي العسكري، أخذ عن المبرّد، وتصدّر بالأهواز، وكان مهيباً، يأخذ من
الطلبة، ويلح ويطلب حمال طبليَّة، فيحمل إلى داره من غير عجز، وربما
انبسط وبال على الحمال، ويتنقل بالتمر، ويحذف بنواه الناس.
سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة
فيها التقى سيف الدولة بن حمدان الدُّمشقي لعنه الله وهزمه.
وفيها عزل البريدي من الوزارة، بسليمان بن مخلد بإشارة بجكم.
وفيها استولى الأمير محمد بن رائق على الشام، فالتقاه الإخشيد محمد ابن
طغج فانكسر ابن رائق ووصل إلى دمشق في سبعين فارساً، ثم التقى أبا نصر
بن طغج فانهزم أبو نصر، وأسر كبار أمرائه، ثم قتل أبو نصر في المصاف.
وفيها توفي الوزير أحمد بن عبيد الله بن أحمد بن الخصيب أبو العباس
الخصيبي، وقد وزر غير مرّة بالعراق.
(2/28)
وفيها الوزير أبو علي محمد بن علي بن حسن
بن مقلة الكاتب، صاحب الخط المنسوب، وقد وزر للخلفاء غير مرّة، ثم قطعت
يده ولسانه، وسجن حتى هلك، وله ستون سنة.
وفيها أبو عبد الله أحمد بن علي بن العلاء الجوزجاني ببغداد، وله ثلاث
وتسعون سنة، وكان ثقة صالحاً بكّاءً، روى عن أحمد بن المقدام العجلي،
وجماعة.
وفيها محدث دمشق، أبو الدَّحداح أحمد بن محمد بن إسماعيل التميمي، سمع
موسى بن عامر، ومحمد بن هاشم البعلبكّي وطائفة.
قال الخطيب: كان مليّا بحديث الوليد بن مسلم.
وفيها أبو عمرو أحمد بن محمد بن عبد ربّه الأموي مولاهم الأندلسي،
الأديب الأخباري العلامة، مصنّف العقد، وله اثنتان وثمانون سنة، وشعره
في الذّروة العليا، سمع من بقيّ بن مخلد، ومحمد بن وضّاح.
وفيها العلامة أبو سعيد الاصطخري، الحسن بن أحمد بن يزيد، شيخ الشافعية
بالعراق، روى عن سعدان بن نصر وطبقته، وصنّف التصانيف، وعاش نيِّفاً
وثمانين سنة، وكان موصوفاً بالزهد والقناعة، وله وجه في المذهب.
وفيها الحسين بن محمد، أبو عبد الله بن المطبقي، بغدادي ثقة.
روى عن محمد بن منصور الطوسي وطائفة.
(2/29)
وفيها أبو محمد بن الشَّرقي، عبد الله بن
محمد بن الحسن، أخو الحافظ أبي حامد، وله اثنتان وتسعون سنة. سمع عبد
الرحمن بن بشر، وعبد الله بن هاشم وخلقاً.
قال الحاكم: رأيته وكان أوحد وقته في معرفة الطب، لم يدع الشراب إلى أن
مات فضعف بذلك.
وفيها قاضي القضاة ببغداد، أبو الحسين عمر، بن قاضي القضاة أبي عمر
محمد بن يوسف بن يعقوب الأزدي، وكان بارعاً في مذهب مالك، عارفاً
بالحديث، صنّف مسنداً متقناً، وسمع من جدّه ولم يتكهل، وكان من أذكياء
الفقهاء.
وفيها أبو الحسن محمد بن أحمد بن أيوب بن الصَّلت ابن شنَّبوذ المقرئ،
أحمد أئمة الأداء، قرأ على محمد بن يحيى الكسائي الصغير، وإسماعيل بن
عبد الله النحّاس، وطائفة كثيرة. وعني بالقراءات أتم عناية، وروى
الحديث عن عبد الرحمن بن محمد بن منصور الحارثي، ومحمد بن الحسين
الحنيني، وتصدّر ببغداد، وقد امتحن في سنة ثلاث وعشرين كما مرّ، وكان
مجتهداً فيما فعل، رحمه الله.
وفيها محدّث الشام، أبو العباس محمد بن جعفر بن محمد بن هشام بن ملاس
النُّميري مولاهم الدمشقي، في جمادى الأولى، روى عن
(2/30)
موسى بن عامر، وأبي إسحاق الجوزجاني وخلق،
وهو من بيت حديث.
وفيها أبو علي الثَّقفي، محمد بن عبد الوهاب النيسابوري الفقيه الواعظ،
أحد الأئمة، وله أربع وثمانون سنة، سمع في كبره من موسى بن نصر الرازي،
وأحمد بن ملاعب وطبقتهما. وكان له جنازة لم يعهد مثلها، وهو من ذرية
الحجّاج.
قال أبو الوليد الفقيه: دخلت على ابن سريج، فسألني: على من درست الفقه؟
قلت: على أبي علي الثَّقفي، قال: لعلك تعني الحجّاجي الأزرق، قلت: نعم.
قال: ما جاءنا من خراسان أفقه منه.
وقال أبو بكر الضبَّعي: ما عرفنا الجدل والنَّظر، حتى ورد أبو عليّ
الثَّقفي من العراق. وذكره السُّلمي في طبقات الصوفية.
وفيها أبو بكر الأنباري، أبو بكر محمد بن القاسم بن محمد بشّار النحوي
اللغوي العلامة، صاحب المصنّفات، وله سبع وخمسون سنة. سمع في صغره من
الكديمي، وإسماعيل القاضي، وأخذ عن أبيه، وثعلب وطائفة.
قال أبو علي القالي: كان شيخنا أبو بكر، يحفظ فيما قيل ثلاثمئة ألف بيت
شاهد في القرآن. وقال محمد بن جعفر التميمي: ما رأينا أحفظ من ابن
الأنباري، ولا أغزر بحراً، حدثوني عنه أنه قال: أحفظ ثلاثة عشر
(2/31)
صندوقاً. قال: وحدّثت عنه أنه كان يحفظ
مائة وعشرين تفسيراً بأسانيدها وقيل إنه أملى غريب الحديث في خمسة
وأربعين ألف ورقة.
وفيها الأستاذ أبو الحسن المزيّن، شيخ الصوفية، صحب الجنيد، وسهل بن
عبد الله، وجاور بمكة.
وفيها أبو محمد المرتعش عبد الله بن محمد النَّيسابوري الزاهد، أحد
مشايخ العراق، صحبه الجنيد وغيره، وكان يقال: إشارات الشبلي ونكت
المرتعش وحكايات الخلديّ.
سنة تسع وعشرين وثلاثمئة
في ربيع الأول استخلف المتقي لله، فاستوزر أبا الحسين أحمد بن محمد بن
ميمون، فقدم أبو عبد الله البريدي من البصرة وطلب الوزارة، فأجابه
المتَّقي وولاَّه، ومشى إلى بابه ابن ميمون، وكانت وزارة ابن ميمون
شهراً، فقامت الجند على أبي عبد الله يطلبون أرزاقهم، فخافهم وهرب بعد
أيام، ووزّر بعده أبو إسحاق محمد أحمد لقراريطي ثم عزل الكرخي، بعد
ثلاثة وخمسين يوماً فلم ير أقرب من مدة هؤلاء، وهزلت الوزارة وضؤلت،
لضعف الدولة، وصغر الدائرة. وأما بجكم، فنزل واسطاً، وقرر مع الخليفة،
أنه يحمل إليه في العام ثمانمئة ألف دينار، وعدل وتصدق، وكان ذا أموال
عظيمة، ونفس عصيبة، خرج يتصيّد، فأساء إلى
(2/32)
أكراد هناك، فاستفرد به عبد أسود، فطعنه
برمح فقتله في رجب، وفر معظم جنده إلى البريدي، وأخذ المتقي من داره
ببغداد، ما يزيد على ألفي ألف دينار، وقلَّد المتقي إمرة الجيش كورتكين
الدَّيلمي، وجرت أمور، ثم استدعى المتّقي محمد بن رائق، فسار من دمشق،
واستناب بها أميراً، ووصل إلى بغداد، وخطب ابن البريديّ له بواسط
والبصرة، فالتقى ابن رائق وكورتكين على بغداد غير مرة، ثم خذل كورتكين
واختفى، وأسرت أمراؤه، وضربت أعناقهم، وتمكّن ابن رائق.
وفيها توفي البريهاري، أبو محمد الحسن بن علي، الفقيه القدوة شيخ
الحنابلة بالعراق، قالاً وحالاً وحلالاً، وكان له صيت عظيمٍ، وحرمة
تامة، أخذ عن المروزيّ، وصحب سهل بن عبد الله التستري، وصنّف التصانيف،
وكان المخالفون، يغلّظون قلب الدولة عليه، فقبض على جماعة من أصحابه
واستتر هو في سنة إحدى وعشرين، ثم تغيّرت الدولة، وزادت حرمة
البربهاري، ثم سعت المبتدعة به، فنودي بأمر الراضي بالله في بغداد، لا
يجتمع اثنان من أصحاب البربهاري، فاختفى إلى أن مات في رجب رحمه الله.
وفيها القاضي أبو محمد عبد الله بن أحمد بن زبر الرَّبعي البغدادي، وله
بضع وسبعون سنة، سمع عباساً الدُّوري وطبقته، وولي قضاء مصر ثلاث
(2/33)
مرات، آخرها في ربيع الأول من هذا العام،
فتوفي بعد شهر، ضعَّفه غير واحدٍ في الحديث، وله عدة تصانيف.
وفيها الحامض، وهو المحدّث أبو القاسم عبد الله بن محمد بن إسحاق
المروزي ثم البغدادي. روي عن سعدان بن نصر وطائفة.
وفيها أبو نصر محمد بن حمدويه المروزي القارئ المطَّوِّعي، روى عن أبي
داود السِّنجي، ومحمود بن آدم وطائفة. قال الدارقطني ثقة حافظ.
وفيها أبو الفضل البلعمي، الوزير محمد بن عبيد الله، أحد رجال الدهر
عقلاً ورأياً وبلاغة. روى عن الإمام محمد بن نصر المروزي وغيره، وصنف
كتاب " تلقيح البلاغة ". و " كتاب المقالات ".
وفيها توفي الراضي بالله، أبو إسحاق محمد، وقيل أحمد، بن المقتدر بالله
جعفر بن المعتضد بالله احمد بن أبي احمد بن المتوكل على الله العباس،
ولد سنة سبع وتسعين ومائتين، من جارية رومية اسمها ظلوم، كان قصيراً،
أسمر نحيفاً، في وجهه طول، واستخلف سنة اثنتين وعشرين وثلاثمئة، وهو
آخر خليفة له شعر مدوّن، وآخر خليفة انفرد بتدبير الجيوش وإلى خلافة
المقتفي، وآخر خليفة خطب يوم الجمعة، إلى خلافة الحاكم العباسي، فإنه
خطب أيضاً مرتين، وآخر خليفة جالس النُّدماء، ولكنه كان مقهوراً مع
أمرائه، مرض في ربيع الأول بمرض دموي ومات، وكان سمحاً كريماً، محباً
للعلماء والأدباء، سمع الحديث من البغويّ،
(2/34)
وتوفي في نصف ربيع الآخر، وله إحدى وثلاثون
سنة ونصف.
وفيها يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن بهلول، أبو بكر التَّنوخي الأنباري
الأزرق الكاتب، في آخر السنة ببغداد، وله نيّف وتسعون سنة.
روى عن جدّه، والحسن بن عرفة وطائفة.
سنة ثلاثين وثلاثمئة
فيها الغلاء المفرط والوباء ببغداد، وبلغ الكرُّ مئتين وعشرة دنانير،
وأكلوا الجيف.
وفيها وصلت الروم، فأغارت على أعمال حلب، وبدعوا وسبوا عشرة آلاف نسمة.
وفيها أقبل أبو الحسين علي بن محمد البريدي في الجيوش، فالتقاه المتقي
وابن رائق فكسرهما، ودخلت طائفة من الدَّيلم دار الخلافة، فقتلوا
جماعة، وهرب المتَّقي وابنه وابن رائق إلى الموصل، واختفي وزيره أبو
إسحاق القراريطي، ووجدوا في الحبس كورتكين. وكان قد عثر عليه ابن رائق
فسجنه، فأهلكه البريدي ووقع النهب في بغداد، واشتدّ القحط، حتى بلغ
الكرُّ، ثلاثمئة وستة عشر ديناراً، وهذا شيء لم يعهد بالعراق، وألحّ
أبو الحسين البريدي في المصادرة، ونزح الناس وهجّوا، ثم عم البلاء
بزيادة دجلة، فبلغت عشرين ذراعاً، وغرق الخلق، ثم خامر توزون، وذهب إلى
الموصل.
وأما ناصر الدولة ابن حمدان، فإنه جاءه محمد بن رائق إلى خميته، فوضع
رجله في الركاب، فشبّ به الفرس، فوقع فصاح ابن حمدان
(2/35)
لا يفوتنكم فقتلوه، ثم دفن وعفي قبره، وجاء
ابن حمدان إلى المتّقي فقلّده مكان ابن رائق، ولقّبه ناصر الدَّولة،
ولقَّب أخاه عليّاً، سيف الدَّولة، وعاد وهما معه، فهرب البريديّ من
بغداد، وكان مدة استيلائه عليها ثلاثة أشهر وعشرين يوماً، ثم تهيّأ
البريديّ، وعاد فالتقاه سيف الدولة بقرب المدائن، ودام القتال يومين،
فكانت الهزيمة أوّلاً على بني حمدان والأتراك، ثم كانت على البريدي،
وقتل جماعة من أمراء الدَّيلم، وأسر آخرون، وردَّ إلى واسط بأسوأ حال،
وساق وراءه سيف الدَّولة، ففرّ إلى البصرة.
وفيها توفي في رجب بمصر، أبو بكر محمد بن عبد الله الصيَّرفي الشافعي،
له مصنّفات في المذهب، وهو صاحب وجه. روى عن أحمد بن منصور الرَّمادي.
وفيها أبو حامد، أحمد بن محمد بن يحيى بن بلال النَّيسابوري، روى عن
الذُّهلي، والحسن الزَّعفراني وطبقتهما، بخراسان والعراق ومصر.
وفيها أبو يعقوب النَّهرجوري، شيخ الصوفية، إسحاق بن محمد، صحب الجنيد
وغيره، وجاور مدة، وكان من كبار العارفين.
وفيها تبوك بن أحمد بن تبوك السُّلمي بدمشق، روى عن هشام بن عمّار.
(2/36)
وفيها المحاملي، القاضي أبو عبد الله
الحسين بن إسماعيل الضبَّي البغدادي، في ربيع الآخر، وله خمس وتسعون
سنة، وأول سماعه في سنة أربع وأربعين، من أبي هشام الرفاعي، وأقدم شيخ
له، أحمد بن إسماعيل السَّهمي صاحب مالك. قال أبو بكر الداوودي: كان
يحضر مجلس المحاملي عشرة آلاف رجل.
وفيها قاضي دمشق، أبو يحيى زكريا بن أحمد بن يحيى بن موسى ختّ البلخي
الشافعي، وهو صاحب وجه. روى عن أبي حاتم الرازي وطائفة، ومن غرائب
وجوهه: إذا شرط في القراض، أن يعمل مع رب المال العامل جاز.
وفيها عبد الغافر بن سلامة، أبو هاشم الحمصي بالبصرة، وله بضع وتسعون
سنة. روى عن كثير بن عبيد وطائفة.
وفيها عبد الله بن يونس القبري الأندلسي، صاحب بقيّ بن نخلد، وكان كثير
الحديث مقبولاً.
وفيها عبد الملك بن أحمد بن أبي حمزة البغدادي الزيات، روى عن الحسن بن
عرفة وجماعة، وهو من كبار شيوخ ابن جميع.
وفيها الحافظ أبو الحسن علي بن محمد بن عبيد، أبو الحسن البغدادي
البزّار، روى عن عباس الدُّوري وطبقته، وعاش ثمانيا وسبعين سنة.
(2/37)
وفيها محمد بن عبد الملك بن أيمن القرطبي، أبو عبد الله الحافظ، وله
ثمان وسبعون سنة أيضاً، رحل إلى العراق سنة أربع وسبعين، وسمع من محمد
بن إسماعيل الصائغ، ومحمد بن الجهم السمَّري وطبقتهما، وألّف كتاباً
على سنن أبي داود، وكان بصيراً بمذهب مالك.
وفيها محمد بن عمر بن حفص الجزرجيري بأصبهان، سمع إسحاق بن الفيض،
ومسعود بن يزيد القطّان وطبقتهما.
وفيها محمد بن يوسف بن بشر أبو عبد الله الهروي الحافظ، من أعيان
الشافعية، والرحّالين في الحديث، سمع الربيع بن سليمان، والعباس ابن
الوليد البيروتي وطبقتهما، وعاش مائة سنة.
وفيها الزاهد العابد، أبو صالح المسجد المشهور بظاهر باب شرقي، ويقال
اسمه مفلح. وكان من الصوفية العارفين. |