المقتبس من أنباء الأندلس

سنة اثنتين وثلاثين ومائتين
فيها تقلب موسى بن موسى القسوي عن الطاعة، وأعند بتحامل عبد الله بن كليب عامل الثغر عليه، ومد يده إلى بعض أمواله، فأحفظه ذلك، وهاج حميته، وتحرك إلى تطيلة، وابن كليب داخلها، فطمع أن ينتهز منه فرصة، فاحتجز عنه عبد الله بحصانتها، ولم يؤته حرباً، واستغاث بالأمير عبد الرحمن، فأخرج إليه ابنه محمداً بالصائفة، وقاد معه محمد بن يحيى بن خالد، فاحتل عليه محمد بالجيوش، فأذعن موسى، واعترف بالذنب، وسأل العفو، فسارع الولد محمد إلى إجابته وتطمينه وإقراره على حاله، وتقدم بالصائفة إلى بنبلونه فجال بأرضها وأداخلها، ونكأ العدو أبرح نكاية.
وفيها عزله الأمير عبد الرحمن حارث بن بزيع عن طليطلة في شوال منها، وولاها محمد بن السليم.
وفيها كان القحط الذي عم الأندلس، فهلكت المواشي، واحترقت الكروم، وكثر الجراد، فزاد في المجاعة وضيق المعيشة.

(1/143)


وفيها استأمن غليالم بن برناط بن غليالم، أحد عظماء قوامس إفرنجة على الأمير عبد الرحمن بقرطبة، فأكرمه وأحسن إليه وإلى أصحابه، وصرفه معهم إلى الثغر لمغاورة الملك لذويق بن قارله بن ببين صاحب الفرنجة، وكانت بينه وبين قواد لذويق وقائع ظهر عليهم فيها، وأعانه عمال الثغر، فأثخن العدو، وأقام بمكانه ظاهراً على من انتقض عليهم من أمته مدة، وكتبه إلى الأمير متصلة.

سنة ثلاث وثلاثين ومائتين
فيها في شعبان منها عزل الأمير عبد الرحمن محمد بن السليم عن طليطلة، وولاها بعده أيوب بن السليم.

سنة أربع وثلاثين ومائتين
فيها غزا بالصائفة المنذر بن الأمير عبد الرحمن، وقاد عبد الواحد بن يزيد الإسكندراني، ودبرا الوزير يحيى بن خالد.
وفيها أغزى الأمير عبد الرحمن أسطولاً من ثلاثمائة مركب إلى أهل جزيرتي ميورقة ومنورقة، لنقضهم العهد، وإضرارهم بمن يمر إليهم من مراكب المسلمين، ففتح الله للمسلمين عليهم، وأظفرهم بهم، فأصابوا سباياهم، وفتحوا أكثر جزائرهم، وأنفذ الأمير فتاة شنظير الخصي إلى ابن ميمون عامل بلنسية، ليحضر تحصيل الغنائم ويقبض الخمس، وكان قد صالح بعض أهل تلك الحصون على ثلث أموالهم وأنفسهم، وأحصيت ربعهم وأموالهم، وقبض ما عليه صولحوا.

(1/144)


وفيها ظهر غليالم بن برناط بن غليالم النازع إلى الأمير عبد الرحمن، القادم إلى باب سدته في سنة اثنتين وثلاثين ومائتين على من حاده من أمته أهل إفرنجة، الذي نصبه الأمير عبد الرحمن لمغاورتهم وأمده بقوته، فاقتحم عليهم بلده في جمعه، فقتل وسبى، وحرق وخرب، وحاصر برشلونه حتى أضربها، وتقدم إلى جرندة، فشارفها، وورد كتابه على الأمير عبد الرحمن يعترف بما كان منه، ويذكر تماديه عليه، فأجيب بالإحماد لفعله، والإرصاد لمكافأته، وكتب إلى عبيد الله بن يحيى عامل طرطوشه وإلى عبد الله بن كليب عامل سرقسطة في إمداده ومعونته وتحريضه على شقاق قومه وتأييد عزيمته.
وفي شهر رمضان منها عزل أيوب بن السليم عن طليطلة ووليها يوسف بن بسيل. وفيها عزل الأمير عبد الرحمن معاذ بن عثمان عن القضاء بقرطبة، وولى مكانه محمد ابن زياد.
وفيها خرج فرج بن خير الطوطالقي بدنهكة وأروش، فأظهر المعصية، وجمع أهل الفساد، فعالجه الأمير عبد الرحمن بالخيل، فحوصر حتى أذعن بالطاعة، وعاد إلى الجماعة، فاصطنعه الأمير ورفع مرتبته، وولاه كورة باجة، فلم يلبث أن انتقض عليه إلى مديدة، وجرت منه خطوب أفسدت الصنيعة؛ ومن ولده بكر بن سلمة المستنزل من ناحية الغرب أيام الخليفة الناصر لدين الله.

سنة خمس وثلاثين ومائتين
فيها ورد كتاب أهل ميورقة على الأمير عبد الرحمن بن الحكم، مستغيثين مما دهمهم من سخطه، مستقيلين لعثراتهم لديه، راغبين في صفحه وإقالته، فعطف عليهم وأقالهم زلتهم، وأجابهم إلى مسألتهم، وأعطاهم ذمته، وجدد لهم عهده.

(1/145)


وفي آخرها عاد موسى بن موسى القسوي إلى الخلاف، وكشف وجهه بالمعصية، فأفسد ما حوالي مدينة تطيله، وعاث حوز طرسونة وبرجة، وظاهره أخوه لأمه العلج ابن ونقه ببنبلونة، فخرج إليه بالصائفة عباس بن الوليد المعروف بالطبلي، فعاد إلى الطاعة، واستقال الزلة، وبذل إسماعيل ابنه رهينة، فعاد الأمير إلى القبول منه، والاستظهار عليه، وأخرج بيعته والتوثق منه وقبض رهينته خالد بن يحيى ومحمد بن الوليد ومطرف بن نصير، فتمموا سلمه، وتوثقوا من عهده، وجدد له الأمير الولاية على تطيلة، ودخل أخوه العلج ابن ونقه صاحب بنبلونة معه في الأمان، وقبض الأمناء المخرجون إلى موسى رهينته التي كانت ولده إسماعيل الذي هو لابنة عمه ميمونة، فأقبل عباس الطلبي بالعسكر إلى الحضرة لتأخر الوقت عن دخول أرض الحرب، وما تولى إسماعيل بن موسى رهينة أبيه موسى في يد الأمير عبد الرحمن أن هرب من يده عن قرطبة حاناً إلى ما فارقه من الشقاق، ذاهلاً عما كان فيه من غضارة المعيشة، لتوسعه في القطائع المنيفة والصلات الجزلة، فرفض ذلك كله، وسما للمعصية، وأمر الأمير بقص أثره، فلم يبعد أن جئ به إليه من طريق الثغر، وقد انتهى إلى وادي آنة فقبض عليه هناك بعض من عرف خبره، ورده للأمير عبد الرحمن بقرطبة، فعفا عنه، وأغضى عن زلته، وخلاه على ما كان عليه من سعة قطائعه.
وفيها سيلان عظيمان بنهر قرطبة في شهر رجب القمري الموافق لشهر ينير الشمسي رأس سنة العجم بالأندلس، عداً في أمهات السيول، وحمل وادي شنيل أيضاً، وطغى مدة، وأخرب حنيتين من قنطرة مدينة إستجة، وأبطل عدداً من أرجائها، وطمى السيل أيضاً بكورة إشبيلية التي بها قراره، فذهب مده في مجتمعه هناك بست عشرة قرية ما بين البحر وحاضرة إشبيلية...........

(1/146)


فيها من ناس وبهائم وأمتعة، فكان ذلك حدثاً عظيماً تحدث الناس عنه زماناً.
وفيها هلك الطاغية رذمير بن أردميس ملك الجلالقة، فولى ابنه أردون، وكانت ولاية رذمير ثمانية أعوام.