المقتبس من أنباء الأندلس

سنة ثمان وثلاثين ومائتين
وفيها توفي الأمير عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية ابن هشام بن عبد الملك بن مروان ليلة الخميس لثلاث خلون من ربيع الآخر من هذه السنة، فدفن يوم الخميس في تربة الخلفاء بقصر قرطبة. وأدلاه في قبره أخواه المغيرة وأمية، وصلى عليه ابنه الخليفة محمد بن عبد الرحمن.
مولده بطليطلة في شعبان سنة ست وسبعين ومائة، وأبوه الحكم يومئذ واليها لوالده الأمير هشام، فكانت سنة اثنتين وستين سنة. وكانت خلافته إحدى وثلاثين سنة وثلاثة أشهر وستة أيام.
وقال الحسن بن محمد بن مفرج: قال ابن عبد البر: توفي الأمير عبد الرحمن ليلة الخميس لليلتين بقيتا من شهر ربيع الأول سنة ثمان وثلاثين ومائتين.
وقيل: بل هي لثلاث خلون منه، فكانت خلافته إحدى وثلاثين سنة وثمانية وعشرين يوماً. وقيل: بل خمسة أشهر وقيل: ثلاثة أشهر وأربعة أيام. وقيل: ستة أيام.
فدفن يوم الخميس من غد ليلة موته في روضة الخلفاء سلفه بقصر قرطبة، وصلى عليه ابنه الأمير محمد بن عبد الرحمن الوالي مكانه. وكانت سنة اثنتين وستين سنة. ومولده بطليطلة من الثغر الأدنى أيام كان والده الحكم بن هشام والياً عليها لجده هشام وذلك في شعبان سنة ست وسبعين ومائة.
قال الفقيه محمد بن وضاح: احتجب الأمير عبد الرحمن بن الحكم عن الناس قبل موته مدة من ثلاثة أعوام أو نحوها من أجل علة أصابته طالت به واشتدت عليه، فحمته الحركة، وهدت قوته،

(1/158)


وأحدثت عليه رقة في نفسه، ووحشة في خاطره، وشدة أسف على ما نغص عليه من عصارة ملكه.
فذكر أنه قال يوماً لأكابر خدمته الخاصة، وقد حفوه في مرضه، وفيهم سعدون زعيمهم الذي اختصه بعد مهلك حظيه نصر ومن يليه: يا بني! - وبذلك كان يخاطبهم مستلطفاً لهم ومرفقاً بهم - لقد اشتقت أن أعاين ضوء الدنيا وفسحة الأرض، إذ قد حميت عن الخروج إليها، فلعلني أعلو مرقبة يسافر بصرى فيها، فأتسلى بالنظر إلى بسيطها، وجسمي منزع، فهل سبيل إلى ذلك؟ فقالوا له: نعم يا مولانا.
وابتدر أكابرهم إنفاذ أمره، فأخذوا سرير خيزران لطيفاً، وثيق الصنعة من أسرة الخلافة، ووضعوا فوقه فراشاً خفيفاً وثيراً حشوه الريش، أجلسوه فوقه، واحتملوه على أعناقهم، فصعدوا به إلى العلية على هيئته التي كانت من بنيان الأمير على باب الجنان من أبواب القصر القبلية، ثم هبطوا كذلك، فعانوا ذلك مرات يسوقون به الأمير في تعاريج درجة الدائرة، حتى استوى لهم ذلك كما أرادوه، وأمنوا على الأمير المشقة فيه.
فوضعوا الأمير عبد الرحمن عند ذلك فوق ذلك الفراش، وشدوه من جهاته، واستوثقوا من اضطرابه، وصعدوا به هوناً، حتى صيروه بأعلى تلك العلية، فأجلسوه صدرها، وأدنوه إلى الباب الأوسط منها، فأشرف على صحراء الربض قدام باب القصر، وسرح بصره فيها، ورآها إلى كدى القنبانية، ونظر إلى النهر أمامه، والسفن تجري فيه صاعدة ونازلة.
فاستروحت نفسه، وانشرح صدره، وشكر لخدمه ما تجشموه من إدنائه من مسرته وقال لهم: يا أولادي اجلسوا الآن حولي، وأنسوني بكلامكم، ومتعوني بأحاديثكم، ولا تنقبضوا عني بشيء مما تتحدثون به بينكم إذا انفردتم، كيما أشتغل بذلك عما أقاسيه من علتي. ففعلوا، وأنس هو بذلك وانبسط، وقطع أكثر نهاره في تلك العلية. ودنا المساء، فدعوه إلى النزول إلى مجلسه، فبيناه يتهيأ لذلك، إذ وقعت عينه في الصحراء قدامه على قطيع شاء وهي ترعى في منحدرها، ولم ير معها راع يسوقها، فقال لهم.

(1/159)


يا أولادي؟ ما بال هذه الغنم مهملة ولا راعي لها؟ فتأملوا فقالوا: يا مولانا هاك راعيها قاعد إلى جانبها مستريح في فيء جنان طروب تجاهه، يتملى في انحدارها.
فقال:
لعاً؟؟!.
ثم أثبت بصره في تلك الغنم، فتنفس الصعداء، وأرسل عبته يبكي حتى أخضل لحيته، وقال: وددت والله أن أكون مكان ذلك الراعي ولا أنشب فيما نشبت من الدنيا ولا أتقلد من أمور الناس ما تقلدت! ثم استغفر الله كثيراً ودعاه. ونزلوا به إلى مهاده، فلم تطل فيما بعد نهاره هذا حياته.
وذكر أحمد بن الأمير محمد بن عبد الرحمن قال: اعتل جدي الأمير عبد الرحمن علته التي توفي فيها، فطاولته ونهكته، وماطلته مدة: تارة تخف عنه، وتارة تثقله، فيركس ويضعف، وينيبوا العلاج عنه على اجتهاد تارة تخف عنه، وتارة تثقله، فيركس ويضعف، وينيبوا العلاج عنه على اجتهاد أطبائه في التماس شفائه، فنعى عليهم وقت سقامه. فلما كان قبل وفاته بأربعة أيام أو نحوها انحط مرضه، وتحركت له قوة خال بها أنه مبل من ضناه، فأمر بأن

(1/160)


يصلح له الحمام، ويعدل مزاجه، فاحتم فيه، وأجد خصابه، وكان يواليه ويجمل به، وحدثته نفسه بالركوب مع عياله طلب النزهة، وهو يأمل الإنظار، والموت أدنى إليه من وريده.
فلما عزم على إتيان ما سولت له نفسه من ذلك دعا حاجته عيسى بن شهيد، وكان خفيفاً على قلبه، فأوصله إلى نفسه صبيحة اليوم الذي قضى نحبه في آخره، فبشره بتخفيف مرضه وانبعاث نشاطه، وقال له: كيف ترى خضابنا يا عيسى؟ فقال له: أصلح الله الأمير سيدي! أحسن خضاب رأيت قط، وأدله على انتعاش سيدي واقتيامه البقاء بخلوص القمر من انكسافه بفضل الله عليه وعلى رعيته.
فسره قوله وقال له: إن بعض كرائمنا سألننا تجديد العهد لديهن بالركوب معهن للنزهة على مقتضى العادة، فاخرج من فورك، فانظر في إقامة ما يحتاج إليه لنزهتنا على أتم رسومها، واعجل بذلك، فإنا متحركون صبيحة غد بحول الله.
فمضى عيسى لشأنه، وقال الأمير للراشدة القائمة على رأسه: أدخلي إلى خزانة الكسوة، فمريها أن تتخير لنا مما عندنا من الوشي رداء يوسفياً من أفخر نوعه، فجيئينا به.
فمضت الراشدة وجاءته برداء يوسفي معمر، لم تر العيون آنق منه، فأمر بعض

(1/161)


أكابر الخدم أن تخرجه إلى عريف الخياطين بالقصر، فليقطعه ثوباً للبوسه، ويتخذ منه قلنسوة لحاجبه عيسى كيما يلبساه جميعاً لركوبهما صبيحة غدهما، ويجمع الصناع على إتمامهما للبوسهما، فعاد إليه الخادم بجواب عريف الخياطين، فذكر أن خياطة الجلد لا تمكنهم في مثل الوقت الذي حده، لدقة صنعة الثوب والأناة لنقشه، وتعذر جمع الأيدي عليه، فضلاً عن عمل القلنسوة التي يستأنف تجسيدها لحاجبه من فضل الثوب، ولا بد من الاستيناء بها.
فشق ذلك على الأمير وكسر منه حتى ثناه حاجبه عيسى عن ذلك بلطفه، وهون عليه الخطب، وقال له.
في الذي تحويه خزانة الأمير من الثياب ورفيع القلانس ما فيه مندوحة عن استكداد هذا الثوب الذي لا يؤمن الخطأ في حثه، ولن يفوته نيل ما قام في خاطره منه، لأقرب مداه بحول الله، وتجاوزه بالإبلاء إلى ما سواه، كما أن عندي من جليل خلعه ورفيع قلانسه ما أسره بالتجمل به في خدمته. فليضع عن نفسه العزيزة كلفة هذا في مثل هذا الوقت الضيق، ولينفذ عزمه في تفريج نفسه بنزهته.
فوضع ذلك الرداء على كرسي في المجلس.... الإضراب عنه، والعمل على الحركة صبيحة غد. فنظر عيسى فيما أمره به، وهيأه على رسومه، وانقضى نهارهم، فما هو إلا أن صلى الأمير المغرب، فانتكثت مريرته، وثارت علته، وحضره حمامه، فتهوع، ودعا بالطست، فقاء دماً غبيطاً، وعاود ذلك مراراً، فلم يقلع عنه وجعه حتى لفظ نفسه، فتنوقضى نحبه. وقعد الأمير محمد من ليلته مكانه، فتنظر إلى ذلك الثوب الموشى المرجى قطعه موضوعاً على الكرسي، فعرف شأنه مع والده مساء ليلته، فعجب وقال:

(1/162)


ليصر كفن الأمير نضر الله وجهه! فعمل ذلك به وأصبح حديثه موعظة لمن سمع به.

صفة الأمير عبد الرحمن
عن أحمد بن محمد الرازي: كان أشم أقنى أعين أسود العينين، طوال فخم، مسبل، عظيم اللحية، يخضب يالحناء.
نقش خاتمه: " عبد الرحمن بقضاء الله راض ". وهو أول من استنقشه، وقد مضى خبره.

تسمية ذكور أولاده
وهم في عدد الرازي أربعون.
أولهم الأمير محمد الوالي بعده، أبو العاصي الحكم الاشتياق، أبو أيوب سليمان، أبو القاسم المطرف، أبو الحكم المنذر، أبو الوليد هشام، أبو بكر يحيى، أبو عبد الملك مروان، أبو عثمان، أبو سعيد مسلمة، أمية، عبد الملك، الأصبغ، أبو مروان عبيد الله، أبو معاوية سعيد، أبو العاصي بكر أبو الأصبغ عبد العزيز، أبو أمية العاصي، أبو محمد عبد الله، أبو حفص عمر، الأعرج طريف، أبو العباس الوليد، أبو العاصي عبد الجبار، أبو عبد الله أحمد، أبو القاسم إسحاق، والغمر شقيقة، أبو القاسم عبد الواحد، أبو إسحاق إبراهيم، أبو القاسم عمرو، يعقوب، أبو عبد الملك المغيرة، أبو الأصبغ عثمان، الغريض.
وفي كتاب معاوية بن هشام الشبينسي قال:

(1/163)


من نبهاء ولد الأمير عبد الرحمن أبو قصي يعقوب، وكان أديباً شاعراً كلفاً بالعلوم جامعاً للآداب مطبوعاً في الشعر، وكان جواداً لا يليق شيئاً، ويسرف حتى يخل بنفسه وأخباره كثيرة.
قال حيان: وصفه بالشعر، ثم لم ينشد له منه ما يصدق وصفه، بل أنشد ثلاثة أبيات من قصيدة مدح بها ابن أخيه العاصي بن الأمير محمد بن عبد الرحمن ليست بطائل، والأبيات: من الوافر:
ينادي ماجداً من عبد شمس ... كريم الفرع مفضال اليدين
سما للمكرمات فقد حواها ... بهندي وخطار رديني
وغيثاً حين يسكب لا الثريا ... به حاذت ولا نوء البطين
اضطرته القافية إلى أن قرن بين أغزر الأنواء وأنزرها، فأحال جداً.
والإناث في عدد الرازي ثلاث وأربعون، وهن: أسماء، وعاتكة، وعائشة الغالب عليها عيشونة، أم الأصبغ، وأم هشام، وفاطمة الغالب عليها فطيمة، وعبدة، وعبدة أخرى، وأمة العزيز، وأم كلثوم، وأم عمرو، زينب، وأم هشام، وعبيدة، وناشدة، وقسيمة، عتيكة، وكنزة، وعزيزة، وأم حكيم كلهن، ومية، ولادة، وأم أبين، ولادة، أمة الوهاب، ظبي، وأمة الرحيم، رقية، أم عثمان، أم موسى، وأمة الرحمن، رحيمة، هشيمة، أمة الرحيم، أمة الملك، والسيدة بريهة، تملال، والمنى، حكيمة، أم سلمة، آمنة، والسيدة عليه.
وزاد في عددهن معاوية بن هشام الشبينسي نسابة أهل البيت بنتين: أمية، ومهاة؛ فرقى عددهن خمساً وأربعين بنتاً.

(1/164)


حجاب الأمير عبد الرحمن
قال الرازي: ألفى الأمير عبد الرحمن على حجابة والده الأمير الحكم عبد الكريم بن عبد الواحد ابن مغيث أكمل من حمل هذا الاسم وأجمعهم لكل جمله حسنة، فأقره عليها إلى أن توفي عبد الكريم حميداً فقيداً، فولى بعده حجابته

سفيان بن عبد ربه، وبعد سفيان

عيسى بن شهيد، ثم عزله بعبد الرحمن بن رستم، ثم عزل عبد الرحمن بن رستم، فأعاد عيسى بن شهيد إلى حجابته، فتولاها له إلى أن هلك عبد الرحمن لسبيله.
سفيان بن عبد ربه
وافق الرازي فيما ذكره من أسماء هؤلاء الحجاب الحسن بن محمد بن مفرج في كتابه، وذكر سفيان بن عبد ربه فقال: كان من أكابر رجال أهل الخدمة الكفاة المستقلين بأعبائها ممن جمع إلى الغناء والكفاية العفة والأمانة، قد تولى خدمة الخزانة الكبرى أيام الأمير الحكم، وهو أول من استخزن بالأندلس، وحمل هذا الاسم الذي اعتور من علم عمله إلى اليوم، شركه في ذلك مرتيل المعروف بابن عفان جد هؤلاء الباقين اليوم إلى جانب باب القصر الأكبر المدعو باب السدة ولم يزل يتنقل في مراتب الخدمة إلى أن نال الحجابة ومن ولده الأديب أبو الأسود، وكان ذا وجاهة عند الناس، حدثاً مؤنس الجليس ممتعاً، توفي في أيام الخليفة الناصر لدين الله رحمه الله تعالى.

(1/165)


عيسى بن شهيد