المقتبس من أنباء الأندلس
قضاة قرطبة للأمير
عبد الرحمن بن الحكم
على اختلاف الرواة في عددهم وترتيب دولهم
قال أحمد بن محمد الرازي: كان له أحد عشر قاضياً: أولهم مسرور بن محمد،
على اختلافهم في نسبه أيضاً، إذ يقول محمد بن حارث في كتابه: هو مسرور
بن محمد بن سعيد بن شراحيل المعافري، ويقول ابن عبد البر: بل هو من
موالي الأمير عبد الرحمن بن معاوية، يكنى بأبي نجيح، وذا من اختلافهم
قبيح؛ ثم سعيد بن محمد بن بشير؛ ثم يحيى بن معمر ابن عمران الألهاني
الإشبيلي؛ ثم الأسوار بن عقبة؛ ثم إبراهيم بن العباس بن عيسى ابن عمر
بن الوليد بن عبد الملك بن مروان، ثم يخامر بن عثمان المعافري؛ ثم علي
ابن أبي بكر القيسي؛ ثم معاذ بن عثمان الشعباني؛ ثم محمد بن زياد
اللخمي؛ ثم سعيد ابن سليمان بن أسود عم سليمان بن أسود؛ ثم محمد بن
سعيد.
وقال الحسن بن محمد بن مفرج: قال ابن عبد البر في تاريخه: لما ولي
الأمير عبد الرحمن بن الحكم استقضى على قرطبة مسرور بن محمد سنة سبع
ومائتين؛ ثم سعيد بن سليمان سنة ثمان ومائتين، ثم يحيى بن معمر
الألهاني سنة تسع
(1/177)
ومائتين، ثم الأسوار بن عقبة سنة عشر
ومائتين وما بعدها؛ ثم إبراهيم بن العباس القرشي المرواني جد بني أبي
صفوان هؤلاء القرشيين الوجوه بقرطبة سنة ثلاث عشرة ومائتين؛ ثم محمد بن
سعيد سنة أربع عشرة وما بعدها؛ ثم يخامر بن عثمان سنة عشرين ومائتين
أيضاً، فقضى أعواماً؛ ثم علي بن أبي بكر سنة سبع وعشرين ومائتين وما
بعدها؛ ثم معاذ بن عثمان الشعباني سنة إحدى وثلاثين ومائتين؛ ثم محمد
بن زياد اللخمي سنة أربع وثلاثين ومائتين؛ فبلغت عدة قضاته عشرة رجال،
وإنما كان سبب استكثار عبد الرحمن بن الحكم من القضاة وكثرة توليته
وعزله لهم إتباعه فيهم رضاً كبير الفقهاء المشاورين الأثير عنده يحيى
بن يحيى، إذ كان لا يزال يشير عليه بقاض، فيوليه الأمير عبد الرحمن
مقتصراً فيه على رأيه، فإذا أنكر عليه يحيى شيئاً رفع عليه إلى الأمير،
فلا يؤخر عزله، ولا يحيد عن مشورته، وكان يحيى الذي يولى مكانه.
وكان الشيخ يحيى شديد التمكن من حسن رأي الأمير عبد الرحمن، وكان قد
آثره على جميع الفقهاء أصحابه، وجعل توركه عليه، فمن أجل ذلك كثر عدد
قضائه.
قال الحسن: وقد خالف أبو بكر ابن القوطية ابن عبد البر في عدد هؤلاء
القضاة وترتيب دولهم، فقال:
(1/178)
ألفى الأمير عبد الرحمن بن الحكم على قضاء
والده الأمير الحكم سعيد بن محمد بن بشير المعافري، وجده على القضاء
لأبيه، فأمضاه بعده. ومحمد بن شراحيل المعافري جد بني شراحيل هؤلاء
الذين ينسب إليهم المسجد والدرب بالربض الغربي: ثم الفرج كنانة الكناني
الشذوني؛ ثم يحيى بن معمر الألهاني الإشبيلي، ثم عزله لرفع الفقيه يحيى
بن يحيى عليه، ثم الأسوار بن عقبة الجياني ثم إبراهيم بن العباس
المرواني جد بني أبي صفوان هؤلاء القرشيين الوجوه بقرطبة، ثم عزله -
زعموا - لكلمة خاطبته بها امرأة تخاصمت إليه بمجلس نظره، فلم ينكرها،
وذلك أن قالت له: يا بن الخلائف! أنظر إلى نظر الله إليك!، فلم يغير
عليها، فنماها إلى الأمير موسى بن حدير الخازن الأكبر؛ ورفع إليه صفحة
يقول فيها: ما ينبغي للأمير أن يشركه في سلطانه من يخاطب بمثل ما يخاطب
به، ويحلى تحليته، فذاك الذي أوجب عزله، وقيل إن تلك المرأة دست لتقول
ذلك القول، فعزله الأمير سريعاً؛ ثم استقضى بعده محمد بن زياد جد بني
زياد هؤلاء الركنيين، ثم عزله وأعاد يحيى بن معمر إلى القضاء ثانية؛ ثم
يخامر ابن عثمان الجياني، واستعفاه من الولاية فأعفاه؛ وولى أخاه معاذ
بن عثمان؛ ثم سعيد ابن سليمان الغافقي البلوطي آخر قضاته، فصارت عدة
القضاة في أيامه عشرة رجال قال ابن عبد البر في تاريخه: وكانت الفتيا
في أيام الأمير الحكم وأيام عبد الرحمن ولده تدور على عيسى ابن دينار؛
وزونان بن الحسن، ومحمد بن عيسى الأعشى راوية وكيع بن الجراح،
(1/179)
ويحيى بن يحيى الليثي، وسعيد بن حسان، وعبد
الملك بن حبيب، ومحمد بن خالد الأشج.
وغلب يحيى بن يحيى جميعهم على رأي الأمير عبد الرحمن، وألوى بإيثاره،
فصار يلتزم من إعظامه وتكريمه وتنفيذ أموره ما يلتزمه الولد لأبيه، فلا
يستقضي قاضياً ولا يعقد عقداً ولا يمضي في الديانة أمراً إلا عن رأيه
وبعد مشورته، ويحيى بن يحيى في طي ذلك يعترف للأمير عبد الرحمن بجميل
ذلك، فلا يأتلي في ذكر إحماد سيرته، ووصف معدلته وتزيين آثاره لدى
رعيته، وتحضيضهم على طاعته، واستنهاضهم لتكاليفه، يتأتي لذلك بلطف
تناوله وسلامة جانبه، وكأنه لا يقصده، ويرى السلطان منفعته، فيزداد في
إعظام قدر الشيخ يحيى بصيرة، ولا ينقض لرياسته مريرة.
قرأت في كتاب معاوية بن هشام الشيبنسي قال: حدثني أبي هشام قال: سمعت
الفقيه أصبغ بن خليل يقول: خرج الأمير عبد الرحمن بن الحكم غازياً إلى
بعض أهل الخلاف بالغرب الأقصى، وعقده على أن لا يدخل إلى دار الحرب
سنته، فلم يستنفر أهل الموسطة، واقتصر على مدونته، فلما تهيأ له مراده
في عصاة أهل الغرب وأصلحه بدا له في القفول إلى الحضرة، ورأى الدخول
إلى بلد العدو، وإتمام غزوته بالصمد إلى نكايته؛ فتقدم في تهيئة ذلك،
ووافى كتابه على البريد إلى ولده محمد بن عبد الرحمن، وهو مخلفه على
قرطبة، ليلتزم للكون بالسطح على باب السدة من قصر الخلافة مبيت الأمير
على العادة فأمره باستنفار الناس نحوه، وأخذ بتعجيل الخروج إليه
واللحاق به بمكان رسمه.
لهم وجه عزيمته،..... وأمره أن يحضر.................... ويقرئ الناس
كتاب الأمير.
(1/180)
فوافينا محمداً، وهو يومئذ أمرد، ما في
وجهه شعرة، فسلمنا عليه، وقضينا حقه وجلسنا على منازلنا بين يديه،
وأبطأ الشيخ يحيى بن يحيى، والعيون تتطلع نحوه، فكان آخر القوم مجيئاً،
وصار الولد أشد عليه من على جميعهم إقبالاً، وإليه انعطافاً، وبه بشا،
فأجلسه معه على فراشه، وأحفى يحيى سؤاله، ودعا له.
ثم أمر محمد عند ذلك بقراءة كتاب الأمير عبد الرحمن علينا بالاستنفار،
فأصغينا إليه. فلما فرغ بدر يحيى بن يحيى فقال: نعم، أصلح الله الأمير.
الواجب علينا الخفوف إلى الإمام أصلحه الله وأيده، والبدار إلى اللحاق
به، وألا يعتذر في ذلك منا إلا معتذر قد أنزل الله في كتابه عذره لا
سواه.
فقيل للناس: قد سمعتم، فقوموا فانظروا في جهازكم على بركة الله. وعجلوا
للخروج، فآخر مواقيتكم يوم كذا.
فقام الناس، ولم يتحرك الشيخ يحيى بن يحيى في ذلك عن مكانه.
قال أصبغ: وورد علي منهم النفير بما لا قبل لي به، إذ كنت مقلاً لا مال
لي، ولا نهوض بي، فاشتد علي، وخبت فصاحتي. ولما رأيت يحيى لا يشير إلى
القيام، وكنت على ظن أن له خبراً أردت الوقوف عليه، وكانت لي مكانة من
صاحب المدينة المتولي للقصة انبسطت من أجلها بالجلوس.
فلما لم يبق غيري أقبل يحيى على الولد محمد، فقال: قد يرى الأمير ضعفي
على النفر لشيخي ووهني وأن مثلي لا يستطيع الغزو، ولكني أبعث ابني عبد
الله في مثل العدة التي كنت إغزوا بها، فإنه - إن شاء الله - أغنى
(1/181)
وأجدى مني. فإن رأى الأمير سيدي أن يكتب
إلى الإمام - أيده الله - بعذري ومكان طويتي فعل. فقد كرهت أن أعتذر
بمحضر الملأ، لئلا أوجد لمن ليس له عذري سبيلاً إلى الاعتذار.
فشكر له محمد فعله، واستحسن فيه رأيه، ووعده بتجديد المخاطبة في شأنه.
فقام يحيى، وذهبت إلى القيام، وقد هبت الكلام، فقال لي صاحب المدينة:
قد علمت الذي تذهب إليه والذي تستحيى الكلام من أجله. وحقك لازم لي،
فأنت مخير بين أن تنفذ لرأي الإمام فتلحق به مستريحاً للهم عن قلبك،
وبين أن تدخل بيتك، وتغلق بابك عليك، فلا تخرج عنه لشيء من الأشياء إلى
أن يقفل الإمام أصلحه الله، وأنا من وراء الحفظ لك بحول الله.
نقال: فاخترت لزوم بيتي، فلم أخرج منه إلى أن قفل الأمير، فلم أهج
بإغضاء صاحب المدينة، وأقام على بينة من أمري، إذ تبين له عذري.
قال ابن عبد البر: وكانت فتيا القضاة في مدة عبد الرحمن بن الحكم تدور
على نفر من الجلة ماتوا في أيام الأمير عبد الرحمن في مدة مختلفة، إلا
عبد الملك بن حبيب، فإنه استأخر بعد آخرهم موتاً إلى أن هلك الأمير عبد
الرحمن، فلحق عبد الملك من أيام ولده
(1/182)
الأمير محمد بن عبد الرحمن ستة أشهر أو
نحوها، ثم تبع أصحابه - رحمة الله تعالى عليهم -، فقرضت زمرتهم،
وانقلبت رياسة الفتوى إلى من تلاهم.
وكان من مشاهير من رحل إلى المشرق في طلب العلم وانتقاء الرواية من أهل
قرطبة فأدرك الغاية: محمد بن يوسف بن مطروح، ومحمد بن حارث، وأبو زيد
عبد الرحمن ابن إبراهيم، وعبد الأعلى بن وهب، وبقي بن مخلد رضي الله
تعالى عنه، ومحمد بن وضاح، ويحيى بن إبراهيم بن مزين، وأبان بن عيسى بن
دينار، وعبيد الله بن يحيى بن يحيى، وكان من آخرهم رحلة في أخريات
الأمير عبد الرحمن فتشور من أعيان هؤلاء اللاحقين في أيام الأمير عبد
الرحمن: عبد الأعلى بن وهب، وأصبغ ابن خليل.
قال: واعتلت منزلة عبد الملك بن حبيب عند الأمير عبد الرحمن، ولا سيما
من بعد وفاة الشيخ يحيى بن يحيى، فإنه تفرد بأثرته، وحل منزلته، فلم
يكن يقدم أحداً من أصحابه عليه، ولا يعدل بمشورته عنه.
وذكر معاوية بن هشام الشبانسي قال: كانت في أيام الأمير عبد الرحمن
مخارج للناس إلى الاستسقاء في زمن الجدوب، وكان البروز في أكثرها إلى
مصلى الربض بعدوة نهر قرطبة الدنيا، أسفلها معهداً مصلى الأعياد.
فحضرهم مخرج استسقاء آخر أيام الأمير عبد الرحمن بعد مهلك نصر الخصي
خليفته الغالب على رأيه، أنذر الناس به ليوم بعينه إلى الربض على
عادتهم، فأنكر ذلك الفقيه عبد الملك بن حبيب، وكتب إلى الأمير عبد
الرحمن يذكر أن نصراً هو الذي عاق الناس عن مصلى المصارة، وتولع بصرف
بروزهم إلى مصلى الربض لقربه من قصره هناك، وقد دفعه....... مشيه نحوه،
ويذكر أن البروز إلى مصلى المصارة المتصل بالبلد
(1/183)
أرفق بالناس وأحوط، على ازدحامهم في
القنطرة، فقد صح عنده أن جماعة منهم هلكوا يوم الاستسقاء
غرقاً.......... في النهر فأثقلوا قارباً ونزلوا فيه لياذاً من ضيق
القنطرة، فرسب بهم، وهلك منهم جماعة، وأن من آفات ازدحام الناس في
القنطرة ما بلغه من أن أحدثاً.
والمزعج للخوف فمصلى المصارة أرفق بالناس كافة، فإن من حركته منهم
إراقة أو انتقضت به طهارته تقارب عليه شط النهر، فدب الناس من قرب،
ونال حاجته بسرعة، ومن طلب منهم التستر لشأنه أمكنه الاستجنان بداخل
الجنات الملاقية للمصارة فتبرى فيها من غير بعد عن مصلاه. فصوب الأمير
رأيه، وانصرف البروز للاستسقاء إلى مصلى المصارة الذي اختاره عبد
الملك.
وذكر القاضي أبو الوليد ابن الفرضي قال:
بلغ من ابنساط الفقيه عبد الملك بن حبيب على الأمير عبد الرحمن أن كتب
إليه في يوم عاشوراء: من البسيط
لا تنسى لا ينسك الرحمن عاشورا ... واذكره لا زلت في الأحياء مذكوراً
قال الرسول صلاة الله تشمله ... قولاً وجدنا عليه الحق والنورا:
من بات في ليل عاشوراء ذا سعة ... يكن بعيشته في الحول محبوراً
(1/184)
فارغب فديتك فيما فيه رغبناخير الورى كلهم
حياً ومقبوراً
وقرأت بخط عبادة الشاعر قال: كان يحيى بن يحيى وأصحابه الفقهاء يحسدون
عبد الملك بن حبيب لتقدمه عليهم بعلومٍ لم يكونوا يعلمونها ولا يشرعون
فيها، إذ كان مع تقدمه في الفقه والحديث عالماً بالإعراب واللغة،
مفتناً في العلوم القديمة، متصرفاً في الآداب الناصعة، له تواليف جمة
في أكثر هذه الفنون، منها كتابه في إعراب القرآن، وفي شرح الحديث، وفي
الأنساب وفي النجوم، وغيرها.
وله بيت شعر في التعريض ببعض قضاة الأمير عبد الرحمن ضمنه كتاباً خاطبه
به في شأنه: من الخفيف:
كان بالقاسطين منا رؤوفاً ... وعلى المقسطين سوط عذاب
(1/185)
نوادر من أخبار قضاة
الأميرعبد الرحمن
مستخرجة من كتاب الاحتفال
مسرور بن محمد قال محمد بن حارث الخشني: هو مسرور بن محمد بن سعيد بن
بشير بن شراحيل المعاقري، ووالده محمد قاضي الجماعة بقرطبة الشهير
فضله، ولاه الأمير عبد الرحمن بن الحكم رحمهما الله قضاء الجماعة
بقرطبة، وكان من الصالحين الفاضلين.
حدثني من وثقت به من أهل العلم، قال: حدثني محمد بن أحمد بن عبد الملك
المعروف بابن الزراد، قال: كان عندنا بقرطبة قاض يعرف بمسرور، وكان من
الزهاد؛ استأذن من حضره من الخصوم يوماً في أن يقوم لحاجة يقضيها
فأذنوا له، فقام عنهم نحو منزله، ولم يلبث أن خرج وفي يده خبزة نية،
فذهب بها إلى الفرن، فقال له بعض من رآه: أنا أكفيك أيها القاضي! فقال
له: فإذا أنا عزلت عن القضاء - قربه الله تعالى مني - تراني أجدك كل
يوم تكفيني حملها؟ ما أراك تنشط لذلك! بل الذي حملها قبل القضاء يحملها
بعد القضاء.
(1/186)
وقال ابن عبد البر: مسرور بن محمد هذا من
موالي الأمير عبد الرحمن بن معاوية الداخل، يكنى أبا نجيح، استقضاه
الأمير عبد الرحمن بن الحكم بعد حامد بن يحيى الذي كان آخر قضاة والده
الحكم وأول قضاته، وهو وذلك سنة سبع ومائتين، فلم تطل ولايته، وتوفي
سنة ثمان ومائتين في آخرها..
وقال القاضي أسلم بن عبد العزيز: سمعت أبي يذكر أنه تسمى جماعة من
موالي الخلفاء بأسماء العرب، فأنكر ذلك عليهم الأمير بفضل أنفته، وأكد
فيه نهيه، وكان له مولى من عتاقة أبيه يسمى بمحمد، وولد له ولد سماه
مسروراً، سمى به علي حد الأمير، فحسنت نشأته، واستقامت طريقته، وتفقه
وتعبد، وشهر فضله إلى أن ولاه الأمير عبد الرحمن القضاء بقرطبة، فاستقل
بالعمل، وأحسن وسلك الطريقة، فاغتبط به الناس، إلا أنه عوجل، فتوفي من
عامه الذي فيه استقضاه.
سعيد بن سليمان قال ابن عبد البر: هو سعيد بن سليمان، يكنى أبا عثمان،
أصله من فحص البلوط، وكان عم سليمان بن أسود القاضي فيما بلغنى.
ذكر محمد بن مسرور عن أبيه قال: سمعت سليمان بن أسود القاضي يقول: كان
سعيد بن سليمان يخطب بخطبة واحدة لصلاة الجمعة طول مدته لم يبدلها.
ولقد برز الناس للاستسقاء في بعض أيامه، فلما ابتدأ خنقته العبرة،
وأشكلت عليه الخطبة، فاختصرها، وكثر من الاستغفار، والضراعة، ثم صلى،
وانصرف، فسقى الناس ليومهم.
(1/187)
قال: وتولى القضاء للأمير عبد الرحمن
مرتين.
وقال محمد بن حارث: هو سعيد بن سليمان بن حبيب الغافقي، يكنى أبا خالد،
أصله من مدينة غافق وولاه الأمير عبد الرحمن قضاء الجماعة بقرطبة، وقد
كان ولي قضاء ماردة وغيرها قبل ولايته لقضاء قرطبة، وكان من خيار من
ولوا القضاء للأمير عبد الرحمن، وهو عم سليمان بن أسود الذي ولي قضاء
قرطبة.
وكان يروى عن الفقيه أبي عثمان سعيد بن عثمان الأعناقي عن محمد بن وضاح
أنه كان يقول: ولي القضاء أربعة ما ولي القضاء في مملكة الإسلام مثلهم،
فاتصل بهم العدل في آفاقها: دحيم بن الوليد بالشام، والحارث بن مسكين
بمصر، وسحنون بن سعيد بالقيروان، وسعيد بن سليمان بقرطبة.
فأما دحيم بن الوليد بن عبد الرحمن بن إبراهيم وهو المعروف باليتيم
فكان من أهل دمشق، ولاه جعفر المتوكل على الله أيام رأى أن يفعل الخير
أو يستصلح إلى الناس بعد استفساد سلفه إليهم بالمحنة في خلق القرآن،
فقلده قضاء الشام في وقت لم يصح لي تاريخه، ومات غير ممتع بولايته سنة
خمس وأربعين ومائتين بمدينة الرملة.
وأما الحارث بن مسكين فولاه جعفر أيضاً قضاء مصر سنة سبع وثلاثين
ومائتين، جاءته ولايته وهو بالإسكندرية، فحمل إلى الفسطاط، فكان قاضي
مصر إلى أن عزل في ربيع الآخر سنة خمس وأربعين ومائتين.
وأما سحنون بن سعيد التنوخي فإنه ولاه قضاء إفريقية محمد بن الأغلب
التميمي
(1/188)
أميرها لجعفر المتوكل أيضاً سنة أربع
وثلاثين ومائتين، فلم يزل قاضياً إلى أن توفي في صدر رجب سنة أربعين
ومائتين.
وأما سعيد بن سليمان الأندلسي فإنه ولاه قضاء قرطبة أمير الأندلس عبد
الرحمن بن الحكم، أحسبه في سنة أربع وثلاثين ومائتين - والشك مني - فلم
يزل قاضيه إلى أن مات الأمير عبد الرحمن سنة ثمان وثلاثين ومائتين،
وولي الأمر بعده ابن الأمير محمد ابن عبد الرحمن، فأقره على القضاء
وعمل له نحو سنتين إلى أن مات بقرطبة، وهو على قضائه. ولا أعلم له
عقباً.
وذكر عن أحمد بن عبد الله بن أبي خالد أن الأمير عبد الرحمن اختاره
لجميل الثناء عليه، وأرسل فيه يستدعيه للقضاء، فجلس للحكم في المسجد،
وعليه جبة صوف بيضاء، وفوق رأسه قلنسوة بيضاء من فضل جبته، فلما أن نظر
إليه الوكلاء الذين يخاصمون عن الناس عند القضاة ازدروه واستغبوه،
وطلبوا الإنذار فيه، فجاءوا في مغيبه عن المسجد بقفة مملوءة من قشور
البلوط، ووضعوها تحت الحصير الذي كان يجلس فوقه فلما اقترشه عند استواء
جلوسه أقض عليه وتوحش من صوت احتكاكه، فتتحول عنه، ونظر إلى القشور،
فأنكر مكانه، وجلس على ملل بذلك، وذكر له أن الوكلاء فعلوا ذلك وصح
عنده ما قيل له فيهم.
فلما أتوه من بعد ذلك قال لهم: يا معشر الخصماء، عيرتموني بأني بلوطيٌ،
وذلك ما لا خفاء به! أشهد على نفسي أن بلوطي: عود الله صليب لا تفلون
فيه. ثم حلف لهم بأثر كلامه هذا أن لا يخاصموا عنده سنة، فكاد أن
يورثهم الفقر.
وذكر محمد بن عمر بن لبابة عن محمد بن أحمد العتبي قال:
(1/189)
صلى بنا يوماً سعيد بن سليمان القاضي صلاة
الجمعة في المسجد الجامع بقرطبة، ثم خرجنا معه نمشي نحو داره، فلما
انتهى إلى باب الفرن الذي كان يطبخ فيه قال لصاحب الفرن: أطبخت خبزتي؟
فقال له: نعم. قال: فهاتها. فناوله إياها، فصيرها تحت عضده، وقوم طريقه
إلى داره، ونحن نمشي معه، ونحن قد أخرنا دوابنا إجلالاً له، حتى أديناه
إلى منزله، فسلم علينا ودخل وانصرفنا عنه.
وفي كتاب القاضي أبي الوليد ابن الفرضي: هو سعيد بن سليمان بن حبيب بن
المعلى بن إدريس بن محمد بن يوسف الغافقي البلوطي، استقضاه الأمير عبد
الرحمن بن الحكم مرتين.
يحيى بن معمر الألهاني قال محمد بن حارث: يحيى بن معمر بن عمران بن
منير بن عبيد بن أنيف الألهاني، من العرب الشاميين وكان من أهل
إشبيلية، منزله منها بمفرانه، قرية بقرب الحاضرة، وعليها ممر السابلة،
وكان في وقته فقيه إشبيلية وفارضها، وكانت له رحلة لقي فيها أشهب بن
عبد العزيز، وسمع منه ومن غيره من أهل العلم، وكان ورعاً زاهداً فاضلاً
عفاً مقبلاً على عمارة ضيعته وترقيح معيشته، فانتهى خبره إلى الأمير
عبد الرحمن، وقد احتاج إلى قاض، فاعتامه للقضاء، واستقدمه إلى قرطبة،
فقلده قضاء الجماعة بها، فصدق الظن به، واغتدى من خير القضاة في قصد
سيرته، وحسن هديه، وصلابة قناته، وإنفاذ الحق على من توجه عليه، لا
يحفل لومة لائم فيه.
وكان إذا أشكل عليه أمر من أحكامه واختلف عليه فيه فقهاء قرطبة تأنى
بهم، وكتب فيه إلى مصر إلى أصبغ بن الفرج وغيره من نظرائه، فيكشفهم على
وجه ما يريد
(1/190)
ويطلب النجاة من تخلف الفقهاء عليه، بغية
أجوبتهم في ذلك بما يعمل عليه، فكان فقهاء قرطبة يحقدون ذلك عليه،
فيذمونه ويتتبعون عثراته، ويبغضونه إلى الناس، وكان أشدهم عليه زعيم
الجماعة يحيى بن يحيى، فهو الذي........... سعى في تجريحه إلى أن عزل
عن القضاء.
فذكر خالد بن سعد قال: سمعت غير واحد من مشايخ أهل العلم يقول: كان بين
الشيخ يحيى بن يحيى وبين يحيى بن معمر عداوة شديدة، فسعى يحيى بن يحيى
في عزل يحيى بن معمر القاضي عند الأمير عبد الرحمن رحمه الله، وأقام
عليه البينات من أهل العلم والعدالة.
قال ابن عبد البر: وقدم ليلة عيد، وكانت توضع للإمام عنزة في المصلى،
فباكر أهل الدهاء والحركة واصطفوا إلى العنزة، ليختبروا خطبته وينتقدوا
عليه، فلما نظر إليهم عرف بهيئاتهم أنهم بالصفة التي كانوا بها، ووقع
في روعه السبب الذي ذهبوا إليه، فكادهم بأن قال للقومة: إني أرى الناس
قد أزحموا حول العنزة، فقدموها إلى الفضاء ليستوسعوا! فبادر القوم إلى
تقديم العنزة حتى وسعت، فتكنفوها واصطفوا حولها، وتثاقل ذوو الهيئات
الذين نقلت من سببهم كما خف أولئك له، ومكثوا بمكانهم، فحصل الشيخ
بحيلته على قرب من لم تكن عليه مؤونة من نقده، واسحنفر في خطبته، فكان
ذوو التحصيل يعجبون مما فعله، ويحكونه كثيراً عنه.
وذكر إبراهيم بن محمد بن باز قال: لم يزل عبد الملك بن حبيب ممالئاً
للقاضي ابن معمر مخالفاً للشيخ يحيى بن يحيى فيه إلى أن عصاه ابن معمر
في القضاء لرجل يعنى به ابن حبيب، توجهت عليه فتوى
(1/191)
توجب القضاء له برأي أشهب، وتوجهت بضدها
عليه برأي ابن القاسم، وأخذ ابن معمر فيه برأي ابن القاسم، فلفته ابن
حبيب عنه إلى رأي أشهب، وكلمه أن يأخذه به، فلم يفعل، وقال: ما أعدل عن
رأي ابن القاسم، فهو الذي أفتيتموني به منذ قعدت هذا المقعد. وقضى على
الرجل برأي ابن القاسم.
فغضب عليه من يومئذ ابن حبيب، وظاهر يحيى بن يحيى ضده على مطالبته، ودس
من رفع عليه إلى الأمير أنه لا يحسن القضاء، فعزله في آخر سنة تسع
ومائتين، وسرحه إلى بلده.
فبلغنا أنه لما أزمع الرحيل ركب بغيلته التي جاء بها، ووضع خريجه الذي
ساقه تحته وقال لمن شيعه من صديقه: يا أهل قرطبة. أقلوا علنا اللوم،
فكما جئناكم كذلك ننصرف عنكم! وذكر عثمان بن سعيد الزاهد قال: لما
احتضر يحيى بن معمر بإشبيلية وأيقن بالموت قال لمولى له من أهل الصلاح
كان ينصحه: أقسم عليك بالله أجل الأقسام إذا أنا مت إلا ما ذهبت إلى
قرطبة، فقف بيحيى ابن يحيى وقل له: وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب
ينقلبون. ففعل مولاه ما أمره، وأبلغ يحيى ما به تقرعه. قال: فبكى يحيى
حتى أخضل لحيته، وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! ما أظننا إلا خدعنا
في الرجل ووشي بيننا وبينه. ثم ترحم عليه واستغفر له.
قال القاضي أبو الوليد ابن الفرضي: قال خالد بن سعد: سمعت أحمد بن خالد
يقول: كانت ليحيى بن معمر رحلة لقي فيها أشهب بن عبد العزيز، وسمع منه،
وولي القضاء بقرطبة سنة تسع ومائتين
(1/192)
بعد سعيد بن بشير في أيام عبد الرحمن بن
الحكم، وعجل صرفه بالأسوار بن عقبة الوالي بعده سنة عشر ومائتين.
ذكر ذلك ابن عبد البر، ولم يذكر أنه أعيد إلى القضاء مرة ثانية.
وحكى ابن حارث أن الأمير عبد الرحمن أعاده إلى القضاء مرة ثانية، وذلك
الصحيح والدليل عليه أن يحيى بن معمر صلى بالناس صلاة الخسوف بقرطبة،
وهو قاض، في مسجد أبي عثمان من الربض الغربي سنة ثمان عشرة ومائتين.
روى ذلك أحمد بن خالد عن ابن وضاح قال: صليت الخسوف مع يحيى بن معمر
سنة ثمان عشرة ومائتين.
الأسوار بن عقبة قال محمد بن حارث: هو أبو عقبة الأسوار بن عقبة
النصري، وكان من أهل جيان، فاستقدمه الأمير عبد الرحمن إلى قرطبة،
وولاه قضاء الجماعة بها، أشار به عليه يحيى بن يحيى عند عزل ابن معمر.
وكان من أهل التحري والتواضع وحسن السيرة واقتفاء السلف، حتى إنه كان
يتصرف - زعموا - في مهنة أهله، ويحمل خبزه إلى الفرن بنفسه، وعلى ذلك
فما سلم من فقهاء قرطبة. وهو الذي ابتنى المسجد الذي يعرف بمسجد
الأسوار في الزقاق الكبير بقرطبة.
وقال ابن عبد البر: الأسوار بن عقبة، كان رجلاً صالحاً عاقلاً فاضلاً
مسمتاً حسن الحكم مستقيم القضاء وكان الفقيه محمد بن عيسى الأعشى كثير
الدعابة لا يصبر عنها، فكان يقول للأسوار قبل أن يلي القضاء: كيف حالك
يا أبا عقبة؟ - مفتوحة العين مثقلة -، فلما ولي القضاء أتاه محمد بن
عيسى، فشهد عنده مع آخر من أهل القبول، فأعلم برد اسم محمد دونه، وقال
للمشهود له: زدني بينة! وذلك بمحضر الأعشى.
(1/193)
فقال له: أظنك - أكرمك الله - لم تقبل
شهادتي! فقال له: أنت - أكرمك الله - جاد في شهادتك هذه أو هازل؟ فإني
أعرفك كثير الهزل، فعرفني إن كنت صدعت بها عن حق، فمثلك لا ترد شهادته،
وإن كانت من أهزالك فقد وقفتها. فقام عنه الأعشى منقطع الحجة. فكان
يقول بعد ذلك: قاتل الله الأسوار! فلقد قطع بي عن كثير مما كنت أستريح
إليه من الدعابة بعد مجلسي معه.
وأنشد: من المتقارب
وتحسب من خبه أنه ... تراه عن الناس في غربه
وما ذاك منه فلا تأمنوه إلا لتمكنه الوثبه
رأيت له ناظرى هرة ... تراءى لها الفأر في ثقبه
إبراهيم بن العباس القرشي قال محمد بن حارث: هو إبراهيم بن العباس بن
عيسى بن عمر بن الوليد بن عبد الملك بن مروان، يكنى أبا العباس،
استقضاه الأمير عبد الرحمن بن الحكم بمشورة يحيى بن يحيى، فكان محموداً
في قضائه، عادلاً في حكومته، متواضعاً في أحواله، غير متصنع، ولا
مترفع.
حكى محمد بن عمر بن لبابه قال: كان القاضي أبو العباس المرواني ربما
جلس في بيته يقضي بين الناس، وإن جاريته لتنسج في كسر البيت.
(1/194)
قال: وكانت ولايته سنة أربع عشرة أو خمس
عشرة.
وذكر محمد بن وضاح قال: هوى إبراهيم بن العباس إلى الشيخ يحيى بن يحيى
جداً، وعول على رأيه، فوجد أعداؤه السبيل إلى ذمه والسعاية عليه، من
باب انقطاعه إلى يحيى ورضا يحيى عنه من بين من لم يزل يسخطه من القضاة
قبله، فوشوا الوقائع فيهما إلى الأمير عبد الرحمن، وانتصحوه في
تآلفهما، وقالوا إن إبراهيم لا يقبل من الناس إلا من أشار عليه يحيى
بقبوله ولا يفصل في حكومة إلا عن أمره، فقد استمال الناس إليه، فلهم
فيه هوى شديد، وطمعه قوي في أن يصير الأمر في يده، فشغل بال الأمير
جداً، ووهمه في دغل الشيخ يحيى بن يحيى على انحطاطه في شعبه وعزوه
لإرادته.
فأحضر ضده عبد الملك بن حبيب وخلا به، وقال له: قد تعلم يدي عندك، وأنا
مكترث لأمر كبير أريد أن أسألك عنه، فاصدقني فيه.
فقال: نعم، لا يسألني الأمير - أعزه الله - عن شيء إلا صدقته عنه.
قال: فإنه رفع إلينا عن قاضينا إبراهيم وعن صديقه يحيى بن يحيى أنها
يعملان علينا في هذا الأمر.
فقال له عبد الملك: قد علم الأمير ما بيني وبين يحيى من التباعد، ولكني
لا أقول إلا الحق: ليس يجيء من عند يحيى إلا ما يجيء مني، فمكانه من
الدين مكانه، وكل
(1/195)
ما رفع عليه إليك فباطل. وأما القاضي فلا
ينبغي للأمير أن يشركه في عدله من يشركه في نسبه.
فعزله الأمير حينئذ عن القضاء.
وقال محمد بن حارث: أخبرني بعض العلماء قال: قدم موسى بن حدير عن الحج
وكان في الغاية من النبالة، ودعاه الأمير عبد الرحمن إلى الخدمة، فأبى
عليه، ولزم الانقباض، فبلي بعد مديدة بامرأة من جيرانه استعدت عليه
القاضي إبراهيم، وذكرت أنه ظلمها في دار لها تلاصقه.
فأرسل فيه إبراهيم وأحضره إلى مجلسه، ووقفه على دعوى المرأة، واقتضى
جوابه.
فقال له: أوكل - أعزك الله - عندك من يخاصمها عني.
فقال: لا بد لك أن تقول بما عندك من إقرار أو إنكار، ثم توكل بعد ذلك
على خصومتك من تشاء.
فقال موسى: لا، بل أذاكر نفسي، وأقدم من يجاوب عني بما أحققه من أمرها.
فأبى إبراهيم أن يقبل منه، واضطره إلى تعجيل جوابه في مجلسه، واشتد
عليه. فلما لم يجد من الجواب بداً، وقد حمى والتظى، قال: أو خير من ذلك
- أصلحك الله -؟ أقول إن جميع ما تدعيه هذه المرأة حق، وهي في دعواها
مصدقه لا اعتراض عندي عليها. فلا سبيل لك إلي! فقام وهو قد احتمل على
إبراهيم حقداً عظيماً حمله على أن سعى عليه، وأرهف حيلته لمطالبته.
(1/196)
وابتدأ فكتب إلى الأمير عبد الرحمن يذكر له
أنه تعقب رد أمره فيما كان أراده عليه من معاوده العمل، ورأى أنه قدح
في صدق طاعته، وفريضة ولائه، وسأله تقليد الخزانة التي كانت مضمار
أمانته، فأعجب الأمير ذلك من اعترافه، وولاه الخزانة، فتصرف فيها
تصرفاً أدناه منه، فأنبسط إليه في غير شيء، ثم سأله في بعض الأيام
الخلوة له يذكره، فأجابه إليها، فقال له: صح عندي أن القاضي إبراهيم بن
العباس يخاطب في مجلس نظره بأن يقال له: يا بن الخلائف وأن له اسماً
يصغي قلوب العامة إليه!
فلم يتملك الأمير عبد الرحمن حين وقرت الكلمة أذنه أن عزل إبراهيم.
قال محمد بن حارث: وسمعت الأمير ولي عهد المسلمين ابن الناصر لدين الله
يقول إنه سمع الحاجب موسى بن محمد بن حدير يقول إن موسى بن حدير عمه
دسس امرأة من مواليه فوقفت للقاضي على طريقه فنادته: يا بن الخلائف!
فكان ذلك سبباً لعزل إبراهيم.
قال أحمد بن عبد البر: هو جد بني أبي صفوان، وكان عاقلاً فاضلاً
مسمتاً، وكان عبد الرحمن قد عزم على أن يولى القضاء بعد الأسوار رأس
الفقهاء يحيى بن يحيى، فامتنع، وأشار بإبراهيم بن العباس على عبد
الرحمن، فولاه القضاء، فاستقل به، وأقسط في حكمه، وأسرف في طواعيته
للشيخ يحيى بن يحيى والوقوف عند حده، حتى لحقتهما معاً تهمة
(1/197)
التواطؤ عند الأمير عبد الرحمن، فسارع في
صرفه عن القضاء، وذلك آخر سنة ثلاث عشرة ومائتين.
قال: وكان يكتب للقاضي إبراهيم عبد الملك بن الحسن زونان الفقيه، أشار
به عليه يحيى بن يحيى.
محمد بن سعيد قاض للأمير عبد الرحمن بن الحكم، لم يذكره محمد بن حارث،
وذكره أحمد بن عبد البر، فقال: القاضي محمد بن سعيد، يكنى أبا عبد
الله، وكان أصله من كورة إلبيرة، وكان معرفة للشيخ يحيى بن يحيى، وكان
ينزل به يحيى ببلده أيام كان يضرب بالتجارة أول أمره، بلا علمه
ومعرفته، فأشار به على الأمير عبد الرحمن، فولاه قضاء الجماعة أول سنة
أربع عشرة ومائتين، فاستقل به، وكان جميل المذهب في قضائه، حسن السمت
والهيئة، إلا أنه كان طاعة ليحيى بن يحيى لا يعدل به أحداً، وكان إذا
اختلف عليه الفقهاء لم يعدل عن يحيى معدلاً.
فاتفق أن وقعت له قصة شاروهم فيها، تفرد الشيخ يحيى بن يحيى بقول
خالفته فيه جماعتهم، فأرجأ القضاء فيها حياء من جماعتهم، وأردفته قصة
أخرى شاورهم فيها بعد توقيفه للأول، وقد اغضب بذلك يحيى. فلما أتاه
كتابه بهذه الردافة صرفة عن رسوله، وقال له: ما أفك له ختاماً، ولا
أشير عليه بشيء، إذ قد توقف عن القضاء لفلان بما أشرت به عليه وعافه.
(1/198)
فلما انصرف إليه رسوله وعرفه بقوله قلق
منه، وركب من فوره إلى يحيى بن يحيى، فقال له: لم أظن أن الأمر يبلغ بك
في توقفي عن القضاء لفلان بفتواك هذا المبلغ الذي قد غيرك. وهذا مقام
المعتذر إليك، فسوف أقضي له غير يومي إن شاء الله تعالى! فقال له يحيى:
وتفعل ذلك صدقاً؟ قال: نعم.
فقال له يحيى بن يحيى: يا هذا، هجت الآن غضبي! فإني ظننت إذ خالفني
أصحابي أنك توقفت مستخيراً لله، متخيراً في الأقوال. فأما إذ صرت تتبع
الهوى وتقضي برضا مخلوق ضعيف فلا خير فيما تجيء به، ولا في إن رضيته
منك. فارفع مستعقياً من ذاتك، فإنه أستر لك، وإلا رقعت في عزلك! فرفع
يستعفي، فعزل عن القضاء.
يخامر بن عثمان الشعباني قال ابن حارث: هو يخامر بن عثمان بن حسان بن
يخامر بن عثمان بن عبيد بن أفنان بن وداعة بن عمر الشعباني.
وقال عبد الله بن يوسف المعروف بابن الفرضي.
(1/199)
بل هو معافري.
قال ابن حارث: لا أعرف له كنية. وقال غيره: كنيته أبو مخارق.
وهو أخو معاذ بن عثمان القاضي وعم سعد بن معاذ الفقيه، وهم من أهل جيان
من قرية الأشعوب. وكان انتسابهم في العرب إلى جذام فيما أحسبه، وهم -
فيما قيل - من جند قنسرين، وولي الأمير عبد الرحمن يخامر هذا قضاء
الجماعة بقرطبة، ولم يك أهلاً له، ولا راجح الوزن، ولا حاضر اليقين،
ولا واسع البصيرة فيه، وعامل الناس بخلق صعب، ومذهب وعر، وصلابة جاوز
المقدار، فتسلطت عليه الألسن، وكثرت فيه المقالة.
وانبرى له شاعر قرطبة في ذلك الزمان يحيى بن الحكم الغزال منتهك
الأعراض، ومخزي الرجال، فأكثر هجوه وذمه، ووصفه بالبله والجهل، فندر
بذكره. فمن قوله شعر له: من الطويل
فسبحان من أعطاك بطشاً وقوة ... وسبحان من ولى القضاء يخامرا
وقوله من أخرى: من الطويل
فقلت له: كلفتني غير صنعتي ... كما قلدوا فضل القضاء يخامرا
فأصبح قد حارت به طرق الهوى ... يكابد لجياً من البحر زاخرا
فقلت: لو استعفيت منها، فقال لي ... سأفصح ما قد كان ذاك مغايرا
فقلت له: رأس الفضوح إقامة ... علينا كذا من غير علم مكابرا
وخطبك في دين الإله على عمى ... خباطة سكران تكلم سادرا
(1/200)
فلن تحمل الصخر الذباب ولن ترى الس ...
لاحف يزجين السفين المواخرا
وقوله فيه: من المجتث
لقد سمعت عجيباً ... من آبدات يخامر
قرا عليه غلام ... طه وسورة غافر
فقال: من قال هذا؟ ... هذا لعمري شاعر!
أردت صفع قفاه ... فخفت صولة جائر
أتيت يوماً بتيس ... مستعبراً متحاسر
فقلت: قوموا اذبحوه ... فقال: إني يخامر!
وكان الغزال بذيئاً منتهكاً للأعراض قال ابن حارث: وحدثني الأمير ولي
العهد الحكم بن الناصر لدين الله - وقد جرى ذكر يخامر وما وصف من بلهه
وغفلته - قال: ألقى عبد الله بن الشمر الشاعر يوماً بين سحاءات يخامر
بن عثمان التي كان ينادي بها الخصوم للتقديم إليه سحاءة مكتوباً عليها
يونس بن متى والمسيح بن مريم، وخرجت السحاءة إلى يده، فأمر أن يدعى له
بها، فهتف الهاتف: يونس بن متى، والمسيح ابن مريم! واتصل الهاتف بخارج
المجلس، ولا مجيب، إلى أن صاح ابن الشمر: إن نزولهما من أشراط
الساعة؟.. ثم تناول سحاءة فكتب فيها:
يخامر ما تنفك تأتي بفضحة ... دعوت ابن متى والمسيح بن مريما
فثوب فينا ثم ناداك صائح: ... فإنهما لما على الأرض يعلما
(1/201)
قفاك قفا جحش ووجهك مظلم ... وعقلك ما يسوى
من البعر درهما
فلا عشت مودوداً ولا رحت سالماً ... ولا مت مفقوداً ولا مت مسلما
فلم يلبث الفقهاء أن أطبقوا على ذم يخامر وقدحه، وثارت العامة به،
فتألب عليه قوم رفعوا فيه إلى الأمير عبد الرحمن يشكونه إليه، فلما كثر
ذلك على الأمير أمر الوزراء بالشهادة والنظر في أمر يخامر، فذكرت عنه
أشياء مدارها على قلة المدارة وترك حسن المعاملة.
قال محمد بن حارث: وأخبرني محمد بن عبد الملك بن أيمن قال: فلما أتى
الفتى إلى يخامر بعزله من عند الأمير رحمه الله قال له يخامر على رؤوس
الناس: قل للأمير - أصلحه الله - إذ وليتني أمرتني أن أتحفظ من السلسلة
السوء، واليوم تعزلني ببغيها علي! فلما بلغ الفتى قوله إلى الأمير قال:
قبحه الله! ذكر أسرارنا على رؤوس الناس!.
وكان الأمير عبد الرحمن قد ضاق بيحيى بن يحيى والفقهاء الضالعين معه في
كل ما يشير به ولا يخالفون عن أمره، فكان الأمير عبد الرحمن يكره
تألبهم ويقلق منهم ويسميهم سلسلة السوء. فلما ولي يخامر بن عثمان
القضاء حفظه منهم وسماهم له هذا الاسم، فتجنبهم يخامر، وأخذ حذره منهم،
فلم يلبث أن تمالأوا عليه، فأفشوا ذمه، وأبدوا عيبه، وكرهوه إلى الناس،
واعملوا أقلامهم فيه إلى الأمير حتى أمر بعزله فلما أن جاءه الرسول فضح
سره بالقول الذي تقدم ذكره، فزاد في كرهه له.
(1/202)
وقال ابن عبد البر: القاضي يخامر بن عثمان،
لا أحفظ له كنية، وأصله من جيان، ولاه الأمير عبد الرحمن القضاء سنة
عشرين ومائتين، وكان رجلاً فاضلاً عفاً خيراً، غير أنه كانت فيه عنجهية
وجفاء. لما بلا أمر الحكومة بقرطبة ونظر إلى قدر الشيخ ابن يحيى عند
أهلها وغلبته على نفوسهم وطواعيتهم له ضاق صدراً به، فكتب إلى الأمير
عبد الرحمن: إني قدمت قرطبة، فوجدت لها أميرين: أمير الأخيار، وأمير
الأشرار. فأما أمير الأخيار فيحيى بن يحيى، وأما أمير الأشرار فأنت.
فاستجفاه عبد الرحمن وأمر بعزله.
وأعاد على القضاء سعيد بن سليمان، فلم يزل سعيد قاضياً من آخر سنة
عشرين ومائتين إلى آخر سنة سبع وعشرين، فإنه توفي بها، واستقضى الأمير
عبد الرحمن مكانه علي بن أبي بكر الكلابي.
علي بن أبي بكر الكلابي قال ابن عبد البر: هو علي بن أبي بكر القيسي،
يكنى أبا الحسن، وهو جد علي بن محمد بن الباسه استقضاه الأمير عبد
الرحمن سنة سبع وعشرين، أشار به الشيخ يحيى بن يحيى؛ وقلما كان الأمير
عبد الرحمن يولى قاضياً إلا عن مشورة يحيى بن يحيى ورضاه، ولذلك ما
كثرت القضاة في أيامه، إذ كان الشيخ يحيى بن يحيى يشير بالقاضي منهم
بعد القاضي، فإذا أنكر على القاضي منهم شيئاً قال له: استعف من الأمير
وإلا رفعت في عزلك.
وكان علي بن أبي بكر شريف النفس، حسن السمت، على اعتدال واستقامة حال،
ولم يزل قاضياً وصاحب صلاة إلى أن توفي في سنة إحدى وثلاثين ومائتين.
وقد
(1/203)
قيل إنه صرفه سنة تسع وعشرين ومائتين قبل
وفاته، وولي مكانه محمد بن زياد بن عبد الرحمن اللخمي.
وقال محمد بن حارث: علي بن أبي بكر بن عبيد الكلابي يلقب بيوانش، وهو
من أهل قبرة.
معاذ بن عثمان الشعباني قال محمد بن حارث: ولى الأمير عبد الرحمن بن
الحكم قضاء الجماعة معاذ بن عثمان الشعباني، وكان من أهل جيان، فكان
قاضياً بقرطبة سبعة أشهر، ثم عزله، وكان السبب في عزله - زعموا تعجيله
بالحكومة، وأنه أحصى عليه في مدته تلك سبعون قضية أنفذها، فاستكثرت
منه، وخيف عليه الزلل، فعجل عزله. وقد كان - فيما سمعنا به - حسن
السيرة، لين العريكة، خالق الناس بغير خلق يخامر أخيه، وطلب التخلص
منهم، فما استوى له ذلك.
وسمعت من يحكي عنه أنه كنت معه صحية ضمير، وسلامة قلب، وكان لا يظن
بأحد شراً. وكان قد ولى الأحباس بقرطبة رجلاً أحسن الظن به، فلا بلاه
أكذب ظنه، فقال فيه يحيى بن الحكم الغزال: من الطويل
يقول لي القاضي معاذ مشاوراً ... وولى أمراً فيما يرى من ذوي العدل
(1/204)
قعيدك ماذا تحسب المرء صانعاً؟ ... فقلت:
وماذا يفعل الدب في النحل؟
يدق خلاياها ويأكل شهدها ... ويترك للذبان ما كان من فضل
وللغزال في عدلين من عدول معاذ: من الطويل
أتاك أبو حفص ويحيى بن مالك ... فأهلاً وسهلاً بالوغى والمعامع
رجال إذا صبوا عليك شهادة ... حكت فيك وقع المرهفات القواطع
أقول لديك إذ رأيت وجوههم: ... تعز فقد جاءتك إحدى الفجائع!
رنا واستهلت عند ذاك دموعه ... وقال: كثيراً ما أفاضوا مدامعي
وقال ابن عبد البر: هو معاذ بن عثمان أخو يخامر بن عثمان، يكنى أبا عبد
الله، أصله من كورة جيان، وكان عابداً ناسكاً.
أخبرني من سمع سعد بن معاذ يقول: كان معاذ بن عثمان من الأبدال، وكانوا
يعدونه مجاب الدعوة. يذكر أنه أتاه يوماً رجل متظلم من الحاجب ابن رستم
ويقول إنه اغتصبه مالاً له، فقال له: خذ طابعاً وامض به نحوه، فتصد له
وقل له: هذا طابع
(1/205)
القاضي. فإذا هو ركب فاجبذه بكل قوة عندك،
فاضرب بيدك على عنانه ولا تفارقه حتى يصير إلينا،...............،
وإياك أن تتذلل له، فإنه أهيب لك.
فأخذ الرجل الطابع، ومضى به إلى الحاجب.
وقد تقدم وتشهدوا عنده لا أشهدته لكم،..... الرجل بين يديه ما شاء،
وهذا وكيلي نصيره إليه، وينصفه مما يدعيه. فأتوا القاضي فأعلموه، فأخذ
للرجل بحقه.
وكان تقلد معاذ القضاء سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، فعمل عليه ثلاث
أعوام، ومات وهو يليه سنة أربع وثلاثين ومائتين بعد مهلك الشيخ يحيى،
فولى مكانه محمد ابن زياد اللخمي.
محمد بن زياد اللخمي قال محمد بن حارث: ثم ولى الأمير عبد الرحمن قضاء
الجماعة بقرطبة بعد معاذ بن عثمان محمد بن زياد ابن عبد الرحمن بن زهير
اللخمي، ومحمد هذا هو وال القاضي الحبيب بن زياد. وكان محمد حسن
السيرة، محمود الولاية، رفيع البيت في العلماء بقرطبة، وسمع من معاوية
بن صالح سماعاً كثيراً.
(1/206)
وقال لي محمد بن عبد الله بن أبي عيسى: لما
احتضر يحيى بن يحيى أسند وصيته في أداء دين وبيع مال إلى محمد بن زياد،
وكان القاضي يومئذ، فكانت وصيته في ذلك الوجه خاصة.
قال: وهو الذي صلى على يحيى، فذكر أن ابنه إسحق بن يحيى تقدم يتقدمه
للصلاة: يكبر ابن زياد، ويكبر إسحق تلوه، وجرى على ذلك في التسليم بعد
تسليم ابن زياد. فلما ووري يحيى وبخ ابن زياد إسحق على ما فعله، وقال
له: من أقدمك علي بهذا؟ فقال له إسحق.
من قدمك أنت للصلاة على أبي؟ فقال له ابن زياد.
أمر الصلاة إلي دونك، ومع هذا فإن أخاك - يعني عبيد الله - دعاني إلى
ذلك، وهو - مع فتائه - أرشد منك. أما والله لولا حفظي لصاحب الحفرة
لأدبتك! وكان عبيد الله بن يحيى يومئذ ابن سبع عشرة سنة، فكان ثناء
محمد بن زياد يومئذ عليه أول أسباب سؤدده، وما زال ابن زياد له على
تكريم ومبرة.
وذكر أحمد بن زياد عن محمد بن وضاح قال:
شهد شاهد عند القاضي محمد بن زياد بشهادة على المعروف بغراب - وكان
جاهلاً عاتباً -، فقال غراب لمحمد بن زياد:
(1/207)
ومن شهد علي - أصلحك الله -؟ فما أحسبه
الليث بن سعد! فقال له ابن زياد: وما ذكر الليث بن سعد هاهنا؟! فأمر به
- وذلك في المسجد، وهو والي الشرطة - فقنع أسواطاً.
قال: فكان ذلك من فعله صواباً.
قال ابن وضاح: وابن القاسم يرى أن يعزر السلطان الرجل في المسجد
بالسوط، وسحنون يأبى ذلك.
قال: ولما ولي سحنون بن سعيد القضاء حمل الضرب على الذي لا يريد غرم ما
عليه وهو ملئ بعد أن حبسه، فقال له: من أين أخذت الضرب، وإنما كنا نعرف
الحبس حتى يغرم؟ فقال: من حديث النبي صلى الله عليه وسلم في قوله مطل
الغنى ظلم، فإذا كان ظالماً كما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم
أدبته.
وذكر بعض الرواة قال: بينما القاضي محمد بن زياد يوماً يساير الفقيه
محمد بن عيسى الأعشى إذ لقيا رجلاً يتما يد سكراً، فأمر ابن زياد
الأعوان بأخذه، وحمله ليقيم عليه الحد، ففعلوا.
وانتهى محمد بن زياد من طريقه إلى مكان ضيق تقدم فيه، واستأخر عنه
صاحبه الأعشى، فدنا إلى الغلام الذي كان يمسك السكران، فقال له: يقول
لك القاضي أطلق
(1/208)
الرجل. ففعل. وانتهى الأعشى مع ابن زياد
إلى موضعه، ثم سلم عليه. وفارقه ابن زياد، فدعا بالسكران، فقال له
غلامه: أمرني عنك الفقيه أبو عبد الله بإطلاقه، ففعلت، ولم أتهمه.
فقال: أو فعلها؟ فهي من فعلاته! وابتسم، وقال: لعمري لقد أحسن! قال ابن
حارث: وما أعرف ما أتى عن القضاة والحكام في هذا الباب من الإغضاء عن
السكارى والتغافل لهم وجهاً يتسع لهم القول فيه، وينساغ لهم العذر فيه
إلا وجهاً واحداً: وهو أن حد السكران من بين الحدود كلها لم ينصه
الكتاب المنزل، ولا ورد فيه حديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وإنما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى برجل قد شرب، فأمر أصحابه
أن يضربوه على معصيته، فضرب بالنعال وبأطراف الأردية.
وتوفي صلى الله عليه وسلم ولم يحد في ضرب السكران حداً يلحق بسائر
الحدود. فلما نظر أبو بكر الصديق رضي الله عنه في ذلك بعد رسول الله
صلى الله عليه وسلم واستشار أصحابه قال له علي بن أبي طالب رحمه الله
إنه من شرب سكر، ومن سكر هذي، ومن هذي افترى ومن افترى وجب عليه حد
الافتراء، فأرى أن تضرب الشارب ثمانين: حد المفتري. فقبل ذلك منه هو
والصحابة رحمة الله عليهم.
وذكر الحديث أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال عند موته: ما شيء في
نفسي منه شيء غير حد الخمر، فإنه شيء لم يفعله رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وإنما هو شيء رأيناه بعده.
(1/209)
وقال ابن عبد البر: محمد بن زياد بن عبد
الرحمن يكنى أبا عبد الله، وهو والد الحبيب ابن زياد القاضي. كان رجلاً
عاقلاً راوية عن يحيى، ولكنه لم يكن حافظاً، وأبقاه الأمير محمد على
القضاء حتى توفي ابن زياد.
قال محمد بن وضاح: وكان محمد بن زياد أحد العقلاء الحلماء الأدباء. لقد
أتيت يوماً معه ومع رجل من قريش إلى عيادة مريض من إخوانه، فاستأذن
عليه، وسألت بنا خادمه، فقال لها قولي لمولاك: هذا فلان القرشي والفقيه
ابن وضاح ومحمد بن زياد بالباب. أخر نفسه وقدمنا، وكنى عنا وتسمى هو،
فاستحسنا أدبه واستبرعناه.
وقال محمد بن حارث: لم ينقم من محمد بن زياد في ولايته شيء فيما ذكره
رواة الأخبار غير دالة كانت تظهر من زوجته تكفات تبين أثرها عليه على
ما يفعله بعض الزوجات الحظيات ببعولهن، فمن قبلها وجد السبيل إلى عيبه.
وقال ابن عبد البر: لم يزل محمد بن زياد على القضاء والصلاة معاً
بقرطبة إلى أن هلك الأمير عبد الرحمن ابن الحكم، وقد استكمل بعدد قضائه
عليها عشرة قضاة، وهم: مسرور بن محمد مولاه؛ سعيد بن سليمان؛ يحيى بن
معمر الألهاني؛ الأسوار بن عقبة، إبراهيم بن العباس المرواني؛ محمد بن
سعيد؛ يخامر بن عثمان؛ علي بن أبي بكر، معاذ بن عثمان؛ محمد بن زياد
رحمة الله عليهم أجمعين.
(1/210)
|