المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

ومن الحوادث: فِي سنة عشر من مولده صلى الله عليه وسلم
[1] :
الفجار الأول:
وكانت الحرب فيه ثلاثة أيام، وكان أول أمر الفجار ابن بدر بْن معشر الغفاريّ كان منيعا مستطيلا بمنعته عَلَى من ورد عكاظ فاتخذ مجلسا بسوق عكاظ، وقعد فيه، وجعل يبذخ عَلَى الناس ويقول:
نحن بنو مدركة بْن خندف ... من يضعوا فِي عينه لا يطرف
وهو باسط رجله وجعل يقول: أنا أعز العرب، فمن زعم أنه أعز العرب فليضربها بالسيف [2] . فوثب رجل من بني نصر بْن معاوية يقال له [3] : الأحمر بْن مازن، فضربه بالسيف عَلَى ركبته، فأندرها ثم قَالَ:
خذها إليك أيها المخندف
ثم قام رجل من هوازن فَقَالَ:
نحن ضربنا ركبة المخندف ... إذ مدها فِي أشهر المعرف
ثم كان اليوم الثاني من الفجار الأول:
وكان سببه ذلك: أن شبابا من قريش من بني كنانة رأوا امرأة من بني عامر وسيمة جالسة بسوق عكاظ فِي درع، فأطافوا بها وسألوها أن تسفر فأبت، فقام أحدهم فجلس خلفها، وحل طرف درعها وشده إِلَى ما فوق عجزها بشوكة، فلما قامت انكشف درعها عَنْ دبرها، فضحكوا وَقَالُوا: منعتينا النظر إِلَى وجهك وجدت لنا بالنظر إِلَى دبرك.
فنادت: يا آل عامر. فتنادوا [4] بالسلاح وحملت كنانة [5] ، فاقتتلوا قتالا شديدا ووقعت
__________
[1] بياض من ت مكان: «ومن الحوادث فِي سنة عشر من مولده صلى الله عليه وسلم» .
[2] في ت: «أعز مني فلينه بها» .
[3] في ت: «و» .
[4] في ت: «فثارت» .
[5] «وحملت كنانة» سقطت من ت.

(2/290)


بينهم دماء، فتوسطها حرب بْن أمية وأرضى بني عامر من مثلة [1] صاحبتهم
. ثم كان اليوم الثالث من أيام الفجار الأول:
وكان سببه: أنه كان لرجل من بني جشم بْن بكر دين عَلَى رجل من بني كنانة.
فلواه [2] به، فجرت بينهما خصومة، واجتمع الحيان، فاقتتلوا، وحمل ابن جدعان ذلك من ماله [3]
. ومن الحوادث سنة إحدى عشرة من مولده صلى الله عليه وآله وسلم [4] .
أخبرنا ابن الحصين قال، أخبرنا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُذْهِبِ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بن أحمد قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ أَبُو يَحْيَى الْبَزَّازُ قَالَ: أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ قَالَ:
حَدَّثَنِي أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ مُعَاذِ بْنِ أبي كعب:
إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ جَرِيئًا عَلَى أَنْ يَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَشْيَاءَ لا يَسْأَلُهُ عَنْهَا غَيْرُهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَوَّلُ مَا رَأَيْتَ مِنْ أَمْرِ النُّبُوَّةِ؟
فَاسْتَوَى جَالِسًا وَقَالَ: لَقَدْ سَأَلْتَ أَبَا هُرَيْرَةَ، إِنِّي لَفِي صَحْرَاءٍ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ وَأَشْهُرَ، فَإِذَا بِكَلامٍ فَوْقَ رَأْسِي، وَإِذَا بِرَجُلٍ يَقُولُ لِرَجُلٍ: أَهُوَ هُوَ؟ فَاسْتَقْبَلانِي بِوُجُوهٍ لَمْ أَرَهَا بِخَلْقٍ قَطُّ، وَأَرْوَاحٍ لَمْ أَجِدْهَا مِنْ خَلْقٍ قَطُّ، وَثِيَابٍ لَمْ أَرَهَا عَلَى أَحَدٍ قَطُّ [5] ، فَأَقْبَلا إِلَيَّ يَمْشِيَانِ حَتَّى إِذَا أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَضُدِي، لا أَجِدُ لأَحَدِهِمَا مَسًّا، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: أَضْجِعْهُ، فَأَضْجَعَانِي بِلا قَصْرٍ وَلا هَصْرٍ [6] ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لصاحبه:
__________
[1] في ت: «وشد صاحبهم» .
[2] في ت: «فقتله» .
[3] «من ماله» سقط من ت.
انظر ألوفا لابن الجوزي، الباب الثامن والثلاثون، وقال ابن الجوزي: «وهذه الأيام لم يحضرها صلى الله عليه وسلم» .
[4] بياض في ت مكان: «ومن الحوادث سنة إحدى عشرة من مولده صلى الله عليه وسلم» .
[5] «قط» سقطت من ت.
[6] في ت: «بلا قشر ولا حصر» .

(2/291)


أَفْرِقْ صَدْرَهُ فَجَرَى [1] أَحَدُهُمَا إِلَى صَدْرِي، فَفَرَقَهُ [2] فِيمَا أَرَى بِلا دَمٍ وَلا وَجَعٍ، فَقَالَ لَهُ: أَخْرِجِ الْغِلَّ وَالْحَسَدَ فَأَخْرَجَ شَيْئًا كَرَضَّةِ الْعَلَقَةِ، ثُمَّ نَبَذَهَا فَطَرَحَهَا، فَقَالَ لَهُ: أَدْخِلِ الرَّأْفَةَ وَالرَّحْمَةَ، فَإِذَا مِثْلَ الَّذِي أَخْرَجَ شِبْهَ الْفِضَّةِ، ثُمَّ هَزَّ إِبْهَامَ رِجْلِي الْيُمْنَى فَقَالَ: اغْدُ وَاسْلَمْ، فَرَجَعْتُ بِهَا أَغْدُو رَأْفَةً [3] عَلَى الصغير ورحمة الْكَبِيرِ.