النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة
ذكر ولاية سعيد بن
يزيد على مصر
هو سعيد بن يزيد بن علقمة بن يزيد بن عوف الأزدي أمير مصر من أهل
فلسطين، ولي إمرة مصر بعد موت مسلمة بن مخلد من قبل يزيد بن معاوية بن
أبي سفيان ودخلها في مستهل شهر رمضان سنة اثنتين وستين من الهجرة،
وتلقاه أهل مصر ووجوه الناس وفيهم عمرو الخولاني، فلما رآه قال: يغفر
الله
(1/157)
لأمير المؤمنين، أما كان فينا مائة شاب
كلهم مثلك يولي علينا أحدهم! ثم دخلوا معه. ولم يزل أهل مصر على الشنآن
له والإعراض عنه والتكبر عليه حتى توفي يزيد ابن معاوية ودعا عبد الله
بن الزبير الناس لبيعته وقامت أهل مصر بدعوته وسار منهم جماعة كثيرة
إليه، فبعث عبد الله بن الزبير عبد الرحمن بن جحدم أميراً على مصر،
واعتزل سعيد المذكور، فكانت ولايته سنتين إلا شهراً واحداً.
وقال صاحب كتاب «البغية والاغتباط فيمن ملك الفسطاط» : ولاه يزيد ابن
معاوية على مصر «1» فقدمها في استهلال شهر رمضان سنة اثنتين وستين،
فأقر عابساً على الشرطة؛ ثم ساق نحواً مما قلناه، إلى أن قال: وكانت
مدّته على مصر سنتين وأشهرا.
قلت: وفي مدة هاتين السنتين وقع له حروب كثيرة شرقاً وغرباً، فأما من
جهة الشرق فكانت الفتن ثائرة بين ابن الزبير وبين الأموية حتى قدم ابن
جحدم إلى مصر وملكها منه ودعا بها لابن الزبير، هذا مع الفتن التي كانت
ببلاد المغرب من خروج كسيلة البربري وتجرد بسببه غير مرة إلى برقة
وغيرها.
وأمر كسيلة البربري: أنه كان أسلم لما ولي أبو المهاجر إفريقية وحسن
إسلامه، فكان من أكابر البربر وصحب أبا المهاجر، فلما ولي عقبة بن نافع
إفريقية عرفه أبو المهاجر محل كسيلة وأمره بحفظه، فلم يقبل واستخف به،
وأتى عقبة بغنم فأمر كسيلة بذبحها وسلخها مع السلّاخين؛ فقال كسيلة:
هؤلاء غلمانى يكفوننى المؤونة؛ فشتمه عقبة وأمره بسلخها ففعل؛ فنصح أبو
المهاجر عقبة فلم يسمع؛ فقال: وإن كان لا بد فأوثقه فإني أخاف عليك منه
فتهاون به عقبة فأضمر كسيلة
(1/158)
الغدر، فلمّا كان الآن ورأى القوم «1» قلة
مع عقبة توثب، وكان في عسكر عقبة جماعة وافقوا كسيلة، ثم راسلته الروم
فأظهر كسيلة منذ ذلك ما كان أضمر وجمع أهله وبني عمه وقصد عقبة؛ فقال
أبو المهاجر لعقبة: عاجله قبل أن يقوى جمعه، وكان أبو المهاجر موثقاً
في الحديد مع عقبة، فزحف عنه عقبة إلى كسيلة، فتنحى كسيلة عن طريقه
ليكثر جمعه ويتعب عقبة؛ فلما رأى أبو المهاجر ذلك تمثل بقول أبي محجن
الثقفىّ:
كفى حزناً أن تطعن «2» الخيل بالقنا ... وأترك مشدوداً علي وثاقيا
إذا قمت عناني الحديد وأغلقت ... مصارع من دوني تصم المناديا
فبلغ عقبة ذلك، فأطلقه وقال له: الحق بالمسلمين فقم بأمرهم وأنا أغتنم
الشهادة؛ فلم يفعل وقال «3» : وأنا أيضاً أريد الشهادة؛ فكسر عقبة
والمسلمون أجفان سيوفهم وتقدموا إلى البربر وقاتلوهم حتى قتل المسلمون
جميعهم ولم يفلت منهم أحد، وأسر محمد بن أوس الأنصاري في نفر يسير
فخلصهم صاحب قفصة وبعث بهم إلى القيروان، فعزم زهير بن قيس البلوي على
القتال فلم يوافقه جيش الصنعاني وعاد إلى مصر وتبعه أكثر الناس من
العساكر المصرية من جند سعيد صاحب مصر، فاضطر زهير إلى العود معهم فسار
إلى برقة وأقام بها، وبعث يستمد المصريين، ووقع له أمور إلى أن ملك
إفريقية في سنة تسع وستين.
(1/159)
وأما كسيلة فاجتمع إليه جميع أهل إفريقية
وقصد القيروان، وبها أصحاب الأثقال «1» والذراري من المسلمين، فطلبوا
الأمان من كسيلة فآمنهم، ودخل القيروان واستولى على إفريقية وأقام بها
من غير مدافع إلى أن قوي أمر عبد الملك بن مروان وندب زهيراً ثانية
وأمده بالعساكر حتى استولى على إفريقية ودعا بها لعبد الملك ابن مروان.
وكان زهير بن قيس المذكور في هذه المدة مرابطاً ببرقة ومن ولي من أمراء
مصر يعضده إلى أن كان ما كان.
*** السنة الأولى من ولاية سعيد بن يزيد على مصر وهى سنة ثلاث وستين-
فيها غزا عقبة بن نافع القيروان وسار حتى دخل السوس «2» الأقصى وغنم
وسلم ورد من القيروان، فلفيه كسيلة النصراني فدافعه عقبة بمن معه
فاستشهد عقبة بن نافع المذكور في الوقعة وأبو المهاجر مولى الأنصار
وعامة أصحابهما، ثم سار كسيلة فخرج لحربه زهير بن قيس البلوي خليفة
عقبة على القيروان وواقعه، فانهزم زهير إلى برقة وأقام بها سنين إلى أن
ندبه عبد الملك بن مروان لقتاله ثانياً، فتوجه إليه وواقعه، فقتل
اللعين كسيلة وهزم جنوده وقتلت منهم مقتلة عظيمة، وقد مر ذلك كله في
أول الترجمة مفصلاً. وفيها بعث سالم بن زياد بن أبيه طلحة بن عبد الله
الخزاعي والياً على سجستان وأمره أن يفدي إخاه من الآسر ففداه بخمسمائة
ألف وأقدمه على أخيه. وفيها كانت وقعة الحرة على باب طيبة، وهو أن يزيد
بن معاوية بعث إليها جيشا عليهم مسلم بن عقبة حين خالفوا عليه وأمره
بهتك حرمة المدينة،
(1/160)
وكان مع مسلم اثنا عشر ألفاً، فوصل مسلم
المذكور إلى المدينة وفعل فيها ما لا يفعله مسلم، فإنه قتل في هذه
الوقعة خلقاً من المهاجرين والأنصار وانتهكت حرمة المدينة وآنتهبت
وآفتضت فيها ألف عذراء، واستشهد فيها عبد الله بن حنظلة الغسيل «1» في
ثمانية من بيته، وله صحبة ورواية، وقتل فيها أيضاً معقل بن سنان
الأشجعي صبراً، وأستشهد أيضاً عبد الله بن زيد بن عاصم المازني
النجاري، وله صحبة ورواية، وأستشهد فيها أيضاً أفلح مولى أبي أيوب،
ومحمد بن عمرو بن حزم الأنصاري ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم،
ومحمد بن ثابت بن قيس بن شماس حنكه رسول الله صلى الله عليه وسلم
بريقه، ومعاذ بن الحارث الأنصاري أبو حليمة القاري الذي أقامه عمر
يصلّى التراويح، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وله ست سنين،
ومحمد بن أبي الجهم بن حذيفة، ومحمد بن أبي حذيفة العدوي؛ كل هؤلاء
قتلوا يومئذ؛ وهذا مما اختصرته من مقالة الذهبي.
وقد ذكر هذه الواقعة أيضاً أبو المظفر، وساق فيها أموراً شنيعة إلى
الغاية، وفيها ذكرناه كفاية يعرف منها حال مسلم بن عقبة المذكور.
ويكفيك أنه من يومئذ سمي مسلم المذكور «مسرف بن عقبة» . وقيل: إنه أدرك
النبي صلى الله عليه وسلم، يأتي ذكر ذلك في وفاته قريباً. انتهى أمر
مسرف بن عقبة. وقال خليفة: جميع من أصيب من قريش والأنصار يوم الحرة
ثلاثمائة وستة رجال، ثم سرد أسماءهم في ثلاث أوراق. وفيها توفي مسروق
بن الأجدع، واسم الأجدع عبد الرحمن بن مالك بن أمية أبو عائشة الهمداني
ثم الوداعي الكوفي مخضرم (أعني أنه ولد في زمان النبي صلى الله عليه
وسلم وأسلم بعد ذلك) وسمع أبا بكر وعمر وعثمان وغيرهم.
(1/161)
وممن قتل أيضاً في الحرة زيد بن عاصم وليس
هو بصاحب الأذان، ذاك زيد بن ثعلبة، والزبير بن عبد الرحمن بن عوف. وحج
بالناس عبد الله بن الزبير. وفيها توفي ربيعة بن كعب الأسلمي من أهل
الصفة، روى له مسلم.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان وسبعة أصابع، مبلغ
الزيادة ستة عشر ذراعاً وأربعة أصابع.
*** السنة الثانية من ولاية سعيد بن يزيد على مصر وهي سنة أربع وستين-
فيها حج بالناس عبد الله بن الزبير، وكان عامله على المدينة أخوه عبيدة
«1» بن الزبير، وعلى الكوفة عبد الله بن يزيد الخطمي، وولى قضاءها سعيد
بن نمران، وأبى شريح أن يقضي في الفتنة، وعلى البصرة عمر بن عبيد الله
بن معمر التيمي، وعلى قضائها هشام بن هبيرة، وعلى خراسان عبد الله بن
خازم. وفيها توفي مسلم بن عقبة المسمى مسرفاً المقدم ذكره في وقعة
الحرة. قال محمد بن جرير الطبري: ولما فرغ مسلم من وقعة الحرة توجه إلى
مكة، واستخلف على المدينة روح بن زنباع الجذامىّ، فأدرك مسلماً الموت
فعهد بالأمر إلى الحصين بن نمير.
وذكر الذهبي رحمه الله: أن مسلماً هذا أدرك النبي صلى الله عليه وسلم.
قلت:
ولهذا أمسكنا عن الكلام في أمره. وشهد مسلم صفين مع معاوية وكان على
الرجالة.
وفيها توفي الخليفة يزيد بن معاوية بن أبي سفيان وقد تقدم نسبه في
ترجمة أبيه معاوية، مات في نصف شهر ربيع الأوّل، وكان بويع بالخلافة
بعد موت أبيه
(1/162)
معاوية في شهر رجب سنة ستين، فكانت خلافته
ثلاث سنين وسبعة أشهر وأياماً، وكان فاسقاً قليل الدين مدمن الخمر، وهو
القائل:
أقول لصحبٍ ضمت الكأس شملهم ... وداعي صبابات الهوى يترنّم
خذوا بنصيبٍ من نعيم ولذةٍ ... فكل وإن طال المدى يتصرم
وله أشياء كثيرة غير ذلك غير أننى أضربت عنها لشهرة فسمه ومعرفة الناس
بأحواله. وقد قيل: إن رجلاً قال في مجلس عمر بن عبد العزيز عن يزيد هذا
أمير المؤمنين؛ فقال له عمر بن عبد العزيز: تقول: أمير المؤمنين! وأمر
به فضرب عشرين سوطاً تعزيراً له. ولما مات يزيد هذا ولي الخلافة من
بعده ابنه معاوية ابن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان ثالث خلفاء بنى
أميّة، وكان رجلاً صالحاً فلم يرد الخلافة وخلع نفسه منها، ومات بعد
قليل.
ذكر خلافة معاوية بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان الأموي ثالث خلفاء
بني أمية ووفاته
كنيته أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو يزيد. بويع بالخلافة بعد موت أبيه
يزيد بعهد منه إليه، وذلك في شهر ربيع الأول من سنة أربع وستين، وكان
مولده سنة ثلاث وأربعين فلم تطل مدته في الخلافة.
قال أبو حفص الفلاس «1» : ملك أربعين ليلة ثم خلع نفسه، فإنه كان رجلاً
صالحاً؛ ولهذا يقال في حق أبيه: يزيد شر بين خيرين، يعنون بذلك بين
(1/163)
أبيه معاوية بن أبي سفيان وابنه معاوية
هذا. وقيل: إن معاوية هذا لما أراد خلع نفسه جمع الناس وقال: أيها
الناس، ضعفت عن أمركم فاختاروا من أحببتم؛ فقالوا: ول أخاك خالداً؛
فقال: والله ما ذقت حلاوة خلافتكم فلا أتقلد وزرها، ثم صعد المنبر
فقال: أيها الناس، إن جدي معاوية نازع الأمر أهله ومن هو أحق به منه
لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو علي بن أبي طالب، وركب
بكم ما تعلمون حتى أتته منيته، فصار في قبره رهيناً بذنوبه وأسيراً
بخطاياه؛ ثم قلد أبي الأمر فكان غير أهل لذلك، وركب هواه وأخلفه الأمل،
وقصر عنه الأجل. وصار في قبره رهيناً بذنوبه، وأسيراً بجرمه؛ ثم بكى
حتى جرت دموعه على خديه ثم قال: إن من أعظم الأمور علينا علمنا بسوء
مصرعه وبئس منقلبه، وقد قتل عترة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأباح
الحرم وخرب الكعبة، وما أنا بالمتقلّد ولا بالمتحمل تبعاتكم، فشأنكم
أمركم؛ والله لئن كانت الدنيا خيراً فلقد نلنا منها حظاً ولئن كانت
شراً فكفى ذرية أبي سفيان ما أصابوا منها، ألا فليصل بالناس حسان ابن
مالك، وشاوروا في خلافتكم رحمكم الله. ثم دخل منزله وتغيب حتى مات في
سنته بعد أيام.
وفيها توفي شداد بن أوس بن ثابت وهو ابن أخي حسان بن ثابت. وفيها توفّى
المسور بن مخزمة بمكة في اليوم الذي ورد فيه خبر موت يزيد بن معاوية،
وكان سبب موته أنه أصابه حجر منجنيق في جانب وجهه فمرض أياما ومات.
وفيها وثب مروان ابن الحكم على الأمر وبويع له بالخلاقة.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع وثمانية عشر إصبعاً،
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وسبعة أصابع.
(1/164)
|