النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة

ذكر ولاية أيوب بن شرحبيل على مصر
هو أيوب بن شرحبيل بن أكشوم «1» بن أبرهة بن الصباح أمير مصر.
قال الحافظ أبو سعيد عبد الرحمن بن أحمد بن يونس في تاريخه: أيوب بن شرحبيل بن أكشوم بن أبرهة بن الصباح بن لهيعة بن شرحبيل بن مرثد بن الصبّاح ابن معديكرب بن يعفر بن ينوف «2» بن شراحيل بن «3» أبى شمر بن شرحبيل بن ياشر ابن أشغر «4» بن ملكيكرب بن شراحيل بن يعفر بن عمير بن أبي كرب بن يعفر بن أسعد بن ملكيكرب بن شمير «5» بن أشغر بن ينوف بن أصبح الأصبحي. وأمه أم أيوب بنت مالك بن نويرة بن الصباح. وأيوب هذا أحد أمراء مصر وليها لعمر بن عبد العزيز. روى عنه أبو قبيل وعبد الرحمن بن مهران، وتوفي في رمضان سنة إحدى ومائة.
حدثني موسى بن هارون بن كامل أخبرنا عبد الله بن محمد البردي حدثنا أبي حدثنا ابن أبي ذئب «6» حدثنا عبد الرحمن بن مهران عن أيوب بن شرحبيل قال:
كتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إلى عامله على مصر: أن خذ من المسلمين من كل أربعين ديناراً، ومن أهل الكتاب من كل عشرين ديناراً إذا قبلوها في كل عام، فإنه حدثني من سمعه عمن سمعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى كلام ابن يونس باختصار

(1/237)


قلت: وكانت ولاية أيوب هذا على مصر بعد عبد الملك بن رفاعة من قبل عمر ابن عبد العزيز في شهر ربيع الأول سنة تسع وتسعين. فلما ولي أيوب هذا مصر جعل الفتيا بمصر إلى جعفر بن ربيعة ويزيد بن أبي حبيب وعبيد الله بن أبي جعفر، وجعل على الشرطة الحسن بن يزيد الرعيني، وزيد في عطايا الناس عامة، وعطلت حانات الخمر وكسرت بإشارة أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز، ونزحت القبط عن الكور، واستعملت [عليها] المسلمون، ونزعت أيديهم أيضاً عن المواريث واستعمل عليها المسلمون، وحسنت أحوال الديار المصرية في أيامه، وأخذ أيوب هذا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإصلاح الأمور. وبينما هو في ذلك قدم عليه الخبر بموت الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه في شهر رجب سنة إحدى ومائة وتولية يزيد بن عبد الملك بن مروان الخلافة، وأن يزيد أقر أيوب بن شرحبيل المذكور على عمله بمصر على الصلاة على عادته؛ فلم تطل مدة أيوب بعد ذلك، ومات في يوم سابع عشر شهر رمضان من سنة إحدى ومائة المذكورة، وقيل: لإحدى عشرة خلت من شهر رمضان؛ فكانت ولايته على مصر سنتين ونصف سنة؛ وتولى مصر بعده بشر بن صفوان الآتي ذكره.
وقال صاحب كتاب «البغية والاغتباط فيمن ولي الفسطاط» : إنه عزل (يعني أيوب هذا) في التاريخ المذكور من الشهر والسنة؛ غير أنه خالف ما ذكرناه من موته، وقال: «عزل» والله أعلم، ووافقه غيره على ذلك. والصحيح ما نقلناه، أنه توفي. غير أن يزيد لما ولي الخلافة بعد عمر بن عبد العزيز غير غالب ما كان قرره عمر. وسببه أن عمر لما احتضر قيل له: اكتب إلى يزيد ابن عمك وأوصه بالأمة، قال: بماذا أوصيه! إنه من بني عبد الملك؛ ثم كتب إليه: «أما بعد، فاتق الله يا يزيد، واتق الصرعة بعد الغفلة حين لا تقال العثرة ولا تقدر على الرجعة، إنك تترك ما تترك

(1/238)


لمن لا يحمدك، وتصير إلى من لا يعذرك، والسلام» . فلما ولي يزيد نزع أبا بكر بن محمد ابن عمرو بن حزم عن المدينة، واستعمل عبد الرحمن بن الضحّاك بن قيس الفهرىّ عليها، فاستقضى عبد الرحمن بن سلمة بن عبد الله بن عبد الأسد المخزومىّ، وأراد معارضة ابن حزم فلم يجد عليه سبيلاً حتى شكا عثمان بن حيان إلى يزيد من ابن حزم أنه ضربه حدين وطلب منه أن يقيده «1» منه. ثم عمد يزيد إلى كل ما صنعه ابن عمه عمر بن عبد العزيز مما لم يوافق هواه فرده، ولم يخف شناعةً عاجلةً ولا إثماً آجلاً.
فمن ذلك أن محمد بن يوسف أخا الحجاج بن يوسف كان عاملاً على اليمن، فجعل عليهم خراجاً محدداً «2» ، فلما ولي عمر بن عبد العزيز كتب إلى عامله باليمن يأمره بالاقتصار على العشر ونصف العشر وترك ما حدده محمد، وقال: لأن يأتيني من اليمن حفنة ذرة أحب إلي من تقرير هذه الوظيفة. فلما ولي يزيد بعد عمر أمر بردها، وقال لعامله: خذها منهم ولو صاروا حرضاً «3» ، والسلام. ثم عزل جماعةً من العمال. فمن قال بعزل أيوب عن مصر فهو يستدل بما ذكرناه، والأصح أنه مات في التاريخ المذكور المقدم ذكره.
*** السنة الأولى من ولاية أيوب بن شرحبيل على مصر وهي سنة تسع وتسعين- فيها أغارت الخزر على أرمينية وأذربيجان، وأمير تلك البلاد يوم ذاك عبد العزيز بن حاتم الباهلي، وكان بينهم وقعة قتل الله فيها عامة الخزر، وكتب عبد العزيز الباهلي إلى الخليفة عمر بن عبد العزيز بذلك. وفيها حج بالناس أبو بكر بن حزم. وفيها استقضى عمر بن عبد العزيز الشّع؟؟؟ ىّ على الكوفة. وفيها قدم يزيد بن المهلب بن أبى

(1/239)


صفرة من خراسان، فما قطع الجسر إلا وهو معزول. وتوجه عدي بن أرطاة والياً من قبل عمر بن عبد العزيز على البصرة، فأبى يزيد بن المهلب أن يسلم عليه، فقبض عليه عدي بن أرطاة وقيده وبعث به إلى عمر بن عبد العزيز، فحبسه عمر بن عبد العزيز حتى مات. وفيها أسلم ملك الهند.
قال ابن عساكر: كتب ملك الهند إلى عمر بن عبد العزيز: «من ملك الهند والسند، ملك الأملاك الذي هو ابن ألف ملك وتحته ابنة ألف ملك، والذي في مملكته نهران ينبتان العود والكافور والأكرة التي يوجد ريحها من اثني عشر فرسخاً، والذي في مربطه ألف فيل وتحت يده ألف ملك، إلى ملك العرب:
أما بعد، فإن الله قد هداني إلى الإسلام فابعث إلي رجلاً يعلمني الإسلام والقرآن وشرائع الإسلام، وقد أهديت لك هدية من المسك والعنبر والند والكافور فاقبلها، فإنما أنا أخوك في الإسلام، والسلام» .
وفيها توفي سعيد بن أبي الحسن أخو الحسن البصري، وكان أصغر من الحسن، وهو من الطبقة الثانية من تابعي أهل البصرة، وحزن على موته أخوه الحسن حزناً عظيماً وأمسك عن الكلام حتى كلم في ذلك، فقال أول ما تكلم:
الحمد لله الذي لم يجعل الحزن عاراً على يعقوب. وفيها توفي الخليفة سليمان بن عبد الملك ابن مروان الأموي الهاشمي، وأمه ولادة بنت العباس، وهي أم الوليد أيضاً، وكنيته أبو أيوب، ولي الخلافة بعد أخيه الوليد بن عبد الملك سنة ست وتسعين، وكان فصيحاً لسناً جميلاً حسن السيرة مفتاحاً للخير، أذهب الله به ظلم الحجاج، وأطلق من كان في حبس الحجاج، فأنصف المظلومين، وبنى مدينة الرملة و؟؟؟؟ ها، ثم ح؟؟؟ م أفعاله باستخلافه ابن عمه عمر بن عبد العزيز على المسلمين قبل أخويه يزيد وهشام،

(1/240)


وكان سليمان هذا أكولاً، وحكاياته في كثرة الأكل مشهورة، منها: أنه حج مرة فنزل بالطائف فأكل سبعين رمّانة، ثم جاءوه بخروف مشوىّ وست دجاجات فأكلها، ثم جاءوه بزبيب فأكل منه شيئاً كثيراً؛ ثم نعس وانتبه فأتاه الطباخ فأخبره أن الطعام استوى، فقال: اعرضه علي قدراً قدراً، فصار يأكل من كل قدرة «1» اللقمة واللقمتين واللحمة واللحمتين، وكانت ثمانين قدراً؛ ثم مد السماط فأكل على عادته كأنه ما أكل شيئا. اهـ، وكانت وفاته بدابق «2» في صفر سنة تسع وتسعين عن خمس وأربعين سنة. وكانت خلافته دون ثلاث سنين، رحمه الله. وفيها وجه عمر بن عبد العزيز إلى مسلمة وهو بأرض الروم يأمره بالقفول منها بمن معه من المسلمين، ووجه لهم خيلاً وطعاماً كثيراً، وحث الناس على معونتهم. وفيها أغارت الترك على أذربيجان فقتلوا من المسلمين جماعة؛ فوجه عمر بن عبد العزيز حاتم بن النعمان الباهلي فقتل أولئك الترك، ولم يفلت منهم إلا اليسير. وفيها توفي سهل بن عبد العزيز ابن مروان أخو الخليفة عمر بن عبد العزيز، وكان فاضلاً ديناً زاهداً. وفيها توفي قيس بن أبي حازم عوف بن الحارث الأحمسي، من الطبقة الأولى من تابعي أهل الكوفة، شهد مع خالد بن الوليد حين صالح أهل الحيرة والقادسيّة. وفيها توفي القاسم بن مخيمرة الهمداني، وهو من الطبقة الثانية من تابعي أهل الكوفة، وكان يدعو بالموت، فلما نزل به كرهه، وكان ثقةً مع علم وزهد وورع.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ستة أذرع وخمسة أصابع، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً وعشرون إصبعاً.

(1/241)


*** السنة الثانية من ولاية أيوب بن شرحبيل على مصر وهي سنة مائة- فيها حج بالناس أبو بكر بن حزم. وفيها غزا الصائفة الوليد بن هشام المعيطي؛ وفيها خرج شوذب الخارجي واسمه بسطام من بني يشكر. وفيها أمر عمر بن عبد العزيز أهل طرندة «1» بالقفول عنها إلى ملطية، وكان عبد الله بن عبد الملك قد أسكنها المسلمين بعد أن غزاها سنة ثلاث وثمانين، وملطية يومئذ خراب، وكان يأتيهم جند من الجزيرة يقيمون عندهم إلى أن ينزل الثلج ويعودون إلى بلادهم؛ فلم يزالوا كذلك إلى أن ولي عمر بن عبد العزيز فأمرهم بالعود إلى ملطية وإخلاء طرندة خوفاً على المسلمين [من العدو «2» ] وأخرب طرندة. وفيها تزوج محمد بن علي بن عبد الله بن العباس الحارثية، فولدت له السفاح أول خلفاء بني العباس الآتي ذكرهم إن شاء الله تعالى.
وفيها كانت الزلازل، فكتب الخليفة عمر بن عبد العزيز إلى الأمصار وواعدهم يوماً بعينه، ثم خرج هو بنفسه رضي الله عنه في ذلك اليوم وخرج معه الناس، فدعا عمر وتضرع إلى الله فسكنت الزلازل ببركته. وقيل: إن في أول هذه السنة كانت أول دعوة بني العباس بخراسان لمحمد بن علي بن عبد الله بن العباس، فلم يظهر أمره غير أنه شاع ذلك في الأقطار، ثم وقعت أمور إلى أن ظهرت دعوتهم في سنة مائة واثنتين وثلاثين، كما سيأتي ذكره في محله. وفيها توفي خارجة بن زيد بن ثابت الأنصاري، وأمه جميلة بنت سعد بن الربيع الخزرجي، وهو من الطبقة الثانية من تابعي أهل المدينة، وكذا جميع إخوته، وكنيته أبو زيد، وكان عالماً زاهدا،

(1/242)


وهو أحد الفقهاء السبعة. وفيها توفي الشاب الصالح الناسك عبد الملك ابن الخليفة عمر بن عبد العزيز بن مروان، مات في خلافة أبيه عمر بن عبد العزيز. قال بعض أهل الشام: كنا نرى أن عمر بن عبد العزيز إنما أدخله في العبادة ما رأى من ابنه عبد الملك المذكور هذا. ومات عبد الملك المذكور وله تسع عشرة سنة رحمه الله.
وفيها كان طاعون عدىّ بن أرطاة، ومات فيه خلائق. وفيها توفي أبو رجاء العطاردي، من الطبقة الأولى من تابعي أهل البصرة، واسمه عمران بن تيم، وقيل:
ابن ملحان، وقيل: عطارد بن ثور «1» . وفيها توفي أبو طفيل عامر بن واثلة بن عبد الله ابن عمرو الليثي الكناني الصحابي، آخر من رأى فى الدنيا النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالإجماع، وكان من شيعة علي، روى عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم استلامه الركن.
وفيها كتب عمر بن عبد العزيز إلى ملوك السند «2» يدعوهم إلى الإسلام على أن يملكهم بلادهم، ولهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم؛ وقد كانت سيرته بلغتهم، فأسلم جيشبة «3» بن ذاهر وعده ملوك وتسموا بأسماء العرب. وكان استعمل عمر على ذلك الثغر عمرو بن مسلم أخا قتيبة، فغزا عمرو بعض الهند وظفر حتى بقي ملوك السند مسلمين، فبقوا على ذلك إلى خلافة هشام، [ثم] ارتدوا عن الإسلام لأمر وقع من هشام.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثمانية أذرع وعشرون إصبعاً، مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وعشرون «4» إصبعا.

(1/243)


ذكر ولاية بشر بن صفوان على مصر
هو بشر بن صفوان بن تويل (بفتح التاء المثناة) بن بشر بن حنظلة بن علقمة بن شرحبيل بن عرين «1» بن أبي جابر بن زهير الكلبي، أمير مصر. وليها من قبل يزيد بن عبد الملك بعد موت أيوب بن شرحبيل في سابع عشر شهر رمضان سنة إحدى ومائة.
قال ابن يونس: وحدث عنه عبد الله بن لهيعة، ويروي عن أبي فراس.
انتهى كلام ابن يونس، ولم يذكر وفاته ولا عزله.
وقال غيره: وفي أيام بشر على مصر نزل الروم تنيس وأقام بعد ذلك مدة، وولاه الخليفة يزيد بن عبد الملك على إفريقية بالغرب، فخرج إليها من مصر في شوال سنة اثنتين ومائة واستخلف أخاه حنظلة بن صفوان على مصر، فأقره يزيد بن عبد الملك على إمرة مصر عوضاً عن أخيه بشر المذكور.
وقال صاحب كتاب «البغية والاغتباط، فيمن ولى الفسطاط» بعد ما ذكر نسبه إلى جده، قال: ولاه يزيد بن عبد الملك، وقدمها (يعني مصر) لسبع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان سنة إحدى ومائة، فجعل على شرطته شعيب بن حميد ابن أبى الرّبذاء «2» البلوي. وفي إمرته نزلت الروم تنيس، وكتب يزيد بمنع الزيادات التي زادها عمر بن عبد العزيز، ودون التدوين الرابع «3» ، ثم خرج إلى إفريقية بإشارة يزيد بن عبد الملك في شوال سنة اثنتين ومائة، واستخلف أخاه حنظلة. اهـ. وسبب

(1/244)


عزل بشر بن صفوان وتوجهه إلى إفريقية قتل يزيد بن أبي مسلم؛ وكان الخليفة يزيد بن عبد الملك بن مروان استعمل يزيد بن أبي مسلم كاتب الحجاج على إفريقية سنة إحدى ومائة، بعد عزل محمد بن يزيد مولى الأنصار، فلما ولي يزيد على إفريقية عزم أن يسير فيهم بسيرة الحجاج في أهل الإسلام الذين سكنوا الأمصار ممن كان أصله من السواد من أهل الذمة فأسلم بالعراق؛ فإن الحجاج كان ردهم إلى قراهم ووضع الجزية على رقابهم على نحو ما كانت تؤخذ منهم وهم كفار، فأراد يزيد بن أبي مسلم [أن] يفعل بأهل سواد إفريقية كذلك؛ فكلموه في ذلك فلم يسمع وعزم على ما عزم عليه؛ فلما تحققوا ذلك أجمع رأيهم على قتله، فوثبوا عليه وقاتلوه وقتلوه، وولوا على أنفسهم الوالي الذي كان عليهم قبل يزيد المذكور، وهو محمد بن يزيد مولى الأنصار، وكان عندهم؛ وكتبوا إلى الخليفة يزيد بن عبد الملك: إنا لم نخلع أيدينا من الطاعة، ولكن يزيد بن أبي مسلم سامنا ما لا يرضاه الله والمسلمون فقتلناه وأعدنا علينا محمد بن يزيد؛ فكتب إليهم يزيد: إني لم أرض بما صنع يزيد بن أبي مسلم، وأقر محمد بن يزيد على عمله مدة أيام، ثم بدا له إرسال بشر بن صفوان هذا إلى إفريقية فكتب إليه بالتوجه، وأقر أخاه حنظلة بن صفوان على إمرة مصر عوضه برغبة أخيه بشر في ذلك. وخرج بشر إلى إفريقية ووقع له بها أمور يطول شرحها إلى أن غزا جزيرة صقلية في سنة تسع ومائة وغنم منها شيئاً كثيراً، ثم رجع من غزاته إلى القيروان فتوفي بها من سنته. فاستعمل هشام بعده عبيدة بن عبد الرحمن بن أبي الأغر السلمي. انتهت ترجمة بشر بن صفوان.
*** السنة الأولى من ولاية بشر بن صفوان على مصر وهي سنة إحدى ومائة- فيها استخلف يزيد بن عبد الملك بعد موت ابن عمه عمر بن عبد العزيز فى شهر

(1/245)


رجب. وفيها ولى الخليفة يزيد بن عبد الملك عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس الفهري على المدينة، وعزل عنها أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، فحج عبد الرحمن بالناس، وكان عامل مكة في هذه السنة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وكان على الكوفة عبد الحميد، وعلى قضائها الشعبي، وكانت البصرة قد غلب عليها [ابن] المهلب، وكان على خراسان عبد الرحمن بن نعيم. وفيها لحق يزيد بن المهلب بن أبي صفرة بالبصرة وغلب عليها وحبس عاملها عدي بن أرطاة الفزاري وخلع يزيد بن عبد الملك من الخلافة وخرج عن طاعته- وكان يزيد هذا من حبسه عمر بن عبد العزيز في أيام خلافته كما تقدم ذكره- فجهز الخليفة يزيد بن عبد الملك لحرب يزيد بن المهلب الجيوش، ووقع لجيش يزيد بن عبد الملك مع يزيد بن المهلب وقائع آلت إلى أن قتل يزيد بن المهلب المذكور. وفيها توفي أبو صالح السمان وهو المعروف بالزيات، واسمه ذكوان، مولى غطفان، من الطبقة الثانية من الموالي بالمدينة، أسند عن جماعة من الصحابة وروى عنه خلق كثير. وفيها توفي أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم القرشي الأموي أبو حفص، ولي الخلافة بعد موت ابن عمه سليمان بن عبد الملك بعهده إليه بحيلة وضعها سليمان بن عبد الملك حتى بايعه يزيد وهشام ابنا عبد الملك وتم أمره. ومولده بالمدينة سنة ستين عام توفي الخليفة معاوية بن أبي سفيان أو بعدها بسنة، وأمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، فسار عمر بن عبد العزيز في الخلافة سيرة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم من التقلل والتقشف والعدل في الرعية والإنصاف، إلى أن توفي يوم الجمعة لخمس بقين من شهر رجب بدير سمعان وصلى عليه ابن عمه يزيد بن عبد الملك بن مروان الذي تخلف بعده؛ ومات عمر بن عبد العزيز وله تسع وثلاثون سنة وستة أشهر.

(1/246)


قال الحافظ أبو عبد الله الذهبي: عن يوسف بن ماهك قال: بينما نحن نسوي التراب على قبر عمر بن عبد العزيز إذ سقط علينا كتاب رق من السماء فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم
أمان من الله لعمر بن عبد العزيز من النار.
قلت: وفي هذه كفاية عن ذكر شيء من مناقبه رحمه الله. وفيها توفي عمر ابن عبد الله بن أبى ربيعة المخزومىّ الشاعر المشهور، وكنيته أبو الخطاب؛ ولد في الليلة التي مات فيها الخليفة عمر بن الخطاب. وكان الحسن البصري يقول: أي حق رفع، وأي باطل وضع. وكانت العرب تقر لقريش بالتقدم عليها في كل شيء إلا في الشعر حتى أتى عمر هذا فأقرت لها بالشعر. قال ابن خلكان: لم يكن في قريش أشعر منه، وهو كثير الغزل والنوادر والوقائع والمجون والخلاعة، وله في ذلك حكايات مشهورة.
قلت: وتشبيبه بالنساء وحكايته مع فاطمة «1» بنت عبد الملك بن مروان مشهورة.
ومن شعره:
حي طيفاً من الأحبة زارا ... بعد ما صرع الكرى السمارا
طارقاً في المنام تحت دجى اللّي ... ل ضنيناً بأن يزور نهارا
قلت ما بالنا جفينا وكنا ... قبل ذاك الأسماع والأبصارا
قال إنا كما عهدت ولكن ... «شغل الحلي أهله أن يعارا «2» »

(1/247)


وفيها توفي ذو الرمة الشاعر المشهور، وكنيته أبو الحارث، واسمه غيلان بن عقبة، وهو من الطبقة الثانية من شعراء الإسلام.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وخمسة عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعاً واثنان وعشرون إصبعاً.
*** السنة الثانية من ولاية بشر بن صفوان على مصر وهي سنة اثنتين ومائة- فيها وقعة كانت بين يزيد بن المهلب بن أبي صفرة وبين مسلمة بن عبد الملك بن مروان قتل فيها يزيد بن المهلب المذكور وكسر جيشه وانهزم آل المهلب، ثم ظفر بهم مسلمة فقتل فيهم وبدع وقل من نجا منهم. وفيها غزا عمر بن هبيرة الروم من ناحية إرمينية وهو على الجزيرة قبل أن بلى العراق، فهزمهم وأسر منهم خلقاً كثيراً نحو سبعمائة أسير. وفيها غزا العباس بن الوليد بن عبد الملك بن مروان الروم فافتتح دلسة. وفيها حج بالناس أمير المدينة عبد الرحمن بن الضحاك. وفيها توفي محمد بن مروان بن الحكم والد مروان الحمار آخر خلفاء بني أمية الآتي ذكره. وفيها توفي الضحاك بن مزاحم الهلالىّ، [و] هو من رهط زينب زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنيته أبو القاسم، وهو من الطبقة الثالثة من تابعى أهل الكوفة. وفيها توفّى يزيد ابن [أبي «1» ] مسلم كاتب الحجاج، وكنيته أبو العلاء «2» ، وكان على نمط الحجاج في الجبروت وسفك الدماء، ولما مات الحجاج أقره الوليد بن عبد الملك على العراق أربعة أشهر؛ فلما مات الوليد وولي أخوه سليمان الخلافة عزله بيزيد بن المهلب بن أبي صفرة المقدم ذكره؛ وأمره سليمان بمسكه وإرساله إليه، فأرسله إليه فحبسه إلى أن أخرجه

(1/248)


يزيد بن عبد الملك وولاه إفريقية فقتل هناك في هذه السنة. وقد حكينا ترجمته وقتلته في أول ترجمة بشر بن صفوان. وفيها توفي عدي بن زيد بن الخمار «1» العبادي التميمي الشاعر المشهور، وهو جاهلي نصراني من فحول الشعراء، ذكره محمد بن سلام في الطبقة الرابعة من شعراء الجاهلية، وقال: وهم أربعة فحول: طرفة بن العبد وعبيد بن الأبرص وعلقمة بن عبدة وعدي بن زيد بن الخمار. قال أبو الفرج صاحب الأغاني: الخمار بخاء معجمة مضمومة. وفي وفاته أقوال: قيل إنه مات قبل الإسلام، وقيل في زمن الخلفاء الراشدين، وقيل غير ذلك. ومن شعره:
أين أهل الديار من قوم نوحٍ ... ثم عاد من بعدهم وثمود
أين آباؤنا وأين بنوهم ... أين آباؤهم وأين الجدود
سلكوا منهج المنايا فبادوا ... وأرانا قد كان منا ورود
بينما هم على الأسرّة والأن ... ؟؟؟ اط أفضت إلى التراب الخدود
ثم لم ينقض الحديث ولكن ... بعد ذاك الوعيد والموعود
ومنها:
وصحيح أضحى يعود مريضاً ... هو أدنى للموت ممن يعود
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاثة أذرع واثنان وعشرون إصبعأ، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعاً وتسعة عشر إصبعا.

(1/249)