النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة

ذكر ولاية الحر بن يوسف على مصر
هو الحر بن يوسف بن يحيى بن الحكم بن أبى العاص بن أمية بن عبد شمس القرشي الأموي أمير مصر (والحر بضم الحاء المهملة وتشديد الراء المهملة) . وليها بعد عزل محمد بن عبد الملك من قبل هشام بن عبد الملك على الصلاة؛ وكان المتولي على خراج مصر في هذه السنين كلها عبيد الله «2» بن الحبحاب، فدخل الحر بن يوسف هذا إلى مصر لثلاث خلون من ذي الحجة سنة خمس ومائة وباشر أمورها، وأقرّ

(1/258)


حفص بن الوليد على شرطة مصر على عادته. وفى أيامه تناقض القبط بمصر في سنة سبع ومائة ووقع له معهم أمور طويلة، ثم خرج من مصر مرابطاً إلى دمياط، فأقام بها ثلاثة أشهر مغازياً؛ ثم عاد إلى مصر وأقام بها أياماً، ثم خرج منها ووفد على الخليفة هشام بن عبد الملك بالشأم، واستخلف حفص بن الوليد على الصلاة بمصر. فأقام عند الخليفة مدة يسيرة وعاد إلى مصر في ذي القعدة من سنة سبع ومائة وقد انكشف أراضيها من النيل، فأخذ في إصلاح أحوالها وتدبير أمورها.
ودام بها إلى ذي القعدة من سنة ثمان ومائة، وصرف عنها في ذي القعدة باستعفائه لمغاضبة وقعت بينه وبين عبيد الله بن الحبحاب متولي خراج مصر. فكانت ولاية الحر هذا على مصر ثلاث سنين سواء. وتولى من بعده على مصر حفص بن الوليد الذي كان استخلفه الحر هذا على الصلاة لما وفد على الخليفة هشام.
ولما عزل الحر عن إمرة مصر ولاه هشام الموصل، وهو الذي بنى المنقوشة داراً ليسكنها، وإنما سميت المنقوشة لأنها كانت منقوشة بالساج والرخام والفصوص الملونة وما شاكلها. وهو الذي عمل النهر الذي كان بالموصل. وسبب ذلك أنه رأى امرأة تحمل جرة فيها ماء، وهي تحملها ساعة ثم تستريح قليلاً لبعد [الماء «1» ] ، فلما رأى الحر ذلك كتب إلى هشام بذلك فأمره أن يحفر نهراً إلى البلد، فحفره؛ فكان أكثر شرب أهل البلد منه؛ وعليه كان الشارع المعروف بشارع النهر «2» ، وبقي العمل فيه عدة سنين. ومات الحر هذا في سنة ثلاث عشرة ومائة، وكان أجل أمراء بني أمية شجاعة وكرماً وسؤدداً.

(1/259)


*** السنة الأولى من ولاية الحر بن يوسف الأموي على مصر، وهي سنة ست ومائة- فيها عزل الخليفة هشام متولي العراق عمر بن هبيرة الفزارىّ بخالد ابن عبد الله القسري، فدخل خالد بغتة وبها ابن هبيرة يتهيأ لصلاة الجمعة ويسرح لحيته، فقال عمر بن هبيرة: هكذا تقوم الساعة بغتةً. فقيده خالد القسري وألبسه مدرعة من صوف وحبسه؛ ثم إن غلمان ابن هبيرة اكتروا داراً إلى جانب السجن فنقبوا سرداباً إلى السجن وأخرجوه منه، فهرب إلى الشأم واستجار بالأمير مسلمة ابن عبد الملك بن مروان فأجاره، وكلم أخاه هشاماً في أمره فعفا عنه، فلم تطل أيام عمر بن هبيرة ومات بعد مدة يسيرة. وفيها غزا مسلمة بن سعيد بن أسلم فرغانة فلقيه ابن خاقان ملك الترك في جمع كبير، فكانت بينهم وقعة قتل فيها ابن خاقان في طائفة كبيرة من الترك. وفيها حج بالناس الخليفة هشام بن عبد الملك. وفيها استعمل خالد القسري أخاه أسد بن عبد الله على إقليم خراسان نيابةً عنه. وفيها توفي طاوس بن كيسان أبو عبد الرحمن اليماني الجندي أحد الأعلام، كان من أبناء الفرس الذين سيرهم كسرى إلى اليمن، وهو من فقهاء التابعين. قال سفيان الثّورىّ عن رجل قال: كان من دعاء طاوس: اللهم اخرمنى المال والولد وارزقني الإيمان والعمل. وفيها توفي أبو مجلز لاحق بن حميد في قول الذهبي. وفيها «1» حج بالناس الخليفة هشام بن عبد الملك فلقيه إبراهيم بن محمد بن طلحة في الحجر فقال له:
أسألك بالله وبحرمة هذا البيت الذي خرجت معظماً له إلا رددت علي ظلامتي، قال هشام: أي ظلامة؟ قال: داري؛ قال: فأين كنت من أمير المؤمنين عبد الملك؟
قال: ظلمني، قال: فالوليد وسليمان؟ قال: ظلماني، قال: فعمر؟ قال: [رحمه الله «2» ] ردها علي، قال: فيزيد بن عبد الملك؛ قال: ظلمني وقبضها مني بعد قبضي لها فهى

(1/260)


في يدك؛ فقال هشام: لو كان فيك ضرب لضربتك! فقال: في والله ضرب بالسيف والسوط، فانصرف هشام [والأبرش «1» خلفه فقال: أبا مجاشع] ، كيف سمعت هذا اللسان؟ قال: ما أجوده! قال: هي قريش وألسنتها. ولا يزال في الناس بقايا! ما رأيت مثل هذا!.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع وعشرة أصابع، مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعاً وأربعة أصابع.
*** السنة الثانية من ولاية الحر بن يوسف على مصر وهي سنة سبع ومائة- فيها عزل الجراح الحكمي عن إمرة أذربيجان بالأمير مسلمة بن عبد الملك بن مروان، فغزا مسلمة قيسارية الروم وافتتحها بالسيف. وفيها غزا أسد بن عبد الله القسري متولي خراسان بلاد سجستان، فانكسر المسلمون واستشهد طائفة ورجع الجيش مجهودين «2» . وفيها كان بالشأم طاعون شديد فخاف الناس كثيراً. وفيها غزا أسد بن عبد الله القسري جبال الطالقان والغور، وكان أهلها خرجوا بأموالهم وأهلهم إلى كهف عظيم في جبل [شاهق «3» ] شامخ ليس فيه طريق مسلوك، فعمل أسد توابيت وربطها بالسلاسل ودلاها عليهم، فظفر بهم وعاد سالماً غانماً، فنزل بلخ وبنى مدينتها وولاها برمك أبا خالد البرمكي ونقل إليها الجند والأمراء. وفيها غزا مسلمة بن عبد الملك الروم مما يلي الجزيرة ففتح قيسارية وهي مدينة مشهورة. وفيها غزا معاوية بن هشام الخليفة ومعه أهل الشأم وصحبته ميمون بن مهران فقطعوا البحر إلى قبرس. وفيها حج بالناس إبراهيم بن هشام وهو على المدينة ومكة والطائف. وفيها توفّى موسى بن محمد

(1/261)


ابن علي بن عبد الله بن عباس ببلاد الروم غازياً، وكان عمره سبعاً وعشرين سنة، قاله ابن الأثير؛ والأصح أنه مات في القابلة.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع سواء، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً وإصبعان.
*** السنة الثالثة من ولاية الحر بن يوسف على مصر وهي سنة ثمان ومائة- في ذي الحجة منها حكم بمصر حفص بن الوليد. وفيها غزا ولد الحليفة معاوية بن هشام أرض الروم وجهز بين يديه الأبطال «1» الى حنجر «2» فافتتحها. وفيها غزا أخو الخليفة مسلمة بن عبد الملك بلاد الروم فافتتح قيسارية «3» . وفيها وقع حريق عظيم بدابق، احترقت المواشي والدواب والرجال. وفيها حج بالناس إبراهيم بن هشام المخزومي.
وفيها توفي موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس أبو عيسى الهاشمي وهو أخو السفاح والمنصور لأبيهما وأخو إبراهيم لأمه وأبيه، مات في حياة أبيه محمد غازياً في بلاد الروم وله ثمان عشرة سنة. وفيها توفي نصيب بن رباح أبو محجن الشاعر المشهور مولى عبد العزيز بن مروان، وأمه نوبية فجاءت به أسود فباعه عمه وكان من العرب من بنى الحاف بن قضاعة، وقيل: إنه هرب فدخل على عبد العزيز ومدحه، فقال: ما حاجتك؟ فقال: أنا عبد «4» ، فقال عبد العزيز للمقومين: قوموه، فقالوا: عبد أسود ليس له قيمة، قيمته مائة دينار، قال أبو محجن عن نفسه:
إنه راعي إبل يحسن القيام عليها، قالوا: مائتا دينار، قال: إنه يبري النّبل ويريشها، قالوا: ثلثمائة دينار، قال: إنه يرمي ويصيب، قالوا: أربعمائة دينار،

(1/262)


قال: إنه راوية الأشعار، قالوا: خمسمائة دينار، قال: أصلح الله الأمير، أين جائزتي؟ فأعطاه ألف دينار، فاشترى أمه وأهله وأعتقهم. وذكره محمد بن سلام في الطبقة الثانية من شعراء الإسلام. وفيها توفي عطاء بن يسار أبو محمد المدني الفقيه، مولى «1» ميمونة أم المؤمنين؛ وعطاء أخو سليمان وعبد الله وعبد الملك، وكان قاصاً «2» واعظاً ثقةً جليل القدر، وقال الذهبي: إنه مات في الماضية. وفيها حج بالناس إبراهيم بن هشام المقدم ذكره. وفيها توفي عكرمة البربري ثم المدني أبو عبد الله مولى ابن عباس أحد العلماء الربانيين، روى عن ابن عباس وعائشة وعلي بن أبي طالب وغيرهم؛ قال الهيثم بن عدي وغيره: مات سنة ست ومائة.
وقال أبو نعيم وأبو بكر بن أبي شيبة وجماعة: سنة سبع ومائة؛ وقال يحيى بن معين والمدائني: سنة خمس عشرة ومائة، وقال غيرهم: في هذه السنة.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع سواء، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعاً وأربعة أصابع.
ذكر ولاية حفص بن الوليد الأولى على مصر
هو حفص بن الوليد بن سيف «3» بن عبد الله بن الحارث بن جبل بن كليب ابن عوف بن معاهر «4» بن عمرو بن زيد بن مالك بن زيد بن الحارث بن عمرو بن حجر ابن قيس بن كعب بن سهل بن زيد بن حضرموت، الأمير أبو بكر الحضرمي القاري أمير مصر، وليها بعد عزل الحر بن يوسف من قبل هشام بن عبد الملك على الصلاة مكرهاً على ذلك. وكان حفص وجيهاً عند بني أمية ومن أكابر أمرائهم، وكان

(1/263)


فاضلاً ثقة، روى عن الزهري وغيره، وروى عنه الليث بن سعد وجماعة أخر، ولم تطل مدته على ولاية مصر في هذه المرة وعزل بعد جمعتين يوم عيد الأضحى وقيل آخر ذي الحجة سنة ثمان ومائة.
قلت: وعلى القولين لم تطل ولايته بل ولا وصلت إلى أربعين يوماً، وكان سبب عزله عن إمرة مصر بسرعة شكوى عبيد الله بن الحبحاب صاحب خراج مصر عليه للخليفة هشام بن عبد الملك، وشكوى جماعة أخر من أوباش المصريين، فعزله هشام عن مصر بعبد الملك بن رفاعة، ثم ندم أهل مصر على عزله وطلبوا منه إعادته عليهم، يأتي ذكر ذلك كله في ولايته الثانية على مصر فإنه وليها بعد ذلك ثانياً وثالثاً حتى قتله الحوثرة في سنة ثمان وعشرين ومائة. وكان حفص شريفاً مطاعاً محبباً للناس ولديه معرفة وفضيلة، واستقدمه هشام بعد عزله عن مصر وأراد أن يوليه خراسان عوضاً عن أسد بن عبد الله القسري، فامتنع حفص من ذلك. وكان سبب عزل أسد عن خراسان أنه خطبهم يوماً فقال: قبح الله هذه الوجوه وجوه أهل الشقاق والنفاق والشغب والفساد، اللهم فرق بيني وبينهم وأخرجني إلى مهاجري ووطني؛ فبلغ قوله هشاماً، فكتب إلى خالد بن عبد الله القسري: اعزل أخاك، فعزله. وأراد هشام أن يولي حفصاً فامتنع، فولى خراسان الحكم بن عوانة الكلبي، ثم عزله هشام واستعمل عليها أشرس بن عبد الله وأمره أن يكاتب خالدا، وكان الأشرس فاضلا خيرا، كان يسمونه الكامل لفضله، فلما قدم خراسان فرحوا.
وقد خرجنا عن المقصود استطرادا.