النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة

 [ما وقع من الحوادث سنة 869]
واستهلت سنة تسع وستين وثمانمائة ففى يوم السبت العشرين من المحرم أنعم السلطان على الأمير قانصوه المحمدى الساقى الأشرفى أحد أمراء العشرات بإمرة مائة وتقدمة ألف بدمشق، وأنعم ببعض إقطاع قانصوه هذا على الأمير قانصوه اليحياوى الظاهرى.
وفي يوم الثلاثاء ثالث عشرينه وصل الشرفى يحيى بن يشبك الفقيه الدّوادار، وهو أمير الركب الأول إلى القاهرة، وأصبح من الغد وصل الشهابى أحمد بن العينى أمير حاج المحمل بالمحمل، وصحبته جدته خوند زوجة السلطان.
وفي يوم الاثنين تاسع عشرينه استقرّ شرامرد العثمانى حاجب حجاب دمشق.
وفي يوم الاثنين سابع عشرين صفر استقرّ الأمير منصور أستادارا عوضا عن الأمير زين الدين.
وفي يوم الاثنين رابع عشرين شهر ربيع الآخر استقر ألماس الأشرفى دوادار السلطان بحلب في نيابة ألبيرة، بعد موت قانى باى طاز البكتمرى، واستقرّ على بن الشيبانى عوضه في دوادارية حلب.
وفي ثامن جمادى الأولى ورد الخبر بتسليم كركر إلى أعوان حسن بك ابن قرايلك.
وفي يوم الاثنين ثالث عشر شهر رجب أدير المحمل على العادة، وقاست الناس من الأجلاب شدائد.
ثم في يوم الخميس سلخ رجب قدم الخبر بموت الأمير جانبك الناصرى نائب طرابلس.
وفي يوم الخميس سابع شعبان استقر سودون الأفرم الخازندار مسفّر الناصرى محمد ابن المبارك من نيابة حماة إلى نيابة طرابلس، واستقرّ الأمير كسباى الشّشمانى

(16/288)


المؤيّدى مسفّر يشبك البجاسى أحد أمراء حلب باستقراره في نيابة حماة، وكلاهما صولح ولم يسافر.
وفي يوم السبت ثالث عشرينه نفى السلطان يشبك الساقى أحد مماليكه الأجلاب إلى الشام.
ثم في يوم الثلاثاء ثامن عشر رمضان رسم السلطان بنفى الأمير الكبير جرباش المحمدى الناصرى المعروف بكرد إلى ثغر دمياط بطّالا، فخرج من الغد.
وفي يوم الخميس العشرين من رمضان استقرّ الأمير قانم من صفر خجا المؤيّدى المعروف بالتاجر أمير مجلس أتابك العساكر عوضا عن جرباش المذكور.
ثم في يوم الاثنين رابع عشرينه استقر الأمير تمربغا رأس نوبة النّوب أمير مجلس بعد الأتابك قانم، واستقرّ الأمير أزبك حاجب الحجاب عوضه رأس نوبة النّوب، واستقرّ الأمير جانبك قلقسيز الأشرفى حاجب الحجاب عوضا عن أزبك، وأنعم السلطان بإقطاع الأتابك قانم على الشهابى أحمد بن العينى.
قلت: هنا نكتة طريفة، وهى أن يوم رابع عشرين من الأيام السبعة المكروهة «1» عند الناس، وهؤلاء الأربعة الذين تولوا فيه لم يلقوا إلا كل خير، فإن الأمير تمربغا لا يزال أمره ينمو ويزداد في هذه الوظيفة إلى أن صار سلطانا، وأزبك إلى أن صار أتابك العساكر، وجانبك قلقسيز إلى أن صار أيضا أتابك العساكر، وابن العينى إلى إمرة مجلس، والعجب أنهم من يوم تاريخه صاروا في خير وسلامة إلى أن كان من أمرهم ما كان، فأى شؤم حصل بولايتهم في هذا اليوم؟! والحق هو ما أقوله: إن كل شىء لم يأت به كتاب الله ولا سنة رسول الله فهو مردود على قائله، والسلام.
ودام جرباش كرد هذا بدمياط نحو سبع سنين.
ثم في يوم الثلاثاء ثالث عشر ذى الحجة أو في النيل «2» ، ونزل السلطان خلّق المقياس، وفتح السّدّ كما السنة الخالية.

(16/289)


[ما وقع من الحوادث سنة 870]
واستهلت سنة سبعين وثمانمائة ففى أولها رسم السلطان الظاهر خشقدم بتحويل السنة الخراجية على العادة «1» .
وفي يوم السبت أول المحرم وصل نجّاب، وهو مبشر الحاج، وأخبر بالأمن والسلامة.
وفي يوم الأربعاء ثانى عشره وصلت الأمراء الخمسة بمن معهم من أمراء الطبلخانات والعشرات والمماليك السلطانية من البحيرة.
وفيه استقرّ القاضى علاء الدين بن الصابونى قاضى قضاة دمشق الشافعية، بعد عزل القاضى جمال الدين الباعونى، وأضيف إليه نظر جيش دمشق، عوضا عن البدرى حسن ابن المزلق، وباشر علاء الدين المذكور قضاء دمشق سنين كثيرة، وهو مقيم بديار مصر، ونوّابه تحكم بدمشق، وهذا شىء لم يقع لغيره في دولة من الدول.
وفي يوم السبت ثانى عشرينه وصل الأمير خشكلدى القوامى أمير الركب الأول، ووصل من الغد أمير حاج المحمل جانبك قلقسيز بالمحمل، وكان وصل قبلهما الأمير قانى بك المحمودى المؤيّدى أحد مقدّمى الألوف بالديار وكان حج في هذه السنة.
وفي هذه الأيام زاد فساد المماليك الأجلاب، وعظم شرهم وظلمهم.
فلما كان يوم السبت ثالث عشر صفر نودى بالقاهرة بأن أعيان التجار والسوقة تطلع من الغد إلى القلعة، وطلعوا وقد ظن كل أحد منهم أن السلطان ينظر في أمرهم مع المماليك الأجلاب، فعند طلوعهم ركب السلطان ونزل إلى جهة القرافة وغيرها، ثم طلع إلى القلعة، وجلس على الدكة، وحضر التجار المطلوبون وغيرهم، فلما تمثلوا بين يديه كلمهم السلطان بكلام معناه: أنهم لا يشترون شيئا من القماش بالجريدة، وأن يخبروا

(16/290)


المشترى بالحق، وأشياء من هذه المقولة، ولم يبد في أمر الأجلاب بشىء، فراحوا مثل ما جاءوا.
وفي يوم الخميس ثالث ربيع الأول استقر الأمير خيربك الخازندار الظاهرى أمير حاج المحمل، واستقر الأمير كسباى الشّشمانى المؤيّدى أمير الركب الأوّل.
وفي يوم الاثنين سابع شهر ربيع الأول استقر الأمير خشكلدى البيسقى محتسب القاهرة بعد عزل سودون البردبكى المؤيّدى الفقيه.
وفي هذه الأيام عزل يشبك آس قلق المؤيّدى عن نيابة صفد بجكم الأشرفى خال الملك العزيز يوسف نقلا من نيابة غزّة، وتوجه يشبك المذكور على إمرة مائة وتقدمة ألف بدمشق، واستقرّ في نيابة غزّة الأمير إينال الأشقر الظاهرى أتابك حلب، واستقر في أتابكية حلب بعده ألماس الأشرفى نائب ألبيرة، واستقر في نيابة ألبيرة شادبك الصغير الجلبّانى، وهو رجل من الأحداث قدّمه المال.
وفي يوم الجمعة حادى عشره ثارت المماليك الجلبان على السلطان، وأفحشوا في طلب تتريات «1» صوف المعدة للأسفار والصيد، ولهم حكاية طويلة ذكرناها في «الحوادث» ، وكان السلطان عزم على التوجّه إلى الصيد، فما وسعه إلا أنه أبطل الرّواح إلى الصيد.
وفي يوم الأحد ثالث عشره عمل السلطان المولد النبوى بالحوش على العادة.
وفي يوم الخميس سابع عشره استقر الأمير برسباى قرا الظاهرى مسفّر جكم نائب صفد، واستقرّ كسباى الظاهرى خشقدم أحد الدوادارية الصغار مسفّر نائب غزّة.
وفي يوم الاثنين ثامن عشرينه أمسك السلطان منصورا الأستادار وحبسه بقلعة الجبل، وأمسك عن سداد لا عن عجز، وأعيد الأمير زين الدين إلى الأستادارية،

(16/291)


ودام منصور في الحبس والعقوبة إلى أن آل أمره إلى ضرب الرقبة بالشّرع على ما زعموا.
وفي يوم السبت وصل سيف ملك أصلان بن سليمان بن ناصر الدين بك بن دلغادر نائب أبلستين، وذكروا أنه قتله فداوىّ، ولا يلزمنى ذكر اسم من أرسل إليه الفداوى.
وفي يوم الخميس تاسع عشرينه عزل السلطان الأمير جوهرا النّوروزىّ مقدّم المماليك السلطانيّة بنائبه الأمير مثقال الظاهرى الحبشى، واستقرّ عوضه في نيابة المقدم خادم أسود دكرورى من أصاغر الخدّام لا أعرفه قبل ذلك، يسمى خالصا.
وفي يوم السبت ثامن جمادى الآخرة عقد السلطان عقده على جاريته سوارباى الچاركسية أم ابنته، وجعلها خوند الكبرى صاحبة القاعة، وذلك بعد موت زوجته خوند شكرباى الأحمدية الناصرية فرج بن برقوق، وكان العاقد القاضى الحنفى محب الدين ابن الشّحنة.
وفي يوم الخميس ثالث عشره ولى القاضى صلاح الدين المكينى قضاء الشافعية بالديار المصرية بعد عزل قاضى القضاة شرف الدين يحيى المناوى.
وفيه أيضا استقرّ القاضى برهان الدين إبراهيم بن الدّيرى قاضى قضاة الحنفية أيضا بالديار المصرية بعد عزل قاضى القضاة محب الدين بن الشّحنة الحنفى.
وفيه استقر الأمير أرغون شاه الأشرفى أستادار الصحبة أمير حاج الرّكب الأوّل بعد موت الأمير كسباى المؤيّدى- رحمه الله تعالى.
وفي يوم الخميس ثالث عشره استقرّ قاسم صيرفى اللحم المعروف بجغيتة وزيرا بالدّيار المصريّة، وقلع لبس العوام والسّوقة، وتزيّا بزى الكتاب، وركب فرسا.
واستقرّ في نظر الدّولة شخص آخر من مقولة قاسم جغيتة، اسمه عبد القادر، لم أعرفهما قبل تاريخه، وكان لبسهما لهاتين الوظيفتين عارا كبيرا على ملوك مصر إلى يوم القيامة، ولى على من ولّاهما حجج لا يقوم أحد بجوابها، وليس لأحد في ولايتهما عذر مقبول، وآفة هذا كلّه عدم المعرفة وقلّة التدبير، وإلا ما ضيّق الله على ملك

(16/292)


مصر حتى يكون له وزير مثل هذا، ومثل أستاذه محمد البباوى المقدّم ذكره، وقد تكلمنا في ولاية البباوى للوزر كلاما طويلا فيه كفاية عن الإعادة هنا، وذلك فى تاريخنا «حوادث الدهور» ، وقد أنشدنى بعض رؤساء ديار مصر في يوم ولاية قاسم للوزر أبيات الطّغرائى من قصيدته لامية العجم- رحمه الله تعالى: [البسيط] .
ما كنت أوثر أن يمتدّ بى زمنى ... حتى أرى دولة الأوغاد والسّفل
هذا جزاء امرئ أقرانه درجوا ... من قبله، فتمنى فسحة الأجل
وفي هذه الأيّام عيّن السلطان تجريدة إلى البلاد الحلبية نجدة لشاه بضع بن دلغادر نائب أبلستين، ليعينوه على قتال أخيه شاه سوار بن دلغادر، وفي التجريدة سبعة «1» أمراء من أمراء الألوف، وهم: الأتابك قانم، وتمربغا أمير مجلس، ويلباى الأمير آخور الكبير، وقانى بك المحمودى المؤيّدى، وبردبك هجين أمير جاندار، وقايتباى المحمودى الظاهرى، وجماعة كبيرة أخر من أمراء الطبلخانات والعشرات يأتى ذكر «2» أسمائهم عند سفرهم إن تم ذلك، ثم بطلت التجريدة بعد أيام.
وفي يوم الثلاثاء أول شعبان استقرّ الكاتب شرف الدين بن كاتب غريب أستادارا عوضا عن الأمير زين الدين يحيى الأستادار.
وفي يوم الجمعة أول شوال خطب فيه خطبتان بالقاهرة وغيرها، وتشاءم الناس بذلك على الملك فلم يقع إلا خير.
وفي يوم السبت سادس عشر شوال استقرّ الأمير جانبك الإسماعيلى المعروف بكوهيّة الدوادار الثانى أمير مائة ومقدّم ألف، عوضا عن الأمير جانبك الناصرى المعروف بالمرتد، بحكم كبر سنه وعجزه عن الحركة، وخلع السلطان على مملوكه الأمير خيربك الخازندار باستقراره دوادارا ثانيا، عوضا عن جانبك كوهيّة، وخيربك هذا هو أمير حاج المحمل في هذه السنة، وسافر خيربك المذكور بالمحمل في يوم الاثنين ثامن عشره.

(16/293)


وفي يوم الأربعاء العشرين منه ضربت رقبة الأمير منصور الأستادار بسيف الشرع، وكانت هذه الفعلة من غلطات الملك الظاهر خشقدم؛ فإنه كان في بقائه له خاصة منفعة كبيرة من وجوه عديدة، ولعله ندم على قتله بعد ذلك.
ثم في يوم الاثنين خامس عشرينه استقر الأمير رستم بن ناصر الدين بك بن دلغادر فى نيابة الأبلستين، عوضا عن ابن أخيه شاه بضع، بحكم ضعف شاه بضع عن دفع أخيه سوار، وأظن أن رستم هذا أضعف من شاه بضع في دفع شاه سوار.
وفي يوم الخميس العشرين من ذى القعدة استقرّ الأمير قانى باى الحسنى المؤيدى أحد أمراء الطبلخانات في نيابة طرابلس دفعة واحدة، بعد عزل الناصرى محمد بن المبارك، وكانت ولاية قانى باى هذا لطرابلس أيضا من الأمور المنكرة الخارجة عن العادة، لأننا لا نعلم أن أحدا ولى نيابة طرابلس غير مقدّم ألف بالديار المصرية، بل غالب من يلى نيابة طرابلس ينتقل إليها من وظيفة عظيمة جليلة، إما أمير مجلس، أو أمير آخور كبير أو رأس نوبة النّوب، أو ينتقل إليها من نيابة حماة، بل إن الأتابك طرباى الظاهرى وليها بعد الأتابكية، ومع هذا كله ليته أهل لذلك، بل هو من كبار المهملين- انتهى.

(16/294)


[ما وقع من الحوادث سنة 871]
واستهلت سنة إحدى وسبعين وثمانمائة بيوم الأربعاء ويوافقه عشرون مسرى.
فيه أوفى النيل «1» ، وفتح الخليج، وخلّق المقياس الأتابك قانم بإذن السلطان.
وفي يوم الاثنين سادسه أعيد قاضى القضاة محب الدين بن الشّحنة إلى قضاء الحنفية بعد عزل قاضى القضاة برهان الدين إبراهيم بن الدّيرى.
وفي يوم السبت حادى عشره استقرّ القاضى أبو السعادات البلقينى قاضى قضاة الشافعية بالديار المصرية، بعد عزل صهره صلاح الدين المكينى.
وفي يوم الخميس سابع صفر استقرّ القاضى كمال الدين محمد ابن الصاحب جمال الدين يوسف بن كاتب جكم ناظر الجيوش المنصورة، عوضا عن القاضى تاج الدين عبد الله ابن المقسى، وأبقى على ابن المقسى وظيفة نظر الخاص.
وفيه استقرّ الأمير زين الدين يحيى أستادارا على عادته.
وفي يوم الاثنين ثامن عشر صفر استقر الأمير يلباى الإينالى المؤيّدى الأمير آخور الكبير أتابك العساكر بالديار المصرية، بعد موت الأتابك قانم المؤيدى الآتى ذكره فى الوفيات- إن شاء الله تعالى، وأنعم السلطان بإقطاع يلباى على الأمير بردبك هجين أمير جاندار، وأنعم بإقطاع بردبك هجين على الأمير نانق شاد الشراب خاناه.
وفي يوم الخميس حادى عشرين صفر استقر الشهابى أحمد بن العينى أمير آخور كبيرا بعد الأتابك يلباى.
وفيه استقر الأمير خشكلدى البيسقى أحد أمراء العشرات شاد الشراب خاناه بعد نانق المحمدى المقدّم ذكره، قلت: وعلى كل حال خشكلدى أليق لهذه الوظيفة من نانق.

(16/295)


وفي يوم الأحد رابع عشرينه ورد الخبر بموت الأمير برسباى البجاسى نائب الشام الآتى ذكره في الوفيات.
وفي يوم الخميس ثامن عشرينه رسم السلطان بانتقال الأمير بردبك الظاهرى نائب حلب من نيابة حلب إلى نيابة الشّام، عوضا عن برسباى البجاسى، واستقرّ نانق الظاهرى أحد المقدمين مسفّره.
واستقرّ في نيابة حلب عوضا عن بردبك يشبك البجاسى نائب حماة، واستقرّ مسفّره الشرفى يحيى بن يشبك الفقيه الدّوادار الكبير.
واستقرّ تنم الحسينى الأشرفى ثانى رأس نوبة في نيابة حماة، عوضا عن يشبك البجاسى، واستقرّ مسفّره تمر من محمود شاه الظاهرى والى القاهرة.
واستقر الأمير تنبك المعلّم الأشرفى عوضه رأس نوبة ثانيا.
واستقرّ الأمير مغلباى مملوك السلطان قديما في حسبة القاهرة، عوضا عن خشكلدى.
وفي يوم الأحد ثامن شهر ربيع الأول عمل السلطان المولد النبوى على العادة، وقاسى من حضر المولد من الأجلاب شدائد.
وفي يوم الاثنين سادس عشر «1» ربيع الأول استقر نانق المحمدى المقدّم ذكره أمير حاج المحمل، واستقر الأمير سيباى الظاهرى الأمير آخور الثالث أمير الركب الأوّل، واستقرّ الأمير دمرداش السّيفى تغرى بردى البكلمشى نائب قلعة حلب بعد عزل الشّيبانى.
وفي يوم السبت ثالث عشرينه ابتدأ السلطان بالحكم بين الناس بالإسطبل السلطانى فى يومى السبت والثلاثاء، على قاعدة ملوك السلف، ولم يقع له ذلك من يوم تسلطن، لأن سلاطين زماننا هذا صاروا يجلسون بالدّكة من الحوش السلطانى بقلعة الجبل، ويتعاطون الأحكام بين الناس، فلم يحتج الملك مع جلوسه بالحوش إلى النزول بالإسطبل

(16/296)


للحكم، وكانت قاعدة ملوك السلف ممن أدركنا وسمعنا الاحتجاب عن الناس بالكلية، ولم يقدر أحد من المماليك السلطانية أن يدخل الحوش- بحاجة أو غير حاجة- إلا بقماش الموكب، ولا يجتمع أحد بالسلطان بالدهيشة والحوش إلا الخصيصين به لا غير، ومن كان له مع السلطان حاجة يجتمع به في القصر السلطانى ليالى المواكب وأيام المواكب، فبهذا المقتضى كان يحتاج السلطان إلى النزول إلى الإسطبل السلطانى للحكم بين الناس، وإنصاف المظلوم من الظالم، ويكون ذلك في الغالب أيّام الشتاء، وتكون مدة الحكم فى يومى السبت والثلاثاء نحو شهرين، وقد فهمت الآن معنى قولنا: «ولم يحكم السلطان بين الناس من يوم تسلطن» ، أعنى بذلك نزوله إلى الإسطبل- انتهى.
ثم في يوم الاثنين خامس عشر شهر ربيع الآخر نزل السلطان إلى رماية البركة «1» لصيد الكراكى وغيرها على العادة، وهذا أيضا أول نزوله إلى الصيد من يوم تسلطن وعاد من يومه، وشقّ القاهرة، ثم تكرر من السلطان نزوله إلى الصيد في هذه السنة غير مرة.
وفي هذه الأيام كانت واقعة أصباى «2» البواب مع القتيلين اللذين قتلهما، وقد حكينا واقعته في «الحوادث» .
وفي يوم الأربعاء خامس عشر «3» جمادى الأولى ثارت المماليك الأجلاب بالقلعة في الأطباق، ومنعوا الناس من الطلوع إلى الخدمة السلطانية، وطلبوا زيادة جوامك وكسوة وعليق، ووقع أمور، ثم وقع الأمر على شىء حكيناه بعد وهن في المملكة.
وفي يوم الخميس سادس عشره استقرّ القاضى ولى الدين الأسيوطى أحد نواب الحكم قاضى قضاة الشافعية بالديار المصريّة، بعد شغور القضاء عن أبى السعادات البلقينى أياما كثيرة.

(16/297)


وفي يوم الثلاثاء سادس جمادى الآخرة استقر جانبك الظاهرى أحد الدوادارية الصغار في نيابة قلعة دمشق، بعد عزل الصارمى إبراهيم بن بيغوت.
وفي يوم الخميس تاسع عشرين جمادى الآخرة خرج الحاج الرجبى من القاهرة وأميره علّان الأشرفى، والعمدة في الركب المذكور على القاضى زين الدين بن مزهر كاتب السر الشريف «1» ، لعظمة سار فيها، وتجمل زائد إلى الغاية، وفعل في هذه السفرة أفعالا جميلة، حكيت عنه وشكرت.
وفي يوم الاثنين حادى عشر «2» رجب أدير المحمل، ولعبت الرّماحة على العادة.
واستهلّ شعبان، نذكر فيه نادرة، وهى أن أرباب التقويم كانوا اجتمعوا على أن آخر مدّة الملك الظاهر خشقدم في السلطنة تكون إلى ثامن عشر شهر رجب من هذه السنة، فمضى رجب ولم يحصل للسلطان تكدير ولا نكد مؤلم، ولا ضعف لزم منه الفراش، ولا نوع من الأنواع المشوشة، واستهل شعبان هذا وهو في أحسن حال، وأخزى الله هؤلاء الكذبة الفسقة المدعين علم الغيب «3» ، تعالى الله أن يظهر على غيبه إلا من أراد من أصفيائه وأوليائه.
ثم استهلّ شوال يوم الثلاثاء، ففيه أيضا نكتة نذكرها، وهي أنه كان في العام الماضى أول شوال يوم الجمعة، فتشاءم الناس بذلك على الملك من وقوع خطبتين في نهار واحد، ولم يقع إلا الخير والسلامة، فاعتمد على أن هذا الكلام من الهذيان، وما أعلم الذي قال ذلك، أوّلا ما دليله؟ مع أن الخطبة من أعظم السنن، ويحصل بها التذكير والخير، والأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، والخشوع ورقة القلب، فعلى هذا كلما

(16/298)


تكررت في اليوم تكرّر الخير والبركة والأجر، وما أظن قائل هذا- أولا- إلا رجلا منافقا يكره السّنة والاقتداء بها- انتهى.
وفي يوم الاثنين سابع شوال استقرّ الأمير شرف الدين موسى بن كاتب غريب أستادارا عوضا عن الأمير زين الدين يحيى.
وفي يوم السبت تاسع عشره خرج أمير حاج المحمل بالمحمل، وهو نانق الظاهرى وسيباى أمير الركب الأول.

(16/299)


[ما وقع من الحوادث سنة 872]
واستهلت سنة اثنتين وسبعين وثمانمائة بيوم الأحد ويوافقه تاسع مسرى.
ففى يوم السبت سابعه- الموافق لخامس عشر مسرى- أو في النيل «1» ، ونزل السلطان الملك الظاهر خشقدم، وعدّى النيل، وخلّق المقياس، وعاد وفتح خليج السّدّ على العادة.
وفي يوم الخميس ثانى عشره ورد الخبر من نائب حلب يشبك البجاسى أن شاه سوار نائب أبلستين خرج عن طاعة السلطان، ويريد المشى على البلاد الحلبية، فرسم السلطان في الحال بخروج نائب طرابلس ونائب حماة إلى جهة البلاد الحلبية لمعاونة نائب حلب إن حصل أمر، ثم عيّن السلطان تجريدة من مصر إلى جهات البلاد الحلبية إن ألجأت الضرورة إلى سفرهم، والذين عينهم في هذه التجريدة من أمراء الألوف: الأتابك يلباى، وأمير سلاح قرقماس، وأمير مجلس تمربغا، وقانى بك المحمودى، ومغلباى طاز المؤيّدى، وذكر أنه تعيّن عدة كبيرة من أمراء الطبلخانات والعشرات، وألف مملوك من المماليك السلطانية، هذا والسلطان قد بدأ فيه التوعّك من يوم عاشوراء، وهذا المرض الذي مات فيه، ثم لهج السلطان بعزل يشبك البجاسى نائب حلب وتولية الأمير مغلباى طاز المؤيّدى المقدّم ذكره عوضه في نيابة حلب «2» .
ثم في يوم الخميس تاسع عشره ورد الخبر بأن إقامة الحاج التي جهّزت من القاهرة أخذت عن آخرها، أخذها مبارك شيخ بنى عقبة بمن كان معه من العرب، وأنه قتل جماعة ممن كان مع الإقامة المذكورة، منهم جارقطلو السّيفى دولات باى أحد أمراء آخورية السلطان، فعظم ذلك على السلطان- وزاد توعّكه- وعلى الناس قاطبة، وضر أخذ إقامة الحاج غاية الضرر، وأشرف غالبهم على الموت.

(16/300)


فلما كان يوم الجمعة العشرين من المحرم وصل الحاج الرجبى، وعظيم من كان فيه زين الدين بن مزهر كاتب السّرّ المقدم ذكره، وأمير حاج الركب الأول الأمير سيباى إلى بركة الحاج معا، بعد أن قاست الحجاج أهوالا وشدائد من عدم الميرة والعلوفة وقلّة الظهر، ودخل نانق أمير الحاج من الغد.
فلما كان يوم الاثنين ثالث عشرين المحرم عيّن السلطان الأمير أزبك رأس نوبة النّوب الظاهرى، والأمير جانبك حاجب الحجّاب الأشرفى المعروف بقلقسيز، وصحبتهما أربعة من أمراء العشرات، وهم دولات باى الأبوبكرى المؤيّدى، وقطلباى الأشرفى، وتنبك الأشرفى، وتغرى بردى الطيّارى، وعدّة مماليك من المماليك السلطانية، لقتال مبارك شيخ عرب بنى عقبة ومن معه من الأعراب، وكتب السلطان أيضا لنائب الكرك الأمير بلاط، ونائب غزّة الأمير إينال الأشقر، بالمسير إلى جهة الأمير أزبك بعقبة أيلة، ومساعدته على قتال مبارك المذكور، وخرج الأمير أزبك بمن عيّن معه من القاهرة في يوم الاثنين سابع صفر.
كل ذلك والسلطان متوعك بالإسهال، وهو لا ينقطع عن الخروج إلى الحوش، بل يتجلّد غاية التجلّد، حتى إنه عمل الموكب في هذا اليوم بالقصر لأجل خروج الأمير أزبك، وهذا آخر موكب عمله الملك الظاهر خشقدم بالقصر السلطانى.
فلما كان يوم الخميس عاشر صفر أرجف بموته، وأشيع ذلك إشاعة خفيفة في ألسنة العوام.
فلما كان يوم الجمعة حادى عشره خرج السلطان الملك الظاهر خشقدم إلى صلاة الجمعة من باب الحريم ماشيا على قدميه من غير مساعدة، وعليه قماش الموكب الفوقانى، والسيف والكلفتاة على العادة، وصلى الجمعة وسنّتها قائما على قدميه، هذا وقد أخذ منه المرض الحدّ المؤلم، وهو يستعمل التجلّد وإظهار القوة، إلى أن فرغت الصلاة، وعاد إلى الحريم ماشيا أيضا، ولكن القاضى الشافعى أسرع في الخطبة والصلاة إلى الغاية حسبما كان أشار إليه السلطان بذلك، بحيث إن الخطبة والصلاة كانتا على نحو ثلاث درج رمل وبعض دقائق.

(16/301)


فلما عاد السلطان من الصلاة إلى الحريم سقط مغشيا عليه لشدة ما ناله من التعب وعظم التجلد، وهذه أيضا آخر جمعة صلاها، ولم يخرج بعدها من باب الحريم لا لصلاة ولا إلى غيرها، وصارت الخدمة بعد ذلك في الحريم بقاعة البيسرية «1»
ثم أصبح السلطان في يوم السبت ثانى عشره رسم بالمناداة بشوارع القاهرة بأن أحدا لا يخرج بعد صلاة المغرب من بيته ولا يفتح سوقىّ دكانه، وهدّد من خالف ذلك، فلم يلتفت أحد إلى هذه المناداة، وعلم أن المقصود من هذه المناداة عدم خروج المماليك فى الليل، وتوجه بعضهم لبعض لإثارة فتنة.
وفي هذه الأيام ورد الخبر من دمشق بأن الأمير بردبك نائب الشام خرج من دمشق بعساكرها في آخر المحرم إلى جهة حلب لمعاونة نائب حلب على قتال شاه سوار.
ثم في يوم الاثنين رابع عشر صفر عمل السلطان الخدمة بقاعة البيسريّة من الحريم السلطانى، لضعفه عن الخروج إلى قاعة الدهيشة، وحضرت الأمراء المقدمون وغيرهم الخدمة السلطانية بالبيسرية، ولكن بغير قماش، وعلّم السلطان على عدة مناشير ومراسيم دون العشرين علامة، ولكن ظهر عليه المرض، لكنه يتجلد ويقوم لمن دخل إليه من القضاة والعلماء.
فلما كان يوم الجمعة ثامن عشره لم يشهد «2» فيه صلاة الجمعة وصلّت الأمراء بجامع القلعة على العادة، وبعد أن فرغت الصلاة دخلوا عليه وسلّموا عليه، واستوحشوا منه، وجلسوا عنده إلى أن أسقاهم مشروب السّكر، وانصرفوا.
ثم في آخر يوم الاثنين حادى عشرينه وجد السلطان في نفسه نشاطا، فقام وتمشّى

(16/302)


خطوات فتباشر الناس بعافيته، كل هذا وهو مستمرّ في أول النهار وفي آخره يعلّم على المناشير والمراسيم، لكن بحسب الحال، تارة كثيرا، وتارة قليلا.
فلما كان يوم الجمعة خامس عشرينه لم يحضر السلطان فيه الصلاة أيضا لثقله في المرض، ودخلوا إليه الأمراء بعض صلاة الجمعة، وجلسوا عنده، وفعل معهم كفعله فى الجمعة الماضية.
واستهل شهر ربيع الأوّل يوم الخميس والسلطان ملازم للفراش، والناس في أمر مريج من توقف الأحوال، لا سيما أرباب الحوائج الواردون من الأقطار، هذا وجميع نوّاب البلاد الشاميّة قد خرجوا من أعمالهم إلى البلاد الحلبية، لقتال شاه سوار ابن دلغادر، ما خلاجكم نائب صفد، ونائب غزّة قد خرج أيضا إلى جهة العقبة لقتال مبارك شيخ عرب بنى عقبة، فبهذا المقتضى خلا الجو للمفسدين وقطّاع الطريق وغيرهم بالدرب الشامى والمصرى، ومع هذا فالفتن لم تزل قائمة بأسفل مصر الشرقية والغربية، وأيضا بأعلى مصر، الصعيد الأدنى والأعلى، وتزايد ذلك بطول مرض السلطان.
وبينما الناس في ذلك ورد الخبر من يشبك من مهدى الظاهرى الكاشف بالصعيد أن يونس بن عمر الهوّارى خرج عن طاعة السلطان، وقاتل يشبك المذكور، وقتل من عسكره عدّة كبيرة وانكسر يشبك منه بعد أن جرح في بدنه، ثم أنهى يشبك أنه يريد ولاية سليمان بن الهوّارى عوضا عن ابن عمه يونس، وأنه يريد نجدة كبيرة من الديار المصرية، فرسم السلطان في الحال بولاية سليمان بن عمر، وتوجّه إليه بالخلعة قجماس الظاهرى، ورسم السلطان بتعيين تجريدة إلى بلاد الصعيد.
فلما كان يوم السبت ثالثه عيّن السلطان التجريدة المذكورة إلى بلاد الصعيد، وعليها الأمير قرقماس الجلب الأشرفى أمير سلاح، ويشبك من سلمان شاه الفقيه الدّوادار الكبير، ومن أمراء العشرات خمسة نفر: قلمطاى الإسحاقى، وأرغون شاه أستادار الصحبة، ويشبك الإسحاقى، وأيدكى، ويشبك الأشقر، والخمسة أشرفية،

(16/303)


وجماعة كبيرة من المماليك السلطانية أشرفية كبار وأشرفية صغار، ونزل الأمير نقيب الجيش إلى المعينين، وأمرهم على لسان السلطان بالسفر من يومهم إلى الصعيد، فاعتذروا بعدم فراغ حوائجهم؛ لكون الوقت يوما واحدا.
فلما كان آخر هذا النهار أرجف بموت السلطان فماجت الناس، وكثر الهرج بشوارع القاهرة، ولبس بعض المماليك آلة الحرب، فاستمرت الحركة موجودة في الناس إلى قريب الصباح.
وأصبح في يوم الأحد رابع ربيع الأوّل والسلطان في قيد الحياة، غير أنه انحطّ فى المرض انحطاطا يشعر العارف بموته، ونودى في الحال بالأمان والبيع والشراء، ودقّت البشائر بعافية السلطان في باكر النهار وفي آخره أياما كثيرة، وصار السلطان أمره إلى التلف وهم على ذلك.
فلما كان عصر نهار الأحد المذكور نزل الأمير تنبك المعلم الأشرفى الرأس نوبة الثانى إلى الأمير قرقماس أمير سلاح على لسان السلطان وأمره بالخروج إلى السّفر من وقته بعد أن ذكر له كلاما حسنا من السلطان، فخرج قرقماس من وقته، وكذلك يشبك الفقيه الدّوادار، وتبعهما من بقى ممن عيّن إلى السفر، ونزلوا إلى المراكب، ووقفوا بساحل النيل ينتظرون من عيّن معهم من المماليك السلطانية فلم يأتهم أحد، كل ذلك والسلطان صحيح الذهن والعقل، يفهم الكلام ويحسن الرد، وينفذ غالب الأمور، ويولى ويعزل، والناس لا تصدّق ذلك، وأنا أشاهده بالعين، هذا والسلطان يستحثّ من ندب إلى الصعيد بالسّفر في كل يوم.
وأصبح السلطان في يوم الاثنين على حاله، وحضر عنده بعض أمراء، وعلّم على دون عشرة مناشير ومراسيم، وهو في غاية من شدة المرض، فلما نجزت العلامة استلقى على قفاه، فرأيت وجهه كوجه الأموات، وانفضّ الناس وخرجوا، فلما كان بعد الظهر طلع إلى السلطان بعض أمراء الألوف والأعيان، وسلّم عليه، فشكا إليه السلطان ما أشيع عنه من الموت، ثم قال: أنا ما أموت حتى أموّت خلائق، وأنا أعرف من

(16/304)


أشاع هذا عنى، يعنى بذلك الأشرفية الكبار والأشرفية الصغار، قلت: قد عرّفت الأشرفية الكبار والأشرفية الصغار وأمرهما وما وقع في مرض السلطان من أوّله إلى آخره فى تاريخنا «الحوادث» ، وليس ما نذكر هنا إلا علم خبر لا غير- انتهى.
ثم طلع القاضى كاتب السّرّ بعد ظهر يوم الأحد المذكور وأحضر آلة العلامة، فلم يطق السلطان أن يعلّم شيئا، وقيل: إنه علّم على أربعة مناشير، وقيل غير ذلك، وقيل إنه لم يطق الجلوس إلا بشدّة، هذا مع التجلد الذي لا مزيد عليه، وكان هذا دأبه من أوّل مرضه إلى أن مات- التجلد وعدم إظهار العجز- ولله دره ما كان أجلده.
وبات السلطان في تلك الليلة على حاله، والناس في أمره على أقوال كثيرة، هذا وهو يستحث على سفر الأمراء المعينين إلى الصعيد، والقصاد منه ترد إليهم، وهم يعتذرون عن السفر بعدم حضور من عيّن معهم من المماليك السلطانية، فيأمر بالمناداة بسفرهم، فلم يخرج أحد.
فلما كان صبيحة يوم الثلاثاء سادسة طلع الأمير الكبير يلباى إلى السلطان ومعه خچداشه قانى بك المحمودى، وجانبك كوهيّة، والثلاثة أمراء ألوف مؤيديّة، فلما دخلوا على السلطان لم ينهض إليهم للجلوس، بل استمر على جنبه؛ لشدة مرضه، وشكا إليهم ما به، فتألموا لذلك ودعوا له، ثم أمر السلطان وهو على تلك الحالة أن ينادى بسفر العسكر إلى الصعيد، ثم خلع على يوسف بن فطيس أستادار السلطان بدمشق بمشيخة نابلس، وخرج الناس من عند السلطان، ولم يعلّم شيئا، وهذا أوّل يوم منع السلطان فيه العلامة من يوم مرض إلى هذا اليوم.
وأصبح يوم الخميس ثامنه وقد اشتدّ به المرض، ويئس الناس منه، وكذلك يوم الجمعة، ولكن عقله واع، ولسانه طلق، وكلامه كلام الأصحاء.
وأصبح يوم السبت عاشر شهر ربيع الأول وهو في السياق، فلما كان ضحوة النهار المذكور حدثت أمور ذكرناها في تاريخنا «الحوادث» ، واجتمع الأمراء الأكابر بمقعد الإسطبل السلطانى عند الأمير آخور الكبير، والأمير آخور المذكور حسّ بلا

(16/305)


معنى، ليس له في المجلس إلا الحضور بالجثة، وجلس الأتابك يلباى في صدر المجلس وبإزائه الأمير تمربغا أمير مجلس، وهو متكلّم القوم، ولم يحضر قرقماس أمير سلاح لإقامته بساحل النيل كما تقدّم، وحضر جماعة من أمراء الألوف وكبير الظاهرية الخشقدميّة يوم ذاك خيربك الدّوادار الثانى، وأخذوا في الكلام إلى أن وقع الاتفاق بينهم على سلطنة الأتابك يلباى، ورضى به عظيم الأمراء الظاهرية الكبار الأمير تمربغا أمير مجلس، وكبير الظاهرية الصغار الخشقدميّة خيربك الدّوادار، وجميع من حضر، وكان رضاء الظاهرية الكبار بسلطنة يلباى بخلاف الظنّ، وكذلك الطاهريّة الصغار.
ثم تكلّم بعضهم بأن القوم يريدون من الأمير الكبير أن يحلف لهم بما يطمئن به قلوبهم وخواطرهم، فتناول المصحف الشريف بيده، وحلف لهم يمينا بما أرادوه، ثم حلف الأمير تمربغا أمير مجلس، وشرح اليمين وكيفيته معروفة، فإنه يمين لتمشية الحال، وأرادوا خيربك أن يحلف، فقال ما معناه. «نحن نخشاكم فحلّفناكم، فنحن نحلف على ماذا؟» .
ثم انفضّ المجلس ونزل الأتابك يلباى إلى داره وبين يديه وجوه الأمراء، ولم يحضر الأمير قايتباى الظاهرى معهم عند الاتفاق واكتفى عن الحضور بكبيرهم الأمير تمربغا الظاهرى، كل ذلك قبل الظهر بيسير، فلم يكن بعد أذان الظهر إلا بنحو ساعة رمل لا غير ومات السلطان بقاعة البيسرية، بعد أذان الظهر بدرجات، وفي حال وفاته طلعت جميع الأمراء إلى القلعة، وأخذوا في تجهيز السلطان الملك الظاهر خشقدم رحمه الله تعالى، وغسلوه وكفنوه، وصلوا عليه بباب القلّة من قلعة الجبل، كل ذلك قبل أن تبايع العساكر يلباى المذكور بالسلطنة كما سنذكره في سلطنة الأتابك يلباى، وهذا الذي وقع من تجهيز السلطان وإخراجه قبل أن يتسلطن سلطان بخلاف العادة، فإن «1» العادة جرت أنه «2» لا يجهّز سلطان إلا بعد أن يتسلطن سلطان غيره، ثم يأخذون بعد ذلك في تجهيزه- انتهى.

(16/306)


ولما صلّى عليه بباب القلّة، وحمل نعشه، وعلى نعشه مرقّعة الفقراء، ساروا به إلى أن أنزلوه من باب المدرج، ولم يكن معه كثير خلق، بل جميع من كان معه أمام نعشه، وحوله وخلفه من الأمراء والخاصكية دون العشرين نفرا، والأكثر منهم أجناد؛ فإنه لم ينزل معه أحد من أمراء الألوف كما هى العادة، ولا أحد من المباشرين غير الأمير شرف الدين بن كاتب غريب الأستادار وجماعة من أمراء الطبلخانات والعشرات، وساروا به وقد ازدحمت الناس والعوام حول نعشه، إلى أن وصلوه إلى تربته ومدرسته التي أنشأها بالصحراء بالقرب من قبة النّصر، ودفن بالقبة التي بالمدرسة المذكورة، وحضرت أنا دفنه- رحمه الله تعالى- ولم تتأسف الناس عليه يوم موته ذاك التأسّف العظيم، لكن تأسّفوا عليه بعد ذلك تأسّفا عظيما لما تسلطن بعده الأتابك يلباى، بل عظم فقده عند سلطنة يلباى على الناس قاطبة.
ومات الملك الظاهر خشقدم- رحمه الله تعالى- وسنه نحو خمس وستين سنة تخمينا، هكذا أملى علىّ من لفظه بعد سلطنته.
وكان الملك الظاهر خشقدم- رحمه الله تعالى- سلطانا جليلا عظيما، عاقلا مهابا، عارفا صبورا، مدبرا سيوسا، حشما متجملا في ملبسه ومركبه وشأنه إلى الغاية، بحيث إنه كان لا يعجبه من البعلبكى الأبيض إلا ما تزيد قيمته على ثلاثين دينارا، فما بالك بالصوف والسمّور وغير ذلك، وكان يقتنى من كل شىء أحسنه، وكان مع هذا التأنق لائقا في شكله وملبسه ومركبه، نشأ على ذلك عمره كله، أعرفه جنديا إلى أن صار سلطانا، وهو متجمل في ملبسه على ما حكيناه.
وكان مليح الشكل للطول أقرب، أعنى معتدل القامة، نحيف البدن، أبيض اللون، تعلوه صفرة ذهبية حسنة، كبير اللحية، تضرب إلى شقرة، قد شاب أكثرها، حسن فيها، وكان رشيق الحركات، خليقا للملك، عارفا بأنواع الملاعيب، كالرّمح والكرة، وسوق المحمل، له عمل كبير في ذلك أيام شبوبيّته، وله مشاركة في غير ذلك من أنواع الملاعيب جيدة.

(16/307)


وكان له إلمام ببعض القراءات، ويبحث مع الفقهاء، وله فهم وذوق بحسب الحال، وكان كثير الأدب، ويجلّ العلماء ويقوم لغالبهم إن قدم أحد منهم عليه، مع حشمة كانت فيه وأدب في كلامه ولفظه، وكان يتكلم باللغة العربية كلاما يقارب الفصاحة على عجمة كانت في لسانه قليلة، وذلك بالنسبة إلى أبناء جنسه.
وكان يميل إلى جمع المال ويشره في ذلك من أى وجه كان جمعه، وله في ذلك أعذار كثيرة مقبولة وغير مقبولة، وعظم في أواخر عمره من سلطنته، وضخم وكبرت هيئته في قلوب عساكره ورعيته لبطن صار فيه، وإقدام على المهولات مع دربة ومعرفة فيما يفعله، فإن كان المسىء ممن يتلافى أمره زجره ولقنه حجته بدربة ولباقة، وإن كان ممن لا يخاف عاقبته قاصصه بما يردع به أمثاله، من الضرب المبرح والنفى، وعدّ ذلك من معايبه، يقول من قال: «القوة على الضعيف ضعف في القوة» .
ومن ذلك أيضا أنه كان في الغالب يقدم على ما يفعله من غير مشورة ولا تأن، ولهذا كانت أموره تنتقض في بعض الأحيان، بل في كثير من الأحيان، ومما كان يعاب به عليه إمساكه، وتشويش المماليك الذين كان اشتراهم في أيام سلطنته الأجلاب، مع أنه- رحمه الله تعالى- كان كثيرا ما ينهاهم عن أفعالهم القبيحة، ويردع بعضهم بالحبس والضرب والنفى وأنواع النّكال، وهذا بخلاف من كان قبله من الملوك، وكان له عذر مقبول في إنشائه هذه المماليك الأجلاب، لا ينبغى لى ذكره؛ يعرفه الحاذق، ومن كل وجه فالمال محبوب على كل حال، وبالجملة إنه كانت «1» محاسنه أضعاف مساوئه، وأيامه غرر أيام، لولا ما شان سؤدده وممالكه «2» ، ولله در القائل:
[الطويل]
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلّها ... كفى المرء فخرا أن تعدّ معايبه «3»
وعلى كل وجه هو من عظماء الملوك وأجلّائهم وأخفهم وطأة، مع شدة كانت فيه

(16/308)


ولين، وتكبر واتضاع، وبخل وكرم، فمن أصابه شرّه يلجأ لله، ويجعل أجره على الله تعالى، ومن أمطره خيره ورفده فليترحّم عليه، وأنا ممن هو بين النوعين، لم يطرقنى شرّه ولا أمطرنى خيره، غير أنه كان معظما لى، وكلامى عنده مقبول، وحوائجى عنده مقضية، وما قلته فيه فهو على الإنصاف- إن شاء الله تعالى- وبعد كل شىء، فرحمه الله تعالى، وعفا عنه.
وكانت مدة سلطنته على مصر ستّ سنين وخمسة أشهر واثنين وعشرين يوما بيوم سلطنته- انتهى.

(16/309)


[ما وقع من الحوادث سنة 865]
السنة الأولى «1» من سلطنة الملك الظاهر خشقدم على مصر وهى سنة خمس وستين وثمانمائة:
على أن السنة المذكورة حكم فيها ثلاثة ملوك.
حكم الأشرف إينال من أوّلها إلى أن خلع نفسه، وولى ولده الملك المؤيّد أحمد في يوم الأربعاء رابع عشر جمادى الآخرة، ومات من الغد في يوم الخميس، وحكم ولده الملك المؤيّد أحمد من رابع عشر جمادى الآخرة إلى يوم الأحد تاسع عشر شهر رمضان.
ثم حكم في باقى السنة الملك الظاهر خشقدم إلى آخرها.
فيها توفّى الأمير سيف الدين سودون بن عبد الله الإينالى المؤيّدى المعروف بقراقاش حاجب الحجاب بجزيرة قبرس في الغزاة من غير جراح، بل مرض نحو عشرة أيام، ومات في أول المحرم، وقد عرفنا أحواله في تاريخنا «المنهل الصافى والمستوفى بعد الوافى» ، وأيضا في تاريخنا «حوادث الدهور في مدى الأيام والشهور» بما فيه كفاية عن ذكره ثانيا هنا، ومات وقد زاد سنّه على الستين، وكان مخلّطا في أموره، يقبل المدح والذم.
وتوفّى الأمير سيف الدين جانبك بن عبد الله النّوروزى، أحد أمراء الطبلخانات، ونائب الإسكندرية بها في يوم السبت مستهل صفر وقد ناهز الثمانين من العمر، وكان من مماليك الأمير نوروز الحافظى المتغلب على دمشق، وولى أيام أستاذه

(16/310)


نيابة بعلبك، ولهذا كان يعرف بنائب بعلبك، وكان من خيار أبناء جنسه، كان شجاعا مقداما كريما متواضعا، ديّنا خيّرا، قلّ أن ترى العيون مثله.
وتوفّى الشيخ الصالح الزاهد العابد المعتقد عمر اليمنى «1» نزيل مكة في سحر ليلة الأربعاء ثالث شهر ربيع الأوّل بمكة، ودفن بمقابر باب شبيكة، وكان فردا في كثرة العبادة والزهد، وقد سألت عنه بمكة من صاحبنا القدوة أحمد الفوّى، أعاد الله علينا من بركاته فقال: «هذا يشبّه بعبّاد بنى إسرائيل» .
وتوفّى الشيخ الإمام العالم العلّامة أبو الفضل محمد بن أبى القاسم المشدّالى البجائى «2» المغربى المالكى غريبا ببعض أعمال حلب، وهو في الكهولية، وكان إماما فى المعقول والمنقول، وشهرته القوية بالأول، كان إماما في النحو والمنطق وعلم المعانى والبيان والأصلين والطب والحكمة وعلوم الأوائل، وكان إذا حقق مسألة فقهية كان إلى كلامه المنتهى، وبالجملة إنه كان نادرة من النّوادر- رحمه الله.
وتوفّى الشيخ الإمام العالم الفقيه عزّ الدين محمد بن محمد بن عبد السلام «3» أحد نواب الشافعية، فى ليلة الثلاثاء رابع عشر ربيع الآخر، وكان آخر من حضر دروس الشيخ سراج الدين عمر البلقينى- رحمه الله تعالى.
وتوفّى السلطان الملك الأشرف سيف الدين أبو النصر إينال العلائى ثم الظاهرى سلطان الديار المصرية في يوم الخميس خامس عشر جمادى الأولى وقد تقدّم ذكره.
وتوفّى جمال الدين جميل بن أحمد بن عميرة بن يوسف المعروف بابن يوسف، شيخ العرب ببعض إقليم الغربية والسخاوية بالوجه البحرى، فى جمادى الأولى وقد جاوز الستين.

(16/311)


وتوفّى الزينى مرجان بن عبد الله الحصنى الحبشى الطواشى، مقدّم المماليك السلطانية، فى آخر يوم الأحد ثانى جمادى الآخرة، ودفن من الغد، وقد ناهز الستين من العمر، كان وضيعا في مبدأ أمره، وقاسى خطوب الدهر ألونا وتغرّب واحتاج في غربته إلى التكدّى والسؤال، ثم حسنت حاله، وخدم عند خلائق من الأمراء، إلى أن تحرّك له بعيض سعد، وترقّى إلى أن ولى نيابة المقدم، ثم التّقدمة، فلما ولى لم يراع النعمة، بل أخذ في الإسراف على نفسه فما عفّ ولا كفّ، ودام على ذلك إلى أن مات، وعلى كل حال فمستراح منه، وهو ممن يقال في حقه: «يأكل ما كان ويضيق بمكان» .
وتوفّى الوزير الصاحب سعد الدين فرج ابن مجد الدين ماجد بن النحّال القبطى المصرى بطّالا بالقاهرة، فى ليلة الثلاثاء حادى عشر جمادى الآخرة، وقد جاوز الستين من العمر، بعد أن ولى كتابة المماليك والوزر والأستادارية غير مرة- رحمه الله تعالى.
وتوفّى الأمير سيف الدين كزل بن عبد الله السّودونى المعلّم، أحد أمراء العشرات فى يوم السبت ثانى عشرين جمادى الآخرة، ودفن من الغد بتربته التي أنشأها بالصحراء، وسنه نحو التسعين سنة تخمينا، وقد انتهت إليه رئاسة الرّمح وتعليمه في زمانه، وكان أصله من مماليك سيّدى سودون نائب الشام قريب الملك الظاهر برقوق، وقد ذكرنا من أمره نبذة في ترجمة الملك الظاهر في «المنهل الصافى والمستوفى بعد الوافى» - رحمه الله تعالى.
وتوفّى الأمير زين الدين فيروز بن عبد الله الطواشى الرومى النّوروزى الزّمام والخازندار، فى يوم الخميس رابع عشرين شعبان، وقد شاخ وجاوز الثمانين من العمر، وكان من عتقاء الأمير نوروز الحافظى نائب الشام، ثم وقع له بعد موت أستاذه محن وخطوب ذكرناها في غير موضع من مصنفاتنا، وليس هذا المحل محل إطناب في التراجم، وإنما هو إخبار بما وقع وحدث على سبيل الاختصار في هذه الترجمة وغيرها، ومات فيروز هذا بعد مرض طويل، ودفن بتربته التي أنشأها بالصحراء، وخلّف مالا

(16/312)


كثيرا لم يظفر السلطان إلا ببعضه، وهو نحو المائة ألف دينار أو أزيد، وكان رأسا في البخل والشّح، يمشى من طبقته بقلعة الجبل إلى السلطان بالدهيشة، وإذا صلى الفريضة صلى جالسا إن صلى.
وتوفّى الأمير شرف الدين يونس الأقبائى الدّوادار الكبير بعد مرض طويل في يوم الأربعاء ثانى عشرين شهر رمضان، ودفن من يومه بتربته التي أنشأها بالصّحراء، وقد جاوز الستين من العمر، ولم يخلف بعده مثله سؤددا وكرما، وحشمة وشجاعة ورئاسة، وبالجملة إنه كان به تجمل في الزّمان- رحمه الله تعالى- وكان أصله من عتقاء الأمير آقباى المؤيّدى نائب الشام، حسبما ذكرنا محاسنه في غير موضع من تواريخنا.
وتوفّى الأمير سيف الدين سودون بن عبد الله الأبوبكرى المؤيدى أتابك حلب بها في أواخر شهر رمضان، وهو مناهز الستين من العمر، وأصله من عتقاء الملك المؤيّد شيخ، وقد ولى أتابكية حلب غير مرّة، وولى في بعض الأحيان نيابة حماة، ثم نقل إلى تقدمة ألف بدمشق، ثم إلى أتابكية حلب، وكان عاقلا حشما، حسنة من حسنات الدنيا.
وتوفّى الأمير سيف الدين خشكلدى بن عبد الله الكوجكى، أحد أمراء طرابلس، فى أواخر شهر رمضان، وكان له شهرة، وولى نيابة حمص في وقت من الأوقات.
وتوفّى الوزير تاج الدين بن عبد الوهاب ابن الشمس نصر الله ابن الوجيه توما القبطى الأسلمى، الشهير بالشيخ الخطير- وهو لقب لوالده نصر الله- بعد ما شاخ، فى يوم الأربعاء خامس ذى القعدة، وكان معدودا من الكتبة، وباشر الوزر بعجز، لكنه كفّ عن المظالم، فهو أحسن الوزراء سيرة- والسّداد ميسّر.
وتوفّى قاضى القضاة ولىّ الدين أحمد ابن القاضى تقي الدين ابن العلّامة بدر الدين محمد ابن شيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقينى «1» الشافعى، قاضى قضاة دمشق معزولا

(16/313)


بها، بعد مرض طويل، فى ذى القعدة، ومولده بالقاهرة في سنة أربع عشرة وثمانمائة، وكان- رحمه الله تعالى- عالما فاضلا ذكيا، فصيح العبارة، مستقيم الذهن، طلق اللسان جهورى الصوت، مليح الشكل، خطيبا بليغا مفوها، كثير الاستحضار للشعر وأنواعه، نادرة في أقاربه وأبناء جنسه، إلا أنه كان قليل الحظ عند الملوك والأكابر، كما هى عادات الدّهر من تقديم الجهلاء وتأخير الفضلاء.
وتوفّى الأمير سيف الدين خيربك بن عبد الله النّوروزى بعد عزله عن نيابة صفد وتوجهه إلى دمشق أميرا بها، وكان بلى المناصب الجليلة بالبذل لعدم أهليته، فإنه كان لا للسيف ولا للضيف.
وتوفّى الشيخ المعتقد الصالح المجذوب أحمد السطوحى، المعروف بالشيخ خروف «1» ، فى يوم السبت سابع ذى الحجة، ودفن بزاويته عند جامع ملكتمر الشيخونى، المعروف بالجامع الأخضر بطريق بولاق، وكان للناس فيه اعتقاد، وكان يعجبنى حاله في المجاذيب- رحمه الله تعالى.
وتوفّى القاضى أفضل الدين محمود بن عمر «2» القرمى الأصل، الحنفى الفقيه المشهور، أحد نوّاب الحكم الحنفية بالديار المصريّة، وهو عائد من مجاورته بمكة بالقاع الكبير، فى ليلة الثلاثاء سابع عشر ذى الحجة، وحمل إلى منزلة بدر فدفن بها، وهو في عشر السبعين، وكان معدودا من فقهاء السّادة الحنفية، وله اشتغال قديم، وفضل ومشاركة، وناب في الحكم زيادة على ثلاثين سنة، مع أدب وحشمة.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم ستة أذرغ ونصف، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وواحد وعشرون إصبعا، وثبت إلى أيام من توت، ومع هذا الثبات شرق بلاد كثيرة من عدم إتقان الجسور- ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.

(16/314)


[ما وقع من الحوادث سنة 866]
السنة الثانية من سلطنة الملك الظاهر خشقدم على مصر وهى سنة ست وستين وثمانمائة:
فيها توفّى الأمير سيف الدين بيبرس بن أحمد بن بقر، شيخ العربان بالشّرقية من أعمال القاهرة بالوجه البحرى، وقد ناهز السبعين من العمر، فى يوم الأربعاء مستهل صفر بالقاهرة، وكان مشكور السّيرة نادرة في أبناء جنسه- رحمه الله تعالى.
وتوفّى الشيخ الرّبانىّ الصّوفىّ المعتقد أبو عبد الله محمد الفوىّ «1» الشافعى، نزيل القاهرة بها، فى ليلة السبت سلخ شهر ربيع الأول، وهو في الثمانين تخمينا، ودفن من الغد بالصحراء، وكان من تلامذة الشيخ المسلك إبراهيم الإدكاوى، وخدم غيره أيضا من الصالحين، وكان رحمه الله تعالى أحد من أدركنا من أرباب الصلاح والخير- عفا الله تعالى عنه.
وتوفّى الأمير سيف الدين قانى باى بن عبد الله الچاركسى الأمير آخور الكبير- كان- بثغر دمياط بطّالا في يوم السبت رابع عشر شهر ربيع الآخر، وحمل ميتا من دمياط إلى القاهرة، فغسّل بها وكفن وصلى عليه بمصلاة المؤمنى، وحضر السلطان الملك الظاهر خشقدم الصلاة عليه، ودفن بتربته التي جددها وبناها بالقرب من دار الضيافة «2» ، وكان أستاذه الأمير چاركس القاسمى المصارع مدفونا بها، ومات قانى باى هذا وقد ناهز الثمانين من العمر، وكان أصله من مماليك الأتابك يشبك الشعبانى، وأنعم به على الأمير چاركس القاسمى المصارع، فأعتقه چاركس، واستمر بخدمته إلى أن قتل في سنة عشر وثمانمائة، وصار من جملة المماليك السلطانية، ثم صار

(16/315)


خاصكيا بعد موت الملك المؤيد شيخ، وعاش على ذلك دهرا طويلا، إلى أن صار أمر الملك إلى الملك الظاهر جقمق في دولة الملك العزيز يوسف ابن الملك الأشرف برسباى وأنعم عليه بإمرة عشرة؛ لكونه من مماليك أخيه چاركس القاسمى، وكان چاركس أكبر في السن من أخيه الملك الظاهر جقمق، فلم يكن إلا مدّة يسيرة وتسلطن الملك الظاهر جقمق، وقرّب قانى باى هذا ورقّاه، وجعله شاد الشراب خاناه، وأنعم عليه بإمرة مائة وتقدمة ألف، ودام على وظيفته وهو من جملة المقدمين، ثم جعله دوادارا كبيرا، ثم أمير آخور كبيرا، ونالته السعادة، وعظم في الدولة الظاهرية حسبما ذكرنا أموره مفصلة في تاريخنا «الحوادث» ، ودام على ذلك إلى أن مات الملك الظاهر جقمق وتسلطن ولده الملك المنصور عثمان، وخرج عليه الأتابك إينال العلائى وتسلطن عوضه، فأمسك قانى باى هذا وحبسه بالإسكندرية سنين كثيرة إلى أن أخرجه الملك الظاهر خشقدم في أول سلطنته وسيّره إلى دمياط بطّالا، فدام بها إلى أن مات في التاريخ المذكور، وكان خيّرا ديّنا سليم الباطن مع طيش وخفة- رحمه الله تعالى.
وتوفّى الأمير سيف الدين تمرباى بن عبد الله من حمزة الناصرى المعروف بتمرباى ططر، أحد مقدمى الألوف، فى ليلة السبت ثامن عشرين جمادى الآخرة وقد ناهز الثمانين، وكان تركى الجنس من مماليك الملك الناصر فرج، ونزل به الدهر، ثم عاد إلى بيت السلطان وترقى ثانيا إلى أن صار أمير مائة ومقدم ألف في دولة الملك الظاهر خشقدم، وكان من المهملين المساكين.
وتوفّى الأمير سيف الدين جانبك بن عبد الله الجكمى نائب ملطية بها في شهر ربيع الآخر وقد أسنّ؛ لأنه من مماليك الأمير جكم من عوض نائب حلب- كان.
وتوفّى غيث بن ندى بن نصير الدّين، شيخ العربان بأحد جهات إقليم مصر «1» ، ودفن خارج القاهرة في يوم الاثنين خامس شهر رجب، وكان موته بعد قتل ابنه

(16/316)


حمزة وسلخه باثنين وعشرين يوما، ومستراح منه ومن ابنه حمزة- ولله الحمد على موتهما.
وتوفّى الأمير سيف الدين حاج إينال اليشبكى نائب حلب بها في ليلة الخميس سابع عشرين شعبان بحلب، ودفن في يوم الخميس، وقد قارب الستين من العمر أو جاوزها، وكان أصله من مماليك الأمير يشبك الجكمى أمير آخور، وولى حلب عوضه الأمير جانبك التاجى المؤيّدى، وكان إينال هذا ولى عدّة أعمال بالبلاد الشّامية: حماة، وطرابلس، وحلب، غير أنه لم تسبق له رئاسة بمصر قط، وكان لا بأس به، لكنه لم يحمده الحلبيون في ولايته عليهم.
وتوفّى الأمير سيف الدين تنبك بن عبد الله الأشرفى المعروف بالصغير، أحد أمراء العشرات ورأس نوبة، قتيلا بيد العربان بالبحيرة، وقد ذكرنا واقعته وكيفية قتله في «الحوادث» ، وكذلك الأمير سنطباى قرا الظاهرى- رحمه الله تعالى.
وتوفّى المقام الناصرى محمد ابن السلطان الملك الأشرف إينال العلائى بثغر الإسكندرية في يوم الخميس مستهل ذى الحجة، وعمره نحو سبع عشرة «1» سنة، وهو شقيق الملك المؤيد أحمد، أمهما خوند زينب بنت بدر الدين بن خاص بك.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم ستة أذرع وعشرة أصابع، مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وستة أصابع، وثبت إلى أواخر توت على نحو ثمانية عشر ذراعا.

(16/317)


[ما وقع من الحوادث سنة 867]
السنة الثالثة من سلطنة الملك الظاهر خشقدم على مصر وهى سنة سبع وستين وثمانمائة:
فيها توفّى الأمير الطواشى عنبر الطنبذى الحبشى نائب مقدم المماليك السلطانية بطالا في يوم السبت ثامن المحرم، وكان من أصاغر أبناء طائفته، كان من عتقاء التاجر نور الدين على الطّنبذى «1» ، وبنى مدرسة بخط سوق الغنم قبل موته بمدة يسيرة- رحمه الله تعالى.
وتوفّى الأمير سيف الدين جانم بن عبد الله الأشرفى نائب الشام قتيلا بيد بعض مماليكه بمدينة الرّها، فى ليلة الثلاثاء تاسع عشرين شهر ربيع الأوّل، وهو نزيل حسن بك صاحب ديار بكر، وقد تقدّم من ذكره في أول سلطنة الملك الظاهر هذا ما يغنى عن التعريف بأموره ثانيا هنا، وكان جانم رجلا للقصر أقرب، وفيه حدّة مزاج، وسرعة حركة، مع تديّن وجودة، ومحبة للفقهاء والفقراء وأرباب الصلاح، مع كرم وأدب وحشمة ورئاسة وعفة عن القاذورات والفواحش- رحمه الله تعالى.
وتوفّى قاضى القضاة شيخ الإسلام سعد الدين سعد ابن قاضى القضاة شيخ الإسلام شمس الدين محمد بن عبد الله بن سعد بن أبى بكر بن مصلح بن أبى بكر بن سعد العبسى الدّيرى «2» المقدسى الحنفى، قاضى قضاة الديار المصرية وعالمها، معزولا عن القضاء بداره بمصر القديمة، فى ليلة الجمعة تاسع شهر ربيع الآخر، وحضر السلطان الصلاة

(16/318)


عليه بمصلاة المؤمنى، ودفن بتربة السلطان الملك الظاهر خشقدم بالصحراء، ومولده ببيت المقدس في شهر رجب سنة ثمان وستين وسبعمائة، وبها نشأ وسمع الحديث على جماعة ذكرناهم في ترجمته في تاريخنا «المنهل الصافى والمستوفى بعد الوافى» ، وحفظ القرآن العزيز وعدّة متون في الفقه، وتفقّه بأبيه وغيره إلى أن برع في الفقه وأصوله، وأما فروع مذهبه والتّفسير فكان فيهما آية من آيات الله، ومات وقد انتهت إليه رئاسة الفقه في مذهبه شرقا وغربا، مع أنه كان رأسا أيضا في حفظ التفسير، وله مشاركة فى عدة فنون، وبالجملة فإنه مات ولم يخلف بعده مثله- رحمه الله تعالى.
وتوفّى الأمير سيف الدين شادبك بن عبد الله الصارمى نائب غزّة بها في يوم الثلاثاء ثالث عشر شهر ربيع الأوّل، وقد قارب الستين، وكان من عتقاء المقام الصارمى إبراهيم ابن الملك المؤيّد شيخ المحمودى، وكان ولى غزّة بالبذل، ومات قبل أن يستوفى ما بذله في ولايتها، وخلف عليه ديونا- عفا الله تعالى عنه.
وتوفّيت خوند بنت السلطان الملك الظاهر جقمق، زوجة الأمير أزبك من ططخ الظاهرى، أحد مقدّمى الألوف بالديار المصرية، فى عصر يوم الاثنين عاشر جمادى الأولى، وحضر السلطان الصلاة عليها بمصلاة المؤمنى، ودفنت عند أبيها بتربة الأمير قانى باى الچاركسى، وكان موتها في غياب زوجها، كان مسافرا في السّرحة، وماتت وسنها دون ثلاثين سنة، وأمها خوند مغل أخت القاضى كمال الدين بن البارزى، وهى في قيد الحياة.
وتوفّى الأمير سيف الدين جانبك بن عبد الله القوامى المؤيدى، أحد أمراء العشرات بالقاهرة، فى يوم الجمعة ثامن عشرين جمادى الأولى، وحضر السلطان الملك الظاهر خشقدم الصلاة عليه بمصلاة المؤمنى وقت العصر، وكان من عتقاء الملك المؤيّد شيخ، وكان من الخيرين الساكنين.
وتوفّى الإمام علاء الدين على المغربى الحنفى، إمام الملك الأشرف إينال، فى يوم الاثنين ثالث عشر جمادى الآخرة، وهو في عشر الستين من العمر، وكانت لديه

(16/319)


فضيلة مع وسوسة وطيش وخفة، وإسراف في الحال، وبالجملة إنه كان من المخلّطين- رحمه الله تعالى.
وتوفّى عظيم الدّولة ومدبّر المملكة الأمير سيف الدين جانبك بن عبد الله الظاهرى الدّوادار الكبير، المعروف بنائب جدّة قتيلا بيد المماليك الأجلاب بباب القلّة داخل قلعة الجبل، وقت صلاة الصبح من يوم الثلاثاء مستهل ذى الحجة، وقد ذكرنا قصة قتلته في «الحوادث» مستوفاة، لكن نذكرها هنا جملة «1» ، وهى أنه ركب من بيته سحر يوم الثلاثاء المذكور بغلس بعد صلاة الصبح بغير قماش الموكب، ومعه نحو خمسة نفر، وطلع إلى القلعة، ومشى بمن كان معه إلى أن وصل إلى باب القلّة، فسلّم على مقدم المماليك ثم مشى إلى أن جاوز العتبة الثانية من باب القلّة، والتفت عن يمينه إلى الجهة الموصلة إلى القصر السلطانى، فوجد هناك جماعة من المماليك السلطانية الأجلاب، فظن أن وقوفهم هناك لأجل أخذ الأضحية السلطانية على العادة فى كل سنة، فسلّم عليهم فردّوا عليه السلام بأعلى أصواتهم، كما يفعلون ذلك مع أعيان الأمراء بطريق التجمل، ثم مشى إلى أن التفت إلى نحو العتبة التي تكون على شماله تجاه باب الجامع الناصرى، فرأى على درجات الباب المذكور جماعة من المماليك الأجلاب من أوّل الدّرج إلى آخرها، فسلّم عليهم كما فعل مع من صدفه منهم قبلهم، فلم يردّ أحد منهم السلام، وحال أن وقع بصرهم عليه نزلوا إليه دفعة واحدة، وأحاطوا به، ونزلوا عليه من جهاته الأربع بالسيوف وغيرها، وهرب من كان معه إلى جهة الحوش السلطانى والدهيشة، ولما ضرب على رأسه سقط في الحال من وقته، وضربه آخر في خاصرته بالسيف، ثم نهض وارتكن بحائط الجامع، ثم سقط من وقته، فسحبه بعضهم برجله إلى طريق المطبخ، فوجد به رمقا، فألقى على رأسه حجرا هائلا رضخ رأسه، فمات من وقته، وكان مقدار قتلته كلها من أول الإحاطة به إلى أن خرجت روحه دون نصف درجة رمل، ولما تحققوا قتله أخذوا ما كان عليه من

(16/320)


القماش وغطّوه بحصير ورجعوا إلى جهة باب القلّة، ليلقوا من ندبوا إلى قتله أيضا من خچداشيته، فوافوا الأمير تنم رصاص الظاهرى المحتسب، وأحد أمراء الطبلخانات، قد أقبل في أثر الأمير جانبك المذكور فقصدوه، فاستجار بمقدّم المماليك أو بجماعة من إنّياته، فلم يغنوا عنه شيئا، وتناولته الأيدى بالضرب، فهجّ فيهم، وخرج من بينهم، وهو بغير سلاح، ومضى إلى جهة القصر، وهم في أثره في الظلام، ثم عاد وهم فى أثره إلى جهة الجامع حيث قتل الأمير جانبك، وقد ظفر منهم بعصاة، فضربهم بها، ودفع عن نفسه مع كثرة عددهم، وكاد أن ينجو منهم، فبادره بعضهم، وضربه بسيف ضربة طارت يده منها، ثم تكاثروا عليه بالضرب حتى ظنوا أنه مات، فحملته إنّياته إلى طبقته وبه رمق، وأخذوا في مداواة جراحه، فمات بعد قليل، ذلك والنجوم ظاهرة بالسماء.
ولما وقع هذا أغلقت أبواب القلعة، وماجت الناس، وذهب كلّ واحد من الأمراء والخاصكية إلى جهة من جهات القلعة، وأما السلطان فإنه كان جالسا بقاعة الدّهيشة والشمعة تقد بين يدية بعد أن صلّى الصبح، فدخل إليه جانم دوادار الأمير جانبك المذكور، ولم يعلم جانم بقتل أستاذه، وعرّف السلطان أن المماليك الأجلاب منعت أستاذه من الدخول إلى السلطان، فسكت السلطان، لعلمه بباطن الأمر، ثم قال بعد ساعة: «أيش الخبر؟» فقال له بعض من حضر من الأمراء: «خير» فقال غيره:
«وأى خير» والقائل الأول جانبك كوهيّة، والثانى مغلباى طاز وكلاهما مؤيّدى، ثم سكتوا فقال الأمير يلباى المؤيّدى الأمير آخور الكبير: «ما بقى اليوم خدمة؟» فقال السلطان: بلى نخرج إلى الحوش، وخرج إلى الحوش، وجلس على الدّكة، وذلك بعد طلوع الشمس، وجميع أبواب الحوش والقلعة مغلقة، فجلس السلطان ساعة وليس عنده الصحيح من خبر جانبك، إلى أن جاءه نائب المقدم وغيره، وأعلموا السلطان سرّا بواقعة الأمير جانبك وقتله، فقال السلطان إلى الخازندار: «أخرج ثوبين بعلبكيا لتكفين الأمير جانبك وتنم رصاص» .

(16/321)


ثم أمر السلطان الأمير جانبك كوهيّة الدوادار الثانى أن يخرج ويتولّى أمرهما وتجهيزهما والصلاة عليهما، فخرج وفعل ذلك وصلى عليهما بباب القلّة ووجّههما على نعوشهما إلى محل دفنهما، وليس معهما كثير ناس بل جميع من كان معهما دون عشرة نفر، فدفن الأمير جانبك بتربته التي أنشأها خارج باب القرافة، ودفن الأمير تنم عند ليث ابن سعد «1» .
وكثر أسف الناس على الأمير جانبك إلى الغاية، وعظمت مصيبته على أصحابه وخچداشيته، وانطلقت الألسن بالوقيعة في السلطان، ورثاه بعضهم، وقالت المذاكرة في أمره قطعا في كيفية قتلته «2» ، وفي عدم وفاء السلطان على ما كان قام بأمره حتى سلطنه وثبّت قواعد ملكه، واضطرب ملك الملك الظاهر خشقدم بقتله، وخاف كل أحد من خچداشيته وغيرهم على نفسه، وماجت المملكة وكثر الكلام في الدولة، ووقع أمور بعد ذلك ذكرناها في وقتها، ليس لذكرها هنا محل- انتهى.
ومات الأمير جانبك- رحمه الله تعالى- وهو في أوائل الكهولية، غير أنه كان بادره الشيب ببعض لحيته، وكان- رحمه الله تعالى- أصله چاركسى الجنس وجلب إلى الديار المصرية، وتنقّل من ملك واحد إلى آخر- ذكرنا أسماءهم في ترجمته فى غير موضع من مصنفاتنا- إلى أن ملكه الملك الظاهر جقمق في أيام إمرته وأعتقه، فلما تسلطن جعله خاصكيا وقرّبه، ولا زال يرقيه حتى أمّره وولاه بندر جدّة، ونالته السعادة في أيام أستاذه، وعظم وضخم ونهض في إمرة جدّة، بحيث إنه صار في وقته حاكم الحجاز جميعه حتى مات- فى دولة أستاذه وفي دولة غيره- وقد حررنا ذلك جميعه في «الحوادث» وغيره، وعظم بآخره عظمة زائدة، لا سيما لما ولى الدّوادارية الكبرى في دولة الملك الظاهر خشقدم، وصار هو مدبّر المملكة، وشاع ذكره، وبعد صيته، حتى كاتبه ملوك الأقطار من كل جهة وقطر.

(16/322)


وأما ملوك اليمن والحجاز والهند فإنه أوقفنى مرّة على عدّة كثيرة من مكاتبات ملوك الهند، وبعضها مشتمل على نظم ونثر وفصاحة وبلاغة، وأماما كان يأتيه من ملوك الهند من الهدايا والتحف فشىء لا يحصر كثرة، وتضاعفت الهدايا له في هذه الدولة أضعاف ما كان يهدى إليه أوّلا، وقال له الدهر: خذ، فأخذ وأعطى حتى أسرف وبذّر، بحيث إنه لم يكن أحد من خچداشيته وغيرهم مع كثرتهم [له مال] «1» إلا من إنعامه عليه، أو هو ساكن في بيت أنعمه عليه، والذي أعرف أنا: أنه وهب تسعة دور من بيوت مقدمى الألوف بالدّيار المصريّة على تسعة نفر من خچداشيته الأكابر الأمراء وغيرهم، وقس على هذا من الخيول والقماش، وكان في مجاورتى بمكة في سنة ثلاث وستين يلازمنى وألازمه في الحرم كثيرا، ولم أنظره تصدّق على أحد فيما تصدّق به أقل من عشرة أشرفية، هذا مع اقتنائه من كل شىء أحسنه وأجمله وأكثره، لا سيما بركه «2» وخيمه، فكان إليها المنتهى في الحسن، يضرب بها المثل.
وبكفيك من علو همته أنه أنشأ بداره بستانا أزيد من مائة فدان، بابه الواحد «3» من داره قريب من خط قناطر السباع «4» ، وبابه الآخر تجاه الروضة، ثم أنشأ به تلك القبة العظيمة والرصيف الهائل تجاه الروضة، وبالجملة والتفصيل إن بابه كان محط «5» الرحال، وملجأ الطالبين الملهوفين، ونصرة المظلومين، وكثرة المحتاجين، فإنه كان يعطى الألفين دينارا دفعة واحدة إلى مادونها، وكان يعطى من المغلّ ألف أردب دفعة واحدة أيضا فى يوم واحد إلى ما دونها إلى عشرة أرادب، وأعطى في يوم واحد لبعض أعيان خچداشيتة مائة ناقة بأتباعها، يعرف هذا كلّ أحد، فقس على كرمه أيها المتأمل

(16/323)


ما شئت أن تقيس، ثم أعلم أنه لم يخلف بعده مثله، وإن أشكل عليك هذا القول، فسل من أحد من أمرائك العصريّين عشرة من الإبل، فإن أعطاك فاشكر مولاك، واعلم أنّ الناس فيهم بقية كرم، وإن لم يعطك فاشهد بصدق مقالتى.
وعلى كل حال إنه كان ملكا كريما جليلا، مهابا شهما، عارفا حاذقا فطنا، فصيح العبارة في اللغة العربية والتركية بالنسبة لأبناء جنسه، وكان قصير القامة مع كيس فى قدّه، وظرف في تناسب أعضائه بعضها لبعض، وكان سيوسا حسن التدبير، ومن حسن سياسته أنه لم ينحطّ قدره بعد زوال دولة أستاذه الملك الظاهر جقمق، بل زادت حرمته أضعاف ما كانت في أيّام أستاذه، مع كثرة حكّام الدولة الأشرفية الإينالية وتفرّق كلمتهم، فساس كل واحد بحسب حاله، وأقام في دولتهم عظيما مبجّلا، وبوجوده كان أكبر الأسباب في إعادة دولة خچداشيته بعد موت الملك الأشرف إينال، وبالجملة إنه كان نادرة من نوادر دهره- رحمه الله تعالى- وقد استوعبت أحواله في غير هذا المصنف بأطول من هذا بحسب الباعثة والقريحة، ورثيته بقصيدة نونية في غاية الحسن- عفا الله عنه وصالح عنه أخصامه بمنّه وكرمه.
وتوفّى الأمير سيف الدين تنم رصاص من نخشايش الظاهرى المحتسب، أحد أمراء الطبلخانات، قتيلا بيد المماليك الأجلاب مع الأمير جانبك الدّوادار، وقد تقدّم ذكر قتله فيما تقدم.
وكان تنم هذا من عتقاء الملك الظاهر جقمق وخاصكيته، وترقّى بعد موته إلى أن ولى حسبة القاهرة في أواخر دولة الملك الأشرف إينال، ثم صار أمير عشرة في أوائل دولة الملك الظاهر خشقدم، ثم نقل إلى إمرة طبلخاناه، ودام على ذلك إلى أن قتل فى التاريخ المذكور في قصة الأمير جانبك، وهو يوم الثلاثاء أول ذى الحجة، وكان شابا مليح الشكل، شجاعا عارفا، كريما لسنا، متحركا حاضر الجواب، وكان أحد أعوان الأمير جانبك الدّوادار في مقاصده- رحمهما الله تعالى، وعفا عنهما أجمعين.

(16/324)


وتوفّى القاضى شمس الدين محمد بن أحمد القرافى «1» المالكى أحد نواب الحكم المالكية وأعيان الفقهاء بالديار المصرية، فى ليلة الاثنين رابع عشر ذى الحجة، ودفن صبيحة يومه بالقرافة وقد جاوز السبعين من العمر، وكان له اشتغال كثير في ابتداء أمره، وعمل جيد مع ذكاء وحسن تصوّر، لا سيما في باب التوريق «2» وصناعة القضاء والشروط رحمه الله تعالى وعفا عنه.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم- سبعة أذرع وعشرون إصبعا، مبلغ الزيادة تسعة [عشر] «3» ذراعا وسبعة أصابع.

(16/325)


[ما وقع من الحوادث سنة 868]
السنة الرابعة من سلطنة الملك الظاهر خشقدم على مصر وهى سنة ثمان وستين وثمانمائة.
فيها توفّى قاضى القضاة بدر الدين حسن بن محمد بن أحمد بن الصّوّاف الحنفى «1» الحموى قاضى قضاة حماة، ثم الديار المصرية، إلى أن مات في يوم الأحد رابع المحرم ودفن من الغد في يوم الاثنين، وسنه نحو الستين سنة تخمينا، وكان أصله من حماة من أولاد التجار، واشتغل بالعلم في مبدأ أمره يسيرا، ثم مال إلى المتجر وتحصيل المال إلى أن حصل على جانب كبير منه، وولى قضاء حماة بالبذل سنين كثيرة، وطال تكراره إلى القاهرة غير مرّة، وأخذ منه- بوسائطجمل مستكثرة من المال غصبا ورضا، ثم قدم القاهرة في سنة ست وستين لأمر من الأمور، وحصل بينه وبين قاضى القضاة محب الدين بن الشّحنة الحنفى شنآن بواسطة صهارة، فسعى عليه وعزله، وولى عوضه في ثانى عشرين شهر رجب من سنة سبع وستين إلى أن مات في المحرم من هذه السنة، بعد أن مرض نحو الشهر، فكانت مدته كلها في القضاء خمسة أشهر وأياما بما فيها أيام مرضه، ولقد تعب بولايته وأتعب، واستراح بموته وأراح.
وتوفّى السلطان الملك العزيز أبو المحاسن جمال الدين يوسف ابن السلطان الملك الأشرف أبى النصر برسباى الدقماقى الظاهرى، بعد خلعه من السلطنة بسنين كثيرة، بثغر الإسكندرية في يوم الاثنين تاسع عشر المحرم، وهو في أوائل الكهولية؛ لأن مولده بقلعة الجبل في سلطنة أبيه في سنة سبع وعشرين وثمانمائة، وأمه خوند جلبّان أم ولد لأبيه چاركسية، تزوّجها أستاذها الملك الأشرف بعد أن ولدت الملك العزيز هذا،

(16/326)


ومانت أيام والده الأشرف، ونشأ الملك العزيز تحت كنف والده بالدّور السلطانية، إلى أن عهد له أبوه الأشرف بالسلطنة في مرض موته، ومات بعد أيّام.
وتسلطن العزيز هذا بعد عصر نهار السبت ثالث عشر ذى الحجة سنة إحدى وأربعين وثمانمائة، وهو السلطان الثالث والثلاثون من ملوك الترك بالديار المصرية وأولادهم، والتاسع من الچراكسة وأولادهم، وتم أمره في الملك، وصار الأتابك جقمق مدبّر مملكته وفرّق النفقة على المماليك السلطانية كل واحد مائة دينار، لا يتنفّل أحد على أحد كائنا من كان، على قاعدة الملوك العظام، بخلاف من جاء بعده من الملوك، ودام في الملك إلى أن وقع بين الأتابك جقمق وبين مماليك أبيه الأشرفية أمور آلت إلى خلعه من السلطنة، وسلطنة الأتابك جقمق عوضه في يوم الأربعاء تاسع عشر شهر ربيع الأوّل سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة، فكانت مدة ملكه نحوا من خمسة وتسعين يوما، ليس له فيها إلّا مجرّد الاسم فقط.
وبعد خلعه من الملك رسم له بالسكن في قاعة من الحريم السلطانى بقلعة الجبل، فسكن بها إلى أن حسّن له بعض حواشيه التسحّب منها والنزول من القلعة إلى القاهرة لتثور مماليك أبيه به على الملك الظاهر جقمق، ففعل ذلك، وتزيّا في نزوله في زى بعض صبيان الطّباخين، ونزل بعد الفطر وقت صلاة المغرب إلى القاهرة من باب المدرج «1» وكانت أيام شهر رمضان، فنزل ولم يفطن به أحد، لاشتغال الخدام وغيرهم بالفطر، فلما نزل إلى تحت القلعة لم ير شيئا مما قيل له، فندم على نزوله، وبقى لا يمكنه العود إلى مكانه، فاختفى من وقته هو ومملوكه أزدمر وطواشيه صندل، وطباخه إبراهيم، ووقع له وللناس في اختفائه أمور ومحن، ونكبت جماعة كثيرة من الناس بسببه وضرب جماعة من مماليك أبيه بسببه بالمقارع والكسّارات، ووسّط بعضهم، وقلق الملك الظاهر جقمق بسببه قلقا زائدا.
وضاقت الدنيا على الملك العزيز يوسف، وتفرقت عنه أصحابه إلى أن ظفر به

(16/327)


الملك الظاهر جقمق في أواخر شوال، وكان الذي أمسكه الملك الظاهر يلباى، وكان يوم ذاك أمير عشرة، فأنعم عليه الملك الظاهر جقمق بقرية سرياقوس، زيادة على ما بيده لكونه قبض على الملك العزيز في الليل، وطلع به إلى السلطان، ولما ظفر به الملك الظاهر جقمق حبسه بالدّور السلطانية، ثم بعثه إلى سجن الإسكندرية، فحبس بها إلى أن أطلقه الملك الظاهر خشقدم في أوائل سلطنته، هو والملك المنصور عثمان ابن الملك الظاهر جقمق، وسكن العزيز بدار في الإسكندرية إلى أن مات بها في التاريخ المقدّم ذكره، بعد أن قضى من عمره أياما عجيبة من حبس وقهر وتنغّص عيش- عوّضه الله الجنة بمنه وكرمه.
وتوفّى الشيخ الصالح المعتقد المجذوب عمر الببانى «1» الكردى بسكنه بجامع قيدان «2» على الخليج بالقرب من قناطر الأوز «3» خارج القاهرة، فى ليلة الجمعة سلخ محرم هذه السنة، وصلى عليه ثلاث مرار، مرّة بجامع قيدان حيث كان سكنه ووفاته، ومرّة في الطريق، ومرّة حيث دفن بتربة الملك الظاهر خشقدم في الصحراء، وكانت جنازته مشهودة إلى الغاية، بحيث إن نعشة رفع على الأصابع من كثرة الناس مع هذا المدى البعيد، ومات وقد جاوز الستين، وكان أصله ببانيّا- طائفة من الأكراد- ولد هناك وقدم القاهرة، ونزل صوفيا بخانقاه سعيد السعداء، ودام على ذلك دهرا إلى أن ظنّ منه نوع من الجنون الذي يسميه الفقراء جذبة، فنقله أهل الخانقاه عنهم، فسكن بدار، ثم انتقل إلى جامع قيدان، فدام به سنين كثيرة، وبه اشتهر بالصّلاح، وقصدته الناس للزيارة والتّبرّك بدعائه، مع أنه كان لا يقبل من أحد شيئا إلا نوع الأكل، وكانت جذبته غير مطبقة،

(16/328)


لأنه كان لا يخل بالمكتوبة بل يغتسل في الغالب لكل صلاة صيفا وشتاء، وكان له في مبدأ أمره اشتغال ببلاده، ولم يبلغنى من كراماته شئ، وببان ببائين ثانى «1» الحروف مفتوحين وبعدهما ألف ونون ساكنة- أظنها قبيلة في الأكراد- رحمه الله تعالى.
وتوفّى المقام الشهابى أحمد ابن الملك الأشرف برسباى الدقماقى الظاهرى بدار عمّه زوج أمه الأمير قرقماس الأشرفى أمير سلاح، بخط التبّانة خارج القاهرة، فى يوم السبت سابع شهر ربيع الأول، حضر السلطان الصلاة عليه بمصلاة المؤمنى، ودفن بتربة والده الملك الأشرف برسباى بالصحراء في فسقيّة واحدة، وبموت أحمد هذا انقرضت «2» ذرية الملك الأشرف برسباى لصلبه، لأن أحمد المذكور خلّف بنات صغارا.
وكان سيدى أحمد هذا أصغر أولاد الملك الأشرف، تركه حملا، وأمه أم ولد چاركسية، تزوجها الأمير قرقماس الأشرفى الجلب، وهو الذي تولّى تربيته إلى أن كبر، وماتت أمه، فلم يتركه قرقماس، واستمر عنده، وبهذا المقتضى لم يقدر أحد من السلاطين أن يأخذه منه وبرسله إلى ثغر الإسكندرية، ولما كبر أراد غير واحد من الملوك أن يرسله إلى الإسكندرية عند أخيه الملك العزيز يوسف المقدم ذكر وفاته في هذه السنة، فقال قرقماس: «إذا خرج أحمد هذا إلى جهة من الجهات أخرج أنا أيضا معه» فسكت القائل.
ولا زال الشهابى مقيما بالقاهرة إلى أن صار في حدود الرجال غير أنه لم ينظره أحد قط، ولم يخرج من بيته قط لأمر من الأمور حتى ولا إلى صلاة الجمعة ولا إلى العيدين، بل يسمع الناس به ولا يرونه إلى أن مات، ومع هذا كاء كانت الملوك مطمئنة بإقامته بالقاهرة لحسن طاعة قرقماس للسلاطين، وكان على ما قيل شابا طوالا جميلا فاضلا عارفا، وله محبة في الفضيلة ومطالعة الكتب، ويكتب المنسوب، وكان موته بعد أخيه العزيز من النوادر، فإنه عاش بعد موت أخيه العزيز شهرا وثمانية عشر يوما، والعجيب

(16/329)


أنهما شابان كاملان ماتا في هذه المدّة اليسيرة من غير طاعون، وإنما هى آجال متقاربة، ومحل الظن بالملك، وأظنه برئ من ذلك، اللهم إن كان وقع شيء من غير الملك من جهة النسوة أو غيرها فيمكن- رحمه الله تعالى.
وتوفّى الشيخ جمال الدين عبد الله ابن الشيخ الإمام القدوة المسلك الرّبانى نور الدين أبى الحسن على بن أيّوب «1» الدمشقى الأصل والمولد والمنشأ، المصرى الدار والوفاة، خادم خانقاه سعيد السعداء، فى ليلة الأربعاء سابع عشر شهر ربيع الآخر، وصلّى عليه بعد أذان العصر من يوم الأربعاء المذكور بمصلاة باب النصر، ودفن بمقابر الصوفية.
وكان رحمه الله تعالى له اشتغال وفضيلة مع فصاحة وطلاقة لسان، ومحاضرة حسنة، وكرم نفس، مع العزلة والقناعة، مع التجمل في ملبسه وشأنه، وكان الناس في أمن من يده ولسانه- عفا الله عنه.
وتوفّى الأمير سيف الدين تنم بن عبد الله من عبد الرزاق المؤيدى نائب الشام بها فى يوم الأربعاء ثانى عشرين جمادى الأولى، ودفن بدمشق بعد يومين لأمر اقتضى ذلك، لتعلق كان عليه، ومات وهو في عشر السبعين، وكان چاركسى الجنس، من عتقاء الملك المؤيد شيخ وخاصكيته الصغار، ثم جعله خازندارا صغيرا، ومات الملك المؤيّد وهو على ذلك، ثم صار في دولة الملك الأشرف برسباى رأس نوبة الجمدارية، ثم أمير عشرة، ثم ولى حسبة القاهرة في أوائل دولة الملك الظاهر جقمق، ثم نقل إلى نيابة إسكندرية، ثم عزل وقدم القاهرة، وبعد عزله بمدّة يسيرة ولى نيابة حماة، فلم تطل مدّته بحماة، ونقل إلى نيابة حلب، فلم ينتج أمره في نيابة حلب، ورجم من أهلها، فعزله الملك الظاهر جقمق، واستقدمه إلى مصر أمير مائة ومقدّم ألف بها، ثم صار أمير مجلس، ثم صار في دولة الملك المنصور عثمان أمير سلاح بعد جرباش الكريمى قاشق، بحكم عزله وعجزه، ودام على ذلك إلى أن كانت الفتنة

(16/330)


بين الملك المنصور عثمان وبين أتابكه إينال العلائى، فكان تنم هذا من حزب الملك المنصور بالقلعة، فلما تسلطن الأتابك إينال حبس تنم المذكور بثغر الإسكندرية، إلى أن أطلقه الملك الظاهر خشقدم، وأطلق معه الأمير قانى باى الچاركسى، وسيّرهما إلى ثغر دمياط بطّالين، ثم بعد مدة يسيرة أحضره الظاهر خشقدم إلى القاهرة، وولّاه نيابة دمشق بعد عزل الأمير جانم الأشرفى، فتوجّه تنم إلى دمشق وحكمها، فلم تحمد سيرته وتشكر طريقته، إلى أن مات في التاريخ المذكور.
وكان- رحمه الله تعالى- له مساوئ ومحاسن، وأظن الأول أكثر، ومن غريب ما اتفق في أمره أنه لما كان محبوسا كان رجل من أصحابه ملتفتا إلى أمره ولما يصير من شأنه، فقصد الرجل بعض المشهورين بعلم النّجوم وأرباب التّقويم، فعمل الرجل لتنم المذكور زايرجاة، وأتقن عملها، فخرج له أبيات تشعر بسلطنة تنم المذكور، فجاءنى الرجل وهو مسرور، وحكى لى ذلك، فأجبته بكلام معناه:
إن هؤلاء كذبة، ليس لهم معرفة بهذه الأمور، وكل ما يقولونه كذب وبهتان واختلاق، نصبة على أخذ الأموال، فعظم ذلك عليه، فقلت له: «لى معك شرط، أكتب الأبيات، فإن تسلطن فهو كما تقول، وإن كانت الأخرى فأكتبها في ترجمة وفاته ليكون ذلك عبرة لمن يصدّق كذب هؤلاء الفسقة» فقال: نعم، الأبيات هى «1» [الطويل]
وإنّ الذي في السجن لا بدّ أنه ... يكون مليكا للأنام عزيزا
فأوله تاء وآخر اسمه ... على القطع ميم، كن عليه حريزا
وذلك كهل يا أخىّ وإنه ... لضخم القفا والصدر فاصغ مميزا
ولا بد أن يأتى الزمان بقوة ... ويعلو رقابا للعداة محيزا
فزايرجة في نظمها نطقت بذا ... فكن لى بهذا العلم منك مجيزا
وهذا الذي عمل هذه الزّابرجة الناس مجمعون على معرفته، فما العجب من كذب

(16/331)


هؤلاء الكذبة الجهلة الأوقاح، وإنما العجب من تصديق الناس لكلامهم، وقد رأيت جماعة من ذوى العقول تقول: «صدق فلان في قوله كذا وكذا» فأقول له:
«ما صدق بل حزر مرّة وثانية وثالثة ورابعة فأخطأ، ثم أصاب في الخامسة، وكل أحد يقدر على أن يقول مثل ذلك، لان الخير والشر والولاية والعزل «1» واقع في كل أوان وزمان، وكل منتصب لا بدّ له من العزل أو الموت، فالفرق في هذا المعنى بين العارف والجاهل بباب الحزر واضح لا يحتاج إلى بيان» .
وتوفّى الأمير سيف الدين جانبك بن عبد الله التاجى المؤيدى المعزول عن نيابة حلب، والمرشح لنيابة الشّام بعد موت تنم المقدم ذكره، قبل أن يخرج من حلب بدار سعادتها، فى يوم الخميس ثامن جمادى الآخرة بعد أن مرض أياما يسيرة، وهو في عشر السبعين، وكان چاركسى الجنس، من صغار مماليك الملك المؤيّد شيخ، وصار خاصكيا بعد موته إلى أن صار نائب بيروت في أوائل دولة الملك الظاهر جقمق، ثم نقل إلى نيابة غزة، ثم ولى نيابة صفد، ثم حماة، كل ذلك ببذل المال لاتّضاع قدره، ثم ولى نيابة حلب بعد موت الحاج إينال اليشبكى، فباشر ذلك إلى هذه السنة، فرسم له أن يقدم إلى القاهرة «2» أمير مائة ومقدّم ألف بالديار المصرية، فتهيأ للخروج من حلب فمات الأمير تنم نائب الشام، فأقره الملك الظاهر خشقدم عوضه في نيابة الشام، فمات جانبك هذا قبل أن يصل إليه الخبر بولاية دمشق، وقيل بعد وصول الخبر بيوم، وكان متوسط السّيرة في ولايته، ولم تسبق له رئاسة بالديار المصرية غير الخاصكية، وكان غالب ولايته ببذل المال، والذي يبذل المال لا بد له من الظلم، وقد بلغنا عنه أنه كان يستعمل لقيمة الفقراء «3» الخضراء، والله أعلم بصحة ذلك.

(16/332)


وتوفّى الأمير سيف الدين جانبك بن عبد الله الأبلق أحد أمراء العشرات قتيلا بيد الفرنج في الماغوصة بجزيرة قبرس في إحدى الجمادين، وقد ذكرنا سبب قتله فى «الحوادث» وحاصل الأمر: أنه لما ملك الماغوصة، مدّ يده لأولاد أهل الماغوصة من الفرنج، فعزّ على الفرنج ذلك، لأنه كان أخذها بالأمان: فشكوا ذلك إلى صاحب قبرس جاكم الفرنجى، فنهاه عن ذلك فلم ينته، فوقع بينهم تشاجر أدّى ذلك إلى قتله، ولم ينتطح في ذلك شاتان، وبالجملة إن جانبك المذكور كان غير مشكور السيرة في مدّة إقامته بقبرس- رحمه الله تعالى.
وتوفّى شيخ الإسلام قاضى القضاة علم الدين صالح ابن شيخ الإسلام سراج الدين عمر بن رسلان بن نصير البلقينى الكنانى «1» الشافعى، قاضى قضاة الديار المصرية وعالمها، فى يوم الأربعاء وقت الزوال خامس شهر رجب، بعد أن مرض نحو عشرة أيام، ودفن من الغد بمدرسة والده تجاه داره بحارة بهاء الدين، بعد أن صلى عليه بالجامع الحاكمى، وتوجهوا بجنازته من طريق الجملون العتيق، ودخلوا بها من باب الجامع الذي بالشارع عند باب النصر، وعادوا بنعشه من الباب الذي بالقرب من باب الفتوح، وأعيد إلى مدفنه، وكانت جنازته مشهودة إلى الغاية.
ومات وسنه سبع وسبعون سنة، لأن مولده بعد عشاء ليلة الاثنين ثالث عشر جمادى الأولى سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، وهو من جملة الفقهاء الذين قرأت عليهم القرآن في صغرى، لأن أختى كانت تحت أخيه قاضى القضاة جلال الدين البلقينى، فكنّا بهذا المقتضى كشىء واحد، وكان إماما عالما فقيها، درّس وأفتى سنين كثيرة، وناب في الحكم عن أخيه جلال الدين المذكور، ثم ولى القضاء بعد ذلك غير مرّة، وطالت أيّامه في المنصب، وانتهت إليه رئاسة مذهبه في زمانه، وقد استوعبنا حاله في عدة مواضع من مصنفاتنا، ليس لذكرها في هذا المختصر محل، وفي شهرته ما يغنى عن الإطناب في ذكره هنا- رحمه الله تعالى ورضى عنه.

(16/333)


وتوفّى الأمير سيف الدين كمشبغا بن عبد الله السيفى نخشباى نائب ألبيرة بها فى أواخر شوال، وكان من عتقاء الأمير نخشباى الذي ضرب الملك الظاهر جقمق رقبته، ثم خدم كمشبغا هذا في بيت السلطان، ثم صار خاصكيا، ودام على ذلك دهرا إلى أن سعى في نيابة قلعة حلب فوليها دفعة واحدة بالبذل، فلم تشكر سيرته وعزل، ونقل إلى ألبيرة، فلم تطل مدته بها، ومات في التاريخ المذكور، وكان لا ذات ولا أدوات، ولولا أنه ولى هاتين الولايتين ما ذكرناه هنا.
وتوفّى الشيخ أبو الفضل محمد ابن الشيخ الإمام الفقيه الصالح القدوة المسلك شمس الدين محمد بن حسن المعروف والده بالشيخ الحنفى، فى ليلة السبت ثامن ذى الحجة بجزيرة أروى المعروفة بالوسطانية، بعد مجيئه من الوجه البحرى، وحمل من الجزيرة في باكر نهار «1» السبت المذكور، وصلّى عليه ودفن بزاوية أبيه خارج قنطرة طقزدمر «2» ، وهو في عشر الستين من العمر، وكانت لديه فضيلة، وله اشتغال بحسب الحال، ولكنه لم يكن أمينا على الأوقاف- عفا الله تعالى عنه بمنه وكرمه.
وتوفّى الوزير علاء الدين على ابن الحاج محمد الأهناسى «3» بمكة المشرفة بطالا في حياة أبيه، فى ثانى عشرين ذى القعدة، ومات وهو في أوائل الكهولية، وقد ولى على هذا الوزر والأستادارية والخاص غير مرّة، وعلىّ هذا وأبوه محمد هما من أطراف الناس الأوباش المعدودة رئاستهم من غلطات الدّهر، وقد ذكرنا من أحوال على هذا وولاياته نبذة كبيرة في تاريخنا «الحوادث» تغنى عن العيادة هنا- انتهى- رحمه الله تعالى.
وتوفّى السلطان صارم الدين إبراهيم بن محمد بن على بن قرمان صاحب بلاد الرّوم- قونية، ولا رنده وقيسارية وغيرها- فى أواخر ذى القعدة أو أوائل ذى الحجة

(16/334)


وقد ناهز الستين من العمر، بعد أن ولى بلاد قرمان أكثر من خمس وأربعين سنة، وتولى بعده ابنه إسحاق، وفي لغتهم إسحاق أيسق، ووقع الخلف بسبب ولاية إسحاق بين أولاده.
وبنو قرمان هؤلاء من أصلاء الملوك كابرا عن كابر، أبا عن جد فصاعدا إلى السلطان علاء الدين السّلجوقى، وقيل إن بنى قرمان هؤلاء من ذرية بايندر أحد أكابر أمراء جانكزخان ملك التّرك الأعظم.
وتوفّى القاضى شمس الدين محمد ابن الشيخ بدر الدين محمد بن السّحماوى «1» الشافعى أحد أعيان موقعى الدست الشريف بالديار المصرية، فى ليلة السبت خامس عشر ذى الحجة، ودفن صبيحة يوم السبت المذكور عن اثنتين وثمانين سنة، وكانت لديه فضيلة وعنده حشمة وأدب وتواضع، وباشر التوقيع أزيد من خمسين سنة، وخدم بالتوقيع عند جماعة من أعيان الأمراء، آخرهم الملك الظاهر خشقدم إلى أن تسلطن- رحمه الله تعالى.
وتوفّى الأمير سيف الدين طوخ بن عبد الله الجكمى الرأس نوبة الثانى- كان- وأحد أمراء الطبلخانات بطالا بعد ما كفّ بصره، فى ليلة الأربعاء تاسع عشر ذى الحجة، ودفن من الغد بالصحراء، وقد زاد سنه على الثمانين ولم يحج حجة الإسلام، وكان أصله من مماليك جكم المتغلب على حلب، وكان من مساوئ الدهر لا يصلح لدين ولا لدنيا، وكان مسرفا على نفسه، ما أظنه ترك الشرب إلا في مرض موته، ولم يحج حجة الإسلام مع طول عمره وسعة ماله- ولا قوة إلا بالله العلى العظيم، اللهم وفقنا لما تحب وترضى يا رب العالمين.
وتوفّى الأمير سيف الدين بردبك بن عبد الله الأشرفى الدّوادار الثانى- كان-، قتيلا بيد العربان بالقرب من منزلة خليص «2» فى عوده من الحج في يوم

(16/335)


الاثنين سادس عشر ذى الحجة، وقد ناهز الخمسين أو جاوزها، وكان أصله من سبى قبرس قبيل سنة ثلاثين وثمانمائة مراهقا، وملكه الملك الأشرف إينال أيّام إمرته، وربّاه وأعتقه وجعله خازنداره، وزوّجه بابنته الكبرى، ثم جعله دواداره، ولما تسلطن أمّره وجعله دوادارا ثالثا ثم جعله دوادارا ثانيا، ونالته السعادة، وعظم في الدولة وقصده الناس لقضاء حوائجهم، وشاع ذكره وبعد صيته، وحمدت سيرته، وعمّر الجوامع في عدّة بلاد، وله مآثر وذكر في الصدقات والإعطاء، ودام على الدّوادارية إلى أن نكب ابن أستاذه السلطان الملك المؤيّد أحمد ابن الملك الأشرف إينال، وخلع من السلطنة، وأمسك بردبك هذا وصودر، وأخذ منه نحو من مائتى ألف دينار، ووقع له أمور.
وبالجملة إنه كان لا بأس به لولا محبته لجمع المال من أى وجه كان- رحمه الله تعالى.
وتوفّى الشيخ الفقيه العالم المقرئ تاج الدين محمد بن أحمد الفطويسى «1» الإسكندرى المالكى إمام السلطان، ومدرس الحديث بالظاهرية العتيقة، مات في نصف ذى القعدة، ومولده سنة خمس عشرة وثمانمائة، واشتغل كثيرا في عدّة علوم، لكنه لم يكن ماهرا فى غير القراءات، وحصلت له وجاهة آخر عمره.
وتوفّى الأمير سيف الدين سودون بن عبد الله اليشبكى التركمانى المعروف بسودون قندورة، أحد مقدمى الألوف بدمشق وأمير حاج المحمل الشامى، بعد خروجه من المدينة الشريفة إلى جهة الشام، فى أواخر ذى الحجة، أو في أوائل المحرم، وقد زاد سنه على الستين، وكان من مماليك الأمير يشبك الجكمى الأمير آخور، وبقى بعد أستاذه من جملة مماليك السلطان، ودام على ذلك دهرا طويلا لا يلتفت إليه، إلى أن تحرك له بعيض سعد، وانتمى للصاحب جمال الدين ناظر الخاص ابن كاتب جكم بواسطة خچداشه جانبك اليشبكى والى القاهرة، فولى بعض قلاع البلاد الشامية:

(16/336)


قلعة صفد، وقلعة الشام، ثم تنقل في البلاد بالبذل إلى أن صار من أمره ما كان، ولم يكن سودون هذا من أعيان الأمراء لتشكر أفعاله أو تذم.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم ستة أذرع وخمسة عشر إصبعا، مبلغ الزيادة تسعة عشر ذراعا وثلاثة عشر إصبعا.

(16/337)


[ما وقع من الحوادث سنة 869]
السنة الخامسة من سلطنة الملك الظاهر خشقدم على مصر وهى سنة تسع وستين وثمانمائة:
فيها توفّى الأمير سيف الدين قانى باى طاز بن عبد الله البكتمرى نائب ألبيرة بها، فى أواخر شهر ربيع الأول أو أوائل شهر ربيع الآخر، وهو في الثمانين تخمينا، وكان أصله من مماليك بكتمر جلّق الظاهرى نائب الشام، وصار بعد موت أستاذه من مماليك السلطان، ثم نقل في أواخر عمره إلى نيابة قلعة صفد، ثم إلى نيابة ألبيرة، إلى أن مات، وهو من مقولة سودون تركمان المقدم ذكره في السنة الخالية.
وتوفّى الأمير موسى [بن محمد بن موسى «1» ] صاحب حلى ابن يعقوب «2» من بلاد اليمن في شهر ربيع الآخر بمدينة حلى ابن يعقوب، وكان معدودا من أعيان الأمراء ومن ذوى البيوت في الممالك، ولجده موسى مع الشريف حسن بن عجلان صاحب مكّة وقائع ذكرناها في ترجمة حسن المذكور في تاريخنا «المنهل الصافى والمستوفى بعد الوافى» .
وتوفّى الشهاب بديد بن شكر «3» وزير الشريف محمد بن بركات صاحب مكّة، فى ليلة السبت السابع من جمادى الأولى بوادى الآبار من عمل مكة، وحمل بقية ليلته على الرقاب إلى بطن مكة، فغسّل بالبيت الذي أنشأه الشريف محمد بن بركات بمكة، وصلى عليه صلاة الصبح بالحرم، ودفن بالمعلاة على والده، وكانت جنازته مشهودة،

(16/338)


وأسف الناس عليه؛ لأنه كان مقصودا للخير، ومن بقية الشيوخ والأكابر المشار إليهم، وبديد بباء موحدة ثانية الحروف مضمومة وبعدها دال مهملة مفتوحة، ثم ياء آخر الحروف ثم دال ساكنتين.
وتوفّى القاضى بدر الدين محمد ابن قاضى القضاة شيخ الإسلام شهاب الدين أحمد ابن على بن حجر «1» العسقلانى الشافعى في يوم الأربعاء سادس عشر جمادى الآخرة وقد جاوز الخمسين من العمر، ولم يخلف قاضى القضاة ولدا ذكرا غيره ولا أنثى، وبموته انقطع نسل ابن حجر من الذكور «2» .
وتوفّى الأمير سيف الدين جانبك بن عبد الله الناصرى نائب طرابلس بها في يوم الأربعاء حادى عشرين شهر رجب، وقد جاوز السبعين من العمر، وكان من صغار مماليك الملك الناصر فرج وعتقائه، ثم خدم بعد موت أستاذه عند خچداشه الأمير برسباى حاجب حجاب دمشق، وبخدمته عرف بين الناس، ودام بخدمته إلى أن خرج الأمير إينال الجكمى نائب الشام على الملك الظاهر جقمق وانهزم، فقبض جانبك عليه، وقد ذكرنا كيفية القبض عليه في غير موضع من مصنفاتنا، ليس لذكرها في هذا المختصر محل، فأنعم عليه الملك الظاهر جقمق بإمرة طبلخاناه بدمشق، ثم تنقل بعد ذلك بعدّة وظائف وأعمال غالبها بالبذل، إلى أن مات رحمه الله تعالى.
وتوفى الأمير عجل بن نعير أمير عرب آل فضل «3» بالبلاد الشامية، وهو بطّال بالقرب من أعمال حلب.
وتوفى السلطان خليل بن إبراهيم «4» صاحب مملكة شماخى وما والاها في السنة

(16/339)


الخالية، فيما أظن بمدينة شماخى «1» ولم تحرّر وفاته إلا في هذه السنة لبعد المسافة، ومات بعد أن ملك نحو أربعين سنة، وكان من أجلّ ملوك الشرق قدرا وأحسنهم سيرة، وأجودهم بضاعة وأكثرهم سياسة، وأحزمهم رأيا، وهو آخر من كان بقى من أكابر الملوك، وهو أحد من أوصاه السلطان مرادبك بن محمد بن عثمان ملك الرّوم على ولده محمد صاحب الروم في زماننا هذا، وقد ذكرنا أمره محررا فى «الحوادث» - رحمه الله تعالى.
وتوفّى الوزير شمس الدين محمد البباوى، غريقا ببحر النيل بساحل بولاق بالقرب من فم الخور، وقت المغرب من يوم الأربعاء ثامن عشرين ذى الحجة، وهو في الكهولية؛ وكان سبب موته أنه توجه في مركب عقيبة «2» إلى ناحية طناش بالجيزية أو غيرها، وعاد فغرق من شردريح وافى مركبه قلبتها، ولله الحمد.
وكان اللباوى هذا أصله من بباالكبرى بالوجه القبلى، كان بها خفيرا، وقيل راعيا، وقيل غير ذلك، وقدم القاهرة، وصار بخدمة بعض الطباخين مرقدارا، ثم صار صبيا عند بعض معاملى اللحم، ولا زال ينتقل في هذه الصناعات إلى أن صار معاملا، وحسنت حاله، وركب حمارا، ولا زال أمره ينمو في صناعته إلى أن أثرى، وحصّل مالا كثيرا، وصار معوّل الوزراء عليه في حمل اللحم المرتب للمماليك السلطانية، وبقى يركب بغلا بنصف رحل بسلخ جلد خروف «3» ، ويلبس قميصا أزرق كأكابر المعاملين.
وسمع الملك الظاهر خشقدم بسعة ماله- وكان من الخسّة والطمع في محل كبير- فاحتال على أخذ ماله بأن ولّاه نظر الدّولة في أوائل ذى الحجة من سنة سبع وستين، ولبس البباوى العمامة والفرجيّة والخفّ والمهماز، وتزيّا بزى الكتاب، وترك زىّ المعاملين «4» ، فشقّ ذلك على الناس قاطبة، وعدّوا ذلك من قبائح الملك الظاهر خشقدم،

(16/340)


لأن البباوى هذا مع انحطاط قدره وجهله ووضاعته وسفالة أصله، مع عدم معرفته بالكتابة والقراءة، فإنه كان أمّيّا لا ينطق بحرف من حروف الهجاء، إلا إن كان تلقينا، ومع هذا كله كان غير لائق في زيّه، فباشر نظر الدّولة مدّة يسيرة، واختفى الأمير زين الدين الأستادار وولى الأستادارية من بعده المجد بن البقرى، وشغر الوزر عنه، وطلب السلطان البباوىّ هذا وولّاه الوزر في يوم الثلاثاء سابع عشر شهر ربيع الأول من سنة ثمان وستين وثمانمائة، وصار وزير الديار المصرية، فلم نعلم بأقبح حادثة وقعت في الديار المصرية قديما وحديثا من ولاية البباوى هذا للوزر؛ لأنه كان أحد الأعوام الأوباش الأطراف السّوقة، ووثب على هذه الوظيفة العظيمة التي هى أجلّ وظائف الدنيا بعد الخلافة شرقا وغربا، وقد وليها قديما جماعة كثيرة بالديار المصرية وغيرها من سادات الناس من زمن عبد الملك بن مروان إلى أيام الملك الظاهر بيبرس البندقدارى، وهى إلى الآن أرفع الوظائف قدرا في سائر بلاد الله، وفي كل قطر من الأقطار إلا الديار المصرية فإنه انحطّ بها قدرها، ووليها من الأوباش وصغار الكتبة جماعة من أوائل القرن التاسع إلى يومنا هذا، فالذى وليها في عصرنا هذا ممن لا يصلح لولايتها ابن النجّار، وعلى بن الأهناسى البرددار، وأبوه الحاج محمد المقدّم [ذكره] «1» ، ويونس بن جربغا دوادار فيروز النّوروزى، وغيرهم من هذه المقولة، ومع هذا كله بلاء أعظم من بلاء، وأعظم الكل ولاية البباوى هذه، فإن كل واحد ممن ذكرنا من الذين ولّوا الوزر كان لكل واحد ميزة في نفسه، وقد تقدّم له نوع من أنواع الخدم والمباشرات، إلا البباوى هذا فإنه لم يتقدّم له نوع من أنواع الرئاسة، ومع هذه المساوئ باشر بظلم وعسف وعدم حشمة وقلة أدب مع الأكابر والأعيان، وساءت سيرته، وكثر الدعاء عليه، إلى أن أخذه الله تعالى أخذ عزيز مقتدر، وأراح الله المسلمين منه؛ وقد هجاه الشعراء بأهاج كثيرة، ذكرنا بعضها في تاريخنا «الحوادث» ، وأنا أستغفر الله من لفظة وقعت منى في ترجمته، فإنى قلت في آخر ترجمته: ما ولى الوزر في الدنيا أحد أخسّ

(16/341)


من البباوى هذا، ولا يليها أيضا أحد قبح منه إلى يوم القيامة، فوليها بعد مدة شخص من غلمانه يقال له قاسم جغيتة، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم سبعة أذرع سواء، مبلغ الزيادة لم يتحرّر، نذكره في السنة الآتية عند انتهاء النيل.

(16/342)


[ما وقع من الحوادث سنة 870]
السنة السادسة من سلطنة الملك الظاهر خشقدم على مصر وهى سنة سبعين وثمانمائة.
فيها توفّى الأمير زين الدين «1» قراجا بن عبد الله العمرى الناصرى أحد أمراء الألوف بدمشق بها في المحرم، وقد ناهز الثمانين من العمر، وهو من مماليك الناصر فرج بن برقوق، وطالت أيامه في الجندية إلى أن استقرّ به الملك الظاهر جقمق والى القاهرة، ثم تنقّل بعد ذلك في عدّة ولايات إلى أن صار أحد أمراء الألوف بدمشق، إلى أن مات في هذه السنة، وكان من المهملين المسرفين على أنفسهم مع شهرة بالشجاعة.
وتوفّى الأمير إسحاق بن إبراهيم بن قرمان ملك الروم، غريبا عن بلاده بديار بكر عند حسن بك بن قرايلك في أوائل المحرم، بعد أن وقع له أمور وحروب لما ملك الروم وخالفه إخوته، وقد ذكرنا أمره في تاريخنا «الحوادث» مفصلا.
وتوفّى الأمير سيف الدين جانم بن عبد الله المؤيّدى، المعروف بحرامى شكل، أحد أمراء العشرات ورأس نوبة، بعد مرض طويل وعمر طويل أيضا، وكان من أوباش مماليك الملك المؤيّد شيخ، وطالت أيامه في الخمول والفقر إلى أن جعله الملك الظاهر جقمق بوّابا، وأنعم عليه بإقطاع كبير، فحسن حاله، وامتنع عن الشحاتة من الأكابر، ودام على ذلك إلى أن تسلطن الملك الأشرف إينال، فطلب منه إمرة، فلم يعطه شيئا، فقام بين يديه في الملأ وقال: «إما توسطنى أو تعطينى إمرة» ، فضحك الناس وشفعوا له حتى أعطاه إمرة عشرة، ثم صار من جملة رءوس النوب،

(16/343)


ودام على ذلك إلى أن مات، وكان له حكايات في البخل والجنون والنذالة نستحى من ذكرها، وبالجملة إنه كان بوجوده عارا على جنس بنى آدم.
وتوفّى القاضى بدر الدين حسن الرهونى المالكى «1» أحد نوّاب الحكم المالكية بالقاهرة، فى يوم الثلاثاء أوّل شهر ربيع الأوّل، وقد قارب الستين من العمر، وكانت لديه فضيلة، إلا أنه كان متهوّرا في أحكامه.
وتوفى القاضى نور الدين على الشيشينى الحنبلى «2» ، أحد نوّاب الحكم الحنابلة فى صفر، وقد جاوز الكهولية، وكان فاضلا معدودا من فقهاء الحنابلة.
وتوفى القاضى بدر الدين محمد ابن القاضى ناصر الدين محمد، المعروف بابن المخلّطة «3» ، المالكى السكندرى الأصل، المصرى المولد والمنشأ والوفاة، فى ليلة السبت تاسع عشر ربيع الأول، ودفن من الغد بالصحراء، وهو في عنفوان الشبيبة، وكان ولى نيابة الحكم بالقاهرة، ثم ولى قضاء الإسكندرية، وحسنت سيرته، إلى أن مرض وقدم القاهرة مريضا، ولازم الفراش إلى أن مات، وكان فاضلا عالما فقيها أديبا، حسنة من حسنات الدهر- رحمه الله تعالى.
وتوفّى الشيخ المعتقد إبراهيم الغنام «4» بداره بالحسينية خارج القاهرة، فى يوم الخميس مستهل ربيع الآخر، وصلى عليه برحبة بالقرب من داره، ودفن بها، وكان من المعمرين، وللناس فيه اعتقاد حسن، وكان يبيع لبن المعز، يسوقها أمامه بالطرقات على عادة باعة «5» اللبن، وكان مشهورا بالصلاح.
وتوفى الأمير سيف الدين جانبك بن عبد الله من أمير الأشرفى المعروف

(16/344)


بالظريف «1» ، محبوسا بقلعة صفد في هذه السّنة، وقد جاوز الكهولية، وكان من صغار مماليك الملك الأشرف برسباى، وصار خاصكيا في دولة الملك الظاهر جقمق، ثم خازندارا صغيرا «2» ثم دوادارا صغيرا «3» ثم تأمّر عشرة، ثم صار خازندارا كبيرا في دولة الملك الأشرف إينال، ثم صار في دولة الملك الظاهر خشقدم دوادارا ثانيا بإمرة مائة وتقدمة ألف، فلم تطل أيامه فيها، وقبض عليه مع من قبض عليه من خچداشيته الأشرفية، وحبس سنين إلى أن مات في السجن، وكان شابا خفيفا، وفيه طيش مع تكبّر وتعاظم وبخل زائد، لكنه كان عارفا بأنواع الملاعيب كالرّمح والبرجاس وغير ذلك، وعلى كل حال كانت مساوئه أكثر من محاسنه.
وتوفّى الأمير سيف الدين ملك أصلان بن سليمان بن ناصر الدين بك بن دلغادر نائب أبلستين قتيلا بها بيد فداوى في صلاة الجمعة بالجامع، وثب عليه الفداوى وضربه بسكين كان في يده إلى أن قتله، وقتل الفداوى في الوقت، وقيل إن الفداوى كان أرسله الملك الظاهر خشقدم، وحضر سيفه إلى الديار المصرية في عاشر ربيع الآخر، وولى بعده شاه بضع أخوه، ووقع بعد ذلك أمور وفتن قائمة إلى يومنا هذا.
وتوفّى الشيخ الإمام الخطيب البليغ الأديب المفنن برهان الدين إبراهيم ابن قاضى القضاة شهاب الدين أحمد بن ناصر بن خليفة بن فرج بن عبد الله بن عبد الرحمن «4» الباعونى الأصل، الدّمشقى المولد والمنشأ والوفاة، فى يوم الخميس ربع عشرين شهر ربيع الأوّل، ودفن من يومه، وقد عمّر، ومولده في سابع عشرين شهر رمضان سنة سبع وسبعين وسبعمائة، ونشأ بدمشق، وطلب العلم، وقرأ على علماء عصره إلى أن برع في عدّة فنون من فقه وعربية وأدب، وغلب عليه الأدبيات والشعر، وله نظم رائق ونثر فائق، وقفت على عدّة كتب من مكاتباته تدلّ على فضل كبير

(16/345)


وعلم غزير، واتساع باع في الأدب وأنواعه، وله رسالة عاطلة من النقط، أبدع فيها وأتى بغرائب، مع عدم التكلّف، وخمّس ألفية ابن مالك في النحو، وله غير ذلك من المصنفات، وولى خطابة دمشق، ومشيخة الباسطية، وسئل بقضاء دمشق فامتنع، ووليها أخوه القاضى جمال الدين يوسف الباغونى، ولم يزل الشيخ برهان الدين على أحسن طريقة إلى أن مات- رحمه الله تعالى.
وتوفّيت خوند شكرباى الناصرية الأحمدية زوجة السلطان الملك الظاهر خشقدم فى يوم الأربعاء سادس جمادى الأولى، وصلى عليها تحت طبقة الزّمام تجاه باب الستارة، ودفنت بتربة زوجها السلطان الملك الظاهر خشقدم التي أنشأها بالصحراء، وأنزلت من القلعة، ولم يغطّ نعشها ببخشاناه «1» على عادة الخوندات، بل جعل على نعشها خرقة مرقعة للفقراء، وجعل أمام نعشها أعلام أحمدية «2» ، وكان ذلك بوصية منها، وكان أصلها چاركسية الجنس، من عتقاء الملك الناصر فرج ابن الملك الظاهر برقوق، وتزوجت بعد موت أستاذها بالأمير أبرك الجكمى، واستولدها أبرك أولادا، منهم: خاتون أم الشهابى أحمد ابن العينى، وماتت خاتون المذكورة في سلطنة الملك الظاهر خشقدم، ولم يتزوّج السلطان الملك الظاهر غيرها إلا بعدها.
وتوفّى الأمير سيف الدين كسباى بن عبد الله الششمانى الناصرى ثم المؤيدى، أحد أمراء الطبلخانات في ليلة الاثنين ثالث «3» جمادى الآخرة، ودفن بتربته التي أنشأها خارج القاهرة، وكان أصله من مماليك الملك الناصر فرج، ثم ملكه الملك المؤيّد شيخ وأعتقه، وصار خاصكيا بعد موته ودام على ذلك إلى أن جعله الملك الظاهر جقمق دوادارا صغيرا، ووقع له معه أمور ومحن، إلى أن صار أميرا في دولة الملك

(16/346)


الأشرف إينال، ثم صار من أمراء الطبلخانات في دولة خچداشه الملك الظاهر خشقدم إلى أن مات في التاريخ المذكور، وكان رأسا في فنون الفروسية، عارفا بأنواع الملاعيب، كالرمح والنشاب والبرجاس وغير ذلك، لكنه كان عنده خفة وطيش، مع سلامة باطن- رحمه الله تعالى وعفا عنه.
وتوفّى القاضى فخر الدين محمد الأسيوطى الشافعى «1» أحد نواب الحكم الشافعية، فى يوم الخميس ثالث عشر جمادى الآخرة، وسنه أزيد من سبعين سنة، وقد ناب فى الحكم أزيد من أربعين سنة، على أنه كان قليل العلم والعمل- عفا الله عنه.
وتوفّى الشيخ الواعظ المذكّر أبو العباس أحمد بن عبد الله المقدسىّ «2» الشافعى الواعظ، بعد مرض طويل، بالقاهرة في ليلة الأربعاء سادس عشرين جمادى الآخرة، ودفن من الغد بالقرافة الصّغرى، ومولده في سنة ثلاث عشرة وثمانمائة، هكذا ذكر لى عند ما استجارنى، وكان له اشتغال قديم، وغلب عليه الوعظ والتّذكير، وعمل المواعيد «3» ، وكان لتذكيره تأثير في القلوب، وعليه أنس، وله باع واسع فى الحفظ للأحاديث والتفسير وكرامات الصالحين، وكان له في التذكير القبول الزائد من كل أحد، وأثرى من ذلك وجمع المال الكثير، والناس فيه على قسمين، ما بين معتقد ومنتقد، والظن الثانى أكثر، وكنت أنا من القسم الأول، لولا ما وقع له مع الحافظ العلّامة برهان الدين البقاعى ما وقع، وحكايته معه مشهورة أضربت عن ذكرها لقرب عهد الناس منها.
وتوفّى الخادم الرئيس صفىّ الدين جوهر بن عبد الله الأرغون شاوى «4»

(16/347)


الظاهرى، الساقى الحبشى الجنس، رأس نوبة الجمدارية، فى ليلة الخميس عاشر شعبان، ودفن من الغد بتربة الأمير قانى باى الچاركسى، وحضر السلطان الصلاة عليه بمصلّاة المؤمنى، ومات وهو في عشر الستين، ولم يخلف بعده مثله دينا وأدبا وحشمة ورئاسة وتواضعا وعقلا، وبالجملة إنه كان من حسنات الدّهر- رحمه الله تعالى.
وتوفّى الأمير سيف الدين سودون بن عبد الله المؤيّدى الفقيه الأشقر، أحد أمراء العشرات، بعد مرض طويل، فى يوم الخميس سابع شهر رمضان، وكان من عتقاء الملك المؤيّد شيخ، وتأمّر في دولة الملك المؤيّد أحمد ابن الملك الأشرف إينال- فيما أظن- ودام على ذلك إلى أن مات، وكان فقيها ديّنا خيرا فاضلا- رحمه الله تعالى.
وتوفّى الأديب الفاضل أبو العباس أحمد بن أبى السعود إسماعيل بن إبراهيم بن موسى بن سعيد بن على المنوفى «1» الشافعى، المعروف بابن أبى السعود الشاعر المشهور بالمدينة الشريفة في خامس عشرين شهر رمضان، ومولده في شوال سنة أربع عشرة وثمانمائة بمنوف العليا، ومن شعره في مليح منجم: [الوافر]
لمحبوبى المنجّم قلت يوما ... فدتك النّفس يا بدر الكمال
برانى الهجر، فاكشف عن ضميرى ... فهل يوما أرى بدرى وفى لى
وقد ذكرنا من شعره قطعة جيدة في «الحوادث» وغيرها.
وتوفّى القاضى جلال الدين عبد الرحمن ابن الشيخ نور الدين على ابن العلّامة سراج الدين عمر بن الملقّن «2» الشافعى، فى صبيحة يوم الجمعة ثامن شوال، وقد جاوز الثمانين بأيام قليلة، ومات فجأة، وكان من بيت علم وفضل، وناب في الحكم سنين، وولى

(16/348)


عدّة وظائف دينية، ودرّس بعدّة مدارس، وكان مشكور السّيرة ديّنا عاقلا، مليح الوجه حسن السّمت- رحمه الله تعالى.
وتوفّى الشيخ زين الدين خالد بن أيوب بن خالد «1» ، شيخ خانقاه سعيد السعداء، فى يوم الأربعاء ثالث عشر شوال، بعد مرض طويل، وولى المسجد بعده الشيخ تقي الدين عبد الرحمن القلقشندى- رحمه الله تعالى.
وتوفّى الأمير الوزير الصاحب شمس الدين منصور بن الصفى «2» قتيلا، ضربت رقبته تجاه الصالحية بحكم قاضى القضاة حسام الدين بن حريز المالكى، فى يوم الأربعاء العشرين من شوال، وسنّه دون الأربعين سنة، بعد أن قاسى شدائد من الضرب والعصر والمصادرات والسجن «3» ، لتحامل أهل الدولة عليه، وقد سقنا حكايته بتطويل في تاريخنا «الحوادث» - رحمه الله تعالى.
وتوفّى الشيخ شمس الدين محمد بن على بن محمد المعروف بابن الفألاتى «4» الفقيه الشافعى، فى يوم الجمعة رابع عشر ذى القعدة، وهو في أوائل الكهولية، والفألاتى «5» كانت صناعة أبيه، وكان أبوه وأعمامه ثلاثة إخوة، كان عمه الواحد أديبا حكما لأدباء العوام، عاميا، يجلس على الطرقات في وسط حلقة، وعمه الآخر في قيد الحياة بتكسب بالتنجيم بالرّمل، وكان والد شمس الدين حكويّا يجلس على الطرقات، وعليه حلقة كعادة العوام، وكان مع هذا حكما للمصارعين، ونشأ شمس الدين هذا على هيئة العوام، إلا أنه حفظ القرآن العزيز، فلما كبر حبّب إليه الاشتغال بالعلم، فاشتغل على جماعة من العلماء في فنون كثيرة، وعدّ من أعيان الفقهاء- رحمه الله تعالى.
وتوفّى الأمير سيف الدين تغرى برمش السيفى قراخجا الحسنى، أحد أمراء

(16/349)


العشرات ورأس نوبة، فى ليلة الخميس ثامن عشر ذى الحجة، وقد ناهز الستين أو جاوزها بقليل، ودفن من الغد، وحضر السلطان الصلاة عليه بمصلاة المؤمنى- رحمه الله تعالى.
وتوفّى بير بضع بن جهان شاه بن قرايوسف بن قرا محمد، التركمانى الأصل، صاحب بغداد والعراق، قتيلا بسيف والده جهان شاه، بعد أن حصره ببغداد نحو ثلاث سنين، وكان كآبائه وأجداده سيىء الاعتقاد، محلول العقيدة، راحت روحه إلى سقر، ويلحق الله به من بقى من أقاربه.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم سبعة أذرع ونصف، مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وستة أصابع.

(16/350)


[ما وقع من الحوادث سنة 871]
السنة السابعة من سلطنة الملك الظاهر خشقدم على مصر وهى سنة إحدى وسبعين وثمانمائة:
فيها توفّى أتابك العساكر بالديار المصرية الأمير قانم من صفر خجا المؤيّدى، المعروف بالتاجر، فجاءة في ليلة الاثنين حادى عشر صفر، وسنه نحو السبعين، وكان أصله من مماليك المؤيّد شيخ وأعتقه، وصار خاصّكيّا في دولة ولده المظفر أحمد ابن شيخ، ولا زال على ذلك إلى أن تأمّر عشرة في دولة الملك العزيز يوسف ابن السلطان الملك الأشرف برسباى. واستمرّ في دولة الملك الظاهر جقمق كلها على ذلك، وحجّ أمير الركب الأوّل غير مرّة، وتوجّه في الرّسليّة إلى جهان شاه ابن قرايوسف ملك الشرق، ثم إلى خوندكار بن عثمان متملك بلاد الرّوم، ثم عاد ودام بمصر إلى أن صار في دولة الملك الأشرف إينال من جملة أمراء الطبلخانات، ثم صار أمير مائة ومقدّم ألف بعد موت خيربك النّوروزى المؤيّدى الأجرود، ثم صار في دولة الملك المؤيّد أحمد بن إينال رأس نوبة النّوب، بعد الأمير قرقماس الأشرفى، بحكم انتقاله إلى إمرة مجلس، واستمرّ على ذلك إلى أن نقله خچداشه الملك الظاهر خشقدم إلى إمرة مجلس، بعد انتقال قرقماس أيضا إلى إمرة سلاح، بعد انتقال الأمير جرباش إلى الأتابكية، عوضا عن الملك الظاهر خشقدم، وعظم قانم في دولة خچداشه خشقدم المذكور، ونالته السعادة زيادة على ما كان أولا، ودام على ذلك إلى أن نقله إلى الأتابكية بعد إخراج الأتابك جرباش المحمدى إلى ثغر دمياط بطّالا، فدام على الأتابكية إلى أن مات فجاءة في التاريخ المقدم ذكره، وكان من أجلّ الملوك وأعظمهم، لولا تكبّر كان فيه- رحمه الله تعالى وعفا عنه.

(16/351)


وتوفّى الأمير سيف الدين برسباى بن عبد الله البجاسى نائب الشام بها في يوم الاثنين ثامن عشر صفر، وقد زاد سنه على الستين، بعد مرض طويل، وكان من عتقاء الأمير تنبك البجاسى نائب دمشق، الذي كان خرج على الملك الأشرف برسباى وقتل في سنة سبع وعشرين وثمانمائة، فكان بين وفاة برسباى هذا ووفاة أستاذه تنبك نحو من أربع وأربعين سنة، ولما قتل أستاذ برسباى هذا تنقّل في الخدم حتى صار من جملة المماليك السلطانية، وترقى إلى أن صار أمير عشرة في دولة الملك الظاهر جقمق، ثم جعله نائب الإسكندرية، ثم صار في دولة الأشرف إينال أمير مائة ومقدّم ألف.
ثم لما مات حاجب الحجاب جانبك القرمانى الظاهرى في شوال سنة إحدى وستين جعل هذا موضعه حاجب الحجاب، ثم نقل إلى الأمير آخورية الكبرى في سنة أربع وستين بعد موت يونس العلائى، وذلك بعد أن صاهر السلطان وتزوج بنت الأمير بردبك الدوادار الثانى، وهى بنت بنت السلطان، فلم يكن مكافأة برسباى هذا للأشرف إينال على ما خوّله من النعم إلا أنه لمّا خرج القوم على ولده الملك المؤيّد أحمد بن إينال غدره ومال إلى الملك الظاهر خشقدم، فعابه كلّ أحد على ذلك، وليت الملك الظاهر خشقدم عرف له ذلك، بل أخرجه بعد قليل إلى نيابة طرابلس، ثم تنقّل بعد نيابة طرابلس إلى نيابة الشام ببذل المال، ولم يتهنأ بدمشق بل مرض وطال مرضه إلى أن مات، وكان رجلا عاقلا عفيفا عن المنكرات والفروج، ولم يعفّ عن الأموال، وكان بخيلا جدا- عفا الله عنه.
وتوفى شيخ مكة ومحدّثها ومسندها تقىّ الدين أبو الفضل محمد بن نجم الدين محمد ابن أبى الخير محمد بن عبد الله بن فهد الهاشمى «1» المكى الشافعى، بمكة في يوم السبت سابع شهر ربيع الأول؛ ومولده بأصفون الجبلين «2» من صعيد مصر، فى يوم الثلاثاء

(16/352)


خامس شهر ربيع الأول سنة سبع وثمانين وسبعمائة، وقد استوعبنا ترجمته في تاريخنا «الحوادث» .
وتوفى الأمير سيف الدين قانم بن عبد الله الأشرفى؛ المعروف بقانم نعجة، أحد أمراء العشرات ورأس نوبة، شبه الفجاءة، فى ليلة الأحد سادس عشر جمادى الأولى، وقد جاوز الستين، وكان من مماليك الملك الأشرف برسباى وتأمّر في دولة الملك الأشرف إينال إلى أن مات، وكان مسرفا على نفسه منهمكا في اللذات، وعنده بطش وظلم.
وتوفّى الأمير سيف الدين تمراز بن عبد الله الإينالى الأشرفى الدّوادار الثانى- كان- مقتولا بسيف الشرع بقلعة المرقب، فى يوم السبت تاسع عشر جمادى الأولى، ومات وقد زاد سنّه على الستين، وحكاية تمراز هذا طويلة، وما وقع له من الحبس والنفى والمحن يطول الشرح في ذكره، استوعبنا غالب أموره في وقتها في تاريخنا «حوادث الدهور في مدى الأيام والشهور» وبالجملة إن تمراز هذا كان من مساوئ الدهر لفظا ومعنى- عفا الله تعالى عنه.
وتوفّى الخواجا التاجر بدر الدين حسن الطّاهر اليمنى الأصل والمولد والمنشأ، المكى الدار والوفاة، شاه بندر جدّة، بمكة في جمادى الأولى، وقد عمّر وشاخ، وانتهت إليه رئاسة التجار بمكة في كثرة المال والبخل، وقيل إنه كان زيدىّ المذهب مع جهل مفرط، وبعد عن كل علم وفن.
وتوفّى قاضى القضاة شرف الدين يحيى ابن سعد الدين محمد بن محمد المناوى «1» الشافعى، قاضى قضاة الديار المصرية وعالمها- معزولا- فى ليلة الثلاثاء ثالث عشر جمادى الآخرة، ودفن من الغد بالقرافة الصغرى، وقد زاد سنه على السبعين، وحضر السلطان الصلاة عليه بمصلّاة المؤمنى، وكانت جنازته مشهودة، وكثر

(16/353)


أسف الناس عليه، لغزير فضله ودينه وحسن سيرته، ومات ولم يخلف بعده مثله- رحمه الله تعالى.
وتوفّى القاضى زين الدين عبد الغفار بن مخلوف السمديسى المالكى «1» ، أحد نواب الحكم بالديار المصرية، وهو في أواخر الكهولية، وكان معدودا من فضلاء المالكية.
وتوفّى الإمام نور الدين على السويفى «2» المالكى إمام السلطان، فى يوم الخميس رابع عشر شهر رجب، وهو في عشر المائة من العمر، بعد أن خدم عدّة ملوك، وولى حسبة القاهرة- رحمه الله تعالى.
وتوفّى الحافظ تقي الدين أبو الفضل عبد الرحمن بن قطب الدين أحمد القلقشندى «3» الشافعى، شيخ خانقاه سعيد السعداء الصلاحية في ليلة الثلاثاء ثالث شعبان، ومولده في شهر رجب سنة سبع عشرة وثمانمائة، وكان من الفضلاء، وصحبنى سنين كثيرة، وسمعت أشياء عالية من الحديث بقراءته، ذكرنا ذلك كله في ترجمته في «الحوادث» - رحمه الله تعالى.
وتوفّى الأمير شهاب الدين أحمد ابن ناصر الدين محمد، المعروف بابن قليب، حاجب حجّاب طرابلس وأستادار السلطان بها، فى يوم الخميس خامس شعبان.
وتوفّى أميرزة ابن شاه أحمد بن قرايوسف في يوم السبت رابع ذى القعدة، بالقاهرة بسكنه بباب الوزير خارج القاهرة، وسنه زيادة على ثلاثين سنة، وأظنه حفيد شاه أحمد بن قرايوسف لا ولده «4» - رحمه الله تعالى.

(16/354)


وتوفّى الأمير سيف الدين جانبك بن عبد الله الناصرى المعروف بالمرتدّ أحد مقدمى الألوف بالديار المصرية- بطالا- بعد ما شاخ وكبر سنه، وكان من المهملين فى أيام عمله وبطالته- رحمه الله تعالى.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم ستة أذرع وعشرون إصبعا، مبلغ الزيادة تسعة عشر ذراعا سواء.

(16/355)


[ما وقع من الحوادث سنة 872]
ذكر سلطنة الملك الظاهر أبى نصر يلباى الإينالى المؤيدى على مصر وهو السلطان التاسع والثلاثون من ملوك الترك وأولادهم، والرابع عشر من الچراكسة وأولادهم.
تسلطن في آخر نهار السبت عاشر شهر ربيع الأول من سنة اثنتين وسبعين وثمانمائة، قبل الغروب بنحو ثلاث درج رمل، وسبب تأخيره إلى هذا الوقت أنه لما مات الملك الظاهر خشقدم بعد أذان ظهر يوم السبت المقدّم ذكره طلع الأتابك يلباى المذكور وجميع الأمراء إلى القلعة، وقبل أن يتكلموا في ولاية سلطان أخذوا في تجهيز الملك الظاهر خشقدم والصلاة عليه، فغسّلوا وأخرجوه وصلوا عليه عند باب القلّة، ونزلوا به إلى حيث دفن بمدرسته التي أنشأها بالصحراء بالقرب من قبة النصر، وحضرت أنا دفنه، ولم يحضره من أعيان الأمراء إلا جماعة يسبرة حسبما تقدّم ذكره في وفاته، وهذا كله بخلاف العادة، فإن العادة سلطنة سلطان ثم يؤخذ في تجهيز السلطان الذي مات.
ولما أنزل نعش الملك الظاهر خشقدم من القلعة شرعوا عند ذلك في سلطنة الأتابك يلباى، وكان قد انبرم أمره في ضحوة نهار السبت هذا مع الأمراء ومماليك الملك الظاهر خشقدم، وكبيرهم يوم ذاك خيربك الدّوادار الثانى، وخشكلدى البيسقى أحد مقدّمى الألوف، ولما أذعن مماليك الظاهر الأجلاب بسلطنة يلباى لم يختلف عليه يومئذ أحد؛ لأن الشوكة كانت للأجلاب، وهم أرادوه، والظاهرية الكبار تبع لهم، وأما المؤيّدية فخچداشيته، فتمّ أمره.
وكيفية سلطنته أنه لما عادوا من الصلاة على الملك الظاهر خشقدم جلسوا عند باب

(16/356)


الستارة وقتا هيّنا، وإذا بالأمير خيربك خرج من باب الحريم ومعه جماعة من خچداشيته وأخذوا الأتابك يلباى وأدخلوه من باب الحريم، ومضوا به إلى القصر السلطانى، وخاطبوه بالسلطنة، فامتنع امتناعا هينا، فلم يلتفتوا إلى كلامه، وأرسلوا إلى الأمراء أحضروهم إلى القصر من خارج، فوجدوا القصر قد سقط بابه، فدخلوا من الإيوان إلى القصر، فتفاءل الناس زواله بسرعة؛ لغلق باب القصر، فدخلت الأمراء قبل أن يحضر الخليفة والقضاة، وطال جلوسهم عنده، وقبّلت الأمراء الأرض قبل المبايعة وهم في هرج لإحضار الخليفة والقضاة إلى أن حضروا بعد مشقة كبيرة؛ لعسر طريق القصر، إذ المصير إليه من الإيوان السلطانى، وأيضا حتى لبست الأمراء قماش الموكب وتكاملوا بعد أن فرغ النهار، وقد أخذوا في بيعته وسلطنته ولبّسوه خلعة السلطنة بالقصر، وجلس على تخت الملك من غير أن يركب فرسا بأبهة الملك على العادة، وقبلوا «1» الأمراء الأرض بين يديه وتمّ أمره «2» ، فكان جلوسه على كرسى السلطنة قبل الغروب بثلاث درج حسبما تقدم ذكره.
وخلع على الأمير تمربغا أمير مجلس بالأتابكية، ثم خلع على الخليفة، فدقّت البشائر، ونودى بسلطنته، وتلقب بالملك الظاهر يلباى.
والآن نشرع في التعريف به قبل أن نأخذ فيما وقع له في سلطنته من الحوادث فنقول:
أصله چاركسى الجنس، جلبه الأمير إينال ضضع من بلاد الچاركس إلى الديار المصرية في عدة مماليك، فاشتراه الملك المؤيد شيخ قبل سنة عشرين وثمانمائة، وأعتقه وجعله من جملة المماليك السلطانية، وأسكنه بالقلعة بطبقة الرفرف «3» ثم صار خاصكيا

(16/357)


بعد موت أستاذه، ودام على ذلك إلى أن صار من أعيان الخاصكية، وأنعم الأشرف برسباى عليه بثلث قرية طحورية «1» ، ثم نقله الملك العزيز يوسف ابن السلطان الملك الأشرف برسباى إلى نصف بنها العسل بعد أيتمش المؤيدى، ثم صار ساقيا في أوائل دولة الملك الظاهر جقمق، فلم تطل أيامه في السقاية، وأمّره عشرة وجعله من جملة رءوس النوب، فدام على ذلك إلى أن تسحّب الملك العزيز يوسف ابن الملك الأشرف برسباى من قلعة الجبل واختفى إلى أن ظفر به يلباى هذا في بعض الأماكن، وطلع به إلى الملك الظاهر جقمق، فأنعم عليه الملك الظاهر جقمق بقرية سرياقوس زيادة على ما بيدة، وصار أمير طبلخاناه، ودام على ذلك إلى أن تسلطن الملك المنصور عثمان ابن السلطان الملك الظاهر جقمق، فقبض على يلباى هذا وعلى اثنين من خچداشيته:
دولات باى الدّوادار الكبير ويرشباى الأمير آخور الثانى؛ وذلك في سنة سبع وخمسين، وحبس بثغر الإسكندرية إلى أن أطلقه الملك الأشرف إينال من سجن الإسكندرية، وأطلق خچداشيته المذكورين، ووجّهه إلى دمياطبطّالا- ثم أحضره إلى القاهرة بعد أيام قليلة، فاستمر بطالا مدة يسيرة.
وقتل الأمير سونجبغا اليونسى «2» الناصرى ببلاد الصعيد، وكان سونجبغا هو الذي أخذ إقطاع يلباى هذا بعد مسكه، فأعاده الملك الأشرف إينال إليه، وصار على عادته أولا أمير طبلخاناه إلى أن مات الأمير خيربك المؤيّدى الأشقر الأمير آخور الثانى، فنقل يلباى هذا إلى الأمير آخورية الثانية من بعده، فدام على ذلك إلى أن أنعم عليه الملك الأشرف إينال بإمرة مائة وتقدمة ألف بالديار المصرية، فدام على ذلك إلى أن نقله الملك الظاهر خشقدم إلى حجوبية الحجاب بالديار المصرية، عوضا عن بيبرس خال العزيز، بحكم انتقاله إلى وظيفة رأس نوبة النّوب، بعد انتقال الأمير قانم إلى

(16/358)


إمرة مجلس بعد انتقال قرقماس إلى إمرة سلاح؛ بحكم انتقال جرباش إلى الأتابكية، عوضا عن الملك الظاهر خشقدم، وذلك في يوم الأربعاء سابع شوال.
فاستمرّ يلباى هذا على الحجوبية إلى أن نقله الملك الظاهر خشقدم إلى الأمير آخورية الكبرى، بعد توجه برسباى البجاسى إلى نيابة طرابلس، بعد القبض على الأمير إياس المحمدى الناصرى، وذلك في يوم الخميس سابع عشر المحرم سنة ست وستين.
فدام يلباى هذا في هذه الوظيفة إلى أن نقل إلى أتابكية العساكر بالديار المصرية بعد موت الأتابك قانم دفعة واحدة، بعد أن كان يجلس في مجلس السلطان خامس رجل، وذلك في يوم الاثنين ثامن عشر صفر سنة إحدى وسبعين وثمانمائة، واستمرّ على ذلك إلى أن مرض الملك الظاهر خشقدم، وثقل في مرضه، وتكلّم الناس فيمن يتسلطن فيما بينهم، فرشح جماعة، فاختارت الأجلاب يلباى هذا، كونه أتابك العساكر وأيضا خچداش أستاذهم، فتسلطن، وتمّ أمره حسبما تقدّم ذكره- انتهى.
قلت: ولما استمر جلوسه بالقصر السلطانى رسم في الحال بسفر الأمير قرقماس أمير سلاح بمن كان عيّن معه من الأمراء والمماليك السلطانية إلى الصعيد، وكان له أيام مقيما بالمركب، وكذلك جميع من كان عيّن معه، وسافروا من يومهم أرسالا.
ثم خلع الملك الظاهر يلباى على الأتابك تمربغا في يوم الاثنين ثانى عشره خلعة نظر البيمارستان المنصورى.
وخلع على خچداشه الأمير قانى بك المحمودى المؤيدى بإمرة مجلس عوضا عن الأتابك تمربغا، وأنعم عليه بإقطاع تمربغا أيضا.
وخلع على تمر المحمودى والى القاهرة خلعة الاستمرار، وكذلك على القاضى علم الدين كاتب المماليك.
وفيه ورد كتاب يشبك من مهدى كاشف الوجه القبلى يتضمن أنّه ولّى سليمان

(16/359)


ابن عمر الهوارى عوضا عن ابن عمه، وأنه لا حاجة له بتجريدة، فلم يلتفت السلطان إلى مقالته في عدم إرسال تجريدة إلى بلاد الصعيد لغرض يأتى بيانه.
ثم في يوم الخميس خامس عشره خلع السلطان على جميع مباشرى الدولة باستمرارهم على وظائفهم.
وفيه نودى بأن نفقة المماليك تكون من أول الشهر، يعنى أول ربيع الآخر.
وفيه عمل المولد النبوى بالحوش على العادة، وقبل أن يفرغ المولد ندب السلطان الأمير برسباى قرا الظاهرى، والأمير جكم الظاهرى، وطرباى الظاهرى البواب، أن يتجهزوا إلى الصعيد لمسك الأمير قرقماس أمير سلاح والأمير قلمطاى رأس نوبة، والأمير أرغون شاه، ويتوجهوا بهم إلى حبس الإسكندرية، ولم يعلم أحد ما الموجب لذلك.
وفي يوم السبت سابع عشره «1» أعاد السلطان القاضى قطب الدين الخيضرى إلى كتابة السّرّ بدمشق، بعد عزل الشريف إبراهيم بن السيد محمد.
وفيه أيضا استقرّ الصارمى إبراهيم بن بيغوت الأعرج حاجب الحجّاب بدمشق عوضا عن شرامرد العثمانى المؤيدى.
وفيه وصل الخبر بقدوم الأمير أزبك رأس نوبة النّوب من تجريدة العقبة، بعد أن أمسك مباركا شيخ بنى عقبة، الذي قطع الطريق على إقامة الحجاج.
ثم وصل الأمير أزبك في يوم الاثنين تاسع عشره، وخلع السلطان عليه وعلى رفيقه الأمير جانبك قلقسيز حاجب الحجاب، ورسم بتسمير مبارك شيخ بنى عقبة المقدّم ذكره ورفقته، وكانوا أزيد من أربعين نفرا، فسمّروا الجميع، وطيف بهم الشوارع، ثم وسّطوا في آخر النهار عن آخرهم.
وفي يوم الخميس ثانى عشرينه ورد الخبر على الملك الظاهر يلباى بعصيان الأمير

(16/360)


بردبك نائب الشام، وأنه قتل جميع النوّاب المجردين معه لقتال شاه سوار بن دلغادر، وكان الأمر غير ذلك، ووقع أمور حكيناها مفصلة في تاريخنا «حوادث الدهور في مدى الأيام والشهور» محصولها أن بردبك المذكور كان تهاون في قتال شاه سوار المذكور، وخذل العسكر الشامى لما كان في قلبه من الملك الظاهر خشقدم رحمه الله، فكان ذلك سببا لكسر العسكر الشامى والحلبى وغيرهم ونهبهم، وقتل في هذه الواقعة نائب طرابلس قانى باى الحسنى المؤيدى، ونائب حماة تنم خوبى الحسينى الأشرفى، وأتابك دمشق قراجا الخازندار الظاهرى، وأتابك حلب قانصوه المحمدى الأشرفى، وغيرهم من أمراء البلاد الشامية، وغيرهم حسبما يأتى ذكرهم في الوفيات على عادة هذا الكتاب- انتهى.
قلت: وجاء هذا الخبر والديار المصرية غير مستقيمة الأحوال لعدم المدبر، والطرق «1» مخيفة، والسبل غير آمنة، وما ذاك إلا أن الملك الظاهر يلباى لما تسلطن وتمّ أمره غطّاه المنصب، وصار كالمذهول، ولزم السّكات وعدم الكلام، وضعف عن بتّ الأمور، وردع الأجلاب، بل صارت الأجلاب في أيامه كما كانت أولا وأعظم، فلم يحسن ذلك ببال أحد، وصار الأمير خيربك الدّوادار الثانى هو صاحب الحل والعقد في مملكته، وإليه جميع أمور المملكة، وشاع ذلك في الناس والأقطار، وسمّته العوام: «أيش كنت أنا؟ قل له» يعنون أن السلطان لما يسأل «2» فى شىء يقول:
«أيش كنت أنا، قل لخير بك» فبهذا وأشباهه اضطربت أحوال الديار المصرية.
هذا مع ما ورد من البلاد الحلبية من أمر شاه سوار، وقتل أكابر أمراء البلاد الشامية، ونهبه للبلاد الحلبية، وأخذه قلاع أعمالها وأن نائب الشام بردبك فى أسره، وأن يشبك البجاسى نائب حلب دخل إلى حلب على أقبح وجه، فصار الناس بهذا المقتضى كالغنم بلا راع.

(16/361)


فلما كان يوم الاثنين سادس عشرين ربيع الأول المذكور خلع الملك الظاهر يلباى على الأمير أزبك من ططخ الظاهرى رأس نوبة النوب باستقراره في نيابة الشام عوضا عن بردبك الظاهرى، بحكم انضمامه على شاه سوار.
وفيه استقرّ الأمير قانى بك المحمودى المؤيّدى أمير مجلس أمير سلاح عوضا عن قرقماس الأشرفى بحكم القبض عليه وحبسه بالإسكندرية، واستقرّ قانى بك المذكور مقدم العساكر لقتال شاه سوار بن دلغادر.
وعيّن السلطان في هذا اليوم عدة أمراء تجريدة لقتال شاه سوار، فعيّن من أمراء الألوف قانى بك المقدم ذكره، وجانبك الإينالى الأشرفى المعروف بقلقسيز حاجب الحجاب، وبردبك هجين أمير جاندار، وهؤلاء من أمراء الألوف، وعيّن أيضا عدة كثيرة من أمراء الطبلخانات والعشرات يأتى ذكر أسمائهم يوم سفرهم من القاهرة، ثم عيّن صحبتهم ستمائة مملوك من المماليك السلطانية.
وفيه استقرّ الأمير إينال الأشقر الظاهرى نائب غزّة في نيابة حماة، عوضا عن ابن المبارك، وكان الناصرى محمد بن المبارك قد استقرّ في نيابة حماة قبل تاريخه عوضا عن الأمير تنم الحسينى الأشرفى، بحكم مرضه وعوده من تجريدة شاه سوار إلى حلب، وكان الناصرى محمد بن المبارك إلى الآن لم يخرج من الديار المصرية، فعزل عنها قبل أن يحكمها أو يتوجّه إليها، وكان إينال الأشقر قدم إلى القاهرة مع الأمير أزبك من تجريدة العقبة، ثم رشح ابن المبارك إلى نيابة غزّة، فامتنع عن ولايتها.
ثم في يوم الخميس تاسع عشرين شهر ربيع الأول لبس إينال الأشقر خلعة السفر.
ثم في يوم السبت ثانى شهر ربيع الآخر ابتدأ السلطان بالنفقة على المماليك السلطانية لكل واحد مائة دينار، ففرّقت هذه النفقة على أقبح وجه، وهو أن القوى يعطى، والغائب يقطع، والمسنّ يعطى نصف نفقة أو ربع نفقة، ومنع أولاد الناس والطواشية من الأخذ، وعاداتهم أخذ النفقة، فأحدث الظاهر يلباى هذا الحادث، وكثر الدعاء عليه بسبب ذلك، وتفاعل الناس بزوال ملكه لقطعه أرزاق الناس، فكان كذلك.

(16/362)


ومنع السلطان أيضا أمراء الألوف وغيرهم من النفقة، ولم يعط إلا من كتب منهم إلى السّفر لا غير، فبهذا المقتضى وأمثاله نفرت القلوب من الظاهر يلباى، وعظمت الوقيعة في حقه، وكثرت المقالة في بخله، وعدّت مساوئه، ونسيت محاسنه- إن كان له محاسن- وصارت النفقة تفرّق في كل يوم سبت وثلاثاء طبقة واحدة أو أقل من طبقة؛ حتى تطول الأيام في التفرقة.
وبالجملة فكانت أيام الملك الظاهر يلباى نكدة، قليلة الخير، كثيرة الشر، وعظم الغلاء في أيامه، وتزايدت الأسعار، وهو مع ذلك لا يأتى بشىء، ووجوده فى الملك وعدمه سواء؛ فإنه كان سالبة كليّة، لا يعرف القراءة ولا الهجاء، ولا يحسن العلامة على المناشير والمراسيم إلا بالنّقط «1» ، مع عسر في الكتابة، وكان الناس قد أهمّهم أمر الجلبان أيام أستاذهم الملك الظاهر خشقدم، فزادوا بسلطنة الملك الظاهر يلباى هذا همّا على همهم.
ثم في يوم الاثنين حادى عشر ربيع الآخر استقرّ الأمير جانبك قلقسيز أمير مجلس عوضا عن قانى باى «2» المحمودى المنتقل إلى إمرة سلاح، واستقر الأمير بردبك هجين عوضه حاجب الحجاب.
وفيه أنعم السلطان على الأمير قايتباى المحمودى الظاهرى بإقطاع الأمير أزبك نائب الشام واستقرّ عوضه أيضا رأس نوبة النّوب، وأنعم بإقطاع الأمير قايتباى على الأمير سودون القصروى نائب القلعة، والإقطاع تقدمة ألف.
وفيه أيضا استقرّ الأمير خشكلدى البيسقى في تقدمة الألوف عوضا «3» عن قانى باى المحمودى المؤيّدى «4» .

(16/363)


ثم في يوم الثلاثاء ثانى عشر ربيع الآخر «1» استقر الأمير سودون البردبكى الفقيه المؤيّدى نائب قلعة الجبل بعد سودون القصروى. وفي يوم الأربعاء ثالث عشر ربيع الآخر «2» رسم السلطان أن ينتقل الأمير إينال الأشقر المقدّم ذكره من نيابة حماة إلى نيابة طرابلس بعد فقد نائبها الأمير قانى باى المؤيدى الحسنى في واقعة شاه سوار، وذلك بسعى من إينال المذكور، وذلك قبل أن يصل إينال المذكور إلى حماة.
ثم في يوم الخميس رابع عشره استقرّ الناصرى محمد بن المبارك في نيابة حماة كما كان وليها أولا.
وفيه استقرّ مغلباى الظاهرى المحتسب شاد الشراب خاناه بعد الأمير خشكلدى البيسقى، واستقر طرباى البواب محتسب القاهرة عوضا عن مغلباى المذكور، واستقرّ سودون السيفى أحمد بن إينال أمير عشرة وأستادار الصّحبة، وسودون هذا من الأوباش الأطراف.
وفيه أنعم السلطان على جماعة من الأجلاب وغيرهم كل واحد بإمرة عشرة، والذين أعطوا أزيد من خمسة عشر نفرا، فالذى أخذ من الأجلاب أركماس البواب، وقايت البواب، وطرباى البواب الذي ولى الحسبة، وأصباى البواب الذي كان قتل قتيلين أيام أستاذه ولم ينتطح في ذلك عنزان، وأصطمر البواب، وجانم الدوادار، ومغلباى الساقى ابن أخت الأمير قايتباى، والذي أخذ الإمرة منهم من الظاهرية الكبار: أزبك الساقى، وجانم قشير، وقانم أمير شكار، وجكم قرا أمير آخور الجمال، وسودون الصغير الخازندار، وقرقماس أمير آخور. والذي أخذ من السيفية:
تمرباى التمرازى المهمندار، وبرسباى خازندار يونس الدّوادار.
وفيه ورد الخبر بأن الأمير بردبك نائب الشام فارق شاه سوار، وقدم إلى مرعش «3» طائعا ثم سار إلى منزلة قارا «4» فى يوم الخميس سابع عشر ربيع الآخر.

(16/364)


ثم في يوم السبت سادس عشره تواترت الأخبار أن الأمير بردبك جاوز مدينة غزّة، فندب السلطان الأمير تمرباى المهمندار، والأمير جكم الظاهرى أن يخرجا إليه ويأخذاه، ويتوجها به إلى القدس الشريف بطالا.
ثم في يوم الأحد سابع عشر ربيع الآخر أضاف السلطان الأمير أزبك نائب الشام، وخلع عليه كاملية بفرو سمّور بمقلب سمّور، وهى خلعة السّفر، فسافر في بكرة يوم الاثنين ثامن عشره.
وفي يوم الاثنين هذا قرئ تقليد السلطان الملك الظاهر يلباى بالسلطنة، وخلع السلطان على الخليفة وكاتب السّرّ والقضاة، وعلى من له عادة بلبس الخلعة في مثل هذا اليوم.
وأما أمر بردبك نائب الشام، فإن السلطان لما أرسل تمرباى وجكم إلى ملاقاته وأخذه إلى القدس، وسارا إلى جهته، فبينماهم في أثناء الطريق بلغهم أنه توجه إلى جهة الديار المصرية من على البدوية «1» ، ولم يجتز بمدينة قطيا، وقيل إنه مرّ بقطيا لكنه فاتهم وأنه قد وصل إلى القاهرة، فعادا من وقتهما؛ فلما وصل بردبك إلى ظاهر القاهرة أرسل إلى خچداشه الأمير تمر والى القاهرة يعرفه بمكانه، فعرّف تمر السلطان بذلك، فرسم السلطان في الحال للأمير أزدمر تمساح الظاهرى أن يتوجه إليه ويأخذه إلى القدس بطالا، ففعل أزدمر ذلك، وقيل في مجىء بردبك غير هذا القول، واللفظ مختلف والمعنى واحد.
وفي يوم الثلاثاء تاسع عشره استقر الأمير جانبك الإسماعيلى المؤيّدى المعروف بكوهية أحد مقدمى الألوف أمير حاج المحمل، واستقرّ تنبك المعلّم الأشرفى ثانى رأس نوبة النوب أمير الركب الأول.
ثم استهلّ جمادى الأولى، أوله الأحد، والقالة موجودة بين الناس بركوب المماليك الأجلاب، ولم يدر أحد صحة الخبر، غير أن الأمراء المؤيدية خچداشية السلطان امتنعوا

(16/365)


فى «1» هذه الأيام من طلوع الخدمة؛ مخافة من الأمير خيربك «2» الدّوادار الثانى وخچداشيته الأجلاب أن يقبضوا عليهم بالقصر السلطانى، واتفقت المؤيدية في الباطن مع الأشرفية الكبار والأشرفية الصغار، كل ذلك والأمر خفى على الناس إلا السلطان فإنه يعلم بأمره بل هو المدبر لهم فيما يفعلونه في الباطن حسبما يأتى ذكره من الوقعة وهى الواقعة التي خلع فيها الملك الظاهر يلباى من السلطنة.

(16/366)


ذكر خلع الملك الظاهر يلباى من سلطنة مصر
ولما كان عصر يوم الأربعاء رابع جمادى الأولى المقدم ذكره وطلعت أمراء الألوف إلى القلعة ليبيتوا بالقصر على العادة امتنعت المؤيدية عن الطلوع بمن وافقهم ما خلا الأمير جانبك الإينالى الأشرفى المعروف بقلقسيز أمير مجلس، وهو كبير الأشرفية الكبار يومئذ، فإنه طلع إلى القلعة ووافق الظاهرية الكبار والظاهرية الصغار الأجلاب، فلما تكامل طلوع من طلع من الأمراء في عصر يوم الأربعاء المذكور امتنع الأمير يشبك الفقيه المؤيدى الدّوادار الكبير وخچداشيته، وهم: الأمير قانى بك المحمودى المؤيدى أمير سلاح، ومغلباى طاز الأبوبكرى المؤيدى، وجانبك الإسماعيلى المؤيدى المعروف بكوهية، وهؤلاء الأربعة مقدمو ألوف، وجماعة أخر من خچداشيتهم من أمراء الطبلخانات والعشرات، أجلّهم الأمير طوخ الزّردكاش، وهو الذي حوّل غالب ما كان بزردخانات السلطان من آلات الحرب والنّفوط وغير ذلك إلى بيت الأمير يشبك الدّوادار، وانضم عليهم جماعة كثيرة من أمراء العشرات من الأشرفية الكبار وخچداشيتهم أعيان الخاصكية، وغيرهم، بل غالب المماليك الأشرفية الكبار والأشرفية الصغار وجماعة كثيرة أيضا من أمراء السيفية وأعيان خاصكيتهم، فصاروا فى عسكر كبير وجمع هائل إلى الغاية، لكن صار أمرهم لا ينتج في القتال لعدم من يقوم بأمرهم، لأن يشبك الدّوادار كان الملك الظاهر يلباى قد وعده عند ما أملاه ما يفعله من شأن هذه الوقعة أنه ينزل إليه ومعه الظاهرية الكبار، وفاته الحزم فإنه لم يحسب أنه يصير هو كالأسير في أيدى الأجلاب إذا تحققوا وثوب الأمير يشبك وقتاله، فصار يشبك بسبب ذلك كالمقيّد عن القتال لمّا وقع القتال الآتى ذكره.

(16/367)


وكان الملك الظاهر يلباى لما وافق يشبك الدوادار على ما فعله قد ضاقت حصيرته، وتغلّب مع خيربك والأجلاب، وخاف إن شرع في القبض عليهم لا يتم له ذلك، فرمّ هذه المرمة ليأخذ الثأر بيد غيره، وأنهم إذا استفحل أمرهم يسألهم الملك الظاهر يلباى ما الغرض من ركوبهم؟ فيقولون: غرضنا نزول الأجلاب من الأطباق وإبعاد خيربك وغيره من خچداشيته، ويكون هذا القول عند ما تنغلب الأجلاب فإذا أذعنوا بالنزول من الأطباق، وخلت القلعة منهم فعل فيهم الملك الظاهر يلباى عند ذلك ما أراد.
وكان هذا التدبير لا بأس به لو أنه «1» نزل إليهم في أوائل الأمر واجتمع بهم، أو طلعوا عنده وصاروا يدا واحدة، ففاته ذلك، وأقام هو بالقلعة، وفهم خير بك والأجلاب أنّ ذلك كله مكيدة منه لأخذهم، فاحتاطوا به، واحتاجوا إلى الإذعان للظاهرية الكبار ومطاوعتهم على أنهم يخلعون يلباى من السلطنة، ويولون أحدا من كبار أمراء الظاهرية، فوافقتهم الظاهرية على ذلك، ومالوا إليهم، واستمالت الظاهرية أيضا الأمير جانبك قلقسيز الأشرفى أمير مجلس، فمال إليهم، ووعدهم بممالأة خچداشيته الأشرفية إليهم، وخذلان يشبك الدّوادار، فعند ذلك صار الملك الظاهر يلباى وحده أسيرا في أيدى القلعيّين.
فلما أصبحوا يوم الخميس خامس جمادى الأولى أعلن الأمير يشبك الفقيه، ولبسوا آلة الحرب، وركب بمن معه من المؤيدية والأشرفية الكبار والأشرفية الصغار، والسيفية، ولبسوا آلة الحرب، واجتمع عليهم خلائق من كل طائفة، ومالت زعر الديار المصرية إليهم، وبلغ من بالقلعة أمرهم، فخافوهم خوفا شديدا، ولبسوا هم أيضا آلة الحرب، ونزلوا بالسلطان الملك الظاهر يلباى إلى مقعد الإسطبل السلطانى المطل على الرّميلة، وشرعوا في قتال الأمير يشبك «2» بمن معه في الأزقّة والشوارع بالصليبة، وهم لا يعلمون حقيقة أمر يشبك «3» ، ولم يقع بين الأجلاب والظاهرية الاتفاق المذكور إلى

(16/368)


الآن، فإن الاتفاق بما ذكرناه لم يقع بين الأجلاب والظاهرية بالقلعة إلا في آخر يوم الخميس، وكذلك الاحتراز على السلطان لم يقع إلا في آخر يوم الخميس.
وأما أول نهار الخميس ما كانت القلعيّون إلا كالحيارى، ولما وقع القتال بين أصحاب يشبك وبين القلعيّين تقاعد يشبك عن القتال، ولم يركب بنفسه البتة، بل صار يترقّب نزول السلطان إليه، هذا والقتال واقع بين الفريقين بشوارع الصّليبة من أول النهار إلى آخره، وقتل بين الفريقين جماعة كثيرة، فلما رأى الناس تقاعد يشبك بنفسه عن القتال ظنوا أن ذلك عجز منه عن مقاومة القلعيّين فنفر لذلك عنه خلائق، ووافق ذلك اتفاق الظاهريّة الكبار مع الأجلاب بالقلعة.
وأصبح يوم الجمعة سادس جمادى الأولى والقتال عمّال بين الفريقين بشارع الصّليبة من أول النهار إلى آخره، فلما مالت الأشرفية الكبار إلى القلعيّين وفارقت يشبك خارت طباع الأشرفية الصغار ومالوا أيضا للقلعيّين، وكانت القلعيّون استمالتهم أيضا، فما أمسى الليل إلا ويشبك الدّوادار بقى وحده مع خچداشيته المؤيّديّة لا غير، فلما رأى أمره آل إلى ذلك قام من وقته واختفى، وكذلك فعل غالب خچداشيته المؤيدية لا غير، وأما الملك الظاهر يلباى فإنه لما نزل إلى المقعد بالإسطبل السلطانى في باكر يوم الخميس وشرع القتال بين القلعيّين وبين يشبك وأصحابه كان حينئذ إلى ذلك الوقت في عز السلطان، ولم يظهر إلى ذلك الوقت أن الذي فعله يشبك كان صادرا عنه وبتدبيره، فلما فهموا ذلك وأبرموا أمرهم مع الظاهرية الكبار حسبما ذكرناه في أول الكلام أخذوا في مقته والازدراء به والتلويح له بما يكره، بل ربما صرّح له ذلك بعضهم فى الوجه.
وطال هذا الأمر والحصر عليه يومى الخميس والجمعة وليس له فيها إلا الجلوس على المدوّرة، والأتابك تمربغا جالس بين يديه وقد رشح للسلطنة عوضه، وهو يعرف هذا بالقرائن، لأن الذي بقى يطلع إلى القلعة من الطوائف طائعا يبوس له الأرض ثم يقبّل يد الأتابك تمربغا، هذا والأمير قايتباى المحمودى رأس نوبة النوب، والأمير جانبك

(16/369)


قلقسيز أمير مجلس بمن معهم من خچداشيتهم الظاهرية والأشرفية ركّاب على خيولهم، لإرسال الأمداد لقتال يشبك الدوادار.
فلما جاء الليل ليلة السبت أدخل يلباى إلى مبيت الحرّاقة، وبات به على هيئة عجيبة، إلى أن أصبح النهار وأخذوه وطلعوا به إلى القصر الأبلق، وحبسوه في المخبأة التي تحت الخرجة، بعد أن طلعوا به ماشيا على هيئة الخلع من السلطنة، وأخذوا الناس في سلطنة الملك الظاهر تمربغا، وزال ملك يلباى هذا كأنه لم يكن، فسبحان من لا يزول ملكه.
وكانت مدة ملكه شهرين إلا أربعة أيام، ليس له فيها إلا مجرد الاسم فقط، ولم نعلم أحدا من أكابر ملوك الترك في السن، خاصة من مسّه الرق، خلع من السلطنة فى أقل من مدة يلباى هذا، وبعده الملك المظفر بيبرس الجاشنكير، فإن مدة بيبرس أيضا كانت سنة تنقص ثلاثة وعشرين يوما، ثم الملك العادل كتبغا المنصورى كانت مدة سلطنته سنتين وسبعة عشر يوما، وأما الملك الظاهر برقوق فإنه خلع بعد سلطنته بنحو سبع سنين، ثم أعيد.
ومع هذه المدة اليسيرة كانت أيّامه: أعنى الملك الظاهر يلباى، أشرّ الأيام وأقبحها، فى أيامه زادت الأجلاب في الفساد، وضيقت السبل، وعظم قطع الطرقات على المسافرين مصرا وشاما، وما برحت الفتنة في أيّامه قائمة في الأرياف قبليّها وبحريّها، وتوقفت أحوال الناس لا سيما الواردين من الأقطار، وزادت الأسعار في جميع المأكولات، وضاعت الحقوق، وظلم الناس بعضهم بعضا، وصار في أيامه كل مفعول جائزا، وما ذلك إلا لعدم معرفته، وسوء سيرته، وضعفه عن تدبير الأمور، وبت القضايا وتنفيذ أحوال الدولة، وقلة عقله، فإنه كان في القديم لا يعرف إلا بيلباى تلى، أى يلباى المجنون، فهذه كانت شهرته قديما وحديثا في أيام شبيبته، فما بالك به وقد شاخ وكبر سنه، وذهل عقله، وقلّ نظره وسمعه.
وقد حكى الأمير برسباى قرا الخازندار الظاهرى أنه لما أخذه من مخبأة القصر

(16/370)


الأبلق وتوجّه به إلى البحرة ليحبس بها فاجتاز به من طريق الحريم السلطانى، أنه عيى في الطريق وجلس ليستريح، ثم سأل الأمير برسباى المذكور: «إلى أين أروح «1» ؟» فقال له: «إلى البحرة يا مولانا السلطان معزوزا «2» مكرّما» ، فقال: «والله ما أنا سلطان، أنا أمير، وما كنت أفعل بالسلطنة، وقد كبر سنى وذهل عقلى، وقلّ نظرى وسمعى؟! بالله سلّم على السلطان وقل له إنى لست بسلطان، وسله أن يرسلنى إلى ثغر دمياط أو موضع آخر غير حبس، فأكون فيه إلى أن أموت وأنا مأمون العاقبة، لأنى ما عرفت أدبّر المملكة وأنا مولّى سلطانا، فكيف يقع منى ما يكرهه السلطان؟!» . ثم بكى أولى وثانية. قال برسباى: «فشرعت أزيد في تعظيمه، وأسليه، وأعده بكل خير» .
والمقصود من هذه الحكاية اعترافه بالعجز عن القيام بأمور المملكة. وبالجملة كانت سلطنته غلطة من غلطات الدهر.
ودام الملك الظاهر يلباى بالبحرة إلى ليلة الثلاثاء عاشر جمادى الأولى من سنة اثنتين وسبعين وثمانمائة، فحمل إلى سجن الإسكندرية في بحر النيل، ومسفّره الأمير قانصوه اليحياوى الظاهرى المستقر في نيابة الإسكندرية بعد عزل كسباى المؤيّدى، وتوجّه إلى دمياط بطالا، فحبس الملك الظاهر يلباى ببعض أبراج الإسكندرية إلى أن توفّى بحبسه من البرج بإسكندرية في ليلة الاثنين مستهلّ شهر ربيع الأوّل من سنة ثلاث وسبعين وثمانمائة، وقد جاوز السبعين من العمر.
وكان ملكا ضخما، سليم الباطن مع قلّة معرفته بأمور المملكة، بل بغالب الأمور، أمّيّا لا يحسن الكتابة ولا القراءة ولا الكلام العرفىّ إلا بمشقّة، وكان في

(16/371)


ابتداء أمره يعرف بيلباى تلّى أى مجنون، وكان عديم التجمّل في ملبسه ومركبه ومماليكه وسماطه، مشهورا بالبخل والشّحّ، نالته السعادة في ابتداء أمره إلى يوم تسلطن، تنقّل في أوائل أمره من منزلة سنيّة إلى منزلة أخرى إلى يوم تسلطن، فلما تسلطن كان ذلك نهاية سعده، وأخذ أمره من يوم جلس على تخت الملك فى إدبار، واعتراه الصمت والسّكات، وعجز عن تنفيذ الأمور، وظهر عليه ذلك؛ بحيث إنه علمه منه كلّ أحد، وصارت أمور المملكة جميعها معذوقة «1» بالأمير خيربك الدوادار، وصار هو في السلطنة حسّا والمعنى خيربك، وكل أمر لا يبتّه خيربك المذكور فهو موقوف لا يقضى، وعلم منه ذلك كل أحد، ولهجت العوامّ عنه بقولهم «أيش كنت أنا؟ قل له» ، يعنون بذلك أنه إذا قدمت له مظلمة أو قصة بأمر من الأمور يقول لهم: «قولوا لخيربك» وأشياء من هذا النمط يطول شرحها، ذكرنا غالبها في تاريخنا «الحوادث» مفصلة، كل واقعة في وقتها.
وبالجملة إنه كان رجلا ساكنا غير أهل للسلطنة- رحمه الله تعالى، وعفا عنه.

(16/372)


ذكر سلطنة الملك الظاهر أبى سعيد تمربغا الظاهرى على مصر
وهو السلطان الذي تكمل به عدّة أربعين ملكا من ملوك الترك وأولادهم بالديار المصرية، والثانى من الأروام إذا لم يكن الملك المعز أيبك التركمانى من الروم، والملك المنصور لاچين المنصورى، فإن كانا من الأروام، فيكون الملك الظاهر تمربغا هذا الرابع منهم.
وكان وقت سلطنته باكر نهار السبت سابع جمادى الأولى من سنة اثنتين وسبعين وثمانمائة- الموافق لثامن كيهك- بعد أن اتّفق جميع أكابر الأمراء من سائر الطوائف على سلطنته، وقد جلس بصدر المقعد بالإسطبل السلطانى المعروف بالحرّاقة، وحضر الخليفة المستنجد بالله أبو المظفر يوسف، والقاضى الشافعى والقاضى الحنفى، وتخلّف المالكى لتوعكه، والحنبلى لإبطائه، وحضر غالب أرباب الدّولة والأعيان وبايعوه بالسلطنة، فقام من وقته ودخل مبيت الحرّاقة، ولبس خلعة السلطنة- السواد الخليفتى- ثم خرج من المبيت المذكور وركب فرس النوبة من سلم الحرّاقة بأبهة الملك، وركب الخليفة أمامه، ومشت أكابر الأمراء بين يديه، وجميع العسكر، وحمل السنجق السلطانى على رأسه الأمير قايتباى المحمودى رأس نوبة النّوب، ولم تحمل القبّة والطّير على رأسه؛ فإنهم لم يجدوها في الزّردخاناه، وكانت أخذت فيما أخذ يوم الوقعة لما نقل طوخ الزّردكاش ما في الزّردخاناه، فجعلوا السنجق عوضا عن القبّة والطير، وسار الملك الظاهر تمربغا في موكب السلطنة «1» إلى أن طلع من باب سرّ القصر السلطانى، وجلس على تخت الملك، وقبّلت الأمراء الأرض بين يديه، وخلع على

(16/373)


قايتباى رأس نوبة النّوب باستقراره أتابك العساكر عوضا عن نفسه، ولقّب بالملك الظاهر أبى سعيد تمربغا، وهذا ثالث سلطان لقّب بالملك الظاهر واحدا بعد واحد لم يكن بينهم أحد، ولم يقع ذلك في دولة من الدّول بسائر الأقطار.
ودقّت البشائر ونودى باسمه بشوارع القاهرة ومصر، وكان حين سلطنته الثانية من النهار والساعة للمشترى، والطالع الجدى وزحل.
وتمّ أمر الملك الظاهر في الملك، وزالت دولة الملك الظاهر يلباى كأنها لم تكن، وطلع الأعيان لتهنئته أفواجا، وسرّ الناس بسلطنته سرورا زائدا، تشارك فيه الخاص والعام قاطبة؛ لكونه أهلا للسلطنة بلا مدافعة، فإننا لا نعلم في ملوك مصر في الدولة التركية أفضل منه ولا أجمع للفنون والفضائل؛ مع علمى بمن ولى مصر قديما وحديثا كما مرّ ذكره في هذا الكتاب، من يوم افتتحها عمرو بن العاص- رضى الله عنه- إلى يوم تاريخه، ولو شئت لقلت: ولا من بنى أيوب؛ مع علمى محاسن السلطان صلاح الدين السعيد الشهيد، وماله من اليد البيضاء في الإسلام، والمواقف العظيمة والفتوحات الجليلة، والهمم العالية- أسكنه الله الجنة بمنه وكرمه «1» .
غير أن الملك الظاهر تمربغا هذا في نوع تحصيل الفنون والفضائل أجمع من الكل؛ فإنه يصنع القوس بيده وكذلك النشاب، ثم يرمى بهما رميا لا يكاد يشاركه فيه أحد شرقا ولا غربا، انتهت إليه رئاسة الرمى في زمانه، وله مع هذا اليد الطولى فى فنّ الرمح وتعليمه، وكذلك البرجاس، وسوق المحمل، وتعبئة العساكر، وأما فن اللجام ومعرفته، والمهماز وأنواع الضرب به فلا يجارى فيهما، ويعرف فنّ الضرب بالسيف، وأما فن الدّبّوس فهو فيه أيضا أستاذ مفتن، بل تلامذته فيه أعيان الدنيا، هذا مع معرفة الفقه على مذهب الإمام الأعظم أبى حنيفة النعمان- رضى الله عنه- معرفة جيدة، كثير الاستحضار لفروع المذهب وغيرها، ثم مشاركة كبيرة في التاريخ والشعر

(16/374)


والأدب والمحاضرة الحسنة والمذاكرة الحلوة، مع عقل تام وتؤدة في كلامه ولفظه، غير فحّاش ولا سبّاب.
وكان فيه أولا في مبدأ أمره بعيض شمم وتعاظم، فلما نقل إلى المناصب الجليلة تغيّر عن ذلك كله، لا سيما لما تسلطن صار كالماء الزلال، وأظهر من الحشمة والأدب والاتّضاع مالا عين رأت ولا أذن سمعت، وبقى يقوم لغالب من يأتيه من أصاغر طلبة العلم ذهابا وإيابا، ويجلّ العلماء والفقراء، وسلك مع الناس مسالك استجلب بها قلوب الخاص والعام.
ولما دام جلوسه يومه كله بالقصر السلطانى جلوسا عاما لتهنئة الناس، وهنّأه الناس على قدر منازلهم، فصار يلقى كلّ من دخل إليه بالبشاشة والإكرام وحسن الردّ بلسان فصيح مع تؤدة ورئاسة وإنصاف، فتزايد سرور الناس به أضعاف مسرتهم أولا، وبالله أقسم إنى لم أر فيما رأيت أطلق وجها ولا أحسن عبارة ولا أحشم مجلسا في ملوك مصر منه.
ولما كان عصر نهار السبت المذكور أخذ الأمير قانى بك المحمودى المؤيّدى أمير سلاح من اختفائه ببيت الشيخ سيف الدين الحنفى، فقيّد وحبس بعد أن نهبت العامة بيته، وأخذت أمواله من غير إذن السلطان ولا إذن أحد من أرباب الدولة، بل بأمر الغوغاء والسواد الأعظم يوم الوقعة عند انهزام يشبك الفقيه الدّوادار واختفائه، وكان هذا المسكين جميع ماله من المال والسكر والقنود والأعسال والقماش في داره، فنهب ذلك جميعه، وما ذاك إلا لصدق «1» الخبر: «بشّر مال البخيل بحادث أو وارث» ، وكذلك فعلته العامة والغوغاء في بيت الأمير يشبك الفقيه الدّوادار، ولكن ما أخذ من بيت قانى بك من المتاع والمال أكثر.
وفيه شفع الأمير قايتباى المحمودى في الأمير مغلباى طاز المؤيّدى، فقبل السلطان شفاعته ورسم له بالتوجه إلى دمياط بطّالا.

(16/375)


وفيه رسم السلطان بإطلاق الملك المؤيّد أحمد ابن السلطان الملك الأشرف إينال من حبس الإسكندرية، ورسم أن يسكن في الإسكندرية في أى بيت شاء، وأنه يحضر صلاة الجمعة راكبا، وأرسل إليه فرسا بقماش ذهب.
ثم رسم السلطان أيضا للملك المنصور عثمان ابن الملك الظاهر جقمق بفرس بقماش ذهب وخلعة عظيمة، ورسم له أن يركب ويخرج من أى باب شاء من أبواب الإسكندرية وأنه يتوجه حيث أراد من غير مانع يمنعه من ذلك، قلت: وفعل الملك الظاهر تمربغا هذا مع الملك المنصور عثمان كان من أعظم المعروف، فإنه ابن أستاذه وغرس نعمة والده.
وفيه أيضا رسم السلطان بإطلاق الأمير قرقماس أمير سلاح، ورفيقيه قلمطاى، وأرغون شاه [الأشرفيين] «1» من سجن الإسكندرية، وكتب أيضا بإحضار دولات باى النجمى وتمراز الأشرفيين من ثغر دمياط.
وكتب أيضا عدّة مراسيم إلى البلاد الشامية والأقطار الحجازية بإطلاق من بها من المحابيس «2» ، ومجىء البطالين.
وفيه رسم السلطان بأن كل من كانت له جامكية في بيت السلطان من المماليك الإينالية الأشرفية وقطعت قبل تاريخه، تعاد إليه من غير مشورة، فعمّ الناس السرور بهذه الأشياء من وجوه كثيرة، وتباشرت الناس بيمن سلطنته.
قلت: وقبل أن نشرع في ذكر حوادث السلطان نذكر قبل ذلك التعريف به ثم نشرع في ذكر حوادثه، فنقول:
أصل الملك الظاهر تمربغا هذا رومى الجنس من قبيلة أرنؤط «3» ، وجلبه بعض

(16/376)


التجار في صغره إلى البلاد الشامية في حدود سنة أربع وعشرين وثمانمائة، فاشتراه الأمير شاهين الزّردكاش نائب طرابلس كان، ثم نقل إلى ملك غيره إلى أن ملكه الملك الظاهر جقمق وهو يوم ذاك الأمير آخور الكبير، فربّاه الملك الظاهر وأدّبه وأعتقه وجعله من جملة مماليكه الخواص به، ودام على ذلك إلى أن تسلطن فقرّبه وأدناه، وجعله خاصكيا سلاحدارا مدة، ثم جعله خازندارا، ثم أمّره في أواخر سنة ست وأربعين وثمانمائة إمرة عشرة عوضا عن آقبردى الأمير آخور الأشرفى، واستمر على ذلك مدة طويلة، وهو معدود يوم ذاك من خواص الملك، إلى أن نقله إلى الدوادارية الثانية عوضا عن دولات باى المحمودى المؤيدى، بحكم انتقاله إلى تقدمة ألف، فباشر تمربغا هذا الدوادارية الثانية بحرمة وعظمة زائدة، ونالته السعادة، وعظم في الدولة، وشاع اسمه في الأقطار، وبعد صيته، وقصدته أرباب الحوائج من البلاد والأقطار، وصار أمر المملكة معذوقا به، والدوادار الكبير بالنسبة إليه في الحرمة ونفوذ الكلمة كآحاد الدوادارية الصغار الأجناد.
واستمرّ على ذلك إلى أن مات الملك الظاهر جقمق رحمه الله تعالى، وتسلطن بعده ولده الملك المنصور عثمان، فصار تمربغا عند ذلك هو مدبر المملكة وصاحب عقدها وحلها، والملك المنصور معه حسّ في الملك والمعنى هو، لا سيما لما أمسك الملك المنصور الأمير دولات باى الدّوادار والأمير يلباى المؤيّدى هذا الذي تسلطن، والأمير يرشباى المؤيدى الأمير آخور الثانى، واستقر تمربغا هذا دوادارا كبيرا عوضا عن دولات باى المذكور وبقى ملك مصر وأموره معذوقا به، والناس تحت أوامره، فلم تطل أيامه بعد ذلك، ووقعت الفتنة بين الملك المنصور عثمان وبين أتابكه الأشرف إينال، وهى الواقعة التي خلع فيها الملك المنصور عثمان وتسلطن من بعده الأشرف إينال.
ودام القتال بين الطائفتين من يوم الاثنين إلى يوم الأحد، أعنى سبعة أيام والقتال عمال بين الطائفتين، وكان القائم بحرب إينال بالقلعة هو الملك الظاهر تمربغا مع خچداشيته الظاهرية، والمعول عليه فيها، مع علمى بمن كان عند الملك المنصور غير

(16/377)


تمربغا من أكابر الأمراء، مثل تنم من عبد الرزاق أمير سلاح، والأمير قانى باى الچاركسى الأمير آخور الكبير، ومع هذا كله كان أمر القتال وتحصين القلعة والقيام بقتال الأتابك إينال متعلقا بالملك الظاهر تمربغا هذا، فلما تسلطن إينال وانتصر أمسك الملك الظاهر تمربغا هذا وسجنه بالإسكندرية أشهرا، ثم نقله إلى حبس الصّبيبة بالبلاد الشامية، فحبس بالصّبيبة أكثر من خمس سنين.
وكانت مدة سجنه بالإسكندرية والصّبيبة نحو ست ستين، إلى أن أطلقه الملك الأشرف إينال في أواخر سنة اثنتين وستين، وأمره أن يتوجّه إلى دمشق ليتجهز بها، ويتوجه مع موسم الحاج الشامى إلى مكة ويقيم بها، فسار إلى مكة وجاور بها سنة ثلاث وستين، وكنت أنا أيضا مجاورا بمكة في تلك السنة، فتأكدت الصحبة بينى وبينه بها، ووقعت لنا محاضرات ومجالسات، ودام هو بمكّة إلى أن تسلطن الملك الظاهر خشقدم في سنة خمس وستين وثمانمائة، فقدم القاهرة، فأجلّه الملك الظاهر، وزاد في تعظيمه وأجلسه فوق جماعة كثيرة من أمراء الألوف الأعيان، ثم أنعم عليه فى يوم الاثنين سلخ ذى الحجة من سنة خمس وستين وثمانمائة المذكورة بإمرة مائة وتقدمة ألف عوضا عن جانبك الأشرفى المشد بحكم القبض عليه، وخلع عليه في اليوم المذكور باستقراره رأس نوبة النوب، عوضا عن بيبرس الأشرفى خال الملك العزيز يوسف، بحكم القبض عليه أيضا، فدام على ذلك إلى أن أخرج الملك الظاهر خشقدم «1» الأتابك جرباش إلى ثغر دمياط بطالا، واستقرّ عوضه في الأتابكية الأمير قانم أمير مجلس، فنقل الملك الظاهر تمربغا إلى إمرة مجلس عوضا عن قانم المذكور، وذلك في شهر رمضان سنة تسع وستين وثمانمائة، فدام على إمرة مجلس إلى أن مات الملك الظاهر خشقدم «2» فى عاشر شهر ربيع الأول.
وتسلطن الملك الظاهر يلباى، فصار الملك الظاهر تمربغا هذا أتابك العساكر عوضا «3» عن الملك الظاهر يلباى المذكور، فعند ذلك تحقق كل أحد أن الأمر

(16/378)


يؤول إليه، فكان كذلك حسبما تقدم ذكره، ولنعد الآن إلى ما وعدنا بذكره من الحوادث:
ولما كان يوم الاثنين تاسع جمادى الأولى أنعم السلطان الملك الظاهر تمربغا على جماعة من الأمراء بعدة وظائف:
فاستقرّ الأمير جانبك قلقسيز أمير مجلس أمير سلاح عوضا عن قانى بك المحمودى المؤيّدى بحكم القبض عليه.
واستقرّ الشهابى أحمد بن العينى الأمير آخور الكبير أمير مجلس عوضا عن جانبك قلقسيز.
واستقرّ الأمير بردبك هجين الظاهرى حاجب الحجاب أمير آخورا كبيرا عوضا عن ابن العينى.
واستقرّ الأمير خيربك الظاهرى الدوادار الثانى دوادارا كبيرا عوضا عن يشبك الفقيه بحكم القبض عليه وإخراجه إلى القدس الشريف بطالا.
واستقرّ الأمير كسباى الظاهرى أحد أمراء العشرات دوادارا ثانيا، عوضا عن خيربك.
واستقرّ الأمير خشكلدى البيسقى «1» رأس نوبة النوب، عوضا عن الأتابك قايتباى.
واستقر الأمير قانصوه اليحياوى الظاهرى أحد أمراء العشرات ورأس نوبة فى نيابة الإسكندرية عوضا عن كسباى المؤيدى السمين بحكم عزله وتوجهه إلى دمياط بطالا، بعد أن أنعم الملك الظاهر على قانصوه المذكور بإمرة طبلخاناه عوضا عن طوخ الزردكاش، بحكم توجهه إلى دمياط بطالا.
وفي ليلة الثلاثاء عاشره حمل الملك الظاهر يلباى في النيل إلى إسكندرية

(16/379)


ليسجن بها، ومسفرّه قانصوه اليحياوى، وقد تقدم ذكر ذلك كله في ترجمة الظاهر يلباى.
وفي يوم الثلاء عاشره فرقت نفقة المماليك السلطانية، وهى تمام تفرقة يلباى التي كان أنفق غالبها ولم يتم، ولم يفرق الملك الظاهر تمربغا نفقة على المماليك السلطانية لقلة الموجود بالخزانة الشريفة.
ورسم الملك الظاهر تمربغا في هذا اليوم بإعطاء أولاد الناس النفقة، الذين هم من جملة المماليك السلطانية، وكان الملك الظاهر يلباى منعهم، فكثر الدعاء عليه بسبب ذلك حتى خلع، وأحوجه الله إلى عشر من أعشارها، فلما أمر الملك الظاهر تمربغا بالنفقة عليهم كثر الدعاء له بذلك، فلم يسلم من واسطة سوء- وكلمة الشح مطاعة- فتغير بعد ذلك، فقرأ بعض أولاد الناس هذه الآية الشريفة: «إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم «1» » بذل وخشوع وكسر خاطر، فلم يفلح بعدها، ولم يقع للظاهر تمربغا في سلطنته ما يعاب عليه إلا هذه القضية، فما شاء الله كان، قلت:
«وا عجباه من رجل يملك تخت ملك مصر، ثم تضعف همته عن إعطاء مثل هذا النزر اليسير الذي يعوضه الملك العارف المدبر من أى جهة شاء من الجهات الخفية عن العارى الضعيف التدبير، وتطلق عليه بعدم الإعطاء ألسنة الخاص والعام، وتكثر الشناعة والقالة فى حقه بسبب ذلك ولكن العقول تتفاوت» .
وفيه أيضا قدم الأمير أزدمر تمساح إلى القاهرة بعد ما أوصل الأمير بردبك الظاهرى نائب الشام إل القدس ليقيم به بطالا.
وفي يوم الخميس ثانى «2» عشره خلع السلطان على الأتابك قايتباى خلعة نظر

(16/380)


البيمارستان المنصورى «1» ، وكذلك خلع على خيربك الدوادار الكبير، وعلى كسباى الدوادار الثانى، كليهما خلعة الأنظار «2» المتعلقة بوظائفهما.
وفيه أنعم السلطان على ستة نفر بتقادم ألوف بالدّيار المصريّة، فرّق عليهم من الإقطاعات الشاغرة، وأضاف إليها بلادا أخر من الذخيرة السلطانية وغيرها، وهم:
الأمير لاجين الظاهرى، وسودون الأفرم الظاهرى الخازندار، وجانبك من ططخ الظاهرى الفقيه الأمير آخور الثانى، وتمر من محمود شاه الظاهرى والى القاهرة.
واستقرّ تمر المذكور حاجب الحجاب بالدّيار المصرية دفعة واحدة عوضا عن الأمير بردبك هجين المنتقل إلى الأمير آخورية الكبرى، وهؤلاء الأربعة مماليك الملك الظاهر جقمق.
ثم أنعم على الأمير تنبك المعلم الأشرفى رأس نوبة ثان أيضا بتقدمة ألف، ثم مغلباى الظاهرى شاد الشراب خاناه.
فهؤلاء الستة المقدم ذكرهم، منهم تنبك مملوك الأشرف برسباى، ومغلباى مملوك الظاهر خشقدم.
ثم استقرّ برقوق الناصرى «3» الظاهرى شاد الشراب خاناه عوضا عن مغلباى.
واستقرّ تغرى بردى ططر الظاهرى نائب قلعة الجبل بعد عزل سودون البردبكى الفقيه المؤيدى ونفيه.
واستقر آصباى الظاهرى- أحد أمراء الأجلاب- الذي كان قتل قتيلين أيام أستاذه الملك الظاهر خشقدم، ولم ينتطح في ذلك شاتان- والى القاهرة عوضا عن تمر الظاهرى.

(16/381)


وفي يوم السبت رابع عشر جمادى الأولى المقدم ذكره استقر الأمير تنبك المعلّم أحد المقدمين أمير حاج المحمل، عوضا عن جانبك كوهيّة، وكان تنبك هذا قد ولى قبل تاريخه إمرة الركب الأول، فلما صار أحد مقدّمى الألوف استقرّ أمير الحاج، وولى بعده بمدّة تنبك الأشقر الأشرفى أمير الركب الأوّل.
وفيه كان تمام نفقة المماليك السلطانية بعد أن فرقت على أقبح وجه وأظهر عجز، لأنهم لم ينفقوا على أحد من الأمراء إلا من ندب إلى السفر، ولا على أولاد الناس، ولا على الخدّام الطواشية، ولا على أحد من المتعممين، ومع هذا كله فرقت النفقة في مدة طويلة كإعطاء المديون المماطل لغريمه، ولما فرقت النفقة خلع السلطان على القاضى علم الدين كاتب المماليك، وعلى ولده بالتحدث عن خوند زوجة السلطان فى تعلقاتهما.
وفيه استقرّ الأمير جكم الظاهرى أحد الأمراء الأجلاب حاجبا ثانيا عوضا عن الأمير قانى بك السيفى يشبك بن أزدمر بحكم استعفائه عن الإمرة والوظيفة معا.
وفي يوم الاثنين سادس عشره استقرّ الأمير دولات باى حمام الأشرفى أحد أمراء العشرات رأس نوبة ثانيا عوضا عن تنبك المعلّم على إمرة عشرة كما كان أولا.
وفيه استقرّ الأمير برسباى قرا الظاهرى أحد أمراء العشرات ورأس نوبة خازندارا عوضا عن سودون الأفرم المنتقل إلى تقدمة ألف.
واستقرّ فارس السيفى دولات باى أحد أمراء العشرات زردكاشا عوضا عن طوخ الأبوبكرى المؤيدى على إمرة عشرة.
وفي آخر هذا النهار وصل الأمير قرقماس أمير سلاح ورفيقاه «1» قلمطاى وأرغون شاه من سجن الإسكندرية، وباتوا بالميدان الناصرى، وطلعوا من الغد إلى القلعة، فقام السلطان إلى قرقماس المذكور واعتنقه وأجلسه فوق أمير سلاح على ميسرته ثم خلع عليه كاملية بمقلب سمّور، ونزل هو ورفيقاه «2» إلى دورهم.

(16/382)


وفيه فرّق الملك الظاهر تمربغا نحو سبعين مثالا، أعنى سبعين إقطاعا على جماعة من المماليك السلطانية، الكثير والقليل.
وفي يوم الأربعاء ثامن عشره نفى السلطان خمسة أمراء من أمراء المؤيّدية إلى البلاد الشامية، وأخرج إقطاع بردبك الشمسى أحد أمراء العشرات وأبقى بالقاهرة بطالا، والذين أخرجوهم: سودون البردبكى الفقيه نائب القلعة، وجقمق، وجانم كسا، وقانى باى ميق، وجانبك البوّاب، ومعهم جندى من المؤيدية غير أمير يسمى خشكلدى قرا الحسنى، وما على خشكلدى المذكور في نفيه أضر من كثرة متحصل إقطاعه لا غير، وشفع في «1» جانبك الزينى وتنم الفقيه وطوغان ميق [العمرى] «2» ودولات باى الأبوبكرى فهؤلاء الذين بقوا بمصر من أمراء المؤيدية، ثم بعيض أجناد لم يلتفت إليهم، وهم نحو من عشرين نفرا أو أقل «3» .
وفي يوم الخميس تاسع عشره أنعم السلطان الملك الظاهر تمربغا على نحو عشرين نفرا بإمريات عشرة: من الأشرفية الكبار «4» ، ومن الظاهرية الكبار «5» ، ومن الأشرفية الصغار «6» ، ومن الظاهرية الصغار «7» الأجلاب ثم على بعض سيفية.
وفيه وصل دولات باى النجمى وتمراز [الساقى الأشرفيان] «8» من ثغر دمياط، وطلعا إلى السلطان «9» فى يوم السبت.
وفي يوم السبت حادى عشرينه «10» أشيع بالقاهرة بإثارة فتنة وركوب الأمراء على السلطان، ولم يعين أحد.

(16/383)


وفيه أشيع بموت جهان شاه بن قرايوسف ملك الشرق والعراقين.
وفي يوم الثلاثاء رابع عشرين جمادى الأولى المذكور استقرّ الأمير أرغون شاه الأشرفى في نيابة غزّة عوضا عن دمرداش العثمانى قبل أن يصل دمرداش المذكور إليها أو يحكمها.
ثم استهل جمادى الآخرة- أوله الاثنين، ويوافقه أول طوبة.
فى يوم الثلاثاء ثانيه نودى من قبل السلطان بأن السلطان ينزل إلى الإسطبل السلطانى في يومى السبت والثلاثاء للحكم بين الناس وإزالة المظالم.
وفي يوم الخميس رابعه استقر الأمير خيربك الدوادار ناظر خانقاه سرياقوس وناظر خانقاه سعيد السعداء وناظر قبّة الصالح، وذلك عوضا عن الشهابى أحمد بن العينى أمير مجلس لأمر قصده السلطان في الوقوع بينهما «1» .
وفيه وصل رأس جهان شاه بن قرايوسف ملك العراقين والشرق على ما زعم حسن بك بن على بك بن قرايلك متملك ديار بكر، وعلّقت الرأس على باب الملك الأفضل بن شاهنشاه «2» المدعو الآن بباب زويلة أيّاما، وفي قتل حسن بك لجهان شاه المذكور روايات كثيرة مختلفة يناقض بعضها بعضا.
وفي ليلة السبت سادسه سافر الأمير قرقماس أمير سلاح كان، إلى ثغر دمياط بطّالا برغبته لذلك.
وفي يوم الاثنين ثامنه خلع الظاهر تمربغا على الأمير أزدمر تمساح بتوجهه إلى القدس الشريف وعلى يده تقليد الأمير بردبك وتشريفه وعوده لنيابة حلب، عوضا عن يشبك البجاسى بحكم عزله وحبسه بقلعة دمشق.
وفي يوم الخميس حادى عشره خلع السلطان على الأمير أزدمر الطويل الإبراهيمى القادم قبل تاريخه من دمشق بتوجهه إلى حلب، وعلى يده مرسوم شريف بتوجه

(16/384)


الأمير يشبك البجاسى نائب حلب إلى القدس بطالا، ثم آل أمره إلى حبس دمشق، وأزدمر هذا خلاف أزدمر تمساح المقدّم ذكره.
وفي يوم السبت ثالث عشره وصل الأمير سودون الشمسى البرقى أحد أمراء الألوف بدمشق إلى خانقاه سرياقوس، فمنعه السلطان من الدخول إلى الديار المصرية، وأرسل إليه بفرس بسرج ذهب وكنبوش زركش وكاملية بمقلب سمّور، وطيّب خاطره.
وفي يوم السبت العشرين من جمادى الآخرة ضرب السلطان القاضى تقي الدين بن الطيورى الحلبى الحنفى المعروف بخروف بالإسطبل السلطانى في الملأ ضربا مبرحا؛ لسوء سيرته وقبح سريرته، وأرسله في الجنزير إلى بيت القاضى المالكى ليدّعى عليه بأمور، فاستمر في الجنزير إلى يوم الأحد ثامن عشرينه، فأحضروه إلى بيت القاضى كاتب السّرّ الشريف، فادعى عليه بأمر ذكرناه في «الحوادث» «1» ، فحكم القاضى بدر الدين محمد ابن القطّان الشافعى فيه، وضربه ثلاثين عصاة، وكشف رأسه، وأشهره وهو مكشوف الرأس مقطع الأكمام إلى الحبس، ثم نفى بعد ذلك إلى جهة البلاد الشامية.
وفي هذه الأيام قويت الإشاعة بأن الأمير خيربك يريد القبض على السلطان وعلى الأتابك قايتباى المحمودى إذا طلع إلى القلعة في ليالى الموكب، وأنه قد اتفق مع خچداشيته الأجلاب على ذلك، الذين هم من جنسه جنس أبزة، وأن خچداشيته الچراكسة تخالفه وتميل إلى الأمير كسباى الدّوادار الثانى، وكسباى المذكور هو صهر الملك الظاهر تمربغا أخو زوجة السلطان، وأما الأتابك قايتباى فإنه أخذ حذره من هذه الإشاعة، واحترز على نفسه، وامتنع في الغالب من الطلوع إلى القلعة فى ليالى الموكب وصلاة الجمعة مع السلطان، وصار يعتذر عن طلوع القلعة بأمور مقبولة وغير مقبولة، لكن كان يطلع أيام الموكب في باكر النهار بقماش الموكب وينزل

(16/385)


فى الحال، وكانت أعذاره عن الطلوع إلى القلعة بأنه تارة يتوجه إلى الربيع وتارة بغير ذلك.
والسلطان يسمع هذه الإشاعة ويعلم من الأتابك قايتباى ما يفعله ولا ينكر عليه عدم طلوعه، ولا يجبره على الطلوع، بل يتخوّف هو أيضا على نفسه، ويأخذ فى إصلاح أمره بما هو أخف، فلا يسلم ممن يسكّن روعه وينفى عن خيربك المذكور هذه الإشاعة ممن له غرض في الباطن مع خيربك، ثم يقوّى جأش السلطان الأمير كسباى الدوادار مع كثرة خچداشيته، فإنه مخالف لخچداشه خيربك الدوادار، ويميل إلى صهره الملك الظاهر تمربغا، واستمر هذا الحال جمادى الآخرة كلها، إلى أن استهل شهر رجب- أوله يوم الأربعاء.
فيه سأل الأتابك قايتباى السلطان أن يتوجّه إلى ناحية مربط جماله على الربيع ببعض قرى القليوبية من أعمال مصر، فأذن له السلطان في ذلك، فسافر الأتابك إلى تلك الجهة، وغاب بها إلى يوم الأحد خامس رجب، فحضر إلى القاهرة في آخر النهار المذكور ولم يطلع تلك الليلة إلى القلعة كعادة طلوعه قبل تاريخه في ليالى الموكب، وامتنع أيضا من الطلوع في تلك الليلة جماعة أخر من مقدمى الألوف، ولم يطلع إلا الأمير جانبك قلقسيز أمير سلاح، والشهابى أحمد بن العينى أمير مجلس، وسودون القصروى، وتنبك المعلّم الأشرفى، والأمير تمر حاجب الحجاب، وخشكلدى البيسقى رأس نوبة النّوب، وهو من أعظم أصحاب خيربك، وكذلك الأمير مغلباى الظاهرى.
فهؤلاء الستة «1» الذين طلعوا إلى القلعة في تلك الليلة من مقدمى الألوف، وأذّن المغرب وهم بالقلعة، وصلّوا مع السلطان الملك الظاهر تمربغا صلاة المغرب، ثم دخل الملك الظاهر إلى الخرجة المطلّة على الرميلة على العادة، وجلس بها.

(16/386)


ذكر الوقعة التي خلع فيها السلطان الملك الظاهر أبو سعيد تمربغا من الملك
ولما دخل الملك الظاهر تمربغا إلى الخرجة المقدم ذكرها وجلس بها سمع بالقصر بعض هرج بخارج القصر، فسأل عن الخبر، فقيل له ما معناه: الأجلاب بينهم كلام، فراب السلطان ذلك، فطلب خيربك الدّوادار، فدخل عليه، فأخذ السلطان يتكلم معه وهو يتبرّم من وجع رجليه على ما زعم، ولم يطل جلوسه عند السلطان، وخرج إلى خارج القصر، فعظم الهرج بالقصر، فأزعج السلطان ذلك، فقام وخرج إلى القصر، فلم يجلس به إلا يسيرا وأشار عليه بعض أصحابه بالدخول إلى الخرجة، فعاد إليها، وطلب الأمير خشكلدى البيسقى رأس نوبة النوب وسأله عن أمر هؤلاء، فذكر أنه لا يعرف ما هم فيه.
وقام السلطان وصلى العشاء داخل الخرجة، وهذا بخلاف العادة، وصلى خشكلدى معه، ثم خرج وقد عظم الهرج، وضرب أصحاب خيربك الأمير طرباى المحتسب أحد أصحاب كسباى الدّوادار ضربا مبرّحا أشفى منه على الهلاك، ونالوا من كسباى أيضا، وضربوه ضربا ليس بذاك، كل ذلك لدفع كسباى وطرباى المكروه عن السلطان.
وكان من الاتفاق الغريب أن الچراكسة أصحاب كسباى لم يطلع منهم في تلك الليلة إلا أناس قليلة، وطلع من أصحاب خيربك جنس أبزة خلائق باتفاق من خيربك، فلما وقع ذلك تحقّق الملك الظاهر تمربغا وقوع شىء، ولم يسعه إلا السكات.
وكان عند السلطان جماعة من خچداشيته الأمراء، والسلطان ومن عنده كالمأسورين في يد الأجلاب، ثم تفرقت الأجلاب إلى الأطباق بقلعة الجبل، ولبسوا آلة

(16/387)


الحرب وعادوا إلى القصر بقوّة زائدة وأمر كبير، وتوجه بعضهم لإحضار الخليفة، وتوجه بعضهم انهب الحريم السلطانى بداخل الدور، ثم أغلق باب الخرجة من قبل السلطان كأنه مخافة من هجوم بعض الأجلاب عليه.
ثم وقعت «1» أمور سمعناها بالزائد والناقص على قدر الروايات؛ فإننا لم نحضر شيئا من ذلك، وآل الأمر إلى الدخول على السلطان وإخراج خچداشيته من عنده، ثم أرادوا إخراج من بقى عنده من السقاة، فمنعهم السلطان من ذلك قليلا، ثم سكت، فأخرجوهم، وبقى السلطان في جماعة يسيرة من مماليكه وغيرهم.
ثم بعد ساعة دخل على السلطان ثلاثة أنفار من الجلبان ملبسة وهم ملثمون، وأرادوا منه أن يقوم وينزل إلى المخبأة التي تحت الخرجة، فامتنع قليلا، ثم قام معهم مخافة من الإخراق، وأخذوه وأنزلوه إلى المخبأة من غير إخراق ولا بهدلة، وأنزلوا فرشا ومقعدا، ونزل معه بعض مماليكه وبعض الأجلاب أيضا، وأغلقوا عليه الطابقة، وأخذوا النّمچة والدرقة والفوطة ودفعوهم إلى خيربك، بعد أن أطلقوا عليه اسم سلطان، وباس له الأرض جماعة من أعيان الأمراء، وقيل إنهم لقبوه بالملك العادل، كل ذلك بلا مبايعة ولا إجماع الكلمة على سلطنته، بل بفعل هذه الأجلاب الأوباش، غير أن خيربك لما أخذ النّمچة والدّرقة حدثته نفسه بالسلطنة، وقام وأبعد في تدبير أمره وتحصين القلعة.
وأما الملك الظاهر تمربغا لم يتمّ جلوسه بالمخبأة حتى أنزلوا عنده جماعة كبيرة من خچداشيته الأمراء واحدا بعد واحد حتى تكمل عدتهم ثمانية أو تسعة، وهم: الأمير تمر حاجب الحجاب، وبرقوق المشد، وبرسباى قرا الخازندار، وأزبك ناظر الخاص، وتغرى بردى ططرنائب القلعة، وقانى باى الساقى، وقانى بك، وقجماس، واثنان آخران «2» وقعد عندهم جماعة من الأجلاب كما تقدم ذكره.

(16/388)


وأما الأمير بردبك هجين الأمير آخور الكبير فإنه بلغه الخبر في أوائل الأمر فلم يكذب ما سمع، ونزل من الإسطبل السلطانى من وقته، وأرسل أعلم الأتابك قايتباى بما وقع، فركب الأتابك في الحال هو وأصحابه وخچداشيته وقد انضم عليه الأشرفية الكبار والأشرفية الصغار بعد أمور وقعت، فحضر الأتابك قايتباى إلى بيت قوصون الذي سدّ بابه من تجاه القلعة، فلم يكد جلوس السلطان الملك الظاهر تمربغا بالمخبأة إلا وقد انتشر أصحاب قايتباى بالرملة «1» ، ورآهم السلطان الملك الظاهر تمربغا من شباك المخبأة المطل على الرملة في جمع كثير، وذلك قبل نصف الليل، لأن إنزال الملك الظاهر تمربغا إلى المخبأة كان بالتقريب قبل ثلث الليل الأخير «2» ، والخبر الذي ورد على الأمير بردبك هجين كان بعد عشاء الآخرة.
وأما خيربك الدوادار الكبير فإنه لما أخذ النّمچة والدّرقة شرع في إصلاح أمره ليتم له ما أراد من ملك مصر، ونزل إلى الإسطبل السلطانى في جمع كبير من خچداشيته الأجلاب، ووقف بداخل باب السلسلة يترقّب من يجيء إليه من الرملة.
والذي بلغنى من غير ثقة أن جماعة من الطوائف المشهورة كانوا وافقوه على أن يفعل ما فعل، وأنهم معه على السراء والضراء وفي كل ما يرومه، فلما طال وقوف خيربك ولم يطلع إليه أحد، علم أنهم خذلوه وغرروا «3» به، فندم حيث لا ينفعه الندم ولم يسعه إلا إتمام ما فعل، فعاد خيربك إلى القلعة بعد أن أمر الأجلاب أن يصعدوا على سور القلعة ويقاتلوا من بالرّملة من أصحاب قايتباى، ففعلوا ذلك، وقاتلوا قتالا جرح فيه جماعة من الفريقين، وقتل جماعة، وطلع خيربك إلى القصر وقد علم أنّ أمره تلاشى وأدبرت سعادته، وبينما هو في ذلك فرّ عنه غالب أصحابه الكبار مثل خشكلدى ومغلباى وغيرهما، فعند ذلك لم يجد خيربك بدّا من الإفراج عن الملك

(16/389)


الظاهر تمربغا ومن معه من خچداشيته ومماليكه، فأخرجوهم ونزل خيربك على رجل الملك الظاهر تمربغا يقبلها، ويبكى ويسأله العفو عنه، وقد أبدى من التضرّع أنواعا كثيرة، فقبل السلطان عذره، هذا وقد جلس السلطان الملك الظاهر تمربغا موضع جلوس السلطان على عادته، وأخذ النّمچة والدّرقة وقد انهزم غالب الأجلاب، ونزلوا من القلعة لا يلوى أحد منهم على أحد، كل ذلك والأتابك قايتباى بمن معه من الأمراء بالرّملة.
فلما تمّ جلوس الملك الظاهر تمربغا بالقصر على عادته أمر من كان عنده من أكابر الأمراء بالنزول إلى الأتابك قايتباى لمساعدته، والذين أرسلهم هم: الأمير جانبك قلقسيز أمير سلاح، وسودون القصروى، وتنبك المعلّم، فهؤلاء الثلاثة وأمثالهم كانوا عند خيربك في وقت مسك الملك الظاهر تمربغا وفي قبضته، وقد أظهروا له الطاعة إما غصبا على ما زعموا، وإما رضى على ما زعم بعضهم.
ثم أرسل [السلطان] «1» بمن كان عنده ومحبوسا «2» معه مثل الأمير تمر حاجب الحجاب وبرقوق شاد الشراب خاناه وغيرهما، وكان إنزال هؤلاء الأمراء إلى الأتابك قايتباى هفوة من الملك الظاهر تمربغا، فإنه لو لم يكن نزولهم ما كان ينبرم للأتابك قايتباى في غيبتهم أمر.
كل ذلك والخلائق تطلع إلى الملك الظاهر تمربغا أفواجا أفواجا تهنئه بالنصر وبعوده إلى ملكه، والعساكر وقوف بين يديه.
وطلع السيفى تنم الأجرود الظاهرى الخاصكى إلى السلطان، فلما رأى خيربك الدّوادار واقفا بين يدى السلطان أراد قتله بالسّيف، فمنعه الملك الظاهر من ذلك، ثم أمر بحبسه داخل خزانة الخرجة فحبس بها.
ولما تم أمر الأتابك قايتباى من قتال الأجلاب وانتصر طلع بمن معه إلى باب

(16/390)


السّلسلة، وجلس بمقعد الإسطبل، وكان لهج بعض الأمراء عند طلوع قايتباى إلى الإسطبل بأن قال: «الله ينصر الملك الناصر قايتباى» ، وسمع بعض الناس ذلك.
ولما جلس الأتابك قايتباى بمقعد الحرّاقة بتلك العظمة الزائدة كلمه بعض الأمراء في السّلطنة، وحسّنوا له ذلك، فأخذ يمتنع امتناعا ليس بذاك، إلى أن قام بعضهم وقبّل الأرض له، وفعل غيره كذلك، فامتنع بعد ذلك أيضا، فقالوا:
«ما بقى يفيد الامتناع، وقد قبّلنا لك الأرض فإما تذعن وإما نسلطن غيرك» .
فأجاب عند ذلك.
فقال بعض الظّرفاء: «جلوسه بالمقعد والملك الظاهر تمربغا بالقصر كان ذلك إجابة منه، وإلا لو لم يكن له غرض في ذلك كان طلع إلى القصر عند السلطان دفعة واحدة» .
فلما تمّ أمر الأتابك قايتباى في السلطنة طلع الأمير يشبك من مهدى الظاهرى الكاشف بالوجه القبلى إلى الملك الظاهر تمربغا، وعرّفه بسلطنة قايتباى، وأخذه ودخل به إلى خزانة الخرجة الصغيرة، وقد حبس بها خيربك قبل ذلك كما تقدم.
ولما استقرّ الملك الظاهر تمربغا بالخزانة المذكورة كلّمه يشبك من مهدى في أنه يتوجه إلى البحرة أو هو أراد، فقبل أن يقوم من مجلسه تناول يشبك من يده النّمچة والدّرقة ودفعهما إلى تمراز الأشرفى، فأخذهما تمراز وتوجّه إلى الأتابك قايتباى، وقام الملك الظاهر تمربغا وتوجّه في الحال إلى البحرة مكرما مبجلا، وبين يديه يشبك من مهدى المذكور وغيره، وسار إلى البحرة من داخل الحريم السلطانى، وجلس بالبحرة.
وتمّ أمر قايتباى في السلطنة حسبما يأتى ذكره إن شاء الله تعالى.
واستمرّ جلوس الملك الظاهر تمربغا بالبحرة وأصحابه وحواشيه تتردّد إليه من غير مانع يمنعهم من ذلك، والملك الأشرف قايتباى يظهر تعظيمه وإكرامه بكل ما تصل قدرته إليه.

(16/391)


فلما كان ليلة الأربعاء ثامن شهر رجب المذكور رسم السلطان الملك الأشرف بسفره إلى ثغر دمياط برغبة الملك الظاهر تمربغا في ذلك، فلما كان بين العشاءين من ليلة الأربعاء خرج الملك الظاهر تمربغا من قاعة البحرة وفي خدمته الخدّام وغيرهم، وسار من الحوش السلطانى إلى داخل الحريم، وعرف الملك الأشرف قايتباى وقت خروجه من البحرة، فقام من خرجة القصر مسرعا في مشيه إلى أن وافى الملك الظاهر تمربغا بدهليز الدّور السلطانية عند الشيخ البردينى، فبادره السلطان الملك الأشرف قايتباى بالسّلام، فاعتنقه وأهوى إلى يده ليقبلها، فمنعه الملك الظاهر تمربغا من ذلك، ثم أخذ الأشرف في الاعتذار له مما وقع منه، والملك الظاهر يقبل منه عذره «1» ، ويظهر له الفرح التام بسلطنته، لأنه خچداشه، وآمن على نفسه في دولته، هذا والملك الأشرف مستمرّ على إكرامه وتعظيمه إلى غاية ما يكون، ثم تكلّم معه سرّا في خلوة؛ لأن السلطان كان حضر معه الأتابك جانبك قلقسيز، ويشبك من مهدى، وتمر حاجب الحجاب، وجماعة أخر من خواصّ الملكين وخچداشيتهما، وطال الوقوف بينهما ساعة جيدة، ثم تعانقا وتباكيا، وافترقا على أحسن وجه وأجمل حال.
ثم نزل الملك الظاهر تمربغا وركب فرسا كعادته من خيله الجياد بعد أن ودعه أيضا الأمراء الذين كانوا جاءوا مع الملك الأشرف، ولما قبّل الأمير يشبك من مهدى يد الملك الظاهر تمربغا دفع له ألفى دينار، وقنطارى سكر مكرر، وغير ذلك.
وسار الملك الظاهر تمربغا من القلعة إلى ساحل النيل وهو في غاية الحشمة في مسيره من غير أوجاقى يركب خلفه بالسكين كما هى عادة الأمراء ولا غير ذلك، والذين ساروا معه غالبهم كالمودعين له، فلما وصل إلى المركب نزل إليها بعد أن ودعه من كان وصل معه إلى البحر من أعيان خچداشيته الأمراء، وسافر من وقته من غير

(16/392)


أن يتوجه معه مسفّر من الأمراء ولا غيرهم، بل سار هو بنفسه كما يسافر الشخص إلى جهة تعلقه، وهذا بعد أن رسم له الملك الأشرف بالركوب بثغر دمياط إلى حيث أراد من سائر الجهات برّا وبحرا، وأشياء كثيرة من هذه المقولة حتى سيّر معه السلطان فرسا في المواكب.
وسافر الملك الظاهر تمربغا حتى وصل إلى ثغر دمياط ونزلها، وسكن بأحسن دورها ومعه حشمه وخدمه وبعض حرمه، ودام بالثغر إلى «1» ...

(16/393)


ذكر سلطنة الملك الأشرف قايتباى المحمودى على مصر
وهو السلطان الحادى والأربعون من ملوك الترك وأولادهم بالديار المصرية، والخامس عشر من الچراكسة وأولادهم، وأمر سلطنته وكيفيتها:
أنه لما خلع الملك الظاهر تمربغا وتمّ أمر قايتباى هذا بالإسطبل السلطانى جلس بمبيت الحرّاقة من الإسطبل المذكور، وحضر الخليفة والقضاة، وبايعوا الأتابك قايتباى بالسلطنة ولبس خلعة السلطنة- السواد الخليفتى- من مبيت الحرّاقة، وركب فرس النوبة بقماش ذهب بأبهة الملك، وحمل الأمير جانبك الإينالى الأشرفى المعروف بقلقسيز أمير سلاح السنجق على رأسه، وذلك لفقد القبّة والطير من الزردخاناه السلطانية في واقعة الملك الظاهر يلباى، وسار وجميع العسكر بين يديه إلى أن طلع من باب سرّ القصر، ودخل إلى القصر الكبير، وجلس على تخت الملك، وقبّلت الأمراء الأرض بين يديه على العادة، وتمّ أمره، ونودى في الحال بسلطنته بشوارع القاهرة، وتلقّب بالملك الأشرف، ودقّت البشائر، وخلع على الخليفة على العادة، وعلى جانبك قلقسيز أمير سلاح باستقراره أتابك العساكر عوضا عن نفسه.
وكانت العادة أن الأمير الكبير يلبس اليوم خلعة حمل القبة والطير على رأس السلطان، ثم بعد ذلك يلبس خلعة الأتابكية فيما بعد، فالآن اقتصروا على خلعة واحدة، ووفّر غيرها، ثم دخلت الناس لتهنئته بالسلطنة أرسالا إلى أن انتهى ذلك.

(16/394)


وكان وقت بيعته بالسلطنة قبل أذان الظّهر من يوم الاثنين سادس رجب من سنة اثنتين وسبعين وثمانمائة بثمانى عشرة درجة، والساعة للشمس، والطالع الثور والزهرة، وهو أيضا يوم سادس أمشير لأن الشهر العربى والقبطى توافقا في هذا الشهر والشهر الخارج أيضا.
وفي هذه السنة حكم فيها أربعة سلاطين، وقبل أن نشرع في ذكر حوادثه وأموره نشرع في التعريف به فنقول:
أصل الملك الأشرف قايتباى هذا أنه چاركسى الجنس، جلب من بلاده إلى الديار المصرية في حدود سنة تسع وثلاثين وثمانمائة، فاشتراه الملك الأشرف برسباى، ولم يجر عليه عتقا، وجعله بطبقة الطّازية من أطباق قلعة الجبل إلى أن ملكه الملك الظاهر جقمق، وأعتقه وجعله خاصكيا، ثم دوادارا صغيرا، ثم امتحن بعد خلع ابن أستاذه الملك المنصور عثمان، ثم تراجع أمره عند الملك الأشرف إينال، وصار دوادارا صغيرا كما كان أولا «1» ، ثم أمّره إمرة عشرة، فدام على ذلك إلى أن أنعم عليه الملك الظاهر خشقدم بإمرة طبلخاناه، وجعله شاد الشراب خاناه بعد جانبك الأشرفى المشد، فدام فى المشدية أياما كثيرة، وتوجه إلى تقليد نائب حلب، ثم بعد عوده بمدة أنعم عليه بإمرة مائة وتقدمة ألف بالديار المصرية، فاستمر على ذلك إلى أن جعله الملك الظاهر يلباى رأس نوبة النوب بعد خروج الأمير أزبك الظاهرى إلى نيابة الشام، وأنعم عليه بإقطاعه أيضا، فلم تطل أيام قايتباى هذا فيما ذكرناه، ونقله الملك الظاهر تمربغا إلى الأتابكية عوضا عن نفسه لما تسلطن، فلم تطل أيّامه أيضا في الأتابكيّة، وتسلطن حسبما ذكرناه.

(16/395)


ولما استقر جلوسه بالقصر، وخلع عليه خلعة السلطنة أمر بحبس الأمير خيربك الدوادار بالركبخاناه، وكذلك الأمير أحمد العينى أمير مجلس، واختفى الأمير خشكلدى البيسقى رأس نوبة النّوب، ثم ظهر فرسم بنفيه «1» .
تم الجزء السادس عشر، وبه ينتهى كتاب النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة

(16/396)