إنباء الغمر بأبناء العمر
سنة ثمان وثمانمائة
استهلت والسلطان ضعيف يرمي الدم والحمى وأشيع موته ثم تعافى، وزينت
البلد في الثالث عشر منه وفي ثامن عشر المحرم توجه نوروز على نيابة
الشام وسار معه جمع كثير وفي الثالث والعشرين منه وصل رسول نائب الشام
شيخ إلى الناصر واسمه يلبغا المنجكي في طلب الصلح والاعتذار عما جرى
وكان صحبة الرسول الشيخ شهاب الدين ابن حجي والشيخ شمس الدين ابن
قديدار فسمع الناصر الرسالة ولم يعد الجواب وكان نوروز حاضراً لذلك
وخرج بعد قليل مسافراً إلى نيابة الشام ونزل الشيخان عند القاضي جلال
الدين البلقيني والرسول عند أمير آخور.
وفي الثالث من المحرم وصل أمير الحاج وذكر أنه لم يفارقهم إلا من ينبع
خوفاً من العرب الذين في الطريق بين مكة وينبع.
وفي السابع من المحرم قبض شيخ نائب الشام على سودون الظريف نائب الغيبة
بدمشق وسجنه بالصبيبة وقبض على كمشبغا الرماح وغيره وألزم القضاة وكاتب
السر بمال وصادرهم به وسلمهم لابن باشلي وولاه القضاء فأخذهم من بين
يديه مشاة من القلعة إلى العادلية فرسم عليهم بالنورية فهربوا في أثناء
الليل ثم سعوا عند النائب وبذلوا ما وقع عليه الاتفاق وأذن لهم في
الحكم واستناب علاء الدين ابن أبي البقاء الشافعي ابن باشي المذكور في
قضاء صيدا وبيروت واستمر نوروز متوجهاً إلى الشام واتفق أن نائبها كان
توجه إلى الصبيبة فدخل نوروز إلى دمشق في ثاني عشري صفر بغير قتال.
وفي السابع من صفر تغير السلطان على بعض الأمراء وتخيل منهم إرادة
الركوب عليه منهم يشبك ابن ازدمر وإينال باي ابن قجماس فأمر بإمساك
يشبك بن ازدمر
(2/316)
وكان رأس نوبة كبيراً وأمسك معه أميران
آخرين وسفرهم إلى الإسكندرية للاعتقال بها فتغيب إينال باي ابن قجماس
وهو أمير آخور لما بلغه ذلك ويقال إنه طاف ليلاً على جماعة من الأمراء
ليركبوا معه فأبوا فهرب وهرب معه سودون الجلب فأمر الناظر بالحوطة على
دار إينال باي فأحيط على موجوده فغضب كثير من المماليك الظاهرية لذلك
وظنوا أن يشبك ظهر وأنه عند السلطان وأنه هو الذي رتبه في ذلك فركبوا
تحت القلعة ... بمصر ثم عاودوا الركوب في سادس ربيع الأول وسطوا على
أرغون وأرادوا قتله فهرب ولما اشتد الأمر ازداد تخوف السلطان منهم
فأراد الهرب فأشير عليه بإحضار المحبوسين من الأمراء وتأمين الهاربين
ففعل ذلك وكان ما سنذكره.
وفي تاسع صفر استقر فخر الدين ابن المزوق في نظر الجيش وصرف بدر الدين
ابن نصر الله واستقر محمّد بن شعبان في الحسبة وصرف صدر الدين ابن
العجمي ثم أعيد صدر الدين في السابع والعشرين من صفر وفي الحادي عشر
منه استقر شمس الدين الأخنائي في قضاء الشافعية بالقاهرة وصرف القاضي
جلال الدين البلقيني.
وفي العاشر من صفر حضر إينال باي بن قجماس وجاء إلى السلطان معتمداً
على أمان كتبه ابن غراب عنه فعاتبه الناصر، فيقال إنه أغلظ له في
الجواب فأمر بنفيه إلى دمياط بطالاً واستقر في وظيفته جرباش ثم صرف
واستقر فيها سودون المحمدي واستقر باش باي رأس نوبة عوضاً عن يشبك ابن
ازدمر وفي قضاء المالكية جمال الدين عبد الله ابن القاضي ناصر الدين
التنسي في مستهل ربيع الأول وهو شاب صغير كان عند وفاة أبيه من أجمل
أهل زمانه فاتفق أنه خدم بعض الأمراء لما كان في حبس
(2/317)
الإسكندرية فتعصب له فولي القضاء فقام
القاضي جلال الدين البلقيني وجماعة على أهل الدولة فعزل بعد يومين
وأعيد جمال الدين البساطي في ثالث ربيع الأول وفي الخامس منه أعيد
القاضي جلال الدين وصرف الأخنائي وهي الخامسة للبلقيني وفي السادس منه
ثارت الفتنة بين الناصر وأمرائه فتخيلوا منه وتخيل منهم واجتمع جمع
كثير من المماليك عند بيبرس لرغم الناصر وتواعدوا على الركوب فهرب تغرى
بردى ودمرداش.
وفي الثامن منه ظهر يشبك وأتباعه مثل تمر وجركس المصارع وقانباي
العلائي وفي الخامس عشر منه أحضر الأمراء المحبوسون بالإسكندرية إلى
القاهرة قطلوبغا الكركي ويلبغا الناصري وإينال حطب وسودون الحمزاوي ثم
أحضر إينال باي من دمياط ثم أحضر يشبك بن أزدمر من الإسكندرية في تاسع
عشر شهر ربيع الأول وفي العشرين منه قبض على كاتب السر فتح الله وتسلمه
مشد الدواوين ثم صودر على خمس مائة ألف وهي قريب من أربعة آلاف دينار
إذ ذاك وأطلق ولزم بيته واستقر سعد الدين ابن غراب في كتابة السر
فباشرها من هذا الوقت إلى أن عاد الناصر إلى المملكة فتركها لابن
المزوق وأعيد ابن نصر الله إلى نظر الجيش ولبس ابن غراب بزي الأمراء
وأعطي تقدمة وفي الثاني والعشرين منه أمر الناصر يشبك ابن ازدمر أن
يستقر في نيابة ملطية فامتنع
(2/318)
فألبس غصباً ورسم عليه وأمر الحاجب أن
يخرجه من القاهرة وأمر أزبك الإبراهيمي أن يستقر في نيابة طرسوس فامتنع
أيضاً ولم يحضر الخدمة وتشوش أكثر المماليك من ذلك والأمراء الجراكسة
وتخيلوا من الناصر أنه يريد إبعادهم وتقديم أخواله الروم وكان ذلك يظهر
منه كثيراً فكثر الهرج والمرج وإشاعة ركوب الأمراء على الناصر فغلب
عليه الخيال إلى أن حمله ذلك على الهرب فتغيب يوم الأحد خامس عشر ربيع
الأول وقت القيلولة وفقد فلم يعلموا له خبراً فقيل إنه خرج من باب
القرافة مختفياً وركب فلم يعلم خبره لأنه نهى من اتبعه عن إتباعه فرجع
عنه وليس معه إلا مملوك واحد وهو بيغوت فعادا إلى الجيزة ثم رجعا إلى
بيت سعد الدين ابن غراب فاختفى عنده ولم يتحققوا أين هرب بل أشيع أنه
قتل سراً وصار ابن غراب يطالعه بالأخبار يوماً بيوم ويدبر معه أمر يشبك
وغيره ويعلمه بما يشتد به الحقد منه على أقاربه كبيبرس وإينال باي
وغيرهما ممن يخالف هواه هوى يشبك إلى أن كان ما سنذكره فلما بلغ
الأمراء غيبة الناصر اجتمعوا في آخر النهار ببيت الأمير الكبير بيبرس
ثم بالاصطبل بعد أن جمعوا القضاة والخليفة وتشاوروا إلى أن استقر رأيهم
على سلطنة أخيه عبد العزيز فأحضروه ولقبوه المنصور وعقدوا له البيعة في
تلك الليلة واستقر بيبرس الصغير لالاة السلطان واستقر في الثامن
والعشرين منه بيبرس الكبير قريب السلطان
(2/319)
أتابكاً وآقباي أمير سلاح وسودون الطيار
أمير مجلس وسودون المحمدي أمير آخور وباش باي رأس نوبة كبيراً ورسطاي
حاجب الحجاب وخلع على المباشرين المستقرين على سعد الدين ابن غراب وهو
كاتب السر وعلى ابن المزوق وهو ناظر الجيش وعلى فخر الدين بن غراب وهو
الوزير وعلى القضاة الأربعة وهم البلقيني وابن العديم والبساطي وسالم
وكان ما سنذكره، وفي صفر عزل الصدر ابن العجمي عن الحسبة وقرر ابن
شعبان ثم صرف بعد خمسة عشر يوماً وأعيد الصدر وصرف القاضي جلال الدين
عن القضاء في نصف صفر وأعيد الأخنائي ثم أعيد القاضي جلال الدين في
خامس ربيع الأول.
وفي تاسع عشري ربيع الأول رجم الأستادار وشج وجهه فدخل إلى السلطان
واستعفى ورجع إلى بيته فطرد الأعوان.
وفي ربيع الآخر توجه نوروز نائب الشام لقتال شيخ بالصبيبة واجتمع شيخ
وجكم ومن معهما فوقع القتال بينهم فانكسر نوروز ودخل شيخ دمشق فأمر
بضرب عنق جقمق الحاجب لأمر اتهمه به فقتل صبراً وذلك في حادي عشر ربيع
الآخر وأحضر شيخ السليماني وكان نائب صفد ثم طرابلس ثم قبض عليه جكم
لما حكم على طرابلس وسجنه وأخذ ماله فهرب إلى صهيون ثم قدم دمشق فاستقر
بها أميراً عند نوروز وحضر معه الوقعة فقبض عليه وأمر جكم بقتله فقتل
وغلب شيخ على دمشق وفوض القضاء لشهاب الدين الحسباني وخطب بالجامع فلم
يقبل أحد من النواب القدماء عنه النيابة فاستناب جماعة من جهته منهم
ابنه وصهره فيقال إنهم استأذنوا القاضي الحنفي لتصح أحكامهم وأراد
الأمير جكم أن يتوجه إلى طرابلس فوصل كتاب النائب بها يلتمس المصالحة
فتأخر توجه جكم ووصل نوروز إلى بحيرة حمص في ناس قليل فتوجه شيخ وجكم
(2/320)
ومن يتبعهما لقتاله فهرب إلى حماة فتوجه
الأميران إلى جهة حماة لقصده ثم عرجا إلى طرابلس فهرب نائبها إلى حماة
فدخل شيخ وجكم طرابلس فنزل جكم بدار النيابة ووقع يوم دخولهم مطر كثير
جداً فلما بلغ ذلك نائب حلب توجه أيضاً إلى حماة فاجتمعوا كلهم عند
نوروز ووافقهم جمع كثير من التركمان منهم ابن صاحب الباز فوقعت الوقعة
بين جكم وشيخ وبين دقماق نائب حماة ومن انضم معه ظاهر حماة في أواخر
رجب فانكسر دقماق وملكا حماة وقتل دقماق بين يدي جكم ونهبت حماة وكان
نوروز قد توجه إلى حلب هو ومن معه لأن دمرداش كان تقدمهم وأوهمهم أنه
يجمع لهم التركمان فلما وصلها غلب على حلب فوصل شاهين الحسني ومعه رسول
شيخ إلى دمشق يطلب شيخ وجكم إلى القاهرة ثم بعد عودة الناصر إلى
السلطنة أرسل سودون الطيار ومعه ولاية شيخ على الشام وجكم على حلب
ودمرداش على حماة ودخل شيخ إلى دمشق في أواخر رجب ولبس خلعة الناصر ولم
تخرج دمشق في هذه المدة عن حكمه في الصورة الحسية وكان بعد ذلك ما
سنذكره، وكان دمرداش متشتتاً عند التركمان.
وفيها كائنة عبد الوهاب بن الجباس المصري وكان يحترف في حانوت عطار
فسعى أن يكون سمساراً فأهين ومنع فخدم عند بدر الدين الكلستاني كاتب
السر فسعى له
(2/321)
حتى صار شاهداً ثم سعى إلى أن ولي الحسبة
بمصر ثم بالقاهرة ثم لما ولي جمال الدين التنسي قضاء المالكية وهو شاب
طمع هذا فسعى في قضاء الشافعية عند ابن غراب وكان ابن غراب قد غضب من
الشافعي في شيء فنوه بذكر ابن الجباس وكان في غاية الجهل الثغ زرئ
الهيئة فقام في ذلك الشيخ زين الدين الفارسكوري وادعى عليه عند ابن
العديم بقضايا وآخر أمره كتبت عليه قسامة أن لا يلبس طيلساناً ولا يركب
بزي القضاة وأهين وعزر وحبس ثم شفع فيه فأطلق وذلك في ربيع الأول من
هذه السنة.
وفي أوائل رجب استقر ابن خطيب نقرين في ولاية قضاء الشام وكان قد سافر
مع جكم وتقرب له برواية أحاديث الملاحم المكذوبة وبشره بأنه يلي
السلطنة وبأنه ينتصر على أعدائه فلما غلب على حماة سأل نائب الشام أن
يقرره في قضاء دمشق فكتب له توقيع بذلك قال ابن حجي: وكان ابن خطيب
نقرين آية في الكذب والزور مشهوراً بذلك مع الشهرة التامة بعدم الدين
حتى أن جكم أرسله رسولاً إلى نائب الشام في أواخر هذه السنة فخلع عليه
خلعة حرير بطراز ذهب فلبسها وخرج وهو فرحان وقد تطيلس فوقها، ثم كبس
بيته فوجد فيه أمور منكرة فختم عليها، ثم بعد وصول نائب الشام شيخ إلى
دمشق كاتب يشفع في ابن الحسباني، فوصل توقيعه بذلك في شعبان، فباشر
القضاء وصرف ابن الخطيب.
وفي السادس من جمادى الآخرة ظهر الناصر وصعد إلى القلعة ضحوة النهار
فكانت مدة غيبته سبعين يوماً إلا يوماً، وكان يشبك وجماعة اتفقوا مع
الناصر وهو في بيت
(2/322)
ابن غراب فأركبوه إلى بيت سودون الحمزاوي
بالباطلية، فلما أصبحوا ركبوا ولا علم عند بيبرس وأتباعه بظهور الناصر
بل ظن أن الأمراء البطالين مثل يشبك ومن معه قد ركبوا عليه فركب هو
أيضاً بالرميلة، فخرج الناصر ومن معه من المماليك فحملوا على بيبرس ومن
معه وطلبوا باب القلعة ففتح لهم واليها الباب، فطلع الناصر القصر
وانخذلت طائفة بيبرس فهرب سودون المارداني واختفى وخرج بيبرس إلى ظاهر
المدينة فأرسل إليه سودون الطيار فأحضره وأرسله مقيداً إلى الإسكندرية،
واستقر يشبك في الأتابكية عوضه في ثامن جمادى الآخرة، واستقر سودون
الحمزاوي دويداراً عوضاً عن سودون المارداني واستقر جركس المصارع أمير
آخور عوضاً عن سودون المحمدي ثم أمسك الناصر جماعة من الأمراء الذين
كانوا مع بيبرس وتأمروا وحكموا في دولة أخيه المنصور وسجنهم واستقر
سودون من زاده في نيابة غزة عوضاً عن سلامش.
وفي نصف جمادى الآخرة استقر شرف الدين يعقوب التباني في نظر الكسوة
ووكالة بيت المال عوضاً عن ولي الدين الدمياطي موقع بيبرس، ثم صرف عن
ذلك بعد أيام، واستقر ابن البرجي في ثامن عشري جمادى الآخرة، ثم أعيد
ابن التباني في رابع رجب لذلك بعناية قطلوبغا الكركي، وفي أواخر جمادى
الآخرة استقر تمراز الناصري نائب السلطنة بعد شغورها مدة طويلة.
وفي نصف رمضان استقر القاضي ولي الدين ابن خلدون في قضاء المالكية
عوضاً عن البساطي، ثم لم ينشب ابن خلدون أن مات في خامس عشريه، واستقر
جمال الدين ابن التنسي بعناية قطلوبغا الكركي، ثم صرف في سادس عشر شوال
وأعيد البساطي.
(2/323)
وفي شوال استقر كاتبه في درس الحديث
بالشيخونية عوضاً عن شمس الدين المدني والقاضي الحنفي كمال الدين ابن
العديم في مشيختها عوضاً عن الشيخ زاده الخرزباني.
وفيها رجع منكلى بغا من بلاد الشرق وكان توجه رسولاً إلى تمرلنك في
العام الماضي.
وفي رمضان أفرج نائب الشام عن جماعة ممن كانوا مسجونين بقلعة الصبيبة،
ومنهم سودون الظريف واستقر أميراً كبيراً بدمشق، ثم قبض عليه لأمر صدر
منه، واستقر عوضه بكتمر الساقي وسجن سودون المذكور.
وفيه رجع نوروز وعلاّن إلى حلب بموافقة جكم على ذلك. وأرسل جكم إلى
نائب الشام بذلك فوافق عليه، واستمر دمرداش عند التركمان يستحثهم
ويجمعهم على قصد جكم ومن معه بحلب، ووصل إليه تقليد حماة فقوي بذلك؛
وفي رمضان اشتد الغلاء بدمشق وبلغت الغرارة من ستمائة إلى سبعمائة،
فنادى النائب في الفقراء بالاجتماع فاجتمعوا بالميدان، ففرقهم على
الأغنياء ما بين الأمراء والقضاة والتجار، فقل سؤالهم وخف صياحهم
وسكتوا.
وفيه استولى التركمان على كثير من البلاد الشمالية وكان رأسهم إلياس
ويقال اسمه فارس ابن صاحب الباز، ثم وصلوا إلى حماة فغلب عليها، وكان
دمرداش قد وصل إليها لما جاءه تقليد النيابة بها فهجم عليه ابن صاحب
الباز، فهزمه إلى أن وصل إلى دمشق مكسوراً، فوصل إلى حمص فاستأذن له
نائبها نائب الشام في دخوله دمشق فأذن، فدخلها وعظم الأمر من التركمان
فجمع النائب القضاة وتشاوروا في مال يجمعونه بسبب طرد التركمان، فطال
النزاع إلى أن اتفقوا على أخذ أجرة شهر من كل بستان
(2/324)
ودار وحانوت وغير ذلك، فشرعوا في جبايتها،
ثم بطل ذلك ونودي بالرد على من أخذ منه شيء، ولما بلغ جكم أن دمرداش
عند نائب الشام شيخ تغيظ عليه، لأنه كان عدوه وكان كتب قبل ذلك إلى شيخ
يستنجده على التركمان، فتقاعد عليه فغضب أيضاً.
وفي شوال وصل إلى جكم قاصد السلطان يطلب منه إرسال نوروز وغيره من
الأمراء المنسحبين، فحماهم جكم وشتم القاصد ورده بغير جواب.
وفيها في شوال كانت الوقعة العظمى بين جكم والتركمان ورئيسهم فارس
ويدعى إلياس ابن صاحب الباز صاحب أنطاكية وغيرها، وكان قد غلب على أكثر
البلاد الشمالية ودخل حماة فملكها، وكان عسكره يزيد على ثلاثة آلاف
فارس غير الرجالة، فواقعه جكم بمن معه فكسره كسرة فاحشة، وعظم قدر جكم
بذلك وطار صيته ووقع رعبه في قلوب التركمان وغيرهم؛ ثم إنه بعد ذلك
واقع نعيراً ومن معه من العرب فكسره، ثم توجه جكم إلى أنطاكية وأوقع
بالتركمان، فسألوه الأمان وأن يمكنهم من الخروج إلى الجبال وإلى
مواطنهم القديمة وسلموا إليه جميع القلاع التي بأيديهم، فتقرر الحال
على ذلك وأرسل إلى كل قلعة واحداً من جهته، ودخل إلى حلب مؤيداً
منصوراً، فسلم فارس ابن صاحب الباز الغازي ابن أوزون التركماني، وكانت
بينهما عداوة فقتله وقتل ولده وجملة من جماعته، وكان أميراً كبيراً
شجاعاً بطلاً، استجد بأنطاكية مدرسة بجوار تربة حبيب النجار، وكان قد
استولى على معظم معاملة حلب ومعاملة طرابلس، فصار في حكمه أنطاكية
والقصير والشغر وبغراس وحارم وصهيون واللاذقية وجبلة وغير ذلك، فلما
أحيط به تسلم جكم البلاد ورجعت معاملة كل بلد إليها على ما كانت أولاً،
وكاتب جكم نائب الشام يطلب منه إرسال دمرداش ويعاتبه على تأخره عن نصره
مرة بعد مرة، فاستشعر دمرداش، أن نائب الشام يقبض عليه ويرسله إلى جكم
فهرب دمرداش، وأعاد نائب الشام إلى جكم الجواب بذلك فلم يعجبه وعزم على
قصد دمشق ومحاربة النائب، فبرز في شوال والتقى مع ابن صاحب الباز
(2/325)
وجمعهم من التركمان فكسرهم كسرة ثانية وضرب
أعناق كثير منهم صبراً وقتل نعيراً وأرسل برأسه إلى القاهرة، ولما وصل
دمرداش من هروبه إلى الرملة جاءه توقيع من الناصر بولاية طرابلس فرجع
لذلك، واستمر قصد جكم إلى جهة دمشق فوصل إلى سلمية وأرسل جرباش إلى
حمص، فاستعد نائب الشام لقتاله ووصل توقيع دمرداش بنيابة حلب عوضاً عن
جكم من القاهرة فتجهز صحبة نائب الشام، ثم وصل إليهم العجل بن نعير
طالباً بثأر أبيه وكذلك ابن صاحب الباز طالب ثأر أبيه وأخيه وكان معهم
من العرب والتركمان خلق كثير وتوجهوا بعد عيد الأضحى إلى جهة حلب، ووصل
توقيع العجل بن نعير بإمرة أبيه، ووصل نائب الشام ومن معه إلى حمص في
نصف هذا الشهر وتكاتبوا مع جكم في الصلح، فلما كان في الثالث والعشرين
من ذي الحجة وقعت الوقعة بينهم فانكسر عسكر أهل الشام، ووصل شيخ
ودمرداش إلى دمشق منهزمين، وكانت الوقعة بالرستن، وذلك أن نائب الشام
ومن معه كانوا في الميمنة وأن العرب كانوا في الميسرة فحمل جكم ومن معه
على الميمنة فحطمها ثم حمل على الميسرة فثبتوا ساعة ثم انهزموا، ورحل
نائب الشام ومن معه من دمشق بعد أن أخذ منها خيولاً وبغالاً وتوجه إلى
جهة مصر، ودخل جماعة من جهة نوروز بعده إلى دمشق وهرب ابن الحسباني
وعلاء الدين نقيب الأشراف، وتأخر البقية من القضاة والمباشرين فلاقوا
نوروز وسلموا عليه فدخل دمشق في أواخر ذي الحجة، وقتل علان بين يدي جكم
صبراً وكذلك طولو، ثم دخل جكم بعد يوم وبالغ جكم في الزجر عن الظلم
وعاقب على شرب الخمر فأفحش حتى لم يتظاهر به أحد وكانت قد فشت بين
الناس، ونادى في دمشق أن لا يظلم أحد على أحد ومن أساء على الحكم أو
الحسبة فعل به وفعل به، وانسلخت السنة وهم على ذلك،
(2/326)
ولما ظهر الناصر واستقر في السلطنة ثانياً
جهز إلى شيخ التقليد بنيابة الشام وإلى نوروز التقليد بنيابة حلب،
وتوجه شيخ مع نوروز ليساعده على من يخالفه وكان دقماق نائب حماة وعلان
نائب حلب، وبكتمر جلق نائب طرابلس قد اتفقوا على منع نوروز من ذلك،
فالتقى الفريقان فكسرهم شيخ وهجم على حماة من نهر العاصي وغلب عليها،
وقتل دقماق في هذه الوقعة وفر بقية الأمراء إلى جهة حلب، فتبعهم شيخ
فنازلهم فتركوها وتوجهوا نحو المشرق، وتسلم حلب وسلمها لجكم ورجع إلى
الشام؛ وقد بسط العينتابي في تاريخه هذه الوقعة وأظهر التعصب فيها
لجكم، لأنه كان ينتمي إليه فقال في حوادث ذي الحجة سنة ثمان:
وفيها كانت وقعة عظيمة بين جكم وشيخ بالرستن بين حماة وحمص، فانكسر
نائب الشام شيخ كسرة شنيعة وانهزم إلى أن وصل إلى الرملة، وقد كان شيخ
وجكم صديقين، لكن شيخ لما رأى ما اتفق لجكم من النصر على ابن صاحب
الباز كبير التركمان وعلى نعير كبير العرب وقتلهما على يده بعد أن عجز
فيهما الظاهر برقوق وغيره حسده وخشي أن تستمر هذه السعادة إلى أن
يتسلطن فكاتب فيه إلى الناصر انه عاصي، وكل ذلك بدسائس يشبك لأن شيخاً
كان من جهته وكان يشبك يروم السلطنة فكان يعادي كل من يستشعر منه أنه
يروم مثل يروم، فكان يحرض اتباعه على جكم. قال: وقد قتل في هذه الوقعة
من أتباع يشبك جماعة منهم طولو وعلان، وتفرق شمل شيخ إلى الغاية حتى لم
يبق معه ممن كان اجتمع له من العساكر وهم نحو عشرة آلاف مائة نفس. قال:
وكان جكم في هذه الوقعة في دون الألفين لكن النصر يؤتيه الله لمن يشاء.
وفيها قدم ركب العراق بعد أن كان له تسع سنين قد انقطع.
وفيها حاصر العرب المعروفون بالحجافلة مدينة عدن حتى عز الماء بها جداً
وبلغت الراوية وهي قدر قربة الكتف المصرية خمسين درهماً، فخرج إليهم
العفيف عبد الله بن الوجيه عبد الرحمن العلوي وأخوه في عسكر، فقتل
العفيف في المعركة وكان شاباً حسناً كثير الفضل للغرباء أحسن الله
جزاءه قتل في رابع صفر وله ثلاثون سنة.
(2/327)
وفي شعبان استقر جمال الدين ابن القطب في
قضاء الحنفية بدمشق والقاضي عز الدين ابن المنجا في قضاء الحنابلة بها
عوضاً عن ابن عبادة، وفيه استقر صدر الدين ابن الأدمي في كتابة السر
عوضاً عن الشريف علاء الدين، وفي رمضان وصل أبو العباس الحمصي قاضياً
على الشام عوضاً عن علاء الدين ابن أبي البقاء، ثم استقر بعد ثلاثة
أيام من سفر أبي العباس من حمص شهاب الدين الحسباني، وكان نائب الشام
قد استقر فيها بغير توقيع فباشر إلى أن وصل توقيعه كما قدمنا ذكره،
فلما سمع أبو العباس بذلك دخل الشام مختفياً ثم رجع إلى مصر هارباً، ثم
كتب النائب يشفع في علاء الدين ابن أبي البقاء أن يعود، ثم وصل أبو
العباس متولياً في ذي القعدة فسلم على النائب فلكمه في عمامته، ثم وصل
توقيع ابن الحسباني بعد ثلاثة أيام فاستمر.
وفي رمضان ظهر سودون المارداني من الاختفاء فأودع سجن الإسكندرية.
وفي العشرين منه مات ابن غراب سعد الدين إبراهيم بن عبد الرزاق ابن
غراب، وكان جده غراب أول من أسلم من آبائه وباشر بها أي بالإسكندرية
إلى أن اتهم بأنه كان ممن دل الفرنج لما هجموا الإسكندرية على عورات
المسلمين، فقتله ابن عرام سنة سبع وستين وسبعمائة، ونشأ ابنه عبد
الرزاق إلى أن ولي نظر الإسكندرية ومات في نحو الثمانين، وخلف ولدين
صغيرين أكبرهما يسمى ماجداً وأصغرهما إبراهيم، فلما تمكن محمود من
الظاهر دخل الإسكندرية فآوى إليه إبراهيم وهو يومئذٍ يكتب في العرصة
تحت كنف أخيه ماجد الذي يلقب بعد ذلك فخر الدين ويسمى محمّداً، فقربه
محمود ودربه وخرجه إلى أن مهر بسرعة وجادت كتابته وحمد محمود ذهنه
وسيرته فاختص به، وتمكن منه بحيث صار يدري بجميع أموره وتعلم لسان
الترك حتى حذق فيه، فاتفق أنه عثر عليه بخيانة، فخاف ابن غراب من سطوته
بل استدرك نفسه وانضوى على ابن الطبلاوي وهو يومئذ قد قرب من قلب
(2/328)
الظاهر في ولاية القاهرة، فلم يزالا به حتى
بطش بمحمود وآل أمره إلى استنقاذ أمواله ومؤنه بحبس أولى الجرائم،
وتقلب ابن غراب في ماله فيما يستحيى من ذكره لكثرته، ولازم خدمة ابن
الطبلاوي إلى أن رقاه فولي نظر الخاص، ثم ناطح ابن الطبلاوي إلى أن قبض
عليه بإذن الظاهر، ثم كان من أوصياء الظاهر، ثم اختص بيشبك فكان معه
ظهيراً له في تلك الحروب والتقلبات حتى ذهب إيتمش وتنم وغيرهما من
أكابر الظاهرية. ثم تشتت شمل أكثر الباقين، وتمكن ابن غراب حتى استحضر
أخاه فخر الدين فقرره وزيراً، ثم استقر في كتابة السر ونظر الجيش،
وأضاف إليه نظر الخاص، ثم لبس الأستادارية، ثم تزيا بزي الجند وضرب على
بابه الطبول، وعظم جداً حتى أنه لما مرض كان الأمراء الكبار يعودونه
قياماً على أرجلهم، وكان هو السبب في فرار الناصر وتركه المملكة
وإقامته عنده تلك المدة مختفياً حتى تمكن مما أراد من إبعاد من يود
الناصر وتقريب من يبغضه، فلما تكامل له جميع ما أراد لحظته عين الكمال
بالنقص، فمرض مدة طويلة بالقولنج إلى أن مات، فلما عاد الناصر إلى
المملكة بتدبير ابن غراب ألقى إليه بالمقاليد، فصار يكثر الامتنان على
جميع الأمراء بأنه أبقى لهم مهجهم وأعاد إليهم ما سلبوه من ملكهم
وأمدهم بماله عند فاقتهم، وكان يصرح بأنه أزال دولة وأقام أخرى، ثم
أعاد الأولى من غير حاجة إلى ذلك، وأنه لو شاء أخذ الملك لنفسه من غير
مانع، وأهان كاتب السر فتح الله وصادره ولبس مكانه، ثم ترفع عن كتابة
السر فولاها كاتباً عنده يقال له الفخر ابن المزوق، وكانت جنازته
مشهودة، فمات ضحوة نهار الخميس ليلة التاسع عشر من رمضان وبات في قبره
ليلة الجمعة وتعجب الناس لذلك، ولا عجب فيه فقد مات الحجاج ليلة سبع
وعشرين من رمضان، ولكن كان ابن غراب محبوباً إلى العامة لما قام فيه في
الغلاء والفناء من إطعامه للفقراء وتكفينه الموتى من ماله،
(2/329)
وكان يحب الانفراد بالرياسة، مليح الشكل
معرق الصورة شديد الزهو، يظهر التعفف، شديد العجب مفضالاً وهاباً وافر
الحرمة كثير البذل والله يسامحه، وكان قد بلغ في المملكة ما لم يبلغه
أحد، مات بعلة القولنج الصفراوي بعد أن صار أميراً مقدم ألف، وتنقل في
الولايات من نظر الخاص والجيش والأستادارية وكتابة السر وغير ذلك على
ما سلف في الحوادث، وكان يدري اللغة التركية مع الدهاء والمكر والمعرفة
التامة بأخلاق أهل الدولة، ولقد تلاعب بالدولة ظهراً لبطن، وخدم عند
الأضداد، وعظم قدره حتى شاع أنه لا بد أن يلي السلطنة ولم يوجد له كثير
من المال بل مات وعليه من الديون ما لا يدخل تحت الحصر.
وفي أواخر ذي الحجة استقر فتح الدين فتح الله في كتابة السر عوضاً عن
فخر الدين ابن المزوق، الذي كان من جهة ابن غراب.
وفي ليلة النصف من ذي الحجة خسف القمر في أواخر الليل فاستمر إلى بعد
أذان الفجر.
ذكر من مات
في سنة ثمان وثمانمائة من الأعيان
إبراهيم بن عبد الرزاق بن غراب مضى ذكره في الحوادث.
(2/330)
إبراهيم الحنبلي الصواف برهان الدين أحد
نواب الحكم، كان من طلبة القاضي موفق الدين، مات في العشرين من رمضان.
أحمد بن إبراهيم بن سليمان العكاري ثم الطرابلسي المعروف بابن العلم،
نسبة إلى جده علم الدين سليمان، تفقه ببلده، ثم دخل دمشق واشتغل بها
على الحسباني ورحل مع الياسوفي إلى حلب، فسمع بها في سنة سبعين على
الكمال ابن النحاس والكمال ابن حبيب وأحمد بن قطلو وغيرهم، وولي قضاء
عكار، وكانت لديه فضيلة ويتكسب من الشهادة، ثم دخل مصر، وقرأ على
البلقيني، قال القاضي علاء الدين: اجتمعت به بطرابلس، وكان فاضلاً مات
في صفر هذه السنة بطرابلس.
أحمد بن طوغان بن عبد الله الشيخوني المعروف بدويدار النائب، مات أبوه
وهو صغير فرباه سودون النائب فباشر الدويدارية عنده وأثرى، وكان يحب
أهل الخير والصلاح، ثم ترامى على أهل الحديث واختص بهم ولازم مطالعة
كتب أهل الظاهر واشتهر بذلك حتى صار مأوى لمن ينسب إلى ذلك وكان يتعانى
العمل بما يقتضيه قول أهل الطب فيما يتعلق بالغداء والعشاء، فيكثر
الحمية في زمن الصحة، ولا يأكل إلا بالميزان فلا يزال معتلاً، مات في
جمادى الأولى بالإسكندرية والله يرحمه.
أحمد بن عبد الله المعروف بالشيخ حطيبة بمهملتين مصغراً الدمياطي أحد
المجذوبين الذين يعتقد فيهم العامة الولاية، قيل: إنه كان متزوجاً فأحب
المرأة فبلغه أنها اتصلت بغيره، فحصل له من ذلك طرف خبال، ثم تزايد به
إلى أن اختل عقله ونزع ثيابه وصار عرياناً، وله في حالته هذه أشعار
منها قال موالياً:
سرى فضحتي وأنتي سركي قد صنت ... قصدي رضاك وأنتي تطلبي لي العنت
ذليت من بعد عزي في الهوى ما هنت ... يا ليت في الخلق لا كنتي ولا أنا
كنت
مات في أول المحرم، نقلت ترجمته من خط الشيخ تقي الدين المقريزي.
(2/331)
أحمد بن عماد بن يوسف الأقفهسي الشافعي
المعروف بابن العماد أحد أئمة الفقهاء الشافعية في هذا العصر، اشتغل
قديماً وصنف التصانيف المفيدة نظماً وشرحاً، وله أحكام المساجد وأحكام
النكاح وحوادث الهجرة وغير ذلك، سمعت من نظمه من لفظه وكتب عنه الشيخ
برهان الدين محدث حلب من فوائده.
أحمد بن محمّد بن إسماعيل بن عبد الرحيم بن يوسف بن شمير بن خازم
المصري أبو هاشم ابن البرهان الظاهري التيمي، ولد في ربيع الأول سنة
أربع وخمسين، واشتغل بالفقه على مذهب الشافعي، ثم صحب شخصاً ظاهري
المذهب فجذبه إلى النظر في كلام أبي محمّد بن حزم فأحبه، ثم نظر في
كلام ابن تيمية فغلب عليه حتى صار لا يعتقد أن أحداً أعلم منه وكانت له
نفس أبية ومروءة وعصبية ونظر كثير في أخبار الناس فكانت نفسه تطمح إلى
المشاركة في الملك وليس له قدم فيه لا من عشيرة ولا من وظيفة ولا من
مال. فلما غلب الملك الظاهر على المملكة وحبس الخليفة - أي في سنة 785
- غضب ابن البرهان من ذلك وخرج في سنة خمس وثمانين إلى الشام ثم إلى
العراق يدعو إلى طاعة رجل من قريش، فاستقرى جميع الممالك فلم يبلغ
قصداً، ثم رجع إلى الشام فاستغوى كثيراً من أهلها وكان أكثر من يوافقه
ممن يتدين لما يرى من فساد الأحوال وكثرة المعاصي وفشو الرشوة في
الأحكام وغير ذلك، فلم يزل على ذلك إلى أن نمى أمره إلى بيدمر نائب
الشام فسمع كلامه وأصغى إليه إلا أنه لم يشوش عليه لعلمه أنه لا يجيء
من يده شيء، ثم نمى أمره إلى نائب القلعة ابن الحمصي وكان بينه وبين
بيدمر عداوة شديدة، فوجد الفرصة في التألب على بيدمر فاستحضر ابن
البرهان واستخبره وأظهر له أنه مال إلى مقالته فبث عنده جميع ما كان
يدعو إليه فتركه وكاتب السلطان وأعلمه بقصتهم، فوصل كتاب السلطان
(2/332)
إلى بيدمر يأمره بتحصيل ابن البرهان ومن
وافقه على رأيه، وأمره أن يسمرهم، فتورع بيدمر عن ذلك وأجاب بالشفاعة
فيهم والعفو عنهم وأن أمرهم متلاش وإنما هم قوم خفت أدمغتهم من الدرس
ولا عصبية لهم، ووجد ابن الحمصي الفرصة لعداوته لبيدمر فكاتب السلطان
أن بيدمر قد عزم على المخامرة فوصل إليه الجواب بمسك ابن البرهان ومن
كان على مثل رأيه وإن آل الأمر في ذلك إلى قتل بيدمر، ولما أحضر ابن
البرهان إلى السلطان استدناه واستفهمه عن سبب قيامه عليه فأعلمه أن
غرضه أن يقوم رجل من قريش يحكم بالعدل وأعلمه بأن هذا هو الدين ولا
يجوز غيره، وزاد في نحو ذلك فسأله عمن معه على مثل رأيه من الأمراء
فبرأهم وأمر بضربه، فضرب هو وأصحابه وحبسوا بالخزانة المعدة لأهل
الجرائم، وذلك في ذي الحجة سنة ثمان وثمانين، ثم افرج عنهم في ربيع
الأول سنة إحدى وتسعين فاستمر ابن البرهان مقيماً بالقاهرة على صورة
إملاق حتى مات في أربع بقين من جمادى الأولى من هذه السنة وحيداً
غريباً فريداً، وحضرت جنازته والصلاة عليه في نحو سبعة أنفس لا غير،
وكان حسن المذاكرة والمحاضرة عارفاً بأكثر المسائل التي يخالف فيها أهل
الظاهر الجمهور، يكثر الانتصار ويستحضر أدلتها وما يرد على معارضها،
وأملى وهو في الحبس مسألة رفع اليدين في السجود ومسألة وضع اليمنى على
اليسرى ورسالة في الإمامة، سمعت من فوائده كثيراً، وكان كثير الإنذار
لما حدث بعده من الفتن ولا سيما ما حدث من الغلاء والفساد بسبب رخص
الفلوس حتى رأى عندي قديماً مرّة خابياً كبيراً من الفلوس فقال لي:
احذر أن تقتنيها فإنها ليست رأس مال، وكان كذلك فإنها في ذلك الوقت كان
القنطار منها يساوي عشرين مثقالاً أو أكثر، وآل الأمر
(2/333)
في هذا العصر إلى أنها تساوي أربعة مثاقيل
ثم صارت تساوي ثلاثة، ثم اثنين وربع ونحو ذلك، ثم انعكس الأمر بعد ذلك
وصار من كان عنده منها شيء احتيط به لما رفعت قيمتها من كل رطل منها
بستة دراهم إلى اثني عشر، ثم إلى أربعة وعشرين، ثم تراجع الحال لما
فقدت، ثم ضربت فلوس أخرى خفيفة جداً، وجعل سعر كل رطل أكثر من ثلاثين،
وظهر في الجملة أنها ليست مالاً يقتنى لوجود التخلل في قيمتها وعدم
ثباتها على قيمة واحدة، قرأت بخط البرهان المحدث بحلب: أنشدني أبو
العباس أحمد بن البرهان عن الشيخ برهان الدين الآمدي قال: دخلت على
العلاّمة أبي حيّان فسألته عن القصيدة التي مدح بها ابن تيمية فأقر بها
وقال: كشطناها من ديواننا، ثم دعا بديوانه فكشف وأراني مكانها في
الديوان مكشوطاً، قال المحدث: فلقيت الشيخ برهان الدين الآمدي فقال لي:
لم أنشده إيّاها ولا أحفظها، إنما أحفظ منها قطعاً، قال: فكان الآمدي
قد ذكر لي قبل ذلك الحكاية بزيادات فيها، ولم يذكر القصيدة، قال: ثم
لقيت ابن البرهان بحلب في أوائل سنة سبع وثمانين فذاكرته بما قال لي
الأمدي فقال لي: أنا قرأتها على الأمدي فظهر أنه لم يحرر النقد في
الأول، والقصيدة مشهورة لأبي حيان وأنه رجع عنها. مدي فقال لي: أنا
قرأتها على الأمدي فظهر أنه لم يحرر النقد في الأول، والقصيدة مشهورة
لأبي حيان وأنه رجع عنها.
أبو بكر بن عبد الرحمن بن فيروز تقي الدين الحواري، كان يقرئ أولاد
القاضي تاج الدين السبكي، وسمع من بعض أصحاب الفخر، ثم ولي قضاء
أذرعات، مات في المحرّم وله بضع وستون سنة.
جقمق الصفوي الحاجب بدمشق، قبض عليه في المحرم سنة خمس ثم أرسل إلى
غزّة، فلمّا ولي نوروز في هذه السنة استصحبه لدمشق وقرره في الحجوبية،
فلما انكسر نوروز مات.
(2/334)
دقماق الظاهري كان من الخاصكية وكان معه
بالكرك - قال القاضي علاء الدين في تاريخه كان شكلاً حسناً شجاعاً
كريماً، عنده حشمة زائدة وأدب كثير، وكان ممن فرّ في وقعة شقحب مع
كمشبغا الكبير إلى حلب، فأقام بها، ثم أمّره الظاهر نيابة حلب ثم نيابة
ملطية، فاستمرّ بها مدّة، ثم ولاّه الناصر بعد تنم نيابة حماه، ثم كان
ممن أسر مع اللنكية، ومن بعد تنم ولي نيابة صفدن ثم نيابة حلب في سنة
لأربع وثمانمائة فإنه واقع دمرداش النائب قبله فانتصر عليه، فلما كان
في سنة ستٍّ وثمانمائة تخيل من الناصر فهرب ووليها غيره، ثم بعد أشهر
دخلها بغتة فملكها، ثم واقعه الذي كان نائبها مع جمع جمعه من التركمان
فانهزم، وذلك في ثاني رجب منها، ثم رضي عليه الناصر وولاّه نيابة حماة
بعد وقعة السعيدية، فلما كان في هذه السنة حاصره شيخ وجكم إلى أن كان
من أمره ما كان وقتل، وكان ذلك في شعبان.
الشيخ زاده العجمي الحنفي قدم من بلاده إلى حلب سنة أربعٍ وتسعين، وهو
شيخ ساكن يتكلم في العلم بسكون ويتعانى حل المشكلات، فنزل في جوار
القاضي محب الدين ابن الشحنة فشغل الناس، وكان عالماً بالعربية والمنطق
والكشاف. وكان له اقتدار على حلّ المشكلات من هذه العلوم وقد طارحه
سراج الدين الفوي بأسئلة من العربية وغيرها نظماً ونثراً منها في قول
الكشاف إن الاستثناء في قوله تعالى: " إنّا أُرْسِلْنا إلى قومٍ
مُجرِمين، إلاّ آلَ لوطٍ " متصل أو منقطع، فأجابه جواباً حسناً بأنه إن
كان يتعلّق بقوم يكون منقطعاً، لأن القوم صفتهم الإجرام أو بمن الضمير
في صفتهم فيكون متصلا، واستشكل أن الضمير هو الموصوف المقيد بالصفة،
فلو قلت: مررت بقوم مجرمين إلا رجلاً صالحاً، كان الاستثناء منقطعاً،
فينبغي أن يكون الاستثناء منقطعاً في الصورتين، فأجاب بأنه لا إشكال،
قال: وغاية ما يمكن أن يقال إن الضمير المستكن في المجرمين وإن كان
عائداً إلى القوم بالإجرام إلا أن إسناد الإجرام إليه يقتضي تجرده عن
اعتبار اتصافه بالإجرام فيكون إثباتاً للثابت إلى آخر كلامه،
(2/335)
ومن نظمه في الجواب أيضاً وهي قصيدة طويلة
أوّلها يقول فيها:
ولا الشعر من دأبي ولا هو شيمتي ... ولا أنا من خيل الفكاهة في الخبر
ثم دخل القاهرة وولي بعد ذلك تدريس الشيخونية ومشيختها، فأقام مدة
طويلة إلى أن كان في أواخر هذه السنة فإنه طال ضعفه فشنع عليه القاضي
كمال الدين ابن العديم أنه خرف ووثب على الوظيفة فاستقر فيها بالجاه،
فتألم لذلك هو وولده ومقت أهل الخير ابن العديم بسبب هذا الصنيع، ومات
الشيخ زاده عن قرب، وكان له ولد يسمى محموداً كثير الفضل والعلم عارفاً
بالعلوم الآلية، وأقبل على الحديث يسمعه ويشغل فيه، وناب عن أبيه في
الشيخونية فحرم من وظيفة أبيه، فقرّره جمال الدين في مدرسته لتدريس
الحنفية فانجبر بذلك.
سالم بن سعيد بن علوي الحسباني أمين الدين، قدم القدس وهو ابن عشرين
سنة فتفقّه بها، ثم قدم دمشق في حياة السبكي واشتغل وداوم على ذلك،
وتفقه بعلاء الدين بن حجي وغيره، وأخذ النحو عن السكسكي وغيره، ثم قدم
القاهرة فقرأ في النحو على ابن عقيل وفي الفقه على البلقيني وقدم معه
دمشق، لما ولي قضاءها وولاّه قضاء بصرى ثم لم يزل يتنقل في النيابة
بالبلاد إلى أن مات، وكان مكبّاً على الاشتغال وفي ذهنه وقفة وكان
مخلا، مات في جمادى الأولى وقد جاوز السبعين.
شاهين بن عبد الله السعدي الطواشي، خدم الأشرف فمن بعده وتقدم في دولة
الناصر، وولي نظر الخانقاه البيبرسية وغيرها.
(2/336)
الشيخ السليماني، ولي صفد ثم طرابلس، ثم
قبض عليه جكم وسجنه بقلعة صهيون، ثم خلص منها وعاد إلى طرابلس، ثم ولي
تقدمة في نيابة نوروز بدمشق، ثم قتله جكم في بعض المغازي في هذه السنة.
طاهر بن الحسن بن عمر بن الحسن بن عمر بن حبيب بن شريح الحلبي زين
الدين أبو العز ابن بدر الدين، ولد بعد الأربعين، واشتغل بالعلم وتعانى
بالأدب، ولازم الشيخين أبا جعفر الغرناطي وابن جابر، وأسمع من إبراهيم
بن الشهاب محمود، وأجاز له من الشام أحمد بن عبد الرحمن المرداوي ومحمد
بن عمر السلاوي وغيرهما، ومن القاهرة شمس الدين ابن القماح وغيره،
وتعانى الإنشاء ببلده وقرر موقعا، ثم سكن القاهرة واستقر بها موقعا
وولي عدة وظائف، ومهر في النظم والنثر، وعمل شرحاً على البردة وخمسها
أيضاً، وذيل على تاريخ أبيه بطريقته، ونظم تلخيص المفتاح، وطارح
الأدباء القدماء منهم فتح الدين ابن الشهيد بأن كتب له بيتين، فأجابه
بثلاثة وثلاثين بيتاً، وطارح أيضاً سراج الدين عبد اللطيف الفيومي نزيل
حلب ونظم كثيراً، وأحسن ما نظم محاسن الاصطلاح للبلقيني، وليس نظمه
بالمفلق ولا نثره، وله قصيدة تسعة أبيات قافيتها: عودي، وله فيما لا
يستحيل بالانعكاس بيت واحد مع التزام الحروف المهملة،
(2/337)
وله:
أيا فاضلاً في العلا سوله ... له العلم والحلم صارا معا
أعد حال ملك وحل عدو ... ودع لحوكل ملاح دعا
ودم سالماً لا عداك السرور ... ولا رام سعدك ساع سعى
وله:
قلت له إذ ماس في أخضر ... وطرفه البابنا يسحر
لحظك ذا أو أبيض مرهف ... فقال لي: ذا موتك الأحمر
وكانت وفاته في سابع عشر ذي الحجة سنة ثمان وثمانمائة، اجتمعت به وسمعت
كلامه وأظن أني سمعت عليه شيئاً من الحديث ومن نظمه ولم اظفر به إلى
الآن.
عبد الله بن عبد الرحمن العلوي، تقدم ذكره في الحوادث.
عبد الرحمن بن علي بن خلف الفارسكوري الشيخ العلامة زين الدين الشافعي
ولد سنة خمسٍ وخمسين، وقدم القاهرة ولازم الاشتغال وتفقه على الشيخ
جمال الدين والشيخ سراج الدين وغيرهما، وسمع الحديث فأكثر، وكتب بخطه
المليح كثيراً ثم تقدم وصنّف وعمل شرحاً على شرح العمدة
(2/338)
لابن دقيق العيد، جمع فيه أشياء حسنة، وكان
له حظٌّ من العبادة والمروءة والسعي في قضاء حوايج الغرباء لاسيّما أهل
الحجاز، وقد ولي قضاء المدينة ولم يتم له مباشرة ذلك، واستقر في سنة
ثلاث وثمانمائة في تدريس المنصورية، ونظر الظاهرية ودرسها فعمرها أحسن
عمارة وحمد في مباشرته، وقد جاور بمكة وصنف بها تصنيفاً يتعلّق
بالمقام، وكان يودّني وأودّه وسمعت بقراءته وسمع بقراءتي، وأسفت عليه
جدّاً، وقد سئل في مرض موته أن ينزل عن بعض وظائفه لبعض من يحبه من
رفقته فقال: لا أتقلّدها حيّاً وميتاً، مات في رجب وله ثلاث وخمسون
سنة.
عبد الرحمن بن محمّد بن محمّد بن محمّد بن الحسن بن محمّد بن جابر بن
محمّد بن إبراهيم بن محمّد بن عبد الرحيم الحضرمي المغربي المالكي
المعروف بابن خلدون، ولد سنة 733، وسمع من الواد ياشي وغيره وقرأ
القرآن على أبي عبد الله بن محمّد بن سعد بن بزال إفراداً وجمعاً، وأخذ
العربية عن أبيه وأبي عبد الله محمّد الخضائري وأبي عبد الله بن بحر،
وأخذ الفقه عن محمّد بن عبد الله الحياني وقاضي الجماعة ابن عبد
السلام، وأخذ عن عبد المهيمن الحضرمي ومحمّد بن إبراهيم الإربلي شيخ
المعقول بالمغرب، وبرع في العلوم وتقدم في الفنون ومهر في الأدب
والكتابة، وولي كتابة السر بمدينة فاس لأبي عنان ولأخيه أبي سالم ورحل
إلى غرناطة في الرسلية سنة تسع وستين، وكان ولي بتونس كتابة العلامة،
ثم ولي الكتابة بفاس، ثم اعتقل سنة ثمان وخمسين نحو عامين، ودخل بجاية
بمراسلة صاحبها فدبّر أموره، ثم رحل بعد أن مات
(2/339)
إلى تلمسان باستدعاء صاحبها فلم يقم بها،
ثم استدعاه عبد العزيز بفاس فمات قبل قدومه فقبض عليه، ثم تخلّص فسار
إلى مراكش، وتنقّلت به الأحوال إلى أن رجع إلى تونس سنة ثمانين فأكرمه
سلطانها فسعوا به عند السلطان إلى أن وجد غفلة ففرّ إلى المشرق، وذلك
في شعبان سنة أربعٍ وثمانين، ثم ولي قضاء المالكية بالقاهرة، ثم عزل
وولي مشيخة البيبرسية ثم عزل عنها ثم ولي القضاء مراراً كان آخرها في
رمضان من هذه السنة فباشره ثمانية أيام فأدركه أجله، وكان ممن رافق
العسكر إلى تمرلنك وهو مفصول عن القضاء، واجتمع بتمرلنك فأعجبه كلامه
وبلاغته وحسن ترسّله إلى أن خلّصه الله من يده، وصنّف التاريخ الكبير
في سبع مجلّدات ضخمة ظهرت فيه فضائله وأبان فيه عن براعته، ولم يكن
مطّلعاً على الأخبار على جليّتها لا سيما أخبار المشرق وهو بين لمن نظر
في كلامه، وكان لا يتزيّا بزيّ القضاة بل هو مستمر على طريقته في
بلاده، مات في خامس عشري رمضان، قال لسان الدين بن الخطيب في تاريخ
غرناطة: رجل فاضل جمّ الفضائل رفيع القدر أصيل المجد وقور المجلس عالي
الهمّة قويّ الجأش متقدّم في فنون عقلية ونقلية متعدد المزايا شديد
البحث كثير الحفظ صحيح التصوّر بارع الخط حسن العشرة مفخر من مفاخر
المغرب، قال: هذا كله في ترجمته والمذكور في حد الكهولة: وقال
العينتابي في ترجمة ابن خلدون: مات فجأة بعد أن أعيد إلى القضاء بثلاثة
أيام وكان فاضلاً صاحب أخبار ونوادر ومحاضرة حسنة وله تاريخ مليح، وكان
يتهم بأمور قبيحة، كذا قال.
(2/340)
عبد العزيز بن سليم المحلى عز الدين
الشافعي، كان عارفاً بالوثائق، وولي قضاء المحلّة. مات بمكة مجاوراً عن
ستين سنة.
علي بن أحمد بن علوان النحريري نور الدين شاهد الطواحين السلطانية، مات
في أواخر جمادى الأولى، وكان كثير التودّد، وقد سمع من الشيخ محمّد
القرمي وحدّث عنه.
علي بن ... الشيخ علاء الدين الكاتب المجود كاتب المنسوب الملقب بعصفور
موقع الدست، ووقع عن جماعة من أكابر الأمراء، وهو الذي كتب عهد الناصر
فرج في دولته الثانية، ومات عقب ذلك فقال فيه بعض أدباء العصر:
قد نسخ الكتاب من بعده ... عصفور لنا طار للخلد
مذ كتب العهد قضى نحبه ... وكان منه آخر العهد
وقد كتب عليه جماعة من الأعيان وانتفعوا به، وكان يكتب على طريقة
ياقوت، وكان شيخنا الزفتاوي صديقه يكتب طريقة ابن العفيف، ودخل علاء
الدين عصفور صحبة سودون قريب السلطان دمشق ووصل معه إلى حلب، فنهب مع
من نهب بأيدي اللنكية ولكنه نجا من الأسر، وكان بارعاً في كتابة
المنسوب على طريقة الشاميين وولي توقيع الدست فكان بعضهم يقول: ضاع
عصفور في الدست، مات في رجب.
فارس بن صاحب الباز التركماني، كان أبوه من أمراء التركمان فلما وقعت
(2/341)
الفتنة اللنكية جمع ولده هذا فاستولى على
أنطاكية، ثم قوي أمره فاستولى على القصر، ثم وقع بينه وبين دمرداش في
سنة ست وثمانمائة فانكسر دمرداش، ثم جمع دمرداش لقتاله بأنطاكية فحاصره
وكان جكم مع فارس ثم رجع عنه بغير طائل، فاستولى فارس على البلاد
الغربية كلها وعظم شأنه وبنى بأنطاكية مدرسة حسنة، واستولى على صهيون
وغيرها من عمل طرابلس، وصارت نواب حلب كالمحصورين معه لما استولى على
أعمالهم، فلما ولي جكم نيابة حلب تجرّد له وواقعه فهزمه ونهب ما معه،
واستمر جكم وراءه إلى أن حاصره بأنطاكية سنة ثمان وثمانمائة، ولم تزل
الحروب بينهما إلى أن طلب فارس الأمان فأمّنه ونزل إليه وسلّمه لغازي
بن أوزون وكان عدوّه فقتله وقتل معه ابنه وجماعة منهم في شوّال،
واستنقذ جكم البلاد كلها من أيدي ابن صاحب الباز وهي أنطاكية والقصر
والشغر وحارم وغير ذلك، وانكسرت بقتل فارس شوكة التركمان.
قوام بن عبد الله الرومي الحنفي قوام الدين، قدم الشام وهو فاضل في عدة
فنون فصاهر بدر الدين ابن مكتوم وولي تصديراً بالجامع وشغل فأفاد وصحب
النوّاب، وكان سليم الباطن كثير المروءة والمساعدة للناس، مات في ربيع
الآخر بدمشق.
ماجد بن عبد الرزاق المعروف بابن غراب القبطي الملقب فخر الدين، سمّى
نفسه محمّد بن عبد الرزاق لما ولي المناصب بالقاهرة، وكان جدّه
نصرانيّاً بالإسكندرية
(2/342)
يتعانى صناعة الكتابة، فكان ممن اتهم
بإعانة الفرنج على نهب الإسكندرية، فلما توجهوا عنها خاف فأسلم، ولما
مات نشأ ولده عبد الرزاق واشتهر بمعرفة الكتابة والأمانة إلى أن ولي
نظر الإسكندرية، ومات بعد الثمانين وخلف ماجداً وإبراهيم وهو الأصغر،
فاتصل إبراهيم بالأمير محمود الأستادار في سلطنة الظاهر برقوق وتلقب
سعد الدين، وتنقلت به الأحوال على ما تقدم في الحوادث، وعظم قدر أخيه
فخر الدين في الرياسة، وولي الوزارة ونظر الخاص وغير ذلك، كل ذلك
بعناية أخيه، ولم يكن فيه من آلات الرياسة شيء بل كان يلثغ لثغة قبيحة
ويسير سيرة جائرة، ولما مات أخوه خمل وخمد وآل أمره إلى أن مات في حبس
الأمير جمال الدين الأستادار، وتقدمت ترجمته في آخر الحوادث من هذه
السنة.
محمّد بن أبي بكر شمس الدين الجعبري الحنبلي العابر كان يتعانى صناعة
القبان، ونزل في دروس الحنابلة ونزل في سعيد السعداء وفاق في تعبير
الرؤيا، ومات في جمادى الآخرة، وهو والد شيخنا.
محمّد بن أبي بكر بن سليمان بن أحمد العباسي أمير المؤمنين المتوكل على
الله أبو عبد الله بن المعتضد بن المستكفي ابن الحاكم، ولد في سنة نيّف
وأربعين أو نحوها، وتولى الخلافة في سنة ثلاث وستين بعهد من أبيه إليه،
واستمر في ذلك إلى أن مات في شعبان من هذه السنة سوى ما تخلل من السنين
التي غضب فيها عليه الملك الظاهر برقوق من ولاية قريبه، واستقر في
الخلافة بعده ولده أبو الفضل العباسي ولقب المستعين
(2/343)
بالله، وكان قد عهد قبله بالخلافة لولده
الآخر المعتمد على الله أحمد ثم خلعه وولي هذا واستمر ذلك مسجوناً إلى
أن مات، ولما هرب الأشرف شعبان من عقبة أيلة سأل طشتمر المتوكل أن
يبايع له بالسلطنة فامتنع وقال: بل اختاروا من شئتم وأنا أولّيه، فقدم
معهم وأقيم المنصور بن علي بن الأشرف، وقام بتدبير الملك إينبك فخلع
المتوكل من الخلافة وأقيم قريبه زكريّا بن إبراهيم في ثالث عشري صفر
سنة تسع وسبعين، ثم أعيد بعد شهر إلى أن تسلطن برقوق فحسن له جماعة من
أهل الدولة وغيرهم طلب الملك فكاتب الأمراء والعربان مصراً وشاماً
وعراقاً وبث الدعاة في الآفاق، فنمّ عليهم صلاح الدين بن تنكز في رجب
سنة خمس وثمانين وأخبره عن حالة الطنبغا أن الخليفة اتفق مع قرط الكاشف
أن الظاهر إذا ركب إلى الميدان قبض عليه ووافقهم إبراهيم بن طلقتمر
أمير جندار، فاستدعى الخليفة في الحال وقيّده وسجنه في برج القلعة وقبض
على إبراهيم وقرط فوسط قرط وحبس إبراهيم، وأقام عمر في الخلافة ولقب
الواثق، ثم مات عمر وأقيم أخوه زكريّا ولقب المستعصم، واستمر المتوكل
في الحبس إلى أن خرج يلبغا الناصري فأفرج برقوق عن الخليفة في صفر سنة
إحدى وتسعين، لأنه بلغه أن الناصري يشنع عليه كونه سجن الخليفة فأمر
بالتضييق عليه فمنع الناس من الدخول عليه، فلما قوي الناصري أفرج عنه
في ربيع الأول وأحضره عنده وتحادث معه ساعة وأعطاه مالاً وثياباً، ثم
أحضره في أول يوم من جمادى الأولى وخلع عليه وأركبه حجرة شهباء وأركبه
من باب النحاس وأمره بالانصراف إلى داره، وركب معه الأمراء والقضاة،
ونشرت على رأسه الأعلام السود، وفرح الناس به فرحاً عظيماً، ولم يبق
أحد حتى خرج لرؤيته فكان يوماً مشهوداً، فلما قدم الناصري وغلب على
المملكة وأزال دولة برقوق قال يلبغا الناصري للخليفة بمحضر من الأمراء
يا مولانا أمير المؤمنين ما ضربت بسيفي هذا إلا في نصرتك، وبالغ في
تعظيمه وتبجيله، فأشار عليه بإعادة حاجي بن شعبان إلى المملكة ثم أخرج
منطاش الخليفة والقضاة معه لما
(2/344)
خرج برقوق من الكرك، فلما انتصر برقوق جدّد
له الخليفة الولاية بالسلطنة وأحسن إليه، واستمر على حاله إلى أن مات
برقوق فقلد السلطنة لولده الناصر فرج، ومات في أيامه محمّد بن أبي بكر
بن محمّد بن الشهاب محمود بن سلمان بن فهد الحلبي الأصل الدمشقي شمس
الدين بن شرف الدين ولد في شعبان سنة 734، وأحضر في الخامسة المنتقى من
معجم ابن جميع علي البرزالي وأبي بكر بن قوام وشمس الدين ابن السراج
والعلم سليمان المنشد بطريق الحجاز في سنة تسعً وثلاثين، وسمع في سنة
ثلاث وأربعين من عبد الرحيم بن أبي اليسر والشرف عمر بن محمّد بن خواجا
إمام ويعقوب بن يعقوب الحريري والعز محمّد بن عبد الله الفاروثي وغيرهم
الأولين من مشيخة الفخر وحدث، وكان شكلاً حسناً كامل البنية مفرط
السمن، ثم ضعف بعد الكائنة العظمى وتضعضع حاله بعد ما كان مثرياً، وكان
كثير الانجماع عن الناس مكبّاً على الاشتغال بالعلم، درس بالبادرائية
نيابة، وكان كثير من الناس يعتمد عليه لأمانته وعقله، مات في خامس عشري
جمادى الأولى وله أربعٌ وسبعون سنة ونصف سنة، وكان أبوه موقع الدست
بدمشق وقد ولي قبل ذلك كتابة السر.
محمّد بن الحسن الأسيوطي شمس الدين كان عالماً بالعربية حسن التعليم
لها، انتفع به جماعة وكان يعلم بالأجرة وله في ذلك وقائع عجيبة تنبئ عن
دناءة شديدة وشح مفرط، وكان منقطعاً إلى القاضي شمس الدين ابن الصاحب
الموقع، ونبغ له ولده شمس الدين محمد لكن مات شابّاً قبله رحمهما الله
تعالى.
(2/345)
محمّد بن عبد الله الخضري - بضم المعجمة
بعدها معجمة مفتوحة - المصري نزيل مكة الطبيب كان يتعانى الطب
والكيمياء والنارنجيّات والنجوم، وأقام بمكة مجاوراً بها مدّة، لقيته
بها سنة ست، ودخل اليمن فأقبل عليه سلطانها الناصر، فيقال إن طبيب
الناصر دسّ عليه من سمّه فهلك، وكان هو أتهم بأنه دسّ على الرئيس شهاب
الدين بن المحلى التاجر سمّاً فقتله في آخر سنة ستٍّ وثمانمائة.
محمد بن عبد الرحمن بن أحمد بن إبراهيم بن جملة بن مسلم المحجي الأصل
المشقي كمال الدين كان رئيساً محتشماً متمولاً باشر نظر ديوان السبع ثم
تركه ومات في المحرم.
محمّد بن عبد الرحمن بن عبد الخالق بن سنان البرشنسي - بفتح الموحدة
وسكون الراء وفتح المعجمة بعدها نون ثم سين مهملة - اشتغل قديماً وسمع
الحديث من القلانسي ونحوه وحدث وأفاد ودرس مع الدين والخير، وله منظومة
في علم الحديث وشرحها، وشرح أسماء رجال الشافعي وكتاباً في فضل الذكر
وغير ذلك، سمعت عليه قليلا، ومات وله سبعون سنة.
محمّد بن محمّد بن أحمد بن علي بن عبد الكافي السبكي أبو حاتم ابن أبي
حاتم بن أبي حامد ابن الشيخ تقي الدين اشتغل قليلا، وناب في الحكم من
سنة تسعين عن ابن الميلق إلى أن مات في إحدى الجماديين وله أربع وخمسون
سنة.
محمّد بن محمّد بن أحمد بن محمّد بن أحمد الفارسي الأصل القدسي ثم
الدمشقي المعروف بابن المهندس أخو شيخنا شهاب الدين وهو الأصغر أعني
محمدا، ً نشأ صيِّناً جيِّداً، وصحب الشيخ فخر الدين السيوفي وبمكة
الشيخ عبد الله اليافعي، وكانت له في نشأته أحوال صالحة ثم باشر بعض
الدواوين وحصل أموالاً ولم تحمد
(2/346)
سيرته، وكان قد سمع من الميدومي وغيره،
ومات في شوال ودفن بتربته التي أنشأها شرقي الشامية البرانية بدمشق.
محمّد بن محمّد بن أسعد بن عبد الكريم بن سليمان بن يوسف بن علي بن
طنجا الثقفي القاياتي فخر الدين أبو اليمن اشتغل قليلاً، وسمع الحديث
من نور الدين الهمداني وغيره، ونسخ بخطه الكثير، وجاور بمكة مراراً،
وتلا بالسبع على بعض المتأخرين، وكان قد استقر في قضاء مصر والجيزة
نيابة، فباشرها مدة طويلة منفرداً ثم اشترك معه غيره مع استمراره على
أنه الكبير فيهم، وعيّن للقضاء فامتنع ولازم النيابة إلى أن مات، وخلّف
مالاً طائلاً وأوصى بثياب بدنه لطلبة العلم ففرّقت فيهم، مات في رجب
وقد جاوز الثمانين.
محمّد بن محمّد بن حسن الأسيوطي شمس الدين بن شمس الدين، اشتغل بالفقه
والحديث والعربية وتقدم ومهر في عدة فنون ورافقنا في السماع كثيرا، مات
بعد أبيه في هذه السنة أحسن الله عزانا فيه.
محمّد بن محمّد بن محمّد الخضر ابن شمري الزبيري العيزري الغزي، ولد في
ربيع الآخر سنة أربع وعشرين وتفقه بالقاهرة على ابن عدلان وأحمد بن
محمّد العطار المتصدر بالجامع الحاكمي ومحيى الدين ولد مجد الدين
الزنكلوني وقرأ على البرهان الحكري ورجع إلى غزة سنة 744 فاستقرّ بها،
ودخل دمشق فأخذ عن البهاء المصري والتقي والتاج السبكيّين وغيرهم، وأذن
له البدر محمود بن علي بن هلال
(2/347)
في الإفتاء وأخذ عن القطب التحتاني، وصنف
تصانيف في عدة فنون، وكتب إلى أسئلة في عدة علوم، وله مناقشة على جمع
الجوامع، وذكر أنه شرحه واختصر القوت للأذرعي وله تعليق على الشرح
الكبير للرافعي ونظم في العربية أرجوزة سمّاها قضم الضرب في نظم كلام
العرب، ومات في نصف ذي الحجة هذه السنة، وقال القاضي تقي الدين الشهبي
وقفت له على اعتراضات على فتوى للشيخ سراج الدين البلقيني فوصلت إلى
ولده القاضي جلال الدين فردّ عليه وانتصر لأبيه، فبلغه ذلك فانتصر
لنفسه وردّ ما قاله القاضي جلال الدين.
محمّد بن موسى بن عيسى بن علي الدميري ثم المصري أبو البقاء كمال الدين
الشافعي ولد في حدود الخمسين وتكسب بالخياطة ثم طلب العلم وسمع المسند
تامّاً من العرضي وغير ذلك، ولازم خدمة الشيخ بهاء الدين السبكي وتخرّج
به وبغيره، وكان اسمه كمالاً وبذلك كان يكتب بخطه في كتبه ثم تسمّى
محمّداً، ومهر في الفقه والأدب والحديث وشارك في الفنون، ودرّس بدرس
الحديث بقية بيبرس وفي عدّة أماكن، ووعظ وأفاد وخطب فأجاد، وكان ذا
حظٍّ من العبادة تلاوةً وصياماً ومجاورة بالحرمين وقد ذكر عنه كرامات
وكان يخفيها وربما أظهرها وأحالها على غيره، وصنّف شرح المنهاج في أربع
مجلّدات، لخّصه من كلام السّبكيّ وطرّزه بفوائد كثيرة من قبله، ونظم في
الفقه أرجوزة طويلة، وصنّف حياة الحيوان، أجاده وأكثر فوائده مع كثرة
استطراده فيه من شيء إلى شيء، وشرع في شرح ابن ماجه فكتب مسودّته وبيّض
بعضه، ومات في ثالث جمادى الأولى.
(2/348)
محمّد بدر الدين بن منهال ناب في الحسبة
وغيرها، وكان يرخي العذبة ويباشر عند بعض الأمراء.
محمّد الحنبلي المعروف بابن المصري شمس الدين، كان من نبهاء الحنابلة
يحفظ المقنع وهو آخر طلبة القاضي موفّق الدين موتاً، وكان قد ترك وصار
يتكسّب في حانوت بالصّاغة.
محمود بن أحمد بن إسماعيل بن العز الحنفي القاضي محيى الدين بن نجم
الدين بن عماد الدين ابن الكشك، اشتغل قليلا وناب عن أبيه واستقل
بالقضاء وقتاً، ولما كانت فتنة تمر دخل معهم في المنكرات وولي القضاء
من قبلهم ولقب قاضي المملكة واستخلف بقية القضاة من تحت يده، وخطب
بالجامع ودخل في المظالم وبالغ في ذلك فكرهه الناس ومقتوه ثم أطلع تمر
على أنه خانه فصادره وعاقبه وأسره إلى أن وصل تبريز فهرب ودخل القاهرة
فكتب توقيعه بقضاء الشام فلم يمضه نائب الشام شيخ، واستمرّ خاملاً إلى
أن مات، وتفرّق أخوه وأولاده وظائفه ثم صالحوه على بعضها، ومات محيى
الدين في ذي الحجة، وهو والد رئيس الشام شهاب الدين.
محمّد أمير العرب نعير - بنون ومهملة مصغر - هو محمد بن حيار -
بالمهملة المكسورة ثم التحتانية الخفيفة - بن مهنا بن عيسى بن مهنا بن
مانع بن حديثة الطائي أمير آل فضل بالشام يلقب شمس الدين ويعرف بنعير
ولي الإمرة بعد أبيه ودخل القاهرة مع يلبغا الناصري ولما عاد الظاهر من
الكرك وافق نعير منطاشا
(2/349)
في الفتنة المشهورة وكان مع منطاش لما حاصر
حلب ثم راسل نعير نائب حلب إذ ذاك كمشبغا في الصلح وتسلمه منطاش ثم غضب
برقوق على نعير وطرده من البلاد فأغار نعير على بني عمّه الذين قرروا
بعده وطردهم، فلما مات برقوق أعيد نعير إلى إمرته ثم كان ممن استنجد به
دمرداش لما قدم اللنكية فحضر بطائفة من العرب فلما علم أنه لا طاقة لهم
بهم نزح إلى الشرق، فلما نزح التتار رجع نعير إلى سلمية ثم كان ممن
حاصر دمرداش بحلب ثم جرت بينه وبين الأمير جكم وقعة فكسر نعير ونهب
وجيء به إلى حلب فقتل في شوال منها وقد نيف على السبعين، وكان شجاعاً
جواداً مهاباً إلاّ أنه كثير الغدر والفساد وبموته انكسرت شوكة آل
مهنّا وكان الظاهر خدعه ووعده حتى سلم منطاش وغدر به فلم يف له الظاهر
بما وعده بل جعل يعد ذلك عليه ذنباً وولي بعده ولده العجل
(2/350)
يحيى التلمساني في التي بعدها.
//الجزء السادس
بسم الله الرحمن الرحيم
سنة تسع وثمانمائة
في الثالث من المحرم استقر شمس الدين محمّد بن عبد اللطيف المناوي
الملقب بالبديية.
وفيها مات ناصر الدين الطناحي في المحرم أو صفر وكان إمام السلطان
واستقر تاج الدين عبد الوهاب بن نصر الله في نظر الأحباس عوضاً عنه
وكان الطناحي يتعانى الكيمياء ويفسد ماله فيها.
واستهلت وقد غلب نوروز على دمشق وخرج عنها نائبها فتوجه إلى الرملة،
ورجع جكم من دمشق في أوائل المحرم طالباً البلاد الحلبية.، وتوجه نوروز
إلى جهة شيخ ليقبض عليه، فاستمر شيخ متوجهاً إلى الديار المصرية فوصل
إليها في الثالث من صفر فنزل الميدان، فأكرمه السلطان وهاداه أكثر
الأمراء وعظمه، وصحبه حينئذٍ ولدا ابن التباني بواسطة الأمير قطلوبغا
الكركي، ووصل أيضاً دمرداش نائب حلب كان والطنبغا العثماني حاجب دمشق
ويونس الحافظي نائب حماة وسودون الظريف وآخرون، وخلع على شيخ في السادس
من صفر، ورجع نوروز من الرملة بعد أن فاته شيخ ومن معه فأوقع بالعرب في
صرخد وجاء بجمال كثيرة ودخل دمشق في أواخر صفر، وفي مستهل ربيع الأول
برز شيخ ودمرداش ومن معهما من العساكر إلى جهة الشام لقتال نوروز وجكم،
وخرج معهما سودون الطيار أمير سلاح وسودون الحمزاوي الداودار، ثم خرج
الناصر في ثامن الشهر وعسكر بالريدانية
(2/351)
واستخلف بالقاهرة تمراز نائباً في الغيبة،
ورحل من الريدانية ثاني عشره، ثم دخل غزة في رابع عشر ربيع الأول، ثم
دخل دمشق في سابع ربيع الآخر، وحمل الشتر بين يده شيخ نائب الشام، ورحل
السلطان من الريدانية صبح يوم الجمعة فخرج الناس من القاهرة لما بلغهم
ذلك كالوزير وناظر الخاص والقاضي الشافعي قبل صلاة الجمعة وتأخر كثير
منهم إلى أن صلوا الجمعة وركبوا ووصلوا إلى غزة في ثاني عشري ربيع
الآخر، وجهز السلطان قبل سفره أخويه المنصور عبد العزيز وإبراهيم إلى
الإسكندرية وأرسل معهما قطلوبغا الكركي وإينال حطب يحتفظان بهما، فلم
يلبثا أن ماتا في يوم واحد في العشر الأول من ربيع الآخر، وأحضرا إلى
القاهرة ميتين ودفنا في تربة أبيهما وحضر مع الأمير الذي كان موكلاً
بهما محضر مثبوت بأنهما ماتا بقضاء الله وقدره، وكان نوروز لما بلغه
حركة السلطان إلى الشام جهز سودون المحمدي في عسكر إلى الرملة وأمر
بشنق فواز أمير عرب حارثة فشنق، ووصل إليه إينال باي بن قجماس ويشبك بن
أزدمر هاربين من القاهرة، ووصل معهم سودون المحمدي هارباً من الرملة،
ودخل الرملة جبريل والعثماني وشاهين دويدار نائب الشام، وفي سابع عشر
ربيع الآخر خرج نوروز ومعه العسكر إلى قصد قتال ابن بشارة وأرسل بكتمر
جلق لجمع العشير، ثم رجع نوروز إلى البقاع ولحق به بكتمر وتوجها
(2/352)
إلى بعلبك، ثم توجهوا إلى ناحية حمص في
أواخر الشهر، ودخل شاهين دوادار النائب في سابع عشري ربيع الأول إلى
دمشق، ثم وصل أستاذه ودمرداش إلى الشام آخر يوم في ربيع الأول، واستقر
الطنبغا العثماني في نيابة صفد، وعمر بن الهدباني حاجب الحجاب بدمشق،
واستقر سودون بقجة في نيابة طرابلس.
وفي ربيع الآخر سعت جماعة من مماليك السلطان لطلب النفقة، فأمر السلطان
بمسك جماعة منهم وشنق جماعة، وفي نصف ربيع الآخر برز السلطان إلى جهة
حلب، واستقر صبيحة ذلك اليوم نجم الدين عمر بن حجي أخو الشيخ شهاب
الدين في قضاء الشام واستقر علاء الدين بن نقيب الأشراف الدمشقي في
كتابة السر ووصل في هذا الشهر شمس الدين الأخنائي إلى دمشق وكان قد مل
من السعي في قضاء الشافعية بمصر وتناوب ذلك مع القاضي جلال الدين
البلقيني أربع مرات وفي الآخر استعان البلقيني عليه بجمال الدين
الأستادار فألزمه بالسفر صحبة العسكر إلى الشام فسافر وفارقهم إلى
القدس.
وفي ربيع الأول غضب الناصر على قضاة حماة ورسم عليهم وصادرهم وأهانهم
ووضع في رقابهم الزناجير لكونهم أثبتوا محضراً صورته أنهم سمعوا طائراً
بحماة يقول: اللهم انصر جكم، وكان قبل ذلك قد رسم على قضاة الشام وطلب
من كل واحد منهم مالاً كثيراً فوزن أكثره في الترسيم، فطلب من علاء
الدين ابن أبي البقاء مالاً فاختفى ثم مات قريباً، ودخل الناصر حلب في
أواخر ربيع الآخر وصحبته القضاة البلقيني والكمال ابن العديم والبساطي
وسالم، فهرب نوروز وجكم وتمربغا المشطوب عن حلب وعدوا الفرات،
(2/353)
فأقام الناصر بحلب إلى أن استهل جمادى
الآخرة، وأرسل العساكر في طلبهم فلم يلحقوا منهم أحداً، فرجعوا إليه
بذلك، وفي غضون ذلك صادر السلطان قضاة طرابلس وقضاة حلب لعلة قيامهم مع
جكم، ورجع متوجهاً إلى القاهرة وقرر في نيابة حلب جركس المصارع وفي
نيابة طرابلس سودون بقجة وفي نيابة دمشق شيخ، فلما تحقق جكم ومن معه من
رحيل السلطان من حلب رجع إلى حلب، فهرب جركس المصارع منه إلى دمشق
فدخلها قبل أن يخرج السلطان منها وأقام جكم ومن معه بحلب، وفي جمادى
الأولى استقر صدر الدين ابن الأدمي في قضاء الحنفية بدمشق عوضاً عن ابن
الكفري، وكان ابن الجواشي توجه إلى حلب يسعى في ذلك فرجع خائباً، ودخل
السلطان دمشق في جمادى الآخرة ويشبك معه وهو ضعيف.
وفي نصف جمادى الآخرة أعيد شمس الدين ابن الأخنائي إلى قضاء الشام وصرف
ابن حجي واستضاف الأخنائي الخطابة ومشيخة السميساطية والغزالية ونظر
الحرمين إلى وظيفة القضاء، وكانت هذه الوظائف قد أفردت لشهاب الدين ابن
حجي من مدة وكان تارة يستقل بها وتارة يشركه غيره فيها، فلما استضافها
الأخنائي سعى فيها الباعوني فانفرد بها وكتب توقيعه بذلك.
وفي هذا العشر الأوسط رحل الناصر إلى جهة مصر فوافته الأخبار بما صنع
جكم وبأن جماعة نوروز وصلوا إلى حماة وبعضهم إلى حمص، فنادى في العسكر
بالرجوع إليهم
(2/354)
فتخاذلوا وخرج بعضهم يوهم أنه متوجه إليهم
وبعضهم إلى جهة مصر فما وسع الناصر إلا الرجوع إلى مصر، وخلع على شيخ
وقرره في نيابة دمشق وأمره أن يجمع النواب ويتوجه إلى صفد، فخرج هو
ودمرداش ويونس العثماني إليها وتوجه الناصر في ثاني عشري جمادى الآخرة.
وفي ذي القعدة زلزلت أنطاكية زلزلة عظيمة فمات تحت الردم عدد كثير، قيل
مائة وقيل: أكثر؛ وفي رجب هرب سودون الحمزاوي من الناصر فتحصن بقلعة
صفد فلما قصد نوروز دمشق خرج منها شيخ فتحيل على سودون الحمزاوي وأخذ
منه صفد فتحصن بها، وذلك بعد أن أمن إليه الحمزاوي وكاتب نوروز وجكم
بسببه وسأل منهما أن يكون هو وشيخ وهما يداً واحدة على من خالفهم،
وجاءه جواب نوروز بالصغو إلى ذلك فلم يفجأه إلا وشيخ قد ملك القلعة
وحال بينه وبينها فهرب إلى نوروز واستولى شيخ على جميع ما وجده
للحمزاوي هناك.
وفي شعبان سلم فخر الدين ابن غراب للأستادار فصادره وأهانه، وفيه شرع
نوروز في عمارة القلعة وجد في ذلك واجتهد وعمل فيه الترك والعامة
وتزاحموا على ذلك وفرضوا بسبب ذلك على الأراضي أموالاً كثيرة وشق ذلك
على الناس وشرعوا في إقطاع الأوقاف والأملاك وكثر السعي عند نوروز في
الوظائف بالبراطيل وانتزاعها من أربابها وقبض على كثير من التجار،
فصودروا حتى كان أهل دمشق يشبهون
(2/355)
تلك الأيام بأيام تمرلنك كذا قرأت في تاريخ
ابن حجي بل قال إنها أبشع، قال: وتنوعوا في ظلم الناس واقتراح الذنوب
لهم، ظهر أهل الفساد ظهوراً عظيماً.
وفي أواخر شعبان خرج إينال باي بن قجماس ويشبك ابن أزدمر وسودون
الحمزاوي وسودون المحمدي وأسن باي في جماعة كثيرة إلى غزة، وكان شيخ قد
قبض على نائبها جبريل وجهز شيخ مماليك الحمزاوي في مركب، فاتفق أنهم
فكوا قيودهم وغلبوا الموكلين بهم وطلعوا إلى أستاذهم بغزة، وفي شعبان
مات قطلوبغا الكركي وإينال حطب وكانا من أعوان يشبك.
وفي مستهل رجب مات ركن الدين عمر بن قايماز الأستادار.
وفيها خطب جماز إمرة المدينة فأرسل إليه من مصر أن يقتتل هو وثابت فمن
غلب كان الأمير، فاقتتلا في ذي القعدة فغلبه جماز واستولى على المدينة.
وفي التاسع من جمادى الآخرة بويع للأمير جكم بالسلطنة، ولقب الملك
العادل، وضربت السكة باسمه، وخطب له بحلب، ثم أرسل دعاته إلى البلاد
فأطاعه جميع النواب بالممالك الشامية والشمالية وخطب له بها، ولم يتأخر
عن طاعته غير صفد لإقامة شيخ بها ومن معه بل خطب له من غزة إلى
الأبلستين، وانتزع البيرة من كزل وكان عصى بها، وحلف له نوروز ومن بعده
بدمشق في ذي القعدة وكذا من بعده من الأمراء، فقدر الله تعالى أن مدته
لم تطل، فإنه استولى على القلاع التي بيد التركمان كلها، ولم يتأخر
عليه سوى آمد، كانت مع محمّد بن قرا يلك فعصى عليه، فخرج إليه جكم
(2/356)
بأبهة السلطنة وعدا الفرات من البيرة،
فراسله عثمان بن طورغلي وهو المعروف بقرا يلك يسأله الصلح ويخضع له،
فلم يصغ إليه بل قال: لا أرجع عنه إلا أن جاء وقبل رجلي في الركاب، فإن
شئت عفوت عنه وإن شئت قتلته، فرجع رسله إليه بذلك فاستعد للحصار، وأشار
على جكم أكثر من معه من الأمراء أن يقبل هدايا قرا يلك ويرضى منه
بالطاعة ويحقن الدماء ويرجع فلم يصغ لذلك، ثم وصل إليه الملك الطاهر
عيسى صاحب ماردين وحاجبه فياض وكانا شيخين كبيرين قد طالت مدتهما في
مملكة ماردين فأطاع جكم ووصل إليه بعسكره، فقوي عزمه على حرب قرا يلك
واستند إلى ما شهر عن المذكور من الظلم والإفساد، فلما قربوا من آمد
حطموا على التركمان واشتبك القتال، فقتل ولد قرا يلك في المعركة فانكسر
التركمان، فتبع جكم آثارهم فوقعت فرسه في حفرة من الحفر التي جرت
عادتهم بإعدادها للمكيدة؛ وقيل: بل جاءه حجر رماه به تركماني في مقلاع
فأدماه، فوقع من فرسه وتكاثروا عليه وذبحوه وانهزم عسكره، فلما فقد
وتحقق قرا يلك قتل جكم أمر بالتفتيش عليه بين القتلى، فوجدوه فلم
يعرفوه إلا بترسه وبحناء رجليه وكان لا يفارق ذلك، وانهزم عسكر جكم
هزيمة شنيعة، ونهبتهم التركمان، واستلبوا منهم الخيل والبغال والجمال
والأمتعة ما لا يوصف كثرة، وقتل في الوقعة ناصر الدين بن شهري الحاجب
كان بحلب ومقبل نائب عينتاب الإربلي وصاحب ماردين وحاجبه، وهرب تمربغا
المشطوب فاختفى، وكانت الوقعة في خامس عشر ذي القعدة، ووصل خبرها إلى
الشام في ذي الحجة، ووصل إلى مصر في أواخرها
(2/357)
وقد أشار صاحب ماردين على جكم بالتأني وقت
القتال، فخالفه حتى تلفت أرواحهم، وبلغني أن التركمان قطعوه أعضاء
وأرسلوا كل عضو إلى ناحية افتخاراً بقتله لشدة بأسه وهيبته في قلوب
التركمان والعرب، ثم أرسلوا برأسه إلى القاهرة في السنة الآتية، ولما
بلغ الناصر ذلك فرح به وأمر بضرب البشائر، ثم أحضرت الرؤس فطيف بها في
الأسواق وعلقت على باب زويلة وزينت البلد أياماً، وذلك في الثامن عشر
من المحرم في السنة المقبلة وكان جكم من مماليك الظاهر وأول ما أعطي
تقدمة بعد هزيمة أيتمش من القاهرة واستقر رأس نوبة كبيراً، ثم استقر
دويداراً كبيراً بعد أن بارز يشبك بالعداوة فانتصر عليه وحبس يشبك، ثم
في سنة أربع انهزم جكم وسجن بقلعة المرقب وراح جكم كأن لم يكن، فكانت
مدة سلطنته بدعواه قدر شهرين، وكان شجاعاً بطلاً يحب العدل والخير إلا
أنه كان مقداماً على سفك الدماء فكان يهاب لذلك، وقد كان ابن قرا يلك
يظن أنه لا يقف في وجهه ولا يجسر على قتاله.
وفي ذي القعدة بعث شيخ إلى نابلس جيشاً فقبضوا على عبد الرحمن ابن
المهتار وأحضروه إلى صفد فقتل بحضرته، وكان المذكور قد عصى بأخرة على
الناصر واتفق مع نوروز، فأرسله إلى نابلس فصادر أهلها وبالغ في ظلمهم
فكانت تلك عاقبته.
وفي أوائل ذي القعدة خرج شيخ من صفد ومن معه فوصل إلى قابون، فهرب منه
الحمزاوي إلى غزة فاجتمع هو ومن بها من الأمراء ووقعت الوقعة عند
حلبين، فقتل في المعركة إينال باي بن قجماس، ويقال بل قتل بين يدي شيخ
صبراً، وقتل في المعركة
(2/358)
أيضاً يونس الحافظي الذي كان نائب حماة،
وأسر الحمزاوي وانهزم سودون المحمدي ويشبك ابن أزدمر وغيرهما، فجمع
نوروز العساكر وتوجه لقتال شيخ وسار في نصف ذي القعدة، فقبضوا في شقحب
على الأمير بلاط السعدي فكان شيخ أرسله ليكشف الأخبار.
وفي ثالث عشري ذي القعدة خطب للملك الناصر بدمشق، وعين نوروز جماعة
يتوجهون إلى القاهرة بسبب السؤال للناصر في الرضى عنه، فتوجهوا ثم
رجعوا لما بلغهم تصميمه على قصد دمشق.
وفيها استولى تمربغا المشطوب على حلب وذلك أنه لما هرب من الوقعة التي
كانت بين جكم وبين قرا يلك جاء مع طائفة من المغل إلى جهة حلب، فوجد
ابن دلغادر قد جمع التركمان وحاصرها فأوقع بهم وكسرهم ودخل البلد وعصت
عليه القلعة، فلما بلغهم قتل جكم سلموها له فاستولى على ما بها من
الحواصل وعلى ما بحلب أيضاً من الخيول والمماليك المخلفة عن جكم،
واستقرت قدمه بحلب وانسلخت السنة وهو بها.
وفيها كائنة ابن الحبال.... وفي هذه السنة تواترت الأخبار أن نيسابور
خسف بها وراح من أهلها خلق كثير وهي التي يقال لها نشادر وأن صاحب هرمز
مات وولي ولده مكانه، فعظم على الناس ورد المكس إلى ربع ما كان عليه.
وفيها استقر في مملكة ماردين شهاب الدين أحمد بن إسكندر بن الصالح
إسماعيل لما قتل الطاهر الأمجد عيسى في الوقعة مع جكم وتلقب الصالح
وجده صالح هو ممدوح الصفي الحلي بتلك القصائد الطنانة وستأتي قصته في
حوادث سنة إحدى عشرة إن شاء الله تعالى
(2/359)
ووقع في هذه السنة والتي بعدها والتي قبلها
من تلاعب الجهلة بمنصب الحسبة ما يتعجب من سماعه حتى أنه في الشهر
الواحد يليه ثلاثة أو أربعة وسبب ذلك أنهم فرضوا على المنصب مالاً
مقرراً فكان من قام في نفسه أن يليه يزن المبلغ المذكور ويخلع عليه ثم
يقوم آخر فيزن ويصرف الذي قبله واستمر هذا الأمر في أكثر دولة الملك
الناصر فرج، وفي رمضان وقع الطاعون بالقاهرة وفشا الموت واستمر إلى آخر
السنة.
ذكر من مات
في سنة تسع وثمانمائة من الأعيان
إبراهيم بن محمّد بن دقماق صارم الدين مؤرخ الديار المصرية في زمانه
كان جده دقماق أحد الأمراء الناصرية ونشأ هو محباً في الفن التاريخي
فكتب بخطه منه ما لا يحصى وجمع تاريخاً على الحوادث وتاريخاً على
التراجم وجمع طبقات الحنفية وحصلت له بسببه محنة في سنة أربع وثمانمائة
ذكرتها في الحوادث وولي في آخر الأمر إمرة دمياط فلم تطل مدته فيها
ورجع إلى القاهرة فمات بها في ذي الحجة في أواخرها وقد جاوز الستين،
وكان مع اشتغاله بالأدب عرياً عن العربية عامي العبارة، وكان جميل
العشرة، فكه المحادثة، كثير التودد، قليل الوقعة في الناس.
أحمد بن إسماعيل بن عبد الله الحريري شهاب الدين اشتغل بالعلم ومهر في
الطب والهيئة والمعقولات ونظر في الأدب، وتزيا بزي العجم، وكان مملقاً
جداً، اجتمعت به في الكتيين مراراً، وسمعت من نظمه وفوائده، ثم اتصل
بالملك الظاهر بأخرة فأعطاه وظائف الشيخ علاء الدين الأقفهسي فأثرى
وحسنت حاله، وتزوج وسلك الطريق الحميدة مات في خامس ذي القعدة بمصر.
(2/360)
أحمد بن خاص التركي الحنفي شهاب الدين أحد
الفضلاء المتميزين من الحنفية، مات في هذه السنة بالقاهرة، أخذ عنه بدر
الدين العيني المحتسب وكان يطريه.
أحمد بن صدقة بن تقي العزى - نسبة إلى عز الدين ابن جماعة - كانت أمه
تزوجت مفتاح بن عبد الله عتيق البدر بن جماعة وكان في خدمة عز الدين،
أخذ الفقه واشتغل قليلاً، ثم لازم سوق الكتب في حانوت، ثم افتقر فصار
ينادي على الكتب، وكان ينسخ مع ضعف خطه، وكان ساكناً ضعيف الحال
والبنية.
أحمد بن عبد الله العجمي الحنبلي شهاب الدين أحد الفضلاء الأذكياء، أخذ
عن كثير من شيوخنا، ومهر في العربية والأصول، وقرأ في علوم الحديث،
ولازم الإقراء والاشتغال في الفنون، مات عن ثلاثين سنة بالطاعون في شهر
رمضان بالقاهرة.
أحمد بن عمر بن علي بن عبد الصمد البغدادي الجوهري شهاب الدين، ولد سنة
خمس وعشرين وقدم من بغداد قديماً مع أخيه عبد الصمد، فسمعا من المزّي
والذهبي وداود بن العطار وغيرهم، وسمع بالقاهرة من شرف الدين بن عسكر،
وكان محبّاً في العلم والعلماء مع المروءة التامة والخير، وكان يحب
التواجد في السماع مع المعرفة التامة بصنف الجوهر والمذاكرة الحسنة،
قرأت عليه سنن ابن ماجه بجامع عمرو بن العاص، وقرأت عليه قطعة كبيرة من
طبقات الحفّاظ للذهبي وقطعة كبيرة من تاريخ بغداد للخطيب، مات في ربيع
الأول وقد جاوز الثمانين وتغيّر ذهنه قليلا.
(2/361)
أحمد بن محمّد بن عبد الغالب الماكسيني ولد
في سنة ثمان وثلاثين، وسمع من جماعة وحدث وهو من بيت رواية، وكان يكتب
القصص ثم جلس مع الشهود بالعادلية وكان يكتب خطّاً حسناً، مات في صفر.
أحمد بن محمّد بن عمر القليجي شهاب الدين ولد شمس الدين كان من موقعي
الحكم وناب أيضاً وكان حسن العشرة إلاّ أنه لم يشتهر بالعلم وكان بيده
وظيفة إفتاء دار العدل فاستقر بعده فيها ابن الطرابلسي.
أحمد بن محمّد بن قماقم الدمشقي الفقاعي شهاب الدين كان أبوه فقاعيا
فاشتغل هو بالعلم، فأخذ عن علاء الدين ابن حجي، وقرأ بالروايات على ابن
السلاّر، وكان يفهم ويذاكر، قدم القاهرة سنة الكائنة العظمى فأقام بها
مدة، ثم رجع إلى دمشق فمات بها في جمادى الآخرة، وكان قد اجتمع بي
مراراً وسمع بقراءتي على البلقيني في الفقه والحديث، وقماقم لقب أبيه
قال ابن حجي: كان يستحضر البويطي وسمعت البلقيني يسميه البويطي لكثرة
استحضاره له، وقد درس بالأمجدية، ومات في جمادى الآخرة.
(2/362)
أحمد بن محمّد بن نشوان بن محمد بن نشوان
بن محمّد بن أحمد الحوراني الدمشقي الشيخ شهاب الدين بن نشوان ولد سنة
سبع وخمسين وقدم دمشق فقرأ القرآن، وأدب أولاد شهاب الدين الزهري فصار
يحفظ بتحفيظهم التمييز للبارزي ودار معهم على الشيوخ والدروس إلى أن
تنبه وفضل، وأذن له الزهري في جمادى الأولى سنة إحدى وتسعين، واستقر في
تدريس الشامية البرانية وتصدر بالجامع وناب في الحكم بعد الفتنة
الكبرى، وانتفع به الطلبة، وقصد بالفتاوى وكان يحسن الكتابة عليها،
وكان يتكلم في العلم بتؤدة وسكون وإنصاف، وحصل له استسقاء فطال مرضه به
إلى أن مات في جمادى الأولى من هذه السنة.
أحمد بن محمّد الطنبذي بدر الدين أحد الفضلاء المهرة، أخذ عن أبي
البقاء والأسنوي ونحوهما، وأفتى ودرّس ووعظ، وكان عارفاً بالفنون
ماهراً في الفقه والعربية فصيح العبارة، وله هنات سامحه الله.
أحمد بن محمّد البالسي الأصل ثم الدمشقي شهاب الدين الحنفي الجواشني
اشتغل في صباه، وصاهر أبا البقاء على ابنته، وأفتى ودرس وناب في الحكم،
وولي نظر الأوصياء وظائف كثيرة بدمشق، وكان حسن السيرة، ثم ناب في
الحكم، ثم سعى في القضاء استقلالا فباشر قليلا جداً، ثم عزل ثم سعى فلم
يتم له ذلك، ومات في جمادى الآخرة.
إسماعيل بن ناصر بن خليفة الباعوني عماد الدين، كان شيخ الناصرية من
عمل صفد على طريقة الفقراء، وهو أخو القاضي شهاب الدين الذي ولي قضاء
دمشق، وكانت لإسماعيل وجاهة وثروة وتجارة، وعاش سبعين سنة ومات في ذي
الحجة.
أبو بكر بن محمّد بن إسحاق السلمي شرف الدين ابن القاضي تاج الدين
المناوي ولد قبل الستين، وأجاز له ابن جماعة فهرسة مرويّاته، واشتغل
قليلا وقرأ
(2/363)
التنبيه، وسمع على الشيخ بهاء الدين بن
خليل وغيره، وناب في الحكم عن ابن عمه صدر الدين، وكان مزجى البضاعة
وقد درس بعدة أماكن وخطب بالجامع الحاكمي، مات في جمادى الآخرة وقد
قارب الستين.
جكم بن عبد الله أبو الفرج الظاهري كان من مماليك الظاهر وأول ما أمره
طبلخاناة في سنة موته، واستقر رأس نوبة بعد موته وذلك في خامس ذي
القعدة سنة إحدى، وقيل: مات قبل أن يتأمر وأول ما شهر أمره في تاسع ذي
القعدة سنة إحدى وثمانمائة بعد موت أستاذه بقليل واستقر هو وتنكز بغا
وآقبغا الأشقر وخير بك وسودون من زاده وباش باي نوب صغارا، وكان هو
الذي قيد أيتمش بعد هزيمة تنم وسجنه هو والأمراء بالقلعة، وكان يحب
العدل والإنصاف فلم يمكن أحداً من الفساد بدمشق في تلك الوقعة، فلما
عاد الناصر إلى مصر أمره تقدمة عوضاً عن دقماق بحكم انتقاله لنيابة
حماة، ولم يخرج فيمن خرج في وقعة اللنك، فلما كان التاسع من شوال سنة
ثلاث ثارت الفتنة بين الأمراء فقام جكم وسودون الطيار وطرباي وطائفة،
ثم ولحق بهم سودون طاز أمير آخور ومعه من الخيول السلطانية ما احتاج
إليه، فعرض الناصر على جكم نيابة صفد فامتنع، فأرسل إليه نوروز ومعه
القاضي الشافعي وهو يومئذٍ ناصر الدين الصالحي، فعوق نوروز عنده فرجع
القاضي إلى الناصر فأخبره، فتخلى الناصر عن يشبك وكان هو المطلوب،
فتحاربوا فانهزم يشبك ونهبت داره ثم قبض عليه وبعثه هو ومن معه إلى
الإسكندرية، واستقر جكم دويداراً عوضاً عن يشبك وصار هو المشار إليه
وباشر بحرمة ومهابة ونادى
(2/364)
بالقاهرة: من ظلم فعليه بباب جكم واستبد
بأحوال المملكة إلى أن نافره سودون طاز، فثارت بينهما الفتنة في شوال
سنة أربع وكان لهم وقعة في أواخر السنة ففر جكم ونوروز، ثم عاد نوروز
إلى الطاعة وأحيط بجكم فسجن بالإسكندرية هو وسودون طاز، واتفق أنه هرب
إلى شيخ نائب دمشق فأقام عنده إلى أن كانت وقعة يشبك مع الناصر حتى
كانت وقعة السعيدية، فلما كان من انهزام الناصر منها وذلك في ذي الحجة
سنة سبع انعزل يشبك وأتباعه واختفوا بالقاهرة ورجع شيخ وأتباعه إلى
دمشق، وليس لذلك سبب إلا تعاظم جكم وتصريحه بإرادة السلطنة لنفسه
فنافسوه في ذلك وخذلوه، ثم اتفق جكم وشيخ وحاربا نوروز وكان الناصر قد
جعله نائب الشام، ثم كتب الناصر لجكم بنيابة حلب فدخلها وقتل بها
جماعة، فانحرف شيخ عنه لكونه تمالأ مع نوروز عليه، ثم اخذ جكم أنطاكية،
ثم واقعه نعير فهزمه وغنم شيئاً كثيراً ثم قتل نعيراً بعد ذلك، ثم ولى
الناصر دمرداش نيابة حلب فسار هو وشيخ ومعهم العجل ابن نعير فقاتلهم
جكم بالرستن فهزمهم، فرجع شيخ إلى مصر ونوروز إلى دمشق، فسار الناصر
إلى قتال جكم ففر إلى البيرة، فدخل الناصر حلب ثم عاد إلى دمشق، فرجع
جكم وملك حلب، وأراد الناصر الرجوع إلى حلب فخالفه العساكر وتفرقوا،
فقوي جانب جكم وتسمى بالسلطنة وتلقب العادل ورتب المملكة وضرب السكة
باسمه وخطب له بحلب، وأطاعه نوروز ولبس خلعته وقبل له الأرض وخطب
باسمه، وأقام جكم الحرمة ونشر العدل وعظم المهابة زائداً على الحد وقوي
جداً واستخف بأمر الناصر، وخرج لمحاربة التركمان ليستريح خاطره منهم
إذا قصد مصر،
(2/365)
فكان من أمره ما كان، وكانت سلطنته في رابع
شوال من السنة وقتله في حادي عشر ذي القعدة منها، وكان نائب البيرة
أظهر مخالفته فخرج إليه بالعسكر الحلبي فطلب الأمان فأمنه، فاستمر
ذاهباً بالعسكر إلى ماردين فأطاعه صاحبها ونزل بعسكره، وكان من أمر
قتله ما كان، وكان جكم شجاعاً مقداماً مهاباً يتحرى العدل ويحب
الإنصاف، وكان يصغي لنظم الشعر، ويحب سماعه، ويجيز عليه الجوائز
السنية.
حسن بن علي بن عمر الإسعردي صاحبنا بدر الدين كان من بيت نعمة وثروة
فاحب سماع الحديث فسمع فأكثر وكتب الطباق وحصل الأجزاء وسمع من أصحاب
التقي سليمان ونحوهم وأحب هذا الشأن وذهبت أجزاؤه في وقعة تمرلنك وقد
رافقني في السماع وأعطاني أجزاء بخطه وبلغني أنه حدث في هذه السنة
بدمشق ببعض مسموعاته ومات بدمشق في ربيع الأول.
حسن بن محمّد بن حسن بن إدريس بن حسن بن علي بن عيسى بن علي بن عيسى بن
عبد الله بن محمّد بن القاسم بن يحيى بن يحيى بن إدريس بن إدريس بن عبد
الله بن الحسن بن الحسن بن علي الحسني الشريف بدر الدين ابن ناصر الدين
بن حصن الدين ابن نفيس الدين المعروف بالنسابة وهو سبط الشريف النسابة
حسن بن علي بن سليمان بن مكي بن كاسب بن بدران بن حسن بن عبد الله بن
محمّد بن عبد الله بن علي بن جعفر بن علي بن محمّد بن علي بن موسى بن
جعفر بن محمّد بن علي بن حسين بن علي سمع من الوادي آشي والميدومي
وغيرهما وحدث وولي مشيخة الخانقاه البيبرسية نحواً من عشرين سنة ثم ثار
عليه الصوفية لسوء
(2/366)
سيرته فيهم فعزل عنهم ثم أعيد وكان عارفاً
بأنساب الأشراف كثير الطعن في كثير ممن يدعي الشرف وقد رام الخلافة مرة
وكان يذكر أن أمه حسينية وقد ذكرنا نسبها وأن أم أبيه من بني العباس
وهي صفية خاتون بنت الخليفة المستمسك بالله محمّد ابن الحاكم وكان كثير
المعاشرة للقبط وكان عارفاً بالسعي كثير الدهاء مات في سادس عشر شوال
وقد تجاوز الثمانين ممتعاً بسمعه وبصره وأصله من سرسة وتكسب بالشهادة
مدة وكان يتطاول إلى الخلافة مع جهل مفرط وقلة ديانة عفا الله تعالى
عنه.
خليل بن عبد الله البابري الحنفي الشيخ خير الدين كان فاضلاً في مذهبه
محباً للحديث وأهله مذاكراً بالعربية كثير المروءة، وقد عين لقضاء
الحنفية مرة فلم يتم ذلك وولي قضاء القدس في سنة 84.
رسول بن عبد الله القيصري ثم الغزي شهاب الدين الحنفي قدم دمشق في حدود
السبعين وهو فاضل وسمع من ابن أميلة وابن حبيب ثم ولي نيابة الحكم
بدمشق في أول دولة الظاهر ثم ولي قضاء غزة في أيام ابن جماعة وحصل
مالاً كثيراً بعد فقر شديد ثم مات بدمشق في جمادى الآخرة وقد شاخ.
الشيخ زاده الخرزباني الحنفي تقدم في التي قبلها.
صدقة بن محمّد بن حسن السرميني فتح الدين كان فاضلاً في مذهبه أخذ عن
ابن أبي البقاء السبكي وسمع من بعض أصحاب الفخر بدمشق وسمع مع أصحابنا
ومعنا كثيراً وكان ضيق الحال.
صدقة بن محمّد بن حسن الإسعردي كان من خواص ابن غراب وكان واسطة حسنة
عنده وبنى تربة وجامعاً ومات في ربيع الآخر بمكة.
(2/367)
صديق بن علي بن صديق الأنطاكي شرف الدين
ولد سنة بضع وأربعين وقدم من بلاده بعد الستين فاشتغل بالعلم ونزل في
المدارس ورافق الصدر الياسوفي في السماع فأكثر عن ابن رافع وسمع من
بقية أصحاب الفخر وغيرهم وكان على دين وصيانة ولم يتزوج ثم سكن القاهرة
وصار أحد الصوفية بالبيبرسية وكان يتردد إلى دمشق مات بالطاعون في
رمضان اجتمعت به ولم أسمع منه بل أجاز لي.
عبد الله بن خليل بن يوسف المارداني جمال الدين الحاسب انتهت إليه
رياسة علم الميقات في زمانه وكان عارفاً بالهيئة مع الدين المتين وله
أوضاع وتواليف وانتفع به أهل زمانه وكان أبوه من الطبالين ونشأ هو مع
قراء الجوق وكان له صوت مطرب ثم مهر في الحساب وكان شيخ الخاصكي قد
قدمه ونوه به مات في جمادى الآخرة.
عبد الله بن شيرين الهندي الحنفي جمال الدين نزيل القاهرة سمع من ابن
عبد الهادي وحدث وخطب بالظاهرية البرقوقية وكان يحدث عن الهند بعجائب
الله أعلم بصحتها.
عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن الخشاب الحنفي اشتغل بالعلم
بالشام ثم قدم القاهرة وناب في الحكم عن ابن العديم ثم ولي قضاء الشام
في هذه السنة فوصل مع العسكر فباشره يومين ثم سعى عليه ابن الكفري
فأعيد ثم ماتا جميعاً في هذا الشهر وبينهما في الوفاة يوم واحد ومات
هذا ولم يبلغ الثلاثين رأيته بالقاهرة ولم يكن ماهراً في العلم.
عبد الرحمن بن محمود بن عثمان البصروي نزيل دمشق زين الدين القرشي،
(2/368)
تعانى الكتابة ودخل ديوان التوقيع بدمشق ثم
قدم القاهرة سنة اللنك فالتجأ إلى فتح الدين كاتب السر فراج عليه ونفق
سوقه لديه حتى عول عليه في أمر الديوان وصار المشار إليه فيه لحسن
تأنيه وأخلاقه ومعرفته وحسن خطه ونفاذ رأيه وكان جميل المعاشرة، وطعن
في لسانه فكان فتح الله يتعجب من ذلك لكونه لم يكن فيه أعظم من نطقه
فابتلي فيه ولم يكمل الخمسين.
عبد الرحمن بن يوسف بن الكفري الحنفي زين الدين ولد سنة إحدى وخمسين
وحضر على ابن الخباز في الثالثة سنة أربع وخمسين، وأسمعه أبوه من
جماعة، سمعت منه في الرحلة، وولي القضاء غير مرة بعد الفتنة، ولم يكن
محمود السيرة وكان يتجر بالكتب ويعرف أسماءها مع وفور جهل بالفقه
وغيره، مات في يوم الأحد ثالث ربيع الآخر.
عبد الكافي بن محمّد بن أحمد بن فضل الله الشافعي جمال الدين كاتب السر
بطرابلس كان رئيساً فاضلاً أديباً، له نظم ونثر كثير الاستحضار للتاريخ
والأدب، وذكر أنه ولد في المحرّم سنة ستٍّ وثلاثين وسبعمائة، وآخر
العهد به سنة أربعٍ وثمانمائة بطرابلس، ذكره القاضي علاء الدين في
تاريخ حلب وذكر أنه أجازه بحلب مروياته وكان قدمها ثم رجع فمات بطرابلس
فلتحرر سنة وفاته.
(2/369)
عبد الكريم بن محمّد بن عبد الكريم بن عبد
النور بن منير الحلبي ثم المصري قطب الدين ابن تقي الدين ابن الحافظ
قطب الدين، سمع من الحسن الإربلّي وأحمد بن علي المستولى وغيرهما،
وتصرف بأبواب القضاة، سمعت منه مات في نصف السنة وله ثلاث وسبعون سنة.
عبد الهادي بن عبد الله بن خليل بن علي بن عمر بن مسعود البسطامي
المقدسي نزيل القاهرة كان شابّاً فاضلاً ماهراً، سمع الحديث ونظم الشعر
وكتب الطباق ودار على الشيوخ، ثم اجتمع عليه أتباع أبيه فتمشيخ فيهم،
ودخل القاهرة فاستوطنها وراج أمره بها حتى مات وله نحو الثلاثين سنة،
سمعت من نظمه ببيت المقدس، ورافقني في بعض السماع على بعض المشايخ في
أول سنة ثلاث وثمانمائة.
علي بن إبراهيم القضامي علاء الدين الحموي الحنفي أحد الفضلاء، أخذ
العربية عن سري الدين ابن هاني المالكي والفقه عن أمين الدولة ابن
وهبان، وتمهر وبهرت فضائله وولي قضاء بلده، وقدم القاهرة سنة الكائنة
العظمى فاشتهرت فضائله وعرفت فنونه، وحدّث وأفاد، سمعت منه، وسمع من
نظمي وأكثر الثناء عليه، مات في ربيع الآخر، ومن نظمه:
خذ بيدي يا كريم خذ بيدي ... قد عيل صبري وقد وهى جلدي
(2/370)
إن لم تجد لي فمن يجود على ... ضعفي فلا
إمرة ولا بلدي
علي بن أحمد اليمني من أهل أبيات حسين، كان كثير العناية بالفقه وجمع
فيه كتاباً كبيراً وكان يلقّب بالأزرق.
علي بن عبد الرحمن اليبرودي ثم الدمشقي، ابن أخي العلاّمة شمس الدين
خطيب يبرود، سمع من بقية أصحاب الفخر وأخذ عن ابن رافع كثيراً، وتفقّه
على عمّه وعلى ابن قاضي شهبة، وكان يفهم جيداً، مات في ذي القعدة بخليص
وهو محرم، قال ابن حجي: إنه كان مقتراً على نفسه جماعة للمال ولم يتزوج
فيما علمت.
علي بن محمّد بن عبد البر السبكي علاء الدين ابن أبي البقاء، ولد سنة
57 بدمشق ونشأ بمصر وقدم دمشق مع والده سنة خمس وسبعين ودرس بالصارمية،
وولي قضاء
(2/371)
القدس مرتين في دولة الظاهر ومرّتين في
دولة الناصر وكان يذاكر بالفقه ويشارك في غيره وأوّل ما استقرّ في سنة
ستٍّ وتسعين فحضر قراءة تقليده قضاة الشام وقضاة مصر، مات في هذه السنة
من رعب أصابه بسبب مال طلب منه على سبيل القهر، فاختفى عند إبراهيم ابن
الشيخ أبي بكر الموصلي فمات مختفياً رحمه الله تعالى، قال ابن حجي: كان
رئيساً محتشماً ذكيّاً فاضلاً وهو آخر البيت السبكي ومات مختفياً من
الملك الناصر فرج.
عمر بن منصور بن سليمان سراج الدين القرمي الحنفي المعروف بالعجمي
ترافق هو وجمال الدين القيصري فلما ولي جمال الدين حسبة القاهرة قرره
في حسبة مصر ثم ولي هو حسبة القاهرة ودرس بجامع ابن طلون في الفقه وفي
التفسير بالمنصورية وغير ذلك، وكان لشدة صحبته لجمال الدين يظن أنه
أخوه وليس كذلك، وكان حسن العشرة محمود المباشرة حسن الصلاة جميل
الصورة مليح الشكل طلق المحيّا وكان يقال له عمر فلق لأنه كان إذا أراد
تأديب أحد قال هاتوا فلق، مات في العشر الأول من جمادى الآخرة، قال
العينتابي: كان يعرف بعض العلوم ولكنه كان عريض الدعوى وكان ولي حسبة
القاهرة في دولة منطاش فتأخر بسبب ذلك عند الملك الظاهر.
قطلوبغا الكركي أحد الأمراء الكبار في الدولة الناصرية كان شابّاً
حسناً في دولة الظاهر، حفظ القرآن وكان يحسن القراءة بالألحان وكان في
زمن إمرته يحب العلماء ويجمعهم ويحسن إليهم ويتذاكرون عنده، توفي في
شعبان وقد تقدم له ذكر في مواضع من الحوادث.
(2/372)
محمّد بن أحمد بن إبراهيم بن محمّد بن
إبراهيم بن أبي بكر الطبري المكي الشافعي أبو اليمن إمام المقام سمع من
عيسى الحجي والزين أحمد بن محمّد ابن المحب الطبري وابن عم أبيه عثمان
بن الصفي الطبري وقطب الدين بن مكرم وعثمان بن شجاع بن عيسى الدمياطي
وعيسى ابن الملك المعظم، وأجاز له يحيى بن فضل الله وأبو بكر بن الرضي
وزينب بنت الكمال ونحوهم، وولي إمامة المقام نيابة ثم استقلالاً، وكان
خيِّراً سليم الباطن، يعتقده كثير من الناس، وهو آخر من حدّث عن عيسى
ومن ذكر بعده بالسماع وعن يحيى بالإجازة، ناهز الثمانين فإنه ولد في
شعبان سنة ثلاثين، سمعت منه قليلا، ومات في صفر.
محمّد بن إسماعيل بن علي القلقشندي الشيخ شمس الدين بن العلاّمة تقي
الدين المصري ثم المقدسي، ولد سنة 55، وسمع من الميدومي وغيره وأخذ عن
خاله الشيخ صلاح الدين العلائي وعن والده تقي الدين، ومهر وبهر وساد
حتى صار شيخ بيت المقدس في الفقه وعليه مدار الفتوى، مات في رجب،
أرَّخه ابن حجّي.
محمّد بن أنس الحنفي الطنتدائي ناصر الدين نزيل القاهرة كان عارفاً
بالفرائض، أقرأها لجماعة وانتفعوا به، وكان حسن السمت كثير الديانة
محبّاً في الحديث، كتبت منه الكثير، ومات وله دون الأربعين، وقد سمع من
ناصر الدين الحراوي وغيره.
(2/373)
محمّد بن أبي بكر بن أحمد النحريري المالكي
أخو خلف، ناب في الحكم وتنبه في الفقه ودرس ومات في نصف السنة.
محمّد بن فهيد المصري الشيخ شمس الدين المغيربي نشأ في خدمة الصالحين
ولازم الشيخ عبد الله اليافعي بمكة وكان كثير الحج والمجاورة وصحب
طشتمر الدويدار فنوّه بذكره وكان الظاهر يعظِّمه، ودخل معه دمشق فكان
يصلّي بجانبه في المقصورة فوق جميع الأمراء وكان حسن العشرة كثير
المخالطة لأبناء الدنيا وله مع أهل الحرمين مواقف، مات في جمادى الآخرة
وقد جاوز الستين.
محمّد بن محمّد بن جعفر الدمشقي الشريف شمس الدين، مات في شهر رمضان
سنة تسع وثمانمائة بالقاهرة، وكان من الصوفية بسعيد السعداء، وكان جاور
بمكة عدة سنين، ثم ولي طرابلس مدة طويلة ولم يكن يعرف شيئاً من العلم
واتفق له أنه قال في الدرس وهو قاضٍ، عن سعيد أبي جبير، وكان مع ذلك
جواداً ثم نقل إلى قضاء طرابلس فاستمر فيها نحو عشر سنين، فعزل في سنة
أربع وثمانمائة بجمال الدين الحسناوي ثم عاد واستمر إلى أن مات، إلاّ
أنّ الأمير جكم كان أرسل بعزله فوصل الخبر وقد مات، وكان كثير الرياسة
والحشمة ومكارم الأخلاق وتقريب أهل العلم، وكان للشعراء فيه مدايح.
محمّد بن محمّد بن عبد الرحمن بن حيدرة الدجوي تقي الدين أبو بكر، ولد
سنة سبع وثلاثين، وسمع من ابن عبد الهادي والميدومي والعرضي وغيرهم،
وتفقّه واشتغل وتقدم ومهر، وكان ذاكراً للعربية واللغة والغريب
والتاريخ، مشاركاً في الفقه وغيره، وكان بيده عمالة المودع الحكمي
فشانته هذه الوظيفة، وكان كثير الاستحضار دقيق الخط، سمعت منه وكتب لي
تقريظاً حسناً على بعض تخاريجي، وكان يغتبط بي كثيراً ويحضُّني على
الاشتغال، نوّه السّالمي بذكره وقرره مسمعاً عند كثير من الأمراء فحدّث
مراراً بصحيح مسلم، وممن قرأه عليه طاهر بن حبيب الموقع، مات في أواخر
ربيع الآخر، وقيل في ثاني عشر جمادى الأولى.
(2/374)
محمّد بن معالي بن عمر بن عبد العزيز
الحلبي نزيل القاهرة ثم مكة، جاور كثيراً وسكن القاهرة زماناً، وحدّث
عن أحمد بن محمّد الجوخي ومحمود بن خليفة وابن أبي عمر وغيرهم، واشتغل
قليلا وتنبه، وكان يذاكر بأشياء حسنة، سمعت منه قليلا، مات بمكة.
مسعود بن شعبان بن إسماعيل بن عبد الرحمن بن إسماعيل بن مسعود بن علي
بن محمّد بن عبيد بن هبة الله الطّائيّ الحلبي، أصله من دير حسان ونشأ
فتفقّه قليلا، ثم صار ينوب في أعمال البر عن القضاة، ثم ولي قضاء حلب
عوضاً عن ابن أبي الرضى، ثم عزل ثم أعيد، ثم عزل بابن مهاجر سنة تسعين
وسبعمائة، ثم ولاّه شهاب الدين الزهري قضاء حمص، وكان يعرف طرق السعي
وله دربة في الأحكام، واشتهر بأخذ المال من الخصوم، فحكى لي نائب الحكم
جمال الدين ابن العراقي الحلبي وكان خصيصاً به أنه أوصاه أن لا يأخذ من
أحد الخصمين إلا لمن يتحقق أنه الغالب، وسار مع كمشبغا لما توجه للظاهر
عند خروجه من الكرك، فلم يزل صحبة الظاهر إلى أن دخل القاهرة فرعى له
ذلك، فلما استقرت قدمه في الملك ولاّه قضاء دمشق وقضاء حمص قبل ذلك
وتنقل في الولايات إلى أن استقرّ بطرابلس، وكان جاهلاً مقداماً فسعى في
الفتنة حتى ولي القضاء بدمشق وبغيرها، ومات في هذه السنة في رمضان، قال
القاضي علاء الدين ابن خطيب الناصرية في تاريخ حلب: كان رئيساً كريماً
حسن الأخلاق محتشماً، يحب أهل العلم ويكرمهم.
مصطفى بن عبد الله القرماني شارك في الفقه والفنون، ودرس للحنفية
بالصرغتمشية، وقرره سودون من زاده في مدرسته أول ما فتحت، ومات في سابع
عشر من جمادى الآخرة.
(2/375)
نعير أمير العرب تقدم في التي قبلها.
يحيى بن محمّد التلمساني الأصبحي المالكي النحوي نزيل المدينة، سمع من
أبي الحسن البطرني وأبي عبد الله بن مرزوق وأبي القاسم العريني، وأجاز
له الواد ياشي وابن يربوع وغيرهما، وشارك في الفقه ومهر في العربية،
مات بعد أن رجع من الحج في المحرّم وله خمس وستون سنة، وكان قد أضر قبل
موته.
يحيى بن منصور التونسي المالكي كان من فضلاء التونسيين معتقداً فيهم،
حجّ فرجع فمات بين خليص ورابغ وقد بلغ الستين.
يوسف بن الحسن بن محمّد بن الحسن بن مسعود بن علي بن عبد الله ابن خطيب
المنصورية الحموي القاضي جمال الدين، ولد في سنة 37، واشتغل بحماة فأخذ
عن بهاء الدين الإخميمي المصري بدمشق وصدر الدين الخابوري وتاج الدين
السبكي وجمال الدين الشريشي، وجدّ ودأب وحصّل إلى أن تميّز ومهر وفاق
أقرانه في العربية وغيرها من العلوم، وشرح الاهتمام مختصر الإلمام في
ست مجلدات وألفيّة ابن مالك وفرائض المنهاج وغير ذلك، وله نظم حسن
وشهرة ببلده وغيرها، أخذ عن ابن المغلي وابن البارزي وغيرهما، وانتهت
إليه مشيخة العلم بالبلاد الشمالية ورحل الناس إليه وكان خيراً ساكناً،
قال ابن حجي: فاق الأقران، ومات في تاسع شوال
(2/376)
منها بحماة، وكتبت عن القاضي علاء الدين
ابن خطيب الناصرية عنه قصيدة دالية نبوية.
يوسف بن عبد الله الضرير جمال الدين الحنفي أحد الفضلاء في مذهبه، جاوز
الخمسين.
موفّق الدين الروميّ، ولي قضاء غزّة ثم قضاء حلب ثم قضاء العسكر
بالقاهرة ثم قضاء القدس، ثم مات بالقاهرة في رجب، قال العينتابي: كان
من طلبة أكمل الدين وتولّى قضاء الحنفيّة بعده بإشارته، وكان ديِّناً
مشاركاً في العلوم إلا أنه كان مكثراً من الكلام لهّاجاً سريع الغضب.
(2/377)
سنة عشر وثمانمائة
في أوائلها نازل التركمان مدينة حلب فحصرها علي بك بن خليل بن قراجا بن
دلغادر ومعه عدة أمراء من التركمان وعدّة من أمراء العرب فنازلوا حلب
أياماً وقاتلهم العوام ومن بها وكان بها يومئذ تمربغا المشطوب قد
استنابه الناصر بها بعد قتل جكم فرحلوا ولم يظفروا بشيء في تاسع
المحرم، وكان لعلي بك ولد محبوس بقلعة حلب فصانع أهل حلب أباه بإرساله
إليه مكرّماً فما أفاد ذلك وجد في الحصار ونازل العجل ابن نعير حماة
وحاصرها ونهب علي بك ومن معه القرى التي حول حلب وجدوا في الحصار،
وبالغ أهل حلب في الذّبِّ عن أنفسهم وانتدبوا للقتال وهان عليهم الأمر
خشية على أموالهم وحرمهم بحيث أنهم كانوا كل يوم لا يرجعون إلاّ وقد
أنكوا في التركمان نكاية كبيرة، وكان القائم معهم في ذلك تمربغا
المشطوب، فلم يزالوا على ذلك إلى ثاني عشر صفر فرجعوا لمملكتهم لما
بلغهم أن نوروز أوقع بالعجل ومن معه من العرب على حماه وكسرهم وتجهز من
حماه إلى جهة حلب، فلما دخل نوروز حلب وصل الناصر إلى دمشق، ثم راسله
الناصر وقرره في نيابة دمشق وقرر تمربغا المشطوب في نيابة حلب واستهلت،
فارتفع الطاعون من الديار المصرية بعد أن كان اشتدّ الخطب به.
وفي أول المحرّم تجهزّ الناصر إلى الشام لحرب نوروز، وفي الثامن منه
وصل عدة مماليك، فقبض عليهم شيخ في وقعة غزة الآتي ذكرها ثم قدم كتابه
يستحث الناصر على التوجه إلى الشام، فخرج السلطان في العشر الأخير من
المحرم ورخص الشعير في هذه السنة جدا بحيث كان يباع بالصالحية مع وجود
العسكر كل إردب بدرهمين فضّة.
(2/378)
وفي العشرين من المحرم درس ناصر الدين ابن
العديم وهو شاب أول ما بلغ في المنصورية، نزل له أبوه عنها فحضره يشبك
فمن دونه من الأمراء والقضاة وكان حينئذ أمرد، ونهب حاج المغاربة ومن
انضمّ إليهم من الإسكندرية وغيرهم في رجوعهم بين المدينة وينبع.
وفيه أرسل قرا يلك رأس جكم إلى العجل بن نعير فأرسله إلى القاهرة فوصل
إلى الشام في المحرم.
وفي المحرم أرسل الناصر إلى نوروز في طلب الصلح، فأذعن لذلك وأرسل له
الأمير بلاط الذي كان في أسره في العام الماضي، ثم أرسل نوروز تاج
الدين ابن الزهري وعبد الملك ابن الشيخ أبي بكر الموصلي وجماعة إلى شيخ
في طلب الصلح فلقوه في بحيرة قدس، فأعاد الجواب بالإذعان إلى الصلح،
واعتذر لما طلب نوروز منه أن يشفع له إلى السلطان بأن يعطيه نيابة حلب
بأن الأمر فات، ووصلت عساكر السلطان إلى غزة وشاع في دمشق أن شيخ يريد
التوجه إلى دمشق، فاستعدّ له نوروز وبرز إلى سطح المزّة، وفي غضون ذلك
وصل بكتمر جلق من ناحية طرابلس منهزماً، أوقع به شاهين الدويدار
الشيخي، فأرسله نوروز إلى جهة شيخ مع عسكر فلم ينل طائلاً.
وفيها كملت عمارة قلعة دمشق وكان ابتداؤها في العام الماضي، وصرف على
عمارتها مال كثير جداً، وظلم بسببه أكثر الخلق من الشاميين وغيرهم وعاد
رسل نوروز إليه بأمر شيخ كما تقدم وبأنه وصلت إليه خلعة النيابة من
السلطان، وكان خروج الجاليش من القاهرة وأنه لا يقاتل نوروز ولا يواقعه
بل ينتظر مجيء السلطان،
(2/379)
فلما تحقق نوروز ذلك خذله بعض أصحابه منهم
قجقار وقمش وتوجهوا إلى شيخ، فرحل نوروز إلى برزة وتوجه نحو البلاد
الشمالية، ودخل شيخ دمشق بغير قتال في تاسع صفر ووصل معه الطنبغا
العثماني وكان الناصر أمره على نيابة طرابلس، وفي الثامن عشر من المحرم
وصل رأس جكم ورأس ابن شهري صحبة حاجب بن نعير وعلّقا بالقاهرة، وكان
خروج الجاليش من القاهرة في ثاني عشري المحرم وفيه يشبك وتغري بردي
وبيغوت وسودون بقجة وعلان، وخرج الناصر في الثامن والعشرين منه وتوجه
من الريدانية في ثاني صفر، واستناب في غيبته تمراز ومعظم الأمر والنهي
لجمال الدين الأستادار، وقد ضربت عنق والي الفيوم بحضرته في داره بأمر
اقتضى عنده قتله فقتل، فلما كان في السابع عشر من صفر خرج شيخ لملاقاة
الجاليش، ودخل يشبك ومن معه في تاسع عشره، ودخل السلطان في الثاني
والعشرين من صفر بأبّهة السلطنة في احتفال زائد، وحمل نائب الشام القبة
على رأسه بين يديه، ودخل جمال الدين الأستادار وقد جمعت له الوظائف
المتعلقة بالمباشرين من قبل أن يخرج السلطان من مصر مثل الوزارة
والإشارة ونظر الخاص والأستادارية والكشف ونحو ذلك، فرسم على القضاة
وعلى كاتب السر والوزير الشاميين وأهانهم وطلب منهم أموالاّ عظيمة،
وضرب الوزير بالمقارع، وضرب المالكي تحت رجليه ونسبه إلى أنه حكم بغير
ولاية، وقرر عوضه عيسى، وهرب الحنفي ابن القطب دونهم فقرر عوضه صدر
الدين الأدمي،
(2/380)
وفي خامس عشري صفر قبض على يشبك وشيخ بين
يدي الناصر واعتقلا بدار السعادة، فبلغ ذلك جركس المصارع فهرب وهرب
شاهين دوادار شيخ وجماعة، ثم هرب أتباع شيخ وأتباع يشبك أوّلاً فأوّلاً
ثم هرب علان وجانم وأينال المنقار وخلق كثير فوق الخمسمائة من الأمراء
والخاصكية والمماليك فتفرقوا في البلاد، ووصل كثير منهم إلى نوروز منهم
علان وأينال المنقار وجانم وجقمق أخو جركس فآواهم، وجقمق هذا هو الذي
ولي السلطنة بعد اثنتين وثلاثين سنة من هذا الوقت، واستقر بيغوت في
نيابة الشام.
وفي تاسع ربيع الأول قبض على تمراز نائب الغيبة بالقاهرة وحبس بالبرج
بأمر الناصر واستقر مكانه سودون الطيّار، وكان تمراز قد صرف الشيخ
محمّد البلالي عن مشيخة سعيد السعداء وقرر فيها الخادم خضر السراي، فلم
يلبث أن قبض عليه بعد اثني عشر يوماً فعدّ ذلك من كرامات البلالي،
وتكلموا له فأعيد وعزل خضر، ولما جلس يشبك وشيخ بالقلعة خدعا نائب
القلعة ووعداه وأوسعا له في الأماني، فانخدع وعمل على إخراجهما والهرب
معهما، وكان الناصر قد دخل عليهما ليلاً وبيده سيف فعاتبهما وأراد
قتلهما، فاتفق أنهما ترققا له فتركهما تلك الليلة فأصبحا هاربين وذلك
في ثالث ربيع الأول، فهرب كل واحد في جهة، فأرسل الناصر بيغوت الذي
قرره في نيابة الشام في جيش، فاتفق أنهم أدركوا نائب القلعة واسمه
مُنْطَق فقتلوه ورجعوا برأسه، وخفي خبر يشبك وشيخ، فأما شيخ فإنه اختفى
بدمشق بغير اختياره فإنه واعد فرسه في مكان معيّن فأبطأ عليه حتى فضحه
الصبح فاختفى لما أراد الله من بقائه، وأما يشبك فإنه استمر هو وسودون
بقجة وجركس وتمام أربعين نفساً اجتمعوا عليه وساروا إلى جهة حمص، ثم
لحق به شيخ وطائفة كثيرة وأرسلا شاهين إلى جهة حلب يكشف الأخبار، فظفر
به نوروز فسجنه بقلعة حلب، وروفع
(2/381)
حسين بن منصور المحتسب باختفاء شيخ عنده
فضرب بالمقارع، ثم ظهرت براءته فخلع عليه بالحسبة، ثم سأل الناصر عن
نوروز فقيل له إنه هرب إلى حلب، فأرسل إليه خلعة بنيابة الشام بشرط أن
يرسل إليه الأمراء الذين خامروا على السلطان، فقبض عليهم نوروز
وأرسلهم، منهم أينال المنقار وعلان وجقمق واسن باي، أرسلهم صحبة سلامش
فولاّه السلطان نيابة غزة، وأرسل إلى نوروز بنيابة الشام، فقبلها وشرط
أن لا يدخل الشام حتى يخرج الناصر منها، فرحل الناصر من دمشق وصحبته
هؤلاء الأمراء، وقبض أيضاً على سودون الحمزاوي وأقبردي وجماعة كثيرة من
الأمراء الصغار عدّتهم سبعة عشر أمير واستقر بكتمر جلق في نيابة
طرابلس، وكان دخول الناصر إلى القاهرة في رابع عشري ربيع الآخر، فأمر
بقتل الأمراء المذكورين، فقتلوا إلا أينال المنقار وعلان فحبسا
بالإسكندرية وكذلك يلبغا الناصري. وكان الناصر قد جدّ في هذه النوبة في
السير إلى مصر بحيث أنه أقام في الطريق عشرة أيام فقط وطلع القلعة
والأمراء بين يديه قد أركبوا خيولاّ مقيّدين من تحت آباط الخيل ووراء
كل واحد وجاقي راكب بيده سكين مصوب بها إلى ناحية بطنه، وأما يشبك فإنه
لما هرب ومن معه ولحق بهم شيخ وكثر جمعهم وتحققوا رحيل السلطان من دمشق
وقد جعل فيها بكتمر جلق نائب الغيبة عن نوروز وأمره إذا وصل نوروز أن
يتوجّه إلى نيابة طرابلس، فلما بلغهم ذلك رجعوا إلى دمشق فهجموا عليها
في الثامن من ربيع الآخر، فهرب بكتمر جلق نائب طرابلس ودويدار نوروز،
وكان قد قدم إلى الناصر قبل رحيله وقبض على الغرز أستادار نوروز وغيره
وشرعوا في جباية الأموال والخيول بعد النداء بالأمن، ورجع الذين ودّعوا
الناصر فاختفى بعضهم، وظهر بعضهم واستخرج شيخ من دار السعادة مالاً له
كان مدفوناً وأجمعوا أمرهم واجتمع عليهم من يرى رأيهم، فبلغهم في حادي
عشر ربيع الآخر أن بكتمر
(2/382)
جلق وطائفة معه قليلة قد نزلوا ببعلبك،
فخرج يشبك وجركس ومن معهما ليوقعا به، وتأخر شيخ بدمشق، فخرجوا إلى
بعلبك من طريق حمص لئلاّ يفطن بهم، فصادفوا مجيء نوروز وعسكره وقد انضم
إليه بكتمر جلق ومن معه فوقعت العين على العين فتحاربوا عند وادي معنه
من كروم بعلبك، فكاثرهم نوروز بمن معه فقتل يشبك وجركس وفارس دوادارهم،
وأرسلت رؤوسهم إلى الناصر فوصلت إليه إلى القاهرة وكان علم بذلك وصل
إليه وهو بالطريق في العريش، فلما بلغ شيخ خبرهم خرج من دمشق على طريق
جرود في ليلة الجمعة ثالث عشره، ودخل نوروز دمشق في رابع عشر ربيع
الآخر ونودي بالأمان، ورجع بكتمر جلق نائب طرابلس إلى بلده ويشبك ابن
ازدمر نائب حماة إلى بلده في العشرين منه، وفي سادس عشري ربيع الآخر
حكم بعض القضاة بقتل سودون الحمزاوي قصاصاً بأمر السلطان، فقتل بين
يديه، ثم شاع أنه ذبح بين يديه كثير من الأمراء المأسورين وغيرهم، وفي
ثالث جمادى الأولى استقر تغري بردي أتابك العساكر بالقاهرة عوضاً عن
يشبك وكمشبغا المزوق عوضاً عن جركس المصارع، وذلك في اليوم الذي قدم
فيه قاصد نوروز
برؤوسهما، وفي آخر جمادى الأولى تجهز نوروز إلى الجهة الشمالية لمحاربة
شيخ، ثم قيل إنه كاتبه وإنهما قصدا الاجتماع والتصافي، فاجتمعا في
الطريق وانفرد كل منهما عن جماعته، واتفق مجيء دويدار السلطان ومن معه
مكاتبات كثيرة، فلما سمع باتفاق الأميرين رجع إلى مصر وتوجه الأميران
بعسكرهما إلى بلاد ابن بشارة فأوسعوها نهباً، وهرب ابن بشارة ثم قبض
عليه نائب صفد.،
(2/383)
وفي سابع رجب سجن بكتمر جلق بقلعة دمشق،
ودخل الأميران دمشق في ثامن رجب بعد أن رضي شيخ بطرابلس وأخذ في
التجهيز إليها، ثم خرج في ثامن عشر رجب وودّعه نوروز، واستقر معه في
قضاء طرابلس تاج الدين محمّد بن القاضي شهاب الدين الحسباني، ثم فرّ
بكتمر جلق في عاشر رمضان من سجن قلعة دمشق، فتوجه إلى صفد ثم إلى غزة،
ثم بسط نوروز يده في المصادرات فبالغ في ذلك حتى أن بعض التجار كانوا
يترحّمون على تمرلنك، وفرض على جميع الجهات جليلها وحقيرها حتى الخانات
والحمّامات وأرباب المعايش حتى الذين يبيعون الخزف تحت القلعة حتى باعة
السراطين حتى الباعة في الطبالي حتى انقطعت الأسباب وتعطلت المعايش،
نقلت ذلك من تاريخ ابن حجي.
وفي رجب ضرب عبد الله المجادلي بين يدي نوروز ضرباً مبرحاً لكثرة شكوى
الرؤساء منه أنه يؤذيهم بلسانه وسعيه، ثم شفع فيه فأرسل، وفي شعبان قبض
نوروز على يشبك الموساوي، وكان السلطان أرسله إلى نيابة الكرك وكان
نوروز قد أرسل إليها سودون الحاجب فمنع يشبك المذكور، فرجع إلى غزة
وفيها سلامش فحاربه فأسر يشبك، وقعت فرسه في طين فوقع، فأرسله إلى
نوروز فسجنه بدمشق في أول رمضان.
وفيه كان السيل العظيم بطرابلس، قيل إنهم ما رأوا مثله، فهدم أبنية
كثيرة وهلك بسببه خلق كثير.
وفي رمضان هرب بكتمر جلق من القلعة فتوجه إلى نابلس، فبلغ ذلك نوروز
فخرج إليه ففر إلى غزة، ثم وصل يشبك بن أزدمر من حماة، فبلغه وهو في
حمص أن تمربغا المشطوب نائب حلب قصد النزول على التركمان فبيتوه وكسروه
ورجع منهزماً، فردّ
(2/384)
يشبك جماعته إلى حماة لحفظ البلد وأقام هو
بدمشق في ناس قليل وأرسل إلى نوروز يعلمه بذلك، فقدم نوروز دمشق ورجع
يشبك إلى حماة، ودار نوروز في الرملة وقاقون والغور أكثر من شهر، ثم
رجع وكان قد نهب للعرب إبلاً كثيرة، فلما تحققوا أنه دخل دمشق كبسوا
عليها فاستنقذوها وبلغه ذلك فخرج إليهم فلم يظفر بهم، ثم قبض على نقيب
الأشراف علاء الدين كاتب السر ونسبه إلى مكاتبة المصريين، ثم بذل
الشريف مالاً وأطلق، ثم عزل ابن القطب من قضاء الحنفية بدمشق وولي ابن
القضامي قاضي حماة وكان هرب من نائبها فسعى فولى والواقع في نفس الأمر
أن القضاء باسم صدر الدين بن الأدمي من الناصر، وفي رمضان صرف الباعوني
من خطابة القدس واستقر شهاب الدين بن حجي في الخطابة بجامع دمشق، وفي
شعبان كاتب شيخ الناصر يسأله أن يوليه نيابة الشام بشرط أن يكفيه جميع
أعدائه ويقبض عليهم فأجابه إلى ذلك، وكان بمصر يومئذ صدر الدين بن
الأدمي وقد هرب منذ هرب شيخ ويشبك خوفاً من نوروز فأقام بالقاهرة،
فولاّه الناصر قضاء الحنفية بدمشق وولى نجم الدين ابن حجي قضاء
الشافعية بها، وأرسلهما إلى شيخ وهو بطرابلس ليعلماه برضى السلطان عنه
وتفويض نيابة دمشق إليه، وحضرا حلف السلطان والأمراء له، وخرجا من
القاهرة في أول شوال ومعهما الطنبغا شلاق الحاجب والطنبغا شقل ومعهما
تقليد بكتمر جلق بنيابة طرابلس ويشبك ابن أزدمر بنيابة حماة، فوصلوا
إلى شيخ في البحر في شهر ذي الحجة وهو على المرقب، وكانوا توجهوا في
النيل إلى دمياط ثم إلى عكّا ثم إلى صفد ثم إلى طرابلس في البحر الملح،
وتلقاهم شيخ وقبل الرسالة ولم يلبس خلعة النيابة، وأرسل قاصده إلى
نوروز يخبره بذلك، وكان نوروز قد بلغه الخبر فأرسل فأصدا يستكشف ذلك
فأرسل إليه شيخ
(2/385)
الخلعة والتقليد وابن الأدمي القاضي الحنفي
وجماعة من الأمراء، فوصلوا إلى نوروز وأعلموه بعدم قبول شيخ النيابة
وأحضروا إليه التقليد والخلعة، فرضي بذلك وأمر بتزيين البلد، وكان قد
نادى في العسكر بالتجهيز ففترت همته بذلك، وكان نجم الدين بن حجي قد
تغيب فلم يصل صحبة المذكورين.
وفي ذي القعدة قدم نائب حلب تمربغا المشطوب إلى دمشق لتأكيد الاتفاق
بينه وبين نوروز، وكان بلغ نوروز عنه أنه مالأ عليه فقدم ليظهر لنوروز
كذب ما نقل عنه، فأقام أسبوعاً ورجع، وفي أوائل ذي الحجة حاصر شاهين
دويدار شيخ صهيون، فغلب عليها وأرسل إلى دمشق بذلك، فضربت البشائر.
وفي هذه السنة استقر أرغون شاه النوروزي في الأستادارية بدمشق، ولم يزل
تنتقل به الأحوال حتى ولي الوزارة بالقاهرة في الدولة المؤيدية ثم ولي
الأستادارية بالقاهرة في الدولة الصالحية.
وفي سادس جمادى الأولى توجه السلطان بثياب جلوسه إلى بيت قراقجا وكان
مريضاً فعاده، ثم توجه إلى بيت الأستادار فقدم له طوالة خيل، ثم توجه
إلى تربة والدته بين القصرين في مدرسة والده فزارها وأنعم على أهل
المدرسة ببلد أنبوبة، ليزداد خراجها في معاليمهم وفرحوا بذلك واستمر
بقية عمره، ثم توجه إلى بيت رأس نوبة الكبير وهو بالقرب من الجامع
الأزهر فدخل إليه، ثم توجه إلى بيت الحاجب الكبير كزل وهو بالقرب من
باب البرقية فدخل إليه، ثم صعد القلعة، وكان عهد الناس بعد بعداً
شديداً من سلطان يفعل مثل هذا التبذل ولم يعرف ذلك وقع لملك من ملوك
مصر قبله، وقد تبعه على ذلك من جاء بعده.
وفيها قتل دريب بن أحمد بن عيسى الحرامي أمير حلى المدينة التي بين مكة
واليمن
(2/386)
على ساحل البحر في حرب بينه وبين كنانة وهم
العرب النازلون بها، واستقل أخوه موسى بالإمرة وكان شريك أخيه دريب
فيها لكن لا كلام له معه، فلما قتل موسى انفرد موسى بالإمرة، فلما أن
غلبت كنانة ثار حسن بن عجلان عليه فانتزع منه البلد فلجأ موسى إلى
الناصر صاحب اليمن، فسأل ابن عجلان أن يكف عنه فترك له بلده، فاستمر
بها إلى أن مات كما سيأتي في سنة ثمان عشرة.
وفي أواخر ربيع الآخر أحضر زين الدين عبد المعطي الكوم الريشي إلى منزل
جمال الدين الأستادار فضربه بحضرة القضاة الأربعة سبعمائة عصى وسجنه،
وحصل له من الناس مجيئه وتوجهه إلى الحبس صفع عظيم، وكان السبب في ذلك
أنه كان يتردد إلى أقباي الحاجب فأقامه في عمارة له برأس البندقانيين
وأقباي يومئذ نائب الغيبة وكان المذكور ينوب عن الحنفي في الحكم وعنده
رسل فيأمرهم بصفع من يريد ممن يتحاكم إليه فتحاماه الناس، فصار يرسل
لمن يريد إهانته من بياض الناس فيصفع بحضرته، وشاع عنه انه رفع له شاب
نحو العشرين سنة وأدعى عليه أنه أكره صغيراً مراهقاً حتى فسق به فأمر
في الحال من بحضرته من الفعلة الذين في العمارة أن يفسقوا به قصاصاً
بزعمه، فعظمت الشناعة عليه بذلك، فأرسل الأمير أحمد ابن أخت الأستادار
وهو يومئذ ينوب عن خاله إليه فهرب واحتمى بأقباي، فعلم أقباي بصورة
الحال فأرسله إلى نائب الأستادار فضربه، واجتمع عليه من تقدم له منه
أذى من العوام فكادوا يقتلونه، وبالغوا في إهانته وصفعه ثم خلص وعاد
إلى ما كان عليه، فلما قدم العسكر شكى ولد القاضي الحنفي له ما جرى
وكان هو يبالغ في الإساءة لولد الحنفي ويزدري بجميع النواب، فتمالئوا
عليه وأنهوا إلى الأستادار قضيته فضربه كما تقدم وسجنه، ثم بلغ خبره
السلطان فأمر بإحضاره فضربه بالمقارع، وأقام في الحبس مدة طويلة، ثم
خلص بعهد ذلك بمدة وتناسى الناس الخبر، وأظهر هو الرجوع عن تلك
(2/387)
الطريقة فعاد إلى نيابة الحكم عن قضاة
الحنفية وبلغ من أمره في سلطنة الأشرف أن القاضي زين الدين التفهني
امتنع من استنابته فأرسل إليه ناظر الجيش وكاتب السر برهان الدين
الشريف برسالة عن السلطان بأمر القاضي باستنابته، وصار يحضر مجلس
السلطان أحياناً فيسخر منه، وحضر المولد النبوي، واستمر على طريقته
ومجونه إلى أن مات في أواخر سنة ثلاث وثلاثين مقهوراً بسبب أنه كان له
صرّة ذهب خشي عليها من السراق فأودعها عند بعض القضاة، ثم احتاج إلى
شيء منها فادّعى أنها سرقت من منزله وحلف له على ذلك، فما استطاع أن
ينازعه في ذلك لشدّة سطوة القاضي المذكور وبادرته فكمد فمات.
وفيها أرسل ملك الهند ببنجالة واسمه أحمد خان بن مير خان ابن ظفر خان
وكان أبوه كافراً فأسلم هو وقيل حده وأحرق عم أبيه واسمه لاك فأرسل إلى
مكة خيمة حمراء كبيرة جدا ليظل بها الطائفين حول البيت، فنصب بعضها
وأخر أكثرها متوقفاً على إذن صاحب مصر، ثم تنوسيت وتملكها صاحب مكة
لنفسه.
وفيها بنيت المدرسة البنجالية بالجانب اليماني مما يلي صنعاء وصرف
عليها ألوف دنانير ورتب بها مدرسين وطلبة وغير ذلك، وأهدى ملك بنجالة
لأهل مكة شاشات كثيرة جدا حتى قيل إن الذي خص صاحب مكة وحده ألف شاش.
وفيها بدأ جمال الدين الأستادار في إنشاء مدرسته برحبة باب العيد وذلك
في خامس جمادى الأولى.
وفيها بعد قتل جكم جمع خليل بن قراجا بن علي بن دلغادر التركماني الذي
يقال له علي بك جمعاً من التركمان وقصد حلب لإخراج من فيها من اتباع
جكم وكان جكم قد حبس ولده بالقلعة، فلما وصل إلى مرج دابق أرسلوا إليه
ولده، فتوجه إلى أن نزل بالميدان الأخضر شمالي البلد، وخرج أهل البلد
لقتاله فكسرهم، وذلك في سادس عشر
(2/388)
المحرم، واستمر يحاصرهم ونهب القرى وأفسد
فساداً عظيماًن ثم انتقل عن الجهة الشمالية إلى الجهة القبلية وجدَّ في
الحصار، واتفق أن نوروز هرب لما وصل الناصر - كما سيأتي ذكره - فوصل
إلى حماة، فوجد العجل ابن نعير يحاصرها وأهلها في شدة، فلما وافى نوروز
أوقع بالعجل فانهزم، ثم استمر نوروز طالباً حلب، فهرب منه علي بك بن
دلغادر وحصل الفرج لأهل حماة من حصار العرب ولأهل حلب من حصار التركمان
وذكر القاضي علاء الدين ابن خطيب الناصرية في تاريخه أن بعض أهل حلب
رأى شيخنا سراج الدين البلقيني في المنام فقال له: قل لبرهان الدين
المحدث يقرأ عمدة الأحكام ليفرّج الله عن أهل حلب، فقصّها على البرهان
فاجتمع جمع فقرأها البرهان ودعوا، فاتفق أنهم في آخر النهار كسروا فرقة
حاصرتهم في حلب، وبعد يومين رحلوا بأسرهم عن حلب، وحصل الفرج ولله
الحمد، وذلك في ثاني عشر صفر.
ذكر من مات
في سنة عشر وثمانمائة من الأعيان
أحمد بن محمّد بن أبي العباس الحفصي ابن أخي السلطان أبي فارس صاحب
بجاية، مات في هذه السنة فقرر السلطان بدله أخاه الريّان محمّداً.
إسماعيل بن عمر المغربي المالكي نزيل مكة، جاور بها مدة، وكان خيراً
فاضلاً عارفاً بالفقه يذكر له كرامات، مات في شهر رمضان.
أبو بكر بن أحمد بن عبد الرحمن المدني فخر الدين المعروف بالشامي كان
خيراً ديناً، اشتغل كثيراً وتيقّظ، وسمع من بعض أصحاب الفخر، وناب في
الحكم، وكان كثير التوجّه إلى الشام ومصر، مات في المحرم عن ستين سنة،
وقد أسرع إليه الشيب جدّاً.
(2/389)
أبو بكر بن محمّد الصرخدي تقي الدين بن
تطماج الدمشقي ولد بعد الستين بقليل، وسمع من بعض أصحاب الفخر، وجوّد
الخط على الزيلعي وعلم الناس الخط المنسوب، واشتغل في الفقه والنحو،
وعمل نقابة الحكم، أصبح مقتولاً في آخر جمادى الأولى بدمشق بمنزل سكنه
ولم يعرف قاتله.
بهادر بن عبد الله الأرمني مولى ابن سند سمع معه من جماعة منهم أبو
العباس المرداوي وحدث ومات في شوال، سمعت منه بدمشق كتاب الصفات للدار
قطني بسماعه من ابن القيّم.
جركس المصارع كان من خواص الظاهر وتقدم بعده وقد ذكر في الحوادث. وكان
شهماً شجاعاً فاتكاً من زمرة يشبك، وقد ولي نيابة حلب للناصر في سنة
تسع وثمانمائة ولم يقم بها إلا مدة إقامة الناصر بها ورجع معه خوفاً من
جكم، وهو أخو الأمير جقمق الذي ولي أتابكية العساكر بعد ذلك ثم تسلطن.
سيف بن عيسى السيرامي سيف الدين نزيل القاهرة، وكان منشأه بتبريز، ثم
قدم حلب لما طرقها تمرلنك، ثم استدعاه الظاهر من حلب فقرره في المشيخة
بمدرسته عوضاً عن علاء الدين السيرامي سنة تسعين ثم ولاّه الظاهر مشيخة
الشيخونية بعد وفاة عز الدين الرازي مضافة إلى الظاهرية وأذن له أن
يستنيب عنه في الظاهرية ولده الكبير واسمه محمود فباشر مدة ثم ترك
الشيخونية واقتصر على الظاهرية وكان ديناً خيِّراً كثير العبادة، وكان
شيخنا عز الدين ابن جماعة يثني على
(2/390)
فضائله، مات في ربيع الأول وولي المشيخة
بعده ولده يحيى أبقاه الله تعالى وسمّاه الشيخ تقي الدين المقريزي يوسف
وترجم له في الياء آخر الحروف وقال علاء الدين في تاريخ حلب: قيل اسمه
يوسف.
عبد الله بن أحمد بن علي بن محمّد بن قاسم أبو المعالي ابن المحدِّث
شهاب الدين العرياني الشافعي ولد سنة اثنتين وسبعمائة، وأحضره أبوه على
الميدومي وأسمعه على القلانسي والعرضي وغيرهما ثم طلب بنفسه فسمع
الكثير وحصل الأجزاء ثم ناب في الحكم وفتر عن الاشتغال وكان يقرأ
الحديث بالقلعة ولم يكن يتصاون مات في عاشر رمضان.
عبد الله بن أبي بكر بن يحيى الروقري اليماني الشافعي أحد الفضلاء من
أهل تعز، أفتى ودرّس بالمظفّريّة، وكان مشكور السيرة.
عبد الله بن محمّد الهمداني الحنفي مدرّس الجوهرية بدمشق، كان يدري
القراآت ويقرئ، وكان خيراً عارفاً بمذهبه، مات في جمادى الأولى وقد بلغ
السبعين.
عبد الرزاق بن عبد الله المجاور بالجامع الأموي كان أحد المعتقدين وله
اتباع وللناس فيه اعتقاد توجه في سنة عشر إلى القاهرة فمات بها في ذي
القعدة.
عبد العزيز بن عبد الجليل بن عبد الله النمراوي الفقيه الشافعي عز
الدين مات في تاسع ذي القعدة.
محمّد بن أحمد بن سليمان بن يعقوب بن علي بن سلامة بن عساكر بن حسين
(2/391)
بن قاسم بن محمّد بن جعفر الأنصاري
البيساني الأصل ثم الدمشقي أبو المعالي جلال الدين ابن خطيب داريّا ولد
سنة خمس وأربعين، وعني بالأدب ومهر في اللغة وفنون الأدب وشهد في
القيمة، وقال الشعر في صباه ومدح الأشرف شعبان لما فتح مدرسته بقصيدة
قرأها عليه الشيخ بمدرسته ومدح أبا البقاء وولده والبرهان ابن جماعة
فمن بعدهم ثم هجا البرهان ومدح القاضي جلال الدين البلقيني بقصيدة
لاميّة طويلة جداً سمعتها من لفظه وفيها: جلال الدين يمدحه الجلالي،
وتقدم في الإجادة إلى أن صار شاعر عصره غير مدافع، وقد طلب الحديث
بنفسه كثيراً، وسمع من القلانسي ومن بعده ولازم الشيخ مجد الدين
الشيرازي صاحب اللغة وصاهره، سمعت من شعره ومن حديثه، وطارحته ومدحني
وكان بعد الفتنة أقام بالقاهرة مدة في كنف ابن غراب ثم رجع إلى بيسان
فسكنها، ومات في ربيع الأول ببيسان من الغور الشامي، وكان له بها وقف
فسومح بخراج ذلك وأقام هناك.
محمّد بن زكريا المريني صاحب بلد الغتاب، لما مات أحمد بن محمّد ابن
أبي العباس واستقر أخوه زكريا بدله قصدهم محمّد وكان مقيماً بفاس
وأعانه صاحبها أبو سعيد عثمان ابن أبي العباس ابن أبي سالم وملكها فلم
يزل أبو فارس يعمل عليه حتى انفضَّ عنه جمعه وقبض عليه وقتله في ذي
الحجة من هذه السنة.
محمّد بن عبد الحكم ويقال له علي بن أبي علي عمر بن أبي سعيد عثمان بن
عبد الحق المريني، كان أبوه صاحب سجلماسة ومات بتروجة بعد أن حجّ في
سنة سبع وستين فنشأ ولده هذا تحت كنف صاحب تلمسان، ثم إن عرب المعقل
نصبوه في سنة تسع وثمانين أميراً على سجلماسة وقام عاملها علي بن
إبراهيم بن عبوس بأمره ثم تنافرا
(2/392)
فلحق محمّد بتونس، فلما استقر أبو فارس في
المملكة توجه محمّد إلى الحج فدخل القاهرة وحج ورجع فصار يتردد إلى أبي
زيد بن خلدون وساءت حاله وافتقر حتى مات.
محمّد بن محمّد بن يعقوب الجعبري بدر الدين بن بدر الدين الدمشقي اشتغل
بالعلم وولي بعض المدارس بدمشق وسمع من جماعة ومال إلى مذهب الظاهر
وولي نظر الأسرى وغيرها بدمشق، وولي قضاء صفد، وكان مشكور السيرة، مات
في شوال.
محمّد بن الشاذلي المحتسب كان عريّاً من العلم غاية في الجهل، كان
خردفوشيّاً ثم صار بلاّناً، ثم صحب ابن الدماميني، ثم ترقّى إلى أن ولي
حسبة مصر ثم القاهرة مراراً بالرشوة، ومات في صفر.
موسى بن عطية المالكي اللقاني الفقيه سمع من إبراهيم الزفتاوي سنن ابن
ماجه قرأ عليه الكلوتاتي بعضاً، وهو والد شمس الدين محمّد صاحبنا أبقاه
الله، ومات والده في هذه السنة.
وفيها مات سودون الطيّار في أواخر شوال وكان عفيفاً شجاعاً بطلاً وكان
كثير التوقير للعلماء.
وفيها مات محمّد بن الأمير محمود الأستادار في بيت جمال الدين
الأستادار، وذلك في ذي القعدة.
(2/393)
وفيها مات شاهين قزقا، وكان من الخاصكية،
فنقله الناصر شيئاً بعد شيء إلى أن صار مقدم ألف، فمات عن قرب في ذي
القعدة.
وفيها مات مقبل الزمام في مستهل ذي الحجة، وهو باني المدرسة
بالبندقانيين ووقف عليها أملاكه، وخلف موجوداً كثيراً.
(2/394)
سنة إحدى عشرة
وثمانمائة
استهلت هذه السنة ومصر في غاية الرخاء كثير جدّا، والقمح بنحو مائة
درهم والشعير بنحو سبعين والذهب يومئذ بمائة وأربعين المثقال، وفي
الثاني من المحرم برز نوروز إلى صفد، ثم انثنى إلى شعسع، ثم انثنى إلى
بكتمر جلق ومعه محمّد وحسين وحسن بنو بشارة فاقتتلوا، فقتل بينهم جماعة
وحرقت الزروع وخربت القرى وكسرهم وأقام بالرملة، وكان قد جهز الناصر
عسكراً إلى سودون المحمدي بغزة ليستنقذوها منه صحبة نائبها الطنبغا
العثماني ثم مضوا إلى صفد فخرجوا في النصف من المحرم وفيهم باش باي وهو
يومئذ رأس نوبة الكبير والطنبغا العثماني وطوغان وسودون بقجة، وكان
بكتمر جلق وجانم قد خرجا قبل ذلك من صفد إلى غزة فملكاها، ففر منها
سودون المحمدي فلحق بنوروز، فرجع نوروز فقاتلهم كما تقدم، وأقام
بالرملة، فبلغ ذلك العسكر المجهز من مصر وهم بالعريش وكان فيهم طوغان
وباش باي وسودون بقجة فدخلوا إلى مصر في صفر، ولما تحقق نوروز رجوعهم
قصد صفد ليحاصرها، فقدم عليه الخبر بحركة شيخ إلى دمشق، وكان قد جمع من
التركمان والعرب والترك جمعاً وسار من حلب في ثاني عشر ربيع الأول،
فرجع نوروز فسبقه إلى دمشق ثم برز إلى برزة، فقدم عليه سودون المحمدي
هارباً من بكتمر جلق وكان قد خالف نوروز إلى غزة فغلب عليها وفرّ سودون
منه فتراسل شيخ ونوروز في الكف عن القتال ولم ينتظم لهما أمر، وصمّم
شيخ على أخذ دمشق، وباتا على أن يباكرا القتال، فأمر شيخ بوقيد النيران
في معسكره واستكثر من ذلك ورحل جريدة إلى شعسع فنزلها وأصبح نوروز فعرف
برحيله فتوجه إلى دمشق فدخلها في الخامس من صفر
(2/395)
وفي ثانيه قدم عليه تمربغا المشطوب من حلب،
وشرع نوروز في بيع الغلال التي كان أعدها بقلعة دمشق، وفي الرابع عشر
منه نزل قبة يلبغا وسار إلى شعسع فلقي بها شيخ وهو يومئذٍ في نفر قليل
نحو الألف وقد تفرق أصحابه فالتقيا فتقاتلا فانكسر نوروز ويقال كان معه
أربعة آلاف نفس ولم يكن مع شيخ سوى ثلاثمائة نفس، وركب شيخ أقفيتهم،
فدخل نوروز دمشق في الثاني عسر من صفر مجتازاً وأعقبه شيخ فدخل دمشق
بغير قتال ودخل دار السعادة ونادى بالأمان، ولبس خلعة النيابة التي
وافته من السلطان بعد أن سار إلى قبة يلبغا فركب من ثم وركب معه القضاة
والأعيان، ومن جملتهم نجم الدين ابن حجي بقضاء الشافعية، وقبض على
جماعة من النوروزية وأفرج عن جماعة من المسجونين وجهز بكتمر جلق
ودمرداش لحرب نوروز فبرزا في عسكر في أواخر صفر قاصدين حلب، وكان نوروز
لما انهزم استصحب معه يشبك الموساوي أسيراً فسجنه بقلعة حلب ثم اختلف
نوروز وتمربغا المشطوب فصعد تمربغا القلعة وأطلق الموساوي، وكان
المشطوب تلقى نوروز وأكرمه وقام له بما يليق به وأشار عليه بالطاعة
للسلطان وأن يرسل بطلب الأمان، فامتنع من ذلك ورحل عن حلب إلى جهة
ملطية فقدم الموساوي دمشق في أواخر صفر يريد القاهرة، ثم أطلق شيخ
جماعة من المسجونين الأمراء وغيرهم وظهر جماعة ممن كان اختفى منهم وفي
ربيع الآخر قبض على ناظر الجيش تاج الدين ابن رزق الله وعلى أخيه
وصودرا على ستة آلاف دينار وصودر المحتسب على ألف دينار واستقر في نظر
الجيش علم الدين ابن الكويز وفي ديوان شيخ صلاح الدين ابن الكويز وشهاب
الدين الصفدي في كتابة السر بدمشق وشهاب الدين الباعوني في الخطابة
بالجامع الأموي، وفي الأستادارية بدر الدين ابن محب الدين فبسط يده في
المصادرة فأخذ من ابن المزلق خمسة آلاف
(2/396)
دينار حصلها من التجار، وصالح القضاة على
ألف وخمسمائة دينار، ففرضوها على المدارس، وفرض على جميع القرى ما
يحتاج إليه من الشعير، وجمع شيخ العساكر وخرج إلى نوروز وكان تمربغا
بحلب ومعه يشبك بن أزدمر.
وفي ربيع الآخر قدم صدر الدين ابن الأدمي إلى دمشق وبيده ولاية القضاء
وكتابة السر، وكان قد قدم بذلك من العام الماضي فما مكنه من المباشرة
وأهانه وتعوق بسبب ذلك في البلاد الشمالية، فلما وصل أمضى له شيخ وظيفة
القضاء خاصة، ثم توجه شيخ إلى جهة حلب وأرسل عسكراً فحاصروها، فسلمها
لهم تمربغا المشطوب، واجتمع عنده أحمد بن رمضان وغيره من التركمان وفر
إليه جماعة من النوروزية منهم سودون المحمدي وسودون اليوسفي، فرحل في
طلب نوروز فلحق أعقابه وقبض على جماعة من أصحابه وكان قرر في حلب
قرقماس ابن أخي دمرداش وأرسل عسكراً في طلب نوروز، ورجع إلى دمشق
فدخلها في أبهة عظيمة، ولحق العسكر بالتركمان بأنطاكية، وأوقعوا بهم
واستنقذوها منهم، وقتل حسين بن صدر الباز في المعركة، وغلب أحمد بن
رمضان على نوروز، فمنع عنه العسكر وقتل قطلوبغا الجاموس نائب قلعة حلب،
ثم فر نوروز من أسر التركمان فاستولى على قلعة الروم، وكان يشبك بن
أزدمر قد فر إلى نوروز واجتمعا بأنطاكية، ولما رجع شيخ إلى دمشق أطلق
ناظر الجيش من الترسيم وكذلك الوزير المنفصل، وقرر ابن الموصلي في
الحسبة وشرط عليه أن لا يأخذ من الباعة ضيافة القدوم، فكان المشاعلي
ينادي بين يديه بذلك وهو لابس الخلعة.
وفي جمادى الأولى قبض الناصر على جماعة من الأمراء وذبحهم وسجن منهم
بيغوت وسودون بقجة بالإسكندرية، وفي أواخره استقر أرغون الرومي أمير
آخور وصرف كمشبغا المزوق، وفي أول رجب دخل شيخ دمشق راجعاً من حلب وبعث
بجماعة من الأمراء فسجنهم بقلعة الصبيبة.
وفي جمادى الأولى منع الأمير جمال الدين من الحكم بين الناس وأمر
بالاقتصار على ما يتعلق بالأمور السلطانية، فكان ذلك ابتداء انحطاط
منزلته وهو لا يشعر.
(2/397)
وفي جمادى الآخرة مات الأمير باش باي رأس
نوبة الكبير وكان معه نظر الشيخونية.
وفي أواخر رجب فر المماليك الذين كانوا في السجن بدمشق لما بلغهم خلاص
نوروز من أسر التركمان وتوجهوا إليه منهم تمربغا المشطوب، وركب شيخ في
طلبهم فلم يلحقهم.
وفيها فر شمس الدين ابن التباني إلى الشام فقرره شيخ نائبها في نظر
الجامع الأموي وغير ذلك من الوظائف وقربه وأدناه وذلك في رجب، ثم نقل
الناصر عنه شيء أغضبه فهم بالقبض على أخيه شرف الدين، ففر أيضاً إلى
شيخ بالشام فولاه خطابة الجامع الأموي بعد أن كان صرف عنه الباعوني
وقرر فيه ناصر الدين البارزي وكان قد فر من حماة من يشبك بن أزدمر
واتصل بشيخ، فاختص به ونادمه وولاه الخطابة، وقرر ابن التباني في قضاء
الشام للحنفية، وفيه ألزم النائب أهل دمشق بعمارة مساكنهم والأوقاف
التي داخل البلد وضرب فلوساً جدداً نودي عليها كل ثمانية وأربعين
بدرهم، وفي شعبان وصل يشبك الموساوي رسولاً من الناصر إلى شيخ يطلب منه
بعض الأمراء الذين كانوا خامروا عليه، فاعتذر فأعاد عنه الجواب بما
سنذكره بعد.
وفي رمضان بلغ النائب أن يشبك الموساوي نقل عنه للناصر أنه ساع في
العصيان عليه، فأرسل نجم الدين ابن حجي قاضي الشام بكتب ومحاضر تشهد له
بأنه مستمر على الطاعة وأن يشبك كذب عليه فيما نقله عنه، فوصل ابن حجي
بالكتب عنه فقبل عذره وكتب أجوبته واقترح عليه بأن يرسل من عنده من
الأمراء المسجونين، وأنه إن تباطأ في إرسالهم حتى يمر شهر ثبت عليه ما
نقل عنه من العصيان، فامتنع من إرسالهم وشرع الناصر في التجهيز إلى
الشام بهذا السبب.
وفي هذه السنة أعيد التجديد بالقدس وبالرملة للأربع قضاة.
(2/398)
وفيها قتل الناصر أينال الأجرود وتمربغا،
وكانا أميرين من أخوة بيغوت، وقتل بالإسكندرية عدة أمراء منهم سودون من
زاده صاحب المدرسة المتقدم ذكرها وكذلك بيغوت، وفي ذي القعدة قتل عمر
بن علي بن فضل أمير آل جرم بحيلة من نائب الكرك محمّد التركماني وكان
عمر قد عصى وخالف، فغدر به محمّد المذكور وأرسل برأسه إلى مصر فطيف به.
وفيها في ثالث رجب أكمل جمال الدين يوسف البيري البجاسي أستادار
السلطان مدرسته بالقاهرة برحبة العيد ورتب فيها مدرسين على المذاهب
الأربعة ودرس حديث، فالشافعي همام الدين الخوارزمي وهو شيخ الصوفية،
والمالكي.....، والحنفي بدر الدين محمود بن الشيخ زاده، والحنبلي فتح
الدين أبو الفتح ابن الباهي، ومدرس الحديث كاتبه، ومد في أول يوم
سماطاً هائلاً وملأ الفسقية بالسكر المكرر واستمر حضور المدرسين في كل
يوم، يحضر واحد ويخلع عليه عند فراغه، فلما كان بعد أسبوع جدد فيها درس
تفسير وقرر المدرس قاضي القضاة جلال الدين البلقيني وعمل له إجلاساً في
قوله تعالى: " إنما يعمر مساجد الله " واستمر بعد ذلك يدرس من هذا
الموضع،
(2/399)
وبعد قليل نم بعض الناس على جمال الدين
بأنه عمل مدرسة وبالغوا في وصفها وما بها من الرخام والزخرفة وأنه ما
اكتفى بذلك حتى شرع في أخرى بباب زويلة، فاستفسره الناصر عن ذلك ففهم
من أين أتى فقال: إنما شرعت في عمل صهريج ومسجد وفيه مدرس على اسم
مولانا السلطان ليختص بثواب ذلك، فأرضاه بذلك وقد لزم غلطه فصيره له
حقيقة فلم يكمل جمال الدين من ذلك الوقت سنة حتى قبض عليه وأهلك كما
سيأتي.
وفيها كملت مدرسة الخواجا علاء الدين الطرابلسي بسويقة صاروجا بدمشق.
وفيها نودي في شعبان بالقاهرة أن لا يركب أحد الخيل والبغال إلا
الأجناد الذين في خدمة السلطان أو الأمراء خاصة، ثم سعى للقضاة فأذن
لبعضهم ثم صار يؤذن بمراسيم سلطانية للواحد بعد الواحد من ديوان
الإنشاء، واشتد الأمر في ذلك فصار المماليك ينزلون من رأوه راكباً
فرساً إلا أن أخرج لهم المرسوم؛ ثم بطل ذلك في أواخر السنة.
وفي سادس عشر رجب صرف ناصر الدين ابن العديم من قضاء الحنفية واستقر
أمين الدين الطرابلسي بعناية جمال الدين الأستادار.
وفي عاشر شعبان جاءت زلزلة عظيمة في نواحي بلاد حلب وطرابلس فخرب من
اللاذقية وجبلة وبلاطيس أماكن عديدة وسقطت قلعة بلاطيس، فمات تحت الردم
خمسة عشر نفساً وخربت شعر بكاس كلها وقلعتها، ومات جميع
(2/400)
أهلها إلا نحو خمسين نفساً، وانشقت الأرض
وانقلبت قدر بريد من القصير إلى سلقوهم، وهي بلد فوق جبل، فانتقلت عنه
قدر ميل بأشجارها وأبنيتها وأهلها ليلاً ولم يشعروا بذلك، وكانت
الزلزلة بقبرص، فخرب منها أماكن كثيرة، وكانت بالجبال والمناهل، وشوهد
ثلج على رأس الجبل الأقرع، وقد نزل البحر وطلع وبينه وبين البحر عشرة
فراسخ؛ وذكر أهل البحر أن المراكب في البحر الملح وصلت إلى الأرض لما
انحسر البحر، ثم عاد الماء كما كان ولم يتضرر أحد.
وفيها ألزم القضاة أن يخففوا من نوابهم فاستقر للشافعي أربعة وللحنفي
ثلاثة وللمالكي كذلك وللحنبلي اثنان، فدام ذلك قليلاً ثم بطل.
وفيها تجهز الناصر إلى دمشق فأمر قبل خروجه بقتل من بالإسكندرية وغيرها
من المسجونين؛ فقتل بيبرس ابن أخت الظاهر وبيغوت وسودون المارداني في
آخرين، وفي أواخر السنة قتل فخر الدين ابن غراب غيلة وكان في سجن جمال
الدين الأستادار وكان يسمى ماجداً فسمي في أيام وزارته وعظمة أخيه
محمّداً، وكان سيئ السيرة جداً، وكان يلثغ لثغة قبيحة، يجعل الجيم
زاياً والشين المعجمة مهملة، وأخرج من السجن بيت الشهاب ابن الطبلاوي
ميتاً، وقتل في السجن أيضاً ناصر الدين محمّد بن كلفت الذي ولى إمرة
الإسكندرية وشد الدواوين وولاية القاهرة مرات، وفي رمضان نودي بالقاهرة
أن لا يتعامل أحد بالذهب البتة ومنع من بيع الذهب المصبوغ والمطرز،
وكتب جمال الدين على أهل الأسواق قسامات بذلك ولقي الناس من ذلك تعباً،
ثم سعى جمال الدين في ذلك إلى أن بطل ونودي أن يكون المثقال بمائة
فأخفاه أكثر الناس ولم يظهر بيد أحد من الناس فوقف الحال ثم نودي أن
يكون بمائة وعشرين بعد أن كان بلغ مائة وسبعين.
(2/401)
وفي ذي القعدة بعد امتناع شيخ من إرسال
الأمراء المطلوبين إلى السلطان راسل نوروز في الصلح وراسل سودون الجلب
بالكرك يستميله، وكان دمرداش اهتم بحرب نوروز وجمع عليه الطوائف،
فانكسر نوروز عن عينتاب واستولى دمرداش ورجع إلى حلب.
وفيها نازل شيخ نائب طرابلس تمربغا المشطوب بحلب، فانحصر تمربغا
بالقلعة وتوجه شيخ لجهة أنطاكية، ثم بلغه أن نوروز توجه إلى حلب فرجع
من أنطاكية إلى جهة دمشق، فكانت الوقعة بالقرب من ... وفي يوم الجمعة
ثاني عشري ربيع الآخر اتفق أهل التنجيم على أن الشمس تكسف قريب الزوال
ويتغطى منها نحو نصف الجرم، فاتفق أن كانت ذلك اليوم بدمشق مغيمة
والمطر نازلاً فلم يظهر صحة ما قالوه بمصر، فاتفق أن خطيب الجامع
الأموي شهاب الدين ابن الباعوني بعد صلاة الجمعة جمع الناس وصلى بهم
صلاة الكسوف؛ فأنكر الناس عليه ذلك لأنه اعتمد قول المنجمين، وعلى
تقدير صحة قولهم فكانت الشمس قد انجلت، ثم إنه كبر في أول ركعة ثلاث
تكبيرات سهواً، وأعجب من ذلك أن السماء كانت بالقاهرة في ذلك اليوم
صاحية ولم يظهر أثر كسوف البتة.
وفيها في رجب مات باش باي رأس نوبة فقرر مكانه في وظيفته أينال الساقي
وفي هذه السنة قدم الحاج في ثاني عشر المحرم وأميرهم بيسق وكان قد قبض
بمكة على قرقماس أمير الركب الشامي، فتخوف أن يبلغ خبره أهل الشام
فيبعث إليه من يستنقذه منه بين أيلة ومصر، فبادر وترك زيارة المدينة
وأعنف الناس في السير حتى هلك جمع كثير من الناس.
(2/402)
وفيها فوض الناصر إلى حسن بن عجلان سلطنة
الحجاز، فاتفق موت ثابت بن نعير وقرر حسن مكانه أخاه عجلان بن نعير،
فثار عليهم جماز بن هبة الدي وكان أمير المدينة وأرسل إلى الخدام
بالمدينة يستدعيهم فامتنعوا، فدخل المسجد النبوي وأخذ ستارتي باب
الحجرة وطلب من الخدام تسعة آلاف درهم على أن لا يتعرض للحاصل
فامتنعوا، فضرب كبيرهم وكسر القفل وأخذ عشر حوايج خاناة وصندوقين
كبيرين وصندوقاً صغيراً بما في ذلك من المال وخمسة آلاف شقة بطائق
وصادر بعض الخدام ونزح عنها، فدخل عجلان بن نعير ومعه آل منصور فنودي
بالأمان، ثم قدم عقبه أحمد بن حسن بن عجلان ومعه عسكر وصحبتهم أبو حامد
بن المطري متولياً قضاء المدينة عوضاً عن الشيخ أبي بكر بن حسين وباشر
في ذلك في أثناء السنة فلم تطل مدته ومات في آخرها؛ وفيها جهز الدينار
الناصري على زنة الأفلوري وتعامل به الناس.
وفي شعبان صرف ابن حجي عن القضاء وأعيد ابن الإخنائي.
وفي شوال قبض على الإخنائي ونقم عليه مكاتبة نوروز فبرطل بثلاثمائة ثوب
بعلبكي فأطلق، ثم قدم توقيع ابن حجي فعاد إلى القضاء وصرف الإخنائي
وصرف الباعوني عن خطابة دمشق، وقرر فيها القاضي ناصر الدين البارزي.
وفي التسع منه قدم يشبك الموساوي دمشق فتلقاه شيخ وأكرمه وتوجه من عنده
إلى حلب، ثم رجع في أواخر رمضان فأكرمه شيخ وأعاده إلى القاهرة، وفي
نصف شعبان قرئ كتاب الناصر بدمشق بإلزام الناس بعمارة ما خرب من
المدارس بدمشق، وفيه استقر ناظر الجيش بدمشق ناظراً على القدس والخليل
وناظر أوقافهما، وفيه قرر شيخ الطنبغا القرمشي حاجب الحجاب بدمشق عوضاً
عن برسباي بحكم تسحبه.
(2/403)
وفيه في العشر الأخير من رمضان خرج شيخ إلى
جامع دمشق فدخله حافياً متواضعاً وتصدق بصدقات كثيرة، وذلك في ليلة
الحادي والعشرين منه، وأصبح يطلب أرباب السجون، فأدى عنهم وأطلقهم.
وفيها غلب قرا يوسف على تبريز فملكها انتزاعاً من أيدي التمرية وكانت
بيده قبل ذلك.
وفيها حج بالناس من القاهرة أحمد بن الأمير جمال الدين الأستادار وغرم
جمال الدين على حجة ولده هذه أربعين ألف دينار وزيادة، وفي ذي القعدة
هبت رياح شديدة عاصفة بالقاهرة، وانسلخت هذه السنة والناصر على العزم
على العود إلى دمشق لمحاربة شيخ وأعدائه منها.
وفيها نازل قرا يلك عثمان بن قطلوبك التركماني صاحب آمد ماردين وبها
الصالح أحمد بن إسكندر بن الصالح الأرتقي آخر ملوك بني أرتق فاستنجد
بقرا يوسف فأنجده ثم طلب منه أن يقايضه بالموصل عوضاً عن ماردين
فتراضيا على ذلك وأعطاه عشرة آلاف دينار وألف فرس وعشرة آلاف شاة وزوجه
بابنته فتحول إلى الموصل واستولى نواب قرا يوسف على ماردين وزالت منها
دولة الأرتقية بعد أكثر من ثلاثمائة سنة وانتهت بذلك دولة بني أرتق من
ماردين، ثم لم يلبث الصالح بالموصل سوى ثلاثة أيام ومات فجأة هو وزوجته
جميعاً، فيقال إنه دس عليهم سم، وتحول أولاده محمّد وأحمد وعلي ومحمود
إلى سنجار، فأقاموا بها إلى أن ماتوا سنة 14 بالطاعون.
(2/404)
ذكر من مات
في سنة إحدى عشرة وثمانمائة من الأعيان
مات فيها من الأمراء أرسطاي نائب الإسكندرية وكان من كبار الأمراء
الموجودين، باشر في دولة الملك الظاهر رأس نوبة كبيراً وكانت له حرمة
عند المماليك، وولي الحجوبية الكبرى في دولة الناصر ومات بالإسكندرية
في العشر الأوسط من ربيع الآخر وبشباي - بفتح الموحدة وسكون المعجمة
بعدها موحدة أخرى خفيفة - تنقل في سلطنة الناصر حتى استقر رأس نوبة
كبيراً، فمات في جمادى الآخرة بالقاهرة، وأينال الأجرود ذبح مع من أمر
الناصر بذبحهم من الأمراء وكذلك أرنبغا وبيبرس ابن أخت الظاهر وسودون
المارديني وبيغوت وثابت بن نعير بن منصور بن جماز بن شيحة الحسيني أمير
المدينة، وليها سنة تسع وثمانين وعزل عنها بجماز، ثم وليها بعد عزل
جماز، ومات في هذه السنة.
(2/405)
إبراهيم بن علي الباريني الشاهد أمام مسجد
الجوزة، سمع من ابن أميلة الجزء الأول من مشيخة الفخر، وكان أحد العدول
بدمشق، مات في ذي الحجة وقد جاوز الخمسين.
أحمد بن عبد الله بن الحسن بن طوغان بن عبد الله الأوحدي شهاب الدين
المقرئ الأديب، ولد في المحرم سنة إحدى وستين وقرأ بالسبع على التقي
البغدادي، ولازم الشيخ فخر الدين البلبيسي، وسمع على ناصر الدين
الطبردار وجويرية وابن الشيخة وغيرهم، وسمع معي من بعض مشايخي، وكان
جده الحسن بن طوغان قدم من بلاد الشرق سنة عشر وسبعمائة فاتصل بصحبة
بيبرس الأوحدي نائب القلعة وناب عنه بها فشهر بذلك، وكان شهاب الدين
هذا لهجاً بالتاريخ وكتب مسودة كبيرة لخطط مصر والقاهرة، بيض بعضه
وأفاد فيه فأجاد، وله نظم كثير أنشدنا منه، فمنه:
إني إذا ما نابني ... أمر نفى تلذذي
واشتد منه جزعي ... وجهت وجهي للذي
مات في تاسع عشري جمادى الأولى.
أحمد بن علي بن إسماعيل بن إبراهيم بن موسى البلبيسي الأصل المقرئ
المالكي
(2/406)
المعروف بابن الظريف تاج الدين، سمع من
ناصر الدين التونسي وغيره، وطلب العلم فأتقن الشروط ومهر في الفرائض،
وانتهى إليه التمهر في فنه مع حظ كبير من الأدب ومعرفة بحل المترجم وفك
الألغاز مع الذكاء البالغ، وقد وقّع للحكام وناب في الحكم، وكان يودني
كثيراً وكتب عني من نظمي، وقد نقم عليه بعض شهاداته وحكمه ثم نزل عن
وظائفه بأخرة وتوجه إلى مكة، فمات بها في شهر رجب، وقد نسخ بخطه تاريخ
الصفدي الكبير وتذكرته بطولها، ورأيت بخطه في سنة مجاورته شرح عروض ابن
الحاجب وغير ذلك.
أحمد بن محمّد بن ناصر بن علي الكناني المكي ولد قبل الخمسين ورحل إلى
الشام، فسمع من ابن قوالبح وابن أميلة بدمشق ومن بعض أصحاب ابن مزيز
بحماة، وتفقه حنبلياً وكان خيراً فاضلاً، جاور بمكة فحصل له مرض أقعده
فعجز عن المشي حتى مات سنة 811.
أحمد بن محمّد التلعفري ثم الدمشقي شهاب الدين كاتب المنسوب، مات بدمشق
كهلاً، ويقال كان أستاذاً في ضرب القانون، حسن المحاضرة.
أحمد بن محمّد اليغموري شهاب الدين ولي الحجوبية وشد الدواوين بدمشق
وكان مشهوراً بمعرفة المباشرة، رأيته عند جمال الدين الأستادار وكان
يظهر محبة العلماء ويعجبه مباحثهم ويفهم جيداً، مات في جمادى الأولى.
(2/407)
أبو بكر بن محمّد بن أحمد بن عبد العزيز
الدمشقي البعلوي الأصل تقي الدين ابن شيخ الربوة، اشتغل في الفقه ومهر
في مذهب أبي حنيفة ودرس بالمقدمية وأفتى، وكان قد اشتغل على الشيخ صدر
الدين ابن منصور وغيره مات في ربيع الأول عن ستين سنة ويقال إنه تغير
حاله في الحكم والفتوى بعد فتنة اللنك.
أبو بكر بن محمّد بن صالح الجبلي - بكسر الجيم بعدها موحدة ساكنة - ابن
الخياط الشافعي اليمني تفقه بجماعة من أئمة بلده ومهر في الفقه ودرس
بالأشرفية وغيرها من مدارس تعز وتخرج به جماعة وكان يقرر من الرافعي
وغيره بلفظ الأصل وكان مشاركاً في غير الفقه وله أجوبة كثيرة عن مسائل
شتى وولي القضاء مكرهاً مدة يسيرة ثم استعفى، مات في شهر رمضان رأيته
بتعز.
أبو بكر بن محمّد السجزي أحد النبهاء من الشافعية مات في جمادى الآخرة
الجنيد بن أحمد ... البلباني الأصل نزيل شيراز سمع من أبيه بمكة من ابن
عبد المعطي والشهاب ابن ظهيرة وأبي الفضل النويري وجماعة، وبالمدينة
وبلاده وأجاز له القاضي عز الدين ابن جماعة ومن دمشق عمر بن أميلة وحسن
ابن هبل والصلاح ابن أبي عمر في آخرين خرج له عنهم الشيخ شمس الدين
الجزري مشيخة وحدث بها ومات في هذه السنة بعد أن صار عالم شيراز
ومحدثها وفاضلها أفادنا
(2/408)
عنه ولده الشيخ نور الدين محمّد لما قدم
رسولاً عن ملك الشرق بكسوة الكعبة في سنة ثمان وأربعين.
سليمان بن عبد الناصر بن إبراهيم الأبشيطي الشافعي الشيخ صدر الدين ولد
قبل الثلاثين واشتغل قديماً وبرع في الفقه وغيره وكتب الخط الحسن وجمع
ودرس وأفاد وأفتى وسمع من الميدومي وغيره وناب في الحكم بالقاهرة
وغيرها وكانت فيه سلامة وكان صدر الدين المناوي يعظمه وعجز بأخرة
وانهرم وتغير قليلاً مع استحضاره للعلم جيداً جاوز الثمانين.
شعيب بن عبد الله أحد من كان يعتقد بالقاهرة من المجذوبين كان يسكن
حارة الروم، مات في رجب.
ضياء الدين ضياء بن عماد الدين التبريزي، كان ديناً فاضلاً محباً في
الحديث، كثير النفور عن الاشتغال بالعقليات ملازماً لقراءة الحديث
وسماعه وإسماعه مع نزول إسناده ملازماً للخير، مات في هذه السنة،
أخبرني بذلك الشيخ عبد الرحمن التبريزي صاحبنا، وهو ترجمه لي.
عبد الرحمن بن يوسف ابن الكفري الحنفي تقدم في سنة تسع وثمانمائة.
علي بن أحمد بن عماد الدمياطي العلاف المعروف بابن العطار كان يجيد نظم
المواليا ويحفظ منها شيئاً كثيراً، كتب عنه الشيخ تقي الدين المقريزي
وقال لقيته شيخاً مسناً.
قلت لكل المنى عقد الجفا حلى ... وسكر الوصل في دست الوفا حلى
قالت جمالي بأنواع البها حلى ... والغير قد حاز حسني وأنت في حلى
(2/409)
علي بن موسى بن أبي بكر بن محمّد الشيبي من
بني شيبة حجبة الكعبة وكان محمّد والد جده دخل اليمن فوصل إلى حرض فخرج
إلى الحارث ساحل مور وهو واد عظيم به عدة قرى منها الحسانية قرية أبي
حسان بن محمّد الأشعري وكان ممن يعتقد فاتفق أن طائفتين من قومه وقعت
بينهم فتنة فقتل بينهم قتيل فاستوهب دمه فقالوا له بشرط أن تسكن معنا
فأسس لهم مكان قرية فسكنوه وهو معهم فنسب إليه وكانت له أخت فزوجها
بمحمد والد أبي بكر لأنه تفرس فيه الخير فأقام عندهم فلما حملت توجه
لمكة وعهد لامرأته إن ولدت ذكراً أن تسميه أبا بكر ففعلت فمات الشيخ
أبو حسان فخلفه في زاويته ولد أخيه أبو بكر المذكور وكان لأبي حسان
اتساع من الدنيا وكانت النذور تصل إليه من عدة بلاد فظهرت لأبي بكر
كرامات وخلفه في زاويته ولده علي كان كثير العبادة والتجريد ويقال إنه
قعد مدة لا يأكل في الأسبوع غير مرة ولم يتعلق بشيء من أمور الدنيا
وخلفه في مكانه ولده إسحاق بن علي وكان على طريقته إلى أن مات، فخلفه
أخوه موسى وكان عابداً صاحب مكاشفات وكرامات وكان ذكياً مذاكراً، فلما
مات قدم ولده موسى ابن علي بن أبي بكر، فاشتهر بالصلاح والذكاء والسخاء
وحسن الخلق وكثرة الخير وطول الصمت، وكان يدمن على سماع الحديث
والتفسير على الفقيه أحمد العلقي، وكان نزل فيهم وتزوج الفقيه علي بن
موسى أخته، وكان الشيخ علي يذاكر بكثير من الحديث والتاريخ والسيرة مع
المحافظة على الوضوء وصلاة الجماعة، وكان موسعاً عليه في الدنيا ويلبس
أحسن الثياب، وله ولد اسمه عبد الله نصب بعده بالزاوية، وكان كثير
التلاوة، ومات في سنة إحدى وثلاثين وثمانمائة، وسيأتي ذكر قريبه محمّد
بن أحمد بن حسين بن أبي بكر الشيبي فيمن مات
(2/410)
سنة تسع وثلاثين وثمانمائة، نقلت ذلك من
ذيل تاريخ اليمن للجندي بذيل الشيخ حسين بن الأهدل.
عمر بن إبراهيم بن محمّد بن عمر بن عبد العزيز بن محمّد بن أحمد بن هبة
الله بن أحمد بن هبة الله بن أحمد بن يحيى بن زهير بن هارون بن موسى بن
عيسى بن عبد الله بن أبي جرادة محمّد بن عامر العقيلي القاضي كمال
الدين أبو القاسم الحلبي ثم المصري المعروف بابن العديم، ولد سنة أربع
وخمسين واشتغل ببلده، وناب في الحكم ثم استقل به في سنة أربع وتسعين
عوضاً عن ابن الجاولي، فباشره بحرمة وافرة وحصل أملاكاً وثروة كبيرة،
وكان وجيهاً عند الكبار وله حرمة وافرة، وأصيب في اللنكية ثم دخل
القاهرة في آخر السنة، وقدم القاهرة غير مرة وفي الآخر استوطنها لما
طرق الططر البلاد الشامية، فأسر مع من أسر ثم تخلص بعد رجوع اللنك فقدم
القاهرة في شوال، وحضر مجلس القاضي أمين الدين الطرابلسي قاضي الحنفية،
ثم سعى وولي القضاء بها في سادس عشري شهر رجب سنة خمس وثمانمائة، ثم
درس بالشيخونية انتزعها من الشيخ زاده بحكم اختلال عقله لمرض أصابه،
وكان له ولد نجيب غاية في الذكاء حسن الخلة قد ناب عن والده مدة فما
قدر على مقاومته، وعاشر الأمراء وأهل الدولة وكبر جاهه وعظم ماله وكان
لا يتحاشى من جمع المال من أي وجه كان، وقد سمع من ابن حبيب وأبيه،
وكان من رجال الدنيا دهاءً ومكراً ماهراً في الحكم ذكياً خبيراً بالسعي
في أموره يقظاً غير متوان في حاجته كثير العصبية لمن يقصده مات قبل رجب
بنحو عشرين يوماً بعد أن نزل لولده محمّد وهو شاب عن تدريس الشيخونية
وقبلها المنصورية وباشرهما في حياته، وأوصاه أن لا يفتر عن السعي في
القضاء فامتثل أمره واستقر بعده، وكان الكمال كثير المروءة متواضعاً
بشوشاً كثير الجرأة والإقدام والمبادرة في القيام في حظ نفسه، محباً في
جمع المال بكل طريق عفا الله عنه.
(2/411)
قال القاضي علاء الدين في تاريخه: استقل
بالقضاء سنة أربع وتسعين وسبعمائة عوضاً عن جمال الدين ابن الحافظ
فباشره بحرمة وافرة وكان رئيساً له مروءة وعصبية عارفاً بأمور الدنيا
ومعاشرة الأكابر ومخالطة أهل الدولة.
عيسى بن موسى بن صبح الرمثاوي الشافعي أحد العدول بدمشق، مات في أول
عشر السبعين.
قاسم بن علي بن محمّد بن علي الفاسي أبو القاسم المالكي سمع من أبي
جعفر الطحاوي الخطيب والقاضي أبي القاسم ابن سلمون وأبي الحسين محمّد
بن أحمد التلمساني في آخرين يجمعهم برنامجه، وتلا بالسبع على جماعة،
وقرأ الأدب وتعانى النظم، جاوز بمكة فخرج له صاحبنا غرس الدين خليل
الأقفهسي مشيخة وحدث بها، وكان يذكر أنها سرقت منه بعد رجوعه من الحج
ويكثر التأسف عليها، لقيته بالقاهرة، وأنشدني لنفسه إجازة:
معاني عياض اطلعت فجر فخره ... لما قد شفي من مؤلم الجهل بالشفا
مغاني رياض من إفادة ذكره ... شذا زهرها يحيي من أشفى على شفا
مات بالمارستان المنصوري، وكان قد مدح جمال الدين الأستادار وأثابه.
محمّد بن إبراهيم بن بركة العبدلي شمس الدين المزين الشاعر المشهور
الدمشقي ولد سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة ومهر في نظم الشعر خصوصاً
المقاطيع من عدم معرفته بالعربية رأيته بدمشق وأنشدني كثيراً من
مقاطيعه المجيدة وكان يذكر انه أخذ عن ابن الوردي والصفدي وبينه وبين
الشيخ أبي بكر المنجم أهاجي وكان وصوله إلى
(2/412)
حلب في صفر ثم دخل دمشق واتفق أن التمرية
أسروه فاستصحبوه في سنة ثلاث وثمانمائة إلى سمرقند فأقام بها مدة ثم
خلص منهم وسافر في هذه السنة فقدم إلى دمشق فاستعاد وظائفه ولكن لم يعش
إلا يسيراً بعد أن قدم بدون شهر وكان يذكر أنه رأى النبي صلّى الله
عليه وسلّم في المنام فبشره أنه يتخلص من الأسر ويعود إلى دمشق فكان
كذلك وعمل مائة مليح عارض بها الصلاح الصفدي وابن الوردي وسماها شين
العرض بالملاح بعد الزين والصلاح، ومن شعره في مليح شافعي:
للشافعي عذار ... يقول قولاً زكيا
لا خير في شافعي ... إن لم يكن أشعريا
مات في جمادى الآخرة.
محمّد بن إبراهيم بن عبد الله الكردي الشيخ شمس الدين المقدسي نزيل
القاهرة ولد سنة سبع وأربعين وسبعمائة وصحب الصالحين ثم لازم الشيخ
محمّد القرمي ببيت المقدس وتلمذ له ثم قدم القاهرة فقطنها وكان لا يضع
جنبه بالأرض بل يصلي في الليل ويتلو، فإن نعس أغفى إغفاءة وهو محتب ثم
يعود، ومن شعره:
لم يزل الطامع في ذلة ... قد شبهت عندي بذل الكلاب
وليس يمتاز عليهم سوى ... بوجهه الكالح ثم الثياب
وكان يواصل الأسبوع كاملاً، وذكر أن السبب فيه أنه تعشى مع أبويه
قديماً فأصبح لا يشتهي أكلاً، فتمادى على ذلك ثلاثة أيام، فلما رأى أن
له قدرة على الطي تمادى
(2/413)
فيه فبلغ أربعاً، ثم انتهى إلى سبع، وكان
يعرف الفقه على المذهب الشافعي وكان يكثر من قوله في الليل:
قوموا إلى الدار من ليلى نحييها ... نعم ونسألها عن بعض أهليها
ويقول أيضاً: " سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا " وكان يذكر أنه
يقيم أربعة أيام لا يحتاج إلى تجديد وضوء مات بمكة في ذي القعدة.
محمّد بن أحمد بن عبد الله القزويني ثم المصري الشيخ شمس الدين سمع من
مظفر الدين ابن العطار وغيره وكان على طريقة الشيخ يوسف الكوراني
المعروف بالعجمي لكنه حسن المعتقد كثير الإنكار على مبتدعة الصوفية
اجتمعت به مراراً وسمعت منه بخليص أحاديث وكان كثير الحج والمجاورة
بالحرمين، مات في شعبان بمكة.
محمّد بن حسين بن الأمين محمّد بن القطب محمّد بن أحمد بن علي
القسطلاني أبو الحسن زين الدين المكي سمع من عثمان بن الصفي وغيره ومات
في ربيع الآخر عن نحو سبعين سنة فإن مولده سنة 43.
محمّد بن عبد الرحمن بن محمّد بن أحمد بن خلف الخزرجي المدني، أبو حامد
رضي الدين ابن تقي الدين ابن المطري، ولد سنة ست وأربعين وسبعمائة،
وسمع من العز ابن جماعة وأجاز له يوسف الدلاصي، والميدومي، وغيرهما من
مصر، وابن الخباز، وجماعة من دمشق. وكان نبيهاً في الفقه وله حظ من حسن
خط ونظم ودين، وكان مؤذن الحرم النبوي وبيده نظر مكة، ثم نازع صهره
شيخنا زين الدين ابن الحسين في قضاء المدينة، فوليه في سنة إحدى عشرة،
فوصلت إليه الولاية وهو بالطائف فرجع إلى مكة، وسار إلى المدينة فباشره
بقية السنة، وحج فمرض، فمات عقب الحج في سادس عشر ذي الحجة عن إحدى
وستين سنة.
(2/414)
محمّد بن علي بن محمّد بن محمود بن يحيى بن
علي بن عبد الله بن منصور السلمي شمس الدين الدمشقي المعروف بابن خطيب
زرع، كان جد والده خطيب زرع فاستمرت بأيديهم وولد هذا في ذي الحجة سنة
أربع وسبعين، وكان حنفياً فتحول شافعياً وناب في قضاء بلده، ثم تعلق
على فن الأدب ونظم الشعر، وباشر التوقيع عند الأمراء، ثم اتصل بابن
غراب ومدحه وقدم معه إلى القاهرة، وكان عريض الدعوى جداً واستخدمه ابن
غراب في ديوان الإنشاء، وصحب بعض الأمراء وحصل وظائف ثم رقت حاله بعد
موت ابن غراب إلى أن مات في ذي القعدة وهو القائل:
وأشقر في وجهه غرة ... كأنما في نورها فجر
بل زهرة الأفق لأني أرى ... من فوقها قد طلع البدر
وله فيما اقترح عليه فيما يقرأ مدحاً فإذا صحف كان هجواً:
التاج بالحق فوق الرأس يرفعه ... إذا كان فرداً حوى وصفا مجالسه
فضلاً وبذلاً وصنعاً فاخراً وسخا ... فاسأل الله يبقيه ويحرسه
مات في ذي القعدة.
محمّد بن محمّد بن عبد القادر بن محمّد بن عبد الرحمن بن يوسف البعلبكي
ثم الدمشقي المعروف بابن الفخر، كان خيراً في عدول دمشق، مات في شعبان.
(2/415)
محمّد بن محمّد بن علي بن منصور الحنفي بدر
الدين ابن قاضي القضاة صدر الدين، ولد سنة ست وخمسين تقريباً وولي قضاء
العسكر في حياة أبيه وتدريس الركنية، وخطب بجامع منكلى بغا، وكان قليل
البضاعة وكانت له دنيا ذهبت في الفتنة، مات في رمضان.
محمّد بن محمّد بن محمّد بن عبد الله بن محمّد بن فهد الهاشمي نجم
الدين، سمع من العز ابن جماعة وابن عبد المعطي وغيرهما وحدث، وأقام
بأصفور وصعيد مصر مدة، ثم رجع ومات بمكة في ربيع الأول وقد جاوز
الخمسين، وهو والد صاحبنا تقي الدين ومات أبوه كمال الدين في سنة
سبعين.
محمّد بن محمّد بن محمّد بن عبد البر بن يحيى بن علي بن تمام السبكي
جلال الدين ابن بدر الدين بن أبي البقاء الشافعي المصري، ولد قبل سنة
سبعين، واشتغل في صباه قليلاً، وكان جميل الصورة لكنه صار قبيح السيرة
كثير المجاهرة بما أزرى بأبيه في حياته وبعد موته بل لولا وجوده لما
ذمّ أبوه، وقد ولي تدريس الشافعي بعد أبيه بجاه ابن غراب بعد أن بذل في
ذلك داراً تساوي ألف دينار، وولي تدريس الشيخونية بعد صدر الدين
المناوي بعد أن بذل لنوروز مالاً جزيلاً وكان ناظرها، مات في جمادى
الأولى.
(2/416)
محمّد بن موسى بن محمّد بن محمود بدر الدين
ابن شرف الدين ابن شمس الدين بن الشهاب الحلبي الأصل ثم الدمشقي، ولد
سنة سبعين تقريباً، وولي وكالة بيت المال ثم كتابة السر بدمشق يسيراً
ثم نظر الجيش، وكان كثير التخليط والهجوم على المعضلات مع كرم النفس
ورقّة الدين، مات في صفر خنقاً بأمر جمال الدين الأستادار.
يلبغا بن عبد الله السالمي الظاهري، كان من مماليك الظاهر، ثم تمهر
وصيره خاصكيّاً. وكان ممن قام له بعد القبض عليه في أخذ صفد فحمد له
ذلك، ثم ولاّه النظر على خانقاه سعيد السعداء سنة سبع وتسعين ووعده
بالإمرة ولم يعجلها له، فلما كان في صفر سنة ثمانمائة أعطاه إمرة عشرة
وقرره في نظر الشيخونية في شعبان، وكان يترقب أن يعمل نيابة السلطنة
فلم يتم ذلك، ثم جعله الظاهر أحد الأوصياء فقام بتحليف مماليك السلطان
لولده الناصر وتنقلت به الأحوال بعد ذلك فعمل الأستادارية الكبرى
والإشارة وغير ذلك على ما تقدم ذكره مفصلاً في الحوادث، ثم في الآخر
ثار الشر بينه وبين جمال الدين فعمل عليه حتى سجنه بالإسكندرية، وكان
طول عمره يلازم الاشتغال بالعلم ولم يفتح عليه بشيء منه سوى أنه يصوم
يوماً بعد يوم ويكثر التلاوة وقيام الليل والذكر والصدقة، وكان لجوجاً
مصمماً على الأمر الذي يريده ولو كان فيه هلاكه ويستبد برأيه غالباً،
وكان سريع الانفعال مع ذلك وكان يحب العلماء والفضلاء ويجمعهم، وقد
لازم سماع الحديث معنا مدة وكتب بخطه الطباق، وأقدم علاء الدين ابن أبي
المجد من دمشق حتى سمع الناس عليه صحيح البخاري مراراً، وكان يبالغ في
حب ابن عربي وغيره من أهل طريقته ولا يؤذي من ينكر عليه، مات مخنوقاً
وهو صائم في رمضان بعد صلاة عصر يوم الجمعة، وما عاش جمال الدين بعده
إلا دون عشرة أشهر، ومن محاسنه في مباشراته أنه قرر ما يؤخذ في ديوان
المرتجع على كل مقدم خمسين ألفاً وعلى الطبلخانات عشرين ألفاً وعلى
أمراء العشرات خمسة آلاف فاستمرت إلى آخر وقت، وكان المباشرون في
دواوين الأمراء قبل هذا إذا قبض على الأمير أو مات يلقون شدة من جور
المتحدث على المرتجع، فلما تقرر هذا كتب به ألواحاً ونقشها على باب
القصر وهي موجودة إلى الآن
(2/417)
وهو الذي رد سعر الفلوس إلى الوزن وكانت قد
فحشت جداً بالقدم حتى صار وزن الفلس خروبتين وكان يذكر أنه من أهل
سمرقند وأن أبويه سمياه يوسف وانه سبي فجلب إلى مصر مع تاجر اسمه سالم
فنسب إليه واشتراه برقوق وصيره من الخاصكية، وأول ما نبه ذكره ولاية
خانقاه سعيد السعداء كما تقدم وذلك في جمادى الأولى سنة سبع وتسعين،
وكان يحب الاجتماع بالعلماء، ثم ولي إمرة عشرة في تاسع شعبان سنة إحدى
وثمانمائة ونظر خانقاه شيخو فباشره بعنف، ثم صار أحد الأوصياء لبرقوق
وهو الذي قام بتحليف الأمراء للناصر فأول ما نسب إليه من الجور أنه
أنفق في المماليك نفقة البيعة على أن الدينار بأربعة وعشرين ثم نودي
عند فراغ النفقة أن الدينار بثلاثين فحصل الضرر التام بذلك، ثم استقر
في الأستادارية في ثالث عشر ذي القعدة سنة..... فسار سيرة حسنة عفيفة
وأبطل مظالم كثيرة، منها تعريف منية بني خصيب وضمان العرصة وأحصاص
الغسالين، وأبطل وفر الشون وكسر ما بمنية الشيرج وناحية شبرى من جرار
الخمر شيئاً كثيراً وتشادد في النظر في الأحكام الشرعية وخاشن الأمراء
وعارضهم فأبغضوه، وقام في سنة ثلاث وثمانمائة فجمع الأموال لمحاربة
تمرلنك، زعم فشنعت عليه القالة كما تقدم وقبض عليه في رجب منها، وتسلمه
ابن غراب وعمل أستاداراً وأهانه وعوقب وعصر ونفي إلى دمياط ثم أحضر في
سنة خمس وثمانمائة وقرر في الوزارة والإشارة فباشرهما على طريقته في
العسف فقبض عليه وعوقب أيضاً وسجن، ثم أفرج عنه في رمضان سنة سبع وعمل
مشيراً فجرى على عادته ثم قبض عليه وسلم لجمال الدين الأستادار فعاقبه
ونفاه إلى الإسكندرية فرجمته العامة وهو يسير في النيل فلم يزل بالسجن
إلى أن بذل فيه جمال الدين للناصر مالاً جزيلاً فأذن في قتله فقتل،
وكانت له مروءة وهمة عالية.
(2/418)
سنة اثنتي عشرة
وثمانمائة
استهلت والناصر مصمم على قصد دمشق للقبض على نائبها شيخ لكونه امتنع من
إرسال الأمراء الذين طلبهم منه، وقبض على رسوله لذلك وهو كمشبغا
الجمالي، وكان جمال الدين الأستادار قد جهز ولده أميراً على الحاج
فتكاسل بالتجهيز ليحضر ولده قبل رحيلهم، والناصر يستحثه وهو يسوف إلى
أن تحقق مكره فصمم عليه، فخرج في السابع من المحرم تغرى بردى مقدم
العسكر ومعه من المقدمين أقباي وطوغان وعلان وإينال المنقار وكمشبغا
المزوق ويشبك الموساوي وغيرهم من الطبلخانات والمماليك ونزلوا
بالريدانية، وسعى ابن العديم في قضاء الحنفية فأعيد إليها وصرف ابن
الطرابلسي وكان قد قبض نفقة السفر فلم يستعدها منه جمال الدين بل أضاف
إليها مشيخة الشيخونية انتزعها من ابن العديم، وركب الناصر من القلعة
في الحادي عشر منه فرحل تغرى بردى ومن معه في ذلك اليوم وقرر الناصر
أرغون الرومي في نيابة الغيبة بالاصطبل ويلبغا الناصري لفصل الحكومات
بالقاهرة، وقرر أحمد ابن أخت جمال الدين نائب غيبة عن خاله في
الأستادارية وكزل الحاجب الكبير على عادته.
(2/420)
وفي أوائل المحرم برز شيخ إلى المرج فأقام
بها ثم أرسل إلى القضاة في حادي عشره وأرادهم على أن تقطع الأوقاف،
فتنازعوا في ذلك إلى أن صالحوه بثلث متحصل تلك السنة، وأرسل إلى قلعة
صرخد فحصن بها أهله وما يعز عليه وملأها بالأقوات والسلاح، واستفتى
العلماء في جواز مقاتلة الناصر، فيقال إن ابن الحسباني أفتاه بالجواز،
فنقم عليه الناصر بعد ذلك لما دخل دمشق وسجن، وكان ممن قام في ذلك
أيضاً شمس الدين محمّد التباني وكان قد رحل من مصر إلى شيخ بدمشق
فأكرمه وبلغ ذلك الناصر فأهانه فيما بعد، ثم أطلق شيخ المسجونين من
الأمراء بدمشق وأرسل سودون المحمدي إلى غزة وشاهين دواداره إلى الرملة
وقبض على يحيى بن لاقي، وكان يباشر مستأجرات الناصر وعلى ابن عبادة
الحنبلي وصادره على مال كثير واستناب بدمشق تنكز بغا ونزل بالمرج إلى
جهة زرع ووصل الناصر إلى غزة في ثالث عشري المحرم، ففر المحمدي ونزل
تغرى بردى الرملة في حادي عشريه ففر منه شاهين ووصل هو والمحمدي إلى
شيخ فتحول إلى داريا، فقدم عليه قرقماش ابن أخي دمرداش فاراً من صفد
وكان الناصر استناب فيها الطنبغا العثماني فقدم بها ففر منه قرقماش ثم
قدم نائب حماة جانم في أواخر المحرم فرحلوا جميعاً نحو صرخد، واستصحب
جماعة من التجار الشاميين وألزمهم بعشرة آلاف دينار فوصل ثاني يوم
رحيله كتاب الناصر إلى من بدمشق بإنكار أفعال شيخ ويحث عليهم في
محاربته لمخالفة أمر السلطان.
وفي أول صفر نم أقبغا دويدار يشبك على جماعة من الأمراء مثل علان
وإينال المنقار وسودون بقجة وغيرهم من الظاهرية أنهم يريدون الركوب على
الناصر لتقديمه مماليكه عليهم وكان جمال الدين الأستادار وافقهم على
ذلك ولم يعلم أقبغا بذلك فماج العسكر ليلة الأحد ثانيه، واضطرب الناس
وكثر قلق الناصر وخوفه إلى أن طلع الفجر، وكان نادى في العسكر بالتوجه
إلى جهة صرخد لقتال شيخ فأصبح سائراً إلى جهة دمشق، وكان استشار
(2/421)
كاتب السر والأستادار فيما يفعل فاتفقوا
على أنه يقبض على علان وإينال وسودون بقجة المغرب ويركب الأستادار إلى
ظاهر العسكر ليقبض على من يفر من المماليك إلى جهة شيخ، فلما تفرقوا
راسل الأستادار المذكورين بما هم به السلطان فهربوا، ومنهم تمراز وقرا
يشبك وسودون الحمصي وآخرون، فنزل الناصر الكسوة في سادس صفر ودخل دمشق
في سابعه وطلب ابن الحسباني فاعتقل وابن التباني فهرب، وأطلق الناصر
المسجونين بالصبيبة، وقرر بردبك في نيابة حماة عوضاً عن جانم ونوروز في
نيابة حلب، ثم عزل وقرر دمرداش على حاله وبكتمر جلق في نيابة الشام.
وفي نصف صفر أو بعده قدم بكتمر جلق نائب طرابلس ودمرداش نائب حلب إلى
الناصر.
وفي السادس عشر منه وجه الناصر إلى قرى المرج والغوطة وبلاد حوران
وغيرها بطلب الشعير للعليق وقرر على كل ناحية قدراً معيناً فعظم الخطب
على الناس في جبايته.
وفي العشرين من صفر ظفر جمال الدين بناصر الدين ابن البارزي وكان قد
اتصل بخدمة الشيخ فولاه خطابة الجامع الأموي وصرف الباعوني، فشكاه
الباعوني لجمال الدين فأحضره بين يديه وضربه ضرباً شديداً واستعاد منه
معلوم الخطابة وأمر باعتقاله، وكان السبب في ذلك أن جمال الدين انتزع
خطابة القدس من الباعوني لأخيه شمس الدين البيري فترامى عليه الباعوني
فعوضه بخطابة دمشق فتعصب جمال الدين يومئذٍ للباعوني لهذا السبب.
وفي ثاني عشري صفر أمر جمال الدين بقتل شرف الدين محمّد بن موسى بن
محمّد بن الشهاب محمود، وكان قد عمل كتابة السر بحلب فحقد عليه جمال
الدين أشياء أضمرها في نفسه منه لما كان خاملاً بحلب.
(2/422)
وفيه استعفى نجم الدين ابن حجي من قضاء
دمشق، فولاه الناصر الباعوني وقرر ابن حجي في قضاء طرابلس، وصرف ابن
القطب من قضاء الحنفية وقرر شهاب الدين ابن الكشك.
وفي آخر صفر ركب الخليفة والقضاة بأمر الناصر ونادى في الناس بدمشق
يحضهم على مقاتلة شيخ في كلام طويل يقرأ من ورقة.
وفي الثاني من ربيع الأول برز الناصر إلى جهة صرخد ففر إليه من الشيخية
برسباي وسودون اليوسفي ووصل إلى قرية عيون تجاه صرخد.
وفي السابع من ربيع الأول وقعت الحرب فقتل من الفريقين ناس قليل وفر
جماعة من السلطانية إلى شيخ، فاشتد حذر الناصر من جميع من معه وتخيل
أنهم يخذلوه إذا التقى الجمعان، فبادر إلى القتال فانهزم تمراز وكان في
مقدمة شيخ وثبت شيخ ولم يزل يتقهقر إلى أن دخل جذلان مدينة صرخد وانتهب
السلطانية وطاقه وجميع ما كان لأصحابه من خيل وأثاث، وفر شيخ فدخل
القلعة ومعه ناس قليل فأصعد الناصر طائفة من مماليكه إلى أعلى منارة
الجامع ورموا عليهم بالنفط والحجارة والأسهم الخطابية، وانتهب مدينة
صرخد، وانهزم تمراز وسودون بقجة وسودون الجلب وسودون المحمدي وتمربغا
المشطوب في عدد كثير إلى جهة دمشق، وأرادوا أن يهجموها فمنعتهم العامة،
فرجعوا إلى جهة الكرك وتسلل كثير منهم فدخلوا دمشق، ووصل كتاب الناصر
عقبهم بأن من ظفر بأحد من المنهزمين وأحضره فله ألف دينار، فاشتد الطلب
عليهم.
وفي نصف ربيع الآخر قبض على الكليتاني والي دمشق وضرب ضرباً شديداً
وعلى علم الدين وصلاح الدين ولدي ابن الكويز لكونهما من جهة شيخ وكذلك
الصفدي فتسلمهم نوروز، وطلب الناصر المنجنيق من دمشق إلى صرخد فنصبه
على القلعة وكان شيئاً مهولاً وصل إليه على مائتي جمل، واستكثر من طلب
المدافع والمكاحل من الصبيبة وصفد ودمشق ونصبها حول القلعة، فاشتد
الخطب على شيخ ومن معه فتراموا على تغرى بردى
(2/423)
الأتابك وألقوا إليه ورقة في سهم من القلعة
يستشفعون به، فجاء إلى السلطان وشفع عنده وألح عليه إلى أن أذن له أن
يصعد إليهم ويقرر الصلح، فتوجه صحبته الخليفة وكاتب السر وجماعة من
ثقات السلطان وذلك في أواخر الشهر، فجلسوا كلهم على شفير الخندق وجلس
شيخ داخل باب القلعة ووقف أصحابه على رأسه، فطال الكلام بينهما إلى أن
استقر الأمر على أنه لا يستطيع أن يقابل السلطان حياء منه، فأعيد
الجواب عليه فأبى إلا أن ينزل إليه ويجتمع به، فلم يزل تغرى بردى به
إلى أن أجاب إلى الصلح فرجع هو وكاتب السر فسلم لهما كمشبغا الجمالي
وأسنبغا دلاهما بحبل ثم أرخى ولده وعمره سبع سنين ليرسله إلى الناصر
فصاح وبكى من شدة الخوف، فرحمه الحاضرون فرد إلى أبيه، واستبشر
الفريقان بالصلح وكان العسكر الناصري قد مل من الإقامة بصرخد لكثرة
الوباء بها وقلة الماء والزاد هذا مع كون الأهواء مختلفة، وأكثر
الناصرية لا يحبون أن يظفر الناصر بشيخ لئلا يتفرغ لهم فطلعوا في آخر
يوم من الشهر وحلفوا الأمراء وأفرج شيخ عن ابن لاقي وعن تجار دمشق،
وبعث للناصر تقدمة عظيمة ولبس تشريفه واستقر في نيابة طرابلس، وما فرغ
من ترتيب ذلك إلا وأكثر المماليك السلطانية من مصر قد ساروا إلى جهة
دمشق، فاضطر الناصر إلى الرحيل إلى دمشق فتوجه وجهز شيخ ولده الصغير في
أثر السلطان، فوصل مع تغرى بردى فأكرمه وأعاده إلى أبيه ورحل الناصر عن
دمشق في ربيع الآخر فوصل إلى غزة بعد أن زار بيت المقدس في سابع عشر
منه.
وأما شيخ فخرج من صرخد وانضم إليه جمع كثير من أصحابه وتوجه إلى ناحية
دمشق، وأرسل إلى بكتمر جلق نائب الشام يستأذنه في دخول دمشق ليقضي
أشغاله ويرحل إلى طرابلس، فمنعه حتى يستأذن السلطان، وكتب إليه بحيلة
من دخوله دمشق، فأجابه بمنعه من دخولها وإن قصد دخولها بغير إذن
يقاتلوه، فاتفق وصول شيخ إلى شقحب في عاشر جمادى الأولى فأوقع بكتمر
جلق ببعض أصحابه، فبلغه ذلك فركب بمن معه فلم يلبث بكتمر أن انهزم،
ونزل شيخ قبة يلبغا ثم دخل دمشق في حادي عشره، وهو اليوم الذي وصل فيه
الناصر إلى القلعة بمصر وتلقاه الناس، فأظهر بأنه لم يقصد القتال ولا
الخروج
(2/424)
عن الطاعة، وأنه لم يقصد إلا النزول في
الميدان خارج البلد ليتقاضى مهماته ويرحل إلى طرابلس وأن بكتمر هو الذي
بغى عليه، ثم استكتبهم في محضر بصحة ما قال وجهزه إلى السلطان صحبة
أمام الصخرة المقدسة فوصل في آخر جمادى الآخرة، فغضب السلطان وضرب
الإمام بالمقارع ووسط الجندي الذي كان رفيقه، واستمر بكتمر في هزيمته
إلى جهة صفد فأقام شيخ بدمشق وأعطى شمس الدين ابن التباني نظر الجامع
الأموي وشهاب الدين ابن الشهيد نظر الجيش بدمشق، ثم صرفه في جمادى
الآخرة، وقرر صدر الدين ابن الأدمي وقرر في خطابة الجامع شهاب الدين
الحسباني ثم أعاده ثم قسم الوظائف بينهما، واستقر الحسباني في قضاء
الشافعية، ثم توجه شيخ بعساكره إلى جهة صفد فطرقها شاهين الدويدار في
جماعة على حين غفلة، فاستعدوا لهم فرجعوا واستمر شيخ في طلب بكتمر إلى
غزة، وكان بكتمر قد سار متوجهاً إلى القاهرة، وصحبته بردبك نائب حماة
ونكباي حاجب دمشق والطنبغا العثماني نائب صفد ويشبك الموساوي نائب غزة
فتلقاهم السلطان، فلما يئس منهم شيخ رجع إلى دمشق بعد أن قرر في غزة
سودون المحمدي وبالرملة جاني بك، ثم أرسل الناصر يشبك الموساوي في جيش
إلى غزة فحارب سودون المحمدي فانكسر ونهب الذي له ولحق بجهة الكرك، ثم
جمع عسكراً ورجع إلى غزة فانكسر الموساوي ورجع إلى القاهرة، وقتل علان
نائب صفد، فأرسل شيخ إلى سودون المحمدي بنيابة صفد فوليها في نصف
شعبان.
وفي أواخر جمادى الأولى قدم نوروز وقد خلص من التركمان إلى حلب، فتلقاه
دمرداش وأكرمه وكاتب الناصر يعلمه به ويسأله أن يعيد نوروز إلى نيابة
الشام، ويشبك ابن أزدمر إلى طرابلس وتغرى بردى ابن أخي دمرداش إلى
حماة، فأعجب الناصر ذلك وأجاب سؤاله وجهز إليه مقبل الرومي ومعه
التقاليد بذلك، وصحبته خمسة عشر ألف دينار مدداً لنوروز، وتوجه في
البحر لخوفه من شيخ أن يسلك البر، وكان يشبك ابن أزدمر وتغرى
(2/425)
بردى قد توجها إلى حماة، ففر منهما جانم
الذي من جهة شيخ فغلبا عليها، ووصل مقبل إلى نوروز بحماة ومعه تقليده
بنيابة الشام فلبس الخلعة.
وفي سابع عشر جمادى الآخرة قبض سبان نائب قلعة صفد على الطنبغا
العثماني، فوصل علان من جهة شيخ فغلب على صفد فثار عليه أهل صفد لما
بلغهم خبر غزة، ففر إلى دمشق فدخلها وتوجه أبو شوشة صديق التركماني من
صفد بطائفة، فكبسوا من كان بها من جهة شيخ فهربوا إلى دمشق.
وفي رابع عشريه برز شيخ برزة بعساكره قاصداً حماة وقدم دمرداش إلى حماة
لنجدة نوروز ومعه عساكر حلب وطوائف من التركمان ومن العرب وشيخ يحاصر
حماة، فلما بلغه قدومهم ترك وطاقه وأثقاله، وتوجه إلى ناحية العربان،
فركب دمرداش فأخذ الوطاق واشتغل أصحابه بالنهب فرجع شيخ بأصحابه عليهم،
فاشتدت الحرب بينهم فقتل جماعة وأسر آخرون وكسرت أعلام دمرداش وأخذت
طبلخاناته، ونزل شيخ على بعيرن واستمر في حصار حماة.
وأما دمشق فإن سودون المحمدي بعد أن استماله نوروز بعث به إلى دمشق بعد
أن عاث في بلاد صفد وصادر أهل قراها وكان جقمق دوادار شيخ بدمشق، قد
وزع على القرى والبساتين مالاً لنفقة عسكر أستاذه، فزحف سودون المحمدي
إلى داريا في سابع رمضان، فقاتله الشيخية منهم الطنبغا القرمشي ومن
معه.
وفي أثناء ذلك قدم سودون بقجة وإينال المنقار مدداً للشيخية فتقنطر
المحمدي عن فرسه، فأركبوه وتفرق جمعه، ولحق بنوروز وقبض على نحو
الخمسين من أصحابه، وقد شاهين دوادار شيخ يستحث على استخراج المال،
وتأهب سودون بقجة للتوجه إلى صفد نيابة عن شيخ، وكتب شيخ إلى الناصر
كتاباً يخدعه فيه ويعلمه أن نوروز يريد الملك لنفسه، ولا يطيع أحداً
أبداً ويقول عن نفسه
(2/426)
إنه لا يريد إلا طاعة السلطان والانتماء
إليه، ويعتذر عما جرى منه ويصف نفسه بالعدل والرفق بالرعية، ويصف نوروز
بضد ذلك ونحو ذلك من الخداع، فلم يجبه الناصر عن كتابه.
وفي الثالث عشر من شوال وصلت عساكر شيخ إلى صفد فنازلوها وفيها شاهين
الزردكاش فجرت لهم حروب وخطوب إلى أن جرح شاهين في وجهه ويده وهرب وأسر
أسندمر كاشف الرملة فوصل إلى صفد يشبك الموساوي من القاهرة، وسودون
اليوسفي وبردبك من جهة نوروز، فقوي بهم أهل صفد، فرجع من الشيخية
قرقماش إلى دمشق، وأمده شيخ بنجدة كبيرة، وأخذ من دمشق آلات القتال،
ورجع إلى صفد، فاشتد الخطب واشتد القتال بين الفريقين، وكانت الدائرة
على الشيخية، وانهزم قرقماش وجرح وقتل عدة من أصحابه، وأسر أهل صفد
لكنهم بين قتيل وجريح، وقتل ابن مهنا الأكبر وعورت عين ابنه الآخر،
وأصيبت رجل ابنه الثالث وأبلى هو بلاء عظيماً، وكذلك محمّد بن هيازع،
وهؤلاء عربان تلك البلاد فخرجوا بعد الوقعة فعاثوا في البلاد وأفسدوا،
ورجع يشبك الموساوي إلى غزة، فكاتب الناصر بما اتفق، واشتد الخطب على
أهل دمشق بسبب ذلك، وجبيت منهم الخيول والأموال، وكل ذلك وشيخ بحمص
يحاصر نوروز ومن معه بحماة، فلما بلغه ذلك جهز عسكراً إلى أصحابه يمدهم
به، فمضوا إلى نيسان وكبسوا محمّد بن هيازع أمير عرب آل مهدي، وأخذوا
ما كان معه، وتوجهوا إلى صفد فحاصروا شاهين الزردكاش أيضاً.
(2/427)
وفيها طرق قرا يوسف بغداد فملك عراق العجم
وديار بكر ووصل إلى الموصل فملكها وسلطن ابنه محمّد شاه، وكتب بذلك إلى
شيخ وأعلمه أنه تفرغ من تلك الجهات، وأنه عزم على الحضور إلى الشام
نجدة للأمير شيخ لما بينهما من المودة والعهود، فاستشار شيخ أصحابه
فأشاروا عليه بأن يجيبه إلى ما طلب من الحضور إليه ليستظهر بهم على
أعدائه، فخوفه تمراز الناصري من عاقبة ذلك وأشار عليه بأن يكاتب الناصر
بحقيقة ذلك، وأنه يخشى من استطراق قرا يوسف في بلاد الشام أن يتطرق
منها إلى مصر فأخرجوا به.
وفي السادس من ذي الحجة توجه الدويدار إلى البقاع للاستعداد لبردبك لما
طرق الشام، فوصلت كشافة بردبك في التاسع عشر إلى عقبة بيحورا، ثم نزل
هو شقحب فتأهب من بالقلعة بدمشق، وخرج العسكر مع سودون بقجة والقرمشي،
فوقع القتال فانكسر جاليش سودون بقجة والقرمشي، وحمل هو على عسكر بردبك
فكسرهم، ثم انهزم بردبك على خان ابن ذي النون، فرجع إلى صفد، ونهب من
كان معه، واجتمع جميع الشيخية وتوجهوا قاصدين غزة.
وفي هذا الشهر اشتد الحصار على نوروز ودمرداش بحماة، فقتل بينهما أكثر
من كان معهما من التركمان، وانضم أكثر التركمان إلى شيخ ووصل إليه
العجل بن نعير نجدة له بمن معه من العرب في ثاني عشر ذي الحجة فخيم
بظاهر حماة، فوقع القتال بين الطائفتين واشتد الخطب على النوروزية،
فمالوا إلى الخداع والحيلة، ولم يكن لهم عادة بالقتال يوم الجمعة،
فبينما الشيخية مطمئنين إذ بالنوروزية قد هجموا عليهم وقت صلاة الجمعة،
فاقتتلوا إلى قبل العصر، فكانت الكسرة على النوروزية فرجعوا إلى حماة،
وأسر من النوروزية جماعة منهم سودون الجلب وشاهين الأباشي وجانبك القري
وغيرهم فأرسلوا إلى السجن بدمشق ثم إلى المرقب، وغرق بردجا أمير
التركمان بنهر العاصي وكذلك أرسطاي أخو يونس وآخرون وتسحب منهم جماعة
(2/428)
وغنم الشيخية منهم نحو ألف فرس، وتفرق أكثر
العساكر عن نوروز، ولحق كثير منهم بشيخ فتحول إلى الميدان بحماة، ونزل
هو والعجل به، وكتب إلى دمشق بالنصر، فدقت بشائره وزينوا البلد.
فلما كان ليلة الاثنين سادس عشر ذي الحجة، ركب تمربغا المشطوب وسودون
المحمدي وتمراز نائب حماة في عسكر ضخم فكبسوا العجل بن نعير ليلاً،
فاقتتلوا إلى قريب الفجر فركب شيخ نجدة للعجل واشتد القتال، فخالفهم
نوروز إلى وطاق شيخ فنهبه ورجع إلى حماة، وكتب دمرداش إلى الناصر
يستنجده ويحثه على المجيء إلى الشام وإلا خرجت عنه كلها، فإنه لم يبق
منها إلا غزة وصفد وحماة وكل من بها من جهته في أسوء حال.
وفي ذي الحجة مال أكثر التركمان إلى شيخ وأطاعوه، وجاءه الخبر بأن
أنطاكية صارت في حكمه وجهز شاهين داوداره وإيدغمش وملكوا حلب فصارت
بأيديهم، واشتد الأمر على دمرداش ونوروز فاستدعيا أعيان أهل حماة
فألزماهم بأن كتبوا إلى العجل كتاباً يتضمن أن نوروز هرب من حماة، ولم
يتأخر بها غير دمرداش، وسألوه أن يأخذ له الأمان من شيخ، فظن العجل أن
ذلك حق فركب إلى شيخ وأعلمه بذلك فظنه حقاً، وبعث فرقة من مماليكه ومن
عرب العجل، فتسوروا على سلالم ونزلوا المدينة من السور ظانين قلة
بالبلد من النوروزية، فوثبوا عليهم وقتلوهم جميعاً وعلقوا رؤوسهم على
السور، وأتوا رجلين من جهة العجل فألزموهما أن كتبا إلى العجل بأن
نوروز قد أسرنا وقد أطلعنا على أنه تصالح مع شيخ على أن شيخ يسلك إليه
ويصطلحا على البلاد، فظن العجل ذلك صحيحاً فركب لوقته متوجهاً إلى
بلاده، فبلغ ذلك الشيخية، فركب شيخ في طائفة ليسترضيه ويرده، فأعقبه
نوروز ودمرداش في أثره فنهبوا وطاقه وخيله واستمر العجل ذاهباً، فرجع
شيخ فوجد أثقاله قد نهبت فرجع من حمص إلى العريسين، فكاتب نوروز في طلب
الصلح فلم يتم ذلك وانسلخت السنة وهم على ذلك.
(2/429)
ذكر حوادث أخرى
غير ما يتعلق بالمتغلبين
فيها في ثالث ربيع الآخر قرر جماز بن هبة في إمرة المدينة عوضاً عن
عجلان بن نعير، وفيها استقر جمال الدين الكازروني في قضاء المدينة خاصة
دون الخطابة، فاستمرت بيد ابن صالح.
وفي صفر فشا الطاعون بحمص وحماة وطرابلس ومات به خلق كثير.
وفيه واقع التركمان الأمير نوروز بملطية فكسروه كسرة شنيعة.
وفيه رتب جمال الدين الأستادار للقاضي جلال الدين البلقيني على تصدر
بالجامع الأموي خمسمائة درهم في الشهر يقبضها من مباشري الجامع ألف
درهم قرأت ذلك بخط القاضي شهاب الدين ابن حجي رحمه الله.
وادعى شهاب الدين ابن نقيب الأشراف على صدر الدين ابن الأدمي بأنه سب
الناصر، فعقدوا له مجلساً فأنكر فشهد عليه الشهاب المذكور فاستخصمه صدر
الدين وقال إنه عدوه، فبلغ ذلك نائب الغيبة فصدق صدر الدين وأطلقه، ثم
اتفق ابن الكشك وصدر الدين على قسمة الوظائف بينهما، وأشهد ابن الأدمي
على نفسه أنه إن عاد إلى السعي في القضاء يكون لابن الكشك عنده ألف
دينار، وحكم نائب الحنفي بصحة التعليق والمالكي بصحة الالتزام، ثم بطل
ذلك عن قرب، وحكم ابن العديم ببطلان ذلك الحكم لأن صدر الدين أثبت عنده
أنه كان يومئذٍ مكرهاً، وأعيد ابن الأدمي إلى القضاء قبل خروج الناصر
من دمشق.
وفي رابع عشر ربيع الآخر عقد عقد بنت الناصر على بكتمر جلق وهو أسن من
أبيها، وتولى الناصر العقد لقنه إياه القاضي جلال الدين وقبله للزوج
تغرى بردى الأتابك.
وفي ثامن عشره أعيد ابن الأدمي إلى قضاء الحنفية وصرف ابن الكشك.
(2/430)
وفي جمادى الأولى قدم من حلب جمال الدين
الحسفاوي قاضي الشافعية بها، ومحب الدين ابن الشحنة قاضي الحنفية بها،
وأخوه قاضي المالكية بها، وكانوا طلبوا من جهة السلطان لكونهم بايعوا
جكم بالسلطنة وأفتوه بقتال السلطان، ثم هرب ابن الشحنة وأدخل الآخران
القاهرة.
وفي التاسع من جمادى الأولى نزل السلطان بلبيس فقبض على جمال الدين
الأستادار وعلى ابنه وابن أخته وعامة من يلوذ بهم، وهرب أخوه شمس الدين
البيري وطائفة، وكان الناصر قد تخيل منه في هذه السفرة أنه تمالأ عليه،
وأنه يريد أن يمسكه، ووجد أعداؤه سبيلاً إلى الحط عليه عنده إلى أن
تغير عليه وأمسكه، ودخل الناصر القلعة في حادي عشره وتقدم إلى كاتب
السر فتح الله بحفظ موجود جمال الدين فاستعان فتح الله على ذلك بالقضاة
فلم يزل جمال الدين وولده يخرجان ذخيرة بعد ذخيرة إلى أن قارب جملة ما
تحصل من موجودهما ألف ألف دينار، وأحضره الناصر مرة وتلطف به ليخرج
بقية ما عنده وجد وأكد اليمين واعترف بخطائه واستغفر فرق له وأمر
بمداواته، فقامت قيامة أعدائه وألّبوا عليه إلى أن أذن لهم في عقوبته
وسلمه لهم، فلم يزالوا به حتى مات خنقاً بيد حسام الدين الوالي، وقطعت
رأسه فأحضرت بين يدي الناصر، فردها وأمر بدفنه، وذلك في حادي عشر جمادى
الآخرة، واستقر تاج الدين عبد الرزاق ابن الهيصم في الأستادارية موضع
جمال الدين، فلبس زي الأمراء وترك زي الكتاب، واستقر أخوه مجد الدين
عبد الغني في نظر الخاص، وسعد
(2/431)
الدين ابن البشيري في الوزارة وأضيف إلى
تقي الدين ابن أبي شاكر ناظر ديوان المفرد أستادارية الأملاك والذخائر
السلطانية عوضاً عن أحمد ابن أخت جمال الدين؛ ومن غريب ما اتفق في ذلك
أنه كان ظفر من تركة بعض الأكابر بحاصل فيه ذهب وعلبة ملأى فصوص وجواهر
نفيسة، فبلغ السلطان ذلك، فطلبه من الأمير جمال الدين فأنكره وأودع ذلك
عند جندي يقال له جلبان، فلما قبض على جمال الدين وأمر بحمل ما عنده من
الأموال ذكر أن له عند جلبان وديعة نحو عشرة قفف ذهباً، فطلع المذكور
فغلب عليه الخوف فأحضر الذهب والعلبة التي فيها الجواهر، فانبسط
الناصر، وبلغ ذلك جمال الدين فشق عليه مشقة شديدة.
وفي أواخر جمادى الأولى استقر شهاب الدين أحمد بن أوحد الخادم
بالخانقاه الناصرية بسرياقوس في مشيختها عوضاً عن شمس الدين القليوبي
بحكم وفاته.
وفي سابع جمادى الآخرة امسك بلاط أحد المقدمين وكزل حاجب الحجاب، وبعثا
إلى الإسكندرية للاعتقال، وقرر يلبغا الناصري في الحجوبية.
وفي تاسعه صرف ابن شعبان عن الحسبة وأعيد الطويل وفيه صرف البرقي عن
قضاء العسكر، واستقر حاجي فقيه.
وفي حادي عشر جمادى الآخرة استقر علاء الدين الحلبي قاضي غزة في مشيخة
بيبرس عوضاً عن شمس الدين البيري أخي جمال الدين بحكم تسحبه بعناية فتح
الله؛ واستقر نور الدين التلواني في تدريس الشافعي عوضاً عنه بعناية
قردم.
وفيه أحضر الناصر الشيخ شهاب الدين الزعيفريتي، وكان نقل له عنه أنه
كتب ملحمة زعم فيها أن الملك يصل لجمال الدين ثم إلى ابنه أحمد، ونظم
ذلك في قصيدة، فأمر الناصر بقطع لسانه وبعض عقد أصابع يده اليمنى،
واعتقل ثم أفرج عنه، وأقام ببيته مدة
(2/432)
الناصر يظهر الخرس إلى أن أقبلت الدولة
المؤدية وتكلم، فعد ذلك من قوة تمكنه من عقله، وعظيم جلده وصبره، ولم
يمتنع أيضاً من الكتابة، بل كتب مع فساد بعض أصابعه لكن دون خطه
المعتاد.
وفي سابع رجب أعيد ابن شعبان إلى الحسبة وعزل الطويل؛ ثم عزل ابن شعبان
واستقر محمّد بن يعقوب الدمشقي في ثامن عشر من رجب، ثم صرف في ثاني
شعبان واستقر كريم الدين الهوى.
وبلغ النيل في هذه السنة في الزيادة إلى اثنين وعشرين ذراعاً، وكسر
الخليج في أول يوم من مسرى وثبت إلى نصف هاتور، وبلغ سعر القمح من ذلك
في شعبان إلى ثلاثمائة الإردب، والشعير والفول إلى مائتين، والحمل
التبن إلى مائة وعشرين.
وفي شعبان قبض الشيخية بدمشق على الإخنائي قاضي الدمشقية وكانوا قد
نقموا عليه فكاتبه نوروز فسجن بالقلعة، ثم هرب منها إلى صفد، فأكرمه
النائب بها من جهة الناصر، وهو شاهين الزردكاش، وأرسل الإخنائي إلى
الناصر يغريه بالأمير شيخ ويحثه على سرعة الحركة إلى الشام.
وفي أواخر شعبان فوض شيخ خطابة جامع دمشق لشرف الدين التباني وكان قد
فر من القاهرة إليه في أواخر العام الماضي، فأنكر الشاميون ذلك، لعهدهم
أن الخطابة إنما هي للشافعية، فكاتبوه بذلك، فاستناب الباعوني وباشر
شرف الدين التباني مشيخة السميساطية خاصة، وأضيف إليه درس الخاتونية،
وتصدر بالجامع الأموي.
وفي مستهل رجب قبض على نصراني فادعى عليه أنه كان أسلم، وأقيمت عليه
البينة بذلك فاعترف فعرض عليه الإسلام فامتنع فضربت رقبته بين القصرين.
(2/433)
وفي ثالث عشر شعبان قتل شخص شريف لأنه ادعى
عليه أنه عوتب في شئ فعله فعزر بسببه، فقال: قد ابتلى الأنبياء، فزجر
عن ذلك فقال: قد جرى على رسول الله في حارة اليهود أكثر من هذا،
فاستفتى في حقه فأفتوا بكفره، فضربت عنقه بين القصرين بحكم القاضي
المالكي شمس الدين المدني.
وفي ثالث عشر شوال أعيد ابن شعبان إلى الحسبة وصرف الهوى، وفي الثالث
والعشرين منه كان الناصر توجه إلى وسيم عند مرابط خيله فرجع منه، فلما
وصل الميدان بالقرب من قناطر السباع أمر بالقبض على قردم الخازندار.
وكان شاع عنه وهو في السفر أنه اتفق مع جمال الدين على الفتك بالسلطان
وأمر أيضاً بالقبض على أينال الساقي وهو حينئذ رأس نوبة كبير، فقبض على
قردم وشهر أينال سيفه فلم يلحقه غير الأمير قجق، فضربه على يده ضربة
جرحه بها، واستمر أينال هارباً، ثم ظفر به في ذي الحجة فسجن في
الإسكندرية، ثم آل أمره إلى أن صار تاجراً في المماليك يجلبهم من
البلاد ويربح منهم الربح الكثير، وقد قدم في الدولة المؤيدية مرتين
بذلك وحصل مالاً طائلاً، وسجن قردم بالإسكندرية.
وفي شوال استقر ابن خطيب نقرين في قضاء دمشق وصرف الحسباني، وفيه استقر
شمس الدين محمّد بن علي بن معبد المدني في قضاء المالكية وصرف البساطي.
وفي أواخر ذي القعدة استقر حسام الدين في ولاية القاهرة.
وفيه صرف الزيدي، وكان ظالماً فاجراً ولي شد الدواوين فأباد أصحاب
الأموال وبالغ في أذاهم فكان عاقبة أمره أن ضربت عنقه صبراً بالقاهرة.
(2/434)
وفي ذي الحجة قدم على شيخ بحمص الشيخ أبو
بكر بن تبع وذكر أن شخصاً حضر إليه وذكر له أنه رأى النبي صلّى الله
عليه وسلّم في المنام وهو يقول: ارجع عما أنت فيه وإلا هلكت، قال: يا
رسول الله! ما يصدقني، قال: اذهب إلى ابن تبع فقل له يذهب إليه، قال:
فإن لم يقبل من ابن تبع. قال: قل له فليقل له ما كلامه كيت وكيت، وذكر
له ذكراً جرت عادة شيخ أن يحوط به نفسه عند النوم وعند القتال، فقص أبو
بكر بن تبع ذلك على شيخ فصدق الإمارة وكتب إلى دمشق بأنه رجع عن
المظالم، وكتب إلى أتباعه بالكف عن المصادرات ورد الأوقاف إلى أهلها
ونودي بذلك في البلد، وكتب إلى قضاة دمشق بالكشف عن شمس الدين ابن
التباني، وكان قد فوض إليه نظر الجامع والأوقاف وظهر عليه جملة مستكثرة
ثم جاملوه وكتبوا له محضراً بأنه حسن المباشرة وأرسل مرجان الهندي
خازندره يكشف عن حسابات الأوقاف وإلزام المباشرين عليها بعمارتها.
وفيها قتل محمّد بن أميرزا شيخ بن عم تمرلنك سلطان فارس، قام عليه أخوه
إسكندر شاه فغلبه وكان محمّد كثير العدل والإحسان فيما يقال فتمالأ
عليه بعض خواصه فقتله تقرباً إلى خاطر أخيه إسكندر واستولى إسكندر على
ممالك أخيه فاتسعت مملكته.
وفيها أفرط النيل في الزيادة إلى تكملة العشرين ثبت ثباتاً زائداً عن
العادة إلى نصف هاتور، ثم يسر الله بنزوله على العادة.
وفي أول يوم من جمادى الآخرة ضرب إمام قبة الصخرة بالمقارع بأمر
السلطان وحبس بسجن ذوي الجرائم، والسبب فيه أنه قدم رسولاً من شيخ
يعتذر عن قتال بكتمر جلق وأنه الذي بدأه بالقتال، فلم يلتفت له فأمر
بضرب هذا وتوسيط رفيقه وهو من المماليك، وفيها مات داود بن سيف أرغد
الحطي - بفتح المهملة وكسر المهملة الخفيفة بعدها ياء خفيفة - الحبشي
الأمحري - بحاء مهملة - صاحب مملكة الحبشة وقدمت رسله على الظاهر
(2/435)
بهدية، وجهز له الظاهر هدية ورسولاً وهو
برهان الدين الدمياطي فذكر أنه رآه حاسر الرأس عرياناً وعلى جبينه
عصابة حمراء وكذا كان سلفهم فلما مات داود أقيم ابنه تدروس فهلك سريعاً
فأقيم أخوه إسحاق فسلك سبيل الملوك وتزيا بزي أهل الحضر والسبب فيه أن
نصرانياً كان يقال له فخر الدولة حصلت له كائنة بمصر ففر إلى الحبشة
فقربه إسحاق فرتب له المملكة وأشار عليه بأن يتزيا بغير زي قومه وجبا
الأموال وضبط الأمر ودخل إليه مملوك يقال له الطنبغا فتعلم من عنده
صناعة الحرب والرمي بالنشاب واللعب بالرمح ورتب له زردخاناه فصرف فحظي
عنده وصار يركب وبيده صليب جوهر كبير إذا قبض عليه برز طرفاه من كبره،
وكان شديد البأس على من يجاوره من المسلمين من الجبرت وغيرهم، وكان سعد
الدين رأس الجبرت يحاربه، وفي الغالب يكون سعد الدين منه في ضيق، وقتل
من المسلمين في تلك الوقائع ما لا يحصى فلم يزل كذلك إلى أن مات إسحاق
في ذي القعدة سنة ثلاث وثلاثين، وقام بعده ابنه أندراس، فهلك لأربعة
أشهر من موت أبيه فقام من بعده عمه خرساي فهلك في رمضان سنة أربع
وثلاثين، فأقيم بعده سلمون بن إسحاق.
وفي غضون ذلك نجا جمال الدين ابن سعد الدين ملك المسلمين ودهم الحبشة
وأوقع بهم وصاروا منه في حصر شديد على ما اتصل بنا.
وفيها مات أحمد بن ثقبة بن رميثة بن أبي نمى الحسني المكي أحد أمراء
مكة، وكان قد اشترك مع عنان في الولاية الأولى مع كونه مكحولاً لما مات
ابن عمه أحمد بن عجلان بن رميثة وأم ولده محمّد.
وفيها قتل جماز بن هبة بن جماز بن منصور الحسيني أمير المدينة وقد كان
أخذ حاصل المدينة ونزح عنها فلم يمهل وقتل في حرب جرت بينه وبين
أعدائه، وكان يظهر إعزاز أهل السنة ويحبهم بخلاف ثابت بن نعير.
(2/436)
وفي ذي الحجة استقر تاج الدين محمّد بن
الحسباني في وكالة بيت المال والحسبة وإفتاء دار العدل وقضاء العسكر
وبذل على ذلك ألف دينار وكانت الحسبة مع ناصر الدين ابن الجاي وما عدا
ذلك مع تقي الدين يحيى الكرماني، فصرفا عنها وفيها مات أقباي الكبير
وكان رأس نوبة الأمراء في جمادى الآخرة، وترك من العين ألف دينار هرجة،
واثني عشر ألف دينار إفرنجية ومن الغلال والخيول والدواب ما قيمته فوق
ذلك، حصل ذلك من الظلم وكان حاجباً مدة طويلة غشوماً ظلوماً، فاستأصل
الناصر تركته، وفيها مات طوخ الخازندار في جمادى الآخرة وبلاط
الإسكندرية وقجاجق الدويدار.
ذكر من مات
في سنة اثنتي عشرة وثمانمائة من الأعيان
أحمد بن سعيد بن أحمد السماقي الحسباني الشاهد بسوق صاروجا أخو القاضي
شرف الدين قاسم مات في جمادى الأولى عن سبعين سنة بدمشق.
أحمد بن عبد اللطيف بن أبي بكر بن عمر الشرجي ثم الزبيدي اشتغل كثيراً
ومهر في العربية وكذا كان أبوه سراج الدين ودرس شهاب الدين بالصلاحية
بزبيد اجتمعت به وسمع علي شيئاً من الحديث وسمعت من فوائده مات بحرض عن
أربعين سنة.
أحمد بن محمّد بن أبي الوفا محمّد بن محمّد الشاذلي شهاب الدين
(2/437)
المشهور بتبن وفا أخو الشيخ علي الماضي سنة
سبع وثمانمائة وأحمد هو الأسن وعلي هو الأشهر، وكان عند أحمد سكون وقلة
كلام وليس له نظم وكان يذكر له أحوال حسنة ولم يكن يعمل المواعيد إلا
مع خواص أصحابه ونبغ له أبو الفضل محمّد ففاق الأقران في النظم والذكاء
ومات غريقاً بعد أبيه بسنة، وكانت وفاة شهاب الدين في شوال وله ست
وخمسون سنة.
أبو بكر بن عبد الله بن ظهيرة المخزومي أخو الشيخ جمال الدين اشتغل
قليلاً وسمع من عز الدين ابن جماعة وغيره، ومات في جمادى الأولى بمكة.
أبو بكر بن عبد الله بن قطلوبك المنجم الشاعر، تعانى التنجيم والآداب،
وكان بارعاً في النظم والمجون وله مطارحات مع أدباء عصره أولهم شمس
الدين المزين ثم خطيب زرع ثم على البهائي، واشتهر بخفة الروح والنوادر
المطربة؛ ومات في صفر، وهو القائل:
حنفي مدرس حاز خدّاً ... كرياض الشقيق في التنميق
لو رآه النعمان في مجلس الدر ... س لقال النعمان هذا شقيقي
(2/438)
وله في شمس الدين المزين الشاعر زجل أوله:
لعمرك يا مزين أمسى ... ناقص البراعه
لكن في الحرام حيث ... تجده كامل البضاعه
سيرك يا ربيط سير ... محلول من قبيح فعالك
وأنت حرامي مجروح ... وعرضك بحالك
وتهجي المنجم أما ... تبصر شاعر حالك
لا تلعب بذكاعي ... وتعمل رقاعه
أنصحك وأسقيك شربة ولا سم ساعه
فلما مدح الشيخ علي البهائي بدر الدين ابن الشهاب محمود بقصيدته التي
أولها:
ألا يا نسمة الريح ... قفي أبديك تبريحي
قفي أخبرك عن جسمي ... وإن شئت أقل روحي
فناقضه المنجم بقوله:
ضراط البغل في الريح ... على فرش من الشيح
وشرب الخل ممزوجاً ... بأمراق القواليح
ونقلي يابس الزعرور مع بعر التماسيح
ونيك ليس بالتعميق بل حك وتشطيح
وقوم في جنان البلح قد فازوا بتسليحي
وبيتي من دمشق الشا ... م ليلاً غير ممسوح
وتعويض بأكل اللف ... ت من تلك التفافيح
وسمعي في حقول الفجل أصوات الذراريح
على شيز الضفاديع التي في بحر أطفيحي
أحبّ إلي من شعر ... شبيه الشيح في الريح
بتوشيح كتوشيح ... وتحسين كتقبيح
وتلميع كتليح الدباغات المناسيح
إذا عاناه معصوم ... شكى داء المساليح
(2/439)
وغاد ببرءه يشكو ... من القولنج والريح
تراني حين أسمعه ... بصدر غير مشروح
أقول لنفسي اعتزمي ... وعن أبياته روحي
قريض من مقالته ... على الحمى لدى الروح
وناظمه أخو جهل ... من القوم المشاليح
ووزن الشعر يشغله ... بنقصان وترجيح
بنظم منظم يطفي ... إشعات المصابيح
ولولا بدر دين الدين مخدومي وممدوحي
لأظلم بيت أفكاري ... ولم أظفر بتوضيح
ولا عارضت في شعري ... ألا يا نسمة الريح
أنشدنيها بقصتها ناصر الدين البارزي بالقاهرة ثم أنشدنيها بقصتها ولده
القاضي كمال الدين بالبيرة على شاطئ الفرات في سنة آمد وأنا للإنشاد
الثاني أضبط.
أبو بكر بن علي الحمصي سيف الدين المعمار اشتهر بذلك وقد تقدم في فنه،
وعاش أزيد من تسعين سنة بدمشق.
خليل بن محمّد بن خليفة بن عبد العالي الحسباني ابن عم شهاب الدين
وصهره على ابنته، كان خيراً ديّناً وورث من أبيه مالاً جزيلاً، وغرم
أكثره في تزويج ابنة عمه المذكور، ثم كان في آخر أمره أن طلقت منه، وقد
ولي قضاء حسبان.
عبد الله بن أحمد اللخمي التونسي الفرياني - بضم الفاء وتشديد الراء
بعدها تحتانية خفيفة وبعد الألف نون - كان فاضلاً مشاركاً في الفقه
والعربية والفرائض مع الدين والخير؛ مات راجعاً من مكة إلى مصر، ودفن
بعقبة أيلة في المحرم.
(2/440)
عبد الرحيم بن محمود بن محمّد بن عبد
الرحيم بن عبد الوهاب بن علي بن عقيل السلمي البعلبكي، زين الدين، خطيب
بعلبك وابن خطيبها، ولد سنة تسع وعشرين أو قبلها ومات أبوه سنة خمس
وثلاثين وهو الكاتب المجود المشهور بهاء الدين محمود، فرباه جده، وولي
عبد الرحيم خطابة بلده، وكانت بيد سلفه منذ أربعمائة سنة فيما يقال،
وقد حدث عبد الرحيم عن الحجار وغيره بالإجازة، وكان من أعيان شهود بلده
موصوفاً بالخير؛ مات في ربيع الأول.
علي بن الحسن بن أبي بكر بن الحسن بن علي بن وهاس الخزرجي موفق الدين
الزبيدي، اشتغل بالأدب ولهج بالتاريخ فمهر فيه، وجمع لبلده تاريخاً
كبيراً وآخر على الحروف وآخر في الملوك، وكان ناظماً ناثراً اجتمعت به
بزبيد، وكتب لي مدحاً؛ مات في أواخر هذه السنة وقد جاوز السبعين.
علي بن محمّد بن إسماعيل بن أبي بكر بن عبد الله بن عمر بن عبد الرحمن
الناشري موفق الدين الشاعر المشهور الزبيدي اشتغل بالأدب ففاق أقرانه
ومدح الأفضل ثم الأشرف ثم الناصر، وكانوا يقترحون عليه الأشعار في
المهمات، فيأتي بها على أحسن وجه، وكانت طريقة شعره الانسجام والسهولة
دون تعاني المعاني التي لهج بها المتأخرون،
(2/441)
وحج في سنة عشرة ورجع فمات بنواحي حرض في
المحرم، أو في الذي بعده، وقد جاوز الستين، رأيته بزبيد وسمعت منه
قليلاً.
قجاجق بن عبد الله الدويدار الناصري، وكان حسن الخلق لين الجانب مسرفاً
على نفسه وولي الدويدارية الكبرى فباشرها بلطف ورفق، مات في أواخر
السنة، وقيل في سادس المحرم من التي تليها.
محمّد بن أحمد بن أبي القاسم الوزير كمال الدين ابن المقرئ الزبيدي ناب
في الوزارة باليمن، وناب عن القاضي مجد الدين الشيرازي في القضاء، وكان
فاضلاً.
محمّد بن عبد الله بن أبي بكر الشيخ شمس الدين القليوبي الشافعي اشتغل
بالعلم وتلمذ للشيخ ولي الدين الملوي، ورأيت سماعه على العرضي ومظفر
الدين ابن العطار في جامع الترمذي، وما أظنه حدث عنهما، واشتهر بالدين
والخير، وكان متقللاً جداً إلى أن قرر في مشيخة الخانقاه الناصرية
بسرياقوس شيخاً بها فباشرها إلى أن مات في جمادى الأولى وكان متواضعاً
ليناً.
محمّد بن عبد الله الخردفوشي: أحد من كان يعتقد مات في ربيع الآخر.
محمّد بن عبد الرحمن بن يوسف الحلبي المعروف بابن سحلول ناصر الدين،
كان عمه عبد الله وزيراً بحلب، ولد سنة...... وسمع المسلسل
(2/442)
بالأولية من أحمد بن عبد الكريم، وسمع عليه
الأربعين المخرجة من صحيح مسلم بسماعه على زينب الكندية عن المؤبد،
وسمع من ابن الحبال جزء المناديلي، أنا عبد الخالق بن علي بن واصل
البصري ثنا أبو جعفر السعيدي ثنا أبو القاسم إبراهيم بن محمّد
المناديلي، وولي مشيخة خانقاه والده فكان أهل حلب يترددون غليه لرياسته
وحشمته وسؤدده، ومكارم أخلاقه، وكان مواظباً على إطعام من يرد عليه ثم
عظم جاهه لما استقر جمال الدين الأستادار في التكلم في المملكة فإنه
كان قريبه من قبل الأم لأن أم جمال الدين بنت عبد الله عم شمس الدين
المذكور وكان استقر في مشيخة الشيوخ بعد موت الشيخ عز الدين الهاشمي،
ثم سافر من حلب إلى القاهرة فبالغ جمال الدين في إكرامه وجهزه إلى
الحجاز في أبهة زائدة وأحمد ولد جمال الدين يومئذٍ أمير الركب فحج وعاد
فمات بعقبة أيلة في شهر الله المحرم، وسلم مما آل إليه أمر قريبه جمال
الدين وآله.
محمّد بن عمر بن إبراهيم بن القاضي العلامة شرف الدين هبة الله
البارزي، ناصر الدين الحموي، قاضي حماة هو وأسلافه كان موصوفاً بالخير
والمعرفة، فاضلاً عفيفاً، مشكوراً في الحكم، باشر القضاء مدة ومات
بحماة في هذه السنة وجده هبة الله هو القاضي شرف الدين البارزي العالم
المشهور.
محمّد بن محمّد بن موسى بن سليم - بفتح المهملة - الحجاوي، كان من أهل
العلم بالهيئة، وولي وظيفة التوقيت بالجامع الأموي، ثم انتقل إلى حجا
بلده فمات هناك في شعبان.
محمّد بن محمّد بن موسى بن محمّد بن محمّد بن محمود بن سلمان الحلبي
الأصل الدمشقي بدر الدين ابن الشهاب محمود، ولد في حدود الخمسين ونشأ
بدمشق واشتغل وتعانى الأدب، ونظم الشعر وولي
(2/443)
كتابة السر بدمشق وطرابلس وكان ولي توقيع
الدست بحلب وكان رئيساً، ذكياً كريماً، له مروءة وعصبية إلا أنه كان
ينسب إلى أشياء غير مرضية، كتب عنه القاضي علاء الدين في ذيل تاريخ حلب
من نظمه، ومات في السجن بدمشق سنة 812 على يد جمال الدين الأستادار.
نصر الله بن أحمد بن محمّد بن عمر التستري الأصل ثم البغدادي نزيل
القاهرة جلال الدين أبو الفتح ولد في حدود الثلاثين ومات أبوه وهو
صغير، فرباه الشيخ الصالح أحمد السقا وأقرأه القرآن واشتغل بالفقه على
مذهب الحنابلة؛ وسمع الحديث من جمال الدين الخضري وكمال الدين الأنباري
وأبي بكر بن قاسم السنجاري في آخرين وأسانيدهم نازلة، وقرأ الأصول على
الشيخ بدر الدين الأربلي وأخذ عن الكرماني شارح البخاري، شرح العضد على
ابن الحاجب وولي تدريس الحديث بمسجد يانس ببغداد ومدارس الحنابلة
كالمستنصرية والمجاهدية، وصنف في الفقه وأصوله ونظم كتاباً في الفقه في
ستة آلاف بيت، وأرجوزة في الفرائض مائة بيت جيدة في بابها، وله مختصر
ابن الحاجب ومدايح نبوية، وكان يذاكر الناس ببغداد مدة وانتفع الناس
بذلك، وخرج من بغداد لما شاع أن اللنك قصدها فوصل إلى دمشق فبالغوا في
إكرامه، وكان مقتدراً على النظم والنثر، ثم قدم القاهرة في سنة تسعين
وتقرر في تدريس الحنابلة بمدرسة الظاهر برقوق وكان قد امتدحه وعمل له
رسالة في مدح مدرسته، وحدث بالقاهرة بجامع المسانيد لابن الجوزي سماعه
له بإسناد نازل إلى مؤلفه، مات في عشري صفر بعد أن مرض طويلاً.
(2/444)
نصر الله بن محمّد الصرخدي ناصر الدين أحد
الفضلاء، مات في أحد الربيعين.
يوسف بن أحمد بن محمّد بن أحمد بن جعفر بن قاسم البيري، ثم الحلبي نزيل
القاهرة الأمير جمال الدين، ولد سنة 752 وكان أبوه خطيب البيرة فصاهر
الوزير شمس الدين بن سحلول فنشأ جمال الدين في كنف خاله وكان أولاً بزي
الفقهاء وحفظ القرآن وكتباً في الفقه والعربية، وسمع من شمس الدين ابن
جابر الأندلسي قصيدته البديعية. وعرض عليه ألفية ابن معطي وأخذ عنه في
شرحها له بحلب، ثم قدم مصر بعد سنة سبعين وهو بزي الجند فخدم أستادار
الأمير بجاس وعرف به وطالت مدته عنده، ثم ترقى إلى أن تزوج بنت أستاذه
وعظم قدره ومحله، فباشر الأستادراية عند جماعة من الأمراء كبيبرس
وسودون الحمزاوي وغيرهما، وعمر الدور الكبار وعمر في داخل القصر بجوار
المدرسة السابقية منزلاً حسناً، فيقال إنه وجد فيه خبيئة للفاطميين
واشتهر ذكره بالمروءة والعصبية وقضاء حوائج الناس فقام بإعباء كثير من
الأمور وصار مقتصداً للملهوفين يقضي حوائجهم ويركب معهم إلى ذوي الجاه،
ولم يزل معظماً نافذ الكلمة إلى أن قرر في الأستادارية رابع رجب سنة
سبع وثمانمائة بعد أن هرب ابن غراب مع يشبك فشكرت سيرته، ثم وقع بينه
وبين السالمي لتهور السالمي فقبض عليه في ذي الحجة واستبد بالأمر إلى
أن قرر في الأستادارية الكبرى عوضاً عن ابن قيماز في رابع رجب سنة ثمان
بعد أن
(2/445)
رسم عليه في بيت شاد الدواوين يوماً وليلة
واستمر مع ذلك يتحدث في أستادارية الأمير الكبير بيبرس، ثم لما تغيرت
الأمور التي بسطناها في سنة ثمان وثمانمائة وتمكن ابن غراب من المملكة
أراد الفتك بجمال الدين، ثم اشتغل عنه بمرضه ولم يلبث أن هلك، فاستولى
جمال الدين على الأمور واستضاف الوزارة ونظر الخاص والكشف بالوجه
البحري واستقر مشير الدولة، ثم لما قتل يشبك صفا الوقت له وصار عزيز
مصر على الحقيقة، لا يعقد أمر إلا به ولا تفصل مشورة إلا عن رأيه، ولا
تخرج إقطاع إلا بإذنه، ولا يستخدم أحد من الأمراء ولو عظم كاتباً عنده
إلا من جهته، ولا تباع دار حتى تعرض عليه، ولا يكتب مكتوب على قاض حتى
يستأذنه، ولا يباع شيء من الجوهر والصيني ولا من آنية الذهب والفضة ولا
من الفرو والصوف والحرير ولا من كتب العلم النفيسة حتى يعرض عليه، ولا
يلي أحد وظيفة ولو قلت حتى نواب القضاة إلا بأمره، ثم تجاوز ذلك حتى
صار لا يخرج إقطاع ولو قل إلا بمشورته ولا يحكم أمير في فلاحه حتى
يؤامره، ولا تكتب وصية حتى تعرض عليه أو يأذن فيها، وخضع له الآمر
والمأمور، وكثر تردد الناس إلى بابه حتى كان رؤساء الدولة من
الدويدارية وكاتب السر ومن دونهما ينزلون في ركابه إلى منزله، ولا يصدر
أحد منهم إلا عن رأيه، ثم شرع في انتهاك حرمة الأوقاف فحلها أولاً
فأولاً حتى استبدل بالقصور الزاهرة المنيفة بالقاهرة كقصر يشبك
والحجارية وغيرهما بشيء من الطين من
(2/446)
الجيزة وغيرها، وكان قبل ذلك يتوقى في
الظاهر فربما رام استبدال بعض الموقوفات فيعسر عليه القاضي إلى أن
تجتمع شروط ذلك عند من ذهب إلى جوازه فيبادر هو بدس بعض الفعلة إلى ذلك
المكان في الليل فيفسد في أساسه إلى أن يكاد يسقط فيرسل من يحذر سكانه،
فإذا اشتهر ذلك بادر المستحق إلى الاستبدال ومن غفل منهم أو تمنع سقط
فينقص من قيمته ما كان يدفعه له لو كان قائماً، ثم بطلت هذه الحيلة لما
زاد تمكنه بإعانة القاضيين الحنفي تارة والحنبلي أخرى سمعت القاضي كريم
الدين ابن عبد العزيز يقول: كنت في جنازة فتوجهت للمقبرة فوافقت ابن
العديم ففتحت له انتهاك حرمة الأوقاف بكثرة الاستبدال، فقال لي: إن عشت
أنا والقاضي مجد الدين - وأشار إلى الحنبلي - لا يبقى في بلدكم وقف،
والعجب أن رؤساء العصر كانوا ينكرون أفعال جمال الدين في الباطن رعاية
له وفرقاً منه، فما هو إلا أن قتل فتوارد الجميع على أتباعه فيما سن من
ذلك حتى لم يسلم من ذلك أحد منهم، ولم يزل الأمر يتزايد بعد ذلك، ثم لم
يزل جمال الدين يترقى ويحصل الأموال ويداري بالكثير منها ويمتن على
الناصر بكثير من الأموال التي ينفقها عليه إلى أن كاد يغلب على الأمر،
وفي الآخر صار يشتري بني آدم الأحرار من السلطان، فكل من تغير عليه
استأذن السلطان في إهلاكه واشتراه منه بمال معين يعجل حمله إلى الناصر
ويتسلم ذلك الرجل فيهلكه، فهلك على يده خلق كثير جداً، وأكثرهم في
التحقيق من أهل الإفساد.
وفي الجملة كان قد نفذ حكمه في الإقليمين مصر والشام، ولم يفته من
المملكة سوى اسم السلطنة مع أنه كان ربما مدح باسم الملك ولا يغير ذلك
ولا ينكره، وتقدم أنه قتل في جمادى الآخرة، ولقد رأيت له بعد قتله
مناماً صالحاً حاصله أني ذكرت وأنا في النوم ما كان فيه وما صار إليه
وما ارتكب من الموبقات، فقال لي قائل: إن السيف محاء للخطايا، فلما
استيقظت اتفق
(2/447)
أني نظرت هذا اللفظ بعينه في صحيح ابن حبان
في أثناء حديث، فرجوت له بذلك الخير، ولعمري لقد ارتكبوا في حقه منذ
قبض عليه إلى أن قتل ما لم يرتكبه في حق ممن دونه فيما كان فيه من
الإهانة والإفراط في ظلم البراء من أهله حتى وضعت امرأته سارة بنت
الأمير بجاس وهي حامل على دست نار فأسقطت ورأت من الذل ما لا يوصف
وماتت بعد ذلك قهراً فلله الأمر.
يونس بن قاضي الصنمين نقيب الشافعي لم يكن محمود السيرة فيما يقال
(2/448)
مات سنة 813. |