إنباء الغمر بأبناء العمر
سنة ثماني عشرة
وثمانمائة
في الثاني من المحرم قدم المؤيد بعد أن قرر على مشايخها أربعين ألف
دينار فكانت مدة غيبته شهرين.
وفي عاشره افرج عن بيبغا المظفري وبكتمر اليوسفي من سجن الإسكندرية.
وفيها استعد قرا يوسف للحرب بينه وبين شاه رخ بن تمر لنك وذلك أن ابن
تمر لنك استناب في فارس بعد أن غلب عليها وانتزع من مملكتها ابن أخيه
إسكندر بن مرزة بن تمر لنك أخاه رستم وأمر بالإسكندر فكحل ثم أطلق،
فجمع الإسكندر جمعاً، وحارب أخاه فانهزم الإسكندر، فأمر به عمه فقتل
وتسلم شاه رخ السلطانية وتفرغ وجه شاه رخ لقرا يوسف وكان أرسل يطلب منه
قريتين عينهما وامرأة أخي وابنة أخي وكان قرا يوسف قد أسرهما ويقال إنه
تزوجهما، ويلتمس منه أن يلتزم بديات من قتل من إخوته ورد ما وصل من
أموالهم وأن يضرب السكة باسمه ويخطب له في بلاده فلم يفعل قرا يوسف ذلك
واستعد للحرب من أواخر العام الماضي وأرسل إلى ابنه محمد شاه من بغداد
وينبه عساكره المتفرقة في البلاد.
وفيه قدم كتاب فخر الدين بن أبي الفرج من بغداد بأنه مقيم بالمستنصرية
وإنما هرب خوفاً على نفسه ويسأل العفو ويطلب الأمان، وكان استشفع
بالشيخ محمد بن قديدار الدمشقي فأرسل كتابه قرين كتابه، فأجيب بما طيب
خاطره.
(3/52)
وفيه وصل كتاب أقبقا النظامي من جزيرة قبرس
وكان قد توجه من العام الماضي لفك إساري المسلمين بأنه وجد هناك
خمسمائة أسير وأزيد فافتكهم بثلاثة عشر ألف دينار، وأنه أرسل للفرنج
المبلغ الذي كان جهزه معه وهو عشرة آلاف دينار وسمح له متملك قبرس
بالباقي، وحمل منهم إلى جهة مصر مائتي أسير وفرق الباقي في سواحل
الشام.
وفيها قتل طوغان الدويدار وسودون المحمدي ودمرداش المحمدي واسنبغا
الزردكاش بسجن الإسكندرية وأقيم عزاؤهم بالقاهرة.
وفيه هزم إينال الصصلاي نائب حلب كردى بن كندر التركماني وانتهب من
غنمه شيئاً كثيراً فاستعان عليه بعلي بن دلغادر، فدخل بينهما في الصلح
حتى رجع إينال عنه إلى حلب.
وفي المحرم في هذه السنة ابتدأ الطاعون بالقاهرة، وتزايد في صفر حتى
بلغ في ربيع الأول في كل يوم ثمانين نفساً ثم ارتفع في ربيع الآخر.
وفي مستهل صفر صرف مجد الدين سالم الحنبلي عن قضاء الحنابلة وأمر بلزوم
بيته.
وفي الثاني عشر منه قرر في منصبه علاء الدين علي بن محمود بن مغلي
الحموي وكان قد قدم من حماة في أواخر السنة الماضية والسلطان بالبحيرة.
واستقر قضاء حماة بيده وأذن له أن يستنيب عنه من شاء وسعى مجد الدين
عند اقباي الدويدار فقام معه في ذلك قياماً كلياً ولم يفد ذلك شيئاً.
(3/53)
وفيه عزل شهاب الدين بن سفري عن قضاء
العسكر، وقرر فيه تقي الدين أبو بكر بن عمر بن محمد الختني الحموي
الحنفي وكان قدم صحبة ابن مغلي المذكور.
وفي صفر كثر ضرب الدراهم المؤيدية، ثم استدعى المؤيد القضاة والأمراء
وتشاوروا في ذلك، وأراد المؤيد إبطال الذهب الناصري وإعادته إلى الهرجة
فقال له البلقيني: في هذا إتلاف شيء كثير من المال، فلم يعجبه ذلك وصمم
على إفساد الناصرية وأمر يشبك ما هو حاصل عنده وضربه هرجة، فذكر لنا
بعد مدة أنه نقص عليه سبعة آلاف دينار، وأمر القضاة وغيرهم أن يدبروا
رأيهم في تسعير الفضة المضروبة فاتفقوا على أن يكون كل درهم صغير بتسعة
دراهم وكل درهم كبير بثمانية عشر على أن يكون وزن الصغير سبعة قراريط
فضة خالصة ووزن الكبير أربعة عشر قيراطاً واستمر ذلك وكثرت بأيدي الناس
وانتفعوا بها، ونودي على البندقية: كل وزن درهم بخمسة عشر.
وفي صفر وقع الشروع في حفر الرمل الكائن بين جامعي الخطيري ببولاق
والناصري المعروف بالجديد بمصر، وكانت الرمال قد كثرت هناك جدا بحيث
كان ذلك أعظم الأسباب في تخريب منشاة المهراني ومنشاة الكتان وموردة
الحبس وزريبة قوصون وحكر ابن الأثير وفم الخور، وكانت هذه الأماكن في
غاية العمران، فلما انحسر عنها النيل ودام انحساره خربت فاتفق أن
السلطان ركب إلى هذا النواحي وكان عهده بها عامرة فسأله عن سبب خرابها
فأخبر به، فأراد حفر ما بين الجامعين ليعود الماء اصيفاً وشتاء، وشرع
حينئذ في الأمر بعمارتها فابتدأ بذلك في عاشر صفر، فنزل كزل العجمي وهو
يومئذ أمير جندار، فعلق مائة وخمسين رأسا من البقر لتجرف الرمال، ثم
تلاه سودون القاضي فاستمر العمل بقية صفر وربيع الأول، فلما كان يوم
(3/54)
الثاني من ربيع الأول ركب السلطان ومعه
الأمراء وغيرهم إلى حيث العمل في حفر البحر ونزل في خيمة نصبت له ونودي
بخروج الناس إلى الحفير فخرجت جميع الطوائف وغلقت الأسواق وعمل فيه حتى
الأمراء وأرباب الدولة والتجار واستمر العمل، ثم دخل الناس في العمل
حتى الصوفية الذين بالظاهرية بين القصرين فإنهم توجهوا لتوجه ناظرها
أمير أخور ثم أعفوا من العمل، ثم صار يخرج كل يوم أمير كبير ومعه طوائف
لا تحصى، وتكرر النداء في القاهرة بالخروج إلى العمل واستمر طوال هذا
الشهر، وما أفاد ذلك شيئاً بعد طول العناء.
وفي صفر قبض على شاهين الأيد كاري بحلب وسجن بالقلعة، ومات سنقر الرومي
بسجن الإسكندرية.
وفيه سأل حسن ابن بشارة أن يستقر في مشيخة العشير ويحمل ثلاثين ألف
دينار فأجيب على ذلك، وأرسلت خلعة مع يشبك الخاصكي فأعطاه ثلاثة عشر
ألف دينار - وأحيل عليه أرغون شاه أستادار الشام بالباقي، فبلغ ذلك
أخاه محمداً فغضب واقتتلا، فانكسر محمد وانهزم إلى جهة العراق.
وفي المحرم تسلم أحمد بن رمضان مدينة طرطوس عنوة بعد أن حاصرها سبعة
أشهر وسبى أهلها وخطب فيها للمؤيد، وأرسل إلى نائب حلب فأعلمه بذلك.
وفيه أرسل حسين بن نعير ملك العرب يسأل قرا يلك أن يشفع له إلى السلطان
وإرسال قوده وكتابه، فأجيب إلى ذلك.
وفي هذا الأيام حاري كرسجي بن أبي يزيد بن عثمان محمد بن قرمان صاحب
قونية، فانكسر محمد وانتزعت منه بلاده سوى قونية.
(3/55)
وفي ربيع الأول عزل حسن بن عجلان عن إمرة
مكة وقرر ابن أخيه رميثة بن محمد بن عجلان فبلغ ذلك ابن عجلان، فصادر
التجار المقيمين بمكة وأخذ منهم أموالاً عظيمة.
وفي صفر الموافق لتاسع بشنس من شهور القبط في وسط الربيع حدث بمصر برق
ورعد هائل لم يعهد مثله في هذا الزمان وأعقبه مطر كثير جداً بحيث سالت
الأودية سيلا كثيراً تغير منه ماء النيل.
وفيه أول ربيع الأول أنكر المؤيد على القضاة كثرة النواب فخففوا منهم
كثيراً، فاستقر للحنفي ستة وللشافعي أربعة عشرة بشرط أن لا يرتشوا.
وفيه قبض على آق بلاط نائب عينتاب وعلى شاهين الرزدكاش وسجنا بقلعة
حلب.
وفيه استقر محي الدين المدني الموقع في كتابة السر بدمشق وكان أقام
بالقاهرة مدة طويلة وباشر التوقيع بها، ثم نقل في هذا الشهر إلى دمشق.
وفيه أمر السلطان أستاداره ووزيره وناظر خواصه في مصادرة المباشرين
فصودروا على خمسين ألف دينار قررت عليهم على مراتبهم وشرعوا في
جبايتها.
وفيه ابتدئ بعمارة المدرسة المؤيدة داخل باب زويلة، وسببه أن المؤيد
كان حبس في خزانه شمائل أيام فتنة منطاش فنذر لئن الله نجاه وملكه
القاهرة أن يبني مكانها جامعاً يقام فيه ذكر الله فابتدأ في الوفاء
بنذره، فأول شيء بدأ به أخذ القيسارية المعروفة بسنقر الأشقر مقابل سوق
الفاضل فنزل التاج الوالي وجماعة من أرباب الدولة وابتدئ بالهدم فيها
وما بجوارها وانتقل السكان بها، فلما كان في الرابع من
(3/56)
جمادى الآخرة ابتدئ بحفر الأساس وشرع في
العمل وقرر الأمير ططر شادا على العمارة وبهاء الدين ابن البرجي الذي
كان محتسباً مرة في النظر على العمارة المذكورة وكان صديق ططر فسعى له
في ذلك فاستمر.
وفي أواخر ربيع الأول قدم على المؤيد شمس الدين شمس بن عطاء الله
الرازي المعروف بالهروي وكان من أعوان تمر لنك، فأرسله إلى جهاته فخانه
فتهدده، ففر منه إلى بلاد الروم فالتمس من ابن قرمان أن يجمع بينه وبين
عالم بلادهم شمس الدين الغناري، فامتنع ابن قرمان من ذلك، وقال: هذا
رجل منسوب على العلم والغناري عالمنا فلا يسهل بنا أن يغلب عالمنا ولا
أن ينكسر خاطر هذا الغريب، فأكرمه بأنواع من الكرامات غير ذلك فصرفه عن
بلاده، فدخل الشام وحج ثم رجع إلى القدس فانتزع الصلاحية بعناية نوروز
من القمني واستمر بها مدرسا ثم سعى عليه القمني في دولة المستعين فعزل
واستقر القمني ولم ينفذ ذلك لغلبة نوروز على البلاد الشامية. فلما توجه
المؤيد إلى قتال نوروز لقيه الهروي فقرره في الصلاحية، ولما رجع إلى
القاهرة لقيه أيضاً فاستأذنه أن يحضر إلى القاهرة فأذن له فحضر، فخرج
إلى لقائه جماعة، وتعصب له كثير من مشايخ العجم، وشاع عنه أنه يحفظ
أثني عشرة ألف حديث، وانه يحفظ صحيح مسلم بأسانيده، ويحفظ متون
البخاري، فاستعظم الناس ذلك ودار القمني على الأمراء يلتمس أن يسألوا
المؤيد أن يحضر الهروي ويعقد له مجلسا بالعلماء ليظهر له أنه مزجي
البضاعة في العلم، فلم يزل يسعى في ذلك إلى أن أجاب السلطان، وكان
الهروي قد اجتمع به وأحضره المولد الخاص، وأرسل إلى القاضيين البلقيني
وابن مغلي، فتكلموا بحضرته ولم يمعنوا في ذلك وكان من جملة ما سأل
(3/57)
الهروي عنه حينئذ هل ورد النص على أن
المغرب لا تقصر في السفر؟ فقال: نعم، جاء ذلك من حديث جابر في كتاب
الفردوس لأبي الليث السمرقندي، فلما انفصلوا روجع البستان لأبي الليث
فلم يوجد فيه ذلك، فقيل له في ذلك فقال للسمرقندي بهذا الكتاب ثلاث
نسخ: كبرى ووسطى، وصغرى، وهذا الحديث في الكبرى ولم يدخل الكبرى هذا
البلاد فاستشعروا كذبه من يومئذ، وأنزله السلطان دارا حسنة بالقاهرة
ورتب له رواتب جليلة، وهاداه أهل الدولة فأكثروا من فاخر الثياب
وغيرها، فلما كان يوم الخميس ثامن عشر شهر ربيع الآخر، أحضر المؤيد
الهروي المذكور وأمر القضاة الأربعة ومشايخ الفنون من العلماء بالحضور،
وكان مجلساً حافلاً بالمنظرة التي داخل الحوش السلطاني، فكان أول شيء
سئل عنه الهروي على من سمع منه - صحيح البخاري، فاختلق في الحال إسناد
إلى أبي الوقت، زعم أن أباه حدثه عن شيخ يقال له أحمد بن عبد الكريم
البوشنجي، عاش مائة وعشرين سنة عن آخر يقال له أبو الفح الهروي عاش
أيضا مائة وعشرين سنة عن أبي الوقت، فقال له كاتبه: أولادنا يرون
الصحيح إلى أبي الوقت بمثل هذا العدد برجال أشهر من هؤلاء وكان المذكور
قد ضبط عنه الرحالة أول ما قدم بيت المقدس منهم صاحبنا الحافظ جمال
الدين محمد بن موسى المراكشي ثم المكي أنه يروي الصحيح
(3/58)
عن علي بن يوسف بن عبد الكريم عن ناصر
الدين محمد بن إسماعيل الفارقي عن ابن أبي الذكر الصقلي عن الزبيدي عن
أبي الوقت وهذا الإسناد أيضاً أظنه مما اختلق بعضه، وذلك أن الكرماني
الذي شرح البخاري هو محمد بن يوسف بن عبد الكريم وهو ذكر في مقدمة شرح
البخاري أنه سمع الصحيح من جماعة منهم الفارقي المذكور بالإسناد
المذكور، فأن كان الهروي صادقاً فيكون أخذه عن أخيه على إن كان
للكرماني أخ اسمه علي، ثم قال بعض خواص السلطان: ينبغي أن يفتح السلطان
المصحف فأول شيء يخرج يقع الكلام فيه، فأحضر مصحف فتناوله السلطان بيده
وفتحه فخرج قوله تعالى: " لو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من
دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى " الآية، فتكلموا في معاني لو فبدر من
الشيخ همام الدين الخوارزمي شيخ الخانقاه الجمالية وكان قد حضر مع
الهروي حمية له لأنه كان يذكر أن الهروي قرأ عليه، وكان الهروي قد
صاهره على ابنته، فتعصب الهمام للهروي على البلقيني، وكان غرضهم إذا
أغضبوه يتغير مزاجه لما عرفوا من سرعة انفعاله وعدم صبره على الضيم
فتواصوا على أن يغضبوه، فكلمه الهمام بكلام أزعجه فقال: مثلك يقول
لمثلي هذا! فقال: نعم، أنا أفضل منك، ومن كل شيء، فبدر كاتبه فقال
(3/59)
له: يا شيخ! هذا الإطلاق كفر، فجحد أن يكون
قال ذلك وكان السلطان قد سمعه لأنه كان جالساً إلى جانبه، فأظهر مع ذلك
انزعاجاً على كاتبه لكونه خالفه، فقال: أنشد الله رجلا سمع ما سمعت إلا
شهد به فشهد! تقي الدين
الجيني وآخر، فقال: ما قصدت بهذا الإطلاق إلا الحاضرين، فقيل له: إذا
سلم ذلك ففيه دعوى عريضة، وإساءة أدب واشتد انزعاج البلقيني من ذلك حتى
قال: ما أساء أحد علي الأدب منذ بلغت الحلم مثل اليوم. وصار لا ينتفع
بنفسه بقية ذلك اليوم فتم لهم ما أبرموه إلا أنهم خذلوا بهذا السقطة،
وكانوا قد رتبوا مع الشيخ شرف الدين التباني على ما أخبر به بعد ذلك أن
يسأل الهروي في المجلس عن حديث الوضوء بالنبيذ ومن خرجه، فسأله عن ذلك
- مع أنه لا يتعلق بما كانوا فيه، فبادر أن قال: رواه الترمذي قال ثنا
هناد بن السري ثنا شريك ثنا أبو قرارة عن أبي زيد عن ابن مسعود رضي
الله عنه ورواه ابن ماجه قال ثنا العباس بن الوليد الدمشقي ثنا مروان
بن محمد ثنا قاسم بن عبد الكريم عن حنش الصنعاني عن ابن عباس عن عبد
الله بن مسعود، فقال له كاتبه: هذا الإسناد الذي سقته لابن ماجه غلط،
وليس في ابن ماجه، ولا غيره من الكتب الستة أحد اسمه قاسم بن عبد
الكريم، وأيضا فليس في سياق ابن ماجة أن الحديث لابن عباس عن ابن
مسعود، وليس لفظه مطابقاً للفظ سياق الترمذي، فقال الهروي: فما هو
الصواب في هذا الإسناد؟ فقال له: يكتب ما قلت وأنا أبين موضع الغلط
ويحضر ابن ماجه، فإن كان كما قلت وإلا تبين خطاءك فلم يجسر أحد أن يكتب
ذلك حتى أشار السلطان إلى تقي الدين الجيني فكتب ذلك، فظهر الصواب مع
كاتبه فسقط عليه راو وأبدل وأحدا بآخر، والساقط ابن لهيعة شيخ مروان بن
محمد، والمبدل قيس بن الحجاج فجعله الهروي قاسم بن عبد الكريم، ووضحت
مجازفة الهروي
(3/60)
حينئذ، ومال السلطان إلى كاتبه وصار يغمزه
بعينه تارة ويرسل من يسر من خواصه أن لا تترك منازعة الهروي، فقوي عليه
بذلك وقال حينئذ: يا شيخ شمس الدين! أنت تدعي أنك تحفظ اثني عشر ألف
حديث وقد ارتاب من بلغه عنك ذلك في صحته، وأنا أمتحنك بشيء واحد وهو أن
تسرد لنا في هذا المجلس اثني عشر حديثا من كل ألف حديث حديثاً واحداً
بشرط أن تكون هذه الأحاديث متباينة الأسانيد، فإن أمليتها علينا إملاء
أو سردتها سرداً أقررنا لك بالحفظ وإلا ظهر عجزك، فقال: أنا ما أستطيع
السرد ولكن أكتب فقال له الإملاء نظير الكتابة فقال: لا، إلا أنا أكتب،
فأحضر له في الحال دواة وورق، فشرع يكتب فلم يستتم البسملة إلا وهو
يرعد ولم يكتب بعدها حرفاً واحداً وقال: لا أستطيع أكتب إلا خالياً
فيأمر السلطان أن أختلي في بيت وأنت في بيت ويكتب كل من حفظه ما
يستطيعه، فمن كتب أكثر كان أحفظ، فقال له كاتبه: إنا لم نحضر لنتخاير
في سرعة الكتابة، مع أن شهرة كاتبه بسرعة الكتابة غير خفيه ولكن أراد
إظهار عجز الهروي عما ادعاه من الحفظ، والتمس منه أن يكتب في المجلس
حديثاً واحداً ليتبين للحاضرين خطاءه فيه فلم يستطع فضلا عن أن يمليه،
فطال الخطب في ذلك وكل أحد ممن يتعصب له يقصد ان ينصره بكلام وكل احد
ممن يتعصب عليه يدفع ما يقول للقائل، وكلما فترت همتهم في ذلك أو كادت
يرسل السلطان بعض خواصه لكاتبه يحدفه عليه إلى أن قرب وقت الصلاة
للظهر، وكان ابتداء الحضور ضحى النهار فقمنا إلى صلاة الظهر ثم تحولنا
إلى البستان على شاطئ البركة الكبرى، فقال السلطان للشيخ زين الدين
القمني: ما لك لم تتكلم في هذا المجلس مع الهروي؟ فقال: نعم، أتكلم معه
في مسائل الوضوء فإنه لا يعرف شيئاً، وشرع في خطابته على عادة شقاشقه
فلم ينجع شيئاً،
(3/61)
ومد السماط فأكل الجماعة ثم جيء بالحلواء
ثم بالفاكهة فقرأ قارئ " مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها
الأنهار أكلها دائم وظلها " - الآية. فقال الشيخ نور الدين البلواني
وهو ممن حضر المجلس: الظل لا يكون إلا عن ضوء والجنة لا شمس فيها ولا
قمر! فأجابه بعض الحاضرين وانجر الكلام إلى الحديث الذي أخرجه البخاري
ومسلم: سبعة يظلهم الله في عرشه يوم لا ظل إلا ظله - الحديث، فقال
كاتبه: هل فيكم من يحفظ لهذا السبعة ثامناً؟ فقالوا: لا، فقال: ولا هذا
الذي يدعي أنه يحفظ اثني عشر ألف حديث - وأشار، فسكت، فأعاد عليه فسكت،
فقال له بعضهم فهل: تحفظ أنت ثامنا؟ فقال: نعم: أعرف ثامنا وتاسعا
وعاشراً وأعجب من ذلك أن في صحيح مسلم الذي يدعي هذا الشيخ أنه يحفظه
كله ثامن السبعة المذكورين، فقيل له: أفدنا ذلك، فقال: المقام مقام
امتحان لا مقام إفادة وإذا صرتم في مقام الاستفادة أفدتكم
ثم جمع كاتبه بعد ذلك ما ورد في ذلك، فبلغوا زيادة على عشر خصال زائدة
على السبع المذكورة في الحديث المذكور، وكان أبو شامة قد نظم السبعة
المشهورة في بيتين مشهورين، فجمع كاتبه سبعة وردت في أسانيد جياد
فنظمها في بيتين، ثم جمع سبعة ثالثة بأسانيد فيها مقال ونظمها في بيتين
آخرين، وانقضى المجلس بصلاة العصر، فلما أرادوا القيام قال كاتبه
للسلطان: يا خوند! أدعي على هذا إن لي عنده دينا، فقال: ماهو؟ فقال:
اثنا عشر حديثاً، فتبسم وانصرفوا، فلما كاد كاتبه أن يخرج من باب الحوش
طلبه فعاد، فوجد السلطان قد قام ليقضي حاجته فوقف مع خواصه إلى أن
يحضر، فقال له كاتب السر: إن السلطان قال: قد استحييت من فلان كيف
يتوجه بغير ثواب! فقلت له: إن كان شيخ البيبرسية وانتزعها منه أخو جمال
الدين ظلما، فلما استتم كلامه حضر السلطان فأشار إلى كاتب السر أن يعلم
كاتبه بما تقرر من أمر البيبرسية فقال له ان السلطان قد اعاد اليك
مشيخة البيرسية فشكرت له ذلك ثم قلت له قررتني في مشيخة البيبرسية
ونظرها وعزل من هو مقرر فيها بحكم أنه انتزعها مني بغير حجة، فقال:
نعم، فأشهدت عليه بذلك من حضر، وفي غداة غد ليست بها خلعة وحضرتها وصرف
أخو جمال الدين منها، ثم عوض بعد سنتين مشيخة سعيد السعداء بعد موت
البلالي - كما سيأتي - بعناية الأمير ططر الذي ولى السلطنة في سنة أربع
وعشرين، وكان أخو جمال الدين قد استعان على كاتبه بتنبك يبق فاستعان
تنبك باقباي الدويدار الكبير وبططر المذكور وكلموا السلطان مرارا في
ذلك فامتنع، فلما أيسوا منه عدلوا إلى المخادعة، فلم يزل ذلك في نفس
ططر إلى أن قرر المذكور في الخانقاه السعيدية بعد موت البلالي وكفا
الله شره، وأما الهروي فإن طائفة من العجم، وغيرهم سعوا عند الأمراء،
وسألوا السلطان أن ينعم عليه بما ينجبر به خاطره وخاطر صهره، فأحضر يوم
الاثنين ثاني عشري ربيع الآخر وخلع عليه جبة بسمور وأركب فرسا مسروجاً
ورجع إلى منزله ومعه طائفة من الأمراء وغيرهم، وأشيع بأنها خلعة
استمرار تدريس الصلاحية، فسقط في يد القمني وانزعج من ذلك لأنه كان
أعظم الأسباب فيما وقع للهروي، وإنما سعى في ذلك لينتزع منه الصلاحية
لكونها كانت بيده قبل ذلك فدار على الأمراء وغيرهم فما أجيب إلى ذلك،
فلما يئس سأل أن يعوض عنها بسموح مركب في البحر لا يؤخذ منه على ما
يحضر فيها مكس، فكتب له بذلك واطمأنت نفسه واستمر يؤجرها هو بأجرة
بالغة في الزيادة لتتوفر دواعي التجار على ركوبها، فإذا وصلوا أخذ
المستأجر من التجار الأجرة مضاعفة بسبب رفع المكس، واستمر الهروي بعد
ذلك مقيما بالقاهرة إلى أن خرج صحبة ركاب السلطان إلى الشام فقرره في
نظر القدس والخليل زيادة على مشيخة الصلاحية كما سيأتي. م جمع كاتبه
بعد ذلك ما ورد في ذلك، فبلغوا زيادة على عشر خصال زائدة على السبع
المذكورة في الحديث المذكور، وكان أبو شامة قد نظم السبعة المشهورة في
بيتين مشهورين، فجمع كاتبه سبعة وردت في أسانيد جياد فنظمها في بيتين،
ثم جمع سبعة ثالثة بأسانيد فيها مقال ونظمها في بيتين آخرين، وانقضى
المجلس بصلاة العصر، فلما أرادوا القيام قال كاتبه للسلطان: يا خوند!
أدعي على هذا إن لي عنده دينا، فقال: ماهو؟ فقال: اثنا عشر حديثاً،
فتبسم وانصرفوا، فلما كاد كاتبه أن يخرج من باب الحوش طلبه فعاد، فوجد
السلطان قد قام ليقضي حاجته فوقف مع خواصه إلى أن يحضر، فقال له كاتب
السر: إن السلطان قال: قد استحييت من فلان كيف يتوجه بغير ثواب! فقلت
له: إن كان شيخ البيبرسية وانتزعها
(3/62)
منه أخو جمال الدين ظلما، فلما استتم كلامه
حضر السلطان فأشار إلى كاتب السر أن يعلم كاتبه بما تقرر من أمر
البيبرسية فقال له ان السلطان قد اعاد اليك مشيخة البيرسية فشكرت له
ذلك ثم قلت له قررتني في مشيخة البيبرسية ونظرها وعزل من هو مقرر فيها
بحكم أنه انتزعها مني بغير حجة، فقال: نعم، فأشهدت عليه بذلك من حضر،
وفي غداة غد ليست بها خلعة وحضرتها وصرف أخو جمال الدين منها، ثم عوض
بعد سنتين مشيخة سعيد السعداء بعد موت البلالي - كما سيأتي - بعناية
الأمير ططر الذي ولى السلطنة في سنة أربع وعشرين، وكان أخو جمال الدين
قد استعان على كاتبه بتنبك يبق فاستعان تنبك باقباي الدويدار الكبير
وبططر المذكور وكلموا السلطان مرارا في ذلك فامتنع، فلما أيسوا منه
عدلوا إلى المخادعة، فلم يزل ذلك في نفس ططر إلى أن قرر المذكور في
الخانقاه السعيدية بعد موت البلالي وكفا الله شره، وأما الهروي فإن
طائفة من العجم، وغيرهم سعوا عند الأمراء، وسألوا السلطان أن ينعم عليه
بما ينجبر به خاطره وخاطر صهره، فأحضر يوم الاثنين ثاني عشري ربيع
الآخر وخلع عليه جبة بسمور وأركب فرسا مسروجاً ورجع إلى منزله ومعه
طائفة من الأمراء وغيرهم، وأشيع بأنها خلعة استمرار تدريس الصلاحية،
فسقط في يد القمني وانزعج من ذلك لأنه كان أعظم الأسباب فيما وقع
للهروي، وإنما سعى في ذلك لينتزع منه الصلاحية لكونها كانت بيده قبل
ذلك فدار على الأمراء وغيرهم فما أجيب إلى ذلك، فلما يئس سأل أن يعوض
عنها بسموح مركب في البحر لا يؤخذ منه على ما يحضر فيها
(3/63)
مكس، فكتب له بذلك واطمأنت نفسه واستمر
يؤجرها هو بأجرة بالغة في الزيادة لتتوفر دواعي التجار على ركوبها،
فإذا وصلوا أخذ المستأجر من التجار الأجرة مضاعفة بسبب رفع المكس،
واستمر الهروي بعد ذلك مقيما بالقاهرة إلى أن خرج صحبة ركاب السلطان
إلى الشام فقرره في نظر القدس والخليل زيادة على مشيخة الصلاحية كما
سيأتي.
وفي هذه السنة قبض اقباي الدويدار على الشيخ شرف الدين التباني بسبب
الكسوة التي عملت في هذه ألسنة وأغرمه مالا كثيراً باع فيه دار قد
استجداها في دول المؤيد، وعزل عن نظر الكسوة، ورد السلطان أمرها إلى
ناظر الجيش علم الدين ابن الكوير، وأمده بألف دينار مضافا إلى ما يتحصل
من وقفها، فعملت في السنة المقبلة فجاءت في غاية الحسن وفي جمادى
الأولى عصى قانباي على السلطان وزين له الشيطان أن يستبد بالملك وكان
السلطان لما بلغه طرف من ذلك عزله من نيابة الشام وقرر فيها الطنبغا
العثماني، وفي أثناء ذلك في رجب عثر بالقاهرة على كتاب من قانباي على
جانبك الصوفي فأحضر جانبك وسئل عن ذلك فأنكر، فعوقب عقوبة عظيمة وعصرت
رجلاه ليقر على من وافق قانباي على العصيان والمخامرة، واستقر الطنبغا
القرمشي أميراً كبيراً عوضاً عن العثماني، واستقر تاني بك ميق أمير
أخور عوضاً عن القرمشي واستقر سودون قرا صقل حاجب الحجاب عوضاً عن
سودون القاضي، واستقر سودون القاضي رأس نوبة عوضاً عن سنقر، وأرسل إلى
قانباي
(3/64)
جلبان أمير أخور لإحضاره إلى القاهرة
واستقراره بها أميرا، فوصل جلبان في أول جمادى الآخرة وبلغه الرسالة
فأظهر الامتثال وأخذ في نقل حريمه من دار السعادة إلى بيت الغرس
الأستادار بطرف القبيبات فبينا جلبان المذكور ومعه أرغون شاه وتنبغا
المظفري، ومحمد بن منجك ويشبك الأتمشي يسيرون تحت القلعة إذ وصل يلبغا
كماج الكاشف إلى داريا فخرج قانباي فاتفقا على محاربة المؤيدية، فبلغهم
ذلك
(3/65)
فتأهبوا للحرب، ثم وقع القتال من بكرة
النهار إلى العصر، فانهزم المؤيدية، ومروا على وجوههم إلى صفد، واستمر
محمد بن منجك في هزيمته إلى القاهرة، ودخل قانباي دمشق فنزل دار
السعادة وحاصر القلعة وتراموا بالسهام والمجانيق فاستظهروا عليه فتحول
إلى خان السلطان، ووصل طرباي نائب غزة مطاوعاً له على العصيان وانضم
اليه ثاني بك البجاسي نائب حماه وسودون الدجي بن عبد الرحمن نائب
طرابلس وجماعة وكاتب نائب حلب اينال الصصلاي فوافقه على العصيان أيضاً
وخرج في عسكره من حلب لملاقاته، فخرج قانباي بمن أطاعه إلى جهة حلب،
ولما بلغ قانباي خروج المؤيد إلى حربه توجه إلى جهة حلب - من طريق
البرية وكان نائب حماة لما أظهر العصيان اتفق أنه خرج إلى المعرة فلما
أراد دخول حماة منعه أهلها، فلما وصل قانباي إلى تلك الجهة انضم
واجتمعوا كلهم بحلب، وكان شاهين الدويدار بحلب خالف إينال الصصلاي في
العصيان، وطلع إلى القلعة وحصنها واجتهد في قتال المخالفين، فحاصرهم
إينال نحو شهرين ونصف، فبلغ الطنبغا العثماني الذي استقر نائب الشام
خبر قانباي ومن معه فتوجه إلى جهتهم ومعه العسكر المندوب من القاهرة
والذين كانوا انهزموا إلى صفد إلى أن وصلوا برزة،
(3/66)
فوجدوا قانباي قد تقدم فتبعوه فأخذوا من
ساقته أغناما ووصل قانباي إلى سلمية في سلخ رجب، ثم رحل من حماة في
ثاني عشر شعبان فوافاه إينال نائب حلب وسودون ابن عبد الرحمن نائب
طرابلس وكثر جمعهم، ووصل إلى القاهرة محمد ابن إبراهيم بن منجك في ثالث
عشري رجب فحقق للسلطان عصيان قانباي وأخبره بالوقعة التي انهزم هو فيها
منه، فلم يكذب السلطان خبراً وأصبح منزعجاً فأنفق في العسكر وعين من
يسافر معه منهم، وأعفي القضاة والخليفة من السفر معه لكن سار معه
القاضي الحنفي ناصر الدين ابن العديم باختياره، وسار جريدة بعد وصول
ابن منجك بأيام يسيرة وذلك في ثاني عشري رجب، وقرر نيابة الغيبة ططر
وقرر سودون قرا صقل حاجب الحجاب وقطلوبغا التيمي نائب القلعة وعزل ابن
الهيصم عن الوزارة في تاسع عشر رجب وشغرت الوزارة فقرر أبوكم في نظر
الدولة ليسد المهمات في غيبة السلطان بمراجعة الأستادار.
واستمر السلطان في سفره فدخل دمشق في سادس شعبان وكان قد دخل غزة وخرج
منها في يومه ثم خرج من دمشق في ثامن شعبان، فلما كان في ثاني عشر
شعبان قبل أن يصل السلطان بعسكره التقى عسكر قانباي وإينال ومن معهما
وعسكر السلطان فالتقى العسكران فانكسر قانباي الدويدار وأسرهم وجماعة
من العسكر وانهزم بعضهم فاتفق موافاة السلطان صبيحة ثاني يوم الوقعة
وقد نزل العسكر واستغلوا بالنهب واطمأنوا، فطلعت أعلامه عليهم من وراء
أكمة فولوا
(3/67)
الأدبار ولم يلو أحد على أحد، فقبض
المأسورون في الحال على من أسرهم واستعادوا ما نهب منهم ورجع الناهب
منهوباً والغالب مغلوباً وأسر إينال الصصلاي وشرباش كباشة وتمنتمر
واقبغا النظامي وجماعة، واستمر السلطان على حلب والأسارى بين يديه مشاة
في الأغلال والقيود فطلع القلعة، واستمر قانباي في هزيمته إلى جهة
اعزاز فلقيه بعض التركمان فآمنه وأنزله عنده، ثم غدر به وقبض عليه
وأحضره إلى السلطان فأمره به وبإينال الصصلاي وبكباشة وتمنترا فقتلوا
وأرسلت رؤسهم إلى القاهرة فعلقت على باب زويلة ثم أرسل بها إلى
الإسكندرية فطيف بها، وفر سودون بن عبد الرحمن وطرباي وغيرهما فنجوا في
هزيمتهم وقرر السلطان اقباي الدويدار في نيابة حلب وجار قطلي في نيابة
حماة ويشبك الشربخاناه في نيابة طرابلس، وفي مدة إقامة السلطان بحماة
قدم عليه أبو يزيد بن قرا يلك بهدية من أبيه وتهنئة له بالنصر على
أعدائه فأكرم مورده ورده إلى أبيه ومعه هدية مكافأة على هديته.
وفيها فر كزل نائب ملطية إلى التركمان خوفا من السلطان لأنه كان قد
وافق قانباي على العصيان عليه، وعزم السلطان على الإقامة بحماة بقية
السنة لحسم مادة الفتن وللقبض على من تسحب من النواب الذين خامروا وهم
كزل نائب ملطية وسودون بن عبد الرحمن نائب طرابلس وطرباي نائب غزة، ثم
فتر عزمه عن الإقامة وأرسل طوغان نائب صفد إلى القاهرة على تقدمة ألف
وأذن له في سفر البحيرة ليحصل شيئاً يكون عوناً له على تجديد ما نهب له
في الوقعة، وكانت الوقعة في رابع عشر شعبان، واستمر المؤيد يقفو أثر
المهزمين إلى قلعة الأمارب فبات بها ثم أصبح فدخل إلى حلب وأقام بحلب
إلى ثاني عشر شوال
(3/68)
ثم رجع إلى القاهرة فدخلها في ثاني عشري ذي
القعدة.
وفي رمضان في ليلة الجمعة ثالثه أخذ رجل سكرانا وهو يشرب الخمر
بالنهار، فضرب الحد وطيف به، فثار به عامة الصليبة فقتلوه ثم أججوا
ناراً فألقوه فيها حتى مات حريقاً.
وفي شوال ليالي توجه الحاج ابتدأ الغلاء العظيم بالقاهرة مع وجود
الغلال وزيادة الماء وكثرة الزرع وكان أول السنة في الغلال من الرخص
شيء عجيب بحيث أن القمح الذي هو في غاية الجودة لا يتجاوز نصف دينار كل
إردب ودونه قد يبتاع بالدينار ثلاثة أرادب وذلك في كثير من الأوقات،
وأعظم الأسباب في هذا الغلاء كثرة الفتن بنواحي مصر من العرب وخروج
العساكر م مرة بعد مرة ففي كل مرة يحصل الفساد في الزروع ويقل الأمن في
الطرقات فلا يقع الجلب كما كان.
وفي أواخر ذلك توجه الأستادار لدفع العرب المفسدين في وقت قبض المغل
فعاث من معه في الغلال وأفسدوا وعادوا واتفق وقوع القحط بالحجاز والشام
فكثر التحويل في الغلال إلى النواحي من أراضي مصر وصعيدها، واتفق أن
بعض الناس ممن له أمر مطاع في غيبة السلطان أراد التجارة في القمح فصار
يحجر على من يصل لشيء منه أن يبيعه لغيره فعز الجالب فرارا منه فوقع في
البلد تعطيل في حوانيت الخبازين، ووقع الفساد من ذلك قليلاً قليلاً
بحيث لا ينتبه له إلى أن استحكم فبلغ الإردب من القمح إلى ثلاثمائة
وكذلك الحمل من التبن، وتزاحم الناس على الخبز في الأسواق إلى أن فقد
من الحوانيت وصار الذي من شأنه أن يكتفي بعشرة أرغفة لو وجد مائة
لاشتراها لما قذف في قلوبهم من خشية فقده وصار من عنده شيء من القمح
يحرص على أن لا يخرج منه شيئاً خشية أن لا يجد بدله فتزاحم الناس على
الأفران إلى أن قفلت صاروا يبيعوه من الأسطحة وآل الأمر إلى أن فقد
القمح وبلغ الناس الجهد وانتشر الغلاء في قبلي مصر وبحريها،
(3/69)
واتفق أن الوجه البحري كان مقلا من الغلال
بسبب الفأر الذي تسلط على الزرع في هذا السنة فاحتاجوا على جلبه من
الصعيد، وأمسك أهل الصعيد أيديهم عن البيع لما بلغهم من منع المحتسب من
الزيادة في السعر فاشتد الأمر وعم البلاء ولما رأى التاج الوالي وهو
المحتسب يومئذ ذلك استعفى من الحسبة فقرر نائب الغيبة فيها القاضي شمس
الدين محمد ابن يوسف الحلاوي في العشرين من شوال فباشر أياماً قلائل
فلما أهل ذو القعدة تزايدت الأسعار واشتد الزحام بالأفران فخشي المحتسب
على نفسه فاستعفى، وأعيد أمر الحسبة إلى الوالي وهو التاج الشوبكي وذلك
في حادي عشر ذي القعدة وقد امتدت الأيدي للخطف، واجتمع ملا يحصى ببولاق
لطلب القمح، وتعطل غالب الأسواق من البيع والشراء بسبب اشتغالهم في
تحصيل القوت، لأن بعضهم كان يتوجه إلى الأفران من نصف الليل ليحصل له
من الخبز، وبعضهم يتوجه إلى السواحل ليحصل له شيء من القمح فمنهم من
يجده ومنهم من يرجع خائباً، فقلت أصناف المآكل وعظم الخطب وصارت
المراكب من القمح إذا وصلت إلى الساحل تربط في وسط النيل خشية من النهب
بالساحل ويتوجه الناس افي الشخاتير ليشتروا منها، ثم وقع التحجير على
من يشتري زيادة على إردب وصار معظم الواصل يقسم على الطحانين ليطحنوه
للفرانين ويحمل إلى حوانيت الخبازين، ومع ذلك فالزحام عليه شديد حتى
مات جماعة من الزحمة وغرق جماعة في البحر عند التوجه إلى المراكب
الواصلة، وخرج الناس في ثامن عشر ذي القعدة إلى الصحراء يستكشفون هذا
البلاء ومقدمهم
(3/70)
القاضي جلال الدين البلقيني فوقفوا قريباً
من قبة النصر فضجوا ودعوا بغير صلاة، وأتفق أن القاضي واجه التاج
الوالي فأشار عليه أن يختفي خشية عليه مما اتفق لابن النشو بدمشق في
آخر القرن الماضي على تقدم شرحه لأن الألسنة كانت انطلقت في حقه أن سبب
الغلاء منه فرجع مختفياً، ورجع بعد ذلك الموقف وقد تيسر وجود الخبز
قليلاً ثم فقد أشد مما تقدم فركب التاج الوالي إلى البلاد القريبة
وتتبع مخازن القمح وألزم أصحابها بالبيع وقسم على الطحانين مقادير
احتياجهم، فبلغت البطة الدقيق مائة درهم وزاد الأمر فانتهت إلى مائتين
وبلغ القمح إلى ثلاثمائة درهم كل إردب، وبلغ الفول إلى ثلاثمائة،
والأرز إلى ألف وثمانين، وتزايد في غضون هذه الأيام سعر الذهب إلى أن
بلغ الهرجة مائتين وثمانين كل مثقال، وندب نائب الغيبة إلى كل فرن
طائفة من الترك لمنع من ينهب وقعد حاجب الحجاب بنفسه على بعض الأفران
واجتهد في ذلك حتى رأى الخبز على الحوانيت، وكان من اللطف الخفي في هذه
المدة طلوع الزرع فاستغنى الناس لبهائمهم بالربيع ثم استغنوا لأنفسهم
بأكل الفول الأخضر ثم فريك الشعير، وخرج الناس من ابتداء ذي الحجة
أفواجا أفواجاً إلى الأرياف، ثم استشعر من عنده قمح من أهل الحصار
والصعيد.........فأطلقوا أيديهم في البيع وكثر الجلابة من التجار فكثر
الوصل، ومع ذلك فالغلاء مستمر والطالب للقمح غير قليل.
وفي هذا السنة قدم فخر الدين ابن أبي الفرج من بغداد فالتقى بالسلطان،
فأكرمه وعفا عنه ذنبه الماضي وولاه كشف الشرقية والغربية والبحيرة
وقطيا، فقدم القاهرة في أواخر شوال وأقام بها قليلاً وخرج إلى عمله
ليحصل الأموال على عادته، وخرج السلطان من حلب في أوائل ذي القعدة وقبض
على سودون القاضي وسجنه بدمشق، واستقر بردبك عوضه رأس نوبة،
(3/71)
وخرج إبراهيم ولد السلطان من القاهرة
لملاقاة أبيه في أواخر ذي القعدة وصحبته كزل العجمي وغيره، ووصل
السلطان إلى سرياقوس في نصف ذي الحجة فعمل هناك وقتا حافلاً بالقراء
والسماع على العادة وهب الصوفية الخانقاه شيئاً كثيراً، وأصبح في
السادس عشر فنزل الريدانية بكرة ومد السماط هناك وخلع على من له عادة
بذلك وطلع القلعة من يومه، ونودي من الغد بالأمان وأن لا يتكلم أحد في
سعر الغلال فإن الأسعار بيد الله ومن زاحم على الأفران فعل له كذا
وكذا، وتصدى للنظر في أمر القمح بنفسه، وجهز مرجان الخازندار وعبد
الرحمن السمسار بمال جزيل إلى الصعيد ليشتروا بها قمحا ويحضرونه بسرعة
ليكثر بالقاهرة وتبطل المزاحمة على الخبز، وانسلخت السنة والأمر على
ذلك.
وفي خامس عشر ذي الحجة استقر جقمق الدويدار دويدار كبيراً عوضاً عن
اقباي، واستقر يشبك دويدار ثانيا موضع جقمق.
وفي آخر السنة نودي على الذهب أن يكون الهرجة بمائتين وخمسين بعد ما
كان بلغ مائتين وثمانين وشدد السلطان في ذلك وتوعد عليه.
واستقر إبراهيم المعروف بخرز في ولاية القاهرة عوضاً عن التاج ونقل
التاج إلى أستادارية الصحبة.
وفيها في صفر استقر رميثة بن محمد بن عجلان في إمرة مكة عوضاً عن عمه
حسن بن عجلان، فلم يتهيأ له الدخول إلى مكة إلا مع الحجاج، فدخلها في
ذي الحجة،
(3/72)
ونزع عنها حسن وأولاده، وحاشيته، فاستقر
أميراً بها إلى أن كان ما سنذكره في السنة الآتية.
وفيها في ربيع الآخر أهين ود والنصارى إهانة بالغة في استخراج الذهب
الذي قرر عليهم في وفاء الجزية الماضية ونالهم محمد الأعوان كلف كثيرة.
وفي هذه السنة كثر عبث العربان بالوجه القبلي والبحري، واشتد بأسهم
وثارت الأحامدة من عرب الصعيد وهم ناقلة من أراضي الحجاز من آل بلي
سكان دامة فما فوقها على جهة ينبع، فتحولوا إلى الصعيد الأعلى ونزلوا
فيه واتخذوه وطنا، ووثبوا على والي قوص فقتلوه وقتلوا خلقا معه.
وفيها في ربيع الآخر توجه تنبغا المظفري إلى دمشق فاستقر بها أميراً
كبيراً، ونقل طوغان من نيابة صفد إلى حجوبية دمشق، ونقل خليل الجشاري
من حجوبية دمشق على نيابة صفد، وكان المتوجه من القاهرة إينال الأزعري.
وفيه توجه محمد شاه بن قرا يوسف صاحب بغداد إلى ششتر فحاصرها وفيها
بقية آل أويس، فقاتلوه، ومنعوا البلد.
وفي جمادى الأولى استقر أقبردي المنقار في نيابة الإسكندرية عوضاً عن
صماي.
وفي ربيع الآخر توجه نائب حلب إينال الصصلاي ونائب طرابلس سودون
التركماني قبل المخامرة على جرائد الخيل في طلب كردي بن كندر التركماني
ففر منهم. فأخذوا
(3/73)
أعقابه واستولوا على كثير من أغنامه
وأبقاره، ثم توجهوا على قلعة دربشاك فحاصروها ثلاثاً فأخذوها، وفر عن
كردى أكثر أصحابه فتسحب على مرعش وانضم فارس بن مردخان ابن كندر.
وفيه توجه نائب ملطية كزل في طلب حسين بن كبك وأخيه سولو وكانا قد
نازلا حرباص من أعمال ملطية وأحرقاها فأدركهما فتحصنا بقلعة كركر، فقتل
من جماعتهما خلقا ورجع إلى ملطية فخرجا وجمعا عليه من التركمان
والأكراد جمعا كثيراً ورجعوا عليه فقاتلهم وهزمهم. وفيها سقطت دار من
الدور القديمة التي أخذت لتضاف إلى المدرسة التي ابتدأ السلطان في
إنشائها داخل بابي زويلة، فمات تحت الردم منهم أربعة عشر نفسا.
وفي جمادى الآخرة طرق سودون القاضي الجامع الأزهر، وهو يومئذ حاجب
الحجاب ونظر الجامع بعد عشاء الآخرة ومعه كثير من أعوانه، وكان بلغه
أنه حدث بالجامع من الفساد بمبيت الناس فيه مالا يعبر عنه، فأمر بعدم
المبيت فيه فلم يرتدعوا فطرقهم، فوقع من أعوانه النهب في الموجودين،
فامتنعوا بعد ذلك من المبيت، وأخرج بعد ذلك ما بالجامع من الصناديق
والخزاين للمجاورين لأنها ضيقت على المصلين.
وفيها في أولها كانت كائنة الشيخ سليم - وهو بفتح السين - وذلك أنه كان
بالجيزة بالجانب الغربي من النيل كنيسة للنصارى فقيل إنهم جددوا فيها
شيئاً كثيراً، فتوجه الشيخ سليم من جامع الأزهر ومعه جماعة فهدموها،
فاستعان النصارى بأهل الديوان من القبط فسعوا عند السلطان بأن هذا
الشيخ افتات على المملكة وفعل ما أراد بيده بغير حكم حاكم، فاستدعى
بالمذكور فأهين، فاشتد ألم المسلمين لذلك، ثم توصل
(3/74)
النصارى ببعض قضاة السوء إلى أن أذن لهم في
إعادة ما تهدم فجر ذلك لهم أن شيدوا ما شاؤا بعلة إعادة المنهدم الأول
فلله الأمر.
وفيها صرف حسين بن نعير عن إمرة العرب واستقر حديثه ابن سيف في إمرة آل
فضل فوقع بينهما حرب فغلب حديثه، وتوجه حسين إلى الرحبة فأفسد زروعها،
ثم التقيا في أواخر رجب فقتل حسين في المعركة وبعث برأسه إلى القاهرة.
وفيها قدم رسول كبير البنادقة من الفرنج إلى القاهرة بهدية من صاحبه
وكتاب، فعرب الكتاب، وقرئ على السلطان وقبلت الهدية وأمر السلطان
ببيعها وصرف ثمنها في العمارة التي أحدثها، وقرر لذلك كل هدية تصل من
كل جهة.
وفيها أوقع آل لبيد من عربان العرب الأدنى من نحو برقة بأهل البحيرة
بحري مصر، فكسروهم ونهبوا منهم زيادة على ثلاثة آلاف بعير وأضعافها من
الأغنام، وانهزم أهل البحيرة إلى الفيوم، ورجع أولئك وأيديهم ملأى من
الغنائم.
وفي رجب نقل سودون القاضي من الحجوبية فصار رأس نوبة كبير ونقل رأس
(3/75)
نوبة وهو تنبك بيق فصار أمير مجلس، واستقر
سودون قرا صقل حاجبا بدل سودون القاضي.
وفيها عزل صدر الدين العجمي عن نظر الجيش بدمشق وأهين وصودر، واستقر
ابن الكشك قاضي الحنفية في وظيفته.
ذكر من مات
في سنة ثماني عشرة وثمانمائة من الأعيان
إبراهيم بن بركة المصري سعد الدين ابن البشيري ولد في ذي القعدة سنة ست
وستين، وخدم لما ترعرع في بيت ناظر الجيش تقي الدين بن محب الدين، ثم
تنقل في الخدم عند الأمراء وغيرهم إلى أن ولي نظر الدولة، وباشر عند
جمال الدين واعتمد عليه في أمر الوزارة ثم استقل بالوزارة بعد جمال
الدين إلى أن قبض عليه في الدولة المؤيدة كما تقدم في سنة ست عشرة،
فلزم منزله إلى أن مات في صفر من هذه السنة، ولم يتفق له عند القبض أن
يضرب ولا مكنت منه أعداؤه، وكان جيد الإسلام، وهو الذي جدد الجامع
بالقرب من منزل سكنه ببركة الرطلي، وكان عارفا بالمباشرة، وسلك طريق
الوزراء السالفين من الحشمة الترتيب.
أحمد بن محمد بن أحمد عرندة، المحلى شهاب الدين الوجيزي الناسخ، ولد
سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة بالمحلة، ثم قدم القاهرة فحفظ الوجيز فعرف
به،
(3/76)
وأخذ عن علماء عصره، ولازم القاضي تاج
الدين السبكي لما قدم القاهرة، وكتب الكتب له ولغيره شيئاً كثيراً
جداً، وكان صحيح الخط ويذاكر بأشياء حسنة، ثم حصل له سوء مزاج وانحراف
ولم يتغير عقله وكان عارفاً بالحساب، مات في جمادى الأولى.
اسنبغا الزردكاش، كان أصله من أولاد حلب فباع نفسه ويسمى اسنبغا، وتوصل
إلى أن خدم الناصر فحظي عنده وارتفعت منزلته حتى زوجه أخته واستنابه
لما خرج إلى السفرة التي قتل فيها، فجرى من اسنبغا ما تقدم شرحه إلى أن
قبض عليه وحبس بالإسكندرية فقتل بها؛ قال العينتابي: كان ظالماً غاشماً
لم يشتهر عنه إلا الشر.
إينال بن عبد الله الصصلاي، كان من الظاهرية تنقل في الخدم إلى أن ولي
الحجوبية الكبرى بالقاهرة، وكان ممن انضم إلى شيخ فولاه نيابة حلب في
شوال سنة ست عشرة وكان ممن حاصر معه نوروز إلى أن قتل نوروز ورجع إلى
ولايته بحلب، وكان شكلاً حسنا عاقلا شجاعا عارفا بالأمور قليل الشر، ثم
كان ممن عصى على المؤيد هو وقانباي نائب الشام ونائب طرابلس ونائب
حماة، فآل أمرهم إلى أن انهزموا وأسروا، وقتل إينال بقلعة حلب في شعبان
من هذه السنة، ورأيت الحلبيين يثنون عليه كثيراً، ولما خامر على المؤيد
لم يحصل لأحد من أهل بلده منه شر بل طلب أخذ القلعة فعصى عليه نائبها
فحاصره أياماً ثم تركه وتوجه إلى الشام - ذكره القاضي علاء الدين في
ذيل تاريخه -.
(3/77)
أيوب بن سعد بن علوي الحسباني الباعوني
الدمشقي، ولد سنة تسع وأربعين، وحفظ التنبيه وعرضه على ابن حملة
وطبقته، وأخذ عن العماد الحسباني وذويه، ثم فتر عن الطلب واعتذر بأنه
لم تحصل له فيه نية خالصة، وكان ذا أوراد من تلاوة وقيام وقناعة
واقتصاد في الحال وفراغ عن الرئاسة مع سلامة الباطن، مات في صفر.
حاجي بن عبد الله زين الدين الرومي، المعروف بحاجي فقيه شيخ التربة
الظاهرية خارج القاهرة، كان عريا من العلم إلا أن له اتصالاً بالترك
كدأب غيره، مات في شوال، واستقر في مشيختها الشيخ شمس الدين البساطي
بعناية الأمير ططر نائب الغيبة، وكان السبب في ذلك أن نائب الغيبة كان
لا يحب القاضي جال الدين البلقيني فاتفق أن البلقيني أفتى فتيا فخالفه
فيها كاتبه، والبساطي المذكور، فنم إليه بعض أهل الشر بذلك، فوقف على
ما كتبناه وتغير منه واحتشم مع كاتبه، وتقوى على جانب البساطي لضعفه إذ
ذاك فأرسل وأحضره فأسمعه ما يكره وبالغ في إهانته، فخرج وهو يدعو عليه
فطاف على من له به معرفة يشكوه، فبلغ ذلك الأمير ططر فغضب من ذلك،
واتفق موت حاجي فقيه فعينه في المشيخة مراغما للبلقيني، ولم يستطع
البلقيني تغيير ذلك بل
(3/78)
استدعى البساطي المذكور وأظهر الرضا عليه
وخلع عليه فرجية صوف من ملابسه واسترضاه لما علم من عناية الأمير ططر
به فالله المستعان.
خلف بن أبي بكر، النحريري المالكي، أخذ عن الشيخ خليل في شرح ابن
الحاجب، وبرع في الفقه، وناب في الحكم، وأفتى ودرس، ثم توجه إلى
المدينة فجاور بها معتنياً بالتدريس، والإفادة، والانجماع والعبادة إلى
أن مات بها في صفر عن ستين سنة.
دمرداش المحمدي الظاهري، كان من قدماء مماليك الظاهر، ولما جرت فتنة
منطاش كان خاصكيا، وكان معه في الوقعة ففر مع من انهزم إلى حلب، فلما
استقرت قدم الظاهر في السلطنة حضر فولاه نيابة طرابلس، ثم نقله إلى
الأتابكية بحلب فأقام مدة، ثم ولاه نيابة حماة، ثم مات الظاهر وهو
نائبها فحاصره تنم لما أراد أن يتسلطن فأطاعه ووصل صحبته إلى غزة ففر
إلى الناصر، فولاه نيابة حلب بعد قتل تنم، وذلك في رمضان سنة اثنتين
وثمانمائة، ففي تلك السنة غزا التركمان فكسروه، الكسرة الشنيعة، ثم كان
من شأن اللنكية ما كان فيقال إنه باطنهم وفي الظاهر حاربهم وانكسر، ثم
أمسكه اللنك من القلعة واستصحبه إلى الشام بغير قيد ولا إهانة، فلما
قرب من الشام هرب إلى الناصر، ثم لما فر الناصر ومن معه من اللنكية
توجه هو إلى جهة حلب، فلما نزح اللنك ومن معه دخل دمرداش إلى حلب في
جمع جمعه، وذلك في شعبان سنة ثلاث فأقام حاكما بحلب، فولى الناصر دقماق
نيابة حلب فواقع دمرادش ففر إلى التركمان، ثم وبعد مدة ولاه الناصر
نيابة طرابلس فاستمر بها إلى سنة ست، ثم نقله إلى نيابة حلب في رمضان
منها، ثم واقعة جكم في سنة سبع فانهزم إلى إياس، ثم ركب البحر ووصل إلى
القاهرة، ثم نكص راجعاً إلى التركمان، ثم هجم على حلب بغتة فاستولى
عليها في سنة ثمان، ثم أخرجه منها نوروز فتوجه إلى حماة فهجم عليها
بغتة، ثم أخرج منها فتوجه إلى دمشق فأقام عند نائبها شيخ الذي تسلطن
بعد ذلك،
(3/79)
ثم كان معهم في وقعة السعيدية ووجه نائباً
بحلب من قبل الناصر، ودخل الناصر إلى حلب سنة تسع وهو في خدمته، ثم رجع
إلى مصر واستصحبه وقرر في نيابة حلب فأخرجه منها شيخ ففر إلى أنطاكية،
فلما توجه الناصر في طلب شيخ فر منه إلى الأبلستين، فسار دمرداش في
خدمة الناصر إلى أن قرره بمصر أتابكا، ثم كان في خدمة الناصر إلى أن
حضر بدمشق فاستأذنه في أن يتوجه إلى جهة حلب ويجمع له عسكراً كثيراً
فأذن له فتوجه إلى حلب فلما بلغه قتل الناصر واستقرار نوروز بالمملكة
الشامية خرج من حلب لما بلغه توجه نوروز إليها فوصل إلى قلعة الروم
فأقام بها، فلما بلغه سلطنة شيخ وأظهر نوروز مخالفته مال أولاً إلى
نوروز وكاتبه أن يقرره في نيابة حلب ففعل، وبها يومئذ من جهته يشبك بن
أزدمر، فوردت مكاتبات المؤيد لمن بحلب أن تعانوا دمرداش على الركوب على
ابن أزدمر، ففعلوا وكسروا، وذلك في ذي الحجة سنة خمس عشرة، ودخل دمرداش
إلى حلب حاكما، ووصلت إليه الخلعة من مصر، ثم بلغه في صفر سنة ست عشرة
خروج نوروز من دمشق طالباً البلاد الحلبية فتوجه نحو العمق، فدخل نوروز
إلى حلب في صفر وقرر فيها طوخ نائبا ورجع نوروز إلى صفد فحاصره دمرداش
فاستنصر طوخ بالعرب فنكص دمرداش إلى العمق، ثم كانت بينه وبين طوخ وقعة
عظيمة انكسر فيها دمرداش، وذلك في ربيع الآخر سنة ست عشرة، وفر دمرداش
إلى أنطاكية وغيرها، ثم ركب البحر إلى القاهرة فتلقاه المؤيد بالإكرام
وأعطاه تقدمة، وكان قرقماش وتغرى بردى ابنا أخي دمرداش صحبة المؤيد لما
دخل مصر، فأعطى كل منها تقدمة وولي قرقماش نيابة الشام فخرج هو وأخوه،
ثم رجع من غزة وأقام هناك، فجهز المؤيد عسكرا إلى الإيقاع بالعرب وتقدم
إليهم بالقبض على تغرى بردى في وقت عينه لهم، ثم قبض هو على دمرداش
وقرقماش في رمضان سنة سبع عشرة واعتقلهما بالإسكندرية، وكانت وفاة
دمرداش بها في المحرم سنة ثماني عشرة؛
(3/80)
وكان دمرداش مهيباً عاقلاً مشاركاً في عدة
مسائل كثير الإكرام لأهل العلم والعناية بهم، اجتمعت به فوجدته يستحضر
كثيراً من كلام الغزالي وغيره، قال القاضي علاء الدين الحلبي في
تاريخه: كان لا يواجه أحدا بما يكره، وقد بنى جامعا بحلب ووقف عليه
أوقافا كثيرة، وله زاوية بظاهر طرابلس لها أوقاف كثيرة، وهذا بخلاف قول
العينتابي: ليس له معروف.
طوغان الحسيني قتل بمحبسه بالإسكندرية في المحرم، وكان أصله من جلبان
الظاهر برقوق ثم ترقى إلى أن ولي الدويدارية الكبرى للناصر ثم المستعين
ثم المؤيد، ثم قبض وحبس كما تقدم في الحوادث وخلف أموالاً جمة، وهو
صاحب الصهريج والسبيل في رأس حارة برجوان.
عبد الله بن أبي عبد الله الفرخاوي جمال الدين الدمشقي، عني بالفقه
والعربية والحديث ودرس وأفاد، وكان قد أخذ عن العنابي فمهر في النحو،
وكان يعتني بصحيح مسلم ويكتب منه نسخا، وقد سمع من جماعة من شيوخنا
بدمشق، وفرخا - بالفاء والخاء المعجمة المفتوحتين بينهما راء ساكنة -
قرية من عمل نابلس، مات في عمل الرملة في ...
عبد الله بن أبي عبد الله العرجاني الدمشقي - بضم المهملة وبعد الراء
جيم، كان من أتباع الشيخ أبي بكر الموصلي، ونشأ في صلاح وعبادة، وكان
سريع الدمعة، وعنده نوع من الغفلة وخشوع وسرعة بكاء، وباشر أوقاف
الجامع الأموي مدة، ولكن لم يعرف شيئاً
(3/81)
من حاله، مات راجعاً من الحج بالمدينة
النبوية، ويقال إنه كان يتمنى ذلك، وقد غبطه الناس ببلوغ أمنيته في
موطن منيته، وذلك في ذي الحجة، رحمه الله تعالى.
علي بن أحمد بن علي بن سالم، الزبيدي موفق الدين، أصله من مكة، ولد بها
سنة سبع وأربعين، وعني بالعلم وبرع في الفقه والعربية، ودخل إلى مصر
والشام وأخذ عن جماعة ثم رجع إلى مكة، وتحول إلى زبيد فمات بها في ذي
القعدة.
قانباي كان من مماليك ... وتنقلت به الأحوال إلى أن قدم مع المؤيد في
سنة خمس عشرة، واستقر دويداراً كبيراً ثم نقل إلى نيابة الشام كما تقدم
في سنة سبع عشرة وثمانمائة ثم عصى كما في شرح الحوادث، فلما هزم هو ومن
معه فر إلى شمالي حلب فنزل عند بعض التركمان فغدر به وأحضره إلى
السلطان في رابع عشر شعبان، وكان حسن الصورة جميل الفعل، بنى برأس
سويقة الغربي مدرسة، فقرر بها مدرسين للشافعية والحنفية، ووقف لها
وقفاً جيداً.
محمد بن أحمد بن محمد بن جمعة بن مسلم الدمشقي الصالحي الحنفي عزيز
الدين المعروف بابن خضر، ولد سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة، واشتغل ومهر،
وأذن له في الإفتاء، وناب في الحكم، وصار المنظور في أهل مذهبه بالشام،
مات في شوال.
(3/82)
محمد بن جلال بن أحمد بن يوسف، التركماني
الأصل شمس الدين ابن التباني الحنفي، ولد في حدود السبعين، وأخذ عن
أبيه وغيره، ومهر في العربية والمعاني وأفاد ودرس، ثم اتصل بالملك
المؤيد وهو حينئذ نائب الشام فقرره في نظر الجامع الأموي وفي عدة
وظائف، وباشر مباشرة غير مرضية، ثم ظفر به الناصر فأهانه وصادره فباع
ثيابه واستعطى باليد فساءه - وأحضره إلى القاهرة ثم أفرج عنه، فلما قدم
المؤيد القاهرة عظم قدره، ونزل له القاضي جلال الدين البلقيني عن درس
التفسير بالجمالية، واستقر في قضاء العسكر، ثم رحل مع السلطان في سفرته
إلى نوروز فاستقر قاضي الحنفية بها، ودرس بأماكن، وكانت له في كائنة
قانباي اليد البيضاء، ثم توجه السلطان إلى حلب استدعاه وأراد أن يرسله
إلى ابن قرمان فاستعفى، ثم رجع فمات بدمشق في تاسع عشري رمضان، وكان
جيد العقل، وباشر قضاء الحنفية مباشرة لا بأس بها، ولم يكن يتعاطى
شيئاً من الأحكام بنفسه بل له نواب يفصلون القضايا بالنوبة على بابه.
محمد بن محمد بن محمد، الحموي ناصر الدين بن خطيب نقيرين الشافعي - ولد
... واشتغل قليلاً، وترامى على الدخول في المناصب إلى أن - ولي قضاء
حلب سنة اثنتين وتسعين فباشرها مباشرة غير مرضية، فعزل بعد سنة ونصف
وتوجه إلى القاهرة ليسعى، فأعاده الظاهر إلى تغري بردى نائب حلب فحصلت
له محنة وإهانة وحبس بالقلعة، ثم عاد إلى القضاء في سنة ست
(3/83)
وتسعين فباشرها قليلاً، ثم صرف بعد سنة -
بالإخناي فسافر عنها، واستمر ينتقل في البلاد بطالاً إلى أن عاد إلى
ولاية قضاء حلب في أيام نيابة شيخ بها في أواخر دولة الناصر ثم عزل لما
عزل المؤيد عنها - ثم عاد بعد قتل الناصر واستقرار شيخ مدبر المملكة
للخليفة المستعين - إلى قضائها، وفي غضون ذلك ولي قضاء دمشق مرة
وطرابلس أخرى، ولما قام نوروز بدمشق بعد قتل الناصر قربه، فلما قتل
نوروز وقبض عليه شيخ في سنة ثمان عشرة، وجده جقمق الدويدار باللجون
فقبض عليه وحبسه بصفد بأذن من السلطان، فلما وصل السلطان إلى دمشق في
فتنة قانباي أخرج ابن خطيب نقيرين من حبس صفد ميتا، ويقال إن ذلك كان
بدسيسة من كاتب السر ابن البارزي، لأنه كان يعاديه في الأيام الناصرية
والنوروزية، ولما بلغ السلطان موته أنكر ذلك ونقم على ابن البارزي وكان
يتهدده به كل حين، وكان ابن خطيب نقيرين قليل البضعة كثير الجرأة كثير
البذل والعطاء إلا أنه يتعانى التزوير بالوظائف والدروس ينتزعها من
أهلها بذلك، والله يسامحه.
نجم بن عبد الله القابوني، أحد الفقراء الصالحين، انقطع بالقابون ظاهر
مدينة دمشق مقبلا على العبادة مدة - وكان صحب جماعة من الصالحين الزهاد
- وكان ذا اجتهاد وعبادة وتحكى عنه كرامات وللناس فيه اعتقاد، مات في
صفر.
(3/84)
سنة تسع عشرة
وثمانمائة
استهلت والغلاء بالقاهرة مستمر، ففي ثاني المحرم أرسل السلطان فارس
الخازندار الطواشي بمبلغ كبير من الفضة المؤيدية، ففرقها على الجوامع
والمدارس والخوانق، فكان لكل شيخ عشرة دنانير وإردب قمح، ولكل طالب أو
صوفي أربعة عشرة مؤيدياً، ومنهم من تكرر اسمه حتى أخذ بعضهم في خمس
مواضع، ثم فرق في السؤال مبلغاً كثيراً لكل واحد خمسة مؤيدية، فكان
جملة ما فرق أربعة آلاف دينار، ثم رسم بتفرقة الخبز على المحتاجين،
فانتهت تفرقته في كل يوم ستة آلاف رطل، واستمر على ذلك قدر شهرين،
وتناهى سعر القمح في هذا الشهر إلى ثمانمائة درهم الإردب، وقرر السلطان
في الحسبة الشيخ بدر الدين العينتابي وأضاف إليه إينال الأزعوري وذلك
في الخامس من المحرم، وألزم الأمراء ببيع ما في حواصلهم فتتبعها إينال.
وفي سادس المحرم وردت عدة مراكب تحمل نحو ألفي إردب قمح فركب إينال
ليفرقها مع المحتسب، فاجتمع خلق كثير فطرد الناس عن القمح خشية النهب
فتزاحموا عليه فحمل عليهم، فمات رجل في الزحمة، وغرقت امرأة، وعمد
إينال إلى أربعة رجال فصلبهم، وضرب رجلين ضرباً مبرحاً، ونهب الناس في
هذا الحركة من العمائم والأردية شيء كثير، وسألت أدمية جماعة من ضرب
الدبابيس.
وفي الثاني عشر من المحرم سفر الخليفة المستعين إلى الإسكندرية فسجن
بها، وسفر معه أولاد الناصر فرج وهم فرج ومحمد وخليل وكان الذي سافر
بهم صهر كاتب السر
(3/85)
ابن البارزي واسمه كزل الأرغون شاوى، وفي
هذا الشهر كثر البرسيم الأخضر، فانحط بكثرته سعر الشعير واستغنت
البهائم عنه.
وفي صفر تيسر وجود الخبز في حوانيت الباعة، وفي آخره قدم مرجان من
الصعيد وعلى يده شيء كثير من الغلال وقد انحط السعر بالقاهرة، فرسم له
أن يبيع ما اشتراه بالسعر الحاضر ولو خسر النصف.
وفي رابع عشر ربيع الآخر صرف العينتابي من الحسبة وأعيد ابن شعبان، وفي
آخره استقر العينتابي في نظر الأحباس بعد موت شهاب الدين الصفدي ثم صرف
ابن شعبان في رجب منكلي بغا ويقال إنه أول من أضيفت وظيفة الحسبة من
الترك.
وفيها أوقع أقباي نائب حلب بالتركمان بناحية العمق وكبيرهم كردي بك بن
كندر ومن انضم إليه فهزمهم وانتصر عليهم، ثم أوقع أقباي بالعرب بأرض
البيرة فكسرهم بعد أن نال عسكره منهم مشقة عظيمة ووهن.
(3/86)
وفي ثاني عشر المحرم نقلت الشمس إلى برج
الحمل فدخل فصل الربيع، وابتدأ الطاعون بالقاهرة فبلغ في نصف صفر كل
يوم مائة نفس، ثم زاد في آخره مائتين، وكثر ذلك حتى كان يموت في الدار
الواحدة أكثر من فيها، وكثر الوباء بالصعيد والوجه البحري حتى قيل إن
أكثر هو هلكوا، وفي طرابلس حتى قيل إنه مات بها في عشرة أيام عشرة آلاف
نفس، وبلغ عدد الأموات بالقاهرة في ربيع الأول ثلاثمائة في اليوم، ثم
في نصفه بلغوا خمسمائة، وفي التحقيق بلغوا الألف لأن الذين يضبطون إنما
هم من يرد الديوان وأما من لا يرده فكثير جداً، وماتت ابنتاي غالية
وفاطمة، وبعض العيال، وكان كل من طعن مات عن قرب إلا النادر، وإن أهل
فاس أحصوا من مات منهم في شهر واحد فكان ستة وثلاثين ألفا، حتى كادت
البلدان تخلو من أهلها وتصدى الأستادار لمواريث الأموات، ثم ابتدأ
الموت في النقص من نصف ربيع الأول إلى أن انتهى في أول ربيع الآخر إلى
مائة وعشرين، ثم بلغ في تاسعه إلى ثلاثة وعشرين، وتزايد الموت بدمشق
وكان ابتداؤه عندهم في ربيع الأول فبلغت عدة من يموت في ربيع الآخر في
اليوم ستين نفساً، ثم بلغ مائتين في أواخره ثم كثر في جمادى الآخرة
بها، وكذلك وقع في القدس وصفد وغيرها، ثم ارتفع في آخر ربيع الآخر فنزل
في الثالث والعشرين منه إلى أحد عشر نفسا.
(3/87)
وفيه قدم مفلح رسول صاحب اليمن بهدية جليلة
إلى الملك المؤيد، فأكرم مورده وأمر بأن يباع الهدية وتصرف في عمارة
المؤيدية فحصل من ثمنها جملة مستكثرة، وعين كاتبه للتوجه إلى اليمن في
الرسلية عن السلطان فاستعفى من ذلك فأعفى، وعمل الملك المؤيد الخدمة في
إيوان دار العدل، ورتب الجند في القلعة ما بين الباب الأول إلى باب
الدار المذكورة قياما في هيئة جميلة مهولة، وطلب قاصد صاحب اليمن فأحضر
فرأى ما يهال وقدم الكتاب الواصل صحبته ثم أحضر الهدية بعد ذلك على
مائتي جمال وخلعت عليه خلعة سنية.
وفيها مات أحمد بن رمضان أمير التركمان وكان قديم الهجرة في الإمارة
وقد تقدم في حوادث سنة خمس وثمانين قتل أخيه إبراهيم واستقراره بعده
إلى هذا الغاية وكان معه أذنة وإياس وسيس وما ينضم إلى ذلك وكان يطيع
أمراء حلب طوراً ويعصى عليهم طوراً.
وقدم على الناصر فرج سنة ثلاث عشرة، فخلع عليه وتزوج ابنته ورده إلى
بلاده مكرماً.
وفيه في الثاني عشر من المحرم قرر تقي الدين عبد الوهاب بن أبي شاكر في
الوزارة وكانت بيده مباشرة النظر على ديوان سيدي إبراهيم ابن السلطان،
فقبل الوزارة بعد تمنع شديد وكانت شاغرة منذ سفر السلطان في العام
الماضي، فباشرها مباشرة حسنة.
وفي أواخر المحرم جمع السلطان الصناع من الحجارين أمرهم أن يقطعوا
العمارة بجامعه داخل باب زويلة من مكان عينه تحت دار الضيافة وأقام
هناك يوماً كاملاً،
(3/88)
وفي هذا الشهر ركب كزل نائب ملطية في جماعة
من المخامرين فهجم على مدينة حلب فقاتلوه، فقتلت طائفة وأنهزم.
وفيه استقر عمر بن الطحان في نيابة قلعة صفد.
وفيه كانت الفتن بين عرب الرحوم وعرب العاند بأرض القدس والرملة وغزة.
وفيه قبض على إينال أحد أمراء دمشق وسجن بالقلعة.
وفيه قبض على ابن أبي بكر بن نعير ففر أخوه أحمد ثم قتل في جمادى
الآخرة، ونزل أخوه الآخر فأحرق الرحبة.
وفي المحرم جمع السلطان القضاة والعلماء وأحضر من يتكلم في العمارة،
وذكر أن الشيخ شرف الدين ابن التباني تكلم معه في أن كثير من الأمور
التي باشرها من يتكلم بالعمارة لا تجري على أحكام الشرع من أخذ بيوت
الناس بغير رضاهم، وهدم الأوقاف بغير طريق ونحو ذلك، فأصغى السلطان
وجمع الجميع فأدار الكلام بينهم فتعصبوا الجميع على ابن التباني وفجر
عليه أحمد بن النسخة شاهد القيمة ووافقه غيره، إلى أن عجز عنهم وأعيته
أجوبتهم، فانفصل المجلس على غير شيء، وحققوا للسلطان أنه متعصب عليهم
وأن له غرضا في الوقيعة فيهم، والتزم له القضاة بأنهم لا يجرون أموره
في العمارة إلا على الوجه الشرعي المعتبر المرضي وانفصلوا على ذلك
وسيسألون
(3/89)
أجمعين عن ذلك، واستمرت في سفر العمارة
بالجامع ونودي أن لا يسخر فيه أحد، وأن يوفى الصناع أجرهم بغير نقص،
ولا يكلف أحد فوق طاقته، واستمر ذلك.
وفي أول صفر أمر السلطان القضاة الأربعة بعزل جميع النواب وكانوا قد
قاربوا مائتي نفس، فمنعوا من الحكم، ثم عرضهم في ثاني عشر صفر، وقرر
للشافعي والحنفي عشرة عشرة وللمالكي خمسة وللحنبلي أربعة، ثم سعى كثير
ممن منع عند كاتب السر بالمال إلى أن عادوا شيئاً فشيئاً.
وفي نصف صفر نودي أن لا يزوج أحد من العقاد أحداً من مماليك السلطان
إلا بأذنه.
وفي ربيع الأول عرض السلطان أجناد الحلقة فمر به شيخ يقال له قطلوبغا
السيفي وكان قد أمر في دولة منطاش تقدمة ألف ثم أهين بعد زوال دولته
وخمل في الأيام الظاهرية إلى أن صار بأسوء حال، فعرفه السلطان فسأله عن
حاله فأعلمه بسوء حاله، فاتفق أن السلطان كان تغير على أقبردي المنقار
نائب الإسكندرية وعزله فقرر هذا في نيابتها بغير سعي ولا سؤال ولا قدرة
حتى أنه لم يجد ما يتجهز به.
وفي سابع عشر شهر ربيع الأول أشهد عليه السلطان بوقف الجامع الذي جدده،
ثم اشتد الأمر في العمارة في وسط السنة، وتباهى أهل الدولة في جلب
الرخام إليها من كل جهة وكذلك الأعمدة.
وفيه ثار عليه ألم رجله وصار ذلك يعتاده في قوة الشتاء وفي قوة الصيف
ويخف عنه في الخريف والربيع.
وفي ربيع الأول هجم الفرنج نستروه فنهبوا بها وحرقوا ثم قدموا في ربيع
الآخر إلى يافا فأسروا من المسلمين نساء وأطفالاً، فحاربهم المسلمون ثم
أفتكوا منهم الأسرى منهم بمال، ثم كان منهم ما سنذكره قريباً.
(3/90)
وفيه هم السلطان بتغيير المعاملة بالفلوس،
وجمع منها شيئاً كثيراً جداً، وأراد أن يضرب فلوساً جدداً، وأن يرد سعر
الفضة والذهب إلى ما كان عليه في الأيام الظاهرية، فلم يزل يأمر بترخيص
الذهب إلى أن انحط الهرجة من مائتين وثلاثين إلى مائتين وثمانين
والأفلوري إلى مائتين وعشرة، وأمر أن يباع الناصري بسعر الهرجة ولا
يتعامل به عددا وعدل أفلوريا من الذهب بثلاثين من الفضة، فاستقر ذلك
إلى آخر دولته، ثم كان ما سنذكره في سنة خمس وعشرين.
وفي هذا الشهر جردت طائفة من الأمراء إلى الصعيد لقتال العرب المفسدين
به، وجردت طائفة أخرى لقتال من بالوجه البحري، فرجع المجردون إلى الوجه
البحري وقد غنموا أموالاً وأغناماً وجمالاً، وحصل لفخر الدين الكاشف من
ذلك ما لا يدخل تحت الحصر حتى كان جملة ما حمله للسلطان في مدة يسيرة
أكثر من مائة ألف دينار.
وفيه اشتد الغلاء بالرملة ونابلس وكثر فساد محمد بن بشارة بمعاملة صفد.
وفيه كان وقعة بين نائب حلب وكزل فانهزم كزل، وجرح وجماعة من أصحابه،
استولى حسن بن كبك على ملطية فأساء السيرة بها، وغلب نائب حلب على حميد
بن نعير وهزمه، وغنم منه مالا جزيلاً - وجمالاً.
وفيه توجه حديثة بن سيف أمير آل الفضل إلى الرحبة صحبة نائبها عمر ابن
شهري وطائفة عسر الشام، ففر عذراء وسبى ولدا على ابن نعير، فرجع العسكر
الشامي وأقام حديثة
(3/91)
على الرحبة، ونزل قريباً من تدمر، فأتاه
عذراء في ثلاثة آلاف نفس، فوقعت بينهم مقاتلة عظيمة، وكان النصر
لحديثة.
وفيه غضب السلطان علي بدر الدين الأستادار المعروف بابن محب الدين
وشتمه وهم بقتله وعوقه بالقلعة، فتسلمه جقمق على ثلاثمائة ألف دينار،
وكان عاجزاً في مباشرته مع كثرة إدلاله على السلطان وبسط لسانه بالمانة
عليه حتى أغضبه.
فلما كان في الخامس والعشرين من هذا الشهر وهو ربيع الأول أعيد فخر
الدين ابن أبي الفرج إلى الأستادارية، واستمر بدر الدين في المصادرة،
ثم اشتد الطلب عليه في أول جمادى الآخرة، وعوقب بأنواع العقوبات، ثم
خلع في رابعه على فخر الدين، واستقر مشيراً ثم نقل المذكور إلى بيت فخر
الدين الأستدار فقبض على امرأته وعوقبت فأظهرت مالاً كثيراً، ثم أفرج
عن ابن محب الدين في أواخر رجب، وقرر كشف الوجه القبلي بعد أن قرر عليه
مائة ألف دينار باع فيها موجوده وأثاثه وأثاث زوجته بعد أن عوقبت
واستدان شيئاً كثيراً.
وفي هذا الشهر أمر السلطان الخطباء إذا وصلوا إلى الدعاء له في الخطبة
أن يهبطوا من المنبر درجة أدبا ليكون ذكر - اسم الله ورسوله في مكان
أعلى من المكان الذي يذكر فيه السلطان، فصنع كاتبه ذلك في الجامع
الأزهر وابن النقاش ذلك في جامع ابن طولون، وبلغ ذلك القاضي جلال الدين
فما أعجبه كونه لم يبدأ بذلك فلم يفعل ذلك في جامع
(3/92)
القلعة، فأرسل السلطان يسأله عن ذلك فقال:
لم يثبت هذا في السنة، فسكت عنه وترك فعل ذلك بعد ذلك، وكان مقصد
السلطان في ذلك جميلاً.
وفي ذي القعدة أخذ نائب طرابلس قلعة الجواي وهي من قلاع الإسماعيلية
عنوة وخربها حتى صارت أرضاً.
وفي أخر ربيع الآخر ابتدأ النيل في الزيادة ثم توقف ونقص أربعة عشر
إصبعا، فأرسل السلطان طائفة من القراء إلى المقياس، فأقاموا، فيها
أياماً يقرؤن القرآن وتطبخ لهم الأطعمة، وأمر سودون صوفي حاجب الحجاب
أن يركب إلى شاطئ النيل ويحرق ما يجده هناك من الأخصاص التي توضع
للفساد ويظهر الفسقة فيها المناكر من الزنى وشرب الخمر واللواط
متجاهرين بذلك غير محتشمين منه فأوقع بهم فنهب بعضهم بعضاً، فقدر الله
بعد ذلك بوفاء النيل وزاد بعد الوفاء - زيادة بالغة إلى أن انتهت إلى
عشرين ذراعاً سواء وثبت إلى وقت انحطاطه ثباتاً حسناً.
وفي ثاني عشري ربيع الآخر دخل مينا الإسكندرية مركب من الفرنج ببضاعة
فثار بينهم وبين بعض العتالين شر آل إلى القتال فأخذ الفرنج مركبا فيها
عدة من المسلمين فبعث إليهم النائب غريمهم العتال فردوا ما أخذوه من
المسلمين وانتقموا من العتال، ثم وثبوا على مركب وصلت للمغاربة فأخذوها
بما فيها، فما نجا منها غير خمسة عشر رجلاً سبحوا في الماء.
(3/93)
ثم في سادس عشر جمادى الآخرة قدم صلاح
الدين بن ناظر الخاص إلى الإسكندرية لتحصيل ما بها من المال فبينا هو
في الخمس وبين يديه أعيان البلد إذ أسر شخص أن الفرنج الذين وصلوا في
ثمانية مراكب قد عزموا أن يهجموا عليه ويأسروه، فلم يكذب الخبر وقام
مسرعاً فتسارع الناس فسقط فانكسرت رجله، وحمل إلى داره ثم أركب إلى
النيل ثم ركب إلى أن وصل القاهرة منزعجاً وهجم الفرنج عقب صنعه ذلك،
فكاثرهم أهل البلد حتى أغلقوا باب البحر، فعاثوا فيمن هو خارج الباب من
المسلمين فقتلوا منهم عشرين رجلاً وأسروا جماعة تزيد عن السبعين وأخذوا
ما ظفروا به وصعدوا مراكبهم، ثم حاصروا البلد فتراموا بالسهام جميع
الليل، فأخذ كثير من المسلمين في الفرار من الإسكندرية وقام الصياح على
فقد من أسر أو قتل، فاتفق قدوم مركب من المغاربة ببضاعة فمال الفرنج
عليهم فقاتلوهم، فدافعوا عن أنفسهم حتى أخذوا عنوة وضربوا أعناقهم وأهل
الإسكندرية يرونهم من فوق الأسوار ما فيهم منعة، ووصل ابن ناظر الخاص
بعد أن خرج أبوه لما سمع الخبر وخرج صحبته جماعة من الجند، ثم سار
الشيخ أبو هريرة بن النقاش في أناس من المطوعة على نية الجهاد في سبيل
الله فقدموا الإسكندرية فوجدوا الفرنج قد أخذوا ما أخذوا وساروا مقلعين
في مراكبهم. وفات ما فات.
وفيه نفى كزل العجمي إلى غزة ثم إلى صفد فسجن بالقلعة، واستمر إلى أن
أطلق في أيام الظاهر ططر في سنة أربع وعشرين.
وفيها أحدث الوالي وهو خرز على النصارى واليهود برسم المماليك في
المحمل في رجب المصادرة لهم على خمر كثير فتجوهوا في بعضه ببعض أهل
الدولة فحقد
(3/94)
ذلك عليهم، ثم استأذن السلطان وركب وكبس
سويقة صفية خارج القاهرة، والكوم خارج مصر، فأراق عدة جرار من الخمر،
وكتب على أكابرهم إشهادات بأمور اقترحها عليهم حتى كف عنهم.
وفي ربيع الآخر نقل جانبك الصوفي من سجنه بالقاهرة بالقلعة إلى
الإسكندرية.
وفيه نزل العرب المعروفون بلبيد على ريف البحيرة في خمسمائة فارس سوى
المشاة فأوقعوا بأهلها.
وفيه قبض على ابن بشارة وهو محمد بن سيف بن عمر بن محمد ابن بشارة وكان
قد زاد إفساده في طريق الشام وقطع الطريق فحمل إلى دمشق.
وفي رجب غضب السلطان على نجم الدين ابن حجي بسعاية شهاب الدين الشريف
ابن نقيب الأشراف عليه وكانت بينهما منازعة أفضت على العداوة الشديدة
حتى رحل إلى القاهرة في السعي عليه، فلم يزل به إلى أن أوصل بالسلطان
ما يقتضي الغضب عليه، فأرسل بالكشف عليه بعد النداء بعزله وأن من له
عليه حق يحضر إلى بيت الحاجب فاستمر النداء أياماً فلم يثبت عليه شيء،
ثم نقل إلى المدرسة البيبرسية بالشرف الأعلى ورسم عليه وقرر في الحكم
اثنان من نوابه وكتب عليه له إشهاد بما بيده من الوظائف وأنه إن ظهر
بيده زيادة على ذلك كان عليه عشرة آلاف دينار على سبيل النذر لعمارة
الأسوار، واستمر غضب السلطان عليه، وعرض منصب القضاء بدمشق على كاتبه
مراراً فامتنع وأصر على الامتناع فأراده على ذلك ورغبه فيه حتى صرح بأن
للقاضي بدمشق
(3/95)
في الشهر عشرة آلاف درهم فضة معاليم قضاء
وأنظار إذا كان رجلاً جيداً فإن كان غير ذلك كان ضعف ذلك، فأصر على
الامتناع وبالغ في الاستعفاء، فسعى بعض الشاميين لابن زيد قاضي بعلبك،
فقرر في قضاء دمشق على ثلاثمائة ثوب بعلبكي، وفي عقب ذلك قدم نجم الدين
ابن حجي القاهرة، فأنزله زين الدين عبد الباسط ناظر الخزانة عنده، وقام
بأمره، ولم يزل إلى أن صلح حاله عند السلطان وأعاده على القضاء في بقية
السنة، فلبس الخلعة بذلك في رابع ذي الحجة، وعاد من كان منكرا على
كاتبه في الامتناع مادحاً على ذلك وكان شق هذا القدر على كثير من الناس
حسداً وأسفا فلله الحمد على ما أنعم.
وفي جمادى الأولى تقاول فخر الدين الأستادار وبدر الدين ابن نصر الله
ناظر الخاص بين يدي السلطان فأفضى الحال إلى السلطان ألزم ناظر الخاص
بحمل خمسين ألف دينار.
وفي رجب قبض فخر الدين الأستادار على شمس الدين بن محمد بن مرجونة وكان
متدركاً بجوجر، ثم سعى إلى أن ولي قضاءها فأمر بتوسيطه فوسط وذهب دمه
هدرا، وأحيط بموجوده فبلغ نحو خمسين ألف دينار، فحملها إلى السلطان.
وفي ربيع الآخر شغر قضاء الحنفية بموت ابن العديم، فسعى فيه جماعة وكاد
أمره أن يتم للقاضي زين الدين التفهني، بحيث أنه أجيب وبات على أن يخلع
عليه
(3/96)
في يوم الاثنين ثامن عشر ربيع الآخر، ثم
تأخر ذلك وأمر السلطان بطلب ابن الديري من القدس، فوصل الخبر فتجهز
وحضر في الثالث عشر من جمادى الأولى وهرع الناس للسلام عليه ثم اجتمع
بالسلطان ففوض قضاء الحنفية في يوم الاثنين سابع عشر جمادى الأولى -
فباشره بصرامة ومهابة.
وفي أواخر شعبان استقر زين الدين قاسم العلائي في قضاء العسكر وإفتاء
دار العدل عوضاً عن تقي الدين بن الجيتي بحكم وفاته في الطاعون وشغرت
الوظيفتان هذه المدة، وكان سعى فيها شمس الدين القرماني خادم الهروي
فأجيب إلى أحديهما، ثم غلبه قاسم عليهما.
وفي ذي الحجة قدمت خديجة زوج ناصر الدين بك بن خليل بن قراجا بن دلغادر
على المؤيد في طلب ولدها، وكان السلطان استصحبه معه من بلادهم فأكرم
مجيئها ورتب لها رواتب وجمع بينها وبين ولدها، وهذه هي التي تزوج بعد
ذلك الملك الظاهر جقمق ابنتها في ثلاث وأربعين، وقدم أبوها طائعاً
فأكرم غاية الإكرام.
وفي رجب غضب قاضي الحنابلة القاضي علاء الدين ابن المغلي من الدويدار
الكبير فعزل نفسه، ولزم منزله، وكان السبب في ذلك أن حكومة رفعت إلى
الدويدار في جمال الدين الإسكندراني نقيب القاضي، فبعث يطلبه فامتنع
قاضيه من إرساله، فأرسل بعض نوابه يسأل عن القضية فأفحش القول له فأعاد
الجواب فغضب لاعتماده على كاتب السر فقام كاتب السر في تسكين القضية
إلى أن أصلح بينهما وتحيل على السلطان حتى أمر له بخلعه فخلعت عليه
بسبب قدومه بعد غيبته، وأوهم السلطان أنه خشي لطول الغيبة أن يكون
ولايته بطلت فأذن له فلبس الخلعة، وقرره على ولاية القضاء ومشى الأمر
على السلطان في ذلك، وذلك كله من جودة تدبير كاتب السر وقوة معرفته
بسياسة الأمور.
وفي شعبان مات أيدغمش التركماني في الاعتقال بدمشق.
(3/97)
وفيها فوض أمر النظر على الكسوة للقاضي زين
الدين عبد الباسط بعد أن استعفى منها ناظر الشيخ فأعفي.
وفي شعبان قبض على محمد بن عبد القادر وأخيه عمر بغزة وحملا إلى
القاهرة.
وفيه قدمت هدية كرسجي بن أبي يزيد بن عثمان من بلاد الروم فأكرم قاصده
وقبلت هديته وأمر بصرف ثمنها في العمارة.
وفي سابع رمضان عزل خرز من ولاية القاهرة واستقر أقبغا شيطان وكان بيده
شد الدواوين فاستمرت معه، ثم انتزعها منها خرز واستمر خرز في نيابة
الجيش أيضاً.
وفيه قدم بركات بن حسن بن عجلان إلى القاهرة، ومعه خيل وغيرها فقدمها،
فقبلت منه وأنزل عند ناظر الخاص وكتب تقليد أبيه بعودة إلى إمرة مكة،
وعزل رميثة، فوصل الكتاب في شوال فبعث إلى آل عمر القواد وكانوا مع
رميثة فاستدعاهم إلى الرجوع في طاعته فامتنعوا وقاموا مع رميثة محاربين
لحسن، فركب حسن إلى الزاهر ظاهر بمكة في ثاني عشر من شوال، ووافاه مقبل
بن نخبار أمير ينبع منجداً له بعسكره، ثم دخلوا مكة بعسكر بقرب العسيلة
فوقعت الحرب هناك فانكشف رميثة ومن معه وغلب حسن ومن معه فدخلوا البلد
بعد أن أحرقوا الباب، وكثرت الجراحات في الفريقين، فخرج الفقهاء
والفقراء بالمصاحف يسألون حسن بن عجلان الكف عن القتل فأجابهم، فخرج
رميثة من مكة هو ومن معه وتوجهوا إلى جهة اليمن، ودخل حسن مكة في سادس
عشر من شوال فغلب عليها ونادى بالأمان واستقرت قدمه وأقام ولده بركات
في القاهرة ثم سار منها بإذن السلطان في أول ذي القعدة فوافى الحجاج
قبل ينبع،
(3/98)
وفي رمضان حضر السلطان مجلس سماع الحديث
بالقلعة وفيه القضاة ومشايخ العلم، فسألهم عن الحكم في شخص يزعم أنه
يصعد إلى السماء ويشاهد الله تعالى ويتكلم معه، فاستعظموا ذلك، فأمر
بإحضاره فأحضر وأنا يومئذ معهم، فرأيت رجلاً ربعة عبل البدن أبيض مشربا
بحمرة كبير الوجه كثير الشعر منتفشه، فسأله السلطان عما أخبر به، فأعاد
نحو ذلك وزاد بأنه كان في اليقظة وأن الذي رآه على هيئة السلطان في
الجلوس وأن رؤيته له تتكرر كثيراً، فاستفسره عن أمور تتعلق بالأحكام
الشرعية من الصلاة وغيرها، فأظهر له أنه جاهل بأمور الديانة، ثم سئل
عنه فقيل أنه يسكن خارج باب القرافة في تربة خراب وإن لبعض الناس فيه
اعتقاد كدأبهم على أمثاله، فاستفتى السلطان العلماء، فاتفق رأيهم على
أنه إن كان عاقلاً يستتاب فإن تاب وإلا قتل، فاستتيب فأمتنع، فعلق
المالكي الحكم بقتله على شهادة شاهدين يشهدان أن عقله حاضر، فشهد جماعة
من أهل الطب أنه مختل العقل مبرسم، فأمر السلطان به أن يقيد في
المارستان، فأستمر فيه بقية حياة السلطان، ثم أمر بعد موت السلطان
بإطلاقه.
وفي شوال كانت الفتن بين أهل البحيرة فقتل موسى بن رحاب وحلاف بن عتيق
وحسين بن شرف وغيرهم من شيوخهم، وتوجه الأستادار لمحاربتهم ففتك فيهم،
وقدم في ذي القعدة ومعه من الغنم والبقر شيء كثير ووصل في طلبهم إلى
العقبة الصغرى، ثم توجه منها إلى جهة برقة فسار أياماً ثم رجع.
وفيه قدم ركب التكرور في طلب الحج ومعه شيء كثير من الرقيق والتبر.
(3/99)
وفيه قدم إلى دمشق الخاتون زوجة إيدكي صاحب
الدشت في طلب الحج وصحبتها ثلاثمائة فارس فحجوا صحبة المحمل الشامي.
وفي ذي القعدة أفرج عن سودون الأشقر من الإسكندرية وأرسل على القدس
بطالا.
وفي أواخر شوال قلع باب مدرسة حسن، وكان الملك الظاهر قد سده من داخله
ومنع من الصعود منه، ثم هدمت بعد ذلك بمدة البوابة، ثم اشترى الملك
المؤيد الباب من ذرية حسن والتنور الذي هو داخله بخمسمائة دينار، فركبا
بجامعه الذي أنشأه بباب زويلة.
وفي أوائل رمضان أعيد قاسم البشتكي إلى نظر الجوالي بعد أن كان عزل
وصودر وأهين.
وفيه عاود المؤيد ضعف رجليه بالمفاصل.
وفي رمضان نودي على المؤيدي أن يكون بثمانية والأفلوري بمائتين وثلاثين
والفلوس كل رطل بخمسة ونصف، فكان في ترخيص الذهب سبب إلى تكثير الفضة،
وأما ترخيص الفلوس فلا يعقل معناه فإنه رخيصة جداً بالستة وكان في
الستة ترفق بمن لا يد له بالحساب لسرعة إدراك نصفها وثلثها وربعها وغير
ذلك بخلاف الخمسة والنصف.
وفي سادس شوال قدمت رسل قرا يوسف على المؤيد فسمع الرسالة وأعاد
الجواب.
وفي أواخر شوال مات أمير الركب الأول قمارى وكان أمير عشرة، فسار
بالركب الأمير صلاح الدين ابن ناظر الخاص صاحب بدر الدين ابن نصر الله
وكان قد حج في هذه السنة، فشكروا سيرته فيهم بعد أن وصلوا.
وفي العشرين من ذي القعدة استقر فخر الدين في الوزارة مضافاً إلى
الأستادارية بعد موت تقي الدين ابن أبي شاكر.
وفيه غلا البنفسج بالقاهرة حتى لم يوجد منه شيء البتة، ووجدت باقة
واحدة فبيعت بعشرين درهماً فضة.
(3/100)
وفيه حاصر نائب طرابلس قلعة الجوابي إحدى
قلاع الإسماعيلية، فأخذها عنوة وخربها حتى صارت أرضا وفي آخره - مات
محمد بن هيازع أمير آل مهدي من العرب فقرر مكانه مانع بن سنيد.
وفي أول ذي الحجة أمر جقمق الدويدار بعرض أجناد الحلقة ليسافروا صحبة
ركاب السلطان إذا تجهز للبلاد الشمالية، فاشتد عليهم جقمق وحلف السلطان
ناظر الجيش بطلاق زوجته وبكل يمين أنه لا يكتم عنه شيئاً، فاشتد الأمر
على أجناد الحلقة جداً، ثم أمر السلطان أن يعرضوا عليه فكان ما سنذكر
في السنة الآتية.
وفي عاشر ذي الحجة يوم عيد النحر أنزل المستعين بالله أبو الفضل العباس
بن محمد العباسي إلى ساحل مصر على فرس وبفرج وخليل ومحمد أولاد الملك
الناصر فرج في محفة وتوكل بهم الأمير كزل الأرغون شاوي وكان أحد
الأمراء بحماة وزوج بنت كاتب السر فسار بهم إلى الإسكندرية، وكان
المستعين لما خلعه المؤيد من الملك نقله من القصر إلى دار من دور
القلعة ومعه أهله وحاشيته ثم نقله إلى برج قريب من باب القلعة وكان
الظاهر
(3/101)
حبس فيه أباه المتوكل ثم نقله في هذا الشهر
إلى الإسكندرية فأنزله في برج من أبراجها ولم يجر عليه معلوما ولا
راتبا وانتهت هذا السنة وقد بلغت النفقة على الجامع المؤيدي أربعين ألف
دينار ذهباً.
وفي ثاني عشر ذي الحجة توجه السلطان إلى الربيع فأقام برسيم خمسة عشر
يوماً، ونزل ليلة السابع والعشرين من ذي الحجة في حراقته الذهبية فجمع
له بعض الناس له عدة مراكب وزينوها بالوقيد الكثير، وكان الهواء ساكنا
فكانت ليلة معجبة.
وفي هذه السرحة قدم الأستادار عشرة آلاف دينار ومائة وخمسين جملاً غير
الخيول - واستمر ذلك سنة بعده على المباشرين.
وفيها مات أحمد - ابن رمضان أحد أمراء التركمان وكان بيده سيس وأذنة
فاختلف أولاده بعده.
وفيها بلغ السلطان في يوم الأربعاء الثامن من ذي الحجة أن نائب الحكم
ببلبيس أخبر أنه ثبت عنده هلال ذي الحجة ليلة الثلثاء، فانزعج على
القاضي الشافعي ونسبه إلى التفريط في الأمور المهمة. وتكلم في القضاة
كلهم بكلام خشن.
وفي هذه السنة غلب الأمير بهار بن فيروز شاه بن محمد شاه ابن تهمتم بن
جردن شاه بن طغلق بن طبق شاه سيف الدين بن قطب الدين على ملك هرمز،
وكان حسام الدين بن عدي قد خرج على أبيه وغلب على هرمز، فثار عليه بهار
المذكور في هذه السنة ففر منه إلى جزيرة تاردب، ثم حج سنة عشرين
وثمانمائة.
(3/102)
ذكر من مات
في سنة تسع عشرة وثمانمائة من الأعيان.
أحمد بن أبي أحمد الصفدي شهاب الدين، الشامي نزيل القاهرة، كان قد قدم
في التوقيع عند الملك المؤيد حيث كان نائباً، ثم قدم معه القاهرة وظن
أنه يلي كتابة السر، فاختص القاضي ناصر الدين البارزي بالسلطان وكان
يكره الصفدي لطرش فيه، فأراد الإحسان وجبر خاطره فقرره في نظر
المارستان، ونظر الأحباس، فباشرهما حتى مات في ربيع الأول ولم يكن
محموداً، وقرر عوضه في المارستان تقي الدين يحيى بن الشيخ شمس الدين
الكرماني، وفي نظر الأحباس بدر الدين محمود العيني.
أحمد بن رمضان التركماني الأجقي صاحب أذنة وسيس وإياس وغيرها، ولي
الإمرة من قبل الثمانين، واستمر يشاقق العسكر الشامي تارة ويصالحوه
أخرى، وتجردوا أول مرة سنة ثمانين فكان ما ذكر في الحوادث، وتجهزوا
ثاني مرة سنة خمس وثمانين، فكسر أمير عسكره إبراهيم أخوه، فلما كانت
الفتنة العظمى ورجع اللنك إلى العراق استقرت قدم أحمد هذا، ولم يزل في
ذلك إلى أن مات في أواخر هذا السنة، وكان شيخاً كبيراً مهيباً شهماً،
وهو الذي تزوج الناصر ابنته، وكانت له اليد البيضاء في طرد العرب عن
حلب في ذي الحجة سنة ثلاث وثمانمائة. كما تقدم.
أحمد بن عبد الله، الذهبي، اشتغل قليلاً وحفظ المنهاج، ثم صحب الشيخ
(3/103)
قطب الدين وغيره، وسافر بعد اللنك إلى
القاهرة فعظم بها، وسافر معه أكابر الأمراء في الاعتناء بعمارة الجامع
الأموي والبلد، وحصل له إقبال كبير، ثم عاد إلى مصر في أول الدولة
المؤيدية، ثم توجه رسولاً إلى صاحب اليمن وحصلت له دنيا، ثم عاد فمات
في جمادى الأولى.
أحمد بن عبد الرحمن بن عبد الناصر، الزبيري شهاب الدين بن القاضي تقي
الدين الزبيري، أحد موقعي الحكم، كان قد مهر في صناعته وحصل فيها مالاً
جزيلاً وورثه أخوه علاء الدين. وكان شهاب الدين شديد الإمساك وأخوه
شديد الإتلاف فوسع الله بموت الشهاب على علاء الدين، ويقال إنه ورث منه
نحو ألفي دينار غير البيوت، مات في نصف ذي الحجة.
أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن عبد الرحمن، الفاسي ثم المكي المالكي
الحسني شهاب الدين، والد قاضي المالكية بمكة تقي الدين، ولد سنة أربع
وخمسين وسبعمائة وعني بالعلم فمهر في عدة فنون خصوصاً الأدب، وقال
الشعر الرائق، وفاق في معرفة الوثائق، ودرس وأفتى وحدث قليلاً سمع من
عز الدين ابن جماعة وأبي البقاء السبكي وغيرهما، وأجاز لي، وباشر شهادة
الحرم نحواً من خمسين سنة، ومات في حادي عشري شوال.
أحمد بن عمر بن قطينة - بالقاف والنون مصغر باشر شد الخاص ثم تنقلت به
الأحوال إلى أن ولي الوزارة في سنة اثنتين وثمانمائة فلم ترسخ فيها
قدمه بل أقام جمعة واحدة وعزل، وتنقلت به الأحوال إلى أن مات في آخر
المحرم.
(3/104)
أحمد بن أبي أحمد بن محمد بن سليمان،
المصري المعروف بالزاهد، انقطع في بعض الأمكنة فاشتهر بالصلاح، ثم صار
يتتبع المساجد المهجورة فيبني بعضها ويستعين بنقض البعض في البعض، ثم
أنشأ جامعاً بالمقس وصار يعظ الناس خصوصاً النساء، ونقموا عليه فتواه
برأيه من غير نظر، جيد في العلم مع سلامة الباطن والعبادة، مات في رابع
عشري ربيع الأول.
أحمد بن القاضي، أصيل الدين محمد بن عثمان، الاشليمي شهاب الدين، ناب
في الحكم، ومات في صفر مطعوناً.
أحمد بن محمد بن نشوان بن محمد بن نشوان بن محمد بن أحمد، الحوراني ثم
الدمشقي الشافعي، ولد سنة سبع وخمسين وسبعمائة، واشتغل بالعلم ومهر في
الفقه
(3/105)
واشتهر بالفضل، وناب في الحكم بدمشق وأفتى
ودرس.
وكان أول أمره أقرأ أولاد الزهري فحصل معهما عن مشايخ ذلك العصر إلى أن
مهر فظهر فضله، وأذن له البلقيني في الإفتاء سنة ثلاث وتسعين، وجلس
للاشتغال وأفتى، وحمدت فتاويه مع وفور عقله وحسن تأنيه وإنصافه في
البحث وحسن محاضرته، ومات في جمادى الأولى.
أحمد بن محمد المرتقي أحد فضلاء الحنابلة، ناب في الحكم واشتغل كثيراً،
وكان خيراً صالحاً. مات في العشرين من ذي القعدة.
أحمد بن يوسف بن عبد الرحمن، اليمني المعروف بابن الأهدل، أحد من
يعتقده الناس باليمن، جاور بمكة زماناً، وهو من بيت صلاح وعلم، مات في
سادس عشر ذي الحجة.
(3/106)
أرغون الرومي، ولى نيابة الغيبة للناصر
فرج، وكان يرجع إلى دين وخير، مات في ذي القعدة بالقدس بطالا.
أبو بكر بن عثمان بن محمد الجيتي - بكسر الجيم وسكن التحتانية بعدة
مثناة - الحموي الحنفي، أحد فضلاء أهل حماة، عارف بالعربية، حسن
المحاضرة، قدم صحبة علاء الدين بن مغلي من حماة فنزل على كاتب السر ابن
- البارزي فأكرمه وأحضره مجلس السلطان وولاه قضاء العسكر وغيره، مات في
الطاعون في آخر ربيع الأول.
تاني بك الجركسي مشد الشربخاناة، تنقل في الخدم إلى أن ولي إمرة الحج
في سنة ثماني عشرة، وقدم في أول هذه السنة وهو ضعيف، وقد شكر الناس
سيرته، فمات في صفر.
ظهيرة بن حسين بن علي بن أحمد بن عطية بن ظهيرة، المخزومي المكي أبو
أحمد، سمع على عز الدين بن جماعة وغيره، وأجاز له القلانسي ونحوه، مات
في صفر وقد جاوز السبعين بمكة.
(3/107)
عائشة بنت أنس الجركسية أخت الملك الظاهر،
وكانت في السن قرية منه وعاشت بعده دهراً وقد أسنت، وهي والدة بيبرس
الذي ولي أتابكية العسكر وغير ذلك من الوظائف، ماتت في ذي القعدة.
عبد الرحمن بن سليمان بن عبد الرحمن بن محمد بن سليمان بن حمزة،
المقدسي الحنبلي، من بيت كبير ولد في ذي الحجة سنة إحدى وأربعين، وسمع
من عبد الرحمن بن إبراهيم بن علي بن بقا - الملقن وأحمد ابن عبد الحميد
بن عبد الهادي وغيرهما وحدث، مات بالصالحية.
عبد الرحمن بن محمد بن علي بن عبد الواحد بن يوسف بن عبد الرحيم،
الدكالي الأصل ثم المصري أبو هريرة بن النقاش، ولد في رابع عشر ذي
الحجة سنة سبع وأربعين، وسبعمائة بالقاهرة، واشتغل بالعلم ودرس بعد
وفاة أبيه وله بضع عشرة سنة، وسمع من محمد بن إسماعيل الأيوبي
والقلانسي والبياني وغيرهم، واشتهر بصدق اللهجة وجودة الرأي وحسن
التذكير والأمر بالمعروف مع الصرامة والصدع بالوعظ في خطبته وقصصه،
وصارت له وجاهة عند الخاصة والعامة، وانتزع خطابه جامع ابن طولون من
ابن بهاء الدين السبكي فاستمرت بيده، وكان يقتصد في ملبسه مفضالا على
المساكين كثير الإقامة في منزله مقبلاً على شأنه عارفاً بأمر دينه
ودنياه يتكسب من الزراعة وغيرها، ويبر أصحابه مع المحبة التامة في
الحديث وأهله، وله حكايات مع
(3/108)
أهل الظلم، وامتحن مراراً ولكن ينجو سريعاً
بعون الله، وقد حج مراراً وجاور، وكانت بيننا مودة تامة؛ مات في ليلة
الحادي عشر من ذي الحجة، ودفن عند باب القرافة، وكان الجمع في جنازته
حافلاً جداً فرحمه الله تعالى.
عبد الرحمن بن يوسف الكردي الدمشقي الشافعي زين الدين، حفظ التنبيه في
صباه، وقرأ على الشرف بن الشربشي، ثم تعاني عمل المواعيد فنفق سوقه
فيها، واستمر على ذلك أكثر من أربعين سنة وصار علي ذهنه من التفسير
والحديث وأسماء الرجال شيء كثير، وكان رائجاً عند العامة مع الديانة
وكثرة التلاوة، وكان ولي قضاء بعلبك ثم طرابلس، ثم ترك واقتصر على عمل
المواعيد بدمشق، وقدم مصر وجرت له محنة مع القاضي جلال الدين البلقيني،
ثم رضي عليه وألبسه ثوباً من ملابسه واعتذر له فرجع إلى بلده، وكان
يعاب بأنه قليل البضاعة في الفقه ولا يسأل مع ذلك عن شيء إلا بادر
بالجواب، وحفظ ترجيح كون المولد النبوي كان في رمضان لقول ابن إسحاق
إنه نبئ على رأس الأربعين، فخالف الجمهور في ترجيح ذلك، وله أشياء كثير
من التنطعات، ولم يزل بينه وبين الفقهاء منافرة، ويقال إنه يرى بحل
المتعة على طريقة ابن القيم وذويه؛ ومات مطعوناً في شهر ربيع الآخر وهو
في عشر السبعين.
عبد الكريم بن إبراهيم بن أحمد، الحنبلي الكتبي كان من خيار الناس في
فنه، وكان للطلبة به نفع، فإنه كان يشتري الكتب الكثيرة وخصوصاً
العتيقة ويبيع
(3/109)
لمن رام منه الشراء من الطلبة برأس ماله أو
بفائدة بعينها ويشترط له أنه متى رام بيع ذلك الكتاب يدفع له رأس ماله،
فكان الطالب ينتفع بذلك الكتاب دهراً ثم يأتي به إلى السوق فينادي
عليه، فإن تجاوز الثمن الذي اشتراه باعه، وإن قصر عنه أحضره فاشتراه
منه برأس ماله ولا يخرم معهم في ذلك وكان الناصر فرج ولاه الحسبة على
الصلاة، فكان يلزم الناس بالصلاة وتعليم الفاتحة وجرت له في ذلك خطوب
يطول ذكرها وكان مأذوناً له في الحكم لكن لا يتصدى لذلك ولا يحكم إلا
في النادر وله ورد وقيام في الليل؛ مات في حادي عشر ذي القعدة.
عبد الوهاب بن عبد الله ويدعى ماجد بن موسى بن أبي شاكر أحمد ابن أبي
الفرج بن إبراهيم بن سعيد الدولة القبطي الوزير تقي الدين بن فخر الدين
بن تاج الدين بن علم الدين، يعرف بالنسبة لجده فيقال له ولكل من آل
بيته: ابن أبي شاكر، ولد سنة سبعين أو في التي بعدها ونشأ في حجر
السعادة وتنقل في المباشرات إلى أن باشر نظر الديوان المفرد في آخر
الدولة الظاهرية واستمر بيده إلى أن مات، وباشر استادارية الأملاك
والذخائر والمشاجرات والأوقاف وعظم عن الناصر بحسن مباشرته، ثم ولي نظر
الخاص بعد موت مجد الدين بن الهيصم ثم قبض عليه في جمادى الأولى سنة ست
عشرة وصودر على أربعين ألف دينار باع فيها موجوده وبقي في الترسيم
بشباك الظاهرية الجديدة يستجدي من كل من يمر به من الأعيان حتى حصل
مالاً له صورة، وأفرج عنه وأعيد إلى مباشرة الذخيرة والأملاك، ثم قرر
في الوزارة بعد صرف تاج الدين ابن الهيصم فباشرها مباشرة حسنة وشكره
الناس كلهم، فلم تطل مدته حتى مات بعد تسعة أشهر من وزارته في حادي عشر
شوال أو ذي القعدة
(3/110)
- وكان بعيداً عن النصارى ومتزوجاً من
غيرهم، وهي علامة حسن إسلام القبطي، وكان يكثر فعل الخير والصدقة مع
الانهماك في اللذة، وحدث في وزارته الوباء فلم يشاحح أحداً في وراثة
وكثر الدعاء له، وكان عارفاً بالمباشرة ويحب أهل العلم، وكان شديد
الوطأة على العامة إلا أنه باشر الوزارة برفق لم يعهد مثله، وكان
موصوفاً بالدهاء وجودة الكتابة.
عبد الوهاب بن محمد بن أحمد بن أبي بكر، الحنفي القاضي أمين الدين بن
القاضي شمس الدين الطرابلسي نزيل القاهرة، ولد سنة 774 واشتغل في حياة
أبيه وولي القضاء مستقلاً بعد موت الملطي فباشره بعفة ومهابة، وكان
مشكور السيرة إلا أنه كان متعصباً لمذهبه مع إظهار محبة للآثار عارياً
من أكثر الفنون إلا استحضار شيء يسير من الفقه، وقد عزل عن القضاء
بكمال الدين ابن العديم، ولزم منزله مدة طويلة، ثم تنبه بصحبة جمال
الدين فتقرر بعنايته في القضاء ومشيخة الشيخونية، ثم زال ذلك عنه في
الدولة المؤيدية، وانتزعت من أخي وظيفة إفتاء دار العدل فقررت لابن
سفري ثم لابن الجيتي، واستمر أمين الدين خاملاً حتى مات بالطاعون في
خامس عشري ربيع الأول.
ومن العجائب أن ناصر الدين بن العديم أوصى في مرض موته بمبلغ كثير يصرف
لتقي الدين ابن الجيتي الحنفي ليسعى به في قضاء الحنفية لئلا يليه ابن
الطرابلسي قبل موت ابن العديم وكذلك ابن الجيتي.
علي بن الحسين بن علي بن سلامة، الدمشقي تفقه على الشيخ عماد الدين
الحسباني وغيره، وكانت له مشاركة في الأدب ونظم الشعر الوسط، ودرس في
دمشق، ومات سنة 829.
(3/111)
علي بن عيسى بن محمد، علاء الدين أبو الحسن
بن أبي مهدي، الفهري البسطي، اشتغل ببلاده ثم حج ودخل الشام ونزل بحلب
على قاضيها الجمال النحريري، وقرأ بحلب التسهيل وعمل المواعيد بالجامع
- وكان يذكر في المجلس نحو سبعمائة سطر يرتبها أولاً ثم يلقيها ويطرزها
بفوائد ومناسبات، ثم رحل إلى الروم وعظم قدره ببرصا، وكان فاضلاً ذكياً
أديباً يعمل المواعيد بالجامع فذكر لي - الشيخ برهان الدين المحدث أنه
كان يرتبه يوم الأربعاء فيبلغ سبعمائة سطر وينظره يوم الخميس ويلقيه
يوم الجمعة سرداً، وذكر لي - أنه أنشده لابن الحباب الغرناطي اللغز
المشهور في السمك.
كتبتم رموزاً ولم تكتبوا ... كهذا الذي سبيله واضحه
قال: وأنشدني عنه أناشيد ثم دخل الروم فسكنها وحصل له ثروة، ثم دخل
القرم وكثر ماله، واستمر هناك إلى أن مات في هذا السنة.
(3/112)
علي بن محمد بن علي بن الحسن بن حمزة بن
محمد بن ناصر، الحسيني أبو الحسن، والد المحدث الشهير الشريف شمس
الدين، مات أبوه سنة خمس وستين وسبعمائة وهو صغير فحفظ القرآن والتنبيه
وقرأ على ابن السلار وابن اللبان ومهر في ذلك حتى صار شيخ الإقراء
بالقرمية. وكتب الخط المنسوب، وجلس مع الشهود مدة ووقع وكان عين البلد
في ذلك، وولي نقابة الأشراف مدة يسيرة، وولي نظر الأوصياء أيضاً؛ مات
في شوال.
غانم بن محمد بن محمد بن يحيى بن سالم، جلال الدين الخشبي - بمعجمتين
مفتوحتين ثم موحدة - المدني الحنفي، ولد سنة إحدى وأربعين وسبعمائة
وسمع متأخراً من ابن أميلة وغيره بدمشق، سمعت منه يسيراً، وكان له
اشتغال ونباهة في العلم ثم خمل وانقطع بالقاهرة، ومات بالطاعون.
(3/113)
قمارى كان أمير الركب الأول، فمات متوجهاً
إلى الحج في شوال وكان شاد الزردخاناه.
محمد بن أحمد بن أبي بكر البيري ابن الحداد، أخذ عن أبي جعفر وأبي عبد
الله الأندلسيين، وتمهر في العربية، وكان يحفظ المنهاج، وكان يستحضر
أشياء حسنة، وحدث عن شرف الدين ابن قاضي الجبل وغيره.
مات بالبيرة في هذه السنة، أرخه البرهان المحدث الحلبي.
محمد بن أحمد بن عثمان بن عمر، التونسي المالكي المعروف بالوانوغي أبو
عبد الله - بتشديد النون المضمومة وسكون الواو بعدها معجمة، ولد سنة
تسع وخمسين، وسمع من أبي الحسن البطرني وأبي عبد الله بن عرفة ولازمه
في الفقه وغيره، وعني بالعلم وبرع في الفنون مع الذكاء المفرط وقوة
الفهم وحسن الإيراد وكثرة النوادر المستظرفة، والشعر وكان كثير الوقيعة
في أعيان المتقدمين وعلماء العصر وشيوخهم شديد الإعجاب بنفسه والازدراء
بمعاصريه، فلهجوا بذمة وتتبعوا أغلاطه في فتاويه، أقام بمكة مجاوراً ثم
بالمدينة دهراً مقبلاً على الاشتغال والتدريس والتصنيف والإفتاء
والإفادة، وجرت له بها محن وكان قد اتسعت دنياه، اجتمعت به المدينة ثم
بمكة وسمعت من فوائده؛ مات في سابع عشر ربيع الآخر بمكة، وله أسئلة
مشكلة كتبها للقاضي جلال الدين البلقيني فأجابه عنها وكان هو قد بعث
بنقض الأجوبة.
محمد بن إسماعيل بن علوان، الزبيدي - بفتح الزاي - ثم المهجمي، ولي
قضاء المهجم مدة، وكان نبيهاً مشكور السيرة.
محمد بن أيوب بن سعيد بن علوي، الحسباني الأصل الدمشقي الشافعي، ولد
(3/114)
سنة بضع وسبعين، واشتغل وحفظ المنهاج في
الفقه والمحرر لابن الهادي وغيرهما، وأخذ عن الزهري والشريشي والصرخدي
وغيرهم، ولازم الملكاوي حتى قرأ عليه أكثر المنهاج، ومهر في علم الفقه
وفي الحديث، وجلس للاشتغال بالجامع والنفع إلى الطلبة، وكان قليل
الغيبة والحسد بل حلف أنه ما حسد أحد، مات مطعوناً في ربيع الآخر وقد
تقدم ذكر والده قريباً.
محمد بن أبي بكر بن عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم بن سعد الله ابن
جماعة عز الدين ابن شرف الدين بن عز الدين بن بدر الدين، ولد سنة سبع
وأربعين وسبعمائة بمدينة ينبع، وسمع من القلانسي والعرضي والبياني وجده
وغيرهم، وأحضر علي الميدومي، وأجاز له جماعة من الشاميين والمصريين
بعناية الشيخ زين الدين العراقي، ونشأ مشتغلاً بالعلم، ومال إلى
المعقول فاتقنه حتى صار أمة وحده وبقيت طلبة البلد كلها عيالاً عليه في
ذلك، وصنف التصانيف الكثيرة المنتشرة وقد جمعها في جزء مفرد، وضاع
أكثرها بأيدي الطلبة والموجود فيها التصنيف الأول من حاشية العضد وشرح
جميع الجوامع، وقد أخذت عنه هذين الكتابين، وله على كل كتاب أقرأه مع
أنه كاد أن يقرئ جميع هذه المختصرات التصنيف والتصنيفان، والثلاثة ما
بين حاشية ونكت وشرح، وكان أعجوبة دهره في حسن التقرير، ولم يرزق ملكة
في الاختصار ولا سعادة في حسن التصنيف بل بين لسانه وقلمه كما بينه هو
وآحاد طلبته، وكان ينظم شعراً عجيباً غالبه غير موزون ويخفيه كثيراً
إلا عمن يختص به ممن لا يدري الوزن، وأقرأ التنبيه والوسيط وأقرأ شرح
الألفية لولد المصنف وكتب عليه تصنيفا وأقرأ التسهيل وأقرأ الكشاف
والمطول لسعد الدين وكتب عليه شيئاً سماه المعول والشرح
(3/115)
الصغير لسعد الدين أيضاً وكتب عليه شيئاً
وسماه سبك النضير في حواشي الشرح الصغير، ونظر في كل فن حتى في الأشياء
الصناعية كلعب الرمح ورمي النشاب وضرب السيف والنفط حتى الشعوذة حتى في
علم الحرف والرمل والنجوم ومهر في الزيج وفنون الطب، وكان من العلوم
بحيث يقضي له في كل فن بالجميع هذا مع الانجماع عن بني الدنيا وترك
التعرض للمناصب، وقد نفق في سوق الدولة المؤيدية وكارمه السلطان عدة
مرار بجملة من الذهب ومع ذلك كان يمتنع من الاجتماع به ويفر إذا عرض
عليه ذلك وحضر معنا المجلس المعقود للهروي في السنة الماضية فلم يتكلم
في جميع النهار كله مع التفاتهم واستدعائهم منه الكلام حتى سأله
السلطان في ذلك المجلس عن تصنيفه في لعب الرمح فجحد أن يكون صنف شيئاً،
وكان يبر أصحابه ويساويهم في الجلوس ويبالغ في إكرامهم، وكان لا يتصون
عن مواضع النزه والمقترحات، ويمشي بين العوام ويقف على حلق المنافقين
ونحوهم، ولم يتزوج فيما علمت بل كانت عنده زوجة أبيه فكانت تقوم بأمر
بيته ويبرها ويحسن إليها، ولم يتفق له أن يحج مع حرص أصحابه له على
ذلك، وكان يعاب بالتزي بزي العجم من طول الشارب وعدم السواك حتى سقطت
أسنانه، وبلغني أنه كان يديم الطهارة فلا يحدث إلا توضأ، ولا يترك أحد
يستغيب عنده أحد، هذا مع ما هو فيه من محبة الفكاهة والمزاح واستحسان
النادرة، لازمته من سنة تسعين إلى أن مات، وكان يودني كثيراً ويشهد لي
في غيبتي بالتقدم ويتأدب معي إلى الغاية مع مبالغتي في تعظيمه حتى كنت
لا أسميه في غيبته إلا إمام الأئمة، وقد أقبل في الأخير على النظر في
كتب الحديث واستعار من ابن العديم تخريج أحاديث الرافعي الكبير لشيخنا
ابن الملقن وهو في سبع مجلدات فمر عليه كله
(3/116)
واختصره على ما ظهر له وفرغ منه عند موت
ابن العديم ثم مات هو بعد ذلك بيسير، وكان ينهى أصحابه عن دخول الحمام
أيام الطاعون فقدر أن الطاعون قد ارتفع أو كاد فدخل هو الحمام فخرج
فطعن عن قرب، فمات في ربيع الآخر وفي العشرين منه، واشتد أسف الناس
عليه، ولم يخلف بعد مثله.
محمد بن أبي بكر بن محمد بن أبي الفتح، البيري شمس الدين ابن الحداد،
ولد سنة ... وتفقه على الزين الباريني ومهر، ثم رحل إلى القاهرة وتصرف
وكان يذاكر بأشياء حسنة، وسكن بعد اللنك بحلب دهراً ثم رجع إلى بلده
البيرة، فأقام بزاويته إلى أن مات في رجب.
محمد بن بهادر اللطيفي أحد الأمراء باليمن وقد ناب في وصاب وغيرها،
وكان محباً في أهل الخير.
محمد بن سيف بن محمد بن عمر بن بشارة، مات مقتولاً في القاهرة وحشي
جلده تبناَ وحمل إلى صفد في ذي الحجة.
محمد بن طيبغا التنكزي ناصر الدين، كان أبوه من مماليك تنكز نائب
الشام، فولد له هذا في رمضان سنة إحدى أو اثنتين وستين وحفظ الحاوي،
واشتغل
(3/117)
ولازم الشيخ شهاب الدين بن الحباب مدة وهو
بزي الجند، ثم بعد اللنك - صار يقرأ البخاري ويتكلم في حال القراءة على
بعض الأحاديث، وقد - انقطع عند المصلى فتردد الناس، وكان يغلظ للترك
وغيرهم وربما آذاه بعضهم، وكان يستحضر كثيراً من الفقه والحديث -
والتفسير إلا أنه عريض الدعوى جداً مع أنه متوسط في الفقه، ومات في شهر
رمضان.
محمد بن محمد المشهدي شمس الدين بن القطان، أخذ عن الشيخ ولي الدين
الملوي ونحوه واعتنى بالعلوم العقلية، واشتغل كثيراً حتى تنبه، وكان
يدري الطب ولكن ليست له معرفة بالعلاج، سمعت من فوائده، ومات في
الطاعون عن نحو ستين سنة.
محمد بن علي بن معبد القدسي المالكي المعروف بالمدني، ولد سنة تسع
وخمسين، واشتغل قليلاً وأخذ عن جمال بن خير ولازمه، وسمع الحديث من محي
الدين بن عبد القادر الحنفي وحدث، ثم ولي تدريس الحديث بالشيخونية
فباشره مع قلة علمه به مدة ثم نزل عنه، ثم ولي القضاء بعناية فتح الله
كاتب السر في الأيام الناصرية، ثم صرف ثم أعيد ثم صرف في الأيام
المؤيدية ثم أعيد، وكان مشكوراً في أحكامه، ووقعت له كائنة صعبة مع
شريف حكم بقتله، فأنكر عليه ذلك أهل مذهبه ولم يكن بالماهر في مذهبه،
مات في عاشر ربيع الأول.
محمد بن عمر بن إبراهيم بن محمد بن عمر بن عبد العزيز بن محمد بن أبي
جرادة، العقيلي الحلبي نزيل القاهرة ناصر الدين ابن العديم الحنفي،
تقدم نسبه في ترجمه أبيه سنة إحدى عشرة، ولد سنة اثنتين وتسعين بحلب
وأسمع على عمر بن أيدغمش مسند حلب وعلى غيره، وقدم القاهرة مع أبيه وهو
شاب فشغله في عدة فنون
(3/118)
على عدة مشايخ، وقرأ بنفسه على شيخنا
العراقي قليلاً من منظومته، وكان يتوقد ذكاء مع هوج ومحبة في المزاح
والفكاهة إلى أن مات أبوه وأوصاه أن لا يترك منصب القضاء ولو ذهب فيه
جميع ما خلفه، فقبل الوصية ورشا على الحكم إلى أن وليه، ثم صار يرشوا
أهل الدولة بأوقاف الحنفية بأن يؤجرها لمن يخطر له منهم ببال بأبخس
أجرة ليكون له عوناً على مقاصده إلى أن كان يخربها ولو دام قليلاً
لخربت كلها، وصار في ولايته القضاء كثير الوقيعة في العلماء قليل
المبالاة بأمر الدين كثير التظاهر بالمعاصي ولا سيما الربا سيئ
المعاملة جداً أهوج متهوراً، وقد امتحن في الدولة الناصرية على يد
الوزير سعد الدين البشري وصودر وهو مع ذلك قاضي الحنفية.
ثم قام في موجب قتل الملك الناصر قياماً بالغاً ولم ينفعه ذلك لأنه ظن
أن ذلك يبقيه في المنصب فعزل عن قريب كما تقدم في الحوادث، وقد ذكرنا
في الحوادث تنقلاته في القضاء والشيخونية، ثم لما وقع الطاعون في هذه
السنة ذعر منه ذعراً شديداً وصار دأبه أن يستوصف ما يدفعه ويستكثر من
ذلك أدوية وأدعية ورقي، ثم تمارض لئلا يشاهد ميتاً ولا يدعى إلى جنازة
لشده خوفه من الموت، فقدر الله أنه سلم من الطاعون وابتلى بالقولنج
الصفراوي، فتسلسل به الأمر إلى أن اشتد به الخطب فأوصى ومن جملة وصيته
ما قدمته من قصة ابن الطرابلسي، فلما بلغه أن ابن الطرابلسي مات قبله
سر بذلك وأشهد عليه أنه رجع عما كان أوصى به لابن الجيتي، فقدر الله
تعالى أن ابن الجيتي أيضاً قد مات قبله بعشرة أيام، ثم مات ابن العديم
في ليلة السبت تاسع شهر ربيع الآخر.
(3/119)
أبو البركات محمد بن أبي السعود محمد بن
حسين بن علي بن أحمد بن ظهيرة، المخزومي المكي كمال الدين، ولد سنة
أربع وستين وسبعمائة، وأحضر على عز الدين بن جماعة ولم يعتن بالعلم بل
كان مشتغلاً بالتجارة مذكوراً بسوء المعاملة، وولي حسبة مكة ونيابة
الحكم عن قريبه الشيخ جمال الدين، فعيب جمال الدين بذلك، وأنكر عليه من
جهة الدولة فعزله، فسعى هو في عزل جمال الدين وبذل مالاً في أوائل
الدولة المؤيدية فلم يتم له ذلك حتى مات جمال الدين، فتعصب له بعض أهل
الدولة فولي دون السنة ثم ولي مرة ثانية في هذا السنة دون الشهرين،
ومات معزولاً في ثالث عشري ذي الحجة بعلة ذات الجنب.
محمد بن محمد بن عبد الله شمس الدين ابن مؤذن الزنجبيلية، اشتغل وهو
صغير، فحفظ مجمع البحرين والألفية وغيرها، وأخذ الفقه عن البدر
المقدسي، وابن الرضي، ومهر في الفرائض وأخذها عن الشيخ محب الدين،
واحتاج الناس فيها، وجلس للاشتغال بالجامع الأموي، وكان خيراً ديناً
مات في شوال.
محمد بن محمد بن محمد بن إبراهيم الحسباني شمس الدين رئيس المؤذنين
بالجامع الأموي، وكبير الشهود بدمشق، كان عارفاً بالشروط سريع الكتابة
ذكياً يستحضر كثيراً من الفقه والحديث مع كثرة التلاوة، مات في شعبان.
محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن عبد الدائم، الباهي أبو الفتح نجم
الدين الحنبلي، وبرع في الفنون، وتقرر مدرساً للحنابلة في مدرسة جمال
الدين برحبة باب
(3/120)
العيد، وكان عاقلاً رصيناً كثير التأدب؛
مات في ليلة الجمعة رابع عشري ربيع الأول بالطاعون عن بضع وثلاثين سنة.
محمد بن محمد الكوم، الربشي تاج الدين ابن شمس الدين نقيب درس
الحنابلة، مات في ربيع الأول مطعوناً ولم يبلغ الخمسين، وكان موصوفاً
بحسن المعاملة.
محمد بن الشيخ ... الدين، الحلواني، مات في يوم الخميس رابع عشي صفر
مطعوناً، وكان كثير المجازفة في القول سامحه الله.
محمد بن.....قطب الدين الأبرقوهي أحد الفضلاء ممن قدم القاهرة في رمضان
سنة ثماني عشرة فأقرأ الكشاف والعضد وانتفع به الطلبة، ومات في أواخر
صفر مطعوناً.
مساعد بن ساري بن مسعود بن عبد الرحمن، الهواري المصري، نزيل دمشق، ولد
سنة بضع وثلاثين، وطلب بعد أن كبر فقرأ على الشيخ صلاح الدين العلائي
وولي الدين المنفلوطي وبهاء الدين بن عقيل والأسنوي وغيرهم، ومهر في
الفرائض والميقات، وكتب بخطه الكثير لنفسه ولغيره، ثم سكن دمشق وانقطع
بقرية عقربا، وكان الرؤساء يزورونه وهو لا يدخل البلد مع أنه لا يقصده
أحد إلا أضافه وتواضع معه، وكان ديناً متقشفا، سليم الباطن، حسن
الملبس، يستحضر الكثير من الفوائد وتراجم الشيوخ الذين لقيهم،
(3/121)
وله كتاب في الأذكار سماه بدر الفلاح في
أذكار المساء والصباح، ومات بقرية عقربا شهيداً بالطاعون، وكان دميم
الشكل جداً رحمه الله.
مفتاح الطواشي، الحبشي ثم اليمني، ولي إمرة عدن للأشرف.
مقبل بن عبد الله، الطواشي الأشقتمري الرومي، كان جمدار عند الظاهر
والناصر وكان ملازماً لديانة محباً للفقهاء، اشتغل بالعلم كثيراً، وحفظ
الحاوي الصغير فصار يذاكر به، حسن القراءة للقرآن جداً، ثم عمر مدرسة
بالتبانة وقرر فيها مدرستين وطلبة، وكان قد أسر مع اللنكية من دمشق ثم
خلص، وحضر مع الرسل الواردين من اللنك في سنة ست وثمانمائة وجاور عامين
متواليين قبل موته، ومات بالطاعون.
موسى بن أحمد بن عيسى، الحرامي - بالمهملتين - أمير حلي انفرد بإمرتها
بعد أخيه دريب، ثم أخرجه حسن بن عجلان منها، ثم عاد إليها حتى مات في
هذه السنة.
موسى بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الناصر بن عالي بن عمر الشريف شرف
الدين الشطنوفي، ولد في حدود الأربعين، ومات في ذي القعدة، وكان حسن
المحاضرة كثير النادرة وينظم شعراً كثيراً وسطاً.
همام بن أحمد الخوارزمي - هكذا رأيت بخطه، وقد يدعى محمداً أيضاً،
الشيخ همام الدين الشافعي، اشتغل في بلاده ثم جاء إلى حلب قبل اللنكية،
فأنزله القاضي
(3/122)
شرف الدين أبو البركات في دار الحديث
البهائية، فأقام بها، ثم قدم القاهرة في أوائل الدولة الناصرية، واشتمل
عليه بعض الأمراء فحصل له بعض المدارس، ثم نزل عنها للحاجة، فلما عمر
جمال الدين مدرسته عين له، ووصف وبالغ في الوصف فاستحضره وأشخص به
وأسكنه بيتاً قريباً منه ورتب له الرواتب الواسعة، ثم لما فتحها أسكنه
في المسكن البهي الذي عمر له وأجلسه شيخا بها وقرر له معاليم ورواتب
خارجاً عن ذلك وهدايا وعطايا ومراعاة وسماع كلمة فنبه بعد أن كان
خاملاً، وتحلى بما ليس فيه بعد أن كان عاطلاً وانثال عليه الطلبة لأجل
الجاه، فكان يحضر درسه منهم أضعاف من هو منزل فيه، وأقرأ في المدرسة
المذكورة الحاوي والكشاف، ثم طال الأمر فاقتصر على الكشاف وكان ماهراً
في إقرائه إلا أنه بطيء العبارة جداً بحيث يمضي قدر درجة حتى ينطق بقدر
عشر كلمات، وكانت له مشاركة في العلوم العقلية مع إطراح التكلف وسلامة
الباطن، يمشي في السوق ويتفرج في الحلق في بركة الرطلي وغيرها، وكانت
له ابنة ماتت أمها فصار يلبسها بزي الصبيان ويحلق شعرها ويسميها سيدي
علي. وتمشي معه في الأسواق إلى أن راهقت، وهي التي تزوجها الهروي
فحجبها بعد ذلك، وقد ذكرت ما اتفق له في المجلس المعقود للهروي مات في
العشر الأخير من ربيع الأول وقد جاوز السبعين.
يوسف بن عبد الله المارديني الحنفي، قدم القاهرة ووعظ الناس بالجامع
الأزهر، وحصل كثيراً من الكتب مع لين الجانب والتواضع والخير
والاستحضار لكثير
(3/123)
من التفسير والمواعظ؛ مات في الطاعون وقد
جاوز الخمسين، وخلف تركة جيدة ورثها أخوه أبو بكر: ومات بعده بقليل سنة
822هـ.
نور الدين بن قوام البالسي ثم الصالحي.
(3/124)
سنة عشرين وثمانمائة
استهلت والسلطان على قصد السفر لتمهيد أمور البلاد الشمالية فعلق
الجاليش في خامس المحرم ونودي على الفلوس أن تكون سعر كل رطل ستة
فاستقامت الأحوال، وأمر طرغلي بن صقل سيز السفر لجمع التراكمين فتوجه،
وفرقت النفقات في نصف الشهر فكان لكل مملوك عشرة آلاف درهم يكون حسابها
من الذهب أربعين مثقالاً، وكانت النفقة من الخزانة للأمير الكبير خمسة
آلاف دينار ولأمير آخور أربعة آلاف، ولمن دونه من المقدمين لكل واحد من
الطبلخاناة خمسمائة ولكل أمير عشرة مائتين.
وفي أول هذه السنة بلغ أقباي الدويدار نائب حلب تغير خاطر السلطان عليه
فركب على الهجن جريدة في أسرع وقت فوصل إلى قطيا واستأذن في الوصول،
فأمر السلطان بتلقيه، فتلقوه بسرياقوس، وجهز إليه مركوب وكاملية، فلقي
السلطان يوم السبت محرم 24 المحرم، فلامه السلطان على سرعة الحركة
فاعتذر، فقرره على نيابة الشام وأمره بالمسير إلى دمشق فسار جريدة على
الخيل.
وفيه ضرب الدنانير من عشرة مثاقيل وخمسة، وكان السالمي قبل ذلك ضرب ذلك
ثم بطل فجدده المؤيد، فكان الذي يحصل له الدينار منها لا يجد صيرفيا
يصرفه، فلما كثر التشكي من ذلك بطلت.
واستناب في حلب قجقار القردمي أمير سلاح، وجهز أقبغا أمير أخور للقبض
على الطنبغا العثماني نائب الشام والحوطة على موجوده وسجنه بالقلعة
فتوجه لذلك مسرعا. ونودى للأجناد البطالين أن يخدموا عند الأمراء وعند
السلطان، ومن وجد بعد ذلك بطالاً - بغير خدمة لا يلومن إلا نفسه! ثم
قبض على جماعة ممن لم يمتثلوا الأمر فسجنوا
(3/125)
وخرج السلطان إلى الريدانية في سادس عشري
المحرم، وقرر نيابة الغيبة طوغان أمير آخور، وقرر في القلعة أزدمر
شايه، وكان قدم أمير المحمل في أول السنة، وقدم القاصد إلى السلطان
بخيمة كبيرة بلغت النفقة عليها عشرة آلاف دينار، وتقدم الجاليش صحبة
إبراهيم ولد السلطان ومعه قجقار نائب حلب وجماعة من الأمراء وسار
السلطان في رابع صفر، وتأخر بالقاهرة فخر الدين الأستادار وعين نائب
الغيبة له مائتي مملوك يكونون صحبته من أجناد القلعة وسافر القضاة صحبة
السلطان على العادة إلا المالكي فكان قريب العهد بالقدوم من الحج فأعفي
عن السفر، وأتفق أن شهاب الدين القرداج كان استقر مؤذناً في الركاب
السلطاني فتغيب عن السفر فورد، المرسوم بعد مدة بالقبض عليه وبتجريسه
فجرس ثم حبس إلى أن جاء الخير بقدوم السلطان فأفرج عنه وأذن له في
ملاقاته.
في ثاني عشر صفر وصل ناصر الدين ابن خطاب الحاجب بدمشق بسبب الطنبغا
العثماني وقد قبض عليه وسجن بقلعة دمشق، وكان الخبر لما وصل بذلك أذعن
وحل سيفه بيده وهو حينئذ بالحزبة وتوجه صحبة العسكر إلى دمشق فسجن
بالقلعة، ونزل السلطان غزة في نصف صفر، ونزل بمصطبة استجدها بظاهر
المدينة، فقدم خليل الجشاري نائب صفد وحسن بشارة مقدم البلاد الصفدية
عليه.
ثم توجه إلى جهة دمشق وأمراء العربان ومشايخ البلاد يردون إلى أن وصل
مرج الكتيبة في سابع عشري صفر، وقدم عليه قصاد أمراء التركمان يسألون
الصفح عنهم ويعدونه بحضورهم إلى الطاعة، فأجيبوا بأنهم إن صدقوا في ذلك
وصلوا وإلا فليتخذ كل منهم نفقاً في الأرض أو سلماً
(3/126)
في السماء.
ثم قدم أقباي نائب الشام في العسكر، ودخل السلطان دمشق أول ربيع الأول،
ولم ينزل القلعة بل استمر سائراً إلى أن نزل بالمصطبة التي استجدها
لنفسه ببرزة وابنه إبراهيم حامل القبة على رأسه فكان يوماً مشهوداً.
وفي ليلة الجمعة عمل المولد هناك على العادة وأرسل في ثامنه زين الدين
الخواجا إلى محمد بن قرمان برسالة.
وفي تاسعه قدم يشبك نائب طرابلس.
وفي عاشره دخل السلطان حمص وقدم نائب حماة جارقطلو فأعيد إليها من
ساعته لعمل المهمات السلطانية.
وفي ثالث ربيع الأول أفرج السلطان عن سودون القاضي وأعطاه إقطاع اقبردى
المنقار بعد موته، وتوجه السلطان على حماة فقدم عليه بها حديثة بن سيف
أمير آل فضل وغنام بن زائل أمير آل موسى فتشاجرا في قتل سالم بن طويب
فسكن السلطان ما بينهما، ثم عرض عليه تقادم لأمراء فقبلها، ثم سار
متوجهاً إلى حلب فخيم في ليلة الثلثاء سابع عشرة بمنزلة تل السلطان
وكانت قديماً تعرف بالعبيديين، وأصبح فاستعرض العساكر هناك، ثم رحل إلى
قنسرين فقدم بها قجقجار القردمي نائب حلب بعساكرها، ثم قدم طغريل بن
صقيل سيز بعساكره وهم ألف وخمسمائة فارس.
وفي يوم السبت حادي عشر ربيع الأول ركب السلطان عند الفجر وشرع في صف
الأطلاب وتعبية العساكر بنفسه، ودخل حلب وهو في الميمنة من شرق حلب بين
النيرب وجيرين وشقها إلى أن نزل المصطبة الظاهرية خارجها، ودخلت
الميسرة من الجهة الأخرى والتقوا بالميدان الأخضر، وترقب وصول الرسل
التي أرسلها إلى أطرافه، فقدم في ثاني
(3/127)
عشري ربيع الأول خليل بن بلال الكردي نائب
مدينة إياس ومعه مفاتيح قلعتها، فقرر في نيابتها صاروجاء مهمندار حلب.
وقدم عليه في ثالث عشر منه جمع كثير من التركمان والعربان، ثم جهز نائب
الشام ونائب حماة وعسكرهما ومن انضم إليهما من تركمان وعرب إلى جهة
ملطية وقرر داود بن أوزر وجماعة بالعمق، وقرر في نيابة حلب يشبك
اليوسفي، وفي نيابة القلعة شاهين وأرغون وأمره بتقوية البرجين اللذين
جددهما جكم، فأكمل عمارتهما وشيدهما وحصنهما، فصارا كقلعتين استخرجتا
من القلعة الكبرى وعظم شأن القلعة بهما، وأمر المؤيد بعد ذلك بتكملة
سور حلب فشرع فيه وطلب العمال من البلاد حتى جدوا فيه وتعب أهل حلب في
عمله، ثم سار الجاليش السلطاني ومقدمهم الطنبغا القرمشي في عدة من
الأمراء، وتوجه السلطان في ثاني ربيع الآخر على جهة العمق، فقدم عليه
رسل محمد بن قرمان وفيهم مصلح الدين مرسل قاضي عسكره وصحبته هدية وكتاب
اعتذار عن تقصيره وطبق فضة مسكوكة باسم المؤيد، فعنف السلطان الرسول
وعدد له خطأ مرسله في امتناعه عن تجهيز مفاتيح طرطوس، وفي عدم قبضه على
كزل وغيره من المتسحبين فاعتذر مصلح الدين، فصفح عنه وأمره بالجلوس
وفرق الدراهم على الحاضرين، وقدم في ذلك اليوم رسول ابن عثمان، ثم قدم
إبراهيم بن رمضان وابن عمه وأكثر التركمان الأوجيقية وقدمت معهم أم
إبراهيم وأولاده الصغار، فأكرمهم السلطان وخلع عليهم وأنفق فيهم، وأرسل
مصلح لإحضار مفاتيح طرطوس بشرط إن مضى جمادى الأولى ولم يحضرها مشى
السلطان على بلاد ابن قرمان، وتوجه قجقار نائب حلب إلى جهة طرطوس فقدم
بين يديه شاهين الأيدكاري فدخل طرطوس وتحصن نائبها مقبل بالقلعة، فنزل
(3/128)
قجقار فحاصر القلعة إلى أن أخذها بالأمان
في أواخر ربيع الآخر.
وأخذ مقبل ومن معه وسجنوا - وسار السلطان على جهة مرعش على الأبلستين
وحضر إلى قجقار لما نزل بغراص خليفة الأرمن بمفاتيح قلعتي سيس وبادوز،
فجهزهم السلطان فخلع علي القصاد.
وقرر في نيابة قلعة سيس الشيخ أحمد أحد العشراوات بحلب، ووصل نائب
الشام إلى ملطية في خامس ربيع الآخر فوجد حسن بن كبك قد أحرقها فلم يبق
منها إلا اليسير ولم يتأخر من أهلها إلا الضعيف العاجز ونزح فلاحوها
فتوجه في آثارهم وأعلم السلطان، فأرسل السلطان ولده إبراهيم ومعه جقمق
الدويدار وجماعة من الأمراء فساروا مجدين ودخلوا الأبلستين للقبض على
ابن دلغادر، ففر منهم وأخلى البلاد، فتوجهوا منها وأوقعو بمن في كلد من
التركمان وبمن في خان السلطان وبمن صار وشر ولحقوا محمد بن دلغادر في
سادس عشره وهو سائر بحريمه وأثقاله فاحتووا على جميع ماله، وخلص هو في
جريده من الخيل، وقبض على جماعة من أصحابه، ومن جملة ما نهب له مائة
بختي كل واحد قدر الفيل،
(3/129)
ورجع نائب الشام وقد قرر أمر ملطية، وفر
حسين بن كبك إلى بلاد الروم، وتوجه نائب حماة إلى جهة كختا وكركر فنازل
القلعتين وقد أحرق نائب كختا أسواقها، ثم أمد السلطان نائب الشام بعسكر
آخر، وقدم كتاب محمد بن دلغادر يسأل العفو عن أن يسلم قلعة درندة،
فأجيب إلى ذلك فقدم ولده ومعه هدية ومفاتيح القلعة.
وفي أواخر الشهر قدم قاصد علي ابن دلغادر ومعه هدية وكتاب فأضاف له
السلطان نيابة الأبلستين مع نيابة مرعش، وتوجه السلطان في ثامن عشري
الشهر إلى درندة وبات عليها واستدعى بآلات الحصار فوصلت مفاتيح قلعة
خيدروس، وأوقع الأمير استنبك بن إينال بمحمد بن دلغادر فقطعت يد ولده
الكبير في الوقعة، ثم ركب السلطان بنفسه على درندة، وطلبوا الأمان
فأمنهم يوم الجمعة سلخ الشهر، وفيهم داود بن محمد بن قرمان فألبسه
السلطان خلعة واستولى على القلعة وقرر في نيابة ملطية ودوركي منكلي بغا
الأرغون شاوي.
وفي سادس جمادى الأولى وجه محمد بن شهري عسكراً فقاتلوا بقلعة خرت برت
فأخذوها فجهز من أهلها أحد عشر رجلاً، فأمر السلطان بصلبهم على قلعة
درندة، ثم رجع السلطان إلى الأبلستين يريد بهنسا وكختا وكركر وأرسل من
هنا رسول قرا يوسف واسمه دنكز بجواب كتابه وصحبته هدية مع رسول من جهة
السلطان، ثم وصل رسول من جهة قرا يوسف صحبة القاضي حميد الدين قاضي
عسكره ووصل كتاب محمد شاه بن قرا يوسف وكتاب سر عمر حاكم أذربيجان،
(3/130)
وتوجه السلطان إلى بهنسا بعد أن وجه إليها
نائب الشام، فتسلم نائب الشام القلعة من طغرق بن داود بن إبراهيم بن
دلغادر وأخذه صحبته ورجع إلى لقاء السلطان، فالتقيا به عند حصن منصور
فرضي على طغرق، ونزل قجقار نائب حلب على كختا وكركر، ثم أردفه السلطان
بنائب حماة ونائب طرابلس ونزل السلطان بحصن منصور في أواخر جمادى
الآخرة، فقدم عليه رسول قرا يلك بهدية، وقدم عليه رسول الملك العادل
سليمان الأيوبي صاحب حصن كيفا بهديته، وقرر في نيابة قلعة الروم منكلي
بغا عوضاً عن أبي بكر بن بهادر الياسري وقرر في نيابة بهنسا كمشبغا
الركني، ونازل كختا ونصب للرمي على قلعتها مدفعا - فبينا هو كذلك إذ
ورد الخبر بأن قرا يوسف قصد قرا يلك، فالتجأ قرا يلك إلى السلطان
وكاتبه واحتمى به واشتد الحصار على قلعة كختا ولم يبق إلا أخذها فطلب
صاحبها الأمان، فآل الأمر إلى أنه يبعث ولده لهنا وينزل عن القلعة بعد
رحيل السلطان، فتوجه السلطان إلى جهة كرر وسارت الأثقال إلى عينتاب
فنازل السلطان قلعة كركر في أوائل جمادى الآخرة ونزل قرقماش من قلعة
كختا فتسلمها نواب السلطان، وطرق جماعة من عسكر قرا يوسف قلعة تناسر
فنهبوا بيوت الأكراد، وعدا منهم جماعة الفرات فركب عليهم بغا نائب
ملطية فساروا إلى خرت برت، وقرر السلطان شاهين الحاجب في نيابة كركر
وكزل بغا في نيابة كختا.
وفي سابع رجب عاود السلطان ألم رجله فركب المحفة عجزاً عن ركوب الفرس،
فنزل الفرات في مركب وصحبته خاصته إلى أن وصل قلعة الروم وقرر أمرها.
وفي سابع رجب قدم كتاب اقباي نائب الشام أن قجقار نائب حلب رحل عن حصار
(3/131)
كركر بغير علمه، فوصل كتاب قجقار يعتذر عن
ذلك بأنه بلغه أن قرا يوسف واقع قر يلك فهزمه وأن من معه خافوا من قرا
يوسف، فلما حل ذلك رحل فأجيب نائب الشام بأن يستمر على الحصار، ووقع
الغضب على قجقار، ثم طلب خليل نائب كركر الصلح من نائب الشام فراسل
السلطان في ذلك، ودخل السلطان حلب في ثالث عشر رجب فوجد أهلها في وجل
شديد من قرب قرا يوسف، فاطمأنوا بحضور السلطان، وأمر السلطان بتكملة
القصر الذي كان جكم قد شرع في عمارته فعمر في أسرع وقت، وقعد السلطان
فيه في آخر الشهر وأمر بصلب مقبل القرماني ورفاقه، ووصل النواب في سابع
عشر رجب، فأغلظ السلطان لقجقار يوبخه على سرعة رحيله، فأجاب بغلظة فأمر
بالقبض عليه فسجن بقلعة حلب ثم أفرج عنه من يومه وأرسله إلى دمشق
بطالاً، وقرر يشبك نائب طرابلس في نيابة حلب، وقرر بردبك في نيابة
طرابلس، وقرر ططر رأس نوبة موضع بردبك، ونقل جارقطلو إلى نيابة صفد،
وقرر في نيابة حماة نكباي ونقل خليل الجشاري نائب صفد حاجباً بطرابلس
فاستعفى فأعفي، وقرر عوضه سودون - قرا صقل وتوجه النواب إلى بلادهم،
وحضر السلطان حميد الدين رسول قرا يوسف ورسول صاحب حصن كيفا يسأل أن
ينعم عليه بانتسابه إلى السلطان واستمراره نائباً من نوابه، فخلع على
قاصده وخلع على قاصد قرا يوسف وأعيد إلى مرسله.
وفي شعبان أصلح السلطان بين حديثه أمير آل فضل وبين غنام ابن زامل
وحلفهما على الطاعة، وخلع على محمد بن دلغادر بنيابة الأبلستين.
ووصل قاصد كردي بك ومعه سودون اليوسفي أحد من هرب في وقعة قانباي فسمر
تحت قلعة حلب ثم وسط.
(3/132)
وفي شعبان قبض ابن عثمان على محمد بن قرمان
وعلى ولده مصطفى بعد أن حاصره بقونية واستولى عليها وعلى غالب بلاد ابن
قرمان قيسارية وغيرها.
وفي أواخر شعبان سجن طرغلي وابن عمه طغريل ابنا سقل سيز وسجنا - بقلعة
حلب، وقرر محمد بك - التركماني في نيابة شيزر عوضاً عن طرغلي، وقرر
مبارك شاه في نيابة الرحبة عوضاً عن عمر ابن شهري.
ووصل في سابع عشر شعبان كتاب قرا يلك واسمه طورغلي التركمان بأنه اصطلح
مع قرا يوسف وتسلم قرا يوسف عنه مدينة صور وعوضه عنها بألف ألف درهم،
ومائة فرس ومائة جمل ورحل عنه إلى تبريز في رابع شعبان، فقريء كتابه
على العسكر فاطمأنت نفوس أهل حلب بعد أن كانوا تهيئوا للرحيل إلى
القاهرة فراراً من قرا يوسف، وثم وصلت الكتب من نائب البيرة وقلعة
الروم ونائب كختا ونائب ملطية بنظير كتاب قرا يلك، فرحل السلطان من حلب
في ثامن عشر شعبان، ودخل دمشق في ثالث رمضان، وقبض على أقباي نائب
الشام وسجنه بقلعة دمشق، وكان المؤيد قد اشتراه صغيراً، ورباه ورقاه في
خدمته إلى أن صار دويداراً كبيراً ثم ولاه نيابة حلب ثم دمشق وكان
يتدين ويحب العدل ويسمو بنفسه وعلو همته إلى معالي الأمور، وكان
السلطان غضب منه لكونه آوى جماعة من العصاة الذين خرجوا مع قانباي فهم
به، فبلغه ذلك فقدم مسرعاً فأغضى السلطان عنه ورده إلى نيابة الشام،
فنقل عنه بعض أعدائه أنه يهم بالخروج على السلطان، فاستدعاه السلطان
يوم الركب ووبخه وعدد له من ذنوبه وأمر بالقبض عليه، وقرر تنبك في
نيابة الشام بعد امتناع، ورضى عن قجقار القردمي وقرره أميراً بتقدمة
ألف بمصر، وأفرج عن الطنبغا العثماني ونقله إلى القدس بطالاً، وقرر في
نيابة حلب يشبك اليوسفي وفي نيابة القلعة شاهين الدويدار الأرغون شاه -
فأحسن السيرة وشرع في تحصين البرجين بسفح القلعة: أحدهما
(3/133)
وهو القبلي سوق الخيل، والآخر وهو الشمالي
على باب الأربعين، وبذل الجهد في ذلك، وأمر المؤيد بعمارة السور
القديم. الذي استهدم من زمن هلاكو وهو محيط بمدينة حلب.
وبرز السلطان من دمشق في رابع عشرة، وقدم بيت المقدس في خامس عشر منه،
وفرق على الفقراء مالاً، وجلس بالمسجد الأقصى بعد الصلاة، وقريء
البخاري بحضرته من ربعة وختم، ومدح الوعاظ، وكان وقتاً حسناً، ثم توجه
إلى الخليل فزار وتصدق أيضاً، ووصل إلى غزة في ثامن عشر منه، وصلى
العيد على المصطبة المستجدة ظاهر غزة، ورحلوا من آخر يوم العيد فقدم
خانقاه سرياقوس تاسع الشهر فأقام بها إلى رابع عشر شوال، وبات ليلة
النصف بخليج الزعفران فأصبح باكره فرأيته - خلع على الأمراء وأصحاب
الوظائف، وكانت خلع القضاة بسمور إلا المالكي فإنها كانت بسنجاب لكونه
لم يسافر معهم، ودخل القاهرة في نصف الشهر وابنه إبراهيم يحمل القبة
على رأسه فشق القاهرة وقد زينت له، ودخل جامعه الجديد ومد له -
الأستادار سماطاً حافلاً فأكل منه، ثم مد له سماط آخر حلوى فتنوهبت، ثم
ركب إلى القلعة وفرش الأستادار لخيله شققاً حريراً من أوائل الحسينية
إلى القلعة.
وفي تاسع عشرة استقر طوغان أمير آخور عوضاً عن تنبك يبق نائب الشام،
وقرر الطنبغا المرقبي وكان نائب قلعة حلب في الحجوبية الكبرى، وقرر
قجقار القردمي أمير سلاح على عادته قبل نيابة حلب، وخلع على الأستادار
بالاستمرار وأضيفت إليه أستادارية إبراهيم ابن السلطان، ورخصت الجمال
عند خروج الحجاج جد الكثرة ما ورد مع العسكر.
ثم ركب السلطان في ثاني عشري شوال إلى الصيد ورجع فنزل بيت الأستادار،
فخدمه بعشرة آلاف دينار، وركب من منزله حتى شاهد الميضاة، التي أنشأها
الأستادار بجوار الجامع المؤيدي، وكان فرغ الأستادار منها في مدة
يسيرة.
(3/134)
وفي خامس عشري من شوال استعفى فخر الدين
الأستادار من الوزارة فقرر فيها أرغون شاه وكان أستادار نوروز بالشام
في السادس والعشرين من شوال فباشر الوزارة بحرمة وصولة، وقدم الأستادار
للسلطان عند قدومه من السفر أربعمائة ألف دينار عيناً، ثمانية عشرة ألف
إردب غلة، فمن ذلك أربعين ألف دينار حصلها من ديوان الوزارة بعد
التكفية في هذا المدة اللطيفة، وثمانون ألف دينار جباها من النواحي،
وثلاثون ألف دينار من ماله هو، وكان حمل إلى الشام قبل ذلك مائة ألف
دينار، فاستعظم السلطان ذلك وتقرر عنده أنه لا نظير له في المباشرين،
ولم يسمع فيه بعد ذلك لومة لائم، فعوجل فخر الدين عن قرب ولم ينفعه ما
ظلم الناس به.
وفي يوم الثلاثاء العشرين من شوال أدير المحمل وقرر أمير الحاج يشبك
الدويدار الثاني، ولم تكن العادة بإدارته إلا يوم الاثنين أو الخميس
واتفق أن أمير الركب هذا لما بلغه ما وقع لأخيه آقابي - نائب الشام خشي
على نفسه فهرب من المدينة بعد الرجوع، فقام بأمر الحاج اسنبغا الفقيه
إلى أن وصلوا إلى القاهرة، وأخبر الحاج لما رجعوا بأن السنة كانت شديدة
الرخص حتى بيع الجمل الدقيق بستة دنانير أفلورية - ويقال إنه استقام
على الذي جلبه باثني عشر.
وفي الرابع والعشرين من شوال أخرج قباي ومن بالقلعة من المسجونين فخرج
نائب القلعة في إثره إلى باب الجديد وركب نائب الشام فأغلق آقباي باب
القلعة واعتصم بها، وحاصره تنبك يبق وراسل السلطان بذلك، واستمر يومين،
فوشي إلى النائب بأن آقباي قد خرج في النهر ومشى فيه إلى طاحون باب
الفرج فقبض عليه هناك وعلى بعض أصحابه، فعوقب عقوبة شديدة على صنيعه ثم
قتل بأمر السلطان وقدم برأسه في الثاني من ذي الحجة، وقرر في نيابة
القلعة شاهين الحاجب الثاني وقرر في الحجوبية عوضه كمشبغا طولو.
وقرر في تقدمة التركمان عوضه شعبان بن اليغموري أستادار الديوان المفرد
بدمشق.
وفي تاسع ذي القعدة وصل رسول قرا يلك في هذا الشهر فانحل سعر عامة
المبيعات من الغلال وغيرها، وكان في الظن أن يلغو
(3/135)
ذلك بقدوم العسكر فجاء الأمر بخلاف ذلك.
فلما كان في ذي الحجة قلت الغلال وزاد سعر القمح وغيره مائة درهم
الإردب وأزيد، وكان السبب في ذلك قلة المطر في الشتاء فجفت الزروع
وهافت، فمنع من عنده قمح وغيره من البيع، فلطف الله تعالى بنزول الغيث
في رابع عشر ذي الحجة وهو الموافق لإمشير فجادت الزروع ونمت وزكت
وتراخى السعر ولله الحمد.
وفيها عصى محمد شاه بن قرا يوسف على أبيه في بغداد وامتنع من الوصول
فأراد أبوه أن يحاصره، فأشير عليه بعدم التعرض له فتركه، وشرع محمد
المذكور في جمع المال فحصل منه شيئاً كثيراً.
وفيها قتل الشيخ نسيم الدين التبريزي نزيل حلب وهو شيخ الحروفية وقد
تقدم ذكر شيخه فضل الله في حوادث سنة أربع وثمانين، وأما هذا فإنه سكن
حلب وكثر
(3/136)
أتباعه وشاعت بدعته فآل أمره إلى أن أمر
السلطان بقتله فضربت عنقه وسلخ جلده وصلب، وقد وقع لبعض أتباعه كائنة
في سلطنة الأشراف وأحرقت كتابه معه فيه هذا الاعتقاد وأردت تأديبه فحلف
أنه لا يعرف ما فيه وأنه وجده مع شخص فظن أن فيه شيئاً من الرقائق
فأطلق، بعد أن تبرأ مما في الكتاب المذكور تشهد والتزم أحكام الإسلام،
وكان سبب وقوع ذلك أن شخصاً شريفاً قدم من الشام وذكر أنه لم يزل يسعى
في الإنكار على هؤلاء إلى أن عثر بهذا وكتب له مرسوم بالقيام عليهم في
بلاد الشام، ثم قدم علينا شخص من أهل أنطاكية فذكر لنا عنهم أموراً
كثيرة وكتب له مراسيم بالقيام عليهم وذلك في سنة 841
من الحوادث غير ما يتعلق بسفر السلطان
في المحرم وضعت جاموسة ببلقس مولوداً برأسين وعينين وأربعة أيد وسلسلتي
ظهر ودبر واحد ورجلين اثنتين لا غير وفرج واحد أنثى والذنب مفروق
باثنين، فكانت من بديع صنع الله.
وفي العشرين من المحرم عرض القاضي زين الدين عبد الباسط الكسوة التي
استعملها
(3/137)
فكانت في غاية الحسن، وكان الموت في جمال
الحاج كثيراً فتضرر طوائف من الحاج وغلا السعر معهم.
وفي أواخر المحرم صرف منكلي بغا عن الحسبة وأعيد محمد بن يعقوب.
وفي صفر توجه فخر الدين الأستادار إلى الوجه البحري فأسعره ناراً من
كثرة المصادرات حتى فرض على كل قرية وكفر وبلد ذهباً معيناً فحصله في
أسرع مدة ومنع من بيده رزقه من قبض خراجها. وكان ذلك شيئاً عظيماً إلا
أنه رجع عن ذلك. واستقوى على المستضعفين وتتبع من يعرف بالمال في الوجه
البحري فبالغ في استخلاص الذهب منهم بالمصادرة والرماية وغير ذلك.
وفي ربيع الأول ابتدأ فخر الدين الأستادار بهدم الأماكن التي بظاهر
المقس إلى قنطرة الموسكي إلى ما يقابل داره الجديدة التي كانت تعرف
بدار بهادر الأعسر وكانت تعرف قديماً بدار الذهب وهي مطلة على الخليج
الحاكمي. فشرعوا في الهدم ونقل التراب فدخل في ذلك من الدور والمساجد
والحوانيت ما يكون قدر مدينة كبيرة، وأراد أن يعمل ذلك بستاناً كبيراً
فشرع فيه، ثم أجرى الماء بعد وفاء النيل من الخليج الناصري ومات قبل أن
يتم ما أراد من ذلك فصارت تلك النواحي مكانة مهولة بالأتربة.
وفي حادي عشر ربيع الأول قدم فخر الدين بن أبي الفرج من الوجه البحري،
وفيه تهدمت الدور التي أحدثت فوق البرج الذي يجاور باب الفتوح واتخذ
هناك مكان وأمر السلطان بحبس أولى الجرائم فيه عوضاً عن خزانة شمائل،
وفيه كثر الإرجاف بمجيء الفرنج فشرع أهل الإسكندرية في حفر الخندق
واستعدوا لذلك.
وفيه شرع فخر الدين في التجهز إلى جهة الصعيد ليفعل فيها ما فعله في
الوجه
(3/138)
البحري، فاستعد لذلك وجمع فرسان العربان من
كل جهة وأوسع لهم في إخراج العدد التامة من أنواع السلاح، ووسع لهم في
العطايا.
وخرج في سادس عشره في جمع كثير فأوقع بطوائف منهم يقال لهم عرب لهانة
بناحية القلندون والأشمونين فانهزموا، واستمر متوجهاً وحصل له من البقر
والجاموس والجمال والغنم ما لا يدخل تحت الحصر فإن بعضه هلك وبعضه وصل
وشرعوا في رميه على الناس وقرر على البلاد الصعيدية نحو ما قرر على
البلاد البحرية.
وفيه مات فرج بن الناصر فرج بن الظاهر برقوق بالإسكندرية مطعوناً، فشاع
بالقاهرة أنه هو وأخوه والخليفة ماتوا جميعاً فلهج الناس بأنهم ماتوا
بالسم، ثم تبين فساد ذلك وأنه لم يمت إلا هذا وحده بالطاعون، وانكسرت
بموته حدة كثير من المماليك السلطانية الناصرية، وكانوا في كل وقت يشاع
أنهم يريدون الثورة ليسلطنوه، وفشا الطاعون بالإسكندرية ودمياط، ووقع
منه بالقاهرة شيء يسير بلغ في اليوم أربعين نفساً.
ومن الحوادث أن السلطان نزل في سادس ذي الحجة وحده بغير أمير من
الأمراء إلى الجامع بباب زويلة فنظره وطلع إلى أعاليه وشاهد المواضع
التي أخرت من الأبنية ولم يكن صحبته سوى الأستادار وكاتب السر ونحو
عشرة من المماليك، فلما نزل من الجامع دخل بيت كاتب السر ثم خرج مه
فدخل بيت زين الدين عبد الباسط ناظر الخزانة الشريفة.
وفي سابع عشر ربيع الآخر سقط من العمارة بالمؤيدية عشرة أنفس، فمات
أربعة وكسر ستة.
(3/139)
وفي أواخر ربيع الآخر توجه مفلح رسول صاحب
اليمن وصحبته بكتمر السعدي مملوك ابن غراب رسولاً عن السلطان.
في يوم الجمعة ثاني جمادى الأولى أقيمت الخطبة بالجامع المؤيدي ولم
يكمل منه سوى الإيوان القبلي وخطب به عز الدين عبد السلام ... أبن أحمد
المقدسي الشافعي نيابة عن القاضي ناصر الدين البارزي، وتوجه الصاحب بدر
الدين بن نصر الله ناظر الخاص إلى الشام في عاشر الشهر ومعه محضر بما
أنفق في المؤيدية وكان ولده صلاح الدين حينئذ شاداً بها، ثم قدم فخر
الدين الأستادار من الصعيد ومعه ستة آلاف بقرة وثمانية آلاف رأس غنم
وألفا جمل وألفا قنطار قند، ومن العبيد والإماء شيء كثير جداً خارجاً
عن الذهب، وشرع في رمي ذلك على الناس فعم الضرر أهل البوادي والحواضر،
وحصل في هذه المدة اللطيفة من المال شيئاً كثيراً أرصده لمجيء السلطان.
وفي جمادى الأولى وقف النيل ونقص شيئاً كثيراً، ثم عاد واستمرت الزيادة
فانحل سعر القمح بعد أن غلا.
وفي جمادى الآخرة صرف ابن يعقوب عن الحسبة وقرر عماد الدين ابن بدر
الدين ابن الرشيد المصري، وكان ينوب في الحسبة عن التاج وغيره فسعى في
الحسبة عن التاج وغيره فسعى في الحسبة استقلالاً عند نائب الغيبة،
وألزم تعمير البرجين اللذين أحدهما بباب السلسلة تحت القلعة، وقدرت
الغرامة عليهما بخمسمائة دينار فلم يمكن الأستادار مخالفته وكان ابن
(3/140)
يعقوب من جهته، فاستمر معزولاً وساءت حال
عماد الدين بعد ذلك وهرب كما سيأتي، ولو سلك طريق أبيه لكان أولى به
فإن أباه ناب في الحسبة أربعين سنة متوالية ولم يطلب الاستقلال قط فمضى
على سداد إلى أن مات، وانتهت زيادة النيل في هذه السنة في سادس عشر توت
إلى عشر أصابع من عشرين ذراعاً.
وفي السادس من شعبان أمسك نصراني زنى بامرأة مسلمة فاعترفا بالزناء
فحكم شرف الدين عيسى الأقفهسي برجمهما، فرجما خارج باب الشعرية ظاهر
القاهرة عند قنطرة الحاجب، وأحرق النصراني ودفنت المرأة، وعاب الناس
على القاضي صنيعه هذا من عدة أوجه منها استبداده بذلك وإسراعه بالحكم
ودعوى المرأة الإكراه ولم يقبل ذلك منها إلا ببينة فأحضرت واحداً ولم
يؤخرها حتى تسمع الشهادة لكون النصراني أسلم لما تحقق الرجم وغير ذلك،
ثم جاني المذكور وتنصل مما نقم عليه، فالله أعلم.
وفي سادس شعبان رفع إلى الأستادار أن نصرانياً في خدمته يقال له ابن
الحضري وقع منه ما يقتضي إراقة دمه فأحضر القاضي المالكي وكان من
جيرانه وحضر معه خلق كثير، فادعى عليه فأنكر، فتشطرت البينة فحكم
القاضي بتعزيره، فعند ما جرد ليضرب أسلم فترك واستمر، يباشر وهو غير
محب الدين الآتي ذكره، وقرئ البخاري بالمدرسة المؤيدية، وحضر من كان
يحضر في القلعة.
وفي هذا الشهر منع النصارى من تكبير العمائم، ولبس الفراجي والجبب
بالأكمام الواسعة كهيئة قضاة الإسلام، وركوب الحمر الفره واستخدام
المسلمين.
(3/141)
وفي نصف شعبان وصل كتاب السلطان من حلب
بشرح سيرته في السفرة المذكورة في بلاد الروم وما ملك من القلاع التي
لم يملكها أحد من الترك قبله وغير ذلك. فقرأته في الجامع الأزهر وكان
يومه مشهوداً.
وفي الثامن عشر من شعبان أسلم الأسعد ابن الحضرمي النصراني كاتب
الأستادار، وكان يميل إلى المسلمين حتى حفظ قطعة القرآن وشدا طرفا من
النحو، فسماه فخر الدين محمداً ولقبه محب الدين.
وفي رمضان مات قاضي الحنابلة بدمشق شمس الدين ابن عبادة، وقرر بعده
القاضي عز الدين المقدسي الحنبلي، ومات ابن عرب في أواخر ذي القعدة،
واستقر عوضه في تدريس المؤيدية الشيخ محب الدين أحمد بن الشيخ نصر الله
البغدادي.
وفي ثامن عشر رمضان توجه بركات بن حسن بن عجلان إلا مكة، والتزم فخر
الدين الأستادار عنه وعن أبيه بمال للسلطان.
وفيه هم فخر الدين بنقل سجن أصحاب الجرائم المسمى بالخزانة إلى نصر
الحجازية واستأجره وأمر بعمارته، ثم شغل عنه فلم يتم.
وفي ثامن ذي القعدة سار إبراهيم بن سلطان إلى الوجه القبلي لأخذ تقادم
العربان وولاة الأعمال فقام بخدمته ابن محب الدين الكاشف.
(3/142)
وفي حادي عشر ذي القعدة قدم محمد وخليل
ولدا الناصر فرج من الإسكندرية بعد الاعتقال بإذن السلطان، وقدمت رمة
أخيهما فرج فدفنت عند جده الملك الظاهر.
وفي ذي القعدة خرج السلطان إلى البحيرة فوصل إلى رأس القصر، ثم رجع
فنزل القصر الذي أنشأه كاتب السر بالشاطئ الغربي قريب منباية.
ثم في هذا الشهر كان لبعض أهل الصعيد غنم يزيد على عشرين ألف رأس فرعت
في بعض المراعي فماتت عن آخرها، وقيل إن ذلك من المراعي وكان فيه من
حشائش السم.
وفي سلخ ذي القعدة نودي أن يكون كل رطل ونصف من الفلوس بنصف درهم فضة
من المؤيدية، وبلغ الذهب إلى مائتين وثمانين والأفلوري إلى مائتين
وستين، وأمر الأستادار والوزير وناظر الخاص أن يشتريا من الفلوس ما
استطاعوا، ففرض على الأستادار مائة ألف دينار وعلى الآخرين مائة ألف
دينار، وأمر أن يحصلوا بثمنها فلوساً، ونودي: من كان عنده فلوس
فليحملها إلى الديوان السلطاني وينكل من امتنع من حملها أو سافر بها،
وساق فخر الدين الأستادار في الأضاحي إلى السلطان خاصة ألف رأس من
الكباش العلوفة ومائة وخمسين بقرة، وقام عنه في التفرقة على الأمراء
وغيرهم بعشرة آلاف رأس.
وفي سادس عشريه نزل السلطان إلى الجامع المؤيدي ثم إلى بيت كاتب السر
وهو بثياب جلوسه.
وفي رابع عشري ذي القعدة أضيفت الحسبة إلى أقبغا شيطان الوالي وصرف
عماد الدين، وقرر سودون القاضي في كشف الصعيد وصرف بدر الدين ابن محب
الدين وأمر بإحضاره.
(3/143)
وفي تاسع عشري ذي الحجة قدم إبراهيم بن
السلطان من السفر.
وفي ذي الحجة كانت الفتنة بدمياط، وكان وإليها ناصر الدين محمد
السلاخوري سيء السيرة غاية في الظلم والفسق كثير التسلط على نساء الناس
وأولادهم. فتعرض لناس يقال لهم السمناوية يتعيشون بصيد السمك من بحيرة
تنيس ومساكنهم بجزائر يقال لها العزب بضم العين وفتح الزاي بعدها موحدة
فأنفوا من سوء فعله وفحش سيرته فتجمعوا ليوقعوا به ففر إلى داره
فحاصروه الأدب أنهما ليسا له لأنه لم يقع له قريب من ذلك. بها، فرماهم
بالنشاب فقتل منهم واحداً وجرح ثلاثة، فازداد حنقهم وتكاثروا إلى أن
هجموا عليه. فهرب في البحر في سفينة إلى الجزيرة فتبعوه فتناوبوا ضربه
وردوه إلى البلد وحلقوا نصف لحيته وشهروه على جمل والمغاني تزفه ثم
قتلوه. ثم أخرجوا الوالي من الحبس فأرادوا إثبات محضر يوجب قتله، فبادر
سفهاؤهم فقتلوه وسحبوه وأحرقوه بالنار ونهبوا داره وسلبوا حريمه
وأولاده فقتل من أولاده صغير في المهد وقيل مات من الرجفة، فكانت هذه
الكائنة من الفضائح.
وفي تاسع عشري ذي الحجة طرق جمع من الحرامية وفيهم فارسان داخل القاهرة
فمروا على باب الجامع الأزهر ووصلوا إلى رحبة الأيدمري، فنهبوا عدة
حوانيت وقتلوا رجلين ورجعوا إلى حارة الباطلية فتوزعوا فيها فلم يتبعهم
أحد، فكانت من الفضائح أيضاً.
وفيها في أواخرها مالت المئذنة التي بنيت على البرج الشمالي بباب زويلة
للجامع المؤيدي، وكادت أن تسقط واشتد خوف الناس منها وتحولوا من
حواليها فأمر السلطان بنقضها، فنقضت بالرفق إلى أن أمن شرها، وعامل
السلطان من ولى بناءها بالحلم بعد
(3/144)
أن كان أرجف بأنه يريد أن يغرمهم جميع ما
أنفق فيها، فهدمت وشعر في بناء التي تقابلها، واتفق أن كان ناظر
العمارة بهاء الدين ابن البرجي كما تقدم فأنشد تقي الدين بن حجة في
ذلك:
على البرج من بابي زويلة أنشئت ... منارة بيت الله والمعهد المنجي
فأخنى بها البرج الجنيت أمالها ... ألا صرحوا يا قوم باللعن للبرجي
وقال شعبان بن محمد بن داود الأثاري في ذلك وكان قدم القاهرة في هذه
السنة.
عتبنا على ميل المنار زويلة ... وقلنا تركت الناس بالميل في هرج
فقالت قربني برج نحس أمالني ... فلا بارك الرحمن في ذلك البرجي
وكنت قلت قبل ذلك وأنشدتهما في مجلس المؤيد:
لجامع مولانا المؤيد رونق ... منارته بالحسن تزهو وبالزين
نقول وقد مالت عن القصد أمهلوا ... فليس على جسمي أضرمن العين
فأراد بعض الجلساء العبث بالشيخ بدر الدين العيني فقال له إن فلانا قرض
بك. فغضب واستعان بمن نظم له بيتين ينقض هذين البيتين ونسبهما لنفسه،
وعرف كل من يذوق الأدب أنهما ليسا له لأنه لم يقع له قريب من ذلك.
(3/145)
وأنشد بعض الأدباء بنقض الأمرين وهو نجم
الدين ابن النبيه الموقع:
يقولون في ميل المنار تواضع ... وعين وأقوال وعندي جليها
فلا البرج أخنى والحجارة لم تعب ... ولكن عروس أثقلتها حليها
وفي هذه السنة ملك أويس بن زادة بن أويس بن حسين البصر، انتزعها من
مانع أمير العرب بعد حروب، وكانوا انتزعوها منهم من إمارة عمه أحمد بن
أويس من أوائل القرن، وقوى أويس المذكور وانضم إليه عسكر عمه.
وفي أواخر هذه السنة هرب يشبك الدويدار الثاني من المدينة النبوية وهو
يومئذ أمير الحاج المصري، والسبب في هربه أنه بلغه ما اتفق في أفباي
نائب الشام وكان من إخوته فخاف، وبلغه أيضاً أن السلطان كتب إلى مقبل
أمير ينبع أن يقبض عليه، فأخر مقبل ذلك إلى أن رحل المذكور من المدينة
فقبض عليه هناك، فاستشعر ذلك فاختفى بعد رحيل الحاج من المدينة، فلما
نزلوا البركة لم يقفوا له على خبر فسار بهم أقبغا الزيني دويداره وترفق
في سيره بالحاج ونبالغ في الإحسان م، فقدموا وهم يشكرونه، وكان الرخص
كثيراً وكذلك المياه، ووصل يشبك في هربه إلى بغداد، فتلقاه محمد شاه بن
قرا يوسف فأكرمه ثم هرب منه إلى قرا يوسف نفسه في سنة اثنتين وعشرين
فأكرمه وأقام عنده.
(3/146)
ذكر من مات
في سنة عشرين وثمانمائة من الأعيان
إبراهيم صاحب شماخي وتلك البلاد، وهو من جملة من ينتمي لقرا يوسف.
أحمد بن أبي أحمد الفراوي المالكي، اشتغل كثيراً وبرع في العربية
وغيرها وشارك في الفنون وشغل الناس، وقد عين مرة للقضاء فلم يتم ذلك،
مات في تاسع عشر شعبان.
أحمد بن الحسين بن إبراهيم الدمشقي محي الدين ابن المدني، ولد سنة إحدى
أو اثنتين وخمسين، وعني بصناعة الإنشاء وباشر التوقيع من صغره في أيام
جمال الدين ابن الأثير، وكان عاقلاً ساكناً، ودخل مصر بعد فتنة اللنك
وباشر التوقيع ثم قدم مع شيخ ومعه صهره بدر الدين بن مزهر، فولي كتابة
السر بدمشق في أوائل سنة ثماني عشرة، وكان عارفاً متودداً لا يكتب على
شيء يخالف الشرع، وكان عنده انجماع عن الناس، وكان ينسب للتشيع، ومات
في صفر وقد أنجب ولده نجم الدين حفظه الله.
أحمد بن يهود، الدمشقي الطرابلسي شهاب الدين النحوي الحنفي، ولد سنة
بضع وسبعين وتعانى العربية فمهر في النحو واشتهر به واقرأ فيه، وشرع في
نظم التسهيل فنظمه في تسعمائة بيت، ثم أخذ في التكملة فمات قبل أن
ينتهي، وكان تحول بعد فتنة اللنك إلى طرابلس فقطنها، وانتفع بها أهلها
إلى أن مات بها في آخر هذه السنة، وكان يتكسب بالشهادة.
أحمد الريفي الدمشقي ثم المكي، كان يؤدب الأولاد بدمشق خيرا
(3/147)
ً كثير التلاوة، ثم إنه توجه إلى مكة وجاور
بها نحواً من ثلاثين سنة وتفرغ للعبادة على اختلاف أنواعها، وأضر في
آخر عمره، ومات بمكة.
أقباي الدويدار المؤيدي، قدمه المؤيد إلى أن ولاه الدويدارية الكبرى ثم
نيابة حلب - وقد تقدم ذكر قتله في الحوادث.
أقبردي المنقار، مات بدمشق ولم يكن محمود السيرة.
أبو بكر بن محمد الجبرتي العابد، كان يلقب المعتمر لكثرة اعتماره، وكان
على ذهنه فوائد، وللناس فيه اعتقاد، وينسبونه إلى معرفة علم الحرف،
جاور بمكة ثلاثين سنة، ومات في سابع المحرم.
خضر بن إبراهيم، الروكي خير الدين نزيل القاهرة، كان من كبار التجار
كأبيه، مات مطعونا في ذي الحجة.
داود بن موسى الغماري المالكي، عني بالعلم ثم لازم العبادة وتزهد، جاور
بالحرمين أزيد من عشرين سنة، وكانت إقامته بالمدينة أكثر منها بمكة،
مات في مستهل المحرم.
سالم بن عبد الله بن سعادة بن طاحين القسنطيني نزيل الإسكندرية، وكان
أسود اللون جداً فكان يظن أنه مولى وأما هو فكان يدعي أنه أنصاري، وكان
للناس فيه اعتقاد وبين عينيه سجادة، وقد لازم القاضي برهان الدين بن
جماعة واختص به وصار له صيت وطار له صوت، ثم صحب جمال الدين محمود بن
علي الأستادار وكان له تردد كثير إلى القاهرة ومحاضرة حسنة، وعلى ذهنه
فنون، وله أناشيد وحكايات، ومات بالإسكندرية في آخر هذه السنة وقد جاوز
الثمانين.
(3/148)
عبد الله بن إبراهيم خليل، البعلبكي
الدمشقي جمال الدين ابن الشرايحي ولد سنة ثمان وأربعين وسبعمائة، وأخذ
عن الشيخ جمال الدين بن بردشْ وغيره، ثم دخل دمشق فأدرك جماعة من أصحاب
الفخر وأحمد بن شيبان، ونحوهم فسمع منهم، ثم من أصحاب ابن القواس وابن
عساكر، ثم من أصحاب القاضي والمطعم ومن أصحاب الحجار ونحوه ومن أصحاب
الجزرى وبنت الكمال والمزي، فأكثر جداً وهو مع ذلك أمي، وصار أعجوبة
دهره في معرفة الأجزاء والمرويات ورواتها والعالي والنازل. وليه مع ذلك
فضائل ومحفوظات ومذاكرة حسنة، وكان لا ينظر إلا نظراً ضعيفاً، وقد حدث
بمصر والشام، سمعت منه وسمع معي الكثير في رحلتي وأفادني أشياء، وكان
شهماً شجاعاً مهاباً جداً كله، لا يعرف الهزل، وكان يتدين مع خير وشرف،
قدم القاهرة بعد الكائنة العظمى فقطنها مدة طويلة، ثم رجع إلى دمشق
وولي تدريس الحديث بالأشرفية إلى أن مات في هذه السنة.
عبد الله بن أحمد بن عبد العزيز بن موسى بن أبي بكر، العذري جمال الدين
البشبيشي، ولد في عاشر شعبان سنة 762، وقرأ في الفقه والنحو، وأخذ عن
شيخنا الغماري وابن الملقن، وتكسب بالوراقة وكتب الخط الجيد، وصنف
كتاباً في المعرب وكتاباً في قضاة مصر، ونسخ بخطه كثيراً، وناب في
الحسبة عن صاحبنا الشيخ تقي الدين المقريزي، وكان ربما جازف في نقله،
سمعت من فوائده كثيراً، ومات بالإسكندرية في ذي القعدة.
عبد الرحمن بن محمد بن حسين، السكسكي البربهي التعزي، أحد الفضلاء
باليمن، برع في الفقه وغيره، ثم حج فلما رجع مات وهو قافل في ثالث
المحرم.
(3/149)
عبد الوهاب بن نصر الله بن حسن، الفوي نزيل
القاهرة تاج الدين أخو ناظر الخاص، ولد سنة ستين وسبعمائة، وباشر بجاه
أخيه كثيراً من الوظائف مثل نظر الأوقاف والأحباس وتوقيع الدست ووكالة
بيت المال ونيابة كاتب السر في الغيبة وخليفة الحكم الحنفي، وكان يحب
العلم والعلماء ويجمعهم عنده ويتودد لهم، مات في ثالث عشر جمادى
الآخرة، وكان أبوه إذ ذاك حياً فورثه مع أولاده.
محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد العزيز، النويري ثم المكي القاضي
عز الدين ابن القاضي محب الدين ابن القاضي جمال الدين ابن أبي الفضل
العقيلي الشافعي، ولد سنة أربع أو خمس وسبعين واشتغل وهو صغير، وناب
لأبيه في الخطابة والحكم، ثم اشتغل بعد وفاته في رمضان سنة تسع وتسعين
إلى أن صرف في ذي الحجة سنة ثمانمائة بالشيخ جمال الدين ابن ظهيرة، ثم
وليها مراراً، ثم استقرت بيده الخطابة وغيرها وانفرد جمال الدين
بالقضاء، فلما مات سنة تسع عشرة استقر العز في الخطابة ونظر الحرم
والحسبة حتى مات عز الدين في هذه السنة في ربيع الأول، وكان مشكور
السيرة في غالب أموره، والله يعفو عنه.
محمد بن أبي بكر بن علي، المكي ثم الزبيدي - بفتح الزاي - جمال الدين
(3/150)
النويري المصري ولد بالذروة من صعيد مصر
سنة تسع وأربعين ونشأ بها، ثم سكن مكة وصحب القاضي وسمع من عز الدين بن
جماعة، واشتغل قليلاً، وكان حسن التلاوة، طيب الصوت. ثم دخل اليمن
بواسطة القاضي أبي الفضل رسولاً من مكة إلى السلطان واتصل بالأشرف
صاحبها، فحظي عنده ونادمه وتولى حسبة زبيد، ثم تركها لولده الظاهر،
وكان حسن الفكاهة فقرب من خاطره وصار ملجأ للغرباء لاسيما أهل الحجاز،
واستمر في دولة الناصر بن الأشرف على منزله بل عظم قدره عنده، وكان ذا
مروءة وتودد ونوادر ومزاح، وقد تزوج كثيراً جداً على ما أخبرني به، وهو
أخو صاحبنا نجم الدين المرجاني شقيقه، مات الجمال المصري في ذي القعدة
وخلف عشرين ولداً ذكراً.
محمد بن علي بن جعفر، البلالي نزيل القاهرة الشيخ شمس الدين وبلالة من
أعمال عجلون، نشأ هناك وسمع الحديث واشتغل بالعلم، وسلك طريق الصوفية
وصحب الشيخ أبا بكر الموصلي، ثم قدم القاهرة فاستوطنها بضعاً وثلاثين
سنة، واستقر في مشيخة سعيد السعداء مدة متطاولة مع التواضع الكامل
والخلق الحسن وإكرام الوارد، وصنف مختصر الإحياء فأجاد فيه، وطار اسمه
في الآفاق ورحل بسببه، ثم صنف تصانيف أخرى، وكانت له مقامات وأوراد،
وله محبون معتقدون ومبغضون منتقدون، مات في رابع عشر شوال وجاوز
السبعين.
(3/151)
محمد بن علي بن عبد الرحمن بن محمد بن
سليمان بن حمزة، عز الدين ابن العلاء ابن البهاء بن العز بن التقي
سليمان المقدسي الحنبلي، ولد سنة أربع وستين وسبعمائة، وعني بالعلم،
وسمع على ست العرب بنت محمد ابن الفخر وغيرها، ومهر في الفقه والحديث،
وأخذ عن ابن رجب وابن المحب، وكان يذاكر بأشياء حسنة وينظم الشعر، ولما
توقف على عنوان الشرف لابن المقرئ أعجبه فسلك على طريقه نظماً حسب
اقتراح صاحبه مجد الدين عليه فعمل قطعة أولها:
أشار المجد مكتمل المعاني ... بأن أحذو على حذو اليماني
وحفظ المقنع، وناب في القضاء عن صهره شمس الدين النابلسي، ثم استقل به،
ثم عزل بابن عبادة فأكثر المجاورة بمكة، ثم ولي المنصب بعد موت ابن
عبادة فلم تطل مدته، ومات عن قرب في ذي القعدة، ودرس بدار الحديث
الأشرفية بالجبل، وكان ذكياً فصيحاً، وكان في آخر عمره عين الحنابلة.
محمد بن محمد بن عبادة بن عبد الغني بن منصور الحراني الأصل الدمشقي
الحنبلي شمس الدين، اشتغل كثيراً فمهر وصار عين أهل البلد في معرفة
المكاتيب مع حسن خطه ومعرفته، وكان حسن الشكل بشوش الوجه حسن الملتقى،
ثم ولي القضاء بعد اللنك مراراً بغير أهلية فلم تحمد سيرته، وكثرت في
أيامه المناقلات في الأوقاف، وتأثل لذلك مالاً وعقاراً، وكان عرياً عن
تعصب الحنابلة في العقيدة، مات في رجب وله سبع وخمسون سنة وقد غلب عليه
الشيب.
موسى بن علي بن محمد، المناوي ثم الحجازي الشيخ المشهور المعتقد، ولد
سنة بضع وخمسين ونشأ بالقاهرة. وعنى بالعلم على مذهب مالك حفظ الموطأ
وكتب
(3/152)
ابن الحاجب الثلاثة وبرع في العربية، وحصل
الوظائف ثم تزهد وطرح ما بيده من الوظائف بغير عوض وسكن الجبل وأعرض عن
جميع أمور الدنيا، وصار يقتات بما ينبته الجبال، ولا يدخل البلد إلا
يوم الجمعة ثم يمضي، ثم توجه إلى مكة سنة سبع وتسعين وسبعمائة فسكنها
تارة والمدينة تارة على طريقته، ودخل اليمن في خلال ذلك، وساح في
البراري كثيراً وكاشف وظهرت له كرامات كثيرة، ثم في الآخر أنس بالناس
إلا أنه يعرض عليه المال الكثير فلا يقبله بل يأمر بتفرقته على من
يعينه لهم ولا يلتمس منه شيئاً، وقد رأيته بمكة سنة خمس عشرة، وقد صار
من كثرة التخلي ناشف الدماغ يخلط في كلامه كثيراً ولكنه في الأكثر واعي
الذهن، ولا يقع في يده كتاب إلا كتب فيه ما يقع له سواء كان الكلام
منتظماً أم لا، وربما كان حاله شبيه حال المجذوب، وكان يأخذ من بعض
التجار شيئاً بثمن معين وينادي عليه بنفسه حتى يبيعه فيوفي صاحب الدين
وينفق على نفسه البقية، ولم يكن في الغالب يقبل من أحد شيئاً، وكان
يكاتب السلطان فمن دونه بالعبارة الخشنة والورع الزائد، مات في شهر
رمضان، وقيل في شعبان.
مهنا بن عبد الله، المكي، كان من كبار الصلحاء، مات بمكة.
نعمان بن فخر بن يوسف، الحنفي شرف الدين، ولد سنة ثلاث وأربعين، وكان
والده عالماً فأخذ عنه. قدم دمشق وجلس بالجامع بعد اللنك للأشغال ودرس
في أماكن، وكان ماهراً في الفقه بارعاً في ذلك، مات في شعبان.
يحيى البجيلي، أصله من بجيلة زهران من ضواحي مكة، فأقام بمكة يتعبد حتى
اشتهر، ومات في هذه السنة.
يوسف بن عبد الله، البوصيري نزيل القاهرة، أحد من يعتقده الناس من
المجذوبين، مات في سادس عشري شوال، ويحكي بعض أهل القاهرة عنه كرامات.
(3/153)
سنة إحدى وعشرين
وثمانمائة
استهل العشر الثالث من المائة التاسعة والخلفية المعتضد داود، والسلطان
الملك المؤيد شيخ، وملك اليمن الناصر أحمد بن الأشرف، وأمير مكة حسن بن
عجلان، وأمير المدينة عزيز بن هيازع، وأمير بلاد قرمان محمد بك بن علي
بك بن قرمان ومرقب وما معها كرسجى ابن عثمان، وملك الدشت وصراي أيدكي
وملك تبريز وبغداد قرا يوسف، ونائبه ببغداد ابنه محمد، وملك فارس
وخراسان وهراة وسمرقند شاه رخ ابن اللنك، وملك تونس وما معها من المغرب
أبو فارس، وسلطان الأندلس ابن الأحمر وأمير تلمسان ... وأمير فاس..
وفي ثالث المحرم زوج السلطان أستاداره ببعض أمهات أولاده بعد أن
أعتقها، فعمل لها مهما عظيماً ذبح فيه ثمانية وعشرين فرساً وغير ذلك،
وكان إذ ذاك ابتدأ به المرض فلم ينتفع بنفسه.
وفي أول هذه السنة ركب الطنبغا الجكمي نائب درندة على حسين بن كبك
فتقنطرت به فرسه فقبض عليه وقتل، ونزل ابن كبك على ملطية فحاصرها، فبلغ
السلطان ذلك فكتب إلى البلاد الشامية أن يخرجوا العساكر إلى قتال حسين
بن كبك.
(3/154)
وفي يوم الرابع من المحرم صلى السلطان
الجمعة بالجامع الطولوني فخطب به القاضي الشافعي وكان قد طلع ليخطب به
في القلعة على العادة، فوجد السلطان قد ركب قبل الأذان لصلاة الجمعة
فتبعه فدخل الجامع الطولوني فدخل قاعة الخطابة، فوجد خطيب الجامع وهو
ولد ابن النقاش قد تهيأ ليخطب فتقدم هو وصعد المنبر، وحصل للخطيب بذلك
قهر.
وفي الثالث من جمادى الأولى قتل حسين بن كبك، وذلك أن تغرى بردى الجمكي
هرب من المؤيد من كختا فأقام بملطية عند نائبها الأمير منكلي بغا، فسار
حسين بن كبك إلى ملطية فحاصرها، فهرب تغري يردى إلى حسين بن كبك
فأكرمه، ثم سار حسين إلى أرزنكان وتغرى بردى صحبته ليحاصر بزعمه
صاحبها، فغدر تغري بردى بحسين وهما جالسان يشربان فضربه بسكين في فؤاده
فمات، وهرب إلى ملطية ثم توجه منها إلى حلب، فجهزه نائبها إلى المؤيد
وأعلمه بما صنع، فأكرمه وخلع عليه وأعطاه إقطاعاً وخيلاً، وأمر لأمراء
أن يخلعوا عليه، فحصل له شيء كثير.
وفي الخامس من المحرم توجه السلطان إلى وسيم فأقام هناك نحو العشرين
يوماً، ثم رجع فنزل بالقصر الغربي بمنبابة وأمر الوالي أن يشعل البحر،
فحصل من قشور النارنج والبيض ومن المسارج شيئاً كثيراً إلى الغاية،
وعمرها بالزيت والفتائل، فأوقدها وأرسلها في الماء، ثم أطلق في غضون
ذلك من النفط الكثير، فكانت ليلة عجيبة مر فيها من الهزل والسخف ما لا
عهد للمصريين بمثله، وكان الجمع في الجانبين من الناس المتفرجين
متوفراً وفي البحر من المراكب جمع جم.
وفي سادس عشري المحرم قبض على بيبغا المظفري أمير سلاح واعتقل
بالإسكندرية، وذلك أن بعض الناس وشى به إلى السلطان فتخيل منه فقبض
عليه.
وفي الثامن والعشرين من المحرم نودي بالقاهرة أن كل غريب يرجع إلى
وطنه! فاضطربت الأعاجم وسعوا في منعه إلى أن سكن الحال واستقروا.
(3/155)
وفي رابع صفر وسط قرقماس نائب كختا في
جماعة خارج باب النصر، وكانوا ممن أحضر صحبة السلطان في الحديد.
وفي سادس صفر عاد السلطان أستاداره في مرضه فقدم له خمسة آلاف دينار،
وتوجه من بيته إلى بيت ناظر الخاص فقدم له ثلاثة آلاف دينار.
وفي هذه الشهر شرع السلطان في تنقيص سعر الذهب فنودي عليه في عاشر صفر
أن يكون الهرجة بمائتين وثلاثين والأفلوري بمائتين وعشرين وأن تحط
الفضة المؤيدية فتصير بسبعة دراهم كل نصف، فماج الناس وكثر اضطرابهم،
فلم يلتفت إليهم وأستمر الحال، ثم أمر الوالي وهو المحتسب أن يطلب
الباعة وتحط أسعار المبيعات بقدر ما انحط من سعر الفضة والذهب.
وفي نصف ربيع الأول جمع الوالي الباعة وأصعدهم إلى القلعة فقرر معهم
جقمق الدويدار أن يكون الدرهم المؤيدي هو المتعامل به دون الذهب
والفلوس ويكون النقد الرائج. وأن لا يأخذ التاجر في كل مائة ليشتري بها
شيئاً ويبيعه عن قرب إلى درهمين، وطل من يومئذ النداء في الأسواق
بالدراهم من الفلوس وصار النداء بالدراهم بالفضة المؤيدية.
وفي أول صفر عاد السلطان الأمير الكبير من مرض وقع له. ثم رجع إلى بيت
جقمق الدويدار فأقام به إلى آخر النهار.
وفي شهر ربيع الأول قدم علاء الدين محمد الكيلاني الشافعي من بلاد
المشرق فزار الإمام الشافعي ثم رجع فاجتمع بالسلطان، وكان قد وصف بفضل
زائد وعلم واسع، فلم
(3/156)
يظهر لذلك نتيجة ولم يظهر له معرفة إلا
بشيء يسير من الطب، فكسد سوقه بعد أن نفق وتولى ناكصاً خاملاً.
وفي رابع عشره انتقض ألم السلطان برجله.
وفي هذا الشهر كاتب أهل طرابلس السلطان في سوء سيرة عاملهم وهو برد بك
الخليلي وتجاوزه الحد في الظلم وترك امتثال مراسيم السلطان، فأرسل
يطلبه، ومنعه أهل طرابلس من الدخول وكان قد خرج للصيد، فأرسل يطلبه،
فقدم القاهرة في آخر ربيع الأول، فقرر في نيابة صفد بعد أن قدم مالاً
جزيلاً بعناية زوج ابنته جقمق الدويدار.
وفيه قام أهل المحلة على وإليها ورجموه بسبب مبالغته في طلب الفلوس،
ونزح كثير منهم إلى القاهرة، ووصل الذهب عندهم إلى سعر مائتين وتسعين
من غير هذا الفلوس، واشتد الأمر في طلبها.
وفيه تنكر السلطان على القاضي جلال الدين البلقيني بسبب كثرة النواب،
فبادر البلقيني فعزل من نوابه ستة عشر نفساً، ثم أمر بالتخفيف منهم
فعزل منه أيضاً أربعين نفساً، ولم يتأخر منهم سوى أربعة عشر نائباً،
ووقعت لأحد النواب الذين بقوا وهو سراج الدين الحمصي كائنه في حكم حكم
به وعقد له مجلس فنقض حكمه وتغيب، والسبب فيه أن القمنى أراد ارتجاع
بستان المحلى الذي بالقرب من الآثار فرتب الأمر مع كاتب السر والقاضي
علاء الدين ابن مغلى وكان صديقه، فلما حضر القضاة وأهل الفتيا ظهر
للسلطان التعصب فسألني عن القضية وقال: أنت تعرف الحال أكثر من هؤلاء؟
فذكرت له جلية الأمر باختصار، فبادر الحنفي ابن الديري وحكم بنقض حكم
الحمصي، ثم قدم شمس الدين الهروي من القدس فأكرمه السلطان وأنكر على
بعض القضاة عدم ملاقاته وشكر من لاقاه وسلم عليه، فانثالت عليه الهدايا
والتقادم وأجريت له رواتب.
(3/157)
وفي ربيع الأول مات الشريف علي نقيب
الأشراف، فاستقر بعده في النيابة ولده حسن، وفي نظر الأشراف فخر الدين
الأستادار وكان أبل من مرضه.
وفيه وقع بالغربية مطر عظيم وفيه برد كبار زنة الحبة منه مائة درهم
تلفت منه زروع كثيرة آن حصادها حتى أن مارسا فيه ثمانمائة فدان تلف عن
آخره ومات أغنام كثيرة بوقوعه عليها.
وفيه أفرج عن سودون الاسندمري من سجن الإسكندرية.
وفي الثاني من جمادى الأولى فقبض على أرغون شاه الوزير وسلم للأستادار.
وكذلك آقبغا شيطان الوالي، فتتبع حواشيهما وأسبابهما، واستقر علي بن
محمد بن الطبلاوي في ولاية القاهرة عوضاً عن أقبغا ومحمد بن يعقوب
الشامي في الحسبة عوضاً عنه وبدر الدين ابن محب الدين في الوزارة عوضاً
عن أرغون شاه، وأفرج عن أرغون شاه في عاشر جمادى الأولى، ثم خلع عليه
أمير التركمان فسار في جمادى الأول.
فلما كان يوم الأحد سابع عشري جمادى الأولى منع القاضي جلال الدين من
الحكم بسبب شكوى جماعة للسلطان لما نزل إلى الجامع بباب زويلة من ابن
عمه شهاب الدين العجمي قاضي المحلة وذلك في يوم السبت سادس عشريه فشغر
المنصب يوم الأحد والاثنين، فلما كان يوم الثلاثاء استقر شمس الدين
الهروي في قضاء الشافعية بالقاهرة ونزل معه جقمق الدويدار وجماعة من
الأمراء والقضاة وحكم بالصالحية على العادة. وكان الهروي قد قدم قبل
ذلك في آخر ربيع الأول، فبالغ العجم في التعصب له، وتلقاه بعضهم من
بلبيس وبعضهم من سرياقوس، ونزل أولا بتربة الظاهر على قاعدة الأمراء،
ثم طلع إلى القلعة صباحاً وسلم على السلطان يوم الأحد مستهل ربيع
الآخر.
ولما استقرت قدم الهروي في القضاء راسل البلقيني يطلب منه المال الذي
تحت يده من وقف الحرمين فامتنع، وكان أستأذن السلطان صبيحة عزله هل
يدفع المال للهروي أم لا! فأمر له أن يتركه تحت يده،
(3/158)
وكان البلقيني لما استقرت قدمه بعد سفر
الإخناي إلى الشام في سنة ثمان وثمانمائة قد ضبط مال الحرمين وجعله في
موضع من داره فتأخر في هذه المدة نحو خمسة آلاف دينار، فصعب على الهروي
منعه من التصرف في ذلك، وظهر لمن اطلع على ذلك من حواشي السلطان أنه
غير مؤتمن عند السلطان وإنما أراد بولايته نكاية البلقيني.
وفي العشرين من جمادى الآخرة عرض الهروي الشهود وأقرهم، ولم يستنب سوى
عشرة، ثم زاد عددهم قليلاً قليلاً إلى أن بلغوا عشرين، واستمر يركب
بهيئته بلبس العجم ولم يخطب بالسلطان على العادة واعتذر بعجمة لسانه،
فاستناب عنه ابن تمرية وكان يخطب بمدرسة حسن فوصفه الأمير ططر للسلطان،
فأذن له في النيابة عن الهروي، وباشر الهروي القضاء بصرامة شديدة
وإعجاب شديد زائد، ثم مد يده إلى تحصيل الأموال فأرسل رجلاً من أهل غزة
يقال له نصف الدنيا إلى الصعيد ومعه مراسيم بعلاماته وقرر على كل قاض
شيئاً، فمن بذله كتب له مرسومه ومن امتنع استبدل به غيره، فكثر فحش
القول فيه، ثم فوض إلى الأعاجم مثل العينتابي وابن التباني ويحيى
السيرامي وشمس الدين الفرياني الذي عمل قاضي العسكر قضاء بلاد
اختاروها، فاستنابوا فيها وقرروا على النواب أن يعملوا لهم شيئاً
معيناً. وأرسل إلى الوجه البحري آخر على تلك الصورة، ثم تصدى للأوقاف
سواء كانت مما يشمله نظره أم لا ففرض على من هي بيده شيئاً معلوماً
وصار يطلب من الناظر كتاب الوقف فيحضره له فيحبسه حتى يحضر له ما يريد،
فترك كثير منهم كتب أوقافهم عنده حتى عزل فاستخلصوها.
وفي أول هذه السنة حاصر إبراهيم بن رمضان طرسوس واستمر محاصراً لها
أربعة أشهر وأكثر، فكاتب نائبها شاهين الأيدكاري السلطان يستنجده
ويعلمه بأنه بلغه أن
(3/159)
محمد بن قرمان عزم على التوجه إلى طرسوس،
فلما كان في الخامس عشر من شهر رجب نازل محمد بن قرمان طرسوس، فانتمى
إبراهيم بن رمضان المذكور، فبلغ ذلك السلطان فأرسل إلى حموة بن إبراهيم
المذكور يقرره في مكان أبيه في نيابة أذنة ويحرض نائب حلب على اللحاق
بشاهين الأيدكاري بطرسوس، ووقع بين أهل طرسوس وابن قرمان حرب شديد،
فاتفق أن ثار بمحمد بن قرمان وجع باطنه فاشتد عليه، فرحل عنها في سابع
شعبان.
وفيها تواقع على بن دلغادر وأخوه محمد فانتصر وانهزم علي، فأدركه يشبك
نائب حلب فأضافه محمد وقدم له وحلف له على طاعة السلطان.
وفيها أوقع تنبك نائب الشام يعرب آل علي قريباً من حمص، فنهب منهم ألف
جمل وخمسمائة جمل، فباع الرديء منها وجهز البقية وهي ألف وثلاثمائة إلى
السلطان.
وفيها استنجد نائب ملطية السلطان فكتب إلى نائب طرابلس أنه يتوجه
بعسكرها بحدة له، وأرسل مالاً كثيراً يعمر به خاناً وقيسارية وطاحوناً
وزاوية ويوقف ذلك عليها. وجملة المال أربعون ألف دينار.
وفي ثاني عشر جمادى الآخرة قرر شهاب الدين أحمد الأموي في قضاء دمشق
عوضاً عن عيسى المغربي المالكي.
وفي سادس عشرة ضرب عنق المقدم على بن الفقيه أحد المقدمين بالدولة بعد
أن ثبت عنه ما يوجب إراقة دمه.
وفي جمادى الأولى أوقع سودون القاضي كاشف الوجه القبلي بعرب بني فزازة
ونهب أموالهم وقتل منهم خلقاً كثيراً، فهرب من نجا منهم إلى البحرية،
فتلقاهم دمرداش نائب الكشف بالوجه البحري فاستأصلهم ونهب أموالهم
فانحسم أمرهم.
(3/160)
وفيه سجن جار قطلي نائب حماة بالإسكندرية.
وفيه توجه الأستادار فخر الدين إلى الوجه القبلي وختم بالجيزة، وسار في
طوائف كثيرة من العربان والمماليك، وشرع في تتبع العربان المفسدين،
فلما انتهى إلى هوارة فروا منه فتتبعهم إلى قرب أسوان فقاتلوه، فقتل
منهم نحو المائتين، وانهزم البقية إلى جهة ألواح الداخلة.
وفيها في جمادى الأولى نفل شاهين الزرد لحاش من الحجوبية بدمشق إلى
نيابة حماه ونقل بلبان من نيابة حماه إلى الحجوبية بدمشق.
وفيه خلع على علي بن أبي بكر الجرمي أمير جرم، واستقر على عادته.
زفيه جهز السلطان إلى نائب الكرك نواب القدس والرملة وغزة ليجتمعوا معه
على كبس بني عقبة، وأسر إلى نائب غزة أن يقبض على نائب الكرك، وكان
السلطان غضب عليه لكونه لم يخرج لملاقاته حين عاد من بلاد الروم،
فقبضوا عليه في جمادى الآخرة وحمل إلى دمشق فسجن بها.
وفي الثالث والعشرين من ربيع الآخر استقر برسباي الدقماقي أحد مقدمي
الألوف بالقاهرة في نيابة طرابلس عوضاً عن بردبك نقلاً من كشف التراب،
ونقل بردبك إلى نيابة
(3/161)
صفد، وأعطى فخر الدين الأستادار إقطاع
برسباي، وأعطى بدر الدين الوزير إقطاع فخر الدين، ثم اعتقل برسباي
بقلعة المرقب في شعبان كما سيأتي، وهو الذي آل أمره إلى استقراره في
السلطنة بعد خمس سنين.
وفي هذه الشهر كتب محضر المئذنة المقدم ذكرها وهدمت، وأغلق باب زويلة
بسبب ذلك ثلاثين يوماً، ولم يقع منذ بنيت القاهرة مثل ذلك.
وفي جمادى الأولى تحرك عزم السلطان على الحج، وقويت همته في ذلك، وكتب
إلى جميع البلاد بذلك وأمرهم بتجهيز ما يحتاج، وعرض المماليك الذين
بالطباق وغيرهم من يسافر معه للحج وأخرج الهجن، فجهز جملة من الغلال في
البحر إلى ينبع وجدة، وركب إلى بركة الجيش، فعرض الهجن في شعبان. ثم
ركب إلى قبة النصر ومر في شارع القاهرة وبين يديه الهجن وعليها الحلل
والحلي، وجد في ذلك واجتهد إلى أن بلغه عن قرا يوسف ما أزعجه. ففترت
همته عن الحج ورجع إلى التدبير فيما يرد قرا يوسف عن البلاد الشامية
وأمر بالتجهيز إلى الغزاة.
وأرسل في ثاني رمضان بتتبع الغلال المجهزة إلى الحج وكان ما سنذكره إن
شاء الله قريباً.
وفي حادي عشر جمادى الأولى ولد للسلطان ولد اسمه موسى، فأرسل مرجان
الخازندار مبشراً به إلى البلاد الشامية، فكان في حركته سبب عزل القاضي
نجم الدين ابن حجي قاضي الشافعية بدمشق، وذلك أنه وصل إلى دمشق فأعطاه
كل رئيس ما جرت به العادة ولم ينصفه القاضي الشافعي فيما زعم، فلما رجع
في شعبان أغرى السلطان به ونقل له عن النائب أنه يشكو من القاضي
الشافعي المذكور وأنه سأله في حكومة، فغضب بسببها
(3/162)
وبادر بعزل نفسه، فلما تحقق السلطان ذلك
غضب عليه لكونه بادر بعزل نفسه بغير استئذان، وكتب إلى النائب بحبسه
بالقلعة، واستمرت دمشق شاغرة عن قاض إلى أوائل شوال، فاستعطف السلطان
عليه حتى رضي عنه وأعاده، ومات موسى بن السلطان المذكور في ليلة شوال.
وفي سادس عشر جمادى الأولى دخل السلطان المارستان المنصوري وصلى في
محراب المدرسة أولاً ركعتين. وكان الشيخ نصر الله أخبره أنه رأى النبي
صلى الله عليه وسلم جالساً في المحراب المذكور والسلطان قدامه يقرأ
عليه سورة والضحى. ثم دخل إلى المرضى فتفقد أحوالهم، ثم إلى المجانين
فقام ذلك اشخص الذي تقدم في سنة تسع عشرة وثمانمائة أنه ادعى أنه يرى
الله عز وجل في اليقظة وثبت عند المالكي أنه مختل العقل فسجن
بالمارستان، فكلم السلطان لما رآه وسأله أن يفرج عنه فلم يجبه.
وكان السلطان فوض أمر الأوقاف إلى مسعود الكجحاوي الذي تقدم ذكره في
أخبار تمر لنك فكان من جملة أعوان الهروي ثم وقع ما بينهما وصار الهروي
يؤلب عليه ويذكر معايبه وتصادق مع ابن الديري عليه، ثم دس الهروي إلى
أحمد الحنبكي ورقة يذكر فيها أنه ثبت في جهة البلقيني لجهة الأوقاف
والأيتام مائة ألف دينار، فعرضها أحمد على السلطان وشنع على البلقيني،
فاستعظم السلطان ذلك وبحث عن القضية إلى أن تحقق أنها من اختلاق الهروي
فأعرض عن ذلك.
وفي الثالث من جمادى الأولى قدم طائفة من أهل الخلي يشكوا إلى السلطان
من الهروي وأنه أعطى بعضهم بيضاً وألزمه بعدده دجاجاً، فأرسلهم السلطان
وأمره أن يخرج لهم مما يلزمه، فلم يصنع شيئاً وتمادى على غيه، فأغضى
السلطان عنه ولزم فيه غلطه.
(3/163)
وفي أول شعبان وجد السلطان في مجلسه ورقة
فيها شعر وهو:
يا أيها الملك المؤيد دعة ... من مخلص في حبه لك ينصح
انظر لحال الشافعية نظرة ... فالقاضيان كلاهما لا يصلح
هذا أقاربه عقارب وابنه ... وأخ وصهر فعلهم مستقبح
غطوا محاسنه بقبح صنيعهم ... ومتى دعاهم للهدى لا يفلح
وأخو هراة بسيرة اللنك اقتدى ... فله سهام في الجوارح نجرح
لا درسه يقرأ ولا أحكامه ... تدري ولا حين الخطابة يفصح
فافرج هموم المسلمين بثالث ... فعسى فساد منهم يستصلح
فعرضها السلطان على الجلساء من الفقهاء الذين يحضرون عنده فلم يعرفوا
كاتبها وطارت الأبيات، فأما الهروي فلم ينزعج من ذلك، وأما البلقيني
فقام وقعد وأطال البحث والتنقيب عن ناظمها، فتقسمت الظنون واتهم شعبان
الأثاري وكان مقيماً بالقاهرة وتقي الدين ابن حجة وشخص ينظم الشعر من
جهة بهاء الدين المناوي أحد نواب الشافعي وغيرهم وكانت هذه الأبيات
ابتدأ سقوط الهروي من عين السلطان وكانت قد أعجبت السلطان حتى صار يحفظ
أكثرها ويكرر قوله: أقاربه عقارب.
(3/164)
فلما كان في رمضان قرئ البخاري بالقلعة على
العادة فحضر الهروي وقد اختلق لنفسه أسناداً ليقرأ عليه به صحيح
البخاري وأرسل إلى القارئ وهو شمس الدين الجبتي فتناوله منه وهو من أهل
الفن فعرف فساده فاقتضى رأيه أن جامله، فلما ابتدأ بالقراءة قال بعد أن
بسمل وحمدل وصلى ودعا: وبالسند إلى البخاري، فاستحسن ذلك منه، وخفي على
الهروي قصده وظن أنه نسي الورقة، وتمادى الحضور والسلطان تارة يحضر
وتارة لا يحضر إلى أن افتقد القاضي الحنبلي فسأل عن سبب تأخره، فعرفه
كاتب السر أنه يزدري الهروي ويسلبه عن العلم ولا سيما الحديث، فأذن
السلطان للبلقيني في حضور مجلس الحديث، فحضر وجلس بجانب الهروي، فلما
بلغ ذلك القاضي الحنبلي حضر أيضاً وتجاذبا البحث، وحضر مع البلقيني
كثير من أقاربه ومحبيه فصار يركب في موكب أعظم من الهروي، وتحامى كثير
من النواب الركوب مع الهروي خوفاً من البلقيني ومما يقاسونه من السب
الصريح من أتباعه، فتقدم الهروي إلى النواب والموقعين بأن لمن لم يكب
معه فهو ممنوع، فتحامى كثير من الناس النيابة عنه وأصر آخرون، فوقع
لواحد منهم يقال له عز الدين محمد ابن عبد السلام المنوفي بحث مع
البلقيني فسطا عليه وسأل المالكي أن يحكم فيه، فاستدعى به إلى بيته
وحكم بتعزيره، فعزر ومنع عن الحكم، ثم وقع لآخر منهم يقال له شهاب
الدين السيرجي فأرسل البلقيني يطلبه إلى بيته، فامتنع منه واعتصم
بالهروي، ثم حضر الختم فلم يحضر البلقيني وخلع على الهروي وعلى بقية
القضاة، فامتنع الديري من ليس خلعته لكونها دون خلعة الهروي، فاسترضى
فرضي.
فلما كان في التاسع عشر من ذي الحجة حضر السلطان في خاصته في جامعه
بباب زويلة واجتمع عنده القضاة، فتنافس كل من القاضيين الهروي والديري
وخرجا عن الحد في السباب والفحش في القول، ثم سكن السلطان ما بينهما
فسكن. وكان السبب في ذلك أنهما اجتمعا للسلام على السلطان بعد رجوعه من
الوجه البحري فتباحثا
(3/165)
في شيء. فنقل الهروي نقلاً باطلاً وعزاه
لتفسير الثعلبي، فاستشهد الديري بمن حضر على ذلك وجمع التفاسير وأحضرها
ليطلع بها إلى القلعة، فاتفق حضور السلطان بالجامع فأعاد البحث، فأخرج
النقل بخلاف ما قال الهروي فجحد، فاستشهد عليه من حضر فلم يشهد أحد،
فسأل السلطان من الفقير إلى الله تعالى كاتبه ومن القاضي المالكي عن
حقيقة ذلك، فأخبراه بصدق ابن الديري، ثم أخرج ابن الديري عدة فتاوى بخط
الهروي كلها خطأ، فجحد أن يكون خطه، فحلف الديري بالطلاق الثلاث أن
بعضها خطه وانفصل المجلس على أقبح ما يكون.
وفي ثالث جمادى الآخرة وشى إلى السلطان بالأمير جقمق الدويدار أنه
مخامر على السلطان وأنه يكاتب قرا يوسف منذ كان السلطان بكختا، وكان
الواشي بذلك رجلاً يقال له ابن الدربندي، وكان قد اتصل بالسلطان من
الطريق فجهزه إلى الحج بحسب سؤاله، فلما رجع ادعى بأنه ينصح السلطان
وأن جقمق استدعاه ليرسله برسالة إلى قرا يوسف جواباً عن كتاب حضر،
فأعلم السلطان جقمق بذلك ولم يسم له الناقل، فقلق قلقاً عظيماً وكاد أن
يموت غماً، واستعطف السلطان حتى أعلمه بالناقل، فطلبه منه فسلمه له،
فعاقبه فاعترف بأنه كذب عليه بتسليط بعض الأمراء عليه، وأحضر من بيته
وتداً مجوفاً بالحديد من رأسه في طيه كتاب رق لطيف مكتوب بالفارسية
بماء الذهب جواباً عن الأمير جقمق لقرا يوسف، وطلب جقمق الخراطين
وأراهم الوتد فعرفه بعضهم وقال: نعم، أنا خرطت هذا لشخص أعجمي ولم
يعطني أجرته إلى الآن، فأحضر المذكور فعرفه، ثم تتبعوا من يكتب
بالعجمي، واتهموا الشيخ نصر الله إلى أن ظهرت براءة ساحته، وغمز على
أعجمي كان ينزل في مدرسة العتباني، ثم مرض فحمل إلى المارستان فهدد،
اعترف أن الكتاب خطه وأن ابن الدربندي هو الذي أملأه عليه وادعى ابن
الدربندي أن الذي ألجأه إلى ذلك الأمير الطنبغا الصغير بغضاً منه في
جقمق، فغرق الدربندي في النيل، ونفي الشخص
(3/166)
الذي استعمل الوتد إلى قوص، ومات الكاتب عن
قرب بالمارستان، وبرئت ساحة جقمق عند السلطان ولم يتغير ما بينه وبين
الطنبغا الصغير لتحققه كذب ابن الدربندي. واشتد غضب جقمق من طائفة
العجم، فرسم عن إذن السلطان بتسييرهم إلى بلادهم، وشدد في ذلك حتى ألزم
من بالخوانق وبالمدارس بالسفر فضجوا وتعصب لهم الهروي وغيره، ولم
يزالوا يستعطفون السلطان إلى أن أهمل أمرهم.
وفي ثامن جمادى الآخرة قدم فخر الدين الأستادار من الصعيد وصحبته عشرون
ألف رأس من الغنم سوى ما تلف وألف وثلاثمائة رأس رقيق وثلاثة آلاف رأس
بقر وتسعة آلاف رأس جاموسة ومن القند والعسل شيء كثير جداً، فقوم عليه
جميع ذلك بمائة ألف دينار والتزم بالقيام بها، ثم بعد مجيئه من الصعيد
خلفته هوارة في ألف فارس وألفي راجل فكبسوا على سودون القاضي الكاشف،
وكان عنده حينئذ ينال الأزعري أحد مقدمي الألوف فتواقعوا، فبلغ ذلك
السلطان فأرسل نجدة عظيمة فيها جقمق الدويدار وططر رأس نوبة والطنبغا
المرقبي وقطلوبغا التنمي في جمع كثير، فتوجهوا فوجدوا الأميرين قد
انتصرا وقد قتل منهم جماعة، وكانت الدائرة على هوارة فانهزموا، وحمل
منهم عشرون رأساً إلى القاهرة. ثم وصل الأمراء فتتبعوا هوارة إلى أن
أوقعوا بهم أيضاً، فقتلوا منه نحو الخمسين وهرب باقيهم إلى الواحات
الداخلة وتركوا حريمهم وأموالهم، فغنموا منهم شيئاً كثيراً، وقدموا
القاهرة في ثامن شعبان وصحبتهم ألفا جمل واثنا عشر ألف رأس غنم سوى ما
تلف وسوى ما توزعه الأمراء وأتباعهم، وجهز أزدمر الظاهري أحد المقدمين
في عدة من العسكر للإقامة ببلد الصعيد بسبب العربان المفسدين.
وفيها مات إبراهيم ابن الدربندي صاحب بلاد الدشت، فتوجه قرا يوسف في
ستة آلاف فارس إلى شماخي، فواقعه ابن إبراهيم في عساكر الدشت فهزمه
وقتل منهم ناس كثير، وتوجه ابن تمر لنك إلى جهة تبريز لمحاربة قرا
يوسف، فاشتغل قرا يوسف بما دهمه
(3/167)
من ذلك، فمشى قرا يلك إلى ماردين وهي من
بلاد قرا يوسف، فكسر عسكرها وقتل منهم نحواً من سبعين نفساً، واخذ من
بلادها ثماني قلاع ومدينتين، وحول أهل اثنتين وعشرين قرية بأموالهم
وعيالهم ليسكنهم ببلاده، واستمر على حصار ماردين، فلما بلغ ذلك قرا
يوسف انزعج منه وسار، ففر منه إلى آمد فتبعه ونازله بها، فانهزم منه
إلى قلعة نجم وأرسل إلى نائب حلب ليستأذنه في الدخول إليها، فاشتد
الأمر عنه على أهل حلب خوفاً من عسكر قرا يوسف وتهيأوا للخروج منها،
وأرسل نائب حلب كتابه وكتاب قرا يلك بما اتفق من قرا يوسف.
وفيه أن قرا يوسف كبس قرا يلك بعد أن عدا الفرات ووصل إلى نهر
المرزبان، فهجموا عليه من سميساط، فوقعت بينهم مقتلة بمرج دابق في ثاني
عشر شعبان، فانهزم قرا يلك ونهبت أمواله، ونجا في ألف فارس إلى حلب،
فأذن له نائبها في دخولها، فرحل أكثر أهل حلب عنها، وبلغ ذلك أهل حماة
فنزحوا عنها حتى ترك كثير من الناس حوانيتهم مفتحة فم يمهلوا لقفها،
فلما قرئ ذلك على السلطان انزعج وانثنى عزمه عن الحج وأمر بالتجهز إلى
الشام وكتب إلى العساكر الإسلامية بالمسير إلى حلب، وكان دخول الخبر
بذلك يوم الاثنين ثالث شعبان بعد المغرب على يد بردبك نائب عينتاب،
وذكر أن ولد قرا يوسف وصل إلى عينتاب فرمى فيها النار فهرب النائب
منها، وأن السبب في ذلك تحريض يشبك الدويدار الذي كان أمير الحاج، وهرب
من المدينة فيقال إنه اتصل بقرا يوسف وأغراه على أخذ الممالك الشامية،
ثم ظهر أن ذلك ليس بحق كما سيأتي، وجمع الأمراء والخليفة والقضاة
ليتشاورا في هذه القضية، فلما اجتمعوا سألهم عن البلقيني وكان قد أمرهم
بأن يحضر، فعرب بأنه لم يبلغ ذلك فانزعج على بدر الدين العيني لكونه
كان رسوله، واستمر ينتظره إلى أن حضر، فلما حضر عظمه، فقص عليهم قصة
قرا يوسف وما حصل لأهل حلب من الخوف والجزع وجفلتهم هم وأهل حماة حتى
بلغ ثمن الحمار خمسمائة درهم والأكديش خمسين ديناراً، ثم ذكر لهم سوء
سيرة قرا يوسف وأن عنده أربع زوجات فإذا طلق واحدة رفعها إلى قصر له
وتزوج غيرها حتى بلغت عدة من في ذلك القصر أربعين امرأة يسميهن السراري
ويطأهن
(3/168)
كما يطأ السراري بملك اليمين، ثم اتفق
الحال على كتابة فتوى تتضمن سوء سيرته فصورت وكتبت، وكتب عليها
البلقيني ومن حضر المجلس، تتضمن جواز قتاله، وأعجب السلطان ما كتبه
الحنبلي فأمر أن ينسخ ويقرأ على الناس، وانصرفوا ومعهم مقبل الدويدار
الثاني والخليفة والقضاة، فنادوا في القاهرة بأن قرا يوسف طرق البلاد
الشامية وأنه يستحل الدماء والفروج والأموال ويخرب الديار فالجهاد
جهاد! ولا أحد يتأخر أحد عن المساعدة بنفسه وماله! فذهل الناس عند سماع
هذا النداء ودهاهم ما كانوا عنه غافلين واشتد القلق جداً، وكتب إلى
نائب الشام أن ينادي بمثل ذلك وفي كل مدينة، ويضيف إلى ذلك أن السلطان
واصل بعساكره، ثم نودي في أجناد الحلقة بأن يتجهزوا للسفر، ومن تأخر
منهم صنع به كذا وكذا! فاشتد الأمر عليهم واستمر عزمهم، وخيروا بين
المشي في خدمة الأمراء وبين الاستمرار في أجناد الحلقة، وكان السبب في
ذلك أن كثير من أجناد الحلقة يخدم في بيوت الأمراء، فلذلك قلت العساكر
المصرية بعد كثرتها لأن العسكر كان قبل الدولة الظاهرية ثلاث أقسام:
الأول مماليك السلطان، وهم على ضربين: مستخدمين ومملوكين، ولكل منهم
جوامك وراتب على السلطان، القسم الثاني مماليك الأمراء، وهم على ضربين
أيضاً كذلك، ومن شرط المستخدمين هنا وهناك أن لا يكونوا من القسم
الثالث وهم أجناد الحلقة، وهم عبارة عمن له إقطاع بالبلاد يستغله، فلما
كثر استخدام السلطان والأمراء من أجناد الحلقة اتحد أكثر الجند فقل
العدد بذلك، فأراد السلطان أن يردهم إلى عادتهم الأولى فشدد في ذلك،
ومع ذلك فلم يبلغ الغرض ولا كاد لتواطي، المباشرين في ذك على أخذ
الرشوة والله المستعان.
وأما قرا يلك فإنه بعد أن التجأ إلى حلب ركب معه يشبك الشيخي نائب حلب
وعسكر بالميدان ثم توجه قرا يلك ومعه العسكر. فبلغه أن طائفة من عسكر
قرا يوسف قد
(3/169)
قربت من البلاد، فركب قبل الصبح فأوقع
بالمقدمة فهزمها. واستفهم من بعض من أسره فأعلمه أن قرا يوسف بعينتاب
وأنه أرسل هؤلاء ليكشفوا الأخبار، ثم وردت كتب قرا يوسف إلى نائب حلب
وإلى السلطان يعتذر من دخوله إلى عينتاب ويعاتب على إيواء عدوه قرا يلك
ويعلم السلطان بأنه باق على مودته ومحبته وأنه لا يطرق بلاده، وأن قرا
يلك بدأه بالشر وأفسد في ماردين وغيرها، وحلف في كتابه أنه لم يقصد
بلاد السلطان ولا دخول الشام وإنما تقدمه إليه الطائفة الملتجئة من
عساكر صاحب مصر، وجهز السلطان لنائب حلب خلعة وضمن كتابه شكره على ما
صنع بحلب، وكان الأمر كله على ما ذكره، فإن قرا يوسف أفحش السيرة في
ماردين وأسرف في القتل والسبي حتى باع الأولاد والنساء وأحرق المدينة
حتى وصل ثمن صغير منهم إلى درهمين، فلما تحقق السلطان ذلك فتر عزمه عن
السفر، ولما طرق قرا يوسف عينتاب هجم عليها عسكره فنهبوها وأحرقوا
أسواقها، فاجتمع أهلها وصالحوه على مائة ألف درهم وأربعين فرساً، فرحل
عنها إلى جهة البيرة في طلب قرا يلك فحصر البيرة فقاتلوه أهلها يومين،
فهجم البلد وأحرق الأسواق وامتنع أهلها منه بقلعتها، ثم رحل في تاسع
عشر رمضان إلى بلاده، وكاتب السلطان أيضاً يذم قرا يلك ويذم سيرة قرا
يلك ويحذره من عواقب صداقته وما أشبه ذلك، وعوقب قرا يوسف على ما صنعه
بأهل عينتاب والبيرة، فمات ولده شاه بصق وكان هو السلطان والمشار في
دولة والده، فحزن عليه جداً، وكانت وفاته بقرب ماردين.
وفي هذه الحركة ابتدأ أمر الهروي في الانحلال، فأخبرني المحتسب بدر
الدين العيني أن السلطان لما انزعج من قصة قرا يوسف وشكا إلى خواصه
صورة الحال وأن عنده من الأموال ما يكفي تفرقته على العسكر إلا أنه
يخشى إن فرقه أن يحصل له كسره مثلاً فيرجع إلى غير شيء فيفسد الحال،
وكان الحزم عنده أن يكون وراءه بعد التفرقة ذخيرة لأمر إن تم، وكرر ذلك
في مجالسه، واستشار من يجتمع به في ذلك حتى صرح بأنه يريد أن
(3/170)
يجمع مالاً يفرقه على العساكر ويترك الذي
عنده عاقبة ولو أن الذي يجمعه يكون قرضاً، فبلغ ذلك الهروي فقال لأحمد
الجنكي: لو أراد السلطان أن أجهز له عشرة آلاف لابس من غير أن يخرج من
خزانته دينارً ولا درهماً من غير أن أظلم أحداً من الرعايا فأنا أقدر
على ذلك، فسئل عن الكيفية، فقال: يسلم لي ستة أنفس: ولدي ابن الكويز
وابن البارزي وعبد الباسط وابن نصر الله وابن أبي الفرج، فبلغ ذلك أحمد
الجنكي للسلطان فبثها في خواصه فبلغت المذكورين، فاتفقت كلمتهم على نكب
الهروي ونسبته إلى كل بلية وأنه لم يكن قط عالماً ولا ينسبوه لعلم ولا
ولي القضاء قط وما وظيفته إلا استخلاص المال وشد الديوان ونحو ذلك،
فبالغوا في تقرير ذلك في ذهن السلطان، واستعان كل واحد منهم بفريق
وأعانوه على ذلك حتى سقط من عين السلطان، وذكر لهم السلطان بأنه كان
قال له وهو متوجه إلى قتال قانباي إن أردت المال فخذه من ابن المزلق
وابن مبارك شاه وسمي غيرهما من المنسوبين إلى المال من أهل دمشق، فأكد
ذلك عند السلطان تصديق ما ينسب من محبة الظلم، وكان ذلك سبباً في
إطراحه.
وفي حال دخول قرا يوسف البلاد الحلبية فر منه كثير من التركمان
الأوشرية وغيرهم فنزلوا على صافيتا من عمر طرابلس فافسدوا في تلك
البلاد على عادتهم، فأرسل م برسباي نائب طرابلس ينهاهم عن الفساد. ثم
صحت الأخبار برحيل قرا يوسف فراسلهم برسباي في الرحيل إلى بلادهم،
فأجابوا إلى ذلك وتجهزوا، فكبس عليهم على غرة منهم في أواخر شعبان،
فقتل منهم مقتلة عظيمة قتل فيها ثلاثة عشر نفساً من عسكر طرابلس منهم
سودون الأسندمري وانهزم برسباي، وقد أفحش التركمان في سلب الطرابلسيين
حتى رجعوا عراة، فلما بلغ ذلك السلطان غضب وأمر باعتقال برسباي بقلعة
المرقب، ثم أفرج عنه بسعي ططر وكان من إخوته ونقله إلى دمشق ثم أعطاه
تقدمة بها، فاستمر فيها إلى أن كان عاقبة أمره أن تولى السلطنة بعد
هذا، واستبد بالأمر كله بعد ثلاث سنين، وجهز سودون القاضي إلى طرابلس
أميراً عليها عوضاً عنه، فسافر في شوال.
(3/171)
ولما وصل قرا يوسف في رجوعه إلى ماردين مات
ابنه الأصغر، فيقال إنه من شدة حزنه عليه قال كلاماً شنيعاً وسيأتي
بيانه في حوادث سنة ثلاث وعشرين إن شاء الله.
ولما رجع قرا يوسف إلى تبريز غضب على ولده إسكندر واعتقله، وأرسل إلى
ولده الأكبر محمد شاه صاحب بغداد، وكان عصى عليه فصالحه.
وفي شوال قدم صريغاً دويدار يشبك نائب حلب وصحبته شهاب الدين أحمد بن
صالح بن محمد بن السفاح كاتب سر حلب باستدعاء السلطان لهما بشكوى
النائب، فوقفا بحضرة السلطان وتنصلا مما نسب ما شكيا من النائب بإضعاف
ما شكى منهما، فأمر صربغا بالاستقرار على وظيفته وسفر إلى حلب، واستعفى
ابن السفاح من العود خوفاً على نفسه فأعفي، واستقر في خدمة كاتب السر
على توقيع الدست.
وفي تاسع عشر ذي الحجة قدمت أم إبراهيم بن رمضان من بلاد المشرق تستعطف
السلطان على ولدها، فأمر السلطان باعتقالها فاعتقلت، وعرض أجناد الحلقة
وانتقى منهم من يصلح للسفر صحبة ولده، وكان قد عزم على تجهيزه إلى بلاد
ابن قرمان لما تقدم من صنيعه بطرسوس، وكان أهل طرسوس بعد رحيل محمد بن
قرمان عنهم قد كاتبوه بأن يرسل م عسكراً ليسلموا م نائبهم شاهين
الأيدكاري لسوء سيرته فيهم، فأرسل م ولده مصطفى فقدم في رمضان فأخذ
المدينة وحصر القلعة حتى أخذ شاهين فأرسله إلى أبيه في الحديد.
وفي أول جمادى الآخرة توجه نائب حلب في عساكرها ومن أطاعه من التركمان
إلى قلعة كركر ليحاصرها، فتحصن خليل نائبها في القلعة وخلا أكثر أهل
كركر عنها، فأقام عليها أربعين يوماً ورمى كرومها وحرقها وحرق القرى
التي حولها حتى تركها
(3/172)
بلاقع، ولم يزل كذلك حتى فقد عسكره العليق
فرجع إلى حلب ولم يتمكن من أخذ قلعة كركر.
وفي أول جمادى الآخرة شرع السلطان في بناء المارستان تحت القلعة، فأمر
بتنظيف التراب والحجارة التي بقيت من هدم المدرسة الأشرفية، وتمادى
العمل في ذلك مدة.
وفي شعبان بعد كسر الخليج غرق ولد لبعض البياعين فأراد دفنه، فمنعه
أعوان الوالي حتى يستأذنه، فمضى فاستأذنه فأمر بحبسه، ثم قيل له وهو في
الحبس: إنك لا تطلق حتى تعطي الوالي خمسة دنانير، فالتزم بها وخرج فباع
موجوده وما عند امرأته أم الغريق فبلغ أربعة دنانير واقترض دينارً وأخذ
ولده فدفنه وترك المرأة وهرب من القاهرة، فبلغ ذلك السلطان فساءه جداً.
وطلب ابن الطبلاوي الوالي المذكور فضرب بحضرته بالمقارع في الخامس من
شوال ولم يعزله، واستمر في الولاية إلى أن كان ما سنذكره في السنة
الآتية.
وفيها حاصر محمد بن قرمان طرسوس وانتزعها من نواب المؤيد، وكان المؤيد
انتزعها من التركمان وكانوا استولوا عليها بعد فتنة اللنك، فبلغ ذلك
المؤيد فجهز عسكراً ضخماً وأرسل معهم ولده إبراهيم فخرجوا في أول السنة
المقبلة.
وفي هذه السنة انتهت زيادة النيل إلى عشرة أصابع من تسعة عشر ذراعاً،
وذلك أنه كان يوم النيروز وكان يومئذ سادس عشري رجب قد انتهى إلى أصبع
من تسعة عشر ثم نقص نصف ذراع ثم تراجع إلى أن كانت هذه غايته، وارتفع
سعر الغلال بسبب ذلك، ولما أسرع هبوط النيل بادر كثير من الناس إلى
الزرع قبل أوانه، فصادف الحر الشديد والسموم ففسد أكثره بأكل الدود،
فارتفعت الأسعار في القمح والفول والبرسيم بسبب
(3/173)
ذلك، وعز وجود التبن حتى بلغ الحمل دينارً
وكان قبل ذلك كل خمسة أحمال بدينار، ثم ارتفعت الأسعار في ذي الحجة وقل
وجود الخبز في الأسواق، وبلغ سعر الفول ثلاث مائة كل إردب لعزته، ولم
يبلغ القمح سوى مائتين وخمسين.
وفي تاسع شعبان نودي أن لا يتعامل الناس بالدينار المشخص الأفرنتي إذا
كان ناقصاً، وكان سبب ذلك أن الأفرنتي زنة المائة منه أحد وثمانون
مثقالاً وربع مثقال، هكذا يحضر من بلاده، فولع به الصيارفة وغيرهم
فصاروا يقصونه منهم ويبردونه إلى أن استقر حال المائة ثمانية وسبعين
وثلث وانتظم الحال على ذلك، فكان في الكثير منهم نقص فاحش بحسب ما يقع
حين القص من جور القص ففسدت المعاملة جداً، فنودي أن لا يتعامل بالناقص
عن درهم وثمن بل يقص ردعاً لهم عن القص، فمشوا على ذلك شيئاً يسيراً ثم
رجعوا إلى ما كانوا عليه.
وفي أوائل شعبان عظم الشر بين فخر الدين الأستادار وبدر الدين ابن نصر
الله وتفاحشا بحضر السلطان، ورمى ابن نصر الله فخر الدين بعظائم منها
أنه قال له: أكثر ما ثمن به على السلطان حمل المال وجميع ذلك مما يعرف
يصنعه قطاع الطريق ولولا الدين لكنت أصنع كما تصنع بأن أرسل غارة على
قافلة من التجار فأبيتهم فيصبحوا مقتولين وآخذ أموالهم ونحو ذلك من
القبائح، فلم يكترث السلطان بذلك وأصلح بينهما.
فلما كان يوم التاسع من شعبان قبض على بدر الدين وسلم لفخر الدين، فما
شك أحد في هلاك بدر الدين، فعامله فخر الدين بضد ما في النفس وأكرمه
وقام له بما يليق به وأرسل إلى أهله بأن يطمئنوا عليه، وركب من الغد
إلى السلطان وهو ببركة الحبش بعرض الهجن لأجل الحج، فلم يزل به يترفق
له ويتلطف به ويلح عليه في السؤال في أن يفرج عن ابن نصر الله إلى أن
أجابه، فلما أن عاد أركبه دابته إلى داره فبات بها، وركب في بكرة
النهار الثاني عشر منه إلى القلعة ورجع وقد خلع عليه، فسر الناس به
سروراً كثيراً وعدت هذه المكرمة لابن أبي الفرج واستغربت من مثله.
(3/174)
وفي الثالث من ذي القعدة قبض على بدر الدين
بن محب الدين الوزير الذي كان يقال له المشير، وتسلمه أبو بكر
الأستادار بعد إخراق شديد وإهانة، وكان قد سار في الوزارة سيرة قبيحة
وتتبعت حواشيه فقبض عليهم ثم أفرج عنهم على مال، وقرر في الوزارة بدر
الدين بن نصر الله وأعطى تقدمة ألف، فنزل الأمراء في خدمته وسر الناس
وضربت الطبلخاناة في آخر النهار على بابه، ولم يقع ذلك لصاحب قلم تزيا
بزي التركية من المتعممين قبله بل الذين وصلوا إلى ذلك من ذوي الأقلام،
غيروا هيأتهم ولبسوا عمائم الترك سوى هذا، وقد تبعه من بعده على ذلك ما
سنبينه في الحوادث إن شاء الله تعالى.
وفي رمضان أكملت عمارة المدرسة الفخرية بين السورين، وقررت فيها
الصوفية، وفوضت مشيختها للشيخ شمس الدين البرماوي، ودرس الحنفية للقاضي
شمس الدين الديري. ودرس المالكية للقاضي جمال الدين المالكي، ودرس
الحنابلة للقاضي عز الدين البغدادي ثم القدسي الذي ولي عن قرب تدريس
الحنابلة بالمؤيدية، ولم يستطع فخر الدين الأستادار الحضور عند
المدرسين لشدة مرضه وتمادى به الأمر إلى أن مات في سادس عشر شوال ودفن
بها في فسقية اتخذت له بعد موته.
واستقر في الاستاوارية نائبة في الكشف على الوجه القبلي ابو بكر ابن
قطلبك بن المزرق وكان زوج اخته فسكن في داره.
واستقر في نظر في الإشراف عوضاً عنه كاتب السر ابن البارزي. وأوصى فخر
الدين بجميع موجوده للسلطان وعينه في دفاتر، واشتملت قيمتها ما بين عين
وأثاث على أربعمائة ألف دينار، فتسلمها أصحاب السلطان ولم يشوش على أحد
من أولاده، وإنما صودر بعض حاشيته على مال وأطلقوا.
وفي شوال حضر القضاة القصر الكبير وقد لبس الأمراء والمباشرون الخلع
على العادة فلبس القضاة خلعهم إلا الحنبلي فسلموا على السلطان، فتغيظ
على الحنبلي لعدم لبسه
(3/175)
خلعته وقال له: إن العادة جرت أن القضاة
يحضرون معهم بخلعهم! فقال: ظننت أنه يخلع عليهم من عند السلطان فلم
أحضر بخلعتي، فلم يعجب ذلك السلطان فكأنه أراد تلافي خاطره فاستأذنه في
إنشاد آبيات مدح له فيه فأذن له، فأنشده وهو قائم فأطال، فمل منه وقطع
الإنشاد وركب الفرس ومضى وأظهر النفار لما ركب.
وفي حادي عشر ذي القعدة توجه السلطان إلى الوجه البحري للسرحة وانتهى
إلى مريوط فنزل فأقام بها أربعة أيام فأعجبه البستان الذي هناك. وكان
الظاهر بيبرس قد استجده هناك وكان كبيراً جداً وفيه فواكه عجيبة وآثار
منظره بديعة وبئر لا نظير لها في الكبر وعليها عدة سواقي من جوانبها.
وكان البستان المذكور قد صار للمظفر بيبرس ووقفه على الجامع الحاكمي،
فتقدم السلطان إلى بعض خواصه باستئجاره وتجديد عمارته فشرع في ذلك،
ورجع السلطان من الوجه البحري فأدركه عيد الأضحى بناحية وردان، فخطب به
كاتب السر ابن البارزي وصلى به صلاة العيد وضحى هناك، وفقد الناس
بالقاهرة ما كان يألفونه من تفرقة الأضاحي لغيبة السلطان والأمراء
والله المستعان.
ووصل في الثاني عشر إلى البر الغربي فغدا إلى بيت كاتب السر بن البارزي
(3/176)
فبات فيه ليلة الثلثاء وطلع إلى القلعة
سحراً. فوافاه القضاة والأعيان للسلام عليه، فتكلم الديري على قوله
تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قومن من قوم عسى أن يكونوا خيراً
منهم " فنقل الديري سبب النزول فنازعه الهروي، وكان بينهم ما سنذكره في
حوادث أول السنة المقبلة.
وفيها استقر القاضي جمال الدين محمد بن أحمد بن محمد بن محمود بن
إبراهيم ابن روزبة الكازروني ثم المدني الفقيه الشافعي في قضاء المدينة
الشريفة مضافاً إلى الخطابة والإمامة وصرف عبد الرحمن بن محمد بن صالح.
ومولد الكازروني فيما قرأت بخطه في سابع عشر ذي القعدة سنة 757.
ذكر من مات
في سنة إحدى وعشرين وثمانمائة من الأعيان
إبراهيم بن بابي - بفتح الموحدتين - العواد المغني، كان مقرباً عند
السلطان أبي النفس، المنتهي في جودة الضرب بالعود، ولم يخلف بعده مثله،
مات ليلة الجمعة مستهل شهر ربيع الأول ببستان الحلي وكان قد استأجره
وعمره.
اجترك القاسمي في مشترك.
أحمد بن أبي بكر بن محمد بن الرداد، المكي ثم الزبيدي الصوفي ثم القاضي
شهاب الدين الشافعي ولد سنة ثمان وأربعين، ودخل اليمن فاتصل بصحبة
السلطان الأشرف إسماعيل بن الأفضل فلازمه، واستقر من الندماء ثم صار من
أخصهم به، وكانت لديه فضائل كثيرة ناظماً ناثراً ذكياً إلا أنه غلب
عليه حب الدنيا والميل
(3/177)
إلى تصوف الفلاسفة، فكان داعية إلى هذه
البدعة يعادي عليها، ويقرب من يعتقد ذلك المعتقد، ومن عرف أنه حصل نسخة
الفصوص قربه وأفضل عليه، وأكثر من النظم والتصنيف في ذلك الضلال المبين
إلى أن أفسد عقائد أكثر أهل زبيد إلا من شاء الله، ونظمه وشعره ينعق
بالاتحاد، وكان المنشدون يحفظون شعره فينشدونه في المحافل يتقربون به،
وله تصانيف في التصوف، وعلى وجهه آثار العبادة لكنه كان يجالس السلطان
في خلواته ويوافقه على شهواته إلا أن لا يتعاطى معهم شيئاً من المنكرات
ولا يتناول شيئاً من المسكرات، وولي القضاء بعد الشيخ مجد الدين بسنتين
وكان الناصر ابن الأشرف ترك القضاء شاغراً هذه المدة ينتظر قدوم عليه
بزعمه، فسعى فيه بعض الأكابر للفقيه الناشري فخشي ابن الرداد أن يتمكن
الناشري من الإنكار عليه في طريقته، لن الناشري كان من أهل السنة وشديد
الإنكار على المبتدعة، وكان يواجه ابن الرداد بما يكره والشيخ مجد
الدين يداهنه فبادر إلى طلب الوظيفة من الناصر والناصر لا يفرق بين هذا
وهذا ويظن أن ابن الرداد عالم كبير فولاه له مع كونه مزجي البضاعة في
الفقه عديم الخبرة بالحكم فأظهر العصبية وانتقم ممن كان ينكر عليه
بدعته من الفقهاء فأهانهم وبالغ في ردعهم والحط عليهم، فعوجل وصاروا
يعدون موته من الفرج بعد الشدة ومات في ذي القعدة، وقد سمعت من نظمه
وأجاز في استدعاء أولادي.
أحمد بن علي بن أحمد، القلقشندي نزيل القاهرة، تفقه وتمهر وتعانى
الأدب، وكتب في الإنشاء وناب في الحكم، وكان يستحضر الحاوي وكتب شيئاً
على جامع المختصرات، وصنف كتاباً حافلاً سماه صبح الأعشى
(3/178)
في معرفة الإنشاء وكان مستحضراً لأكثر ذلك،
مات في جمادى الآخرة عن خمس وستين سنة.
أقبغا شيطان، وكان حسن المباشرة قليل الفسق، ولي شد الدواوين ثم
الولاية ثم الحسبة وجمع بين الثلاثة مرة، وقتل في ليلة سادس شعبان.
الطنبغا العثماني مات في ثاني عشر شوال بطالا بالقدس.
بردبك الخليلي، نائب صفد، مات في نصف شهر رجب.
بيسق أمير أخور الظاهري، مات بالقدس بطالاً، وكان الناصر نفاه إلا بلاد
الروم فقدم في الدولة المؤيدية فلم يقبل المؤيد عليه ثم نفاه إلى القدس
فمات بها في جمادى الآخرة، وله آثار بمكة، وكان كثير الشر شرس الخلق
جماعاً للأموال مع البر والصدقة.
حسين بن علي بن محمد بن داود، البيضاوي الأصل المكي أبو عمر بدر الدين
المعروف بالزمزمي، ولد قبل السبعين، وأجاز له الصلاح ابن أبي عمر وابن
أميلة وحسن بن الهبل وجماعة من القادمين مكة بعد ذلك، واشتغل بالعلم
ومهر في الفرائض والحساب، وفاق الأقران في معرفة الهيئة والهندسة، وحدث
باليسير، مات في ذي الحجة وقد جاوز الخمسين.
حسين بن كبك - تقدم في الحوادث.
خليل بن محمد بن محمد بن عبد الرحيم بن عبد الرحمن، الأقفهسي المصري
المحدث المفيد، يلقب صلاح الدين وغرس الدين، ويكنى أبا الصفا، ويعرف
بالأشقر، ولد سنة ثلاث
(3/179)
وستين وسبعمائة تقريباً، واشتغل بالفقه
قليلاً واشتغل في الحساب والفرائض والأدب، ثم أحب الحديث فسمع بنفسه
قبيل التسعين من عزيز الدين المليجي وصلاح الدين البلبيسي وصلاح الدين
الزفتاوي وأبي الفرج بن المعزى ونحوهم من الشيوخ المصريين، ثم حج سنة
خمس وتسعين وجاور فسمع بمكة من شيوخها، ثم قدم دمشق أول سنة سبع وتسعين
ليسمع من شيخنا بالإجازة أبي هريرة بن الذهبي، وكان قد أجاز له جماعة
ليس عنده إذ ذاك اشهر من أبي هريرة، فلما وصل إلى دمشق لقي بها شيخنا
بالإجازة شهاب الدين ابن العز فأكثر عنه وأخذ عن ابن الذهبي، وسمع
الكثير من حديث السلفي بالسماع المتصل وبالإجازة الواحدة، ثم قدم سنة
ثمان وتسعين فلازمنا في الأسمعة وسافر صحبتي إلى مكة في البحر فجاور
بها، ثم رحل إلى دمشق مرة ثانية فأقام بها فرافقني في السماع في سنة
اثنتين وثمانمائة بدمشق ورجع معي إلى القاهرة، ثم حج في سنة أربع وجاور
سنة خمس فلقيته في آخرها مشمراً على ما أعهده من الخير والعبادة
والتخريج والإفادة وحسن الخلق وخدمة الأصحاب، واستمر مجاوراً من تلك
السنة إلى أن خرج إلى المدينة ثم توجه في ركب العراق، ثم ركب البحر إلى
كنباية من بلاد الهند ثم رجع إلى هرمز، ثم جال في بلاد المشرق فدخل
هراة وسمرقند وغيرهما، وصار يرسل إلى كتبه إلى مكة بالتشوق اوإلى أهله،
وقد خرج لشيخنا مجد الدين الحنفي مشيخة ولشيخنا جمال الدين ابن ظهيرة
معجماً وحرج لنفسه المتباينات فبلغت مائة حديث، وخرج أحاديث الفقهاء
الشافعية، ونظم الشعر الوسط ثم جاد شعره في الغربة وطارحني مراراً بعدة
مقاطيع، ثم بلغني أنه مات في أول سنة إحدى وعشرين بيزد، خرج من الحمام
مات فجأة، وأرخه الشريف الفاسي في سنة عشرين - فالله أعلم.
(3/180)
سارة بنت محمد بن أزدمر حماتي، ماتت في
المحرم.
سعد الله بن سعد بن علي بن إسماعيل، الهمذاني، قدم إلى حلب مع والده
وهو شاب، وكان أبوه سكن عينتاب، واشتغل سعد الله هذا في العلم وتفقه
حنفياً ومهر في ودرس في حلب بمدارس منها، فاتفق أنه فجأة الموت في رابع
جمادى الأولى وأسف الناس عليه، وكانت جنازته حافلة - ذكره القاضي علاء
الدين في ذيل تاريخ حلب.
سليمان بن علي، القرشي اليمني المعروف بابن الجنيد، سمع على ابن شداد
وغيره، وولي قضاء عدن مرة، رأيته بعدن ومات بها.
سودون الأسندمري - تقدم في الحوادث.
عبد الله بن إبراهيم بن احمد، الحراني ثم الحلبي الحنبلي، كان يذكر أنه
من ذرية ابن أبي عصرون، وكان شافعي الأصل، وولي قضاء الشغر شافعياً
وكذا كانت له وظائف في الشافعية، ثم انتقل بعد مدة حنبلياً وولي قضاء
الحنابلة بحلب كأنظاره، وقال القاضي علاء الدين في تاريخ حلب: كان حسن
السيرة، ولي القضاء ثم صرف ثم أعيد مراراً، ثم صرف قبل موته بعشرة أشهر
فمات في شعبان.
عبد الله بن علي بن يحيى بن فضل الله، العدوي جمال الدين ابن كاتب
السر.
(3/181)
ولد سنة أربع وخمسين، وأحضر على العرضي
وأسمع على التباني واستمر يلبس بزي الجندية وله إقطاع، واستمر من حياة
أبيه إلى أن مات محارفاً وكان مستوراً، ثم فسد حاله إلى أن عمل نقيباً
في بيوت الحجاب، وقد سمع منه بعض أصحابنا قليلاً. وهو آخر إخوته موتاً.
عبد الرحمن بن هبة الله، الملحاني اليماني، جاور بمكة، وكان بصيراً
بالقراآت سريع القراءة، قرأ في الشتاء في يوم ثلاث ختمات وثلث ختمة،
وكان ديناً عابداً مشاركاً في عدة علوم، مات في رجب.
عبد الغني بن عبد الرزاق بن أبي الفرج، الأرمني الأصل، كان جده من
نصارى الأرمن فأسلم وولي نظر قطياً وولايتها والوزارة وغيرهما كما
تقدم، وكان مولد فخر الدين سنة أربع وعشرين وسبعمائة، وتعلم الكتابة
والحساب، وولي قطيا في راس القرن في جمادى سنة إحدى وثمانمائة، ثم صرف
وأعيد لها مراراً، ثم ولاه جمال الدين الأستادار كشف الشرقية سنة إحدى
عشرة، فوضع السيف في العرب وأسرف في سفك الدماء وأخذ الأموال، فلما قبض
على جمال الدين واستقر ابن الهيصم في الأستادارية بذل عبد الغني أربعين
ألف دينار، واستقر مكانه في ربيع الآخر سنة أربع عشرة، ثم صرف في ذي
الحجة منها بعد أن سار سيرة عجيبة من كثرة الظلم وأخذ المال بغير شبهة
أصلاً والاستيلاء على حواصل الناس بغير تأويل، وفرح الناس بعزله، وعوقب
فتجلد حتى رق له أعداؤه، ثم أطلق وأعيد إلى ولاية قطيا، فلما
(3/182)
قتل الناصر وولي المؤيد ولي كشف الوجه
البحري، ثم ولي الأستادارية في جمادى الأولى سنة ست عشرة، فجادت أحواله
وصلحت سيرته وأظهر أن الذي سار به أولاً إنما كان من عيب الناصر لكنه
أسرف في أخذ الأموال من أهل القرى، وولي كشف الصعيد فعاد ومعه من
الخيول والإبل والبقر والغنم والأموال ما يدهش من كثرته، ثم توجه إلى
الوجه البحري ففرض على كل بلد وقرية مالاً سماه ضيافة، فجمع من ذلك
مالاً جزيلاً في مدة يسيرة، ثم توجه إلى ملاقاة المؤيد لما رجع من وقعة
نوروز فبلغه أن المؤيد سمع بسوء سيرته وعزم على القبض عليه، فهرب إلى
بغداد وأقام عند قرا يوسف قليلاً، ثم لم تطب له البلاد فعاد ورمى بنفسه
على خواص المؤيد، فأمنه وأعاده إلى كشف الوجه البحري، ثم أعاده إلى
الأستادارية في سنة تسع عشرة، فحمل في تلك السنة مائة ألف دينار فسلم
له الأستادار قبله بدر الدين بن محب الدين وأمر بعقوبته، فكف عنه فأخذ
من يده وتوجه لحرب أهل البحيرة ومعه عدة أمراء في شوال سنة تسع عشرة
فكان الكل من تحت أمره، ووصل إلى حد برقة ورجع بنهب كثير جداً، ثم لما
مات تقي الدين ابن أبي شاكر أضيفت الوزارة في صفر سنة إحدى وعشرين،
فباشرها بعنف وقطع رواتب الناس وبالغ في تحصيل الأموال ويحوزة، فكان
يوفر كل قليل مالاً يحمله للمؤيد فيجل في عينه ويشكره في غيبته مع لين
جانبه للناس وتودده لهم، وكان في كل قليل يصادر الكتاب والعمال، ثم
توجه إلى الوجه البحري وأخذ الضيافة على العادة ولاقى السلطان لما رجع
من الشام بأموال عظيمة. ثم توجه إلى الصعيد وأوقع بأهل الأشمونين ورجع
بأموال كثيرة جداً، ثم استعفى عن الوزارة في شوال سنة عشرين فاستقر
أرغون شاه، ثم مرض فعاده السلطان في مرضه، فقدم له خمسة آلاف دينار
فأضاف نظر الإشراف،
(3/183)
ثم توجه الوجه القبلي فأوقع بالعرب وجمع
مالاً كثيراً جداً، ثم أصابه الوعك في رمضان واستمر في مرضه ذلك إلى أن
مات في نصف شوال سنة 831، واشتد أسف السلطان عليه، وعاش سبعاً وثلاثين
سنة، وكان عارفاً بجمع المال شهماً شجاعاً ثابت الجأش قوي الجنان، وكان
في آخر عمره قد ساد وجاد سوى ما اعتاده من نهب الأموال، وقد جمع منها
في ثلاث سنين ما لا يجمعه غيره في ثلاثين سنة، وكان جده يصحب ابن نقولا
الكاتب فنسب فلهذا كان يقال له أبو الفرج بن نقولا أو هو اسم جده
حقيقة.
وفي الجملة أبو الفرج أول من أسلم من آبائه ونشأ أبوه مسلماً ثم دخل
بلاد الفرنج، ويقال إنه رجع إلى النصرانية، ثم قدم واستقر صيرفياً
بقطية وولي نظرها ثم إمرتها، ثم تنقلت به الأحوال وبولده من بعده على
ما تقدم مشروحاً.
علي بن أحمد بن علي بن حسين بن محمد بن حسين بن محمد بن حسين بن محمد
بن زيد بن حسين بن مظفر بن علي بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن عبد الله
بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، الأرموي
الأصل نزيل القاهرة نقيب الأشراف شرف الدين ابن قاضي العسكر، وأمه خاص
بنت الظاهر أنسب بن العادل كتبغا، وكان معدوداً في رؤساء البلد لإفضاله
وكرمه من غير شهرة بعلم ولا تصون، ومات في تاسع عشر ربيع الأول عن نحو
الستين.
علي بن أحمد بن عمر بن حسن، المهجمي، كان يسكن بيت الفقيه من عمل بيت
حسين باليمن وهو من بيت الصلاح، وللناس فيه
(3/184)
اعتقاد كبير، ويحكى عنه رحمه الله تعالى
مكاشفات وكرامات مع وفور حظ من الدنيا.
قطلوبغا الخليلي، نائب الإسكندرية وقد تقدم ذكر ولايته في الحوادث،
ومات في نصف ذي الحجة، ولم تطل مدته في السعادة، واستقر بعده في نيابة
الإسكندرية ناصر الدين محمد بن العطار الدمشقي نقلاً من دويدارية نائب
الشام ا، وهو صهر كاتب اسر.
لؤلؤ الطواشي المجبوب كاشف الوجه القبلي، وليه مرتين ثانيهما في رجب
سنة ثماني عشرة، ثم عزل وصودر وأخذ منه مال جزيل بعد العقوبة الشديدة،
ثم ولي شد الدواليب ومات وهو على ذلك، وكان من الحمقى المغفلين والظلمة
الفاتكين في صورة الناسكين، مات في شوال.
محمد بن حسين بن محمد بن محمد بن خلف الله، الشمني - بضم المعجمة
والميم وتشديد النون - ثم الإسكندري المالكي كمال الدين، ولد سنة بضع
وستين، واشتغل بالعلم في بلده ومهر، ثم قدم القاهرة فسمع بها من شيوخنا
وممن قبلهم وسمع بالإسكندرية، وقدم في الحديث وصنف فيه وتخرج ببدر
الدين الزركشي والشيخ زين الدين العراقي، ونظم الشعر الحسن، ثم استوطن
القاهرة وأصيب في بعض كتبه. وتنزل بالمدرسة الجمالية طالباً في درس
الحديث، ثم نزلت له عنه في سنة تسع عشرة فدرس به، ثم عرضت
(3/185)
له علة في أواخر سنة عشرين، ثم تفقه ورجع
إلى منزله وتمرض به إلى أن مات في شهر ربيع الأول.
محمد بن علي بن نم، الكيلاني غياث الدين ابن خواجا على التاجر، ولد في
حدود السبعين، وكان أبوه من أعيان التجار فنشأ ولده هذا في عز ونعمة
طائلة، ثم شغله أبوه بالعلم بحيث كان يشتري له الكتاب الواحد بمائة
دينار وأزيد ويعطي معلميه فيفرط، فمهر في أيام قلائل واشتهر بالفضل
ونشأ متعاظماً، ثم مات أبوه وتنقلت به الأحوال، والتهى عن العلم
بالتجارة فصعد وهبط وغرق وسلم وزاد ونقص إلى أن مات خاملاً مع أنه كان
سيئ المعاملة عارفاً بالتجارة محظوظاً منها إلا أنه تزوج جارية من
جواري الناصر يقال لها سمراء فهام بها وأتلف عليها ماله وروحه وأفرطت
هي في بغضه إلى أن قيل إنها سقته السم فتعلل مدة ولم تزل به حتى فارقها
فتدله عقله من حبها إلى أن مات ولهاً بها، وبلغني أنها تزوجت بعده
رجلاً من العوام فأذاقها الهوان وأحبته، فأبغضها عكس ما جرى لها مع
غياث الدين، وبلغني أنها زارت غياث الدين في مرضه واستحللته فحاللها من
شدة حبه لها وكانت قد ألزمته بطلاق زوجته ابنة عمه فطلقها لأجلها، وقد
طارحني غياث الدين بمقاطيع عديدة وألغاز وترافقنا في السفر، ومن شعر
غياث الدين في سمراء قصيدة مطولة أولها:
سلوا سمراء عن جربي وحزني ... وعن جفن حكى هطال مزن
سلوها هل عراها ما عراني ... من الجن الهواتف بعد جن
(3/186)
سلوا هل هزت الأوتار بعدي ... وهل غنت كما
كانت تغني
يقول في آخرها:
سأشكوها إلى مولى حليم ... ليعفو في الهوى عنها وعني
وهذا آخر من عرفنا خبره من المتيمين، مات في سابع عشر شوال.
محمد بن محمد بن عبد اللطيف بن أحمد بن محمود بن أبي الفتح، أبو الطاهر
الشيخ المسند شرف الدين ابن عز الدين أبي اليمن ابن الكويك الربعي
التكريتي ثم الإسكندراني نزيل القاهرة، ولد في ذي القعدة سنة سبع
وثلاثين، وأجاز له فيها المزي والبرزالي والذهبي وبنت الكمال وإبراهيم
بن الفريشة وابن المرابط وعلي بن عبد المؤمن بن عبد في آخرين، وأحضر في
الرابعة على إبراهيم بن علي الزرزاري، وأسمع من أحمد بن كشتغذي وأبي
نعيم الإسعردي وابن عبد الهادي وغيرهم، ولازم القاضي عز الدين ابن
جماعة، وتعانى المباشرات فكان مشكوراً فيها، وتفرد في آخر عمره بأكثر
مشايخه، وتكاثر عليه الطلبة ولازموه، وحبب التحديث ولازمه، قرأت عليه
كثيراً من المرويات بالإجازة والسماع، من ذلك صحيح مسلم في أربعة مجالس
سوى مجلس الختم،
(3/187)
ولم يزل على حاله متقطعاً في منزله ملازماً
للأسماع إلى أن مات في أواخر ذي القعدة من هذه السنة وقد أكمل أربعاً
وثمانين سنة، ولم يبق بعده بالقاهرة من يروي عن أحد من مشايخه لا
بالسماع ولا بالإجازة بل ولا في الدنيا من يروي عمن سميت من مشايخه
المذكورين رحمه الله تعالى.
محمد ناصر الدين ابن البيطار، كان في ابتداء أمره يتعانى صناعة
البيطرة، ثم قرأ القرآن واشتغل بالفرائض فمهر في ذلك، ثم أقبل على
الفقه ففاق أقرانه، وأقرأ في الجامع مدة ولم يترك جائزته ويسترزق منه،
وكان صالحاً خيراً ديناً، مات في ربيع الآخر.
مشترك ويقال له اجترك القاسمي، من كبار الأمراء، تنقل في الولايات منها
نيابة غزة، مات في جمادى الأولى.
يوسف بن محمد بن عبد الله، الحميدي جمال الدين الحنفي، نسب إلى امرأة
كان يقال لها أم حميد، ونشأ بالإسكندرية وتفقه حتى برع وولي قضاء
الحنفية بها وكان موسراً، مات في خامس عشري جمادى الآخرة وقد زاد على
الثمانين، وكان لا بأس به.
(3/188)
سنة اثنتين وعشرين
وثمانمائة
استهلت يوم الجمعة ثاني إمشير من الشهور القبطية.
في أول المحرم جهز إبراهيم بن السلطان وصحبته من الأمراء الكبار
الطنبغا القرمشي وططر وجقمق وآخرون وصحبته علي بن قرمان وكان قد فر من
أخيه محمد إلى السلطان والتجأ فجهز ابنه نصرة له فكان ما سيأتي ذكره،
وتوجه من الريدانية في ثاني عشري المحرم، وكان السبب في هذه السفرة أن
محمد بن قرمان أغار على طرسوس في السنة الماضية، فقبض على نائبها شاهين
الأيدكاري فوصل دمشق في سادس صفر وتلقاه النواب، ثم وصل حلب في أول
ربيع الأول ثم وصل إلى كركر في ثامن عشر ربيع الآخر فحاصر القلعة، وهرب
ابن قرمان في مائة وعشرين فارساً وأخذ منها مالاً ورجالاً فقيدهم،
وتوجه إلى لارندة فنازلها وهي قاعدة بلاد ابن قرمان وكان ما سنذكره بعد
ذلك إن شاء الله تعالى، ثم وصل إلى قيسارية وهي أعظم بلاد ابن قرمان في
تاسعه، ثم وصل إلى قونية في نصف ربيع الآخر بعد ما مهد أمور قيسارية
ورتب أحوالها وخطب فيها باسم السلطان ونقش اسم السلطان على بابها، وقرر
في نيابتها محمد بن دلغادر نائب السلطنة بقيسارية، ولم يتفق ذلك لملك
من ملوك الترك بعد الظاهر بيبرس فإنه كان خطب له بها ثم انتقض ذلك.
وفيه قدم عجلان بن نعير من المدينة مقبوضاً عليه من إمرة المدينة، ووصل
بكتمر السعدي من رسالته إلى صاحب اليمن ومعه كتاب الناصر صاحب اليمن
وهديته.
(3/189)
وفيها قرر ناصر الدين بك واسمه محمد بن
دلغادر في نيابة قيسارية عن السلطان مضافاً إلى نيابة الأبلستين، وكان
تاني بك نائب حلب استولى على طرسوس فأمره المؤيد أن يسلمها لناصر الدين
بك فجمع محمد بن قرمان عسكراً، واستقر مقبل الدويدار الثاني شاد
العمارة بالجامع المؤيدي عوضاً عن ططر.
وفي ثامن عشري المحرم حضر السلطان بالجامع المؤيدي وحضر عنده القضاة
فسألهم عما أعلم به الحجاج من استهدام المسجد الحرام واحتياجه إلى
العمارة، ومن أي جهة يكون المصروف على ذلك، فجالوا في ذلك إلى أن سأل
القاضي الحنبلي قاضي الشافعية الهروي عن أربع مسائل تتعلق بذلك فأجابه
فخطأه في جميعها، وتقاول القاضيان الشافعي والحنفي حتى تسابا. وأفحش
الديري في أمر الهروي حتى قال: أشهدك يا مولانا السلطان أني حجرت عليه
أن يفتي وحكمت بذلك، فنفذ حكمه المالكي والحنبلي في المجلس، وبلغ
الهروي من البهدلة إلى حد لم يوصف، وأعان على ذلك شدة بغض الناس له
وتمم عليه ورحيل أعوانه وأنصاره مثل ططر وغيره مع ما هو عليه من قلة
العلم وعجمة اللسان.
فلما كان في الثامن من شهر ربيع الأول قدم طائفة من الخليل والقدس صحبة
الناظر عليهم حينئذ وهو حسن الشكلي فشكون منه أنه أخذ منهم مالاً
عظيماً في أيام نظره. فابتليت بالحكم بينهم بأمر السلطان، فتوجه الحكم
على الهروي فخرج في الترسيم، فلما حاذى المدرسة الصالحية خرج الرسل
الذين بها من جهة الحنفي فأدخلوه قاعة الشافعية وتوكلوا به. فأرسل
قاصده إلى مرجان الخازندار، فنزل بنفسه وسب الموكلين به ونقله إلى
داره.
وفي الثاني عشر منه أمر السلطان أن يوكل بالهروي فوكل به أربعة، فشرع
في بيع بعض موجوده وأشيع أنه عزم على الهرب، ثم أمر بإعادة ما أودع تحت
يده من مال
(3/190)
أجناد الحلقة وجملته ألف ألف وستمائة ألف،
فوجد منه ألف ألف وتصرف في ستمائة ألف، فكثرت القالة فيه والشناعة عليه
بسبب ذلك، ومنع ابن الديري نواب الهروي من الحكم واستند إلى أن الهروي
ثبت فسقه فانعزل بذلك ولو لم يعزله السلطان، فكفوا.
فلما كان السابع عشر من ربيع الأول نزل السلطان إلى جامعه واستدعى
بالبلقيني فأعاده إلى القضاء، ففرح الناس به جداً لبغضهم في الهروي -
وكان ما سنذكره بعد ذلك.
وفي خامس صفر استقر صدر الدين ابن العجمي في الحسبة، وفرح الناس به
لمعرفته وعفته.
وفي سادس عشره توجه ابن محب الدين أمير بطرابلس من جملة الأمراء.
وفي ثامن عشره عمل الوقيد بالبحر كالسنة الماضية.
وفي أواخر صفر ثار المماليك الذين في خدمة السلطان بالطباق وأرادوا
إحداث فتنة وامتنعوا من حضور الخدمة وذكروا أن سبب ذلك حقارة الجامكية،
فأمر السلطان أن يزاد كل واحد منهم على قدر ما يريد فرضوا وسكنت
الفتنة. وفيه أرسل الطنبغا المرقبي إلى الصعيد وصحبته رقم (؟) أمير
هوارة، فطرقه الأعراب فكانت بينهم مقتلة عظيمة، ثم انهزم العرب إلى
الميمون وغنم الطنبغا ومن معه من أغنامهم ودوابهم شيئاً كثيراً جداً.
وفي صفر فشا الطاعون بالشرقية والغربية وابتدأ بالقاهرة ومصر، ثم كثر
جداً في ربيع الأول، وكان في الأطفال كثيراً جداً، وعم الوباء في بلاد
الفرنج، وفيه عمرت قناطر شينين فبلغ مصروفها خمسة آلاف دينار جمعت من
بلاد الجيزة حتى من الإقطاعات والرزق.
(3/191)
وفي تاسع عشري ربيع الأول كسفت الشمس قبيل
الزوال فاجتمع الناس بالجامع الأزهر، فصليت بهم صلاة الكسوف على الوصف
المعروف في الأحاديث الصحيحة بركوعين مطولين وقيامين مطولين وكذلك في
جميع الأركان المقصودة وغير المقصودة، ثم خطبت بهم ما يقتضي ذلك بعد أن
انجلت الشمس والحمد لله، واتفق وقوع زلزلة في هذا اليوم بمدينة
أرزنكان، هلك بسببها عالم كثير وانهدم من مباني القسطنطينية شيء كثير
وهدمت قيسارية بناها ابن عثمان في برصا وما حولها وهلك بسبب ذلك ناس
كثير.
وفي ربيع الأول ركب المحتسب والوالي فطافا بأمر السلطان على أماكن
الفساد بالقاهرة وأراقا من الخمور شيئاً كثيراً، ومنع المحتسب النساء
من النياحة على الأموات في الأسواق وعزر طائفة منهن. وألزم ود والنصارى
بتضييق الأكمام وتصغير العمائم وبالغ في ذلك.
وفيه تشاجر الوزير والأستادار وتفاحشا، وخلع عليهما في تاسع عشرة
والتزما بحمل مائة ألف دينار.
وفي المحرم قبض على محمد بن بشارة، وذلك أن السلطان كان أرسل ناصر
الدين محمد بن إبراهيم بن منجك إلى دمشق وأمره أن يحتال على ابن بشارة،
فراسله إلى أن ضمن له عن السلطان الرضا، فلما اطمأن لذلك أرسل أمان
السلطان وحلف وأرسل له
(3/192)
خلعة فلبسها وأقبل إلى دمشق، فتلقاه وبالغ
في إكرامه فآمن، فينا هو آمناً في سوق الخيل فتلقاه ابن منجك فدخلا
جميعاً إلى بيت نكباي نائب الغيبة، فلم يستقر به المجلس حتى قبض عليه،
فدفع عن نفسه بسيفه وجرح من تقدم فتكاثرت السيوف على رأسه، وقض على
عشرين من أصحابه فوسط منهم أربعة نفر واعتقل ابن بشارة بدمشق، ثم أمر
السلطان بإحضاره فأحضر في رابع عشري جمادى الأولى.
وفي خامس ربيع الآخر خدع الهروي الموكلين به من الأجناد ففر إلى بيت
قطلوبغا التنمي فبلغ ذلك السلطان، فأمر الوالي الأمير التاج بنقله من
بيت التنمي إلى القلعة فسجنه بها في البرج، ثم أنزله التاج في ثاني عشر
من الشهر إلى الصالحية وقد اجتمع بها القضاة فادعى التاج على الهروي
بالمال الذي ثبت عليه، فالتزم بأنه عنده وهو قادر عليه وأنه أدى بعضاً
وسيؤدي الباقي، فسجنه في قبة الصالح ووكل به جماعة يحفظونه، ثم نقل في
ثامن عشري الشهر المذكور إلى القلعة، لأنه كرر شكواه من كثرة سب الناس
له من بغضهم فيه حتى خشي أن يأتوا على نفسه، ثم بادر التاج ونقل الهروي
من جامع القلعة إلى مكان عنده بالمطبخ، ثم سعى عند السلطان في أمره إلى
أن أمره بإطلاقه، فنزل إلى دار استكراها له مرجان الخازندار وراء مدرسة
الجاي، فأقام بها إلى السنة الآتية.
وفي الثاني من جمادى الأولى ولد الملك المظفر أحمد بن الملك المؤيد شيخ
فقدر الله أنه يلي السلطنة في أول سنة أربع وعشرين وعمره سنة واحدة
وثمانية أشهر وأيام.
وفي الثالث من جمادى الأولى قرر كاتبه في تدريس الشافعية بالمؤيدية،
وقرر يحيى
(3/193)
بن محمد بن أحمد العجيسي في تدريس
المالكية، وقرر عز الدين عبد العزيز بن علي بن العز الذي كان قاضي
القدس في تدريس الحنابلة، وتأخر تقرير مدرس الحنفية وغيره.
وفيها مات رئيس الأطباء إبراهيم بن خليل بن علوة الإسكندراني وكان
حاذقاً في الطب، وقدم شخص يقال له نظام الدين أبو بكر محمد بن عمر بن
أبي بكر الهمذاني الأصل التبريزي المولد سنة 757 وكان فاضل الشام
فأحضره السلطان إلى القاهرة وكان ادعى في الطب والتنجيم دعوى عريضة
وتناظر هو وسراج الدين عمر بن منصور بن عبد الله البهادري الحنفي،
فاستظهر لبهادري عليه بكثرة استحضاره وذكائه وجمود أبي بكر المذكور،
فلما كاد أمر البهادري أن يتم نكت عليه كاتب السر أنه لا يدري العلاج
وإن كان يدري الطب وأن يده غير مباركة فإنه ما عالج أحداً إلا مات من
مرضه ونصيحة السلطان واجبة، واستشهد بجماعة منهم ابن العجمي فوافقوه
فانحل السلطان عنه وصرفهم، ثم أمرهم أن يتوجهوا إلى المارستان ويكتبوا
لمن فيه أوراقً لينظر في أمرهم أيهم أصح كتابة، فلم ينجع من ذلك شيء،
ثم قرر في رئاسة الطب بدر الدين ابن بطيخ.
وفي السابع من جمادى الأولى أحضر بطرك النصارى في الإصطبل بعد أن جمع
القضاة والمشايخ فسأله عما يقع في الحبشة من إهانة المسلمين فأنكر ذلك،
ثم انتدب له المحتسب فأنكر عليه تهاون النصارى بما يؤمرون به من الصغار
والذل، وطال الخطاب في معنى ذلك واستقر الحال بأن لا يباشر أحد من
النصارى في دواوين السلطان ولا الأمراء ولا غيرهم.
(3/194)
ثم أغرى شهاب الدين الإمام ابن أخي قاضي
أذرعات السلطان بالأكرم فضائل النصراني كاتب الوزير، فاستدعى به وضربه
بالمقارع بحضرته وشهره بالقاهرة عرياناً وسجنه، ثم آل أمره إلى أن أمر
السلطان بأن يقتل فقتل، فصغر النصارى العمائم ولزموا بيوتهم وضيقوا
أكمامهم ومنعوا من ركوب الحمر بالقاهرة وإذا خرجوا في ظاهرها ركبوها
عرضاً، فأنف جماعة من النصارى من الهوان فأظهروا الإسلام فانتقلوا من
ركوب الحمر إلى ركوب الخيل المسومة وباشروا فيما كانوا فيه وأزيد منه.
وألزم النصارى ألا يدخلوا الحمامات إلا وفي أعناقهم الجلاجل وأن يلبس
نساؤهم المصبغات ولا يمكنوا من الأزر البيض، فاشتد الأمر عليهم جداً
وسعوا جهدهم في ترك ذلك فلم يعفوا لتصميم السلطان على ذلك.
وفي ثانية قدم الطنبغا المرقبي والأستادار أبو بكر من الصعيد، ودم
الأستادار ما حصله من أموال هوارة فكان مائتي فرس وألف جمل وستمائة
جاموسة وألف وخمسمائة بقرة وخمسة عشر ألف راس من الضأن.
وفي جمادى الأولى شرع في عمل الصهريج بجوار خانكاه بيبرس من جهة الملك
المؤيد.
وفيه تغير كاتب السر ناصر الدين ابن البارزي على محتسب القاهرة صدر
الدين ابن العجمي بعد أن كان هو الذي يقربه من السلطان ويسعى له فأخذ
في أسباب إبعاده عن السلطان، وأعان ابن العجمي على نفسه بلجاجته
وتماديه في غيه، فاتفق أن السلطان في هذه الأيام كان عاوده وجع رجله
وانضاف إلى ذلك وقوع وجع في خاصرته وكان في كل سنة ينصل عن قرب في قوة
الشتاء وقوة الصيف، فمنذ عالجه أبو بكر العجمي اشتد ألمه أكثر من كل
سنة، فاتفق أنه استفتى وهو في شدة الوجع عن جواز الجمع بين الصلاتين
بعذر المرض فأفتاه بذلك بعض الشافعية من خواصه، فسأل بعض الحنفية
(3/195)
فقال له: قلد الشافعي في هذه المسألة فاتفق
حضور ابن العجمي في صبيحة ذلك اليوم فدارت المسألة بين الفقهاء الذين
يحضرون عند السلطان، فبالغ ابن العجمي في الرد على من أفتى بذلك، فقيل
له: قد أفتى به ابن عباس من الصحابة، فقال: أنا ما أقلد ابن عباس وإنما
أقلد أبا حنيفة! هذا الذي اضبطه من لفظه فادعى عليه بعد ذلك بتاليب
كاتب السر عند القاضي الحنفي ابن الديري انه قال ومن هو ابن عباس
بالنسبة الى ابي حنيفة. فطلبه ابن الديري بالرسل حتى أحضروه مهاناً
ووكل به بالصالحية.
وفي تاسع عشره طلب ابن الديري ابن العجمي فعزره من غير إقامة بينة عليه
بشيء مما ادعى عليه به، ثم أفرج عنه فجمع نفسه عن الكلام في الحسبة،
فبلغ ذلك السلطان فأنكر ذلك واستدعاه وخلع عليه وأقره على الحسبة، ففرح
الناس بذلك فرحاً عظيماً، وكانوا اتهموا القبط في الممالأة عليه وظنوا
أن ابن البارزي قبطياً، وليس كذلك وإنما هو أعان على نفسه حتى اسخط
الرؤساء عليه.
وفي جمادى الآخرة تحول السلطان من القلعة في محفة إلى بيت ابن البارزي
المطل على النيل وكانا البارزي قد استأجر بيت ناصر الدين بن سلام وأضاف
عدة بيوت مجاورة له وأتقن بنيانها ووضعها وضعاً غريباً على قاعدة عمائر
بلدة حماة، فأعجب السلطان ذلك إعجاباً شديداً واختار الإقامة به حتى
يبل من مرضه، فأقام بها من نصف جمادى الآخرة إلى نصف رجب واستدعى
الحراقة الذهبية، فكان يركب من بيت ابن البارزي إلى القصر الذي بأنبابة
ثم منه إلى بيت ابن البارزي وتارة ينام في الحراقة الليل كله وتارة
يتوجه إلى الآثار فيها ويرجع إلى رابع عشر رجب، فتحول إلى بيت الخروبي
بالجيزة وكان قد أحضر الحراريق المزينة التي جرت العادة بتزيينها في
ليالي وفاء النيل فاستصحبها صحبته مقلعة إلى الخروبية، واجتمع الناس
للفرجة في شاطئ النيل من بولاق إلى مصر، فمرت في تلك الليالي للناس من
النزه والبسط ما لا مزيد عليه مع الإعراض عن المنكرات لإعراض السلطان
عنها، وكان قد تاب من مدة وأعرض عن
(3/196)
المنكرات إعراضاً تاماً، ثم ركب في سادس
عشر رجب من الخروبية في الحراقة إلى المقياس، ثم نزل في الحراقة
الصغيرة إلى الخليج على العادة وركب فرسه وطلع القلعة، وكان وصول الملك
إبراهيم بن السلطان إلى قيسارية ونائبها يومئ ناصر الدين محمد بن خليل
بن دلغادر فقرره على نيابته.
وفي سادس عشر جمادى الأولى وصل إبراهيم بن السلطان إلى لارندة وأركلى
بها وأرسل يشبك نائب حلب فأوقع بالتركمان ونهب منهم شيئاً كثيراً وأرسل
عسكراً ضخماً إلى محمد بن قرمان فكبسوا عليه ففر منهم ونهب جميع ما
وجدوا له من مال وأثقال وخيل وجمال، ثم غلب العسكر المصري على بلده وهي
كرسي بلاد ابن قرمان، وقرر الملك إبراهيم بن السلطان المؤيد في مملكة
ابن قرمان أخاه علياً وخطب في جميع تلك البلاد باسم المؤيد وضربت السكة
باسمه، ثم رجع ابن السلطان إلى حلب وأقام بها لعمارة سورها وأرسل
يستأذن أباه على الرجوع وكان دخوله حلب في ثالث شهر رجب، وكان إبراهيم
بن السلطان قبل رجوعه من حلب قد أرسل تاني بك ميق نائب الشام إلى طرسوس
فملكها، ثم إلى أذنة فواقع مصطفى بن محمد بن قرمان وإبراهيم بن رمضان
فهزمها، فتوجها إلى قيسارية في سادس عشر شعبان فقاتلهم محمد بن دلغادر
فقتل مصطفى بن محمد بن قرمان في المعركة وقبض على أبيه محمد ابن قرمان
فاعتقل، وأرسلت راس مصطفى إلى القاهرة فوصلت قبل وصول ابن السلطان وذك
في سادس عشر رمضان، ثم توجه الى القاهرة فتلقاه السلطان
(3/197)
الى سرياقوس ووصل معه نائب الشام تاني بك
ميق ودخلوا القاهرة في ثامن عشرى شهر رمضان. وكان ابن السلطان قرر في
بلاد محمد بن قرمان أخاه على بن قرمان وتسلم قيسارية محمد ابن دلغادر
فواقعه محمد بن قرمان فانكسر وقبض عليه وجهز إلى القاهرة، وكان قدوم
إبراهيم ابن السلطان المؤيد دمشق في خامس عشر رمضان فساروا في تسعة
أيام ودخل معهم نائب الشام وخلع عليهم جميعاً وزينت لهم البلد، وكان
السلطان استدعى نائب الشام فحضر مسرعاً وطلع إبراهيم ابن السلطان وبين
يديه الأسارى من بني قرمان وغيرهم في القيود منهم نائب نكدة، وكانت
سفرة إبراهيم بن السلطان هذه خاتمة سعادة الملك المؤيد، فإنه نشأ له
هذا الولد النبيه وتم له منه هذا النصر العظيم والشهامة الهائلة، وجاء
الأمراء وغيرهم يشكرون من سيرته ولا يذم أحد منهم شيئاً من خصاله، ثم
رجع إلى أبيه في أسرع مدة مؤيداً منصوراً، فلحظتهم عين الكمال فما
أخطأت وما حال الحول إلا وأحوالهم قد تغيرت وأمورهم قد تهافتت - فسبحان
من لا يتغير ولا يتبدل! وفي ثالث شوال قرر جقمق في نيابة الشام عوضاً
عن تاني بكي ميق وقرر تاني بك ميق في تقدمة ألف على إقطاع جقمق، واستقر
مقبل الدويدار الثاني في وظيفة جقمق في الدوادارية الكبرى.
وفي شعبان اجتمع العوام بالإسكندرية فهجموا أماكن الفرنج فكسروا لهم
ثلاثمائة قنينة خمر ثمنها عندهم أربعة آلاف دينار ثم أرقوا ما وجدوه من
الخمور، ولم يعلم لذلك أصل ولا سبب.
وفيها اجتمع ملوك الفرنج على حرب ابن عثمان صاحب برصا، فاستعد لهم.
وفي يوم الخميس ثامن شهر ربيع الآخر فشا الطاعون وكثر موت الفجأة حتى
ذعر الناس.
(3/198)
فأمر السلطان المحتسب أن ينادي بصيام ثلاثة
أيام أولها يوم الأحد حادي عشر، فصاموا ثلاثة أيام وخرجوا يوم الخميس
نصف ربيع الآخر إلى الصحراء، فخرج الفقهاء والمشايخ والعلماء والقضاة
والعامة، وتوجه الوزير وأستادار الصحبة إلى تربة الملك الظاهر فنصبوا
المطابخ السلطانية وباتوا في تهيئة الأطعمة والخبز، ثم ركب السلطان بعد
صلاة الصبح ونزل من قلعة الجبل لابساً ثياب صوف وعلى كتفيه مئزر صوف
مسدل وعليه عمامة صغيرة جداً لها عذبة مرخاة عن يساره وهو متخشع منكسر
النفس وفرسه بقماش ساذج، فوجد الناس قد اجتمعوا وحضروا الجميع مشاة.
فوقف السلطان بينهم وعجوا بذكر الله، فنزل السلطان عن فرسه وقام على
قدميه والقضاة والخليفة والمشايخ حوله وخلفهم من الطوائف ممن يتعسر
إحصاؤه، فبسط السلطان يديه ودعا وبكى وانتحب والناس يرونه وبقي على ذلك
زماناً طويلاً، ثم توجه إلى جهة التربة فنزل وأكل وذبح بيده مائة
وخمسين كبشاً سميناً وعشر بقرات وجاموستين وجملين وهو يبكي ودموعه
تنحدر بحضرة الناس على لحيته، وترك الذبائح مضطجعة كما هي وركب إلى
القلعة، فتولى الوزير وأستادار الصحبة تفرقتها على الجوامع والخوانك
والزوايا، وقطع منها شيء كثير ففرق على من حضر من الفقراء، وفرق من
الخبز نحو من ثلاثين ألف رغيف، وبعث إلى السجون عدة أرغفة وقدور أطعمة،
واستمر الناس في الخشوع والخضوع إلى أن اشتد حر النهار فانصرفوا، فكان
يوماً مشهوداً لم يتقدم له نظير إلا ما جرت العادة به في الاستسقاء،
وهذا زعموا أه لاستكشاف البلاء فيسر الله عقب ذلك برفع الوباء، وبلغ
عدة من يرد الديوان من الأطفال خاصة من صفر إلى سلخ ربيع الآخر نحو
أربعة آلاف طفل، ومن جميع الناس سواهم قدر أربعة آلاف أخرى وأكثر ما
انتهى إلى ثمانمائة في الديوان، ويقال جاوز الألف والمائتين.
وفي ربيع الآخر اتفق بمصر كائنة عجيبة وهو أن شخصاً كان له أربعة أولاد
ذكور فلما وقع الموت في الأطفال سألت أمه أن يختنهم ليفرح بهم قبل أن
يموتوا، فجمع الناس لذلك على العادة وأحضر المزين فشرع في ختن واحد بعد
آخر، وكل من يختن يسقى
(3/199)
شراباً مذاباً بالماء على العادة، فمات
الأربعة في الحال عقب ختنهم، فاستراب أبوهم بالمزين وظن أن مبضعه مسموم
فجرح المزين نفسه ليبرئ ساحته فانقلب فرحهم عزاء، ثم ظهر في الزير الذي
كان يذاب فيه الشراب حية عظيمة ماتت فيه وتمزقت فكانت سبب هلاك الأطفال
- ولله الأمر.
وفي التاسع عشر من شهر رجب وشى الشيخ شرف الدين بن التباني بناظر
الكسوة زين الدين عبد الباسط بأنه خالف شرط الواقف في عمل الكسوة، فعقد
له بسبب ذلك مجلس وأحضرت الكسوة، فسأل السلطان القضاة: هل يجوز أن يعمل
في الكسوة هذا الذهب والزخرفة مع أن شرط الواقف أن يفرق ما فاض من
المال بعد عمل الكسوة على العادة في وجوه البر، فتعصب الشافعي لعبد
الباسط وقال: هذا من وجوه البر، فنازعه الحنبلي في ذلك، فلم يصغوا
واستمر الحال.
وفي شعبان تزايد ألم السلطان ثم عوفي وركب إلى بركة الحجاج وأجرى الخيل
هناك وسابق بينهما بحضرته، ثم ركب إلى بركة الحبش وسابق بين الهجن.
وفيه سرق الإفرنج رأس مرقص أحد من كتب الأناجيل الأربعة من الإسكندرية
وكانت موضوعة في مكان، ومن شأن اليعاقبة من النصارى أن لا يولوا بطركا
حتى يمضي إلى الإسكندرية ويوضع هذه الرأس في حجره ثم يرجع، ولا تتم هذه
البطركية إلا بذلك، فتحيل بعض الفرنج حتى سرقها من الإسكندرية، فاستعظم
النصارى اليعاقبة ذلك ووقفوا للسلطان بسبب ذلك، وحج بالناس في هذه
السنة التاج الوالي.
وفي رمضان ثارت بالملك الناصر أحمد صاحب اليمن سوداء فاختل عقله
واعتقل، وأقيم في الملك عوضاً عنه أخوه حسين بن الأشرف، وأعانه على ذلك
الأمير محمد بن زياد الكاملي، وكان الغلاء يومئذ ببلاد اليمن شديداً،
ووقع عليه جراد أهلك زروعهم.
(3/200)
وفي رمضان غلت الأسعار وبلغ الإردب من
القمح ثلاثمائة درهم وأزيد، وسبب ذلك كثرة الحرامية بالنيل، فقل الجلب
من الوجه القبلي وحمل من الوجه البحري إلى الصعيد من الغلال ما لا مزيد
عليه لشدة الغلاء الذي هناك حتى أكلت القطاط والكلاب، وكان سبب ذلك
الغلاء بمصر أن النيل نزل بسرعة فزرعوا في الحر على العادة في السنين
الماضية فأفسدت الدودة البرسيم، وتأخر المطر في الخريف والشتاء في
الوجه البحري فلم تنجب الزروع، وخرج السلطان إلى سرحة البحيرة فأتلف
شيئاً كثيراً.
وفي رابع عشر شوال عقد مجلس بسبب قرقماش أحد المقدمين من الأمراء،
فادعى عليه مملوك أنه قطع أنفه وأذنه، فأنكر فأحضر البينة، فدفعه
السلطان للقاضي المالكي.
وفي سابع عشر شوال رحل جقمق إلى دمشق لولاية إمرتها، وقرر قطلوبغا
التنمي في إمرة صفد عوضاً عن مراد خجا، ورسم بنفي مراد خجا الشعباني
إلى القدس.
وفي يوم الجمعة حادي عشري شوال قرر الشيخ شمس الدين بن الديري في مشيخة
المؤيدية وتدريس الحنفية بها، ونزل السلطان إلى الجامع وخلع عليه،
وباشر فرش سجادته إبراهيم ابن السلطان، وتكلم على قوله تعالى " الذين
إن مكنهم في الأرض أقاموا الصلوة " الآية وخلع على كاتب السر ابن
البارزي، واستقر خطيباً وخازن الكتب، ومد السماط الكبير فأكل الخواص ثم
تناهبه العوام، وعرض للسلطان الطلبة فقرر من شاء وصرف من لم يصلح في
نظره، وخطب ابن البارزي خطبة بليغة أجاد فيها أداء وإنشاء، واستقر في
تدريس التفسير بالمؤيدية بدر الدين ابن الأقصرائي، وفي تدريس الحديث
بدر الدين العينتابي، وخلع على ولد كاتب السر القاضي كمال الدين خلعة
السفر إلى الحجاز وكذلك على شهاب الدين الأذرعي إمام السلطان، ثم ركب
السلطان من يومه إلى الجيزة فأقام ثلاثة أيام.
(3/201)
وفي سادس ذي القعدة قرر الشيخ زين الدين
عبد الرحمن بن علي ابن عبد الرحمن التفهني في قضاء الحنفية عوضاً عن
شمس الدين ابن الديري وتوجه السلطان من يومه الى مسرحة البحيرة واستناب
في عنبتة اينال الابزعري وقرر مهنأ بن عيسى في امرة ال جرم عوضاً عن
علي بن أبي بكر بعد قتله ولبس خلعة من مخيم السلطان وكان قتل علي في
حرب بينه وبين محمد بن عبد القادر النابلسي شيخ العشير بها في شوال.
وفيها قتل محمد بن بشارة بالقاهرة في آخر شوال وصدقة بن رمضان أحد
الأمراء بالتركمان في سيس.
وفي ذي الحجة ألزم المحتسب النساء أن لا يعبرن جامع الحاكم، وألزم
الناس أن لا يمر أحد منهم إلا وهو مخلوع النعل وشدد على القومة في ذلك،
فاستمر ذلك وطهر المسجد من قبائح كانت تقع من النساء والرجال والشباب
والصبيان.
وفي خامس ذي الحجة وردت هدية علي بك بن قرمان نائب السلطنة بنكندة
ولارندة ولؤلؤة.
وفي خامس ذي القعدة قبض جقمق نائب الشام على نكباي الحاجب واعتقله بأمر
السلطنة، وصلى السلطان عيد الأضحى بالطرانة وخطب به، وصلى العيد ناصر
الدين ابن البارزي
(3/202)
كاتب السر على العادة، وقدم القاهرة ثالث
عشر ذي الحجة ونزل في بيت ابن البارزي فأقام به يومين ثم رحل إلى
القلعة.
وفي السابع والعشرين وصل محمد بن علي بن قرمان صاحب قيسارية وقونية
وغيرها من البلاد الرومية مقيداً فأنزل في بيت مقبل الدويدار، ثم احضر
إلى الموكب السلطاني في السنة المقبلة.
وفيها غلت الأسعار بمكة جداً فبلغت الغرارة خمسة وعشرين ديناراً وهي
إردب بالمصري وربع إردب، وحج في هذه السنة الأمير الكبير الطنبغا
القرمشي وطوغان أمير آخور وخرجا بعد الحاج بمدة وقدما قبلهم بمدة فغابا
ستين يوماً.
ذكر من مات
في سنة اثنتين وعشرين وثمانمائة من الأعيان
أحمد بن عبد الله بن بدر بن مفرج بن يزيد بن عثمان بن جابر، أبو نعيم
العامري الغزي ثم الدمشقي شهاب الدين، أحد أئمة الشافعية بدمشق، ولد
سنة بضع وخمسين بغزة، وأخذ عن الشيخ علاء الدين بن خلف وحفظ التنبيه،
وقدم دمشق بعد الثمانين وهو فاضل فأخذ عن الشريشي والزهري وشرف الدين
الغزي بلديه وغيرهم ومهر في الفقه والأصول، وجلس بالجامع يشغل الناس في
حياة مشايخه وأفتى ودرس
(3/203)
وأعاد واشتهر، ثم أصيب بماله وكتبه بعد
الفتنة اللنكية، وناب في القضاء وعين مرة مستقلاً فلم يتم ذلك، وولي
إفتاء دار العدل واختصر المهمات ودرس بأماكن وأقبل على الحديث، ولم يبق
بالشام في أواخر عمره له من يقاربه في رئاسة الفقه للشافعة إلا ابني
نشوان، وهو من أناءه الباعوني في ولايته القضاء الأولى، فلم يزل بعد
ذلك في ارتفاع، وكان يرجع إلى دين وعفة من صغره مع علو همة ومروءة
ومساعدة لمن يقصده مع عجلة فيه مع عفة في القضاء وحسن عقيدة وسلامة
باطن، فكان صديقنا المرجاني يقرظه ويفرط فيه، وجاور في آخر أمره بمكة
فمات بها مبطوناً في شوال وله اثنتان وستون سنة، كتب على الحاوي وجمع
الجوامع واختصر المهمات اختصاراً حسناً وأجاز لولدي محمد، وبلغني أن
صديقه محمد نجم الدين المرجاني صاحبنا رآه في النوم فقال له: ما فعل
الله بك؟ فتلا عليه " يليت قوى يعلمون بما غفر لي " الآية، قال القاضي
تقي الدين الأسدي: جرت له محنة سنة خمس وتسعين، وحج وجاور ثلاث مرات،
وناب في الحكم بعد الفتنة، واستمر وباشر المارستان والجامع فانحط بسبب
ذلك، وكان فصيحاً ذكياً جرياً مقداماً، بديهته أحسن من رويته وطريقته
جميلة، باشر الحكم على أحسن وجه.
أحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن أحمد، المطري المدني، سمع من العز ابن
جماعة، وعني بالعلم. وكان يذاكر بأشياء حسنة، ثم تزهد ودخل اليمن فأقام
بها نحواً من عشرة أعوام، وكان ينسب إلى معاناة الكيمياء، مات في أول
ذي الحجة.
(3/204)
أحمد بن محمد بن محمد بن عثمان، البارزي،
ولد كاتب السر، مات في تاسع عشر ربيع الآخر.
أحمد بن محمد بن محمد بن يوسف بن عياش. الجوخي الدمشقي، نزيل تعز، ولد
سنة ست وأربعين، وتعانى بيع الجوخ فرزق منه دنيا طائلة، وعني بالقراآت
فقرأ على العسقلاني إمام جامع طولون وجماعة غيره، وكان محظوظاً في بيع
الجوخ، ويقرأ كل يوم نصف ختمة، وكان يواظب على الصلاة الأولى بالجامع
الأموي، وكان قد أسمع في صغره على علي بن العز عمر حضوراً جزء ابن عرفة
وحدث به عنه، وقرأ بدمشق على شمس الدين محمد بن أحمد اللبان وعبد
الوهاب بن السلار، وسمع أيضاً من ابن التباني وابن قوالح، وتصدى
للقراآت فانتفع به جمع من أهل الحجاز واليمن، وكان غاية في الزهد في
الدنيا فإنه ترك بدمشق أهله وماله وخيله، خدمه وساح في الأرض، وحدث وهو
مجاور بمكة، واستمر في إقامته باليمن في خشونة من العيش حتى مات، وكان
بصيراً بالقراآت، دينا خيراً، جاور بمكة مدة، ثم دخل اليمن فأقام عدة
سنين، وكان كثير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأخذ عنه جماعة في
القرآن تلقينا احتساباً، وأنجب ولده المقرئ عبد الرحمن مقرئ الحرم.
تندو بنت دسين بن أويس، كانت بارعة الجمال وقدمت مع عمها أحمد بن أويس
إلى مصر، فتزوجها الظاهر برقوق ثم فارقها، فتزوجها ابن عمها شاه ولد بن
شاه زاده بن أويس، فلما رجعوا إلى بغداد ومات أحمد أقيم شاه ولده في
السلطنة، فدبرت عليه تندو زوجته حتى قتل وأقيمت بعده في السلطنة،
فحاصرهم محمد شاه بن قرا يوسف سنة،
(3/205)
فخرجت في الدجلة حتى صارت إلى واسط ثم ملكت
تستر، وأقاموا معها محمود بن شاه ولد فدبرت عليه حتى قتل لأنه كان ابن
غيرها، واستقلت بالمملكة مدة وذلك في سنة تسع عشرة، وجذبت العرب
بالبصرة وصار في مملكتها الجزيرة وواسط، يدعى لها على منابرها ويضرب
السكة باسمها إلى أن ماتت في هذه السنة، فقام بعدها ابنها أويس ابن شاه
ولد وكان منها، وتحارب هو وأخوه محمد ثم سار أويس إلى بغداد بعد محمد
شاه ابن قرا يوسف، فقتل أويس في الحرب بعد سبع سنين.
سليمان بن فرح سليمان، الحجي الحنبلي علم الدين أبو الربيع ابن نجم
الدين أبي المنجا، ولد سنة سبع وستين وسبعمائة، واشتغل علي ابن الطحان
وغيره، ورحل إلى مصر فأخذ عن ابن الملقن وغيره، ثم عاد بعد فتنة اللنك
فناب في القضاء وشارك في الفقه وغيره وشغل بالجامع ودرس بمدرسة أبي
عمر، وكان قصير العبارة متساهلاً في أحكامه، مات في ربيع الآخر.
سودون القاضي نائب طرابلس، مات في رابع عشر ذي القعدة. عبد العزيز بن
مظفر بن أبي بكر محمد بن
(3/206)
يعقوب بن رسلان، البلقيني قريب شيخ الإسلام
سراج الدين البلقيني عز الدين، اشتغل علي سراج الدين، ورافقنا في سماع
الحديث كثيراً، وناب في الحكم، وكان سيئ السيرة في القضاء، جماعة للمال
من غير حله في الغالب، زريّ الملبس، مقتراً على نفسه إلى الغاية، وخلف
مالاً كثيراً جداً فحازه بعده ولده، وكان يذاكر بالفقه حسناً ويشارك في
بعض الفنون، وقد درس بمدرسة سودون من زاده بالتبانه، ومات في ثالث عشري
جمادى الأولى.
عبد اللطيف بن أحمد بن علي، الفاسي نجد الدين الشافعي، سمع معنا كثيراً
من شيوخنا، ولازم الاشتغال في عدة فنون، وأقام بالقاهرة مدة بسبب الذب
عن منصب أخيه تقي الدين قاضي المالكية إلى أن مات مطعوناً في هذه
السنة.
عمر بن أحمد بن عبد الواحد، شاد زبيد، كان له اعتناء بالعلم رحمه الله
تعالى.
فضل الله بن عبد الرحمن بن عبد الرزاق بن إبراهيم بن مكانس، مجد الدين
بن فخر الدين، ولد في شعبان سنة سبع وستين ونشأ في نعمة وعز في كنف
أبيه، فتخرج وتأدب ومهر ونظم الشعر وهو صغير السن جداً، وكان أبوه يصحب
الشيخ بدر الدين البشتكي فانتدبه لتأديب ولده، فخرجه في أسرع مدة، ونظم
الشعر الفائق، وباشر في حياة أبيه توقيع الدست بدمشق وكان أبوه وزيراً
بها، ثم قدم القاهرة وساءت حالته بعد أبيه، ثم خدم في ديوان الإنشاء
وتنقلت رتبته فيه إلى أن جاءت الدولة المؤيدية، فأحسن القاضي ناصر
الدين البارزي كثيراً واعتنى به ومدح السلطان بقصائد وأحسن السفارة له
فأثابه ثواباً حسناً،
(3/207)
وكانت بيننا مودة أكيدة اتصلت نحواً من
ثلاثين سنة وبيننا مطارحات وألغاز، وسمعت من لفظه أكثر منظومه ومنثورة،
وجمع هو ديوان أبيه ورتبه، وشعره في الذروة العليا وكذلك منثوره، وجمع
هو ديوان أبيه ورتبه، وشعره في الذروة العليا وكذلك منثورة لكن نظمه
أحسن منه، وكان قليل البضاعة من العربية فربما وقع له اللحن الظاهر
وأما الخفي فكثير جداً، مات في يوم الأحد خامس عشري شهر ربيع الآخر.
كزل الأرغون شاوي أحد الأمراء بحماة وزوج بنت كاتب السر، وكان قد ناب
في الكرك، ثم في الإسكندرية ثم عزل، فمات في أواخر المحرم.
محمد بن إبراهيم، العلوي جمال الدين، أخو الفقيه نفيس الدين، حضر على
والده وحدث عنه، مات بتعز.
محمد بن أبي البركات محمد بن أحمد بن الرضي إبراهيم بن محمد، الطبري
المكي، أبو السعادات، إمام المقام الشافعي، سمع من الجمال ابن عبد
المعطي وغيره، مات في جمادى وقد جاوز الخمسين.
محمد بن عبد الله بن شوعان، الزبيدي الحنفي، انتهت الرئاسة في مذهب أبي
حنيفة بزبيد، ودرس وأفاد.
محمد بن عبد الماجد، العجمي سبط العلامة جمال الدين بن هشام الشيخ شمس
الدين، أخذ عن خاله الشيخ محب الدين ابن هشام، ومهر في الفقه والأصول
والعربية، ولازم الشيخ علاء الدين البخاري لما قدم القاهرة، وكذلك
الشيخ بدر الدين
(3/208)
بن الدماميني، وكان كثير الأدب فائقاً في
معرفة العربية ملازماً للعبادة وقوراً ساكناً، مات في العشرين من
شعبان، وكانت جنازته حافة، ودفن بالصوفة رحمه الله.
محمد بن عمر، الحموي الأصل نظام الدين التفتازاني، كان أبوه حصرياً
فنشأ هذا بين الطلبة، وقرأ في مذهب أبي حنيفة، وتعانى الآداب واشتغل في
بعض العلوم الآلية، وتكلم بكلام العجم وتزيا بزيهم، وتسمى نظام الدين
التفتازاني، وغلب عليه الهزل والمجون وجاد خطه، وقرر موقعاً في الدرج
وكان عريض الدعوى، مات في رابع عشري ذي القعدة عن نحو الستين، وله شعر
وسط، قرأت بخط القاضي محب الدين الحنبلي: كان حسن المنادمة، لطيف
المعاشرة، ولم يتزوج قط وكان متهماً بالولدان، وكان يأخذ الصغير فيربيه
أحسن تربية فإذا كبر وبلغ حد التزوج زوجه.
محمد بن قاسم، الأجدل ناظر زبيد ثم عدن، ولي إمرة الحج وغيرها.
محمد بن محمد بن عبد الله بن محمد بن فرحون، أبو البركات اليعمري
المالكي، قاضي المدينة، مات بها في المحرم.
محمد بن محمد بن علي بن يوسف، الزرندي الشافعي بهاء الدين بن محب
الدين، ولي قضاء المدينة وخطابتها في سنة تسع، ثم عزل فدخل دمشق ثم دخل
الروم فانقطع خبره ثم قدم، ومات بالطاعون في القاهرة.
محمد بن محمد بن علي، بدر الدين ابن الخواجا شمس الدين ابن البراق
الدمشقي، أحد أكابر التجار، فجع به أبوه، وكان قد نبغ ف معرفة التجارة
وسافر مراراً إلى اليمن وغيرها، ومات في هذه السنة بعدن، ويقال إنه مات
مسموماً ولم يكمل الثلاثين.
(3/209)
محمد بن محمد بن محمد، النحريري أبو الفتح
فتح الدين المعروف بابن أمين الحكم، سمع على جماعة من شيوخنا، وعني
بقراءة الصحيح، وشارك في الفقه والعربية، وأكثر المجاورة بالحرمين،
ودخل اليمن فقرأ الحديث بصنعاء وغيرها، ثم قدم القاهرة بأخرة فوعك ومات
بالمارستان عن نحو من خمسين سنة.
محمد بن محمد بن محمود، الجعفري البخاري الشيخ شمس الدين، اشتغل ببلاده
ثم قدم مكة فجاور بها، وانتفع الناس به في علوم المعقول، مات بمكة في
العشر الأخير من ذي الحجة عن ست وسبعين سنة.
محمد بن يعقوب بن إسماعيل، الشيباني المطري المكي، سمع من عز الدين ابن
جماعة والموفق الحنبلي وغيرهما، وولي خطابة وادي نخلة وقبا، مات وله
سبعون سنة.
محمد المعروف بابن شبيب، القصري التاجر، وكان مقلاً ثم أكثر السفر إلى
الإسكندرية إلى أن أثرى فتردد إلى مكة، وقد كان أولاً يشتغل ويحضر دروس
شيخنا ابن الملقن وسمع عليه الكثير، مات في 12 شوال.
مسعود بن محمود، الكجحاني، كان ولي نظر الأوقاف - وقد مرت سيرته في
الحوادث وهي من اقبح السير، مات في 12 جمادى الأولى.
الهادي بن إبراهيم بن علي بن المرتضى، الحسني الصنعاني الزيدي، عني
بالأدب ففاق فيه، ومدح المنصور صاحب صنعاء، مات يوم عرفة، وله أخ يقال
له
(3/210)
محمد بن إبراهيم مقبل على الاشتغال بالحديث
شديد الميل إلى السنة بخلاف أهل بيته.
يحيى بن بركة بن محمد بن لاقى، الدمشقي. كان أبوه من أمراء دمشق، ونشأ
هو في نعمة ثم خدم أستاداراً وصار من الأمراء. وقدم القاهرة مراراً،
وتقدم في الدولة المؤيدية وصار مهمنداراً وأستادار الحلال.
ثم تنكر له جقمق بسبب كلام نقله للسلطان، فأظهر جقمق أن الأمر بخلاف
ذلك، فالتمس جقمق من السلطان أن يمكنه منه فأذن له، فرسم بنفيه من
القاهرة فأخرج على حمار، فمات في أثناء الطريق غريباً طريداً في حادي
عشر صفر، ودفن بغزة.
يوسف بن شريكار، العينتابي، ولد سنة ست وستين بعينتاب، وتعانى القراآت
فمهر فيها وانتفعوا به. وكان يتكلم على الناس بلسان الوعظ، وكان فصيح
اللسان حلو المنطق مليح الوجه، له يد في التفسير، وعاش خمساً وستين سنة
- ذكره العينتابي في تاريخه.
(3/211)
|