تاريخ ابن الوردي

(خلَافَة أبي جَعْفَر الْمَنْصُور)

وَلما مَاتَ السفاح كَانَ الْمَنْصُور فِي الْحَج، فَأخذ لَهُ عِيسَى الْبيعَة على النَّاس وَأرْسل من أعلمهُ بذلك، فَبَايعهُ أَبُو مُسلم وَالنَّاس.

(1/184)


ثمَّ دخلت سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَمِائَة: فِيهَا: قدم الْمَنْصُور من الْحَج إِلَى الْكُوفَة فصلى بِأَهْلِهَا الْجُمُعَة وخطبهم وَسَار فَأَقَامَ بالأنبار.
وفيهَا: بَايع عَم الْمَنْصُور عبد اللَّهِ بن عَليّ لنَفسِهِ بالخلافة، وَكَانَ أَبُو مُسلم قد قدم من الْحَج مَعَ الْمَنْصُور، فَأرْسل الْمَنْصُور أَبَا مُسلم وَمَعَهُ الْجنُود لقِتَال عَمه وَهُوَ بِأَرْض نَصِيبين، فَاقْتَتلُوا مرَارًا وَجَاء أَبُو مُسلم بأنواع الخدع لقتاله، ثمَّ انهزم عبد اللَّهِ وَأَصْحَابه فِي جُمَادَى الْآخِرَة مِنْهَا إِلَى الْعرَاق وَاسْتولى أَبُو مُسلم على عسكره.
وفيهَا: قتل الْمَنْصُور أَبَا مُسلم الْخُرَاسَانِي لوحشة جرت بَينهمَا، فَإِنَّهُ كتب إِلَى أبي مُسلم بعد أَن هزم عبد اللَّهِ عَمه بِالْولَايَةِ على مصر وَالشَّام وَصَرفه عَن خُرَاسَان، فَلم يجب أَبُو مُسلم إِلَى ذَلِك وَتوجه يُرِيد خُرَاسَان. وَسَار الْمَنْصُور من الأنبار إِلَى الْمَدَائِن وَكتب بِطَلَب أَبَا مُسلم فَاعْتَذر عَن الْحُضُور، وطالت بَينهمَا المراسلات.
وَفِي الآخر: قدم أَبُو مُسلم عَلَيْهِ بِالْمَدَائِنِ فِي ثَلَاثَة آلَاف وَخلف بَاقِي عسكره بحلوان، وَدخل على الْمَنْصُور وَقبل يَده وَانْصَرف، فَلَمَّا كَانَ من الْغَد ترك الْمَنْصُور بعض حرسه خلف الرواق وَأمرهمْ إِذا صفق بيدَيْهِ يخرجُون وَيقْتلُونَ أَبَا مُسلم. ودعا أَبَا مُسلم، فَلَمَّا حضر أَخذ الْمَنْصُور يعدد ذنُوبه وَأَبُو مُسلم يعْتَذر عَنْهَا، ثمَّ صفق الْمَنْصُور فَخرج الحرس وَقتلُوا أَبَا مُسلم فِي شعْبَان مِنْهَا، قتل أَبُو مُسلم فِي مُدَّة دولته سِتّمائَة ألف صبرا.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَمِائَة: وفيهَا: خرج قسطنطين ملك الرّوم إِلَى بِلَاد الْإِسْلَام فَأخذ ملطية عنْوَة وَهدم سورها وَعفى عَمَّن بهَا من الْمُقَاتلَة والذرية وَمر سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ نَحْو ذَلِك.
وفيهَا: وسع الْمَنْصُور الْمَسْجِد الْحَرَام.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَمِائَة: فِيهَا: ابْتِدَاء الدولة الأموية بالأندلس، دخل عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة بن هِشَام بن عبد الْملك إِلَى الأندلس هَارِبا من الْقَتْل مستخفيا كَمَا تقدم، فاستولى عَلَيْهَا.
وفيهَا: ظفر الْمَنْصُور بِعَمِّهِ عبد اللَّهِ بعد استخفائه عِنْد أَخِيه سُلَيْمَان بن عَليّ من حِين هرب من أبي مُسلم، فأعدمه.
ثمَّ دخلت سنة أَرْبَعِينَ وَمِائَة: وفيهَا: أرسل الْمَنْصُور عبد الْوَهَّاب ابْن أَخِيه إِبْرَاهِيم الإِمَام وَالْحسن بن قَحْطَبَةَ فِي سبعين ألفا، فعمروا ملطية فِي سِتَّة أشهر، وَسَار إِلَيْهِم ملك الرّوم فِي مائَة ألف حَتَّى نزل نهر جيحان، فَبَلغهُ كَثْرَة الْمُسلمين فَرجع.
وفيهَا: حج الْمَنْصُور وَتوجه إِلَى الْقُدس ثمَّ الرقة وَعَاد إِلَى هاشمية الْكُوفَة.
وفيهَا: أَمر الْمَنْصُور بعمارة سور المصيصة وَبنى بهَا جَامعا وأسكنها ألف جندي وسماها المعمورة.

(1/185)


ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَمِائَة: وفيهَا: خرج على الْمَنْصُور الراوندية من أهل خُرَاسَان على مَذْهَب أبي مُسلم الْخُرَاسَانِي يَقُولُونَ بالتناسخ وَأَن روح آدم فِي عُثْمَان بن نهيك وَأَن رَبهم الَّذِي يُطعمهُمْ ويسقيهم الْخَلِيفَة الْمَنْصُور، فجاؤوا إِلَى قصر الْمَنْصُور وَقَالُوا: هَذَا قصر رَبنَا، فحبس رؤساءهم وهم مِائَتَان، فَغَضب أَصْحَابهم وحملوا نعشا لتحسب جَنَازَة حَتَّى بلغُوا السجْن فكسروا بَابه وأخرجوا رؤساءهم وقصدوا الْمَنْصُور وهم سِتّمائَة، فأغلقت الْمَدِينَة وَخرج الْمَنْصُور مَاشِيا وَاجْتمعَ عَلَيْهِ النَّاس، وَكَانَ معن بن زَائِدَة مستخفيا فَحَضَرَ وَقَاتل هُوَ وَغَيره حَتَّى قتلت الراوندية عَن آخِرهم فأمن مَعنا وَعَفا عَنهُ.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَمِائَة وَأَرْبع وَأَرْبَعين وَمِائَة: فِيهَا: حبس الْمَنْصُور من بني الْحسن أحد عشر وقيدهم.
وفيهَا: مَاتَ عبد اللَّهِ بن شبْرمَة وَعَمْرو بن عبيد المعتزلي الزَّاهِد وَعقيل بن خَالِد صَاحب الزُّهْرِيّ.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَأَرْبَعين وَمِائَة: فِيهَا: ظهر مُحَمَّد بن عبد اللَّهِ بن الْحسن وَاسْتولى على الْمَدِينَة وَتَبعهُ أَهلهَا، فَأرْسل الْمَنْصُور ابْن أَخِيه عِيسَى بن مُوسَى إِلَيْهِ، وَخَنْدَق مُحَمَّد الْمَذْكُور مَعَ خَنْدَق النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - للأحزاب وَجرى قتال، ثمَّ قتل مُحَمَّد الْمَذْكُور وَجَمَاعَة من أهل بَيته وَأَصْحَابه وَانْهَزَمَ من سلم مِنْهُم، وَأقَام عِيسَى بِالْمَدِينَةِ أَيَّامًا وَرجع فِي أَوَاخِر رَمَضَان يُرِيد مَكَّة مُعْتَمِرًا كَانَ مُحَمَّد سمينا أسمر شجاعا كثير الصَّوْم وَالصَّلَاة تلقب بالمهدى، وَالنَّفس الزكية.
وفيهَا: ابْتَدَأَ الْمَنْصُور بِنَاء بَغْدَاد، كره سُكْنى هاشميته لِوَقْعَة الراوندية ولجوار أهل الْكُوفَة حذرا مِنْهُم، فَاخْتَارَ مَوضِع بَغْدَاد.
وفيهَا: ظهر إِبْرَاهِيم الْعلوِي بن عبد اللَّهِ بن الْحسن بن الْحسن أَخُو مُحَمَّد " النَّفس الزكية " وَكَانَ هَارِبا مستخفيا، ودعا إِلَى بيعَة أَخِيه وَلم يبلغهُ قَتله، فَبَايعهُ جمَاعَة مِنْهُم مرّة العبشمي وَعبد الْوَاحِد بن زِيَاد وَعَمْرو بن سَلمَة الهُجَيْمِي وَعبد اللَّهِ بن يحيى الرقاشِي وَكثير من الْفُقَهَاء حَتَّى أحصوا أَرْبَعَة آلَاف، وَكَانَ أَمِير الْبَصْرَة سُفْيَان بن مُعَاوِيَة فتحصن لِاجْتِمَاعِهِمْ فِي دَار الْإِمَارَة بِجَمَاعَة، فحصره إِبْرَاهِيم ثمَّ أَمنه وَدخل الْقصر، وَجَاء ليجلس على حصيرته فقلبها الرّيح فتطير النَّاس فَقَالَ إِبْرَاهِيم: إِنَّا لَا نتظير وَجلسَ عَلَيْهَا مَقْلُوبَة، وَأخذ من بَيت المَال ألفي ألف دِرْهَم وَفرض لأَصْحَابه خمسين خمسين، وَمضى بِنَفسِهِ إِلَى دَار زَيْنَب بنت سُلَيْمَان بن عَليّ بن عبد اللَّهِ بن عَبَّاس وإليها ينْسب الزينبيون من العباسين، فَنَادَى هُنَاكَ لأهل الْبَصْرَة بالأمان.
ثمَّ أرسل من استولى على الأهواز وَأرْسل هَارُون بن سعد الْعجلِيّ فِي سَبْعَة عشر ألفا فَملك وَاسِط، وَأقَام بِالْبَصْرَةِ يفرق الْعمَّال والجيوش حَتَّى سمع بقتل أَخِيه قبل عيد الْفطر بِثَلَاثَة أَيَّام.

(1/186)


ثمَّ سَار من الْبَصْرَة يُرِيد الْكُوفَة وَقد أحصى ديوانه مائَة ألف وَنزل باخمرا على سِتَّة عشر فرسخا من الْكُوفَة، وَكَانَ الْمَنْصُور قد استدعى عِيسَى بن مُوسَى من الْحجاز فَحَضَرَ وَجعله فِي جَيش قبالة إِبْرَاهِيم، فاقتتلا قتالا انهزم فِيهِ غَالب عَسْكَر عِيسَى ثمَّ تراجعوا، ثمَّ وَقعت الْهَزِيمَة على أَصْحَاب إِبْرَاهِيم وَثَبت هُوَ فِي سِتّمائَة من أَصْحَابه، فجَاء سهم فِي حلق إِبْرَاهِيم فَتنحّى وَقَالَ: أردنَا أَمر وَأَرَادَ اللَّهِ غَيره، وَاجْتمعَ أَصْحَابه وأنزلوه فَحمل عَلَيْهِم عَسْكَر عِيسَى وفرقوهم عَنهُ واحتزوا رَأسه لخمس بَقينَ من ذِي الْقعدَة مِنْهَا، فَبعث بِهِ عِيسَى إِلَى مَنْصُور، وَعمر إِبْرَاهِيم ثَمَان وَأَرْبَعُونَ.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَمِائَة: فِيهَا: تحول الْمَنْصُور من مَدِينَة ابْن هُبَيْرَة إِلَى بَغْدَاد لتكميل عمارتها، واسشار قوما مِنْهُم خَالِد بن برمك فِي نقض إيوَان كسْرَى أَو الْمَدَائِن وَنقل ذَلِك إِلَى بَغْدَاد، فَقَالَ ابْن برمك: لَا أرى ذَلِك لِأَنَّهُ من أَعْلَام الْمُسلمين، فَقَالَ الْمَنْصُور: ملت يَا خَالِد إِلَى أَصْحَابك الْعَجم، وَأمر بِنَقْض الْقصر الْأَبْيَض فنقضت نَاحيَة مِنْهُ فَكَانَ مَا يغرمون عَلَيْهِ أَكثر من قيمَة المنقوض فَتَركه، فَقَالَ خَالِد: إِنِّي أرى أَن لَا تبطل ذَلِك لِئَلَّا يُقَال إِنَّك عجزت عَن تخريب مَا بناه غَيْرك، فَلم يلْتَفت الْمَنْصُور إِلَى ذَلِك وَترك هَدمه.
وَنقل أَبْوَاب مَدِينَة وَاسِط فَجَعلهَا على بَغْدَاد، ودور بَغْدَاد لِئَلَّا يكون بعض النَّاس أقرب إِلَى السُّلْطَان من بعض، وَبنى قصره فِي وَسطهَا وَالْجَامِع فِي جَانِبه.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَأَرْبَعين وَمِائَة: فِيهَا: ولد الْفضل بن يحيى بن خَالِد بن برمك.
وفيهَا ولى الْمَنْصُور خَالِد بن برمك الْموصل، وَولد الْفضل قبل الرشيد بسبعة أَيَّام فأرضعته الخيزران أم الرشيد.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَمِائَة: وفيهَا توفّي جَعْفَر الصَّادِق بن مُحَمَّد الباقر بن عَليّ زين العابدين بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي اللَّهِ عَنْهُم، سمي الصَّادِق لصدقه، وينسب إِلَيْهِ كَلَام فِي صَنْعَة الكيمياء والزجر والفأل، ولد سنة ثَمَانِينَ بِالْمَدِينَةِ، وَدفن بِالبَقِيعِ، وَأمه بنت الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر رَضِي اللَّهِ عَنهُ.
وفيهَا: توفّي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى القَاضِي.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَأَرْبَعين وَمِائَة: فِيهَا: مَاتَ مُسلم بن قُتَيْبَة الْعَظِيم الْقدر بِالريِّ.
وفيهَا: مَاتَ كهمس بن الْحسن التَّمِيمِي الْبَصْرِيّ.
وفيهَا: مَاتَ عِيسَى بن عمر الثفي، وَعنهُ أَخذ الْخَلِيل النَّحْو.
ثمَّ دخلت سنة خمسين وَمِائَة: فِيهَا: بني عبد الرَّحْمَن الْأمَوِي سور قرطبة.
وفيهَا: مَاتَ جَعْفَر بن أبي جَعْفَر الْمَنْصُور.
وفيهَا: مَاتَ الإِمَام أَبُو حنيفَة النُّعْمَان بن ثَابت بن زوطا مولى تيم اللَّهِ بن ثَعْلَبَة، وزوطا من أهل كابل وَقيل: بابل وَقيل: الأنبار، وَهُوَ الَّذِي مَسّه الرّقّ فَأعتق، وَولد لَهُ ثَابت على الْإِسْلَام. وَقَالَ إِسْمَاعِيل بن حَمَّاد بن أبي حنيفَة: مَا مسنا رق قطّ. رُوِيَ أَن وَالِد أبي

(1/187)


حنيفَة وَهُوَ صَغِير ذهب إِلَى عَليّ رَضِي اللَّهِ عَنهُ فَدَعَا لَهُ بِالْبركَةِ فِيهِ وَفِي ذُريَّته، وَقيل: هُوَ النُّعْمَان بن ثَابت بن النُّعْمَان بن الْمَرْزُبَان وَأَن جده النُّعْمَان أهْدى لعَلي يَوْم المهرجان فالوذجا، فَقَالَ لَهُ عَليّ: مهرجونا كل يَوْم.
أدْرك أَبُو حنيفَة اربعة من الصَّحَابَة وهم: انس بن مَالك وَعبد اللَّهِ بن أبي أوفى بِالْكُوفَةِ وَسَهل بن سعد السَّاعِدِيّ بِالْمَدِينَةِ وَأَبُو الطُّفَيْل عَامر بن وَاثِلَة وَلم يلق أحدا مِنْهُم وَلَا أَخذ عَنْهُم وَإِن زعم أَصْحَابه غير ذَلِك؛ وَكَانَ عَالما عَاملا زاهدا ورعا، رواده الْمَنْصُور على الْقَضَاء فَامْتنعَ، وَكَانَ ربعَة حسن الْوَجْه وَقيل: طَويلا أحسن النَّاس منطقا.
قَالَ الشَّافِعِي: قيل لمَالِك هَل رَأَيْت أَبَا حنيفَة؟ فَقَالَ: نعم رَأَيْت رجلا لَو كَلمته فِي هَذِه السارية أَن يَجْعَلهَا ذَهَبا لقام بحجته، وَكَانَ يُصَلِّي غَالب اللَّيْل حَتَّى قيل صلى الصُّبْح بِوضُوء الْعشَاء أَرْبَعِينَ سنة، وَحفظ عَلَيْهِ أَنه ختم الْقُرْآن فِي الْموضع الَّذِي توفّي فِيهِ سَبْعَة آلَاف مرّة وعيب بقلة الْعَرَبيَّة.
قلت: وَرُوِيَ أَن أَبَا عَمْرو بن الْعَلَاء الْمقري سَأَلَهُ عَن الْقَتْل بالمثقل هَل يُوجب الْقود؟ فَقَالَ: لَا، فَقَالَ: وَلَو قَتله بِحجر المنجنيق؟ فَقَالَ: وَلَو قَتله بأبا قبيس وَاعْتذر عَنهُ بِأَن هَذِه لُغَة كوفية وَهُوَ كُوفِي، وَأَيْضًا فَإِن بلحارث وبلعنبر وَمُرَاد وخثعم وَبَعض عذرة يفرون إِلَى الْألف من الْيَاء لِأَنَّهَا أخف حُرُوف الْمَدّ مثل قَوْله:
(إِن أَبَاهَا وَأَبا أَبَاهَا ... )

وَيَقُولُونَ: أعطات وجازات يُرِيدُونَ أَعْطَيْت وجازيت، وَقد ذكرت بذلك قولي:
(ثَقيلَة ردف قَصدهَا قتلتي بِهِ ... فَقلت لَهَا إِن تقتلي النَّفس تقتلي)

(فَقَالَت أما نعْمَان جدي ابْن ثَابت ... وَمَا من قصاص عِنْده بمثقل)
وَالله أعلم.
ولد سنة ثَمَانِينَ من الْهِجْرَة وَقيل: سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ، وَقيل: توفّي بالسجن ليلِي الْقَضَاء، وَقيل: توفّي يَوْم ولد الشَّافِعِي وَذَلِكَ فِي رَجَب من هَذِه السّنة، وَقيل: فِي جُمَادَى، وقبره بِبَغْدَاد مَشْهُور. وزوطا - بِضَم الزَّاي وَسُكُون الْوَاو -.
وفيهَا: بِبَغْدَاد مَاتَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق صَاحب الْمَغَازِي، وَقيل: سنة إِحْدَى وَخمسين وَمِائَة، وَهُوَ ثَبت فِي الحَدِيث عِنْد الْأَكْثَر، ذكره البُخَارِيّ فِي تَارِيخه لَكِن لم يرو عَنهُ لِأَن الإِمَام مَالِكًا طعن فِيهِ وَكَذَلِكَ مُسلم لم يخرج عَنهُ إِلَّا حَدِيثا وَاحِدًا فِي الرَّجْم.
وفيهَا: مَاتَ مقَاتل بن سُلَيْمَان الْبَلْخِي الْمُفَسّر.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَخمسين وَمِائَة: فِيهَا: ولى الْمَنْصُور هِشَام بن عمر الثَّعْلَبِيّ السَّنَد مَكَان عمر بن حَفْص بن عُثْمَان بن قبيصَة بن أبي صفرَة، وَولى هَذَا إفريقية، لقب عمر بهزار مرد أَي: ألف رجل.

(1/188)


وفيهَا: بني الْمَنْصُور الرصافة لِابْنِهِ الْمهْدي وَهِي من الْجَانِب الشَّرْقِي من بَغْدَاد وحول إِلَيْهَا بعض جَيْشه.
وفيهَا: هجمت الْخَوَارِج بَيت معن بن زَائِدَة الشَّيْبَانِيّ بسجستان وَهُوَ عاملها فِي بست وَهُوَ يحتجم فَقَتَلُوهُ بَغْتَة، وَقَامَ بعده ابْن أَخِيه يزِيد بن مزِيد بن زَائِدَة.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَمِائَة: فِيهَا: غزا حميد بن قَحْطَبَةَ أَمِير خُرَاسَان كابل.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَخمسين وَسنة أَربع وَخمسين وَمِائَة فِيهَا: توفّي بِالْكُوفَةِ أَبُو عَمْرو واسْمه كنيته ابْن الْعَلَاء، بن عمار من ولد الْحصين التَّمِيمِي الْمَازِني الْبَصْرِيّ، ولد سنة سبعين وَقيل: ثَمَان وَسِتِّينَ، وَهُوَ أحد الْقُرَّاء السَّبْعَة.
قلت: وَفِيه يَقُول الفرزدق:
(مَا زلت أفتح أبوابا وأغلقها ... حَتَّى أتيت أَبَا عَمْرو بن عمار)

وَسَأَلَ سُلَيْمَان عَم السفاح أَبَا عَمْرو عَن شَيْء فَصدقهُ فَلم يُعجبهُ، فَخرج أَبُو عَمْرو وَهُوَ يَقُول:
(أنفت من الذل عِنْد الْمُلُوك ... وَإِن أكرموني وَإِن قربوا)

(إِذا مَا صدقتهم خفتهم ... ويرضون مني بِأَن يكذبوا)

وَكَانَ يَقُول: لَا يقبل فِي الدِّيَة إِلَّا غُلَام أَبيض أَو جَارِيَة بَيْضَاء لَا أسود وَلَا سَوْدَاء لقَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فِي الْجَنِين غرَّة عبد أَو أمة "، ليَكُون لقَوْله غرَّة فَائِدَة، وَهَذَا لغرابته نقلته، وَالله أعلم.
وفيهَا: سَار الْمَنْصُور إِلَى الشَّام وجهز جَيْشًا إِلَى الْمغرب لقتل الْخَوَارِج.
وفيهَا: مَاتَ أشعب الطامع.
وفيهَا: مَاتَ وهيب بن الْورْد الزَّاهِد الْمَكِّيّ.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَخمسين وَمِائَة: فِيهَا: عمل الْمَنْصُور للكوفة وَالْبَصْرَة سورا وخندقا من أَمْوَال أَهلهَا أَرَادَ معرفَة عَددهمْ فقسم فيهم الدَّرَاهِم خَمْسَة خَمْسَة ثمَّ جبى مِنْهُم أَرْبَعِينَ أَرْبَعِينَ، فَقَالَ بَعضهم:
(يَا لقوم مَا لَقينَا ... من أَمِير المؤمنينا)

(قسم الْخَمْسَة فِينَا ... وجبانا أربعينا)

ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَخمسين وَمِائَة: فِيهَا: توفّي حَمْزَة بن حبيب بن عمَارَة الْكُوفِي الزيات أحد الْقُرَّاء السَّبْعَة، وَعند أَخذ الْكسَائي، وَكَانَ يجلب الزَّيْت إِلَى حلوان والجوز والجبن إِلَى الْكُوفَة.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَخمسين وَمِائَة: فِيهَا: مَاتَ الْأَوْزَاعِيّ أَبُو عَمْرو عبد الرَّحْمَن بن

(1/189)


عمر بن يحمد وعمره سَبْعُونَ، كَانَ إِمَام أهل الشَّام، أجَاب فِي سبعين ألف مَسْأَلَة، سكن بيروت وقبره بقرية حنتوش على بَاب بيروت فِي قبْلَة الْمَسْجِد، وَأهل الْقرْيَة يَقُولُونَ: هُنَا قبر ينزل عَلَيْهِ النُّور وَلَا يعْرفُونَ أَنه قَبره، وينسب إِلَى أوزاع - بطن من ذِي كلاع - وَقيل: من هَمدَان، ويحمد - بِضَم الْيَاء الْمُثَنَّاة وَكسر الْمِيم.
قلت: وَرُوِيَ أَن سُفْيَان الثَّوْريّ بلغَة مقدم الْأَوْزَاعِيّ فَلَقِيَهُ إِلَى ذِي طوى فَحل بعيره عَن القطار وَوَضعه على رقبته، فَكَانَ إِذا مر بِجَمَاعَة قَالَ: الطَّرِيق للشَّيْخ. والأوزاع: قَرْيَة على طَرِيق بَاب الفراديس أَيْضا، وَقَالَ فِيهِ بَعضهم:
(جاد الحيا بِالشَّام كل عَشِيَّة ... قبرا تضمن لحده الْأَوْزَاعِيّ)

(قبرا تضمن فِيهِ طود شَرِيعَة ... سقيا لَهُ من عَالم نفاع)

(عرضت لَهُ الدُّنْيَا فَأَعْرض مقلعا ... عَنْهَا بزهد أَيّمَا إقلاع)
وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَخمسين وَمِائَة: فِيهَا: مَاتَ الْمَنْصُور لست خلون من ذِي الْحجَّة، خرج لِلْحَجِّ وَقَالَ لِابْنِهِ الْمهْدي: إِنِّي ولدت فِي ذِي الْحجَّة وَوليت فِي ذِي الْحجَّة وَقد هجس فِي نَفسِي أَنِّي أَمُوت فِي ذِي الْحجَّة من هَذِه السّنة وَهُوَ الَّذِي حداني على الْحَج، فَاتق اللَّهِ فِيمَا أَعهد إِلَيْك، ووصاه طَويلا وودعه وبكيا فَمَاتَ بِقَبْر مَيْمُونَة محرما، وعاش ثَلَاثًا وَسِتِّينَ وخلافته اثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ سنة وَثَلَاثَة أشهر وَكسر، وَكَانَ أسمر نحيفا خَفِيف العارضين، ولد بالحميمة، وَدفن بِبَاب الْمصلى وَبَقِي أثر الْإِحْرَام فَدفن وَرَأسه مَكْشُوف، وَسمع وَهُوَ يطوف بِالْكَعْبَةِ قَائِلا يَقُول: اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْكُو إِلَيْك ظُهُور الْبَغي وَالْفساد فِي الأَرْض وَمَا يحول بَين الْحق وَأَهله من الطمع، فَدَعَا الْقَائِل واستنبأه فَقَالَ: إِن أمنتني أَنْبَأتك بالأمور على جليتها وأصولها فَأَمنهُ، فَقَالَ الرجل: إِن الَّذِي دخله الطمع حَتَّى حَال بَين الْحق وَأَهله أَنْت، فَقَالَ: وَيحك وَكَيف يدخلني الطمع والصفراء والبيضاء فِي قبضتي والحلو والحامض عِنْدِي؟ فَقَالَ: لِأَن اللَّهِ استرعاك على الْمُسلمين وَأَمْوَالهمْ فَجعلت بَيْنك وَبينهمْ حِجَابا من الجص والآجر وأبوابا من الْحَدِيد وحجابا مَعَهم الأسلحة وَلم تَأمر بإيصال الْمَظْلُوم والملهوف والجائع والعاري والضعيف وَالْفَقِير وَمَا أحد إِلَّا وَله من هَذَا المَال حق، فَلَمَّا رآك هَؤُلَاءِ النَّفر الَّذين استخلصتهم لنَفسك تجبي الْأَمْوَال فَلَا تعطيها وتجمعها فَلَا تقسمها قَالُوا: هَذَا قد خَان اللَّهِ فَمَا لنا لَا نخونه، فاتفقوا على أَن لَا يصل إِلَيْك من أَخْبَار النَّاس إِلَّا مَا أَرَادوا وَلَا يخرج لَك عَامل فيخالف أَمرهم إِلَّا أقصوه ونفوه حَتَّى من أَخْبَار النَّاس إِلَّا مَا أَرَادوا وَلَا يخرج لَك عَامل فيخالف أَمرهم إِلَّا أقصوه ونفوه حَتَّى تسْقط مَنْزِلَته ويصغر قدره فَلَمَّا انْتَشَر ذَلِك عَنْك وعنهم هابهم النَّاس وَكَانَ أول من صانعهم عمالك بالهدايا ليتقووا بهم على ظلم رعيتك، ثمَّ فعل ذَلِك ذووا الْقُدْرَة والثروة من رعيتك لينالوا بِهِ ظلم من دونهم فامتلأت الْبِلَاد ظلما، فَإِذا صرخَ الْمَظْلُوم بَين يَديك ضرب ضربا شَدِيدا وَأَنت تنظر وَلَا تنكره؛ ثمَّ ذكره بالطفل يسْقط من بطن أمه لَا مَال لَهُ فيلطف اللَّهِ بِهِ

(1/190)


حَتَّى تعظم رَغْبَة النَّاس إِلَيْهِ، وَذكره ببني أُميَّة وَمَا جَمَعُوهُ فَمَا أغْنى عَنْهُم حِين أَرَادَ اللَّهِ بهم مَا أَرَادَ. وَهَذِه خُلَاصَة الموعظة.
أَوْلَاده هم: الْمهْدي مُحَمَّد وجعفر الْأَكْبَر مَاتَ فِي حَيَاة الْمَنْصُور وَسليمَان وَعِيسَى وَيَعْقُوب وجعفر الْأَصْغَر وَصَالح الْمُسلمين، وَكَانَ الْمَنْصُور من احسن النَّاس خلقا فِي الْخلْوَة حَتَّى يخرج إِلَى النَّاس.

(أَخْبَار الْمهْدي بن الْمَنْصُور)

وَوصل إِلَى الْمهْدي الْخَبَر بالبيعة لَهُ وَهُوَ ثالثهم منتصف ذِي الْحجَّة، وَوصل القاصد من مَكَّة إِلَى بَغْدَاد فِي أحد عشر يَوْمًا.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَخمسين وَمِائَة وَسنة سِتِّينَ وَمِائَة: وفيهَا: رد الْمهْدي نسب آل زِيَاد إِلَى عبيد الرُّومِي فِي ثَقِيف وأخرجهم من قُرَيْش وَالْعرب وأبطل استلحاق مُعَاوِيَة
وفيهَا: حج الْمهْدي وَفرق أَمْوَالًا ووسع مَسْجِد رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَحمل الثَّلج إِلَى مَكَّة.
وفيهَا: مَاتَ دَاوُد الطَّائِي الزَّاهِد من أَصْحَاب أبي حنيفَة، وَعبد الرَّحْمَن بن عبد اللَّهِ بن عتبَة المَسْعُودِيّ، والخليل بن أَحْمد الْبَصْرِيّ استاذ سِيبَوَيْهٍ.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَة: فِيهِ: أَمر الْمهْدي باتخاذ المصانع فِي طَرِيق مَكَّة وتجديد الأميال والبرك وحفر الركايا وتقصير المنابر إِلَى مِقْدَار مِنْبَر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وفيهَا: جعل الْمهْدي يحيى بن خَالِد بن برمك مَعَ ابْنه هَارُون، وَأَبَان بن صَدَقَة مَعَ الْهَادِي.
وفيهَا: توفّي سُفْيَان الثَّوْريّ، ومولده سنة سبع وَتِسْعين. وَإِبْرَاهِيم بن أدهم بن مَنْصُور الزَّاهِد من بكر بن وَائِل، ولد ببلخ ورابط بِالشَّام، سَأَلَهُ إِبْرَاهِيم بن يسَار عَن بَدْء أمره وألح عَلَيْهِ فَقَالَ: كَانَ أبي من مُلُوك خُرَاسَان وَكَانَ قد حبب إِلَيّ الصَّيْد، فَبينا أَنا رَاكب فرسا وكلبي معي إِذْ تحركت على صيد فَسمِعت نِدَاء من ورائي: يَا إِبْرَاهِيم لَيْسَ لهَذَا خلقت وَلَا بِهَذَا أمرت، فوقفت مقشعرا أنظر يمنة ويسرة فَلم أر أحدا فَقلت: لعن اللَّهِ إِبْلِيس، ثمَّ حركت فرسي فَسمِعت من قربوس سرجي: يَا إِبْرَاهِيم لَيْسَ لهَذَا خلقت وَلَا بِهَذَا أمرت، فوقفت وَقلت: هَيْهَات جَاءَنِي النذير من رب الْعَالمين وَالله لَا عصيت رَبِّي فتوجهت إِلَى أَهلِي وَجئْت إِلَى بعض رعاء أبي فَأخذت جبته وكساه وألقيت إِلَيْهِ ثِيَابِي، ثمَّ سرت حَتَّى صرت إِلَى الْعرَاق، ثمَّ صرت إِلَى الشَّام، ثمَّ قدمت إِلَى طرطوس فاستأجرني شخص ناظورا لبستان، فَمَكثت فِي الْبُسْتَان أَيَّامًا كَثِيرَة فَلَمَّا اشتهرت اختفيت وهربت من النَّاس؛ كَانَ يَأْكُل من عمل يَده كالحصاد وَالْعَمَل فِي الطين وَحفظ الْبَسَاتِين.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَمِائَة: وَفِي الأَصْل هُنَا سَهْو، وَكَذَا فِي سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَمِائَة سَهْو فِي الأَصْل أَيْضا.

(1/191)


ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَمِائَة: فِيهَا: تجهز الْمهْدي لغزو الرّوم واستخلف ابْنه الْهَادِي بِبَغْدَاد، وَلما وصل إِلَى حلب بلغَة أَن بِتِلْكَ النَّاحِيَة زنادقة فَجَمعهُمْ وقتلهم وَقطع كتبهمْ وَسَار إِلَى جيحان، وجهز ابْنه هَارُون بالعسكر فتغلغل فِي الرّوم وَفتح كثيرا وَعَاد.
وفيهَا: قتل الْمقنع الْخُرَاسَانِي واسْمه عَطاء، وَكَانَ لَعنه اللَّهِ قصارا أَعور مشوها لَا يسفر عَن وَجهه وتقنع بِوَجْه ذهب، وَادّعى الربوبية وَأَن الْبَارِي تَعَالَى وتقدس حل فِي آدم ثمَّ فِي نوح ثمَّ فِي نَبِي بعد آخر حَتَّى حل فِيهِ، وَعمر قَرْيَة سَنَام وَرَاء النَّهر من رستاق كيش وتحصن بهَا وخيل بسحره للنَّاس صُورَة قمر يطلع وَيرى من مَسَافَة شَهْرَيْن، وَإِلَيْهِ أَشَارَ ابْن سنا الْملك بقوله:
(إِلَيْك فَمَا بدر الْمقنع طالعا ... بأسحر من ألحاظ بدر المعمم)

وأطاعه خلق، ثمَّ اجْتمع النَّاس وحصروه فسم نِسَاءَهُ ثمَّ نَفسه فماتوا، فَدخل النَّاس قلعته وَقتلُوا أشياعه وَأَتْبَاعه.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَسِتِّينَ وَمِائَة: فِيهَا: مَاتَ عِيسَى عَم الْمَنْصُور وَعمرَة ثَمَان وَسَبْعُونَ.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَسِتِّينَ وَمِائَة: فِيهَا وصل الرشيد فِي جَيش بِأَمْر أَبِيه الْمهْدي إِلَى خليج قسطنطينية وغنم وَقتل فِي الرّوم وَعَاد.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَمِائَة: فِيهَا تحرج الْمهْدي من وزيره يَعْقُوب بن دَاوُد بن طهْمَان وَزِير نصر بن سيار قبله، كَانَ أَصْحَاب الْمهْدي يشربون عِنْده وَيَعْقُوب ينْهَى عَن ذَلِك، فسعوا فِيهِ حَتَّى حَبسه الْمهْدي، وَاسْتمرّ إِلَى أَن أخرجه الرشيد فِي خِلَافَته، وَفِي ذَلِك يَقُول بشار بن برد،
(بني أُميَّة هبوا طَال نومكم ... إِن الْخَلِيفَة يَعْقُوب بن دَاوُد)

(ضَاعَت خلافتكم يَا قوم فالتمسوا ... خَليفَة اللَّهِ بَين الناي وَالْعود)

وفيهَا: أَقَامَ الْمهْدي بريدا بَين مَكَّة وَالْمَدينَة بغالا وإبلا.
وفيهَا: قتل بشار بن برد الشَّاعِر الْأَعْمَى خلقَة على الزندقة وَقد نَيف على التسعين، قيل: كَانَ يفضل النَّار على الأَرْض، ويصوب رَأْي إِبْلِيس فِي امْتِنَاعه من السُّجُود لآدَم، نسْأَل اللَّهِ الْعَافِيَة.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَسِتِّينَ وَمِائَة: فِيهَا توفّي عِيسَى بن مُوسَى بن مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد اللَّهِ بن الْعَبَّاس، ابْن أخي السفاح والمنصور، أوصى لَهُ السفاح بالخلافة بعد الْمَنْصُور ثمَّ خلعه الْمَنْصُور وَولى ابْنه الْمهْدي، وعاش خمْسا وَسِتِّينَ.
وفيهَا: زَاد الْمهْدي فِي الْمَسْجِد الْحَرَام وَمَسْجِد النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَمِائَة: فِيهَا مَاتَ الْمهْدي مُحَمَّد بن عبد اللَّهِ الْمَنْصُور ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .

(1/192)


بماسبذان فِي الْمحرم لثمان بَقينَ مِنْهُ، وخلافته عشر سِنِين وَشهر، وعمره ثَلَاث وَأَرْبَعُونَ، وَدفن تَحت شَجَرَة جوز، وَصلى عَلَيْهِ ابْنه الرشيد؛ كَانَ رَحمَه اللَّهِ يجلس للمظالم وَيَقُول: أدخلُوا عَليّ الْقُضَاة فَلَو لم يكن ردي للمظالم إِلَّا للحياء مِنْهُم.