تاريخ ابن الوردي

مسير التتر إِلَى خوارزم شاه وهزيمته وَمَوته

لما ملك التتر سَمَرْقَنْد أرسل جنكيز خَان عشْرين ألف فَارس فِي أثر خوارزم شاه مُحَمَّد بن تكش وَهَذِه الطَّائِفَة تسميها التتر المغربة لِأَنَّهَا سَارَتْ نَحْو غرب خُرَاسَان فوصلوا إِلَى مَوضِع يُسمى بنج آف، وعبروا نهر جيحون وصاروا مَعَ خوارزم شاه فِي بر وَاحِد، وَلم يشْعر خوارزم شاه إِلَّا والتتر مَعَه، فَتفرق عسكره إيدي سبا ورحل خوارزم شاه لَا يلوي على شَيْء فِي نفر من خواصه، وَوصل نيسابور والتتر فِي أَثَره، وَوصل مازندران وهم فِي أَثَره، وَسَار من مازندران إِلَى مرسى من بَحر طبرستان يعرف بأسكون، وَله هُنَاكَ قلعة فِي الْبَحْر، فَعبر هُوَ وَأَصْحَابه إِلَيْهَا، ووقف التتر على سَاحل الْبَحْر وَأَيِسُوا من لحاقه.
ثمَّ توفّي خوارزم شاه بِهَذِهِ القلعة وَهُوَ عَلَاء الدّين مُحَمَّد بن عَلَاء الدّين تكش بن أرسلان بن أتسز بن مُحَمَّد بن أنوش تكين غرشه مُدَّة ملكه إِحْدَى وَعِشْرُونَ سنة وشهوراً.
واتسع ملكه من حد الْعرَاق إِلَى تركستان وَبَعض الْهِنْد وبلاد غزنة كلهَا وسجستان وكرمان وطبرستان وجرجان وبلاد الْجَبَل وخراسان وَبَعض فَارس وَكَانَ عَالما بالفقه وَالْأُصُول وَغَيرهمَا، صبوراً على التَّعَب وَالسير، وَلما أيس التتر مِنْهُ عَادوا ففتحوا مازندران وَقتلُوا أَهلهَا، ثمَّ فعلوا فِي الرّيّ وهمدان كَذَلِك ثمَّ مراغة فِي صفر سنة ثَمَانِي عشرَة وسِتمِائَة، ثمَّ استولوا على خُرَاسَان، ونازلوا خوارزم وَقَاتلهمْ أَهلهَا مُدَّة أَشد قتال ثمَّ فتحوها.
وَكَانَ لَهَا سد فِي نهر جيحون ففتحوه وغرق المَاء خوارزم وَقتلُوا أهل تِلْكَ الْبِلَاد وَالْعُلَمَاء والصلحاء والعباد والزهاد، وخربوا الْجَوَامِع، وأحرقوا الْمَصَاحِف وَسبوا الذَّرَارِي، وفعلوا مَا لم يسمع بِمثلِهِ وَلَا قبل الْإِسْلَام، فَإِن بخْتنصر مَا فعل ببني إِسْرَائِيل بعض هَذَا فَإِن كل مَدِينَة من المدن الَّتِي خربوا أوسع من الْقُدس بِكَثِير، وكل أمة قتلوا من الْمُسلمين أَضْعَاف بني إِسْرَائِيل الَّذين قَتلهمْ بخْتنصر.
وَلما فرغ التتر من خُرَاسَان عَادوا إِلَى ملكهم فَجهز جَيْشًا كثيفاً إِلَى غزته وَبهَا جلال الدّين بن عَلَاء الدّين مُحَمَّد خوارزم شاه الْمَذْكُور مَالِكًا لَهَا وَقد اجْتمع إِلَيْهِ جموع من عَسَاكِر أَبِيه قيل سِتُّونَ ألفا، وَكَانَ عدَّة الَّذين سَارُوا إِلَيْهِم من التتر اثْنَي عشر ألفا فَاقْتَتلُوا قتالاً شَدِيدا فانهزمت التتر وتبعهم الْمُسلمُونَ يَقْتُلُونَهُمْ كَيفَ شاؤوا. ثمَّ أرسل جنكيز خَان عسكراً أَكثر من الأول مَعَ بعض أَوْلَاده ووصلوا إِلَى كابل، وقاتلوهم فانهزمت التتر ثَانِيًا وَقتل الْمُسلمُونَ وَمِنْهُم وغنموا شَيْئا كثيرا وَكَانَ فِي عَسْكَر جلال الدّين أَمِير كَبِير مِقْدَام هُوَ الَّذِي كسر التتر اسْمه بغراق فَوَقع بَينه وَبَين أَمِير كَبِير اسْمه ملك خَان صَاحب هراء لَهُ نسب فِي بَيت خوارزم شاه فتْنَة بِسَبَب الْكتب، قتل فِيهَا أَخُو بغراق فَغَضب بغراق وَفَارق جلال الدّين وَسَار إِلَى الْهِنْد وَتَبعهُ ثَلَاثُونَ ألف فَارس، ولحقه جلال الدّين واستعطفه فَلم يرجع فضعف عَسْكَر جلال الدّين لذَلِك.

(2/138)


ثمَّ وصل جنكيز خَان بِنَفسِهِ فِي جيوشه فَلم يكن لجلال الدّين بِهِ قدرَة بعد مسير بغراق وجيشه فقصد جلال الدّين الْهِنْد، وَتَبعهُ جنكيز خَان حَتَّى أدْركهُ على نهر السَّنَد وَلم يلْحق جلال الدّين وَمن مَعَه أَن يعبروا النَّهر فاضطروا إِلَى الْقِتَال فقاتلوهم قتالاً لم يسمع بِمثلِهِ، وصبر الْفَرِيقَانِ ثمَّ تَأَخّر كل مِنْهُمَا عَن الآخر فَعبر جلال الدّين النَّهر إِلَى جِهَة الْهِنْد.
وَعَاد جنكيز خَان فاستولى على غزنة قتلا ونهباً، وَكَانَ قد سَار من التتر فرقة عَظِيمَة إِلَى القفجاق فقاتلوهم وهزموهم.
واستولوا على مَدِينَة القفجاق الْعُظْمَى وَتسَمى سوادق، وَكَذَلِكَ فعلوا بِقوم يُقَال لَهُم الكزى بِلَادهمْ قرب دربند شرْوَان، ثمَّ سَار التتر إِلَى الروس، وانضم إِلَى الروس القفجاق، وقاتلوهم قتالا عَظِيما، فانتصر التتر وشردوهم قتلا وهرباً فِي الْبِلَاد.
وفيهَا: فِي شَوَّال توفّي رَضِي الدّين الْمُؤَيد بن مُحَمَّد بن عَليّ الطوسي الأَصْل النَّيْسَابُورِي الدَّار الْمُحدث أَعلَى الْمُتَأَخِّرين إِسْنَادًا، سمع مُسلما من الْفَقِيه أبي عبد الله مُحَمَّد بن الْفضل الفراوي، الْمُتَوفَّى سنة ثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة، قَرَأَ الفراوي الْأُصُول على إِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَسمع مُسلما على عبد الْغفار الْفَارِسِي الإِمَام فِي الحَدِيث، المتوفي سنة تسع وَعشْرين وَخَمْسمِائة، ومولد رَضِي الدّين الْمُؤَيد سنة أَربع وَعشْرين وَخَمْسمِائة ظنا.
عود دمياط إِلَى الْمُسلمين

ثمَّ دخلت سنة ثَمَان عشرَة وسِتمِائَة: فِيهَا تقدم الفرنج إِلَى جِهَة مصر ووصلوا المنصورة وَاشْتَدَّ الْقِتَال بَين الْفَرِيقَيْنِ برا وبحراً، وَسَار الْمُعظم عِيسَى بن الْعَادِل صَاحب دمشق إِلَى أَخِيه الْأَشْرَف ببلاده الشرقية، وَطلب مِنْهُ الْمسير إِلَى أخيهما الْكَامِل فَجمع الْأَشْرَف عساكره واستصحب عَسْكَر حلب واستصحب النَّاصِر صَاحب حماه خَائفًا على حماه الْكَامِل أَن يسلم حماه إِلَى المظفر فَحلف الْأَشْرَف للناصر أَنه لَا يُمكن الْكَامِل مِنْهُ، واستصحب أَيْضا الأمجد صَاحب بعلبك والمجاهد شيركوه بن مُحَمَّد بن شيركوه صَاحب حمص، وَسَار الْمُعظم بعسكر دمشق ووصلوا إِلَى الْكَامِل وَهُوَ فِي قتال الفرنج على المنصورة فَركب وتلقاهم وَأكْرمهمْ وقويت نفوس الْمُسلمين، وَضعف الفرنج مِمَّا شاهدوه من كَثْرَة عَسَاكِر الْإِسْلَام وتحملهم.
وَاشْتَدَّ الْقِتَال بَين الْفَرِيقَيْنِ ورسل الْملك الْكَامِل وَإِخْوَته مترددة إِلَى الفرنج فِي الصُّلْح وبذل لَهُم الْمُسلمُونَ تَسْلِيم الْقُدس وعسقلان وطبرية واللاذقية وجبلة وَجَمِيع مَا فَتحه صَلَاح الدّين من السَّاحِل إِلَى الكرك والشوبك على أَن يصالحوا ويسلموا دمياط فَأَبَوا ذَلِك وطلبوا ثَلَاثمِائَة ألف دِينَار عوضا عَن تخريب سور الْقُدس، وَقَالُوا: لَا بُد من تَسْلِيم الكرك والشوبك، وَبينا الْأَمر مُتَرَدّد فِي الصُّلْح والفرنج ممتنعون إِذْ عبر جمَاعَة من عَسْكَر الْمُسلمين فِي بَحر الْمحلة إِلَى الأَرْض الَّتِي عَلَيْهَا الفرنج من دمياط، فَحَفَرُوا حُفْرَة عَظِيمَة من النّيل فِي قُوَّة زِيَادَته والفرنج لَا خبْرَة لَهُم بِأَمْر النّيل، فَركب المَاء تِلْكَ الأَرْض وَصَارَ

(2/139)


حَائِلا بَين الفرنج ودمياط وَانْقطع عَنْهُم المدد والميرة فهلكوا جوعا فطلبوا الْأمان على أَن ينزلُوا عَن جَمِيع مَا بذله الْمُسلمُونَ لَهُم وَعَن دمياط ويعقدوا الصُّلْح، وَكَانَ فيهم نَحْو عشْرين ملكا كبارًا فاختلفت الآراء بَين يَدي الْملك الْكَامِل فيهم، فبعضهم قَالَ: لَا نؤمنهم ونأخذهم ونتسلم بهم مَا بَقِي بِأَيْدِيهِم من السَّاحِل مثل عكا وَغَيرهَا، ثمَّ اتَّفقُوا على أمانهم لطول مُدَّة البيكار، وضجر الْعَسْكَر من ثَلَاث سِنِين وشهور لَهُم فِي الْقِتَال فأجابهم الْعَادِل إِلَى ذَلِك، فَطلب الفرنج رهينة، فَبعث الْكَامِل ابْنه الصَّالح أَيُّوب وعمره خمس عشرَة سنة إِلَى الفرنج، وَحضر رهينة من الفرنج ملك عكا ونائب البابا صَاحب رُومِية الْكُبْرَى، وكندريس، وَغَيرهم من الْمُلُوك، وَذَلِكَ سَابِع رَجَب مِنْهَا.
واستحضر الْكَامِل مُلُوك الفرنج الْمَذْكُورين، وَجلسَ مَجْلِسا عَظِيما ووقف إخْوَته وَأهل بَيته بَين يَدَيْهِ، وتسلم دمياط فِي تَاسِع عشر رَجَب مِنْهَا وَقد حصنها الفرنج إِلَى غَايَة، وولاها السُّلْطَان شُجَاع الدّين جِلْدك مَمْلُوك المظفر تَقِيّ الدّين عمر وَدخل دمياط فَكَانَ يَوْمًا مشهوداً وهنأه الشُّعَرَاء.
ثمَّ توجه إِلَى الْقَاهِرَة وَأذن للملوك فِي الرُّجُوع إِلَى بِلَادهمْ، فَتوجه الْأَشْرَف إِلَى الشرق وانتزع الرقة من صَاحبهَا، وَقيل اسْمه عمر بن قطب الدّين مُحَمَّد بن زنكي بن مودود بن زنكي بن أقسنقر قَاتل أَخِيه، وَلَقي بغيه لكَونه قتل أَخَاهُ وَأخذ مِنْهُ سنجار كَمَا مر.
ثمَّ أَقَامَ الْأَشْرَف بالرقة وَورد إِلَيْهِ النَّاصِر صَاحب حماه مُدَّة وَعَاد.
وفيهَا: توفّي صَاحب آمد وحصن كيفا الْملك الصَّالح نَاصِر الدّين مَحْمُود بن مُحَمَّد بن قرا أرسلان بن سقمان بن أرتق بالقولنج، وَقَامَ بعده ابْنه الْملك المسعود الَّذِي أَخذ مِنْهُ الْكَامِل آمد، وَكَانَ قَبِيح السِّيرَة وَقيل توفّي سنة تسع عشرَة.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الْآخِرَة خنق قَتَادَة بن إِدْرِيس الحسني أَمِير مَكَّة وعمره نَحْو تسعين. كَانَ فِي الأول محسناً واتسعت ولَايَته، ثمَّ جدد الْمَظَالِم والمكوس وَصُورَة أمره أَنه كَانَ مَرِيضا، فَأرْسل عسكراً مَعَ أَخِيه وَمَعَ ابْنه الْحسن بن قَتَادَة للاستيلاء على الْمَدِينَة الشَّرِيفَة فَوَثَبَ الْحسن بن قَتَادَة على عَمه فَقتله فِي الطَّرِيق وَعَاد إِلَى أَبِيه بِمَكَّة فخنقه.
وَكَانَ لَهُ أَخ نَائِب بقلعة يَنْبع عَن أَبِيه فَاسْتَحْضرهُ وَقَتله أَيْضا، وارتكب من قَتلهمْ أمرا عَظِيما، وَاسْتقر فِي ملك مَكَّة، وَمن شعر قَتَادَة وَقد طلبه أَمِير الْحَاج ليحضر فَامْتنعَ:
(ولي كف ضرغام أصُول ببطشها ... وأشري بهَا بَين الورى وأبيع)

(تظل مُلُوك الأَرْض تلثم ظهرهَا ... وَفِي وَسطهَا للمجدبين ربيع)

(أأجعلها تَحت الرحا ثمَّ أَبْتَغِي ... خلاصاً لَهَا إِنِّي إذاَ لرقيع)

(وَمَا أَنا إِلَّا الْمسك فِي كل بَلْدَة ... يضوع وَأما عنْدكُمْ فيضيع)

(2/140)


وفيهَا: توفّي جلال الدّين صَاحب الألموت مقدم الإسماعيلية، وَولي بعده عَلَاء الدّين مُحَمَّد.
ثمَّ دخلت سنة تسع عشرَة وسِتمِائَة: فِيهَا اسْتَقل بدر الدّين لُؤْلُؤ بِملك الْموصل، وَتُوفِّي الطِّفْل الَّذِي نَصبه وَهُوَ نَاصِر الدّين مَحْمُود بن القاهر مَسْعُود، وَتسَمى لُؤْلُؤ بِالْملكِ الرَّحِيم، وعاضده الْأَشْرَف بن الْعَادِل، وَقلع لُؤْلُؤ الْبَيْت الأتابكي بِالْكُلِّيَّةِ، وَملك الْموصل نيفاً وَأَرْبَعين سنة سوى تحكمه أَيَّام أستاذه أرسلان شاه وَابْنه القاهر.
وفيهَا: سَار الْأَشْرَف وَأقَام عِنْد أَخِيه بِمصْر متنزهاً إِلَى أَن خرجت السّنة.
وفيهَا: فوض الأتابك طغرل بك الْخَادِم مُدبر حلب إِلَى الْملك الصَّالح أَحْمد بن الظَّاهِر أَمر الثغر وبكاس والروج ومعرة نصر بن فَسَار الصَّالح وَاسْتولى عَلَيْهَا.
وفيهَا: قصد الْمُعظم صَاحب دمشق حماه لِأَن صَاحبهَا النَّاصِر لم يَفِ لَهُ بِمَا الْتَزمهُ من المَال، وَجرى بَينهمَا قتال ثمَّ رَحل الْمُعظم فاستولى عَليّ سلمية وحواصلها، وَولى عَلَيْهَا ثمَّ توجه إِلَى المعرة فَفعل كَذَلِك ثمَّ عَاد فَأَقَامَ بسلمية حَتَّى خرجت هَذِه السّنة على قصد منازلة حماه.
وفيهَا: حج من الْيمن الْملك المسعود يُوسُف أتسز وَهُوَ اسْم تركي، والعامة تسميه أقسيس، ووقف بِعَرَفَة، وَتَقَدَّمت أَعْلَام الْخَلِيفَة النَّاصِر لترفع على الْجَبَل فَمنع المسعود من ذَلِك، وَقدم أَعْلَام أَبِيه الْكَامِل على أَعْلَام الْخَلِيفَة فَلم يقدروا على مَنعه، ثمَّ عَاد إِلَى الْيمن، وَبلغ الْخَلِيفَة ذَلِك فَأرْسل يعتب على الْكَامِل، فَاعْتَذر فَقبل عذره، وَأقَام الْملك المسعود بِالْيمن يَسِيرا، ثمَّ عَاد ليستولي على مَكَّة فقاتله حسن بن قَتَادَة فانتصر المسعود واستمرت مَكَّة لَهُ وَولي بهَا وَعَاد إِلَى الْيمن.
وفيهَا: توفّي الشَّيْخ يُونُس بن يُوسُف بن مساعد بالقنية من أَعمال دَارا وَقد ناهز السّبْعين، وَكَانَ رجلا صَالحا وَله كرامات.
ثمَّ دخلت سنة عشْرين وسِتمِائَة: فِيهَا رَحل الْمُعظم عَن سلمية بِأَمْر الْملك الْكَامِل صَاحب مصر والأشرف وَهُوَ عِنْد أَخِيه الْكَامِل بِمصْر بعد، وَرجعت المعرة وسلمية للناصر.
ثمَّ اتّفق الْكَامِل والأشرف وسلما سلمية إِلَى أَخِيه المظفر مَحْمُود بن الْملك الْمَنْصُور فَأرْسل المظفر إِلَيْهَا وَهُوَ بِمصْر نَائِبا من جِهَته حسام الدّين أَبَا عَليّ بن مُحَمَّد بن عَليّ المزباني، ثمَّ وصل الْأَشْرَف من مصر إِلَى حلب وَمَعَهُ خلعة وصناجق سلطانية من الْكَامِل، وأركب الْملك الْعَزِيز فِي دست السلطنة، وعمره عشر سِنِين، وَأرْسل الْأَشْرَف مِنْهَا عسكراً هدموا قلعة اللاذقية إِلَى الأَرْض.
(شَيْء من أَحْوَال غياث الدّين) : أخي جلال الدّين ابْني خوارزم شاه مُحَمَّد كَانَ لجلال الدّين أَخ يُقَال لَهُ غياث الدّين تيرشاه صَاحب كرمان، فَلَمَّا توجه جلال الدّين إِلَى

(2/141)


الْهِنْد حَسْبَمَا مر سنة سبع عشرَة تغلب غياث الدّين على الرّيّ وأصفهان وهمذان وَغَيرهَا من عراق الْعَجم، وَهِي بِلَاد الْجَبَل، فَخرج عَلَيْهِ خَاله طغان طابسني أكبر أمرائه، فاقتتلا فَانْهَزَمَ طغان طابسني وَأقَام غياث الدّين ببلاده منصوراً.
حَادِثَة غَرِيبَة

مَاتَ ملك الكرج فملكوا امْرَأَة بقيت من بَيت الْملك وَأرْسل مغيث الدّين طغرل بك شاه السلجوقي صَاحب أرزن الرّوم يخطبها فَأَبَوا إِلَّا أَن يتنصر فَأمر وَلَده فَسَار إِلَى الكرج فَتَنَصَّرَ وَتَزَوجهَا، وَكَانَت تهوى مَمْلُوكا لَهَا وتكاشر ابْن طغرل بك شاه فَدخل فِي وَقت فَوجدَ الْمَمْلُوك مَعهَا فِي الْفراش فَلم يصبر وَأنكر عَلَيْهَا فاعتقلت زَوجهَا فِي بعض القلاع، ثمَّ أحضرت رجلَيْنِ وَصفا لَهَا بالْحسنِ فَتزوّجت أَحدهمَا ثمَّ فارقته وأحضرت مُسلما من كنجة وهويته وَسَأَلته التنصر لتتزوج بِهِ فَلم يجبها.
وفيهَا: توفّي يُوسُف الْمُسْتَنْصر ملك الْمغرب بن مُحَمَّد النَّاصِر بن يَعْقُوب الْمَنْصُور بن يُوسُف بن عبد الْمُؤمن بعد أَن وَهن ملكه بانهماكه فِي اللَّذَّات وَلم يخلف ولدا فأقيم عَم أَبِيه عبد الْوَاحِد بن يُوسُف بن عبد الْمُؤمن، ولقب المستضيء، وَكَانَ قد صَار فَقِيرا بمراكش، وقاسى الدَّهْر فتنعم فِي المآكل والملابس من غير شرب خمر فَخلع بعد تِسْعَة أشهر وَقتل.
وَملك بعده ابْن أَخِيه عبد الله بن يَعْقُوب الْمَنْصُور بن يُوسُف بن عبد الْمُؤمن وتلقب بالعادل.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَعشْرين وسِتمِائَة: فِيهَا وصل التتر إِلَى قرب تبريز، وَأَرْسلُوا إِلَى أزبك بن البهلوان يَقُولُونَ لَهُ: إِن كنت فِي طاعتنا فَأرْسل من عنْدك من الخوارزمية إِلَيْنَا، فَقتل بعض الخوارزمية، وَأرْسل البَاقِينَ إِلَيْهِم مَعَ تقدمة فكفوا عَن بِلَاده وَرَجَعُوا إِلَى خُرَاسَان.
وفيهَا: استولى غياث الدّين تيرشاه أَخُو بِلَال الدّين بن خوارزم شاه على غَالب مملكة فَارس من صَاحبهَا الأتابك سعد بن زنكي، وَأقَام غياث الدّين بشيراز كرْسِي مملكة فَارس وَلم يبْق مَعَ الأتابك غير الْحُصُون المنيعة ثمَّ اصطلحا على أَن يكون لهَذَا بعض فَارس، وَلِهَذَا بَعْضهَا.
عصيان المظفر غَازِي بن الْعَادِل على أَخِيه الْأَشْرَف

كَانَ الْأَشْرَف قد أعْطى أَخَاهُ المظفر خلاط وَهِي إقليم أرمينية مملكة عَظِيمَة وَكَانَ بَين الْمُعظم عِيسَى وَبَين أَخَوَيْهِ الْكَامِل والأشرف وَحْشَة لترحيله عَن سلمية، وَقطع أطماعه عَن حماه، فَحسن الْمُعظم لِأَخِيهِ المظفر صَاحب خلاط الْعِصْيَان على الْأَشْرَف فعصى.
وَكَانَ قد اتّفق مَعَ الْمُعظم والمظفر غَازِي صَاحب إربل مظفر الدّين كوكبوري بن زين

(2/142)


الدّين على كجك، وَكَانَ بدر الدّين لُؤْلُؤ منتمياً إِلَى الْأَشْرَف فحصر مظفر الدّين صَاحب إربل صَاحب الْموصل عشرَة أَيَّام فِي جُمَادَى الأولى مِنْهَا ليشتغل الْأَشْرَف عَن قصد أَخِيه بخلاط ثمَّ رَحل عَن الْموصل لحصانتها فَلم يلْتَفت الْأَشْرَف إِلَى محاصرة الْموصل، وَسَار فحصر المظفر فَسلمت إِلَيْهِ مَدِينَة خلاط وانحصر المظفر فِي قلعتها وَنزل لَيْلًا إِلَى أَخِيه الْأَشْرَف معتذراً فَقبل عذره وَعفى عَنهُ وَأمره على ميافارقين واستعاد بَاقِي الْبِلَاد مِنْهُ وَذَلِكَ فِي جُمَادَى الْآخِرَة مِنْهَا.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وسِتمِائَة قلت: فِيهَا فِي سَابِع رَجَب توفّي زكي الدّين أَبُو الْقَاسِم هبة الله بن عبد الْوَاحِد بن رَوَاحَة الْحَمَوِيّ، وَقيل سنة ثَلَاث وَعشْرين وسِتمِائَة، وَهُوَ منشىء المدرستين الرواحيتين، بِدِمَشْق وحلب وَدفن بِدِمَشْق بمقابر الصُّوفِيَّة وَالله أعلم.
وفيهَا: قدم جلال الدّين من الْهِنْد بعد هربه من جنكيز خَان إِلَى كرمان، ثمَّ إِلَى أَصْبَهَان، وَاسْتولى على عراق الْعَجم، ثمَّ سَار وانتزع فَارس من أَخِيه غياث الدّين وأعادها إِلَى صَاحبهَا أتابك سعد وغياث الدّين مُطِيع لِأَخِيهِ جلال الدّين، ثمَّ استولى على خوزستان، وَكَانَت للخليفة النَّاصِر، ثمَّ قدم إِلَى بعقوبا فاستعدت بَغْدَاد للحصار، ونهبت الخوارزمية الْبِلَاد وامتلأوا مَغَانِم، وقوى جلال الدّين وَعَسْكَره الخوارزمية، ثمَّ قَارب إربل فَصَالحه صَاحبهَا مظفر الدّين، ثمَّ سَار فاستولى على تبريز كرْسِي مملكة أذربيجان وهرب صَاحبهَا مظفر الدّين أزبك بن البهلوان بن إيلدكز، وَكَانَ مَشْغُولًا بالشرب فهرب أزبك إِلَى كنجة من بِلَاد أران قريب من برذعة ومتاخمة الكرج.
واستفحل أَمر جلال الدّين بِملك أذربيجان، وَقَاتل الكرج وَهَزَمَهُمْ وتبعهم يقتل فيهم، وَاتفقَ أَنه ثَبت عِنْد قَاضِي تبريز طَلَاق أزبك بن البهلوان بنت السُّلْطَان طغرل بك آخر السلجوقية، فَتَزَوجهَا جلال الدّين، وَفتح عسكره كنجة، وهرب مظفر الدّين أزبك بن مُحَمَّد البهلوان من كنجة إِلَى قلعة هُنَاكَ ثمَّ هلك.
وفيهَا توفّي الْملك الْأَفْضَل: وَله سميساط فَقَط فَجْأَة وعمره سبع وَخَمْسُونَ وَكَانَ فَاضلا عادلاً شَاعِرًا لَكِن قَلِيل الْحَظ. وَفِي ذَلِك يَقُول:
(يَا من يسود شعره بخضابه ... لعساه من أهل الشبيبة يحصل)

(هَا فاختضب بسواد حظي مرّة ... وَلَك الْأمان بِأَنَّهُ لَا ينصل)

وَلما أخذت مِنْهُ دمشق كتب إِلَى صَاحب لَهُ:
(أَي صديق سَأَلت عَنهُ فَفِي ... الذل وَتَحْت الخمول فِي الوطن)

(وَأي ضد سَأَلت حَالَته ... سَمِعت مَا لَا تحبه أُذُنِي)

قلت: قد أذكرني هَذَا قولي:
(قَالَ بعض النَّاس إِنِّي ... فَاضل فِي الْعلم خامل)

(2/143)


(وَكَذَا الْفَاضِل مثلي ... عِنْد قسم الرزق فَاضل)

وَقَوْلِي:
(لَا تحرصن على فضل وَلَا أدب ... فقد يضر الْفَتى علم وَتَحْقِيق)

(وَاحْذَرْ تعد من العقال بَينهم ... فَإِن كَانَ قَلِيل الْعقل مَرْزُوق)

(والحظ أَنْفَع من خطّ تزوقه ... فَمَا يُفِيد قَلِيل الْحَظ تزويق)

(وَالْعلم يحْسب من رزق الْفَتى وَله ... بِكُل متسع فِي الْفضل تضييق)

(أهل الْفَضَائِل والآداب قد كسدوا ... والجاهلون فقد قَامَت لَهُم سوق)

(وَالنَّاس أَعدَاء من سَارَتْ فضائله ... فَإِن تعمق قَالُوا عَنهُ زنديق)

وَالله أعلم.
وفيهَا: فِي شَوَّال توفّي الإِمَام النَّاصِر لدين الله وخلافته سبع وَأَرْبَعُونَ سنة، وَعمي فِي آخر عمره، وَمَات بالدوسنطارية وعمره نَحْو سبعين سنة، وَكَانَ يتشيع وهمته إِلَى البندق والطيور والفتوة، وَقيل أَنه هُوَ الَّذِي كَاتب التتر ليشتغل بهم خوارزم شاه عَن الْعرَاق.
" وبويع ابْنه الظَّاهِر " بِأَمْر الله أَبُو نصر مُحَمَّد وَهُوَ الْخَامِس وَالثَّلَاثُونَ مِنْهُم وَعدل وأزال المكوس وَأطلق الحبوس وَظهر للنَّاس بِخِلَاف أَبِيه، وَلم تطل مدَّته غير تِسْعَة اشهر.
قلت: كَانَ جميل الصُّورَة أَبيض بحمرة شَدِيد القوى فِيهِ دين وعقل قيل لَهُ أَلا تتفسح وتتنزه فَقَالَ من فتح بعد الْعَصْر أيش يكْسب، وَكَانَ يَقُول الْجمع شغل النجار أَنْتُم إِلَى إِمَام فعال أحْوج مِنْكُم إِلَى إِمَام قَوَّال اتركوني افْعَل الْخَيْر فكم بقيت أعيش، وَقد فرق لَيْلَة الْعِيد فِي الْعلمَاء وَالصَّالِحِينَ مائَة ألف دِينَار، قَالَ ابْن الْأَثِير: لقد أظهر من الْعدْل وَالْإِحْسَان مَا أَحْيَا بِهِ سنة العمرين، وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَعشْرين وسِتمِائَة: فِيهَا نَازل الْمُعظم عِيسَى صَاحب دمشق حمص، ثمَّ رَحل عَنْهَا لِكَثْرَة موت الْخَيل، وَورد عَلَيْهِ الْأَشْرَف أَخُوهُ من الشرق طَالبا للصلح فَأكْرمه ظَاهرا وأسره بَاطِنا، وَأقَام عِنْده حَتَّى انْقَضتْ هَذِه السّنة.
وفيهَا: فتح السُّلْطَان جلال الدّين تفليس من الكرج ونازل خلاط فطال الْقِتَال وَبهَا نَائِب الْأَشْرَف الْحَاجِب حسام الدّين على الْموصل وَذَلِكَ فِي عشْرين ذِي الْعقْدَة ورحل عَنْهَا لسبع بَقينَ من ذِي الْحجَّة لِكَثْرَة الثَّلج.
وفيهَا: فِي رَابِع عشر رَجَب توفّي الْخَلِيفَة الظَّاهِر بِأَمْر الله مُحَمَّد بن النَّاصِر لدين الله كَانَ أَبوهُ شِيعِيًّا وَكَانَ هُوَ سنياً، كَانَ أَبوهُ جماعاً وَكَانَ هُوَ باذلاً، كَانَ أَبوهُ طَوِيل الْمدَّة وَكَانَ هُوَ قصير الْمدَّة، كَانَ لِأَبِيهِ صنجة زَائِدَة لقبض المَال فَخرج توقيع الظَّاهِر بإبطالها وأوله: {ويل لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذين إِذا اكتالوا على النَّاس يستوفون وَإِذا كالوهم أَو وزنوهم يخسرون} .
" وَتَوَلَّى الْخلَافَة بعده ابْنه الْأَكْبَر الْمُسْتَنْصر بِاللَّه " أَبُو جَعْفَر الْمَنْصُور وَهُوَ السَّادِس

(2/144)


وَالثَّلَاثُونَ مِنْهُم، فَعدل وَأحسن كأبيه، وَكَانَ لَهُ أَخ شُجَاع عَاشَ حَتَّى قَتله التتر بَغْدَاد.
قلت: وفيهَا مَاتَ إِمَام الدّين عبد الْكَرِيم مُحَمَّد بن عبد الْكَرِيم الرَّافِعِيّ الْقزْوِينِي مُصَنف الشَّرْح الْكَبِير وَالصَّغِير على الْوَجِيز وَالْمُحَرر ومصنف التذنيب على الشرحين، وَكَانَ مَعَ براعته فِي الْعُلُوم صَالحا زاهداً ذَا أَحْوَال وكرامات وعَلى شَرحه الْكَبِير الْيَوْم اعْتِمَاد الْمُفْتِينَ والحكام فِي الدُّنْيَا.
وفيهَا: فتح عَسْكَر عَلَاء الدّين كيقباد بن كيخسرو بن قلج أرسلان صَاحب الرّوم حصن مَنْصُور وحصن الكخنا وَكَانَا لصَاحب آمد.
وفيهَا: فِي نصف ذِي الْحجَّة نَازل جلال الدّين خلاط وَهِي للأشرف، وَبهَا نَائِبه الْحَاجة الْمَذْكُور منازلته الثَّانِيَة وأدركه الْبرد فَرَحل عَنْهَا.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَعشْرين وسِتمِائَة: والأشرف كالأسير مَعَ الْمُعظم أَخِيه، ثمَّ حلف للمعظم أَن يعاضده على أخيهما الْكَامِل وعَلى صَاحِبي حماه وحمص فَأَطْلقهُ فِي جُمَادَى الْآخِرَة بعد عشر أشهر، فَلَمَّا اسْتَقر الْأَشْرَف فِي بِلَاده تَأَول أيمانه الَّتِي حَلفهَا للمعظم بِأَنَّهَا يَمِين مكره، هَذَا والمعظم مُوَافق لجلال الدّين خوارزم شاه على حَرْب أَخَوَيْهِ الْكَامِل والأشرف، وَلما تحقق الْكَامِل اعتضاد أَخِيه الْمُعظم لجلال الدّين خَافَ من ذَلِك، وَكتب إِلَى الإينروز ملك الفرنج أَن يقدم إِلَى عكا ليشغل الْمُعظم عَمَّا هُوَ فِيهِ، ووعده بالقدس، فَسَار الاينروز إِلَى عكا، وَبلغ ذَلِك الْمُعظم، فكاتب الْأَشْرَف واستعطفه.
وفيهَا: انتزع الأتابك طغرل بك الشغر وبكاس من الصَّالح أَحْمد بن الظَّاهِر وعوضه عَنْهَا بعينتاب والراوندان.
وفيهَا: سَار الْحَاجِب حسام الدّين عَليّ نَائِب الْأَشْرَف بخلاط بعساكر الْأَشْرَف إِلَى بِلَاد جلال الدّين وَاسْتولى على خوي وسلماس ونقجوان.
وفيهَا: فِي ذِي الْقعدَة توفّي الْملك الْمُعظم عِيسَى بن الْعَادِل أبي بكر بن أَيُّوب بقلعة دمشق بالدوسنطاريا، وعمره تسع وَأَرْبَعُونَ، وَملكه دمشق تسع سِنِين وشهور.
وَكَانَ شجاعاً قَلِيل التَّكَلُّف يركب بِلَا صناجق غَالِبا بكلوته صفراء بِلَا شاش، ويخترق الْأَسْوَاق بِلَا مطرق بَين يَدَيْهِ حَتَّى صَار من فعل أمرا بِلَا تكلّف يُقَال فعله بالمعظمي.
وَعرف النَّحْو على الْكِنْدِيّ، وَالْفِقْه، على جمال الدّين الخضيري، وَكَانَ حنفياً متعصباً لمذهبه، وَكَانَ أهل بَيته شافعية سواهُ، وَولي بعده ابْنه الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين دَاوُد ودبر ملكه عز الدّين أيبك المعظمي، وَكَانَ لأيبك صرخد وأعمالها.

(2/145)


وَفَاة ملك الْمغرب وَمَا كَانَ بعده

فِيهَا خلع الْعَادِل عبد الله بن يَعْقُوب بن يُوسُف بن عبد الْمُؤمن وَفِي أَيَّامه كَانَت الْوَقْعَة مَعَ الفرنج الَّتِي هدت قَوَاعِد الْإِسْلَام بالأندلس، وَبعد خلعه خنق وَنهب المصموديون قصره بمراكش، واستباحوا حرمه.
وَملك بعده يحيى بن مُحَمَّد النَّاصِر بن يَعْقُوب الْمَنْصُور بن عبد الْمُؤمن وَمَا خطّ عذاره، فَبلغ يحيى أَن إِدْرِيس بن يَعْقُوب الْمَنْصُور أَخا الْعَادِل عبد الله أَقَامَ بأشبيلية وتلقب بالمأمون، فثارت جمَاعَة من مراكش وانضم إِلَيْهِم الْعَرَب ووثبوا على يحيى بن النَّاصِر فهرب إِلَى الْجَبَل ثمَّ قتل.
وخطب لِلْمَأْمُونِ إِدْرِيس بمراكش وَاسْتقر فِي الْخلَافَة ببر الأندلس وبر العدوة ثمَّ خرج عَلَيْهِ بشرق الأندلس المتَوَكل بن هود، وَاسْتولى على الأندلس فَسَار إِدْرِيس من أشبيلية وَعبر الْبَحْر إِلَى مراكش، وَخرجت الأندلس حِينَئِذٍ عَن بني عبد الْمُؤمن.
ثمَّ تتبع إِدْرِيس الخارجين على من تقدمه، فسفك دِمَاءَهُمْ حَتَّى سمي حجاج الْمغرب.
وَكَانَ أصولياً فروعياً ناظماً ناثراً، عمل رِسَالَة طَوِيلَة أفْصح فِيهَا بتكذيب مهديهم ابْن تومرت وضلاله وَأسْقط اسْمه من على المنابر.
ثمَّ ثار على إِدْرِيس أَخُوهُ بسبته فَسَار وحصره بهَا ثمَّ بلغه أَن بعض أَوْلَاد النصار بن يَعْقُوب الْمَنْصُور دخل مراكش فَرَحل إِلَى مراكش فَمَاتَ إِدْرِيس بَين سبتة ومراكش. وَملك بعده ابْنه عبد الْوَاحِد وتلقب بالرشيد، ثمَّ توفّي غريقاً فِي صهريج بستانه بِحَضْرَة مراكش سنة أَرْبَعِينَ وسِتمِائَة، وَكَانَ قد أعَاد اسْم الْمهْدي.
وَملك بعده أَخُوهُ عَليّ بن إِدْرِيس وتلقب بالمعتضد، وَكَانَ أسود مدحوضاً عِنْد أَبِيه سجنه وقتا وَقدم عَلَيْهِ أَخَاهُ الصَّغِير عبد الْوَاحِد وَاسْتمرّ المعتضد إِلَى أَن قتل فِي صفر سنة سِتّ وَأَرْبَعين وسِتمِائَة.
وَملك بعده أَبُو حَفْص عمر بن أبي إِبْرَاهِيم بن يُوسُف فِي ربيع الآخر سنة سِتّ وَأَرْبَعين وسِتمِائَة، وتلقب بالمرتضى فِي الْمحرم سنة خمس وَسِتِّينَ وسِتمِائَة وَدخل الواثق أَبُو الْعَلَاء إِدْرِيس الْمَعْرُوف بِأبي دبوس مراكش وهرب المرتضى إِلَى أزمور من نواحي مراكش، فَقبض وَقتل فِي الْعشْر الآخر من ربيع الآخر سنة خمس وَسِتِّينَ وسِتمِائَة فِي مَوضِع يُسمى كتامة عَن مراكش ثَلَاثَة أَيَّام، وَأقَام أَبُو دبوس ثَلَاث سِنِين، وَقتل فِي الْمحرم سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وسِتمِائَة فِي الحروب بَينه وَبَين مُلُوك تلمسان بني مرين.
وانقرضت دولة بني عبد الْمُؤمن وَاسْتولى بَنو مرين على ملكهم وَاخْتلف فِي أبي دبوس فَقيل هُوَ إِدْرِيس نَفسه بن عبد الله بن يَعْقُوب بن يُوسُف بن عبد الْمُؤمن، وَقيل هُوَ ابْن إِدْرِيس الْمَأْمُون.

(2/146)


ثمَّ دخلت سنة خمس وَعشْرين وسِتمِائَة: فِيهَا عاود التتر بِلَاد جلال الدّين خوارزم شاه وَجَرت بَينهم حروب ظفر التتر فِي أَكْثَرهَا.
وفيهَا: قدم الإمبراطور فردريك إِلَى عكا بجموعه أرسل الْكَامِل فَخر الدّين بن الشَّيْخ يستدعيه إِلَى الشَّام بِسَبَب أَخِيه الْمُعظم فوصل وَقد مَاتَ الْمُعظم فنشب بِهِ الْكَامِل، وَاسْتولى على صيدا وَكَانَت مُنَاصَفَة، وَعمر سورها الخراب وَمعنى الإمبراطور بالفرنجية ملك الْأُمَرَاء
وَكَانَ صَاحب جَزِيرَة صقلية وَمن الْبر الطَّوِيل بِلَاد انبولية والأنبردية، وَكَانَ إفرنجياً فَاضلا محباً للحكمة والمنطق مائلاً إِلَى الْمُسلمين لِأَن منشأه بِجَزِيرَة صقلية وغالبها مُسلمُونَ.
وجاءه القَاضِي جمال الدّين بن وَاصل رَسُولا من الْملك الظَّاهِر بيبرس وَرَأى تِلْكَ الْبِلَاد، وَمَا زَالَت الرُّسُل بَين الْكَامِل والإمبراطور حَتَّى خرجت السّنة.
وفيهَا: بعد فرَاغ جلال الدّين من التتر نهب بِلَاد خلاط وَقتل وَخرب.
وفيهَا: خَافَ غياث الدّين تير شاه أَخَاهُ جلال الدّين ففارقه إِلَى الإسماعيلية.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَعشْرين وسِتمِائَة: فِيهَا بلغ النَّاصِر دَاوُد وَهُوَ مُقيم بنابلس اتِّفَاق أَخَوَيْهِ الْكَامِل والأشرف على أَخذ دمشق مِنْهُ، وَكَانَ قد أخرجه الْأَشْرَف إِلَى نابلس ليشفع فِيهِ عِنْد الْكَامِل، فَرَحل النَّاصِر دَاوُد إِلَى دمشق وَكَانَ قد لحقه عَمه الْأَشْرَف بالغور ووصاه بِطَاعَة الْكَامِل فَلم يلْتَفت النَّاصِر دَاوُد إِلَى ذَلِك، وَسَار الْأَشْرَف فِي أَثَره وحصره بِدِمَشْق والكامل مشتغل بمراسلة الإمبراطور، وَلما لم يجد الْكَامِل بدا من المهادنة سلم الْقُدس إِلَى الإمبراطور على أَن يسْتَمر سوره خراباً، وَلَا يتَعَرَّض إِلَى قبَّة الصَّخْرَة وَلَا الْجَامِع الْأَقْصَى وَيكون الْحَاكِم فِي الرساتيق إِلَى وَالِي الْمُسلمين، وَتَكون لَهُم الْقرى على الطَّرِيق من عكا إِلَى الْقُدس فَقَط.
فَأخذ النَّاصِر دَاوُد وَهُوَ بِدِمَشْق محصوراً فِي التشنيع على عَمه بذلك وَكَانَ بِدِمَشْق شمس الدّين يُوسُف سبط أبي الْفرج بن الْجَوْزِيّ، وَكَانَ واعظاً وَله قبُول فَأمره النَّاصِر فَعمل مجْلِس وعظ ذكر فِيهِ فضل بَيت الْمُقَدّس ومصيبة الْمُسلمين بِتَسْلِيمِهِ إِلَى الفرنج.
وَأنْشد قصيدة دعبل الْخُزَاعِيّ مِنْهَا:
(مدارس آيَات خلت من تِلَاوَة ... ومنزل وَحي مقفر العرصات)

فارتفع بكاء النَّاس وضجيجهم، وَسلم الْكَامِل الْقُدس إِلَى الفرنج وَسَار إِلَى دمشق يحاصر ابْن أَخِيه فِي جُمَادَى الأولى مِنْهَا، وَاشْتَدَّ الْحصار على دمشق وَوصل رَسُول الْملك الْعَزِيز صَاحب حلب يخْطب بنت الْكَامِل فَزَوجهُ ابْنَته فَاطِمَة خاتون من السَّوْدَاء أم وَلَده أبي بكر الْعَادِل بن الْكَامِل.

(2/147)


ثمَّ استولى الْكَامِل على دمشق وَعوض النَّاصِر دَاوُد عَنْهَا بالكرك والبلقاء والصلت والأغوار والشوبك، وَأخذ الْكَامِل لنَفسِهِ الْبِلَاد الشرقية الَّتِي عينت للناصر وَهِي حران والرها وَغَيرهمَا الَّتِي كَانَت بيد الْأَشْرَف، وَأَعْطَاهُ دمشق.
وفيهَا: توفّي الْملك المسعود بن الْكَامِل بن الْعَادِل الْمَعْرُوف بأقسيس صَاحب الْيمن مرض بهَا، وَسَار إِلَى مَكَّة وَهِي لَهُ، فَمَاتَ وَدفن بالمعلاة وعمره سِتّ وَعِشْرُونَ سنة، وَملكه أَربع عشرَة سنة، وَبلغ ذَلِك أَبَاهُ وَهُوَ محاصر دمشق فَجَلَسَ للعزاء وَترك المسعود ابْنا صَغِيرا اسْمه يُوسُف بَقِي حَتَّى مَاتَ فِي سلطنة عَمه الصَّالح أَيُّوب صَاحب مصر وَترك ابْنه مُوسَى ولقب بالأشرف وَهُوَ الَّذِي أَقَامَهُ التّرْك فِي ملك مصر بعد قتل الْمُعظم بن الصَّالح بن الْكَامِل كَمَا سَيَأْتِي.
وفيهَا: أرسل الْأَشْرَف مَمْلُوكه الْأَمِير عز الدّين أيبك الأشرفي إِلَى خلاط فَقبض على عَليّ الْحَاجِب على الْموصل وَقَتله، وَهَذَا الْحَاجِب حسام الدّين عَليّ بنى الخان الَّذِي بَين حران ونصيبين والخان الَّذِي بَين حمص ودمشق الْمَعْرُوف بخان بربخ الْعَطش وهرب للحاجب مَمْلُوك لما قتل وَلحق بِجلَال الدّين فَلَمَّا ملك جلال الدّين خلاط سلم أَبِيك إِلَيْهِ فَقتله بأستاذه.