تاريخ ابن الوردي
اسْتِيلَاء الْعَزِيز بن الظَّاهِر على
شيزر
كَانَت شيزر شهَاب الدّين يُوسُف بن مَسْعُود بن عُثْمَان بن الداية
وَعُثْمَان هَذَا وَإِخْوَته من أكَابِر أُمَرَاء نور الدّين بن زنكي.
ثمَّ اعتقل الصَّالح إِسْمَاعِيل بن نور الدّين سَابق الدّين عُثْمَان
الْمَذْكُور وشمس الدّين أَخَاهُ، فَجعل صَلَاح الدّين ذَلِك حجَّة
لقصد الشَّام وانتزاعه من الصَّالح، فاتصل أَوْلَاد الداية بِخِدْمَة
صَلَاح الدّين أُمَرَاء، وَأقر صَلَاح الدّين عُثْمَان على أقطاعه سيزر
وزاده أَبَا قبيس لما قتل صَاحبهَا خمار دُكَيْن.
ثمَّ ملك شيزر بعده ابْنه مَسْعُود بن عُثْمَان حَتَّى مَاتَ وَصَارَت
لِابْنِهِ شهَاب الدّين يُوسُف إِلَى هَذِه السّنة، فَسَار الْعَزِيز
بِأَمْر الْكَامِل وحاصرها وساعده المظفر صَاحب حماه، فسلمها شهَاب
الدّين إِلَى الْعَزِيز، وَنزل إِلَيْهِ وهنأه يحيى بن خَالِد
القيسراني بقوله:
(يَا مَالِكًا عَم أهل الأَرْض نائلة ... وَخص إحسانه الداني مَعَ
القَاضِي)
(لما رَأَتْ شيزر آيَات نصرك فِي ... أرجائها أَلْقَت العَاصِي إِلَى
العَاصِي)
قلت:
(وحاصرها الْعَزِيز حِصَار فتح ... وَعز بِأَخْذِهِ الْحصن المنيعا)
(وظنوا بالعزيز الْعَجز عَنْهَا ... فجَاء إِلَيْهِ عاصيها مُطيعًا)
وَالله أعلم.
وفيهَا: حاصر المظفر صَاحب حماه أَخَاهُ النَّاصِر ببارين بِأَمْر
الْعَادِل خوفًا من أَن يُسَلِّمهَا للفرنج لضَعْفه عَنْهُم، وانتزعها
مِنْهُ وأكرمه وَسَأَلَهُ الْإِقَامَة عِنْده بحماه، فَامْتنعَ وَسَار
إِلَى مصر فأقطعه الْكَامِل إقطاعاً جَلِيلًا، وَأطلق لَهُ أَمْلَاك
جده بِدِمَشْق ثمَّ بدا مِنْهُ كَلَام فاعتقله الْكَامِل إِلَى أَن
مَاتَ النَّاصِر قلج أرسلان سنة خمس وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة قبل موت
الْكَامِل بأيام.
وفيهَا: توفّي مظفر الدّين كوكبوري بن زين الدّين عَليّ كجك وَلم يكن
لَهُ ولد، فوصى ببلاده للخليفة الْمُسْتَنْصر فتسلمها بعده، وَكَانَ
عسوفاً فِي اسْتِخْرَاج المَال، ويحتفل بمولده النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَينْفق عَلَيْهِ الْأَمْوَال الجليلة.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة: فِيهَا فِي الْمحرم
توفّي شهَاب الدّين طغرل بك الأتابك بحلب.
قلت: وَله أوقاف مبرورة وواقعته مَعَ الشَّيْخ نَبهَان بن غيار
الحبريني العَبْد الصَّالح مَشْهُورَة، وَالله أعلم.
(2/155)
وفيهَا: تعرض كيقباذ صَاحب الرّوم إِلَى
بِلَاد خلاط فقصده الْملك الْكَامِل بعساكره من مصر، وَنزل على النَّهر
الْأَزْرَق فِي حُدُود بِلَاد الرّوم وَقد ضربت فِي عسكره سِتَّة عشر
دهليزاً لسِتَّة عشر ملكا فِي خدمته، مِنْهُم إخْوَته الْأَرْبَعَة:
الْأَشْرَف مُوسَى صَاحب دمشق، والمظفر غَازِي صَاحب ميافارقين،
والحافظ أرسلان شاه صَاحب قلعة جعبر، والصالح إِسْمَاعِيل، والمعظم
توران شاه بن صَلَاح الدّين مقدما على عَسْكَر حلب أرْسلهُ ابْن أَخِيه
الْعَزِيز، والزاهر دَاوُد بن صَلَاح الدّين صَاحب البيرة، وَأَخُوهُ
الْأَفْضَل مُوسَى صَاحب سميساط ملكهَا بعد أَخِيه الْأَفْضَل عَليّ،
والمظفر صَاحب حماه، والصالح أَحْمد صَاحب عينتاب ابْن الظَّاهِر،
وَصَاحب حلب والناصر دَاوُد صَاحب الكرك بن الْمُعظم عِيسَى بن
الْعَادِل، والمجاهد شيركوه صَاحب حمص بن مُحَمَّد بن شيركوه، وَلم
يتَمَكَّن السُّلْطَان من دُخُول الرّوم من جِهَة النَّهر الْأَزْرَق
لحفظ رجال كيقباذ الدربندات وَأرْسل السُّلْطَان بعض الْعَسْكَر إِلَى
حصن مَنْصُور من بِلَاد كيقباذ فهزموه فَقطع السُّلْطَان الْفُرَات
وَسَار إِلَى السويدا، وَقدم جاليشه نَحْو الفين وَخَمْسمِائة فَارس
مَعَ المظفر صَاحب حماه فَسَار المظفر بهم إِلَى خرت برت، وَسَار
كيقباذ ملك الرّوم إِلَيْهِم واقتتلوا فَانْهَزَمَ الجاليش المذكورون،
وانحصر المظفر صَاحب حماه فِي خرت برت فِي جمَاعَة، وجد كيقباذ فِي
حصارهم والكامل بالسويدا، وَقد أحس بمخامرة الْمُلُوك الَّذين مَعَه
وتقاعدهم، فَإِن شيركوه صَاحب حمص سعى إِلَيْهِم وَقَالَ إِن
السُّلْطَان ذكر إِنَّه مَتى ملك الرّوم فرقه على مُلُوك بَيته، وينفرد
بِملك الشَّام ومصر ففسدت نياتهم لذَلِك فأحجم الْكَامِل عَن كيقباذ
ودام الْحصار على المظفر فَطلب الْأمان فَأَمنهُ كيقباذ وأكرمه وخلع
عَلَيْهِ وتسلم خرت وبرت من صَاحبهَا من الارتفيه، وَأطلق كيقباذ
المظفر بعد يَوْمَيْنِ وَسَار من عِنْده لخمس بَقينَ من ذِي الْقعدَة
مِنْهَا إِلَى الْكَامِل بالسويدا من بلد آمد ففرح بِهِ وطلق الْكَامِل
ابْنَته من النَّاصِر دَاوُد صَاحب الكرك لقُوَّة الوحشة مِنْهُ.
وفيهَا تمّ بِنَاء قلعة المعرة وَكَانَ سيف الدّين عَليّ بن أبي عَليّ
المزباني قد أَشَارَ على الْملك المظفر صَاحب حماه ببنائها وشحنها
بِالرِّجَالِ وَالسِّلَاح وَلم يكن ذَلِك مصلحَة للحمويين، فَإِن
الحلبيين حاصروها بعد، وأخذوها وَخَربَتْ المعرة بِسَبَبِهَا.
وفيهَا: توفّي سيف الدّين الْآمِدِيّ عَليّ بن أبي عَليّ بن مُحَمَّد
بن سَالم التغلبي وَكَانَ حنبلياً وَصَارَ شافعياً، وبرع فِي العقليات
وصنف فِيهَا وَفِي أصُول الْفِقْه وَالدّين مصنفات، وتصدر بِمصْر فِي
الْجَامِع والمدرسة الملاصقة لتربة الشَّافِعِي وَحصل عَلَيْهِ تحامل
وَكتب محْضر بانحلال عقيدته وبالفلسفة وأحضروه لبَعض الْفُضَلَاء ليكتب
خطه أُسْوَة الْجَمَاعَة فَكتب:
(حسدوا الْفَتى إِذْ لم ينالوا سَعْيه ... فالقوم أَعدَاء لَهُ وخصوم)
فاستتر الْآمِدِيّ، ثمَّ قدم حماه ثمَّ قدم دمشق وَبهَا توفّي، ومولده
سنة إِحْدَى وَخمسين وَخَمْسمِائة.
(2/156)
وفيهَا: توفّي الصّلاح الإربلي فَاضل
شَاعِر محظي عِنْد الْملكَيْنِ الْكَامِل والأشرف ابْني الْعَادِل.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة: فِيهَا عَاد
الْكَامِل من الشرق إِلَى مصر وكل ملك إِلَى بَلَده للتخاذل الَّذِي
تقدم.
وفيهَا: توفّي الْملك الزَّاهِر دَاوُد صَاحب البيرة بن السُّلْطَان
صَلَاح الدّين مرض فِي الْعَسْكَر وَحمل إِلَى البيرة وَتُوفِّي بهَا،
وملكها بعده ابْن أَخِيه الْملك الْعَزِيز صَاحب حلب والزاهر شَقِيق
الظَّاهِر صَاحب حلب.
وفيهَا: توفّي القَاضِي بهاء الدّين يُوسُف بن رَافع بن تَمِيم بن
شَدَّاد، وَلَيْسَ فِي آبَائِهِ شَدَّاد، وَقد يكون فِي نسب أمه،
فاشتهر بِهِ أَصله من الْموصل.
وَكَانَ قَاضِي عَسْكَر صَلَاح الدّين، وَتُوفِّي صَلَاح الدّين وَعمر
القَاضِي نَحْو خمسين سنة، ونال عِنْد أَوْلَاد صَلَاح الدّين وَعند
الأتابك طغرل بك منزلَة قل أَن تنَال، وَصَارَ قَاضِي حلب، وأقطعه
الْعَزِيز فِي السّنة مَا يزِيد على مائَة ألف دِرْهَم، وَكَانَ فَاضلا
دينا.
قلت: وَعمر بحلب دَار حَدِيث ومدرسة متلاصقتين، وَجعل تربته بَينهمَا،
فَقَالَ بعض النَّاس: هَذِه تربة بَين روضتين، وَرَجا أَن تشمله بركَة
الْعلم مَيتا كَمَا شملته حَيا وَأَن يكون فِي قَبره من سَماع الحَدِيث
وَالْفِقْه بَين الرّيّ والريا.
(رُبمَا أنعش الْمُحب عيان ... من بعيد أَو زورة من خيال)
(أَو حَدِيث وَإِن أُرِيد سواهُ ... فسماع الحَدِيث نوع وصال)
وَالله أعلم.
وفيهَا: ولد الْملك الْمَنْصُور مُحَمَّد بن الْملك المظفر صَاحب حماه
فِي يَوْم الْخَمِيس لليلتين بَقِيَتَا من ربيع الأول وَقد قدم المظفر
من خدمَة الْملك الْكَامِل قبله بيومين فَقَالَ الشَّيْخ شرف الدّين
عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد مهنئاً بقدوم الْوَالِد وَالْولد فِي قصيدة
طَوِيلَة مِنْهَا:
(غَدا الْملك محروس الذرى وَالْقَوَاعِد ... بأشرف مَوْلُود لأشرف
وَالِد)
(حبينا بِهِ يَوْم الْخَمِيس كَأَنَّهُ ... خَمِيس بدا للنَّاس فِي شخص
وَاحِد)
(وسميته باسم النَّبِي مُحَمَّد ... وجديه فاستوفى جَمِيع المحامد)
اسْم جديه الْكَامِل مُحَمَّد وَالِد والدته، والمنصور صَاحب حماه
وَالِد وَالِده وَمِنْهَا:
(كَأَنِّي بِهِ فِي غَزَّة الْملك جَالِسا ... وَقد سَاد فِي أَوْصَافه
كل سائد)
(ووافاك من أبنائه وبنيهم ... بأنجم سعد نورها غير خامد)
(أَلا أَيهَا الْملك المظفر دَعْوَتِي ... سيورى بهَا زندي ويشتد
ساعدي)
(هَنِيئًا لَك الْملك الَّذِي بقدومه ... ترحل عَنَّا كل هم معاود)
وفيهَا: حصر كيقباذ صَاحب الرّوم حران والرها، وملكهما من الْملك
الْكَامِل بعد عوده.
(2/157)
وفيهَا: توفّي بِالْقَاهِرَةِ الْقَاسِم بن
عمر بن الْحَمَوِيّ الْمصْرِيّ الدَّار ابْن الفارض، وَله أشعار
جَيِّدَة، مِنْهَا التائية على طَريقَة التصوف نَحْو سِتّمائَة بَيت.
قلت وفيهَا: توفّي الشَّيْخ شهَاب الدّين السهروردي أَبُو حَفْص عمر بن
مُحَمَّد بن عبد الله بن عموية وَهُوَ عبد الله بن سعد بن الْحُسَيْن
بن الْقَاسِم بن سعد بن النَّضر بن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم بن
مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنْهُم.
وَكَانَ شَيخا صَالحا ورعاً فَقِيها شافعياً كثير الِاجْتِهَاد فِي
الْعِبَادَة والرياضة وَتخرج عَلَيْهِ خلق كثير من الصُّوفِيَّة فِي
المجاهدة وَالْخلْوَة، مِنْهُم شَيخنَا الْعَارِف ذُو الْفَضَائِل
والكرامات تَاج الدّين جَعْفَر بن مَحْمُود بن سيف السراج الْحلَبِي،
وَسَيَأْتِي ذكر إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
صحب الشَّيْخ شهَاب الدّين عَمه أَبَا النجيب عبد القاهر بن عبد الله
بن مُحَمَّد بن عمويه التَّيْمِيّ الْبكْرِيّ وَأخذ عَنهُ التصوف
والوعظ، وَالشَّيْخ محيي الدّين عبد الْقَادِر بن أبي صَلَاح الجيلي
وَانْحَدَرَ إِلَى الْبَصْرَة إِلَى الشَّيْخ أبي مُحَمَّد بن عبدون
وَرَأى غَيره من الشُّيُوخ.
وَقَرَأَ الْفِقْه وَالْخلاف وَالْأَدب، وَصَارَ شيخ الشُّيُوخ
بِبَغْدَاد، وَكَانَ لَهُ فِي الْوَعْظ نفس مبارك، أنْشد يَوْمًا على
الْكُرْسِيّ وَإِن كَانَ الشَّيْخ عبد الْقَادِر قد أنْشد ذَلِك قبله:
(لَا تَسْقِنِي وحدي فَمَا عودتني ... إِنِّي أشح بهَا على جلاسي)
(أَنْت الْكَرِيم وَلَا يَلِيق تكرما ... أَن يعبر الندماء دور الكاس)
فتواجد النَّاس لذَلِك وَقطعت شُعُور كَثِيرَة وَتَابَ جمع كثير، وَله
تآليف حَسَنَة مِنْهَا عوارف المعارف.
وَمن شعره:
(تصرمت وَحْشَة اللَّيَالِي ... وَأَقْبَلت دولة الْوِصَال)
(وَصَارَ بالوصل لي حسوداً ... من كَانَ فِي هجركم رثي لي)
(وحقكم بعد إِذْ حصلتم ... بِكُل مَا فَاتَ لَا أُبَالِي)
(تقاصرت عَنْكُم قُلُوب ... فيا لَهُ مورداً حلالي)
(عَليّ مَا للورى حرَام ... وحبكم فِي الحشا جلالي)
(تشربت أعظمي هواكم ... فَمَا لغير الْهوى وَمَالِي)
(وَمَا على عادم أجاجا ... وَعِنْده أعين الزلَال)
قَالَ ابْن خلكان: حكى لي من حضر مَجْلِسه ذَلِك كُله، قَالَ:
وَرَأَيْت جمَاعَة مِمَّن حَضَرُوا مَجْلِسه وقعدوا فِي حَضرته وتسليكه
كجاري عادي الصُّوفِيَّة وَكَانُوا يحكون غرائب مَا يجْرِي لَهُم من
الْأَحْوَال وَمَا يطْرَأ عَلَيْهِم من الخارقات، وَكَانَ كثير الْحَج
وَرُبمَا جاور فِي بعض حججه.
وَكَانَ مَشَايِخ عصره يَكْتُبُونَ إِلَيْهِ من الْبِلَاد فَتَاوَى
يسألونه عَن شَيْء من أَحْوَالهم، كتب إِلَيْهِ بَعضهم: يَا سَيِّدي
إِن تركت الْعَمَل أخلدت إِلَى البطالة وَإِن عملت داخلني الْعجب.
(2/158)
فَكتب جَوَابه اعْمَلْ واستغفر الله
تَعَالَى من الْعجب وَله من هَذَا شَيْء كثير وكراماته مَجْمُوعَة.
وَأما عَمه الشَّيْخ أَبُو النجيب عبد القاهر فَكَانَ شيخ وقته
بالعراق، ولد بسهرورد سنة تسعين وَأَرْبَعمِائَة تَقْرِيبًا، وَقدم
بَغْدَاد وتفقه بالنظامية على اِسْعَدْ الميهني وَغَيره.
ثمَّ سلك طَرِيق الصُّوفِيَّة وَانْقطع عَن النَّاس مُدَّة مديدة، وبذل
الْجهد فِي الْعَمَل، ثمَّ رَجَعَ ودعا النَّاس إِلَى الله فَرجع
بِسَبَبِهِ خلق كثير إِلَى الله تَعَالَى، وَبنى رِبَاطًا على الشط من
الْجَانِب الغربي بِبَغْدَاد، وسكنه جمَاعَة من أَصْحَابه، ثمَّ ندب
إِلَى التدريس بالنظامية سنة خَمْسَة وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة فِي
الْمحرم فَأجَاب وَظَهَرت بركته على تلامذته، ثمَّ تَركهَا سنة سبع
وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة، وَقدم الْموصل مجتازاً إِلَى الْقُدس سنة
سبع وَخمسين وَخَمْسمِائة، وَعقد بالجامع الْعَتِيق مجَالِس الْوَعْظ،
ثمَّ وصل دمشق وَلم يتَّفق لَهُ الزِّيَارَة لانفساخ الْهُدْنَة مَعَ
الفرنج خذلهم الله تَعَالَى فَأكْرم الْعَادِل نور الدّين مورده وَعقد
بِدِمَشْق مجْلِس الْوَعْظ، وَعَاد إِلَى بَغْدَاد، وَتُوفِّي بهَا
يَوْم الْجُمُعَة وَقت الْعَصْر سَابِع عشر جمادي الْآخِرَة سنة ثَلَاث
وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة وكراماته مَشْهُورَة مَجْمُوعَة وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة: فِيهَا سَار النَّاصِر
دَاوُد من الكرك إِلَى بَغْدَاد إِلَى الْخَلِيفَة الْمُسْتَنْصر خوفًا
من عَمه الْكَامِل وَقدم لَهُ تحفاً وجواهر نفيسة فَأكْرمه
الْمُسْتَنْصر وخلع عَلَيْهِ وعَلى أَصْحَابه.
وَكَانَ يظنّ أَن الْخَلِيفَة يستحضره فِي الْمَلأ، كَمَا استحضر مظفر
الدّين صَاحب إربل، والح فِي ذَلِك فَلم يجبهُ، فمدح الْمُسْتَنْصر
بِقَصْدِهِ وَعرض بذلك مِنْهَا:
(فَأَنت الإِمَام الْعدْل والمعرق الَّذِي ... بِهِ شرفت أنسابه
ومناصبه)
(أيحسن فِي شرع الْمَعَالِي ودينها ... وَأَنت الَّذِي تعزى إِلَيْك
مذاهبه)
(بِأَنِّي أخوض الدو والدو مقفر ... سباريته مغبرة وسباسبه)
(وَقد رصد الْأَعْدَاء لي كل مرصد ... فكلهم نحوي تدب عقاربه)
(وتسمح لي بِالْمَالِ والجاه بغيتي ... وَمَا الجاه إِلَّا بعض مَا
أَنْت واهبه)
(ويأتيك غَيْرِي من بِلَاد قريبَة ... لَهُ الْأَمْن فِيهَا صَاحب لَا
يجانبه)
(فَيلقى دنواً مِنْك لم ألق مثله ... ويحظى وَمَا أحظى بِمَا أَنَّك
طَالبه)
(وَينظر من لألاء قدسك نظرة ... فَيرجع والنور الإمامي صَاحبه)
(وَلَو كَانَ يعلوني بِنَفس ورتبة ... وَصدق وَلَاء لست فِيهِ أصاقبه)
(لَكُنْت أسلي النَّفس عَمَّا أرومه ... وَكنت أذود الْعين عَمَّا
أراقبه)
(وَلكنه مثلي وَلَو قلت إِنَّنِي ... أَزِيد عَلَيْهِ لم يعب ذَاك
عائبه)
(وَمَا أَنا مِمَّن يمْلَأ المَال عينه ... وَلَا بسوى التَّقْرِيب
تقضي مآربه)
وَكَانَ الْخَلِيفَة متوقفاً عَن استحضاره رِعَايَة للْملك الْكَامِل
فَجمع بَين المصلحتين واستحضره لَيْلًا ثمَّ عَاد إِلَى الكرك.
(2/159)
وفيهَا سَار الْكَامِل من مصر واسترجع حران
والرها من يَد كيقباذ، وَأرْسل نواب كيقباذ مقيدين إِلَى مصر، فاستقبح
ذَلِك مِنْهُ ثمَّ قدم دمشق وَأقَام عِنْد أَخِيه الْأَشْرَف حَتَّى
خرجت السّنة.
وفيهَا: توفّي شرف الدّين مُحَمَّد بن نصر بن عنين الزرعي شَاعِر مفلق،
هجاء لَهُ مقراض الْأَعْرَاض مَا سلم بِدِمَشْق مِنْهُ كَبِير، ونفاه
صَلَاح الدّين إِلَى الْيمن فمدح صَاحبهَا طغتكين بن أَيُّوب فَحصل
لَهُ مِنْهُ أَمْوَال إتجر بهَا إِلَى مصر وصاحبها الْعَزِيز عُثْمَان
بن صَلَاح الدّين وَأخذت بهَا زَكَاة تِجَارَته فَقَالَ:
(مَا كل من يُسمى بالعزيز لَهَا ... أَهلا وَلَا كل برق سحبه غدق)
(بَين العزيزين بون فِي فعالهما ... هذاك يعْطى وَهَذَا يَأْخُذ
الصَّدَقَة)
قلت: وَطَاف ابْن عنين بِلَاد الشَّام وَالْعراق والجزيرة وأذربيجان
وخراسان وغزنة وخوارزم وَمَا وَرَاء النَّهر واليمن والهند.
وَكتب من الْهِنْد إِلَى أَخِيه بِدِمَشْق هذَيْن الْبَيْتَيْنِ،
وَالثَّانِي مِنْهُمَا لأبي الْعَلَاء المعري:
(سامحت كتبك فِي القطيعة عَالما ... أَن الصَّحِيفَة لم تَجِد من
حَامِل)
(وعذرت طيفك فِي الْجفَاء لِأَنَّهُ ... يسري فَيُصْبِح دُوننَا
بمراحل)
وَمَات صَلَاح الدّين وَملك الْعَادِل دمشق فِي عيبته فَقدم دمشق وَكتب
إِلَى الْعَادِل يَسْتَأْذِنهُ فِي دُخُولهَا:
(مَاذَا على طيف الْأَحِبَّة لَو سرى ... وَعَلَيْهِم لَو سامحوني
بالكرى)
وَوصف منتزهات دمشق ثمَّ قَالَ:
(فارقتها لَا عَن رضى وهجرتها ... لَا عَن قلى ورحلت لَا متحيرا)
(أسعى لرزق فِي الْبِلَاد مشتت ... وَمن الْعَجَائِب أَن يكون مقتراً)
(وأصون وَجه مدائحي متقنعاً ... وأكف ذيل مطامعي متستراً)
(أَشْكُو إِلَيْك نوى تَمَادى عمرها ... حَتَّى حسبت الْيَوْم مِنْهَا
أشهراً)
(لَا عيشتي تصفو وَلَا رسم الْهوى ... يعْفُو وَلَا جفني يصافحه
الْكرَى)
(وَمن الْعَجَائِب أَن يقتل بظلكم ... كل الورى ونبذت وحدي بالعرا)
وَولي الوزارة بِدِمَشْق فِي آخر دولة الْمُعظم، وَمُدَّة ولَايَة
ابْنه النَّاصِر وَلما ملكهَا الْأَشْرَف انْفَصل وَلم يُبَاشر بعْدهَا
خدمَة، وَدفن بِمَسْجِد أنشأه بِأَرْض المزة بِكَسْر الْمِيم، وَالله
أعلم.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة: فِيهَا عَاد الْكَامِل
إِلَى مصر.
وفيهَا: فِي ربيع الأول توفّي الْملك الْعَزِيز مُحَمَّد بن الظَّاهِر
غَازِي بن صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب بحلب وعمره ثَلَاث
وَعِشْرُونَ سنة وشهور وَملك بعده ابْنه النَّاصِر يُوسُف، وعمره نَحْو
سبع سِنِين، وَدبره شمس الدّين لُؤْلُؤ وَعز الدّين عمر بن مجلى وجمال
الدولة اقبال الخاتوني والمرجع إِلَى أم الْعَزِيز ضيفة خاتون بنت
الْعَادِل.
(2/160)
وفيهَا توفّي كيقباذ: عَلَاء الدّين بن
كيخسرو صَاحب الرّوم وَملك بعده ابْنه غياث الدّين كيخسرو بن كيقباذ بن
كيخسرو بن قلج أرسلان بن مَسْعُود بن قلج أرسلان بن سُلَيْمَان بن
قطلمش بن أرسلان بن سلجوق.
وفيهَا: دخل النَّاصِر دَاوُد صَاحب الكرك مصر، وَصَارَ مَعَ الْكَامِل
على مُلُوك الشَّام فجدد عقده على ابْنَته مطلقته عَاشُورَاء، وأركبه
بصناجق سلطانية، ووعده بِدِمَشْق، وَحمل الْعَادِل أَبُو بكر بن
الْكَامِل الغاشية بَين يَدَيْهِ وَبَالغ فِي إكرامه.
وفيهَا: حاصر توران شاه عَم الْعَزِيز بعسكر حلب بغراس وَقد عمرتها
الداودية بعد تخريب صَلَاح الدّين لَهَا، ثمَّ رحلوا عَنْهَا بِسَبَب
الْهُدْنَة مَعَ صَاحب أنطاكية، ثمَّ أغار الفرنج على ربض دير ساك
وَهُوَ بحلب، وَقَاتلهمْ الْعَسْكَر، فانكسر الفرنج وَأسر وَقتل فيهم،
وَعَاد الْعَسْكَر بالأسرى والرؤوس وَكَانَت وقْعَة عَظِيمَة.
وفيهَا: استخدم الصَّالح أَيُّوب بن الْكَامِل وَهُوَ بالشرق يَنُوب
عَن أَبِيه الخوارزمية عَسْكَر جلال الدّين منكرتي فَإِنَّهُم بعد قتل
جلال الدّين خدموا كيقباذ وَفِيهِمْ مقدمون مثل بَركت خَان وكشلو خَان
وصارو خَان وفرخ خَان ويزدي خَان، فَلَمَّا تولى كيخسرو بن كيقباذ قبض
على كَبِيرهمْ بَركت خَان ففارقه الخوارزمية وَسَارُوا عَن الرّوم
ونهبوا مَا على طريقهم فاستمالهم الصَّالح نجم الدّين أَيُّوب بن
الْكَامِل واستخدمهم بِإِذن أَبِيه.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة: فِيهَا توفّي الْملك
الْأَشْرَف مظفر الدّين مُوسَى بن الْعَادِل أبي بكر بن أَيُّوب بالذرب
فِي الْمحرم، وَملك دمشق أَخُوهُ الصَّالح إِسْمَاعِيل بِعَهْد مِنْهُ،
وَمُدَّة ملكه ثَمَان سِنِين وشهور لم ينهزم قطّ، وَاتفقَ لَهُ
أَشْيَاء خارقة لِلْعَقْلِ فِي السَّعَادَة.
وَكَانَ سخياً حسن العقيدة وَبنى بِدِمَشْق قصوراً ومنتزهات حَسَنَة
وأقلع لما مرض عَن اللَّذَّات والأغاني، وَأَقْبل على الإستغفار وَدفن
بتربته بِجَانِب الْجَامِع وَترك بِنْتا وَاحِدَة تزَوجهَا الْملك
الْجواد يُونُس بن مودود بن الْملك الْعَادِل، وَبلغ الْكَامِل بِمصْر
وَفَاة أَخِيه الْأَشْرَف فَسَار إِلَى دمشق وَمَعَهُ النَّاصِر دَاوُد
صَاحب الكرك والناصر لَا يشك أَن الْكَامِل يُعْطِيهِ دمشق لما تقرر
بَينهمَا، واستعد الصَّالح إِسْمَاعِيل للحصار وأنجد من حلب وحمص،
ونازل الْكَامِل دمشق فِي جُمَادَى الأولى مِنْهَا وأحرق الصَّالح
بالتفاطين مَا بالعقيبة من خانات وأسواق وَغَيرهَا، وَوصل من حمص نجدة
رجالة خَمْسُونَ رجلا فظفر بهم الْكَامِل وشنقهم بَين الْبَسَاتِين،
وَأرْسل للمظفر صَاحب حماه توقيعاً بسلمية لانتمائه إِلَيْهِ.
وَسلم الصَّالح دمشق إِلَى أَخِيه الْكَامِل لإحدى عشرَة بقيت من
جُمَادَى الأولى وتعوض عَنْهَا بعلبك وَالْبِقَاع مُضَافا إِلَى بصرى.
ثمَّ لم يلبث الْكَامِل غير أَيَّام وَمرض بالزكام فَدخل الْحمام وصب
مَاء شَدِيدَة الْحَرَارَة فاندفعت النزلة إِلَى معدته فتورمت
وَنَهَاهُ الْأَطِبَّاء عَن الْقَيْء فتقيأ فَمَاتَ لوقته وعمره نَحْو
(2/161)
سِتِّينَ سنة لتسْع بَقينَ من رَجَب
مِنْهَا، وَحكم بِمصْر نَائِبا وملكاً نَحْو أَرْبَعِينَ سنة.
وَكَذَلِكَ مُعَاوِيَة حكم فِي الشَّام نَائِبا نَحْو عشْرين وملكاً
نَحْو عشْرين، وَكَانَ مهيباً مُدبرا يُبَاشر بِنَفسِهِ، واستوزر أول
ملكه وَزِير أَبِيه صفي الدّين بن شكر وَمَات فَلم يستوزر أحدا بعده،
وَأكْثر سَماع الحَدِيث.
وَبني للشَّيْخ عمر بن دحْيَة دَار الحَدِيث بَين القصرين فِي
الْجَانِب الغربي، ونفق عِنْده الْأَدَب وَالْعلم، وامتحن الْفُضَلَاء
بمسائل غربية.
وَكَانَ الْأَمِير فَخر الدّين وَإِخْوَته عماد الدّين وَكَمَال الدّين
ومعين الدّين من أكَابِر دولته فَإِنَّهُم حازوا فَضِيلَة السَّيْف
والقلم يُبَاشر أحدهم التدريس ويتقدم على الْجَيْش، ثمَّ اتّفق
الْأُمَرَاء على تَحْلِيف الْعَسْكَر للْملك الْعَادِل أبي بكر بن
الْكَامِل وَهُوَ حِينَئِذٍ نَائِب أَبِيه بِمصْر، فَحلف لَهُ
الْعَسْكَر وَأَقَامُوا فِي دمشق الْجواد بن يُونُس بن مودود بن
الْعَادِل أبي بكر بن أَيُّوب نَائِبا عَن الْعَادِل أبي بكر بن
الْكَامِل وهدد الْأُمَرَاء النَّاصِر دَاوُد حَتَّى رَحل إِلَى الكرك.
وَبلغ شيركوه صَاحب حمص وَفَاة الْكَامِل، وَكَانَ الْكَامِل على
نِيَّة قِتَاله، فلعب بالكرة بِخِلَاف الْعَادة وَهُوَ فِي عشر التسعين
وحزن المظفر بحماه لذَلِك عَظِيما وارتجع صَاحب حمص سلمية من المظفر،
وَقطع قناتها عَن حماه فيبست بساتينها ثمَّ عزم على قطع النَّهر عَن
حماه فسد مخرجه من بحيرة قدس بِظَاهِر حمص فبطلت نواعير حماه
والطواحين، وَذهب مَاء العَاصِي فِي أَوديَة بجوانب الْبحيرَة، ثمَّ
لما لم يجد المَاء مسلكاً هدم السد وَجرى كَمَا كَانَ.
وَبلغ الحلبيين موت الْكَامِل فجهزوا عسكراً لنزع المعرة من يَد المظفر
وحاصروا قلعتها وملكوها، وَخرج عَسْكَر المعرة حِينَئِذٍ إِلَى حلب،
ثمَّ سَار عَسْكَر حلب ومقدمهم الْمُعظم توران شاه بن صَلَاح الدّين
إِلَى حماه وحاصروها حَتَّى خرجت السّنة.
وفيهَا: عقد عقد غياث الدّين كيخسرو بن كيقباذ سُلْطَان الرّوم على
غَازِيَة خاتون بنت الْعَزِيز صَاحب حلب وَهِي صَغِيرَة وَقبل عَن
كيخسرو قَاضِي دوقات، ثمَّ عقد عقد الْملك النَّاصِر يُوسُف بن
الْعَزِيز صَاحب حلب على ملكة خاتون أُخْت كيخسرو وَأم ملكة خاتون بنت
الْملك الْعَادِل أبي بكر بن أَيُّوب، وزجها الْمُعظم عِيسَى صَاحب
دمشق بكيقباذ، وخطب لغياث الدّين كيخسرو بحلب.
وفيهَا: خرجت الخوارزمية عَن طَاعَة الصَّالح أَيُّوب بعد موت أَبِيه
الْكَامِل ونهبوا الْبِلَاد.
وفيهَا: حاصر لُؤْلُؤ صَاحب الْموصل الصَّالح أَيُّوب بن الْكَامِل
بسنجار فبذل الصَّالح للخوارزمية حران والرها، فعادوا إِلَى طَاعَته
وتقاتلوا فَانْهَزَمَ لُؤْلُؤ هزيمَة قبيحة، وغنم عَسْكَر الصَّالح
مِنْهُم شَيْئا كثيرا.
(2/162)
وفيهَا: جرى بَين النَّاصِر دَاوُد صَاحب
الكرك وَبَين الْملك الْجواد يُونُس المستولي على دمشق قتال بَين
جَنِين ونابلس، فانتصر الْجواد وَقَوي بِهَذِهِ الْوَقْعَة وَتمكن من
دمشق وَنهب عَسْكَر النَّاصِر وأثقاله.
وَفِي آخرهَا: ولد وَالِد الْمُؤلف رَحمَه الله تَعَالَى الْملك
الْأَفْضَل نور الدّين عَليّ بن المظفر صَاحب حماه.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة: فِيهَا رَحل عَسْكَر حلب
عَن حِصَار حماه بعد مولد الْملك الْأَفْضَل، بعد طول الْحصار أَذِنت
لَهُ ضيفة خاتون صَاحِبَة حلب بنت الْعَادِل بالرحيل عَنْهَا فرحلوا،
واستمرت المعرة للحلبيين، وسلمية لصَاحب حمص، فهدم المظفر قلعة بارين
إِلَى الأَرْض خوفًا من خُرُوجهَا عَنهُ.
وفيهَا: فِي جُمَادَى الْآخِرَة استولى الصَّالح أَيُّوب بن الْكَامِل
على دمشق وأعمالها، وَعوض الْجواد عَنْهَا سنجار والرقة وعانة، وَسَببه
أَن الْعَادِل بن الْكَامِل صَاحب مصر أرسل إِلَى الْجواد عماد الدّين
بن الشَّيْخ لينزع دمشق مِنْهُ ويعوضه أقطاعاً بِمصْر، فسلمها الْجواد
إِلَى الصَّالح وجهز على ابْن الشَّيْخ من وقف لَهُ بقصه وضربه بسكين
فَقتله، وَوصل مَعَ الصَّالح إِلَى دمشق المظفر صَاحب حماه يعاضده،
وَكَانَ لاقاه فِي أثْنَاء الطَّرِيق، وَاسْتقر الصَّالح فِي ملك دمشق
وَسَار الْجواد فتسلم الْبِلَاد الشرقية.
ثمَّ وَردت إِلَى الصَّالح كتب المصريين يستدعونه ليملكها، وَسَأَلَهُ
المظفر أَخذ حمص من شيركوه فبرز إِلَى الثَّنية.
وَكَانَ قد نازلت الخوارزمية وَصَاحب حماه حمص فَفرق شيركوه أَمْوَالًا
فِي الخوارزمية فقصدوا الشرق وَتركُوا حمص.
ورحل صَاحب حماه إِلَى حماه، ثمَّ عَاد الصَّالح طَالبا مصر فوصل
إِلَيْهِ بخربة اللُّصُوص عَسْكَر مجهز من مصر، وَلما خرج الصَّالح من
دمشق استناب فِيهَا ابْنه الْملك المغيث فتح الدّين عمر وَبَقِي
الصَّالح إِسْمَاعِيل صَاحب بعلبك يجامل الصَّالح ابْن أَخِيه وَيعْمل
بَاطِنا على دمشق.
وَكَانَ النَّاصِر صَاحب الكرك قد سَار إِلَى مصر، وَاتفقَ مَعَه
الْعَادِل بن الْكَامِل على قتال الصَّالح أَيُّوب، وَوصل فِي هَذِه
السّنة محيي الدّين بن ابْن الْجَوْزِيّ رَسُول الْخَلِيفَة ليصلح بَين
الْأَخَوَيْنِ الْعَادِل بِمصْر، والصالح بِدِمَشْق وَهُوَ الَّذِي حضر
ليصلح بَين الْكَامِل والأشرف، فاتفق أَنه مَاتَ فِي حُضُوره فِي سنة
أَربع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة أَرْبَعَة من السلاطين العظماء، وهم
الْكَامِل صَاحب مصر، وَأَخُوهُ الْأَشْرَف صَاحب دمشق، والعزيز صَاحب
حلب وكيقباذ صَاحب الرّوم فَقَالَ فِي ذَلِك ابْن المسجف أحد شعراء
دمشق:
(يَا إِمَام الْهدى أَبَا جَعْفَر الْمَنْصُور ... من لَهُ الفخار
الأثيل)
(مَا جرى من رَسُولك الْآن محيي ... الدّين فِي هَذِه الْبِلَاد
قَلِيل)
(2/163)
(جَاءَ وَالْأَرْض بالسلاطين تزهو ...
وَغدا والديار مِنْهُم طلول)
(أقفر الرّوم وَالشَّام ومصر ... أَفَهَذَا مغسل أم رَسُول)
ثمَّ دخلت سنة سبع وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة: فِيهَا فِي صفر سَار
الصَّالح إِسْمَاعِيل صَاحب بعلبك وشيركوه صَاحب حمص، وهاجما دمشق
وحصرا قلعتها وتسلمها الصَّالح إِسْمَاعِيل، وَقبض على المغيث فتح
الدّين عمر بن الصَّالح أَيُّوب، وَكَانَ الصَّالح أَيُّوب بنابلس لقصد
ملك مصر وبلغه سعي عَمه إِسْمَاعِيل فِي الْبَاطِن، وَكَانَ للصالح
أَيُّوب طَبِيب يَثِق بِهِ يُقَال لَهُ الْحَكِيم سعد الدّين
الدِّمَشْقِي فَأرْسل مَعَه الصَّالح أَيُّوب إِلَى بعلبك قفص حمام
نابلس ليطالعه بأخبار الصَّالح صَاحب بعلبك، فَاسْتَحْضر صَاحب بعلبك
الْحَكِيم وأكرمه، وسرق الْحمام الَّتِي لنابلس، وَجعل موضعهَا حمام
بعلبك فَصَارَ الطَّبِيب يكْتب أَن عمك إِسْمَاعِيل فِي قصد دمشق ويبطق
فيقعد الطَّائِر ببعلبك فَيَأْخُذ إِسْمَاعِيل البطاقة ويزور على
الْحَكِيم أَن عمك إِسْمَاعِيل قد جمع ليعاضدك وَهُوَ وَاصل إِلَيْك
ويسرحه على حمام نابلس فيعتمد الصَّالح أَيُّوب على بطاقة الْحَكِيم
وَيتْرك مَا يسمع من أَخْبَار غَيره.
وَاتفقَ أَن المظفر صَاحب حماه علم سعي الصَّالح إِسْمَاعِيل صَاحب
بعلبك فِي أَخذ دمشق مَعَ خلوها عَن حَافظ، فَجهز نَائِبه سيف الدّين
عَليّ بن أبي عَليّ فِي عَسْكَر من حماه وَغَيرهَا وسلاحاً ومالاً
ليحفظ دمشق لصَاحِبهَا.
وَأظْهر الْملك المظفر وَابْن أبي عَليّ أَنَّهُمَا قد اخْتَصمَا وَأَن
ابْن أبي عَليّ قد غضب وَفَارق صَاحب حماه لِأَنَّهُ يُرِيد تَسْلِيم
حماه للفرنج لِئَلَّا يمنعهُ شيركوه فَفطن شيركوه للحيلة، وَلما وصل
ابْن أبي عَليّ إِلَى بحيرة حمص استدعى شيركوه ابْن أبي عَليّ
وَأَصْحَابه ليضيفهم.
ثمَّ قبض على ابْن أبي عَليّ وَمن حضر الضِّيَافَة من أَصْحَابه وعذبهم
واستصفى كل مَا مَعَهم، وَمَات ابْن أبي عَليّ وَغَيره فِي حَبسه بحمص
فضعف المظفر بحماه لذَلِك كثيرا.
وَأما الصَّالح أَيُّوب فَلَمَّا بلغه قصد عَمه إِسْمَاعِيل دمشق رَحل
من نابلس إِلَى الْغَوْر فَبَلغهُ اسْتِيلَاء عَمه على قلعة دمشق
واعتقال وَلَده المغيث عمر ففسدت نيات عسكره عَلَيْهِ وَتَفَرَّقُوا
فَلم يبْق عِنْد الصَّالح أَيُّوب بالغور غير ممالكيه وأستاذ دَاره
حسام الدّين أبي عَليّ فَقدم الصَّالح أَيُّوب نابلس بِمن بَقِي مَعَه،
وَبلغ النَّاصِر دَاوُد ذَلِك.
وَكَانَ قد وصل من مصر إِلَى الكرك فَنزل بعسكره وَأمْسك الصَّالح
أَيُّوب واعتقله بهَا، وَأمر بكفايته فَتفرق عَنهُ أَصْحَابه إِلَّا
نَفرا يَسِيرا.
ثمَّ أرسل أَخُو الصَّالح الْملك الْعَادِل أَبُو بكر صَاحب مصر
يَطْلُبهُ من النَّاصِر دَاوُد فَأتى فتهدده الْعَادِل بِأخذ بِلَاده
فَمَا أَفَادَ.
وفيهَا: بعد اعتقال الصَّالح بالكرك قصد النَّاصِر دَاوُد الْقُدس وَقد
عمر الفرنج قلعتها بعد موت الْملك الْكَامِل فحاصرها وَفتحهَا وَخرب
القلعة وبرج دَاوُد الَّذِي لم يخرب لما خرب الْقُدس أَولا.
(2/164)
وفيهَا: توفّي الْمُجَاهِد شيركوه صَاحب
حمص بن مُحَمَّد بن شيركوه بن شادي ملك حمص وعمره نَحْو سِتّ وَخمسين
سنة، وَكَانَ عسوفاً وملكها بعده ابْنه الْمَنْصُور إِبْرَاهِيم.
وفيهَا: أَخذ لُؤْلُؤ صَاحب الْموصل سنجار من الْجواد يُونُس بن مودود
بن الْملك الْعَادِل.
وفيهَا: أخرج النَّاصِر دَاوُد صَاحب الكرك ابْن عَمه الصَّالح أَيُّوب
من الْحَبْس وجاءته مماليكه وكاتبه إِلَيْهَا زُهَيْر وتحالفا فِي
قبَّة الصَّخْرَة أَن مصر للصالح ودمشق والشرق للناصر دَاوُد.
وَلما تملك الصَّالح لم يَفِ للناصر بذلك، وَتَأَول بِالْإِكْرَاهِ فِي
يَمِينه ثمَّ قدم غَزَّة وَعظم على الْعَادِل بِمصْر وعَلى والدته
ظُهُور أَمر أَخِيه الصَّالح وَنزل على بلبيس لقصد النَّاصِر دَاوُد
والصالح أَخِيه فَأرْسل إِلَى عَمه الصَّالح إِسْمَاعِيل المستولي على
دمشق أَن يقصدهما من جِهَة الشَّام فَنزل الصَّالح إِسْمَاعِيل بعسكر
دمشق الْغَوْر فَبينا النَّاصِر دَاوُد والصالح أَيُّوب فِي شدَّة من
عسكرين قد أحاطا بهما إِذْ ركبت جمَاعَة من المماليك الأشرفية
وَقَدَّمَهُمْ أيبك الأسمر وَأَحَاطُوا بدهليز الْعَادِل أبي بكر ابْن
الْكَامِل واعتقلوه فِي خيمة صَغِيرَة واستدعوا الصَّالح أَيُّوب
فَأَتَاهُ فَرح عَظِيم، وَقدم الصَّالح أَيُّوب والناصر دَاوُد إِلَى
قلعة الْجَبَل بكرَة الْأَحَد لست بَقينَ من ذِي الْقعدَة، وزينت
للصالح الْبِلَاد وَعظم بِهِ سرُور المظفر بحماه لِأَنَّهُ كَانَ
معتقلاً بالكرك والمظفر يخْطب لَهُ، وَحصل عِنْد كل من الصَّالح
أَيُّوب والناصر دَاوُد استشعار من الآخر وخشي النَّاصِر دَاوُد من
الْقَبْض عَلَيْهِ فَطلب دستوراً وَتوجه إِلَى بِلَاده الكرك
وَغَيرهَا.
وفيهَا: وَقيل سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ توفّي صَاحب ماردين نَاصِر الدّين
أرتق أرسلان بن إيلغازي بن البي بن تمرتاش بن إيل غَازِي بن أرتق
الملقب بِالْملكِ الْمَنْصُور، وَملك بعده ابْنه الْملك السعيد نجم
الدّين غَازِي حَتَّى توفّي سنة ثَلَاث وَخمسين وسِتمِائَة ظنا.
ثمَّ ملك بعده فِي السّنة الْمَذْكُورَة ابْنه الْملك المظفر قَرَأَ
أرسلان بن غَازِي وَتُوفِّي المظفر هَذَا سنة إِحْدَى وَتِسْعين
وسِتمِائَة ظنا.
وَملك بعده ابْنه الْأَكْبَر شمس الدّين دَاوُد تِسْعَة أشهر، ثمَّ
توفّي وَملك بعده أَخُوهُ الْملك الْمَنْصُور نجم الدّين غَازِي بن
قَرَأَ أرسلان سنة ثَلَاث وَتِسْعين وسِتمِائَة ظنا، وَسَنذكر وَفَاته
إِن شَاءَ الله تَعَالَى سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَسَبْعمائة.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة: فِيهَا قبض الصَّالح
أَيُّوب وَقد اسْتَقر بِملك مصر عَليّ أيبك الأسمر مقدم المماليك
الأشرفية وعَلى غَيره مِمَّن قبض على أَخِيه وحبسهم وَأَنْشَأَ مماليكه
وَشرع فِي بِنَاء قلعة الجيزة مسكنا لَهُ.
وفيهَا: نزل الْملك الْحَافِظ أرسلان شاه بن الْعَادِل أبي بكر بن
أَيُّوب عَن قلعة جعبر وبالس لأخته ضيفة خاتون صَاحِبَة حلب وعوضته
عزاز وَغَيرهَا لِأَنَّهُ فلج وخشي من أَوْلَاده وَطلب الْقرب من حلب
ليأمنهم.
وفيهَا: كثر فَسَاد الخوارزمية بعد مُفَارقَة الصَّالح أَيُّوب الشرق،
وقاربوا حلب فَقَاتلهُمْ
(2/165)
عَسْكَر حلب مَعَ الْمُعظم توران شاه
فَانْهَزَمَ الحلبيون هزيمَة قبيحة، وَقتل مِنْهُم خلق مِنْهُم
الصَّالح بن الْأَفْضَل بن صَلَاح الدّين وَأسر الْملك الْمُعظم مقدم
الْجَيْش وَغَيره وَقتلُوا بَعضهم ليفدي الْبَاقُونَ أنفسهم، ثمَّ
نزلُوا جيلان ونهبوا فِي بِلَاد حلب، وَوَقع الجفيل إِلَى حلب وارتكبت
الخوارزمية من الزِّنَى وَالْفَوَاحِش وَالْقَتْل مَا ارْتَكَبهُ التتر
ثمَّ سَارُوا إِلَى منبج وهجموها بِالسَّيْفِ يَوْم الْخَمِيس لتسْع
بَقينَ من ربيع الأول مِنْهَا، وفتكوا قتلا ونهباً وفاحشة وخربوا بلد
حلب وعادوا إِلَى بِلَادهمْ حران وَمَا مَعهَا، ثمَّ أَنهم عبروا
الْفُرَات من الرقة إِلَى الحبول إِلَى تل أعرن إِلَى سرمين إِلَى
المعرة وهم ينهبون، وجفل مِنْهُم النَّاس وَسَار صَاحب حمص الْملك
الْمَنْصُور إِبْرَاهِيم بن شيركوه بعسكر من عَسْكَر الصَّالح
بِدِمَشْق نجدة لحلب وقصدوا هم والحلبيون الخوارزمية، واستمرت
الخوارزمية تنهب حَتَّى نازلوا شيزر وَنزل عَسْكَر حلب على تل
سُلْطَان.
ثمَّ قصد الخوارزمية جِهَة حماه بِلَا نهب لانتماء المظفر بهَا إِلَى
الصَّالح أَيُّوب ثمَّ سَارُوا إِلَى سلمية، ثمَّ الرصافة يقصدون
الرقة.
وَسَار عَسْكَر حلب من تل سُلْطَان إِلَيْهِم ولحقتهم الْعَرَب فَتركت
الخوارزمية المكاسب والأسرى، ووصلوا إِلَى الْفُرَات فِي أَوَاخِر
شعْبَان مِنْهَا ولحقهم الحلبيون وَصَاحب حمص قَاطع صفّين، فَعمل
الخوارزمية ستائر وقاتلوا إِلَى اللَّيْل فعبروا الْفُرَات إِلَى حران
فَسَار الحلبيون إِلَى البيرة وعبروا الْفُرَات وقصدوهم فَاقْتَتلُوا
قرب الرها لتسْع بَقينَ من رَمَضَان مِنْهَا، فَانْهَزَمَ الخوارزمية
وتبعهم الْمُسلمُونَ قتلا وأسراً حَتَّى حَال اللَّيْل.
ثمَّ سَار الْمُسلمُونَ فاستولوا على حران، وهرب الخوارزمية إِلَى بلد
عانة، وبادر لُؤْلُؤ صَاحب الْموصل إِلَى نَصِيبين ودارا وهما
للخوارزمية، فاستولى عَلَيْهِمَا وخلص من بهما من الأسرى وَمِنْهُم
الْملك الْمُعظم توران شاه بن النَّاصِر صَلَاح الدّين أَسِيرًا من
حِين كسرة الحلبيين فَحَمله لُؤْلُؤ إِلَى الْموصل وَقدم لَهُ تحفاً
وَبعث بِهِ إِلَى عَسْكَر حلب.
وَاسْتولى عَسْكَر حلب على الرقة وسروج والرها وَرَأس عين وَمَا
مَعهَا، وَاسْتولى صَاحب حمص الْمَنْصُور إِبْرَاهِيم على بلد الخابور،
ثمَّ سَار عَسْكَر حلب وَوصل إِلَيْهِم نجدة من الرّوم وحاصروا الْملك
الْمُعظم بن الْملك الصَّالح بآمد وتسلموها مِنْهُ وَتركُوا لَهُ حصن
كيفا وقلعة الْهَيْثَم، وَلم يزل ذَلِك بِيَدِهِ حَتَّى توفّي أَبوهُ
الصَّالح أَيُّوب بِمصْر، وَسَار إِلَيْهَا الْمُعظم الْمَذْكُور،
وَبَقِي ابْن الْمُعظم الْملك الموحد عبد الله بن الْمُعظم توران شاه
بن الصَّالح أَيُّوب بن الْكَامِل مُحَمَّد بن الْعَادِل أبي بكر بن
أَيُّوب مَالِكًا لحصن كيفا إِلَى أَيَّام التتر وطالت مدَّته بهَا.
وفيهَا: هلك الْجواد يُونُس بن مودود بن الْعَادِل، وَذَلِكَ أَنه
كَانَ قد استولى بعد ملك دمشق على سنجار وعانة، فَبَاعَ عانة من
الْخَلِيفَة الْمُسْتَنْصر، وحاصر لُؤْلُؤ صَاحب الْموصل سنجار،
وَاسْتولى عَلَيْهَا فِي غيبَة يُونُس عَنْهَا، وَلم يبْق بيد يُونُس
من الْبِلَاد شَيْء فَسَار على
(2/166)
الْبَريَّة إِلَى غَزَّة وَأرْسل إِلَى
الْملك الصَّالح أَيُّوب صَاحب مصر يسْأَله فِي الْمصير إِلَيْهِ فَأبى
فَدخل إِلَى عكا وَأقَام مَعَ الفرنج فَأرْسل الصَّالح إِسْمَاعِيل
صَاحب دمشق حِينَئِذٍ، وبذل للفرنج مَالا، وتسلم مِنْهُم الْجواد
واعتقله ثمَّ خنقه.
وفيهَا: ولى الصَّالح أَيُّوب الشَّيْخ عز الدّين عبد الْعَزِيز بن عبد
السَّلَام الْقَضَاء بِمصْر وَالْوَجْه القبلي كرها، كَانَ أَولا
بِدِمَشْق وَسلم الصَّالح إِسْمَاعِيل صَاحب دمشق صفد والشقيف إِلَى
الفرنج ليعضدوه على ابْن أَخِيه صَاحب مصر، فشنع الشَّيْخ عز الدّين
على الصَّالح إِسْمَاعِيل لذَلِك. وَكَذَلِكَ الشَّيْخ جمال الدّين
أَبُو عَمْرو بن الْحَاجِب وخافا من الصَّالح فقصد عز الدّين مصر وَولي
الْقَضَاء كرها، وَقصد ابْن الْحَاجِب الكرك ونظم لصَاحِبهَا النَّاصِر
دَاوُد مقدمته فِي النَّحْو ثمَّ سَافر من الكرك إِلَى مصر.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة: فِيهَا اتّفقت الخوارزمية
مَعَ صَاحب ميافارقين المظفر غَازِي بن الْعَادِل.
وفيهَا: فِي ذِي الْحجَّة توفّي الْملك الْحَافِظ نور الدّين أرسلان
شاه بن الْعَادِل بن أَيُّوب بعزاز فَإِنَّهُ تعوض بهَا عَن قلعة جعبر
وَنقل إِلَى حلب فَدفن فِي الفردوس وتسلم نواب النَّاصِر يُوسُف صَاحب
حلب عزاز وقلعتها وأعمالها.
وفيهَا: فِي شعْبَان توفّي الْعَلامَة كَمَال الدّين مُوسَى بن يُونُس
بن مُحَمَّد بن مَنْعَة بن مَالك الْفَقِيه الشَّافِعِي.
وَكَانَ يشْتَغل فِي مَذْهَب أبي حنيفَة، وَيحل لَهُم الْجَامِع
الْكَبِير، وأتقن الْمنطق والطبيعي والإلهي والرياضي والمجسطي وإقليدس
والموسيقي والحساب بأنواعه، وَقَرَأَ أهل الذِّمَّة عَلَيْهِ
التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل، واعترفوا أَنهم لَا يَجدونَ من يشرحها
لَهُم مثله.
وَقَرَأَ كتاب سِيبَوَيْهٍ والمفصل وَغَيرهمَا، وأتقن التَّفْسِير
والْحَدِيث وَقدم الشَّيْخ أثير الدّين الْأَبْهَرِيّ واسْمه الْمفضل
بن عمر بن الْمفضل إِلَى الْموصل واشتغل على الشَّيْخ كَمَال الدّين
الْمَذْكُور.
وَكَانَ الْأَبْهَرِيّ حِينَئِذٍ إِمَامًا فِي الْعُلُوم، وَيَأْخُذ
الْكتاب وَيجْلس بَين يَدَيْهِ وَيقْرَأ عَلَيْهِ سِنِين عديدة،
وتصانيف الْأَبْهَرِيّ إِذْ ذَاك يشْتَغل فِيهَا النَّاس، وَقصد
الشَّيْخ تَقِيّ الدّين عُثْمَان بن عبد الرَّحْمَن الْمَعْرُوف بِابْن
الصّلاح الْفَقِيه الشَّافِعِي الشَّيْخ كَمَال الدّين وَسَأَلَهُ أَن
يقرئه الْمنطق سرا، فقرأه عَلَيْهِ مُدَّة وَلَا يفهمهُ، فَقَالَ ابْن
يُونُس: يَا فَقِيه الْمصلحَة عِنْدِي أَن تتْرك الِاشْتِغَال بِهَذَا
الْفَنّ لِأَن النَّاس يَعْتَقِدُونَ فِيك الْخَيْر وهم ينسبون كل من
اشْتغل بِهَذَا الْفَنّ إِلَى فَسَاد الإعتقاد، فكأنك تفْسد عقائدهم
فِيك، وَلَا يَصح لَك من هَذَا الْفَنّ شَيْء، فَترك قِرَاءَته ولغلبة
الْعُلُوم الْعَقْلِيَّة على كَمَال الدّين إتهم فِي دينه وَهَذِه
الْعَادة، وَكَانَت تعتريه غَفلَة لاستيلاء الفكرة عَلَيْهِ فَعمل
فِيهِ بَعضهم.
(2/167)
(أجدك أَن قد جاد بعد التعبس ... غزال بوصل
لي وَأصْبح مؤنسي)
(وعاطيته صهباء من فِيهِ مزجها ... كرقة شعري أَو كَدين ابْن يُونُس)
ومولده فِي صفر سنة إِحْدَى وَخمسين وَخَمْسمِائة بالموصل وَبهَا
توفّي.
ثمَّ دخلت سنة أَرْبَعِينَ وسِتمِائَة: كَانَ بَين الخوارزمية
وَمَعَهُمْ المظفر غَازِي صَاحب ميافارقين وَبَين عَسْكَر حلب
وَمَعَهُمْ الْمَنْصُور إِبْرَاهِيم صَاحب حمص مصَاف قرب الخابور عِنْد
المجدل لثلاث بَقينَ من صفر، فَانْهَزَمَ المظفر والخوارزمية وَنهب
الحلبيون مِنْهُم كثيرا ووطاقاتهم ونساءهم، وَنزل الْمَنْصُور
إِبْرَاهِيم فِي خيمة المظفر غَازِي واحتوى على خزانته ووطاقه، وَعَاد
الحلبيون وَصَاحب حمص إِلَى حلب فِي مستهل جُمَادَى الأولى منصورين.
وفيهَا: فِي لَيْلَة الْجُمُعَة لإحدى عشرَة لَيْلَة خلت من جُمَادَى
الأولى توفيت ضيفة خاتون بنت الْعَادِل أبي بكر بن أَيُّوب بالقرحة
والحمى ودفنت بقلعة حلب، ومولدها سنة إِحْدَى أَو اثْنَتَيْنِ
وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة بقلعة حلب لما كَانَت حلب لأَبِيهَا
الْعَادِل قبل أَن ينتزعها مِنْهُ أَخُوهُ صَلَاح الدّين ويعطيها ابْنه
الظَّاهِر، وَلما ولدت كَانَ عِنْد أَبِيهَا ضيف فسماها ضيفة خاتون،
وَعَاشَتْ نَحْو تسع وَخمسين سنة.
وَكَانَ الظَّاهِر غَازِي وَقد تزوج قبلهَا أُخْتهَا غازنه، وملكت ضيفة
خاتون حلب بعد ابْنهَا الْعَزِيز، وأحسنت التَّدْبِير نَحْو سِتّ
سِنِين، وَلما توفيت كَانَ عمر ابْن ابْنهَا النَّاصِر يُوسُف بن
الْعَزِيز نَحْو ثَلَاث عشرَة سنة فَأشْهد عَلَيْهِ أَنه بلغ وَملك حلب
ومضافاتها والمرجع إِلَى إقبال الْأسود الْخصي الخاتوني.
وفيهَا توفّي الْمُسْتَنْصر بِاللَّه أَبُو جَعْفَر الْمَنْصُور بن
الظَّاهِر مُحَمَّد بن النَّاصِر أَحْمد بكرَة الْجُمُعَة لعشر خلون من
جُمَادَى الْآخِرَة وَمُدَّة خِلَافَته سبع عشرَة سنة إِلَّا شهرا.
وَكَانَ عادلاً وَبنى بِبَغْدَاد الْمدرسَة المستنصرية على شط دجلة من
الْجَانِب الشَّرْقِي مِمَّا يَلِي دَار الْخلَافَة بأوقاف جليلة على
أَنْوَاع الْبر، وقلد الْخلَافَة بعده ابْنه عبد الله المستعصم
بِاللَّه أَبُو أَحْمد وَهُوَ السَّابِع وَالثَّلَاثُونَ مِنْهُم،
وَآخرهمْ بِبَغْدَاد، وَحسن لَهُ كبراء دولته قطع الأجناد، وَجمع
المَال ومداراة التتر فَقطع أَكثر العساكر:
قلت:
(وخانه الْفَاجِر ابْن العلقمي إِلَى ... أَن بدل الدولة الغراء
تبديلاً)
(وَكَانَ مَا كَانَ مِمَّا لست أذكرهُ ... ليقضي الله أمرا كَانَ
مَفْعُولا)
وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وسِتمِائَة: سَارَتْ نجدة من حلب
مَعَ نَاصح الدّين الْفَارِسِي إِلَى صَاحب الرّوم كيخسرو بن كيقباذ
واجتمعوا مَعَه وقاتلوا التتر فانتصرت التتر وَقتلُوا وأسروا مِنْهُم
خلقا، وتحكمت التتر فِي الْبِلَاد واستولوا على خلاط وآمد وهرب صَاحب
الرّوم إِلَى معقل، ثمَّ دخل فِي طَاعَة التتر إِلَى أَن توفّي سنة
أَربع وَخمسين وسِتمِائَة،
(2/168)
وَترك ابنيه الصغيرين ركن الدّين وَعز
الدّين، ثمَّ هرب عز الدّين إِلَى قسطنطينية وَبَقِي ركن الدّين ملكا
يُطِيع التتر وَتَحْت حكمهم وَالْحَاكِم البرواناه معِين الدّين
سُلَيْمَان. والبرواناه بالعجمي الْحَاجِب ثمَّ قتل البرواناه ركن
الدّين وَأقَام فِي الْملك ابْنا لَهُ صَغِيرا.
وفيهَا: تراسل الصالحان أَيُّوب صَاحب مصر، وَإِسْمَاعِيل صَاحب دمشق
فِي الصُّلْح وَأَن يُطلق الصَّالح إِسْمَاعِيل المغيث فتح الدّين عمر
بن الْملك الصَّالح أَيُّوب وحسام الدّين أَبَا عَليّ الهدباني
وَكَانَا معتقلين عِنْد الصَّالح إِسْمَاعِيل فَأطلق حسام الدّين ابْن
أبي عَليّ وجهزه إِلَى مصر، وَاسْتمرّ المغيث فِي الاعتقال وَاتفقَ
الصَّالح إِسْمَاعِيل مَعَ النَّاصِر دَاوُد، واعتضدا بالفرنج، وسلما
إِلَيْهِم طبرية وعسقلان فعمر الفرنج قلعتيهما، وسلما إِلَيْهِم أَيْضا
الْقُدس بِمَا فِيهِ من المزارات.
قَالَ القَاضِي جمال الدّين بن وَاصل: ومررت إِذْ ذَاك بالقدس وَقد
جعلُوا على الصَّخْرَة قناني الْخمر للقربان.
قلت: وَفِي سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين قتل قَاضِي دمشق الرقيع الجيلي
أهلك سرا لقلَّة دينه ولأخذه أَمْوَال النَّاس بالتزوير أَقَامَ شُهُود
زور وأناساً يدعونَ على الرجل المتمول الْمبلغ من المَال فينكر وَيحلف
فيحضر الْمُدَّعِي شُهُوده الكذبة فَيلْزمهُ بِالْمَالِ فَيَصِيح
ويستغيث فَيَقُول الجيلي: اخْرُج على رِضَاء غريمك، وعامل الْوَزير على
ذَلِك حَتَّى خرب ديار النَّاس إِلَى أَن قصمه الله تَعَالَى، وَالله
أعلم.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وسِتمِائَة: فِيهَا وصلت
الخوارزمية إِلَى غَزَّة باستدعاء الصَّالح أَيُّوب ليعضدوه على عَمه
الصَّالح إِسْمَاعِيل وَسَارُوا على حارم والروج إِلَى أَطْرَاف بِلَاد
دمشق حَتَّى وصلوا غَزَّة، وَوصل إِلَيْهِم عدَّة كَثِيرَة من العساكر
المصرية مَعَ ركن الدّين بيبرس مَمْلُوك الْملك الصَّالح أَيُّوب
وَهُوَ الَّذِي دخل مَعَه الْحَبْس فِي الكرك، وَأرْسل الصَّالح
إِسْمَاعِيل عَسْكَر دمشق مَعَ الْمَنْصُور إِبْرَاهِيم بن شيركوه
صَاحب حمص، وَسَار صَاحب حمص جَرِيدَة وَدخل عكا واستدعى الفرنج على
مَا وَقع الِاتِّفَاق عَلَيْهِ وَوَعدهمْ بِجُزْء من بِلَاد مصر فَخرجت
الفرنج بالفارس والراجل واجتمعوا أَيْضا بِصَاحِب حمص وعسكر دمشق
والكرك وَلم يحضر النَّاصِر دَاوُد ذَلِك، والتقى الْجَمْعَانِ
بِظَاهِر غَزَّة فولى عَسْكَر دمشق وَصَاحب حمص والفرنج منهزمين،
وتبعهم عَسْكَر مصر والخوارزمية يقتلُون، وَاسْتولى الصَّالح أَيُّوب
صَاحب مصر على غَزَّة والسواحل والقدس.
ووصلت الأسرى والرؤوس إِلَى مصر، ثمَّ أرسل صَاحب مصر بَاقِي عسكره
مَعَ معِين الدّين بن الشَّيْخ فَاجْتمع عَلَيْهِ من بِالشَّام من
عَسْكَر مصر والخوارزمية وحاصروا دمشق بهَا الصَّالح إِسْمَاعِيل
وَصَاحب حمص إِبْرَاهِيم، وَخرجت السّنة وهم محاصروها.
وفيهَا: توفّي الْملك المظفر صَاحب حماه تَقِيّ الدّين مَحْمُود بن
الْملك الْمَنْصُور مُحَمَّد بن المظفر تَقِيّ الدّين عمر بن شاهنشاه
بن أَيُّوب يَوْم السبت ثامن جُمَادَى الأولى
(2/169)
وَملك حماه خمس عشرَة سنة وَسَبْعَة أشهر
وَعشرَة أَيَّام مرض مِنْهَا بالفالج سنتَيْن وكسراً، وعاش ثَلَاثًا
وَأَرْبَعين سنة.
وَكَانَ شهماً فطناً يحب الْعلم وَأَهله استخدم الشَّيْخ علم الدّين
قَيْصر الْمَعْرُوف بتعاسيف المهندس الْفَاضِل فِي الرياضي فَبنى لَهُ
أبراجاً بحماه وطاحوناً على العَاصِي، وَعمل لَهُ كرة من الْخشب مدهونة
رسم فِيهَا جَمِيع الْكَوَاكِب المرصودة، قَالَ ابْن وَاصل: وساعدته
على عَملهَا.
وَملك بعد المظفر ابْنه الْملك الْمَنْصُور وَعمرَة عشر سِنِين وَشهر
وَثَلَاثَة عشر يَوْمًا، وَقَامَ بتدبيره سيف الدّين طغرل بك المظفري،
وشاركه شيخ الشُّيُوخ شرف الدّين عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد والطواشي
مرشد والوزير بهاء الدّين بن التَّاج والمرجع إِلَى وَالِدَة
الْمَنْصُور غازنة خاتون بنت الْكَامِل.
وفيهَا: توفّي الْملك المغيث عمر فِي حبس الصَّالح إِسْمَاعِيل صَاحب
دمشق فَاشْتَدَّ وَالِده الصَّالح أَيُّوب على الصَّالح إِسْمَاعِيل
حنقاً.
وفيهَا: توفّي المظفر غَازِي بن الْعَادِل أبي بكر بن أَيُّوب صَاحب
ميافارقين وَملك بعده ابْنه الْكَامِل نَاصِر الدّين مُحَمَّد.
وفيهَا: توجه الشَّيْخ تَاج الدّين أَحْمد بن مُحَمَّد بن نصر الله من
بني المغيزل رَسُولا إِلَى الْخَلِيفَة بِبَغْدَاد بتقدمة من الْملك
الْمَنْصُور صَاحب حماه.
وفيهَا: توفّي القَاضِي شهَاب الدّين إِبْرَاهِيم بن عبد الله بن عبد
الْمُنعم بن عَليّ بن مُحَمَّد الشَّافِعِي الْمَعْرُوف بِابْن أبي
الدَّم قَاضِي حماه توجه رَسُولا إِلَى بَغْدَاد فَمَرض بالمعرة وَعَاد
مَرِيضا فَمَاتَ بحماه، وَهُوَ مؤلف التَّارِيخ الْكَبِير المظفري
وَغَيره.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وسِتمِائَة: فِيهَا سير الصَّالح
إِسْمَاعِيل وزيره الْغَالِب على راية أَمِين الدولة، كَانَ سامرياً
وَأسلم إِلَى الْخَلِيفَة ليشفع فِي الصُّلْح بَينه وَبَين ابْن أَخِيه
فَأبى الْخَلِيفَة ذَلِك.
وفيهَا: تسلم عَسْكَر الصَّالح أَيُّوب ومقدمهم معِين الدّين بن
الشَّيْخ دمشق من الصَّالح إِسْمَاعِيل بن الْعَادِل، وَكَانَ محصوراً
مَعَه بهَا إِبْرَاهِيم بن شيركوه صَاحب حمص فَسلم دمشق لتستقر بيد
إِسْمَاعِيل بعلبك وَبصرى والسواد وتستقر بيد صَاحب حمص حمص وَمَا
مَعهَا فأجابهما ابْن الشَّيْخ إِلَى ذَلِك، وَوصل إِلَى دمشق حسام
الدّين بن أبي عَليّ بِمن مَعَه من عَسْكَر مصر، وَبعد تَسْلِيمهَا
توفّي بهَا ابْن الشَّيْخ، وَبَقِي حسام الدّين بن أبي عَليّ نائبها
للصالح أَيُّوب.
وَكَانَ الخوارزمية يطْعمُون أَن يحصل لَهُم بِفَتْح دمشق إقطاعات
تكفيهم، فَلَمَّا لم يحصل لَهُم ذَلِك صَارُوا مَعَ الصَّالح
إِسْمَاعِيل وانضم إِلَيْهِم النَّاصِر دَاوُد صَاحب الكرك
(2/170)
وَسَارُوا وحصروا دمشق فقاسى أَهلهَا من
الغلاء مَا لم يسمع بِمثلِهِ وحفظها حسام الدّين بن أبي عَليّ أتم حفظ
وَخرجت السّنة وَالْأَمر كَذَلِك.
وفيهَا: قصد التتر بَغْدَاد فَخرجت عَسَاكِر بَغْدَاد للقائهم،
فَانْهَزَمَ التتر لَيْلًا.
وفيهَا: توفيت ربيعَة خاتون أُخْت السُّلْطَان صَلَاح الدّين بدار
العقيقي بِدِمَشْق جَاوَزت الثَّمَانِينَ، وَبنت مدرسة حنبلية بجبل
الصالحية.
وفيهَا: توفّي الشَّيْخ تَقِيّ الدّين عُثْمَان بن عبد الرَّحْمَن بن
عُثْمَان " ابْن الصّلاح " الْفَقِيه الْمُحدث.
قلت: وَكَانَ رَحمَه الله مُسَدّد الْفَتَاوَى، وَكرر على الْمُهَذّب
كُله وَهُوَ أَمْرَد وَتَوَلَّى الْإِعَادَة لعماد الدّين بن يُونُس
بالموصل.
ثمَّ حصل علم الحَدِيث بخراسان ثمَّ تولى تدريس الناصرية بالقدس، ثمَّ
تولى الرواحية بِدِمَشْق، وَبنى الْأَشْرَف بن الْعَادِل بن أَيُّوب
دَار الحَدِيث بِدِمَشْق وولاه تدريسها، ثمَّ تولى تدريس مدرسة سِتّ
الشَّام زمرد خاتون بنت أَيُّوب شَقِيقَة شمس الدولة توران شاه بن
أَيُّوب دَاخل الْبَلَد قبلي البيمارستان النوري، وَهِي الَّتِي بنت
الْمدرسَة الْأُخْرَى ظَاهر دمشق وَبهَا قبرها وقبر أَخِيهَا
الْمَذْكُور وَزوجهَا نَاصِر الدّين بن أَسد الدّين شيركوه صَاحب حمص.
وَله: مَنَاسِك الْحَج وإشكالات على الْوَسِيط، وَجمع بعض أَصْحَابه
فَتَاوِيهِ وَدفن بمقابر الصُّوفِيَّة خَارج بَاب النَّصْر بِدِمَشْق.
وَتُوفِّي أَبوهُ صَلَاح الدّين، وَكَانَ من جلة مَشَايِخ الأكراد
الْمشَار إِلَيْهِم فِي ذِي الْقعدَة سنة ثَمَان عشر وسِتمِائَة بحلب
وَدفن بالجبيل، وَتَوَلَّى بحلب تدريس الأَسدِية المنسوبة إِلَى أَسد
الدّين شيركوه بن شاذي، واشتغل بِبَغْدَاد على شرف الدّين أبي سعد عبد
الله بن أبي عصرون، وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي علم الدّين عَليّ بن مُحَمَّد بن عبد الله السخاوي لَهُ
الْمفضل فِي شرح الْمفصل وسفر السَّعَادَة وسفير الإفادة فِيهِ مشكلات
نحوية وأبيات مَعَاني ولغة وعربية، وَله شرح الشاطبية.
قلت: قَرَأَ الشاطبية على ناظمها، قَالَ القَاضِي شمس الدّين بن خلكان:
وَكَانَ للنَّاس فِيهِ اعْتِقَاد عَظِيم، قَالَ: ورأيته بِدِمَشْق
وَالنَّاس يزدحمون عَلَيْهِ فِي الْجَامِع للْقِرَاءَة وَلَا يَصح
لوَاحِد نوبَة إِلَّا بعد زمَان، ورأيته مرَارًا وَهُوَ رَاكب بَهِيمَة
يصعد إِلَى جبل الصالحية وَحَوله إثنان وَثَلَاثَة وكل وَاحِد يقْرَأ
ميعاده فِي مَوضِع غير الآخر وَالْكل فِي دفْعَة وَاحِدَة وَهُوَ يرد
على الْجَمِيع، وَتُوفِّي بِدِمَشْق وَقد نَيف على التسعين وَلما
احْتضرَ أنْشد لنَفسِهِ:
(قَالُوا غَدا نأتي ديار الْحمى ... ونترك الركب بمغناهم)
(2/171)
(وكل من كَانَ مُطيعًا لَهُم ... أصبح
مَسْرُورا بلقياهم)
(قلت فلي ذَنْب فَمَا حيلتي ... بِأَيّ وَجه أتلقاهم)
(قَالُوا أَلَيْسَ الْعَفو من شَأْنهمْ ... لَا سِيمَا عَمَّن ترجاهم)
وَالله أعلم.
وفيهَا: بحلب توفّي الشَّيْخ موفق الدّين أَبُو الْبَقَاء يعِيش بن
مُحَمَّد ابْن عَليّ الْموصِلِي الْحلَبِي المولد والمنشأ النَّحْوِيّ
الْمَعْرُوف بِابْن الصَّائِغ، كَانَ ظريفاً محاضراً شرح الْمفصل
غَايَة وَله غَيره، ومولده فِي رَمَضَان سنة ثَلَاث وَخمسين
وَخَمْسمِائة وَدفن بالْمقَام.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَأَرْبَعين وسِتمِائَة: كسر الخوارزمية على
الْقصب.
وفيهَا: اتّفق الحلبيون وَصَاحب حمص الْمَنْصُور إِبْرَاهِيم وَسَارُوا
مَعَ الصَّالح أَيُّوب بن الْكَامِل وقصدوا الخوارزمية والصالح
إِسْمَاعِيل والناصر دَاوُد وهم محاصرون لدمشق، فرحلت الخوارزمية
عَنْهَا إِلَى الحلبيين وَصَاحب حمص والتقوا على الْقصب فَانْهَزَمَ
الخوارزمية هزيمَة تشتتوا بعْدهَا، وَقتل مقدمهم حسام الدّين بركَة
خَان وَحمل رَأسه إِلَى حلب، وَلحق كشلوخان فِي طَائِفَة مِنْهُم
بالتتر وخدم مِنْهُم جمَاعَة فِي الشَّام مُتَفَرّقين وَكفى الله
النَّاس شرهم، وَبلغ ذَلِك الصَّالح أَيُّوب بِمصْر فدق البشائر وَرَضي
عَن صَاحب حمص.
وَسَار الصَّالح إِسْمَاعِيل إِلَى الْملك النَّاصِر يُوسُف صَاحب حلب
واستجار بِهِ فَأرْسل الصَّالح أَيُّوب يَطْلُبهُ فَمَا سلمه إِلَيْهِ،
وَلما جرى ذَلِك نَازل حسام الدّين بن أبي عَليّ بِمن عِنْده من
عَسْكَر دمشق بعلبك وَبهَا أَوْلَاد الصَّالح إِسْمَاعِيل وتسلمها
بالأمان، وَأرْسل أَوْلَاد الصَّالح إِسْمَاعِيل فاعتقلهم الصَّالح
أَيُّوب بِمصْر، وَكَذَلِكَ اعتقل أَمِين الدولة وَزِير الصَّالح
إِسْمَاعِيل وأستاذ دَاره نَاصِر الدّين يغمور وزينت الْقَاهِرَة ومصر
لفتح بعلبك، وَاتفقَ فِي هَذِه الْأَيَّام وَفَاة صَاحب عجلون سيف
الدّين قلج فتسلم الصَّالح أَيُّوب عجلون أَيْضا.
ثمَّ أرسل الْملك الصَّالح عسكراً مَعَ الْأَمِير فَخر الدّين يُوسُف
بن الشَّيْخ، وَكَانَ فَخر الدّين قد اعتقله الْعَادِل أَبُو بكر بن
الْكَامِل، وَلما ملك الصَّالح أَيُّوب أطلقهُ ولازم بَيته مُدَّة،
ثمَّ قدمه فِي هَذِه السّنة، وجهزه إِلَى حَرْب النَّاصِر دَاوُد صَاحب
الكرك، فاستولى على جَمِيع بِلَاد النَّاصِر، وَولي عَلَيْهَا، وحاصر
الكرك، وَخرب ضياعها، وأضعف النَّاصِر عَظِيما بِحَيْثُ لم يبْق لَهُ
سوى الكرك.
وفيهَا: حبس الصَّالح أَيُّوب مَمْلُوكه بيبرس صَاحبه فِي اعتقاله
بالكرك لميل بيبرس إِلَى الخوارزمية وَإِلَى النَّاصِر دَاوُد ولكونه
صَار مَعَهم لما جرده إِلَى غَزَّة كَمَا تقدم، فَأرْسل أستاذه
الصَّالح أَيُّوب إِلَيْهِ واستماله فوصل إِلَيْهِ فاعتقله، فَكَانَ
آخر الْعَهْد بِهِ.
وفيهَا: أرسل الْملك الْمَنْصُور إِبْرَاهِيم صَاحب حمص وَطلب دستوراً
من الصَّالح أَيُّوب ليصل إِلَى خدمته.
وَكَانَ قد حصل لإِبْرَاهِيم سل وَسَار على تِلْكَ الْحَالة من حمص
قَاصِدا مصر وَقَوي بِهِ
(2/172)
الْمَرَض بِدِمَشْق فَتوفي بهَا، وَنقل
فَدفن بحمص، وملكها بعده ابْنه الْأَشْرَف مظفر الدّين مُوسَى.
وفيهَا: بعد فتح دمشق وبعلبك استدعى الصَّالح أَيُّوب حسام الدّين بن
أبي عَليّ إِلَى مصر، وَأرْسل مَوْضِعه نَائِبا بِدِمَشْق الْأَمِير
جمال الدّين بن مطروح، وَلما وصل ابْن أبي عَليّ إِلَى مصر استنابه
الْملك الصَّالح بهَا، وَسَار إِلَى دمشق، ثمَّ إِلَى بعلبك ثمَّ عَاد
إِلَى دمشق، وَوصل إِلَيْهِ الْمَنْصُور صَاحب حماه، والأشرف مُوسَى
صَاحب حمص فأكرمهما، وعادا وَاسْتمرّ هُوَ بِالشَّام حَتَّى خرجت
السّنة.
وفيهَا: توفّي عماد الدّين دَاوُد بن موسك بالكرك، وَكَانَ جَامعا
لمكارم الْأَخْلَاق.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَأَرْبَعين وسِتمِائَة: فِيهَا عَاد الصَّالح
أَيُّوب إِلَى مصر وفيهَا فتح فَخر الدّين بن الشَّيْخ قلعتي عسقلان
وطبرية والصالح بِالشَّام بعد محاصرتهما مُدَّة وَكُنَّا قد ذكرنَا
تسليمهما إِلَى الفرنج سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وسِتمِائَة فعمروهما
وملكوهما إِلَى هَذِه السّنة.
وفيهَا: سلم الْأَشْرَف صَاحب حمص سميميس للصالح أَيُّوب.
وفيهَا: توفّي الْملك الْعَادِل أَبُو بكر بن السُّلْطَان الْكَامِل
بِالْحَبْسِ وَأمه السِّت السودا تعرف ببنت الْفَقِيه نصر كَانَ
مسجوناً مُنْذُ قبض عَلَيْهِ ببلبيس فمقامه بالسجن نَحْو ثَمَان
سِنِين، وعمره نَحْو ثَلَاثِينَ، وَترك ابْنه فتح الدّين عمر الْملك
المغيث ملك الكرك فِيمَا بعد ثمَّ قَتله الظَّاهِر بيبرس.
وفيهَا: أحضرت عَائِشَة خاتون بنت الْعَزِيز مُحَمَّد بن الظَّاهِر
صَاحب حلب إِلَى زَوجهَا الْمَنْصُور صَاحب حماه وَمَعَهَا أمهَا
فَاطِمَة خاتون بنت الْكَامِل بن الْعَادِل فِي رَمَضَان واحتفل
للقائها.
قلت: وفيهَا توفّي الشَّيْخ عَليّ الحريري أَبُو مُحَمَّد بن أبي
الْحسن بن مَنْصُور، وَقدم دمشق وَهُوَ حدث، وربى يَتِيما، وبرع فِي
صَنْعَة الْمروزِي حَتَّى عمل قبَاء بِلَا خياطَة ورفو
ثمَّ تزهد وصدرت عَنهُ أَحْوَال وكشف، فَقَالَ أَكثر عُلَمَاء ذَلِك
الزَّمَان: هَذَا كشف شيطاني.
وَكَانَ لَهُ قبُول عَظِيم وَلَا سِيمَا عِنْد الْأَحْدَاث مَا وَقع
نظره على أحد مِنْهُم وَلَو كَانَ ابْن أَمِير أَو غَيره إِلَّا وَمَال
إِلَيْهِ وَأحسن ظَنّه بِهِ، وَبلغ الْعلمَاء عَنهُ كَلِمَات صعبة مثل
قَوْله: لَو دخل مريدي بلد الرّوم، وَتنصرُوا كل لحم الْخِنْزِير،
وَشرب الْخمر كَانَ فِي شغلي، وَقَوله: لَو ذبحت بيَدي سبعين نَبيا مَا
اعتقدت أَنِّي مُخطئ.
وَقَوله نظماً:
(أَمْرَد يقدم مداسي ... أخير من رضوَان)
(2/173)
(وَربع قحبة عِنْدِي ... أحسن من الأكوان)
وَقَوله:
(كم يتعبني بصبحة الأجساد ... كم يسهرني بلذة الميعاد)
(جد لي بمدامة تقَوِّي رمقي ... وَالْجنَّة جد بهَا على الزهاد)
فَرفع الْعلمَاء أمره إِلَى السُّلْطَان فَلم يقدم على قَتله بل سجنه
مرّة بعد أُخْرَى ثمَّ أطلق، وَكَانَ الرجل خراب الظَّاهِر والسرائر
عِنْد الله تَعَالَى، وَله مكاشفات وأحوال ومحبون وَهُوَ، إِلَى الْآن
بَين قوم منكرين عَلَيْهِ وَقوم مائلين إِلَيْهِ والتوقف هُنَا أسلم،
وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي عَلَاء الدّين قرا سنقر الساقي مَمْلُوك الْعَادِل بن
أَيُّوب وَصَارَت ممالكيه بِالْوَلَاءِ للصالح أَيُّوب، وَمِنْهُم سيف
الدّين قلاوون ملك مصر وَالشَّام.
وفيهَا: توفّي أَبُو عَليّ عمر بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بالشلوبيني
بإشبيلية نحوي فَاضل شرح الجزولية، وَفِيه مَعَ فَضله بله وغفلة، ويكنى
أَبَا عَليّ وشلوبين حصن منيع بالأندلس من سواحل غرناطة على بَحر
الرّوم؛ قَالَه ابْن سعيد فِي الْمغرب فِي أَخْبَار الْمغرب.
وَقَول ابْن خلكان: الشلوبين الْأَبْيَض الْأَشْقَر بلغتهم وهم إِذْ لم
يقف على الْمغرب، وَكَانَ الشلوبيني عِنْدهم فِي طبقَة الْفَارِسِي.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَأَرْبَعين وسِتمِائَة: فِيهَا سلم الْأَشْرَف
مُوسَى حمص إِلَى عَسْكَر النَّاصِر صَاحب حلب بعد حِصَار وتعوض بتل
بَاشر على مَا بِيَدِهِ من تدمر والرحبة فغاظ ذَلِك نجم الدّين أَيُّوب
وَقدم إِلَى دمشق مَرِيضا، وَأرْسل عسكراً إِلَى حمص فحوصرت بالمجانيق،
ثمَّ بلغه وُصُول الفرنج إِلَى جِهَة دمياط، وَوصل نجم الدّين
الباذراني رَسُول الْخَلِيفَة بِالصُّلْحِ بَين الصَّالح والحلبيين
وَأَن تَسْتَقِر حمص للحلبيين، فَأجَاب الصَّالح إِلَى ذَلِك واستناب
بِدِمَشْق جمال الدّين بن يغمور وعزل ابْن مطروح ورحل الصَّالح فِي
محفة من دمشق.
وفيهَا: فِي يَوْم الْخَمِيس السَّادِس وَالْعِشْرين من شَوَّال توفّي
الشَّيْخ جمال الدّين أَبُو عَمْرو عُثْمَان بن عمر بن أبي بكر بن
يُونُس الْمَعْرُوف بِابْن الْحَاجِب كَانَ وَالِده كردياً حجب للأمير
عز الدّين موسك الصلاحي، وَقَرَأَ ابْنه الْمَذْكُور فِي صغره
بِالْقَاهِرَةِ الْقُرْآن ثمَّ الْفِقْه على مَذْهَب مَالك والعربية،
وبرع ثمَّ درس بِجَامِع دمشق وأكب الْخلق عَلَيْهِ بالاشتغال، ثمَّ قدم
الْقَاهِرَة ثمَّ الْإسْكَنْدَريَّة فَتوفي بهَا، ومولده أَوَاخِر سنة
سبعين وَخَمْسمِائة بأسنا من الصَّعِيد.
وَكَانَ متفنناً وَغلب عَلَيْهِ النَّحْو وأصول الْفِقْه ومختصراته
الثَّلَاثَة فِي النَّحْو والتصريف وَالْأُصُول، وَقد طبق ذكرهَا
الْبِلَاد، وَلَا سِيمَا الْعَجم، ومصنفاته كَثِيرَة.
قلت: قَالَ القَاضِي شمس الدّين بن خلكان رَحمَه الله تَعَالَى:
وَجَاءَنِي - يَعْنِي بِالْقَاهِرَةِ - مرَارًا بِسَبَب أَدَاء
شَهَادَات وَسَأَلته عَن مَسْأَلَة اعْتِرَاض الشَّرْط على الشَّرْط
فِي قَوْلهم إِن أكلت إِن شربت فَأَنت طَالِق لم تعين تَقْدِيم الشّرْب
على الْأكل حَتَّى لَو أكلت ثمَّ شربت لَا تطلق.
(2/174)
وَسَأَلته عَن بَيت أبي الطّيب:
(لقد تصبرت حَتَّى لات مصطبر ... فَالْآن أقحم حَتَّى لات مقتحم)
لم جر مصطبر ومقتحم ولات لَيست من أدوات الْجَرّ فَأحْسن الْجَواب
عَنْهُمَا وَلَوْلَا التَّطْوِيل لذكرت مَا قَالَه انْتهى كَلَامه.
أما الْمَسْأَلَة الأولى فَإِنَّمَا تعين فِيهَا تَقْدِيم الثَّانِي
على الأول لِأَن الشَّرْط قد دخل على الشَّرْط فَتعلق الأول
بِالثَّانِي والتعيلق يقبل التَّعْلِيق كَقَوْلِه تَعَالَى {وَلَا
ينفعكم نصحي إِن أردْت أَن أنصح لكم} إِن كَانَ الله يُرِيد أَن يغويكم
تَقْدِيره إِن كَانَ الله يُرِيد أَن يغويكم فَلَا ينفعكم نصحي إِن
أردْت أَن أنصح لكم، وَأفْتى الْقفال بِاشْتِرَاط تَقْدِيم الْمَذْكُور
أَولا، فَإِن قدمت الثَّانِي لم تطلق، وَمَال الإِمَام إِلَى أَنه لَا
يشْتَرط التَّرْتِيب، وَيتَعَلَّق الطَّلَاق بحصولهما كَيفَ كَانَ،
وَلَا شكّ أَن بَين الْآيَة وَبَين الصُّورَة الْفِقْهِيَّة فرقا
وَفِيه بحث وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعه.
وَلَو قَالَ: أردْت الْعَطف وحذفت حرفه ومرادي إِن أكلت وَإِن شربت
فَأَنت طَالِق.
وَقبل ذَلِك مِنْهُ فَلَا يشْتَرط تَقْدِيم الثَّانِي على الأول بل
تطلق بهما كَيفَ وَقعا إِلَّا عِنْد من يرى أَن الْوَاو للتَّرْتِيب
وَحذف حرف الْعَطف جَائِز نظماً ونثراً، كَقَوْلِه - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تصدق رجل من ديناره من درهمه من صَاع بره من
صَاع تمره.
وروى أَبُو زيد: أكلت خَبرا لَحْمًا تَمرا.
قَالَ الشَّاعِر:
(كَيفَ أَصبَحت كَيفَ أمسيت مِمَّا ... يغْرس الود فِي فؤاد الْكَرِيم)
وَأما بَيت أبي الطّيب فمصطبر ومقتحم مجروران قيل بِمن الْمقدرَة
وَهُوَ بعيد وَقيل جراً بحتى وَتَكون لات لمُجَرّد النَّفْي على حد
قَوْلهم: سَافَرت بِلَا زَاد قَالَه بعض نحاة الْعَصْر، وَلَو قيل
إِنَّه مجرور على تَقْدِير حَتَّى لات حِين مصطبر ولات حِين مقتحم
فَيكون الْمُضَاف وَهُوَ حِين كَأَنَّهُ ثَابت لم أر فِيهِ بعدا،
وَقُرِئَ: ولات حِين مناص بالخفض.
وَقَالَ الشَّاعِر:
(طلبُوا صلحنا ولات أران ... فأجبنا أَن لَيْسَ حِين بَقَاء)
وَقَالَ:
(فلتعرفن شمائلا محمودة ... ولتندمن ولات سَاعَة مندم)
وَفِي شرح التسهيل أَن ذَلِك وَجه على وَجْهَيْن، الأول أَن لات
بِمَعْنى غير وَصفا لمَحْذُوف كَأَنَّهُ قيل فَنَادوا حينا غير حِين
مناص، ورد هَذَا التَّأْوِيل بِلُزُوم زِيَادَة الْوَاو فَلَا فَائِدَة
لَهَا حِينَئِذٍ، الثَّانِي أَن الكسرة كسرة بِنَاء مَقْطُوعَة عَن
مُضَاف وَمَا بعد لات يقطع عَن الْإِضَافَة فيبنى، وَالتَّقْدِير ولات
حِين مناصهم، وَالْإِضَافَة إِلَى المناص كَأَنَّهَا إِضَافَة إِلَى
الْحِين لِأَنَّهُ مَعَه كشيء وَاحِد كَأَنَّهُ قَالَ: ولات حِين هم،
ثمَّ حذف الضَّمِير من مناص فَكَأَنَّهُ حذف من الْحِين فتضمنه الْحِين
وَهَذَا بعيد جدا، انْتهى مُلَخصا.
(2/175)
قلت: وَمَا أقرب التأويلات السَّابِقَة لَو
كَانَت مسطورة وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي عز الدّين أيبك المعظمي فِي محبسه بِالْقَاهِرَةِ أَخذ
أستاذه الْمُعظم صرخد من صَاحبهَا ابْن قراجا وَأَعْطَاهَا لَهُ، وَفِي
سنة أَربع وَأَرْبَعين وسِتمِائَة حَبسه بِالْقَاهِرَةِ حَتَّى مَاتَ،
وَدفن بِمصْر، ثمَّ نقل إِلَى تربة أَنْشَأَهَا بِدِمَشْق بالشرق
الْأَعْلَى.
قلت: وَفِي سنة سِتّ وَأَرْبَعين وسِتمِائَة توفّي ابْن البيطار
الطَّبِيب البارع ضِيَاء الدّين عبد الله بن أَحْمد المالقي صَاحب كتاب
الْأَدْوِيَة المفردة انْتَهَت إِلَيْهِ معرفَة تَحْقِيق النَّبَات
وَصِفَاته وأماكنه ومنافعه، وَله اتِّصَال بِخِدْمَة الْملك الْكَامِل
ثمَّ ابْنه الصَّالح وَالله اعْلَم.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَأَرْبَعين وسِتمِائَة: فِيهَا فِي صفر ملكت الفرنج
دمياط خَالِيَة مفتحة الْأَبْوَاب بِلَا قتال، وَكَانَ قد شحنها
الصَّالح بالذخائر وَجعل فِيهَا بني كنَانَة الشجعان فَهَرَبُوا
مِنْهَا خوفًا من برنس إفرنسيس وَمَعَهُ خَمْسُونَ ألف مقَاتل إفرنجي،
ثمَّ شنق الصَّالح بني كنَانَة عَن آخِرهم، وَنزل المنصورة لخمس بَقينَ
من صفر وَهُوَ مَرِيض السل، والبرنس بلغتهم الْملك، وإفرنسيس أمة
عَظِيمَة من أُمَم الفرنج.
وفيهَا: استجار النَّاصِر دَاوُد بن الْمُعظم عِيسَى بن الْعَادِل أبي
بكر بن أَيُّوب صَاحب الكرك بالناصر صَاحب حلب لما ضَاقَ أمره، وَأرْسل
من حلب إِلَى الْخَلِيفَة أودع عِنْده جوهراَ يُسَاوِي مائَة ألف
دِينَار إِذا بيع بالهوان وَوصل خطّ الْخَلِيفَة المستعصم
بِتَسْلِيمِهِ، فَكَانَ آخر الْعَهْد بِهِ لما وَقع من الْحَوَادِث،
واستناب على الكرك ابْنه الْمُعظم عِيسَى، فَغَضب ابناه الأكبران
الأمجد حسن وَالظَّاهِر شاذي لذَلِك، وَبعد سفر أَبِيهِمَا قبضا على
أخيهما عِيسَى وسلما الكرك إِلَى الصَّالح أَيُّوب وَهُوَ بالمنصورة
بإقطاع رضياه، فسر الصَّالح بذلك لحقده على صَاحبهَا.
وفيهَا توفّي الْملك الصَّالح: أَيُّوب بن الْكَامِل مُحَمَّد بن
الْعَادِل أبي بكر بن أَيُّوب فِي شعْبَان، وَملكه لمصر تسع سِنِين
وَكسر، وعمره نَحْو أَرْبَعِينَ، وَكَانَ مهيباً طَاهِر اللِّسَان
والذيل، لَا يُخَاطب إِلَّا جَوَابا يكْتب بِيَدِهِ على الْقَصَص،
وَيخرج للموقعين.
وَكَانَ أَكثر الْأُمَرَاء مماليكه، ورتب جمَاعَة من المماليك التّرْك
حول دهليزه وَسَمَّاهُمْ البحرية، وَبنى قلعة الجزيرة وَبنى الصالحية
بَلْدَة بالسائح وَبنى بهَا قصوراً للتصيد وَبنى قصر الْكَبْش عَظِيما
بَين مصر والقاهرة، وَأمه ورد المنى جَارِيَة سَوْدَاء وَتُوفِّي ابْنه
فتح الدّين عمر فِي حبس الصَّالح إِسْمَاعِيل.
وَتُوفِّي ابْنه الآخر قبله وَلم يخلف إِلَّا ابْنه الْمُعظم توران شاه
بحصن كيفا وَمَا أوصى الصَّالح بِالْملكِ لأحد، فَلَمَّا توفّي أحضرت
شَجَرَة الدّرّ جَارِيَته فَخر الدّين ابْن الشَّيْخ والطواشي محسناً
وعرفتهما بِمَوْتِهِ وكتموا ذَلِك خوف الفرنج وجمعت شَجَرَة الدّرّ
الْأُمَرَاء، وَقَالَت: السُّلْطَان يَأْمُركُمْ أَن تحلفُوا لَهُ،
ثمَّ من بعده لِابْنِهِ الْمُعظم الْمُقِيم بحصن كيفا وَلابْن الشَّيْخ
بالأتابكية.
(2/176)
وكتبت إِلَى حسام الدّين أبي عَليّ
النَّائِب بِمصْر كَذَلِك فحلفتهم وَغَيرهم بِمصْر والقاهرة على ذَلِك
فِي شعْبَان مِنْهَا، وَكَانَ الْخَادِم السُّهيْلي يكْتب لَهَا
المراسيم وَعَلَيْهَا عَلامَة الصَّالح فَلَا يشك أحد إِنَّهَا علامته.
ثمَّ استدعى فَخر الدّين بن الشَّيْخ الْمُعظم من حصن كيفا فشاع موت
الصَّالح وَلَكِن لَا يَجْسُر أحد على التفوه بِهِ، وَتقدم الفرنج عَن
دمياط إِلَى المنصورة فجرت وقْعَة فِي مستهل رَمَضَان اسْتشْهد فِيهَا
كبار من الْمُسلمين، وَنزلت الفرنج شَرّ مساح ثمَّ قربوا ثمَّ كبسوا
الْمُسلمين على المنصورة بكرَة الثُّلَاثَاء لخمس من ذِي الْقعدَة،
وَكَانَ ابْن الشَّيْخ وَهُوَ فَخر الدّين يُوسُف بن صدر الدّين حمويه
فِي حمام المنصورة فَركب مسرعاً فصادفه جمَاعَة من الفرنج فَقَتَلُوهُ
فَعَاشَ سعيداً وَمَات شَهِيدا ثمَّ حمل الْمُسلمُونَ وَالتّرْك
البحرية فهزموا الفرنج.
وَأما الْمُعظم فوصل من حصنه إِلَى دمشق فِي رَمَضَان مِنْهَا وَعِيد
بهَا وَوصل إِلَى المنصورة لتسْع بَقينَ من ذِي الْقعدَة، ثمَّ
اشْتَدَّ الْقِتَال برا وبحراً بَين الفرنج وَالْمُسْلِمين وَأخذُوا من
الفرنج اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ مركبا تِسْعَة شواني فضعف الفرنج وبذلوا
دمياط ليعطوا الْقُدس وَبَعض السواحل فَمَا أجِيبُوا إِلَى ذَلِك.
وفيهَا: تقَاتل لُؤْلُؤ صَاحب الْموصل، وعسكر النَّاصِر صَاحب حلب
بِظَاهِر نَصِيبين، فانهزمت المواصلة وَنهب الحلبيون أثقال لُؤْلُؤ
وخيامه وَأخذُوا نَصِيبين من لُؤْلُؤ، ثمَّ تسلموا دَارا وخربوها بعد
حِصَار ثَلَاثَة أشهر، ثمَّ تسلموا قرقيسياً وعادوا.
قلت: وفيهَا بحلب توفّي شهَاب الدّين مُحَمَّد المنشي النسوي صَاحب
تَارِيخ جلال الدّين بن خوارزم شاه وَكَاتب انشائه اتَّصل بعد قَتله
بالمظفر غَازِي صَاحب ميافارقين وخدمه ونادمه ثمَّ تغير غَازِي
عَلَيْهِ واستحال كعادة استحالاته فتلطف حَتَّى خرج من اعتقاله، واتصل
ببركة خَان كَبِير الخوارزمية فَعرف لَهُ حَقه وموضعه من جلال الدّين
وَسلم إِلَيْهِ بِلَاده فَبسط الْعدْل.
وَكَانَ بركَة خَان فِي غَايَة من الْجَوْدَة وَأَصْحَابه غشمة،
فَلَمَّا قتل بركَة خَان شكره النَّاس أجمع غير الحلبيين فأمروه
وأحسنوا إِلَيْهِ، وَتوجه رَسُولا عَنْهُم مَرَّات إِلَى التتر فعظموه
على سَائِر الرُّسُل لمكانه من جلال الدّين وحصلت لَهُ ثروة ضخمة
وَتقدم عِنْد النَّاصِر صَاحب حلب وَلم يزل بحلب حَتَّى مَاتَ رَحمَه
الله تَعَالَى، وَكَانَ كثير الْمُرُوءَة عذب الْأَلْفَاظ حَلِيمًا،
كَمَا قَالَ أَبُو الْعَلَاء:
(فَذَلِك الشَّيْخ عَالما والفتى كرماً ... تلفيه أَزْهَر بالنعتين
منعوتاً)
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وسِتمِائَة فِيهَا فِي الثَّالِث من
الْمحرم رَحل الفرنج عَن مقاتلة الْمُسلمين بالمنصورة إِلَى دمياط
لفناء أَزْوَادهم وَقطع الْمُسلمين المدد من دمياط عَنْهُم، وَركب
الْمُسلمُونَ أكتافهم وَعند الصَّباح خالطوهم وبذلوا السَّيْف فَقتلُوا
من الفرنج ثَلَاثِينَ ألفا، وانحاز برنس إفرنسيس وَمن مَعَه من
الْمُلُوك إِلَى بلد هُنَاكَ، وطلبوا الْأمان
(2/177)
فَأَمنَهُمْ الطواشي محسن الصَّالِحِي ثمَّ
احتيط عَلَيْهِم وأحضروا إِلَى المنصورة
وَقيد برنس إفرنسيس وَجعل فِي دَار كَانَ ينزلها كَاتب الْإِنْشَاء
فَخر الدّين بن لُقْمَان، ووكل بِهِ الطواشي صبيح المعظمي، وَلما جرى
ذَلِك رَحل الْملك الْمُعظم بالعساكر من الْمَنْصُور، وَنزل بفارسكور،
وَنصب لَهُ بهَا برج خشب.
وفيهَا: يَوْم الْإِثْنَيْنِ لليلة بقيت من الْمحرم قتل الْملك
الْمُعظم بن الصَّالح بن الْكَامِل بن الْعَادِل بن أَيُّوب فَإِنَّهُ
أطرح جَانب أُمَرَاء أَبِيه ومماليكه، وبلغهم تهديده وَاعْتمد على من
وصل مَعَه من حصن كيفا، وَكَانُوا أطرافاً فَهَجَمُوا عَلَيْهِ وَأول
من ضربه ركن الدّين بيبرس الَّذِي صَار سُلْطَانا فهرب الْمُعظم إِلَى
البرج الْخشب فَأَحْرقُوهُ فَطلب الْبَحْر ليركب حراقنه فحالوا بَينه
وَبَينهَا بالنشاب فَطرح نَفسه فِي الْبَحْر فأدركوه واتموا قَتله
نَهَار الْإِثْنَيْنِ.
فمدة ملكه لمصر شَهْرَان وَأَيَّام ثمَّ حلفوا لشَجَرَة الدّرّ زَوْجَة
الصَّالح وأقاموها فِي الْملك، وخطب لَهَا وَضربت باسمها السِّكَّة،
وَكَانَ نقش السِّكَّة المستعصمية الصالحية ملكة الْمُسلمين وَالِدَة
الْملك الْمَنْصُور خَلِيل يعنون بخليل ابْنهَا الَّذِي مَاتَ صَغِيرا،
وعلامتها على المناشير والتواقيع وَالِدَة خَلِيل، وأقيم عز الدّين
أيبك الجاشنكير الصَّالِحِي الْمَعْرُوف بالتركماني أتابك الْعَسْكَر.
ثمَّ أَن برنس إفرنسيس تقدم إِلَى نوابه فَسَلمُوا دمياط إِلَى
الْمُسلمين وأصعد إِلَيْهَا الْعلم السلطاني يَوْم الْجُمُعَة ثَالِث
صفر مِنْهَا، وَأطلق برنس إفرنسيس وَركب الْبَحْر بِمن سلم مَعَه فِي
غَد الْجُمُعَة الْمَذْكُورَة وأقلعوا إِلَى عكا، وَفِي ذَلِك يَقُول
جمال الدّين بن مطروح:
(قل للفرنسيس إِذا جِئْته ... مقَال صدق عَن قؤول نصيح)
(أتيت مصر تبتغي ملكهَا ... تحسب أَن الزمر يَا طبل ريح)
(وكل اصحابك أوردتهم ... بِحسن تدبيرك بطن الضريح)
(خَمْسُونَ ألفا لَا يرى مِنْهُم ... غير قَتِيل أَو أَسِير جريح)
(وَقل لَهُم إِن اضمروا عودة ... لأخذ ثأر أَو لقصد صَحِيح)
(دَار ابْن لُقْمَان على حَالهَا ... والقيد بَاقٍ والطواشي صبيح)
قلت: وَقد تذكرت بِهَذَا الْبَيْت الْأَخير إنْسَانا هوى طواشياً لآخر
فعاشر المخدوم ليصل إِلَى الْخَادِم فَقلت فِيهِ:
(يَا زيد مَا عاشرت عمرا سدى ... لَكِن طواشيه صبيح مليح)
(مَوْلَاهُ قيد لَك عَن وَصله ... والقيد بَاقٍ والطواشي صبيح)
وَذكرت بِهَذَا أَيْضا شَيْئا آخر وَذَلِكَ أَنِّي تعجبت من شهرة
الْبَيْتَيْنِ الَّذين مَا أحكمهما بانيهما وَلَا اعتنى بمعانيهما
وَمَعَ رداءة السبك سارا وحظهما يَقُول: قفا نضحك من قفا نبك.
وهما:
(مقامات الْغَرِيب بِكُل أَرض ... كبنيان الْقُصُور على الثلوج)
(2/178)
(فذاب الثَّلج وانهدم البنايا ... وَقد عزم
الْغَرِيب على الْخُرُوج)
فخلصتهما من ذل مقامات الْغَرِيب بكر أَرض وَأوقدت عَلَيْهِمَا فكري،
فذاب الثَّلج وانهدم البنايا الْمُسْتَحقَّة للنقض وَجعلت لَهما اسْما
فِي الْأَسْمَاء ونقلتهما من كَثَافَة الأَرْض إِلَى الطافة السَّمَاء.
فَقلت:
(مليح ردفه والساق مِنْهُ ... كبنيان الْقُصُور على الثلوج)
(خُذُوا من خَدّه القاني نَصِيبا ... فقد عزم الْغَرِيب على الْخُرُوج)
وَكَذَلِكَ تعجبت لاشتهار المثلين العاميين اللَّذين طبقًا الْآفَاق
مَعَ ركتهما بالِاتِّفَاقِ، وهما قَول الْعَامَّة: حسبت أَن فِي السفرة
جبنا، وَقَوْلهمْ: فعلت كَذَا على عَيْنك يَا تَاجر، فأفرغت الْجُبْن
فِي قالب الْحسن.
فَقلت:
(جَاءَنَا ملتثماً مكتتماً ... فدعوناه لأكل وعجبنا)
(مد فِي السفرة كفا ترفاً ... فحسبنا أَن فِي السفرة جبنا)
وملأت عين التَّاجِر بالجواهر فَقلت:
(وتاجر شاهدت عشاقه ... وَالْحَرب فِيمَا بَينهم ثَائِر)
(قَالَ علام اقْتَتَلُوا هَكَذَا ... قلت على عَيْنك يَا تَاجر)
وَالله أعلم.
ثمَّ رحلت العساكر عَن دمياط فَدَخَلُوا إِلَى الْقَاهِرَة تَاسِع صفر،
وَأرْسل المصريون إِلَى الْأُمَرَاء الَّذين بِدِمَشْق ليوافقوهم على
مَا قدمنَا فَأَبَوا، وَكَانَ الْملك السعيد بن الْعَزِيز بن الْعَادِل
صَاحب الصبيبة قد سلمهَا إِلَى الصَّالح أَيُّوب وَلما جرى ذَلِك
استعادها، وَلما بلغ ذَلِك بدر الدّين الصوابي الصَّالِحِي نَائِب
الكرك والشوبك أخرج من حبس الشوبك الْملك المغيث فتح الدّين عمر بن
الْعَادِل أبي بكر بن الْكَامِل بن الْعَادِل بن أَيُّوب، وَكَانَ قد
حَبسه بهَا الْمُعظم توران شاه لما وصل إِلَى مصر، وتملك المغيث
القلعتين الكرك والنشوبك، وَقَامَ الصوابي فِي خدمته أتم قيام.
اسْتِيلَاء النَّاصِر صَاحب حلب على دمشق
لما أَبَت أُمَرَاء دمشق مَا ذكرنَا كَاتب الْأُمَرَاء القيمرية بهَا
النَّاصِر يُوسُف صَاحب حلب بن الْعَزِيز بن الظَّاهِر بن صَلَاح
الدّين، فَسَار إِلَيْهِم، وَملك دمشق لثمان من ربيع الآخر مِنْهَا،
وخلع على جمال الدّين يغمور وعَلى القيمرية واعتقل جمَاعَة من
الْأُمَرَاء الصالحية، وعصت بعلبك وعجلون وشميميس مديدة ثمَّ سلمت
إِلَيْهِ وَبلغ ذَلِك مصر فقبضوا على من بهَا من القيمرية وكل من اتهمَ
بالميل إِلَى الحلبيين، ثمَّ أَن كبراء دولة مصر
(2/179)
سلطنوا عز الدّين أيبك التركماني الجاشنكير
الصَّالِحِي خشيَة من فَسَاد الْحَال بتملك الْمَرْأَة، وَركب بالصناجق
السُّلْطَانِيَّة والغاشية بَين يَدَيْهِ آخر ربيع الآخر مِنْهَا.
ولقب بالمعز وَبَطلَت السِّكَّة وَالْخطْبَة الَّتِي باسم شَجَرَة
الدّرّ، ثمَّ رَأَوْا أَنه لَا بُد من إِقَامَة شخص من بني أَيُّوب فِي
السلطنة فاتفقوا على إِقَامَة الْأَشْرَف مُوسَى بن يُوسُف بن يُوسُف
صَاحب الْيمن الْمَعْرُوف بأقسيس بن الْكَامِل بن الْعَادِل أبي بكر بن
أَيُّوب وَجعلُوا ايبك التركماني أتابكة.
وأجلس الْأَشْرَف أقسيس فِي دست الْملك: والأشراف فِي خدمته يَوْم
الْخَمِيس خَامِس جُمَادَى الأولى مِنْهَا، وَكَانَ حِينَئِذٍ بغزة
جمَاعَة من عَسْكَر مصر مقدمهم خَاص ترك فَسَار إِلَيْهِم عَسْكَر دمشق
فاندفعوا عَن غَزَّة إِلَى الصالحية بالسائح واتقفوا على طَاعَة المغيث
صَاحب الكرك.
وخطبوا لَهُ بالصالحية يَوْم الْجُمُعَة رَابِع جُمَادَى الْآخِرَة
مِنْهَا، وَلما جرى ذَلِك نَادَى كبراء الدولة بِمصْر والقاهرة أَن
الْبِلَاد للخليفة المستعصم، ثمَّ جددت الْأَيْمَان للأشرف ولأتابكه
أيبك.
وَفِي خَامِس رَجَب رَحل فَارس الدّين أقطاي الصَّالِحِي الجمدار إِلَى
جِهَة غَزَّة بألفي فَارس فَانْدفع بَين يَدَيْهِ من بهَا من جِهَة
النَّاصِر.
وفيهَا: هدم سور دمياط فِي أَوَاخِر شعْبَان لما قاسوا بهَا من شدَّة
بعد أُخْرَى، وبنوا بقربها فِي الْبر المنشية وأسوار دمياط الَّتِي
هدمت من عمَارَة المتَوَكل الْخَلِيفَة العباسي.
وفيهَا: مستهل شعْبَان قبض النَّاصِر يُوسُف صَاحب حلب ودمشق على
النَّاصِر دَاوُد الَّذِي كَانَ صَاحب الكرك واعتقله بحمص لِأَشْيَاء
بلغته فخافه.
وفيهَا: سَار الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين يُوسُف بن الْعَزِيز
بعساكره من دمشق وَمَعَهُ من مُلُوك بَيته الصَّالح إِسْمَاعِيل بن
الْعَادِل بن أَيُّوب والأشرف مُوسَى صَاحب حمص، وَله حِينَئِذٍ تل
بَاشر والرحبة وتدمر، والمعظم توران شاه بن السُّلْطَان صَلَاح الدّين
وأخو الْمُعظم نصْرَة الدّين والأمجد حسن وَالظَّاهِر شاذي ابْنا
النَّاصِر دَاوُد بن الْمُعظم عِيسَى بن الْعَادِل بن أَيُّوب، وتقي
الدّين عَبَّاس بن الْعَادِل بن أَيُّوب ومقدم الْجَيْش شمس الدّين
لُؤْلُؤ الأميني الأرمني وَإِلَيْهِ تَدْبِير المملكة سَارُوا من دمشق
يَوْم الْأَحَد منتصف رَمَضَان، فاهتم المصريون لقتالهم وبرزوا إِلَى
السائح وَتركُوا الْأَشْرَف الْمُسَمّى بالسلطان بقلعة الْجَبَل
وَأَفْرج أيبك التركماني حِينَئِذٍ عَن الْمَنْصُور إِبْرَاهِيم
والسعيد عبد الْملك ابْني الصَّالح إِسْمَاعِيل المعتقلين من
اسْتِيلَاء الصَّالح أَيُّوب على بعلبك، وخلع عَلَيْهِمَا ليتوهم
النَّاصِر يُوسُف صَاحب دمشق وحلب من أَبِيهِمَا.
والتقى المصريون والشاميون قرب العباسية يَوْم الْخَمِيس عَاشر ذِي
الْقعدَة مِنْهَا فانكسر أَولا عَسْكَر مصر فخامر جمَاعَة من المماليك
التّرْك العزيزية على النَّاصِر صَاحب دمشق،
(2/180)
وَثَبت الْمعز أيبك التركماني فِي قَلِيل
من البحرية وانضاف إِلَيْهِ جمَاعَة من العزيزية مماليك وَالِد
النَّاصِر.
وَلما انْكَسَرَ المصريون وتبعهم الشاميون وَلم يشكوا فِي النَّصْر
بَقِي النَّاصِر تَحت الصناجق فِي جمَاعَة يسيرَة من المتعممين لَا
يَتَحَرَّك من مَوْضِعه، فَحمل عَلَيْهِ الْمعز التركماني بِمن مَعَه
فَانْهَزَمَ النَّاصِر طَالب الشَّام، ثمَّ حمل أيبك التركماني على
عَسْكَر شمس الدّين لُؤْلُؤ فَهَزَمَهُمْ وَأسر شمس الدّين لُؤْلُؤ،
وَضرب عُنُقه بَين يَدَيْهِ وعنق الْأَمِير ضِيَاء الدّين القيمري،
وَأسر يَوْمئِذٍ الصَّالح إِسْمَاعِيل والأشرف صَاحب حمص والمعظم توران
شاه بن الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين بن أَيُّوب وَأَخُوهُ نصْرَة
الدّين، وَوصل عَسْكَر الْملك النَّاصِر فِي أثر المنهزمين إِلَى
العباسية وضربوا بهَا دهليز الْملك النَّاصِر وَلَا يَشكونَ أَن
الْهَزِيمَة تمت على المصريين، فَلَمَّا بَلغهُمْ هرب الْملك النَّاصِر
اخْتلفت آراؤهم، فَأَشَارَ بَعضهم بِدُخُول الْقَاهِرَة وتملكها وَلَو
قدر ذَلِك لم يبْق مَعَ أيبك التركماني من يقاتلهم بِهِ، وَكَانَ هرب
فَإِن غَالب المصريين وصلوا الصَّعِيد وَأَشَارَ بَعضهم بِالرُّجُوعِ
إِلَى الشَّام، وَكَانَ مَعَهم تَاج الْمُلُوك بن الْمُعظم جريحاً،
وَكَانَت الْوَقْعَة يَوْم الْخَمِيس، وَوصل المنهزمون من المصريين
إِلَى الْقَاهِرَة فِي غَد الْوَقْعَة فَلم يشك أهل مصر فِي ملك
النَّاصِر لمصر.
وخطب لَهُ يَوْم الْجُمُعَة الْمَذْكُورَة بقلعة الْجَبَل بِمصْر،
وَأما الْقَاهِرَة فَلم يخْطب بهَا ذَلِك الْيَوْم لأحد.
ثمَّ وَردت إِلَيْهِم الْبُشْرَى بنصر البحرية وَدخل أيبك التركماني
والبحرية الْقَاهِرَة يَوْم السبت ثَانِي عشر ذِي الْقعدَة وَمَعَهُ
الصَّالح إِسْمَاعِيل تَحت الِاحْتِيَاط وَغَيره من المعتقلين فحبسوا
بقلعة الْجَبَل، وعقب ذَلِك أخرج أيبك التركماني أَمِين الدولة وَزِير
الصَّالح إِسْمَاعِيل، وأستاذ دَاره يغموراً من الاعتقال وشنقهما على
بَاب قلعة الْجَبَل رَابِع عشر ذِي الْقعدَة، وَفِي السَّابِع
وَالْعِشْرين مِنْهُ: هجم جمَاعَة على الصَّالح عماد الدّين
إِسْمَاعِيل بن الْعَادِل بن أَيُّوب وَهُوَ يمص قصب سكر وأخرجوه
فَقَتَلُوهُ بالقرافة وَدفن هُنَاكَ وعمره نَحْو خمسين وَأمه حظية
رُومِية.
وفيهَا: بعد ذَلِك أرسل فَارس الدّين اقطاي بِثَلَاثَة آلَاف فَارس
فاستولى على غَزَّة ثمَّ عَاد إِلَى مصر.
وفيهَا: وثب على الْمَنْصُور عمر صَاحب الْيمن مماليكه فَقَتَلُوهُ
وَهُوَ عمر بن عَليّ بن رَسُول.
كَانَ أَبوهُ أستاذ دَار الْملك المسعود بن السُّلْطَان الْكَامِل،
وَلما قصد المسعود الشَّام وَمَات بِمَكَّة إستناب الْمَذْكُور فاستقر
نَائِبا بِالْيمن لبني أَيُّوب وَرهن إخْوَته بِمصْر لِئَلَّا يتغلب
على الْيمن، وَاسْتمرّ نَائِبا بهَا حَتَّى مَاتَ قبل سنة ثَلَاثِينَ
وسِتمِائَة وَاسْتولى على الْيمن بعده ابْنه عمر نَائِبا فَأرْسل من
مصر أَعْمَامه ليعزلوه ويكونوا مَوْضِعه، فَقَتلهُمْ واستقل بِملك
(2/181)
الْيمن، وتلقب بالمنصور واستكثر من
المماليك التّرْك فَقَتَلُوهُ وَملك بعده ابْنه يُوسُف وتلقب بالمظفر
وَصفا لَهُ الْيمن طَويلا.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَأَرْبَعين وسِتمِائَة: فِيهَا توفّي الصاحب جمال
الدّين يحيى بن عِيسَى بن إِبْرَاهِيم بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن
حَمْزَة بن إِبْرَاهِيم بن الْحُسَيْن بن مطروح، تقدم عِنْد الصَّالح
أَيُّوب وَتَوَلَّى لَهُ وَهُوَ بالشرق نظر الْجَيْش ثمَّ اسْتَعْملهُ
على دمشق ثمَّ عَزله بيغمور، وَكَانَ فَاضلا فِي النّظم والنثر.
وَله:
(عانقته فسكرت من طيب الشذا ... غُصْن رطيب بالنسيم قد اغتذى)
(نشوان مَا شرب المدام وَإِنَّمَا ... أَمْسَى بِخَمْر رضابه متنبذا)
(جَاءَ العذول يلومني من بعد مَا ... أَخذ الغرام عَليّ فِيهِ مأخذا)
(لَا أرعوي لَا أَنْتَهِي لَا أنثني ... عَن حبه فليهذ فِيهِ من هذى)
(إِن عِشْت عِشْت على الغرام وَإِن أمت ... وجدا بِهِ وصبابة يَا حبذا)
قلت وَمَا أحسن مَا ضمن بَيت المتنبي وَهُوَ:
(تذكرت مَا بَين العذيب وبارق ... مجر عوالينا ومجرى السوابق)
فَقَالَ:
(إِذا مَا سقاني رِيقه وَهُوَ باسم ... تذكرت مَا بَين العذيب وبارق)
(ويذكرني من قده ومدامعي ... مجر عوالينا ومجرى السوابق)
وَذكرت بِهَذَا مَا كنت ضمنته من أَبْيَات مَشْهُورَة للمتنبي (فَقلت)
:
(بروحي وَمَالِي عَادل الْقد ظَالِم ... وَلَكِن مغنوماً نجى مِنْهُ
غَانِم)
(إِذا مَا رايت الطّرف مِنْهُ وقده ... تَقول كَأَن السَّيْف للرمح
شائم)
(عزائم سحر فِي ذَوي الْعَزْم طرفه ... على قدر أهل الْعَزْم تَأتي
العزائم)
(نقاسي عَظِيما فِي هَوَاهُ فَلم نرع ... وتصغر فِي عين الْعَظِيم
العظائم)
(فسل عَن دمي فِيهِ وَعَن فيض أدمعي ... لتعرف أَي الساقيين الغمائم)
(لَئِن شبه العشاق خديه جنَّة ... فموج المنايا حولهَا متلاطم)
وَكَذَلِكَ ضمنت بَيْتا وَاحِدًا انتسب إِلَى عَليّ " رَضِي الله عَنهُ
" فَقلت:
(فيا سائلي عَن مذهبي أَن مذهبي ... وَلَاء بِهِ حب الصَّحَابَة يمزج)
(فَمن رام تقويمي فَإِنِّي مقوم ... وَمن رام تعويجي فَأَنِّي معوج)
وَكَذَلِكَ ضمنت غَالب قصيدة أبي الْعَلَاء فِي تهنئة بِرُجُوع من
غزَاة بِلَاد سيس وَفتح قلعة النقير سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة
على وَجه امتحان القريحة لَا فِي معِين، فَمِنْهَا قولي:
(جهادك مَقْبُول وعامك قَابل ... أَلا فِي سَبِيل الْمجد مَا أَنْت
فَاعل)
(إِذا حل مَوْلَانَا بِأَرْض يحلهَا ... عفاف وإقدام وحزم ونائل)
(2/182)
(وَإِن لَاحَ فِي القرطاس أسود خطه ...
يَقُول الدجى يَا صبح لونك حَائِل)
(لأقلامك السمر العوالي تواضعت ... وهابتك فِي أغمادهن المناصل)
(نزلتم على الْحصن المنيع جنابه ... فَلَيْسَ يُبَالِي من يغول
الغوائل)
(نصبتم عَلَيْهِ للحصار حبائلا ... كَمَا نصبت للفرقدين الحبائل)
(وزلزلتموه خيفة ومهابة ... فأثقل رضوى دون مَا هُوَ حَامِل)
(أَلا أَن جَيْشًا للنقير فاتحاً ... لآت بِمَا لم تستطعه الْأَوَائِل)
(فكم أنْشد التكفور يَا حصن لَا تبل ... وَلَو نظرت شرراً إِلَيْك
الْقَبَائِل)
(فَقَالَ لَهُ اسْكُتْ مَا رَأَيْت الَّذِي أرى ... وأيسر هجري أنني
عَنْك راحل)
(فَأصْبح من جور الْحَصَا كَأَنَّهُ ... أَخُو سقطة أَو ضالع
مُتَحَامِل)
(رميتم حجار المنجنيق عَلَيْهِم ... ففاخرت الشهب الْحَصَا والجنادل)
(حِجَارَة سجيل لَهَا الْبَدْر خَائِف ... على نَفسه والنجم فِي الغرب
مائل)
(وعدتم وللفتح الْمُبين تباشر ... وَقد حطمت فِي الدراعين العوامل)
(وفل قتال الْمُشْركين سُيُوفكُمْ ... فَمَا السَّيْف إِلَّا غمده
والحمائل)
وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي علم الدّين قَيْصر بن أبي الْقَاسِم بن عبد الْغَنِيّ بن
مُسَافر الْفَقِيه الْحَنَفِيّ الْمقري الْمَعْرُوف بتعاسيف إِمَام فِي
الرياضيات، اشْتغل بِمصْر وَالشَّام، ثمَّ بالموصل على الشَّيْخ كَمَال
الدّين مُوسَى بن يُونُس وَقَرَأَ عَلَيْهِ الموسيقى ثمَّ عَاد
وَتُوفِّي بِدِمَشْق فِي رَجَب، ومولده سنة أَربع وَسبعين وَخَمْسمِائة
بأصفون من شَرْقي صَعِيد مصر.
قلت: وفيهَا توفّي الشَّيْخ تَاج الدّين جَعْفَر بن مَحْمُود بن سيف
الْحلَبِي الْمَعْرُوف بالسراج صَاحب الكرامات الخارقة والأنفاس
الصادقة فِي الْعشْر الآخر من شعْبَان بحلب وَدفن بمقابر الصَّالِحين
وقبر الشَّيْخ أبي الْمَعَالِي الْحداد وَالشَّيْخ جَعْفَر الْمَذْكُور
وَالشَّيْخ أبي الْحُسَيْن النوري متقاربات ظَاهِرَة تزار، صحب
الشَّيْخ جَعْفَر الْمَذْكُور الشَّيْخ شهَاب الدّين السهروردي.
وروى عَنهُ عوارف المعارف، وَتخرج بِهِ خلق من أَعْيَان الصلحاء مثل
الشَّيْخ مهنى بن كَوْكَب الفوعي، وَمثل شَيخنَا عَيْش بن عِيسَى بن
عَليّ السرجاوي وَغَيرهم، وربى المريدين على عَادَة الصُّوفِيَّة.
وَكَانَ يكاشفهم بالأحوال فِي خلواتهم، وَيحل مَا أشكل عَلَيْهِم،
وَرجع بِسَبَبِهِ خلق كثير إِلَى الله فِي جبل السماق وبلد سرمين
وَالْبَاب وبزاعة وحلب وَغَيرهَا، وَقرب الْعَهْد بِهِ وبمن لَقينَا من
أَصْحَابه، وشهرة كراماته عِنْدهم تغني عَن ذكرهَا، وَكَانَ لَهُ
رَحْمَة الله عَلَيْهِ مريدون أعزة عَلَيْهِ بالبارة، فَكَانَ إِذا رأى
البارة من بعيد ينشد:
(وأحبها وَأحب منزلهَا الَّذِي ... نزلت بِهِ وَأحب أهل الْمنزل)
(2/183)
وَحكي عَنهُ أَنه جاور فِي مغارة بالْكفْر
الملاصق للبارة، وَكَانَ بالمغارة جب فَكَانَ كلما ختم ختمة ألْقى فِي
الْجب حَصَاة حَتَّى طم الْجب بالحصى ومحاسنه وزهده وكراماته
مَشْهُورَة بَين أَصْحَابه وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة خمسين وسِتمِائَة: فَلم يَقع مَا يصلح للتأريخ.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَخمسين وسِتمِائَة: فِيهَا اسْتَقر الصُّلْح
بَين النَّاصِر صَاحب الشَّام وَبَين البحرية بِمصْر على أَن للمصريين
إِلَى النَّهر الْأَزْرَق، وللناصر مَا وَرَاءه، وحضره الباذراني من
جِهَة الْخَلِيفَة.
وفيهَا: قطع ايبك التركماني خبر حسام الدّين بن أبي عَليّ الهذياني،
فخدم النَّاصِر بِدِمَشْق.
وفيهَا: أفرج النَّاصِر يُوسُف عَن النَّاصِر دَاوُد بن الْمُعظم
الَّذِي كَانَ صَاحب الكرك من اعتقاله بقلعة حمص بشفاعة الْخَلِيفَة
وَأمره أَن لَا يسكن فِي بِلَاده وَطلب بَغْدَاد فَمَا مكن من وصولها
ومنعوه وديعته الْجَوْهَر، وَكتب النَّاصِر يُوسُف إِلَى مُلُوك
الْأَطْرَاف أَن لَا يأووه وَلَا يميروه فَبَقيَ فِي جِهَات عانة
والحديثة وَضَاقَتْ بِهِ الْحَال بِمن مَعَه، وانضم إِلَيْهِ جمَاعَة
من غزنة يرحلون وينزلون جَمِيعًا، وَلما قوي الْحر وَلم يبْق بِالْبرِّ
عشب قصدُوا أزوار الْفُرَات يقاسون بق اللَّيْل وهواجر النَّهَار
وَمَعَهُ أَوْلَاده.
ولابنه الظَّاهِر شاذي فَهد يصيد فِي النَّهَار مَا يزِيد على عشرَة
غزلان ويمضي لَهُ ولأصحابه أَيَّام لَا يطْعمُون غير لُحُوم الغزلان.
وَاتفقَ أَن الْأَشْرَف صَاحب تل بَاشر وتدمر والرحبة أرسل إِلَى
النَّاصِر مركبين موسوقين دَقِيقًا وشعيراً، فهدده صَاحب دمشق على
ذَلِك، ثمَّ أَن النَّاصِر قصد مَكَانا للشرائي واستجار بِهِ فرتب لَهُ
دون كِفَايَته وَأذن لَهُ فِي نزُول الأنبار - ثَلَاثَة أَيَّام عَن
بَغْدَاد - والناصر دَاوُد مَعَ ذَلِك يتَضَرَّع إِلَى الْخَلِيفَة
المستعصم فَلَا يجِيبه وَيطْلب وديعته فيماطل عَنْهَا، وَمُدَّة مقَامه
فِي البراري ثَلَاثَة أشهر، ثمَّ شفع فِيهِ الْخَلِيفَة عِنْد الْملك
النَّاصِر فَأذن بعوده إِلَى دمشق ورتب لَهُ مائَة ألف على بحيرة
أفامية وَغَيرهَا يحصل مِنْهَا دون ثَلَاثِينَ ألفا.
وفيهَا: وصلت الْأَخْبَار من مَكَّة أَن نَارا ظَهرت من عدن وَبَعض
جبالها تظهر فِي اللَّيْل وَلها فِي النَّهَار دُخان عَظِيم.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وسِتمِائَة:
دولة الحفصيين مُلُوك تونس: ذكرت فِي هَذِه السّنة لِأَنَّهَا
كالمتوسطة لمُدَّة ملكهم نَقله الْمُؤلف رَحمَه الله تَعَالَى من
الشَّيْخ الْفَاضِل ركن الدّين بن قويع التّونسِيّ قَالَ: الحفصيون
أَوَّلهمْ أَبُو حَفْص عمر بن محيي الهتتاني، وهتتانة بتائين مثناتين
فَوق قَبيلَة من المصامدة يَزْعمُونَ أَنهم قرشيون من بني عدي بن كَعْب
رَهْط عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ، وَأَبُو
(2/184)
حَفْص من أكبر أَصْحَاب ابْن تومرت بعد عبد
الْمُؤمن.
وَتَوَلَّى عبد الْوَاحِد بن أبي حَفْص إفريقية نِيَابَة عَن بني عبد
الْمُؤمن فِي سنة ثَلَاث وسِتمِائَة، وَمَات سلخ ذِي الْحجَّة سنة
ثَمَان عشرَة وسِتمِائَة، فَتَوَلّى أَبُو الْعَلَاء من بني عبد
الْمُؤمن ثمَّ توفّي فَعَادَت إفريقية إِلَى ولَايَة الحفصيين.
وَتَوَلَّى مِنْهُم عبد الله بن عبد الْوَاحِد بن ذِي حَفْص سنة ثَلَاث
وَعشْرين وسِتمِائَة، وكما تولى ولى أَخَاهُ أَبَا زَكَرِيَّا يحيى بن
قابس وأخاه أَبَا إِبْرَاهِيم إِسْحَاق بِلَاد الجريد، ثمَّ خرج على
عبد الله وَهُوَ على قابس أَصْحَابه ورجموه وطردوه وولوا مَوْضِعه
أَبَا زَكَرِيَّا بن عبد الْوَاحِد سنة خمس وَعشْرين وسِتمِائَة فنقم
بَنو عبد الْمُؤمن على أبي زَكَرِيَّاء ذَلِك فأسقط أَبُو زَكَرِيَّاء
اسْم عبد الْمُؤمن من الْخطْبَة وَبَقِي اسْم الْمهْدي، وتملك إفريقية.
وخطب لنَفسِهِ بالأمير المرتضى واتسعت مَمْلَكَته، وَفتح تلمسان
وَالْمغْرب الْأَوْسَط بِلَاد الجريد والزاب، وَبَقِي كَذَلِك حَتَّى
توفّي على يوفة سنة سبع وَأَرْبَعين وسِتمِائَة.
وَله بتونس أبنية شامخة، وَكَانَ عَالما بالأدب، وَخلف أَرْبَعَة
بَنِينَ وهم: أَبُو عبد الله مُحَمَّد وَأَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم
وَأَبُو حَفْص عمر وَأَبُو بكر، وكنيته أَبُو يحيى وَخلف أَخَوَيْهِ
أَبَا إِبْرَاهِيم إِسْحَاق وَمُحَمّد اللحياني الصَّالح الزَّاهِد.
ثمَّ تولى بعده ابْنه أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أبي زَكَرِيَّاء،
ثمَّ خلعه عَمه أَبُو إِبْرَاهِيم وَبَايع لِأَخِيهِ اللحياني على كره
مِنْهُ، فَجمع المخلوع أَصْحَابه يَوْم خلعه وَقتل عميه وَملك وتلقب،
وخطب لنَفسِهِ بالمستنصر بِاللَّه أَمِير الْمُؤمنِينَ أبي عبد الله
مُحَمَّد بن الْأُمَرَاء الرَّاشِدين.
وَفِي أَيَّامه سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وسِتمِائَة وصل الفرنسيس إِلَى
إفريقية، وكادت تُؤْخَذ فأماته الله وتفرق جمعه، وَفِي أَيَّامه خافه
أَخُوهُ أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم فهرب ثمَّ أَقَامَ بتلمسان،
وَتُوفِّي الْمُسْتَنْصر فِي ذِي الْحجَّة سنة خمس وَسبعين وسِتمِائَة
فَملك ابْنه يحيى وتلقب بالواثق بِاللَّه أَمِير الْمُؤمنِينَ.
وَكَانَ ضَعِيف الرَّأْي تغلب عَلَيْهِ عَمه أَبُو إِسْحَاق فَخلع
الواثق نَفسه، وَملك أَبُو إِسْحَاق فِي ربيع الأول سنة ثَمَان وَسبعين
وسِتمِائَة، وخطب لنَفسِهِ بالأمير الْمُجَاهِد، وَترك زِيّ الحفصيين
إِلَى زِيّ زناتة وَعَكَفَ على الشّرْب وَفرق المملكة على أَوْلَاده
فذبحوا الواثق المخلوع وابنيه الْفضل وَالطّيب.
وَسلم للواثق ابْن صَغِير يلقب أَبَا عصيدة عملت أمة عصيدة وأهدتها
للجيران فلقب بذلك.
ثمَّ ظهر إِنْسَان ادّعى أَنه الْفضل بن الواثق الَّذِي ذبح مَعَ
أَبِيه وَجمع وَقصد أَبَا إِسْحَاق إِبْرَاهِيم وقهره فهرب إِلَى بجاية
وَبهَا ابْنه أَبُو فَارس عبد الْعَزِيز فَترك أَبُو فَارس أَبَاهُ
ببجاية وَسَار بإخوته وَجمعه إِلَى الدعى بتونس، والتقى الْجَمْعَانِ
فَانْهَزَمَ عَسْكَر بجاية، وَقتل أَبُو
(2/185)
فَارس وَثَلَاثَة من إخْوَته، وَنَجَا لَهُ
أَخ اسْمه يحيى وَعَمه أَبُو حَفْص عمر.
ثمَّ أرسل الدعي من قتل ببجاية أَبَا إِسْحَاق إِبْرَاهِيم وجاءه
بِرَأْسِهِ ثمَّ تحدث النَّاس بِأَنَّهُ دعِي، وَاجْتمعَ الْعَرَب على
عمر بن أبي زَكَرِيَّاء بعد هربه من المعركة فقصد الدعي ثَانِيًا بتونس
وقهره، واستتر الدعي ثمَّ أحضر واعترف بنسبه، وَضربت عُنُقه، والدعي
أَحْمد بن مَرْوَان بن أبي عمار من بجاية، كَانَ أَبوهُ يتجر إِلَى
بِلَاد السودَان.
وَكَانَ على الدعي بعض شبه من الْفضل بن الواثق فَشهد لَهُ نصير
الْأسود، وَكَانَ خصيصاً بالواثق المخلوع أَنه الْفضل وَجمع عَلَيْهِ
الْعَرَب حَتَّى كَانَ مِنْهُ مَا ذكر، وَكَانَ يخْطب للدعي بالأمام
الْمَنْصُور بِاللَّه وَلما اسْتَقر أَبُو حَفْص تلقب بالمستنصر
بِاللَّه وَهُوَ الْمُسْتَنْصر الثَّانِي، وَسَار ابْن أَخِيه يحيى بن
إِبْرَاهِيم الَّذِي سلم من المعركة إِلَى بجاية فملكها، وتلقب
بالمنتخب لإحياء دين الله أَمِير الْمُؤمنِينَ.
وَتُوفِّي الْمُسْتَنْصر الثَّانِي سنة خمس وَتِسْعين وسِتمِائَة،
وَبَايع فِي مَرضه لِابْنِهِ الصَّغِير، ثمَّ وعظه الْفُقَهَاء لصِغَر
ابْنه فَأبْطل بيعَته، وأخرح ولد الواثق المخلوع الَّذِي كَانَ صَغِيرا
وَسلم من الذّبْح الملقب بِأبي عصيدة، وبويع صَبِيحَة موت أبي حَفْص
الْمُسْتَنْصر، وَاسم أبي عصيدة أَبُو عبد الله مُحَمَّد وتقلب
بالمستنصر أَيْضا وَتُوفِّي فِي أَيَّامه صَاحب بجاية الْمُنْتَخب يحيى
بن إِبْرَاهِيم بن أبي زَكَرِيَّاء، وَملك بجاية بعده ابْنه خَالِد بن
يحيى، وَبَقِي أَبُو عصيدة كَذَلِك حَتَّى توفّي سنة تسع وَسَبْعمائة،
فَملك بعده من الحفصيين أَبُو بكر بن عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر بن أبي
زَكَرِيَّاء بن عبد الْوَاحِد بن أبي حَفْص صَاحب ابْن تومرت، وَأقَام
فِي الْملك ثَمَانِيَة عشر يَوْمًا.
ثمَّ وصل خَالِد بن الْمُنْتَخب صَاحب بجاية، وَدخل تونس وَقتل أَبَا
بكر سنة تسع وَسَبْعمائة، وَلما جرى ذَلِك كَانَ زَكَرِيَّاء اللحياني
بِمصْر فَسَار مَعَ عَسْكَر السُّلْطَان الْملك النَّاصِر إِلَى طرابلس
الغرب، وَبَايَعَهُ الْعَرَب وَسَار إِلَى تونس فَخلع خَالِد بن
الْمُنْتَخب وَحبس، ثمَّ قتل قصاصا بِأبي بكر بن عبد الرَّحْمَن
الْمُقدم الذّكر. وَملك اللحياني إفريقية وَهُوَ أَبُو يحيى
زَكَرِيَّاء بن أَحْمد بن مُحَمَّد الزَّاهِد اللحياني بن عبد
الْوَاحِد بن أبي حَفْص صَاحب ابْن تومرت، ثمَّ تحرّك على اللحياني
أَخُو خَالِد وَهُوَ أَبُو بكر بن يحيى الْمُنْتَخب، فهرب اللحياني
وَأقَام بالإسكندرية وَملك أَبُو بكر الْمَذْكُور تونس وَمَا مَعهَا
خلا طرابلس والمهدية فَإِنَّهُ بعد هرب اللحياني بَايع ابْنه مُحَمَّد
بن اللحياني لنَفسِهِ وَقَاتل أَبَا بكر فَهَزَمَهُ أَبُو بكر،
وَاسْتقر مُحَمَّد بن اللحياني بالمهدية وَله مَعهَا طرابلس.
وَكَانَ اسْتِيلَاء أبي بكر وهرب اللحياني سنة تسع عشرَة وَسَبْعمائة،
ثمَّ وَردت على اللحياني بالإسكندرية مكاتبات من تونس فِي ذِي الْقعدَة
سنة إِحْدَى وَعشْرين وَسَبْعمائة يذكرُونَ فِيهَا أَن أَبَا بكر
مستملك تونس قد هرب وَترك الْبِلَاد وَأَنَّهُمْ قد أَجمعُوا على
طَاعَة اللحياني، وَبَايَعُوا نَائِبه مُحَمَّد بن أبي بكر من الحفصيين
وَهُوَ صهر زَكَرِيَّا اللحياني وهم فِي
(2/186)
انْتِظَار وُصُول اللحياني إِلَى
مَمْلَكَته، ولعمري لقد صَارَت مملكة إفريقية مملكة يهرب مِنْهَا
لضَعْفه باستيلاء الْعَرَب.
وفيهَا: قتل الْمعز أيبك التركماني خشداشة أقطاي الجمدار بالتجهيز
عَلَيْهِ إِذْ كَانَ يمنعهُ من الإستقلال بالسلطنة.
وَكَانَ الِاسْم للأشرف مُوسَى بن يُوسُف بن يُوسُف بن الْكَامِل
مُحَمَّد بن الْعَادِل أبي بكر بن أَيُّوب فاستقل الْمعز التركماني
بالسلطنة، وأبطل الْأَشْرَف مُوسَى وَبعث بِهِ إِلَى عماته القطبيات،
ومُوسَى آخر من خطب لَهُ من بَيت أَيُّوب بِمصْر، وَفِي هَذِه السّنة
انْقَضتْ دولتهم من الديار المصرية، وَلما علمت البحرية بقتل أقطاي
هربوا من مصر إِلَى النَّاصِر يُوسُف صَاحب الشَّام، وأطعموه فِي مصر
فَرَحل من دمشق وَنزل عمنَا من الْغَوْر وَأرْسل إِلَى غَزَّة عسكراً
وبرز الْمعز صَاحب مصر إِلَى العباسية، وَخرجت السّنة وهم على ذَلِك.
وفيهَا: ولى الْمَنْصُور صَاحب حماه قَضَاء حماه القَاضِي شمس الدّين
إِبْرَاهِيم بن هبة الله بن الْبَارِزِيّ بعد عزل المحبي حَمْزَة بن
مُحَمَّد.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَخمسين وسِتمِائَة: فِيهَا مَشى نجم الدّين
الباذراني فِي الصُّلْح بَين المصريين والشاميين على أَن للناصر
الشَّام إِلَى الْعَريش وَالْحَد بِئْر العَاصِي وَهُوَ مَا بَين
الْوَارِدَة والعريش، وللمعز أيبك الديار المصرية وَرجع كل إِلَى
بَلَده.
وفيهَا: أَو الَّتِي قبلهَا تزوج الْمعز أيبك شَجَرَة الدّرّ أم
خَلِيل.
وفيهَا: طلب الْملك النَّاصِر دَاوُد من الْملك النَّاصِر يُوسُف
دستوراً إِلَى الْعرَاق ليطلب من الْخَلِيفَة الجوهرالذي أودعهُ فَأذن
لَهُ فَسَار إِلَى كربلا ثمَّ إِلَى الْحَج، وَلما رأى قبر النَّبِي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تعلق فِي أَسْتَار الْحُجْرَة
الشَّرِيفَة وَقَالَ: اشْهَدُوا أَن هَذَا مقَامي من رَسُول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دَاخِلا عَلَيْهِ، مستشفعاً بِهِ
إِلَى ابْن عَمه المستعصم فِي أَن يرد عَليّ وديعتي، فارتفع بكاء
النَّاس، وَكتب بِصُورَة مَا جرى مشروح، وَدفع إِلَى أَمِير الْحَاج
فِي الثَّامِن وَالْعِشْرين من ذِي الْحجَّة، وَتوجه النَّاصِر دَاوُد
مَعَ الْحَاج الْعِرَاقِيّ وَأقَام بِبَغْدَاد.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَخمسين وسِتمِائَة فِيهَا: توفّي كيخسرو صَاحب
بِلَاد الرّوم، وَقَامَ بعده ابناه الصغيران عز الدّين كيكاوس وركن
الدّين قلج أرسلان، وفيهَا توجه كَمَال الدّين بن العديم رَسُولا من
النَّاصِر يُوسُف صَاحب الشَّام إِلَى الْخَلِيفَة المستعصم تقدمة
جليلة، وَطلب خلعة لمخدومه، وَوصل شمس الدّين سنقر الْأَقْرَع من
مماليك المظفر غَازِي صَاحب ميافارقين من جِهَة الْمعز أيبك صَاحب مصر
إِلَى بَغْدَاد بتقدمة جليلة، وسعى فِي تَعْطِيل خلعة النَّاصِر فحار
الْخَلِيفَة، ثمَّ أحضر سكيناً من اليشم كَبِيرَة، وَقَالَ الْخَلِيفَة
للوزير: أعْط هَذِه السكين رَسُول صَاحب الشَّام عَلامَة مني أَن لَهُ
خلعة عِنْدِي فِي وَقت آخر وَأما فِي هَذَا الْوَقْت فَلَا يمكنني
فَعَاد كَمَال الدّين بن العديم بالسكين بِلَا خلعة.
وفيهَا: حُوسِبَ النَّاصِر دَاوُد على مَا وَصله من الْخَلِيفَة
المستعصم من مضيف مثل
(2/187)
اللَّحْم وَالْخبْز والحطب وَالشعِير
والتبن، وَثمن عَلَيْهِ غَالِبا وَأعْطى شَيْئا نزراً وألزم فَوضع خطه
بِبَرَاءَة الْخَلِيفَة من وديعته الْجَوْهَر، وَعَاد فَنزل بصالحيه
دمشق.
وفيهَا: ثَالِث شَوَّال توفّي سيف الدّين طغرل بك مَمْلُوك المظفر
صَاحب حماه زَوْجَة المظفر أُخْته ودبر حماه بعده حَتَّى توفّي.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَخمسين وسِتمِائَة: فِيهَا يَوْم الثُّلَاثَاء
الثَّالِث وَالْعِشْرين من ربيع الأول قتل الْملك الْمعز أيبك
التركماني الجاشنكير الصَّالِحِي قتلته زَوجته شَجَرَة الدّرّ الَّتِي
كَانَت زَوْجَة أستاذه الْملك الصَّالح، وخطب لَهَا بالسلطنة بلغَهَا
أَنه خطب ابْنة بدر الدّين لُؤْلُؤ صَاحب الْموصل فجهزت عَلَيْهِ
الْجَوْجَرِيّ والخدام فِي الْحمام، وَأرْسلت تِلْكَ اللَّيْلَة أصْبع
أيبك الْمعز وخاتمه إِلَى الْأَمِير عز الدّين الْحلَبِي الْكَبِير
فَلم يَجْسُر على الْقيام بِالْأَمر وحمتها المماليك الصالحية من
الْقَتْل، وأقيم نور الدّين عَليّ بن الْملك الْمعز، ولقب بالمنصور،
وعمره خمس عشرَة سنة ونقلت شَجَرَة الدّرّ إِلَى البرج الْأَحْمَر
وصلبوا الخدام القاتلين، وهرب سنجر الْجَوْجَرِيّ مَمْلُوك الطواشي
محسن، ثمَّ صلبوه واحتيط على الصاحب بهاء الدّين بن حناء لكَونه وَزِير
شَجَرَة الدّرّ وَأخذ خطه بستين ألف دِينَار.
وَفِي يَوْم الْجُمُعَة عَاشر ربيع الآخر اتّفق مماليك الْمعز أيبك،
مثل سيف الدّين قطز وسنجر الغتمي وبهادر وقبضوا على علم الدّين سنجر
الْحلَبِي أتابك الْمَنْصُور عَليّ بن الْمعز أيبك ورتبوا فِي
الأتابكية أقطاي المستعرب الصَّالِحِي، وَفِي سادس عشر ربيع الآخر
مِنْهَا قتلت شَجَرَة الدّرّ وألقيت خَارج البرج فَحملت إِلَى تربَتهَا
فدفنت وَبعد أَيَّام خنق شرف الدّين الفائزي.
وفيهَا: استوحش النَّاصِر من البحرية ونزحهم عَن دمشق فقدموا غَزَّة
وانتموا إِلَى الْملك المغيث فتح الدّين عمر بن الْعَادِل أبي بكر بن
الْكَامِل وانزعج أهل مصر لقدوم البحرية إِلَى غَزَّة، وبرزوا إِلَى
العباسية، وَنَفر من البحرية جمَاعَة إِلَى الْقَاهِرَة مِنْهُم عز
الدّين الْأَثْرَم فأكرموه وأفرجوا عَن أملاكه وَأرْسل صَاحب الشَّام
عسكراً فِي أَثَرهم فكبسته البحرية ونالوا مِنْهُ.
ثمَّ انْكَسَرت البحرية فَانْهَزَمُوا إِلَى البلقاء وَإِلَى زغر
ملتجئين إِلَى المغيث صَاحب الكرك فأنفق فيهم أَمْوَالًا وأطمعوه فِي
مصر فجهزهم بِمَا احتاجوا وقصدوا مصر فَخرج عَسَاكِر مصر لقتالهم،
والتقى المصريون مَعَ البحرية وعسكر المغيث بكرَة السبت منتصف ذِي
الْقعدَة مِنْهَا، فَانْهَزَمَ عَسْكَر المغيث والبحرية، وَمِنْهُم
بيبرس البندقدار الْمُسَمّى بعد بِالْملكِ الظَّاهِر إِلَى جِهَة
الكرك.
وفيهَا: وصل من الْخَلِيفَة الطوق والتقليد إِلَى الْملك النَّاصِر
يُوسُف بن الْعَزِيز.
وفيهَا: استجار النَّاصِر دَاوُد بِنَجْم الدّين الباذراني فصحبه إِلَى
قرقيسيا وأخره ليشاور عَلَيْهِ فَلم يُؤْذونَ لَهُ وَطَالَ مقَامه
فسافر إِلَى الْبَريَّة وَقصد تيه بني إِسْرَائِيل وَأقَام مَعَ عرب
تِلْكَ الْبِلَاد.
(2/188)
وفيهَا: أَو الَّتِي قبلهَا ظَهرت نَار بِالْحرَّةِ عِنْد مَدِينَة
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَكَانَت تضيء
بِاللَّيْلِ من مَسَافَة بعيدَة جدا. ولعلها النَّار الَّتِي ذكرهَا
رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من عَلَامَات
السَّاعَة؟ فَقَالَ نَار تظهر بالحجاز تضيء لَهَا أَعْنَاق الأبل
ببصرى.
قلت: وَلم يكن لَهَا حر على عظمها وَشدَّة ضوئها، ودامت أَيَّامًا
وتواتر شَأْن هَذِه النَّار، ونظمت الشُّعَرَاء عِنْد ظُهُور هَذِه
النَّار مدائح فِي النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -،
فمما نظم المشد سيف الدّين عمر بن قزل يُخَاطب بِهِ النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
(وَلما نفى عني الكرا خبر الَّتِي ... أَضَاءَت بِأحد ثمَّ رضوى ويذبل)
(ولاح سناها من جبال قُرَيْظَة ... لسكان تيماً فاللوى فالعقيقل)
(وأخبرت عَنْهَا فِي زَمَانك منذراً ... بِيَوْم عبوس قمطرير مطول)
(ستظهر نَار بالحجاز مضيئة ... لأعناق عيس نَحْو بصرى لمجتلى)
(فَكَانَت كَمَا قد قلت حَقًا بِلَا مرا ... صدقت وَكم كذبت كل معطل)
(لَهَا شرر كالبرق لَكِن شهيقها ... فكالرعد عِنْد السَّامع المتأمل)
(وَأصْبح وَجه الشَّمْس كالليل كاسفاً ... وَبدر الدجى فِي ظلمَة
لَيْسَ ينجلي)
(وأبدت من الْآيَات كل عَجِيبَة ... وزلزلت الأرضون أَي تزلزل)
(جزعت فَقَامَ النَّاس حَولي وَأَقْبلُوا ... يَقُولُونَ لَا تهْلك أسي
وَتحمل)
(طفى النَّار نور من ضريحك سَاطِع ... فَعَادَت سَلاما لَا تضر بمصطلي)
وَهِي طَوِيلَة، وَالله أعلم.
ثمَّ اتّفق الخدم بحرم النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- وَقع مِنْهُم فِي بعض اللَّيَالِي تَفْرِيط، فاشتعلت النَّار فِي
الْمَسْجِد الشريف، واحترقت سقوفه وتألم النَّاس لذَلِك.
قلت: وَكَانَ أصل هَذَا الْحَرِيق من مسرجة قيم، وَقلت فِي ذَلِك:
(وَالنَّار أَيْضا من جنود نَبينَا ... لم تأت إِلَّا بِالَّذِي
يخْتَار)
(متغلبون يزخرفون بسحتهم ... حرم النَّبِي فطهرته النَّار) |