تاريخ ابن خلدون

الفصل السابع والخمسون في أن حصول هذه الملكة بكثرة الحفظ وجودتها بجودة المحفوظ
قد قدّمنا أنّه لا بدّ من كثرة الحفظ لمن يروم تعلّم اللّسان العربيّ وعلى قدر جودة المحفوظ وطبقته في جنسه وكثرته من قلّته تكون جودة الملكة الحاصلة عنه للحافظ. فمن كان محفوظه من أشعار العرب الإسلاميّين شعر حبيب أو العتابيّ أو ابن المعتزّ أو ابن هانئ أو الشّريف الرّضيّ أو رسائل ابن المقفّع أو سهل ابن هارون أو ابن الزّيّات أو البديع أو الصّابيء تكون ملكته أجود وأعلى مقاما ورتبة في البلاغة ممّن يحفظ شعر ابن سهل من المتأخّرين أو ابن النّبيه أو ترسّل البيسانيّ أو العماد الأصبهانيّ لنزول طبقة هؤلاء عن أولئك يظهر ذلك للبصير النّاقد صاحب الذّوق. وعلى مقدار جودة المحفوظ أو المسموع تكون جودة الاستعمال من بعده ثمّ إجادة الملكة من بعدهما. فبارتقاء المحفوظ في طبقته من الكلام ترتقي الملكة الحاصلة لأنّ الطّبع إنّما ينسج على منوالها وتنمو قوى الملكة بتغذيتها. وذلك أنّ النّفس وإن كانت في جبلّتها واحدة بالنّوع فهي تختلف في البشر بالقوّة والضعف في الإدراكات. واختلافها إنّما هو باختلاف ما يرد عليها من الإدراكات والملكات والألوان الّتي تكيّفها من خارج. فبهذه يتمّ وجودها وتخرج من القوّة إلى الفعل صورتها والملكات الّتي تحصل لها إنّما تحصل على التّدريج كما قدّمناه. فالملكة الشّعريّة تنشأ بحفظ الشّعر وملكة الكتابة بحفظ الأسجاع والتّرسيل، والعلميّة بمخالطة العلوم والإدراكات والأبحاث والأنظار، والفقهيّة بمخالطة الفقه وتنظير المسائل وتفريعها وتخريج الفروع على الأصول، والتّصوّفيّة الرّبّانيّة بالعبادات والأذكار وتعطيل الحواسّ الظّاهرة بالخلوة والانفراد عن الخلق ما استطاع حتّى تحصل له ملكة الرّجوع إلى حسّه الباطن وروحه وينقلب ربّانيّا وكذا سائرها. وللنّفس في كلّ واحد منها لون تتكيّف به

(1/796)


وعلى حسب ما نشأت الملكة عليه من جودة أو رداءة تكون تلك الملكة في نفسها فملكة البلاغة العالية الطّبقة في جنسها إنّما تحصل بحفظ العالي في طبقته من الكلام ولهذا كان الفقهاء وأهل العلوم كلّهم قاصرين في البلاغة وما ذلك إلّا لما يسبق إلى محفوظهم ويمتلئ به من القوانين العلميّة والعبارات الفقهيّة الخارجة عن أسلوب البلاغة والنّازلة عن الطّبقة لأنّ العبارات عن القوانين والعلوم لا حظّ لها في البلاغة فإذا سبق ذلك المحفوظ إلى الفكر وكثر وتلوّنت به النّفس جاءت الملكة النّاشئة عنه في غاية القصور وانحرفت عباراته عن أساليب العرب في كلامهم. وهكذا نجد شعر الفقهاء والنّحاة والمتكلّمين والنّظّار وغيرهم ممّن لم يمتلئ من حفظ النّقيّ الحرّ من كلام العرب. أخبرني صاحبنا الفاضل أبو القاسم بن رضوان كاتب العلامة بالدّولة المرينيّة قال: ذكرت يوما صاحبنا أبا العبّاس بن شعيب كاتب السّلطان أبي الحسن وكان المقدّم في البصر باللّسان لعهده فأنشدته مطلع قصيدة ابن النّحويّ ولم أنسبها له وهو هذا:
لم أدر حين وقفت بالأطلال ... ما الفرق بين جديدها والبالي
فقال لي على البديهة: هذا شعر فقيه، فقلت له: ومن أين لك ذلك، فقال:
من قوله ما الفرق؟ إذ هي من عبارات الفقهاء وليست من أساليب كلام العرب، فقلت له: للَّه أبوك إنّه ابن النّحويّ. وأمّا الكتّاب والشعراء فليسوا كذلك لتخيّرهم في محفوظهم ومخالطتهم كلام العرب وأساليبهم في التّرسّل وانتقائهم لهم الجيّد من الكلام. ذاكرت يوما صاحبنا أبا عبد الله بن الخطيب وزير الملوك بالأندلس من بني الأحمر وكان الصّدر المقدّم في الشّعر والكتابة فقلت له: أجد استصعابا عليّ في نظم الشّعر متى رمته مع بصري به وحفظي للجيّد من الكلام من القرآن والحديث وفنون من كلام العرب وإن كان محفوظي قليلا. وإنّما أتيت والله أعلم بحقيقة الحال من قبل ما حصل في حفظي من الأشعار العلميّة والقوانين التّألفيّة. فإنّي حفظت قصيدتي الشاطبيّ الكبرى والصّغرى في

(1/797)


القراءات في الرسم واستظهرتهما وتدارست كتابي ابن الحاجب في الفقه والأصول وجمل الخونجيّ في المنطق وبعض كتاب التّسهيل وكثيرا من قوانين التّعليم في المجالس فامتلأ محفوظي من ذلك وخدش وجه الملكة الّتي استعددت [1] لها بالمحفوظ الجيّد من القرآن والحديث وكلام العرب تعاق القريحة عن بلوغها.
فنظر إليّ ساعة معجبا [2] ثمّ قال: للَّه أنت وهل يقول هذا إلّا مثلك؟ ويظهر لك من هذا الفصل وما تقرّر فيه سرّ آخر وهو إعطاء السّبب في أنّ كلام الإسلاميّين من العرب أعلى طبقة في البلاغة وأذواقها من كلام الجاهليّة في منثورهم ومنظومهم.
فإنّا نجد شعر حسّان بن ثابت وعمر بن أبي ربيعة والحطيئة وجرير والفرزدق ونصيّب وغيلان ذي الرّمّة والأحوص وبشّار ثمّ كلام السّلف من العرب في الدّولة الأمويّة وصدرا من الدّولة العبّاسيّة في خطبهم وترسيلهم ومحاوراتهم للملوك أرفع طبقة في البلاغة من شعر النّابغة وعنترة وابن كلثوم وزهير وعلقمة بن عبدة وطرفة بن العبد ومن كلام الجاهليّة في منثورهم ومحاوراتهم والطّبع السّليم والذّوق الصّحيح شاهدان بذلك للنّاقد البصير بالبلاغة. والسّبب في ذلك أنّ هؤلاء الّذين أدركوا الإسلام سمعوا الطّبقة العالية من الكلام في القرآن والحديث اللّذين عجز البشر عن الإتيان بمثليهما لكونها ولجت في قلوبهم ونشأت على أساليبها نفوسهم فنهضت طباعهم وارتقت ملكاتهم في البلاغة على ملكات من قبلهم من أهل الجاهليّة ممّن لم يسمع هذه الطّبقة ولا نشأ عليها فكان كلامهم في نظمهم ونثرهم أحسن ديباجة وأصفى رونقا من أولئك وأرصف مبنى وأعدل تثقيفا بما استفادوه من الكلام العالي الطّبقة. وتأمّل ذلك يشهد لك به ذوقك إن كنت من أهل الذّوق والبصر بالبلاغة. ولقد سألت يوما شيخنا الشّريف أبا القاسم قاضي غرناطة لعهدنا وكان شيخ هذه الصّناعة أخذ بسبتة عن جماعة من مشيختها من
__________
[1] وفي نسخة أخرى: استدعيت.
[2] وفي نسخة أخرى: متعجبا.

(1/798)


تلاميذ الشّلوبين واستبحر في علم اللّسان وجاء من وراء الغاية فيه فسألته يوما ما بال العرب الإسلاميّين أعلى طبقة في البلاغة من الجاهليّين؟ ولم يكن ليستنكر ذلك بذوقه فسكت طويلا ثمّ قال لي: والله ما أدري، فقلت: أعرض عليك شيئا ظهر لي في ذلك ولعلّه السّبب فيه. وذكرت له هذا الّذي كتبت فسكت معجبا ثمّ قال لي: يا فقيه هذا كلام من حقّه أن يكتب بالذّهب. وكان من بعدها يؤثر محلّي ويصيخ في مجالس التّعليم إلى قولي ويشهد لي بالنّباهة في العلوم، والله خلق الإنسان وعلّمه البيان.
الفصل الثامن والخمسون في بيان المطبوع من الكلام والمصنوع وكيف جودة المصنوع أو قصوره
اعلم أنّ الكلام الّذي هو العبارة والخطاب، إنّما سرّه وروحه في إفادة المعنى. وأمّا إذا كان مهملا فهو كالموات الّذي لا عبرة به. وكمال الإفادة هو البلاغة على ما عرفت من حدّها عند أهل البيان لأنّهم يقولون هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال، ومعرفة الشّروط والأحكام الّتي بها تطابق التراكيب اللّفظيّة مقتضى الحال، هو فنّ البلاغة. وتلك الشّروط والأحكام للتراكيب في المطابقة استقريت من لغة العرب وصارت كالقوانين. فالتراكيب بوضعها تفيد الإسناد بين المسندين، بشروط وأحكام هي جلّ قوانين العربيّة. وأحوال هذه التراكيب من تقديم وتأخير، وتعريف وتنكير، وإضمار وإظهار، وتقييد وإطلاق وغيرها، يفيد الأحكام المكتنفة من خارج بالإسناد، وبالمتخاطبين حال التخاطب بشروط وأحكام هي قوانين لفنّ، يسمّونه علم المعاني من فنون

(1/799)


البلاغة. فتندرج قوانين العربيّة لذلك في قوانين علم المعاني لأنّ إفادتها الإسناد جزء من إفادتها للأحوال المكتنفة بالإسناد. وما قصّر من هذه التراكيب عن إفادة مقتضى الحال لخلل في قوانين الإعراب أو قوانين المعاني كان قاصرا عن المطابقة لمقتضى الحال، ولحق بالمهمل الّذي هو في عداد الموات.
ثمّ يتبع هذه الإفادة لمقتضى الحال التفنن في انتقال التركيب بين المعاني بأصناف الدلالات، لأنّ التركيب يدلّ بالوضع على معنى، ثمّ ينتقل الذّهن إلى لازمه أو ملزومه أو شبهه، فيكون فيها مجازا: إمّا باستعارة أو كناية كما هو مقرّر في موضعه، ويحصل للفكر بذلك الانتقال لذّة كما تحصل في الإفادة وأشدّ. لأنّ في جميعها ظفر بالمدلول من دليله. والظّفر من أسباب اللّذّة كما علمت. ثمّ لهذه الانتقالات أيضا شروط وأحكام كالقوانين صيّروها صناعة، وسمّوها بالبيان.
وهي شقيقة علم المعاني المفيد لمقتضى الحال، لأنّها راجعة إلى معاني التراكيب ومدلولاتها. وقوانين علم المعاني راجعة إلى أحوال التراكيب أنفسها من حيث الدلالة. واللّفظ والمعنى متلازمان متضايقان كما علمت. فإذا علم المعاني وعلم البيان هما جزء البلاغة، وبهما كمال الإفادة، فهو مقصّر عن البلاغة ويلتحق عند البلغاء بأصوات الحيوانات العجم وأجدر به أن لا يكون عربيا، لأنّ العربيّ هو الّذي يطابق بإفادته مقتضى الحال. فالبلاغة على هذا هي أصل الكلام العربيّ وسجيّته وروحه وطبيعته.
ثمّ اعلم أنّهم إذا قالوا: «الكلام المطبوع» فإنّهم يعنون به الكلام الّذي كملت طبيعته وسجيّته من إفادة مدلوله المقصود منه، لأنّه عبارة وخطاب، ليس المقصود منه النطق فقط. بل المتكلّم يقصد به أن يفيد سامعه ما في ضميره إفادة تامّة، ويدلّ به عليه دلالة وثيقة. ثمّ يتبع تراكيب الكلام في هذه السجيّة الّتي له بالأصالة ضروب من التحسين والتزيين، بعد كمال الإفادة وكأنّها تعطيها رونق الفصاحة من تنميق الأسجاع، والموازنة بين حمل الكلام وتقسيمه

(1/800)


بالأقسام المختلفة الأحكام والتورية باللّفظ المشترك عن الخفيّ من معانيه، والمطابقة بين المتضادّات، ليقع التجانس بين الألفاظ والمعاني، فيحصل للكلام رونق ولذّة في الأسماع وحلاوة وجمال كلّها زائدة على الإفادة.
وهذه الصنعة موجودة في الكلام المعجز في مواضع متعدّدة مثل: «وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى 92: 1- 2» ، ومثل: «فَأَمَّا من أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى 92: 5- 6» ، إلى آخر التقسيم في الآية. وكذا: «فَأَمَّا من طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا 79: 37- 38» إلى آخر الآية. وكذا: «هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً 18: 104» . وأمثاله كثير. وذلك بعد كمال الإفادة في أصل هذه التراكيب قبل وقوع هذا البديع فيها. وكذا وقع في كلام الجاهليّة منه، لكن عفوا من غير قصد ولا تعمّد. ويقال إنّه وقع في شعر زهير.
وأمّا الإسلاميّون فوقع لهم عفوا وقصدا، وأتوا منه بالعجائب. وأوّل من أحكم طريقته حبيب بن أوس والبحتريّ ومسلم بن الوليد، فقد كانوا مولّعين بالصنعة، ويأتون منها بالعجب. وقيل انّ أوّل من ذهب إلى معاناتها بشّار بن برد وابن هرمة، وكانا آخر من يستشهد بشعره في اللّسان العربيّ. ثمّ اتّبعهما عمرو بن كلثوم والعتابي ومنصور النميريّ ومسلم بن الوليد وأبو نواس. وجاء على آثارهم حبيب والبحتريّ. ثمّ ظهر ابن المعتز فختم على البديع والصّناعة أجمع. ولنذكر مثالا من المطبوع الخالي من الصّناعة، مثل قول قيس بن ذريح:
وأخرج من بين البيوت لعلّني ... أحدّث عنك النّفس في السرّ خاليا
وقول كثيّر:
وإنّي وتهيامي بعزّة بعد ما ... تخلّيت عما بيننا وتخلّت
لكالمرتجي ظلّ الغمامة كلّها ... تبوّأ منها للمقيل اضمحلّت

(1/801)


فتأمّل هذا المطبوع، الفقيد الصنعة، في إحكام تأليفه وثقافة تركيبه. فلو جاءت فيه الصنعة من بعد هذا الأصل زادته حسنا.
وأمّا المصنوع فكثير من لدن بشّار، ثمّ حبيب وطبقتهما، ثمّ ابن المعتزّ خاتم الصنعة الّذي جرى المتأخّرون بعدهم في ميدانهم، ونسجوا على منوالهم.
وقد تعدّدت أصناف هذه الصنعة عند أهلها، واختلفت اصطلاحاتهم في ألقابها.
وكثير منهم يجعلها مندرجة في البلاغة على أنّها غير داخلة في الإفادة، وأنّها هي تعطي التحسين والرّونق. وأمّا المتقدّمون من أهل البديع، فهي عندهم خارجة عن البلاغة. ولذلك يذكرونها في الفنون الأدبيّة الّتي لا موضوع لها. وهو رأي ابن رشيق في كتاب العمدة له، وأدباء الأندلس. وذكروا في استعمال هذه الصنعة شروطا، منها أن تقع من غير تكلّف ولا اكتراث في ما يقصد منها. وأمّا العفو فلا كلام فيه لأنّها إذا برئت من التكلّف سلم الكلام من عيب الاستهجان، لأنّ تكلّفها ومعاناتها يصير إلى الغفلة عن التراكيب الأصليّة للكلام، فتخلّ بالإفادة من أصلها، وتذهب بالبلاغة رأسا. ولا يبقى في الكلام إلّا تلك التحسينات، وهذا هو الغالب اليوم على أهل العصر. وأصحاب الأذواق في البلاغة يسخرون من كلفهم بهذه الفنون، ويعدّون ذلك من القصور عن سواه. وسمعت شيخنا الأستاذ أبا البركات البلفيقيّ، وكان من أهل البصر في اللّسان والقريحة في ذوقه يقول: إنّ من أشهى ما تقترحه عليّ نفسي أن أشاهد في بعض الأيام من ينتحل فنون هذا البديع في نظمه أو نثره، وقد عوقب بأشدّ العقوبة، ونودي عليه، يحذّر بذلك تلميذه أن يتعاطوا هذه الصنعة، فيكلّفون بها، ويتناسون البلاغة. ثمّ من شروط استعمالها عندهم الإقلال منها وأن تكون في بيتين أو ثلاثة من القصيد، فتكفي في زينة الشعر ورونقه. والإكثار منها عيب، قاله ابن رشيق وغيره. وكان شيخنا أبو القاسم الشريف السّبتيّ منفق اللّسان العربيّ بالأندلس لوقته يقول: هذه الفنون البديعيّة إذا وقعت للشاعر أو للكاتب فيقبح أن يستكثر منها، لأنّها من

(1/802)


محسّنات الكلام ومزيّناته، فهي بمثابة الخيلان في الوجه يحسن بالواحد والاثنين منها، ويقبح بتعدادها. وعلى نسبة الكلام المنظوم هو الكلام المنثور في الجاهليّة والإسلام. كان أوّلا مرسلا معتبر الموازنة بين جمله وتراكيبه، شاهدة موازنته بفواصله، من غير التزام سجع ولا اكتراث بصنعة. حتّى نبغ إبراهيم بن هلال الصابي كاتب بني بويه، فتعاطى الصنعة والتّقفية وأتى بذلك بالعجب.
وعاب النّاس عليه كلفه بذلك في المخاطبات السلطانيّة. وإنّما حمله عليه ما كان في ملوكه من العجمة والبعد عن صولة الخلافة المنفقة لسوق البلاغة. ثمّ انتشرت الصناعة بعده في منثور المتأخّرين ونسي عهد الترسيل وتشابهت السلطانيّات والإخوانيّات والعربيّات بالسوقيّات. واختلط المرعيّ بالهمل. وهذا كلّه يدلّك على أنّ الكلام المصنوع بالمعاناة والتكليف، قاصر عن الكلام المطبوع، لقلّة الاكتراث فيه بأصل البلاغة، والحاكم في ذلك الذّوق. والله خلقكم وعلّمكم ما لم تكونوا تعلمون.
الفصل التاسع والخمسون في ترفع أهل المراتب عن انتحال الشعر
اعلم أنّ الشّعر كان ديوانا للعرب فيه علومهم وأخبارهم وحكمهم. وكان رؤساء العرب منافسين [1] فيه وكانوا يقفون بسوق عكاظ لإنشاده وعرض كلّ واحد منهم ديباجته على فحول الشّأن وأهل البصر لتمييز حوله. حتّى انتهوا إلى المناغاة في تعليق أشعارهم بأركان البيت الحرام موضع حجّهم وبيت أبيهم إبراهيم كما فعل امرؤ القيس ابن حجر والنّابغة الذّبيانيّ وزهير بن أبي سلمى وعنترة بن شدّاد وطرفة بن العبد وعلقمة بن عبدة والأعشى وغيرهم من أصحاب المعلّقات السّبع [2] . فإنّه إنّما كان يتوصّل إلى تعليق الشّعر بها من كان له قدرة
__________
[1] وفي نسخة أخرى: متنافسين.
[2] وفي النسخة الباريسية: التسع.

(1/803)


على ذلك بقومه وعصبيّته ومكانه في مضر على ما قيل في سبب تسميتها بالمعلّقات. ثمّ انصرف العرب عن ذلك أوّل الإسلام بما شغلهم من أمر الدّين والنّبوة والوحي وما أدهشهم من أسلوب القرآن ونظمه فأخرسوا عن ذلك وسكتوا عن الخوض في النّظم والنّثر زمانا. ثمّ استقرّ ذلك وأونس الرّشد من الملّة. ولم ينزل الوحي في تحريم الشّعر وحظره وسمعه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأثاب عليه، فرجعوا حينئذ إلى ديدنهم منه. وكان لعمر بن أبي ربيعة كبير قريش لذلك العهد مقامات فيه عالية وطبقة مرتفعة وكان كثيرا ما يعرض شعره على ابن عبّاس فيقف لاستماعه معجبا به. ثمّ جاء من بعد ذلك الملك الفحل والدّولة العزيزة وتقرّب إليهم العرب بأشعارهم يمتدحونهم بها. ويجيزهم الخلفاء بأعظم الجوائز على نسبة الجودة في أشعارهم ومكانهم من قومهم ويحرصون على استهداء أشعارهم يطّلعون منها على الآثار والأخبار واللّغة وشرف اللّسان. والعرب يطالبون ولدهم بحفظها. ولم يزل هذا الشّأن أيّام بني أميّة وصدرا من دولة بني العبّاس. وانظر ما نقله صاحب العقد في مسامرة الرّشيد للأصمعيّ في باب الشّعر والشّعراء تجد ما كان عليه الرّشيد من المعرفة بذلك والرّسوخ فيه والعناية بانتحاله والتّبصّر بجيّد الكلام ورديئه وكثرة محفوظه منه. ثمّ جاء خلق من بعدهم لم يكن اللّسان لسانهم من أجل العجمة وتقصيرها باللّسان وإنّما تعلّموه صناعة ثمّ مدحوا بأشعارهم أمراء العجم الّذين ليس اللّسان لهم طالبين معروفهم فقط لا سوى ذلك من الأغراض كما فعله حبيب والبحتريّ والمتنبّي وابن هانئ ومن بعدهم وهلمّ جرّا. فصار غرض الشّعر في الغالب إنّما هو الكذب [1] والاستجداء لذهاب المنافع الّتي كانت فيه للأوّلين كما ذكرناه آنفا. وأنف منه لذلك أهل الهمم والمراتب من المتأخّرين وتغيّر الحال وأصبح تعاطيه هجنة في الرّئاسة ومذمّة لأهل المناصب الكبيرة. والله مقلّب اللّيل والنّهار.
__________
[1] وفي نسخة أخرى: للكدية.

(1/804)


الفصل الستون في أشعار العرب وأهل الأمصار لهذا العهد
اعلم أنّ الشّعر لا يختصّ باللّسان العربيّ فقط بل هو موجود في كلّ لغة سواء كانت عربيّة أو عجميّة وقد كان في الفرس شعراء وفي يونان كذلك وذكر منهم أرسطو في كتاب المنطق أو ميروس الشّاعر وأثنى عليه. وكان في حمير أيضا شعراء متقدّمون. ولمّا فسد لسان مضر ولغتهم الّتي دوّنت مقاييسها وقوانين إعرابها وفسدت اللّغات من بعد بحسب ما خالطها ومازجها من العجمة فكانت تحيل [1] العرب بأنفسهم لغة خالفت لغة سلفهم من مضر في الإعراب جملة وفي كثير من الموضوعات اللّغويّة وبناء الكلمات. وكذلك الحضر أهل الأمصار نشأت فيهم لغة أخرى خالفت لسان مضر في الإعراب وأكثر الأوضاع والتّصاريف وخالفت أيضا لغة الجيل من العرب لهذا العهد. واختلفت هي في نفسها بحسب اصطلاحات أهل الآفاق فلأهل الشّرق وأمصاره لغة غير لغة أهل المغرب وأمصاره وتخالفهما أيضا لغة أهل الأندلس وأمصاره. ثمّ لمّا كان الشّعر موجودا بالطّبع في أهل كلّ لسان لأنّ الموازين على نسبة واحدة في أعداد المتحرّكات والسّواكن وتقابلها موجودة في طباع البشر فلم يهجر الشّعر بفقدان لغة واحدة وهي لغة مضر الّذين كانوا فحوله وفرسان ميدانه حسبما اشتهر بين أهل الخليقة. بل كلّ جيل وأهل كلّ لغة من العرب المستعجمين والحضر أهل الأمصار يتعاطون منه ما يطاوعهم في انتحاله ورصف بنائه على مهيع كلامهم. فأمّا العرب أهل هذا الجيل المستعجمون عن لغة سلفهم من مضر فيقرضون الشّعر لهذا العهد في سائر الأعاريض على ما كان عليه سلفهم المستعربون ويأتون منه بالمطوّلات مشتملة
__________
[1] وفي نسخة أخرى: لجيل.

(1/805)


على مذاهب الشّعر وأغراضه من النّسيب والمدح والرّثاء والهجاء ويستطردون في الخروج من فنّ إلى فنّ في الكلام. وربّما هجموا على المقصود لأوّل كلامهم وأكثر ابتدائهم في قصائدهم باسم الشّاعر ثمّ بعد ذلك ينسبون. فأهل أمصار المغرب من العرب يسمّون هذه القصائد بالأصمعيّات نسبة إلى الأصمعيّ راوية العرب في أشعارهم. وأهل المشرق من العرب يسمّون هذا النّوع من الشّعر بالبدويّ والحورانيّ والقيسيّ. وربّما يلحنون فيه ألحانا بسيطة لا على طريقة الصّناعة الموسيقيّة. ثمّ يغنّون به ويسمّون الغناء به باسم الحورانيّ نسبة إلى حوران من أطراف العراق والشّام وهي من منازل العرب البادية ومساكنهم إلى هذا العهد.
ولهم فنّ آخر كثير التّداول في نظمهم يجيئون به معصّبا على أربعة أجزاء يخالف آخرها الثّلاثة في رويّه ويلتزمون القافية الرّابعة في كلّ بيت إلى آخر القصيدة شبيها بالمربّع والمخمّس الّذي أحدثه المتأخّرون من المولّدين. ولهؤلاء العرب في هذا الشّعر بلاغة فائقة وفيهم الفحول والمتأخّرون والكثير من المنتحلين للعلوم لهذا العهد وخصوصا علم اللّسان يستنكر صاحبها هذه الفنون الّتي لهم إذا سمعها ويمجّ نظمهم إذا أنشد ويعتقد أنّ ذوقه إنّما نبا عنها لاستهجانها وفقدان الإعراب منها. وهذا إنّما أتى من فقدان الملكة في لغتهم فلو حصلت له ملكة من ملكاتهم لشهد له طبعه وذوقه ببلاغتها إن كان سليما من الآفات في فطرته ونظره وإلّا فالإعراب لا مدخل له في البلاغة إنّما البلاغة مطابقة الكلام للمقصود ولمقتضى الحال من الوجود فيه سواء كان الرّفع دالّا على الفاعل والنّصب دالّا على المفعول أو بالعكس وإنّما يدلّ على ذلك قرائن الكلام كما هو في لغتهم هذه. فالدّلالة بحسب ما يصطلح عليه أهل الملكة فإذا عرف اصطلاح في ملكة واشتهر صحّة الدّلالة وإذا طابقت تلك الدّلالة المقصود ومقتضى الحال صحّت البلاغة ولا عبرة بقوانين النّحاة في ذلك. وأساليب الشّعر وفنونه موجودة في أشعارهم هذه ما عدا حركات الإعراب في أواخر الكلم فإنّ غالب كلماتهم موقوفة الآخر. ويتميّز

(1/806)


عندهم الفاعل من المفعول والمبتدأ من الخبر بقرائن الكلام لا بحركات الإعراب.
فمن أشعارهم على لسان الشّريف بن هاشم يبكي الجازية بنت سرحان، ويذكر ظعنها مع قومها إلى المغرب:
قال الشريف ابن هاشم علي ... ترى كبدي حرّى شكت من زفيرها
يغزّ للإعلام أين ما رأت خاطري ... يردّ غلام البدو يلوي عصيرها
وماذا شكاة الروح مما طرا لها ... عداة وزائغ تلف الله خبيرها
يحسّ إن قطاع عامر ضميرها ... طوى وهند جافي ذكيرها
وعادت كما خوارة في يد غاسل ... على مثل شوك الطلح عقدوا يسيرها
تجابذوها اثنين والنزع بينهم ... على شوك لعه والبقايا جريرها
وباتت دموع العين ذارفات لشأنها ... شبيه دوّار السواني يديرها
تدارك منها النجم حذرا وزادها ... مرون يجي متراكبا من صبيرها
يصبّ من القيعان من جانب الصّفا ... عيون ولجاز البرق في غزيرها
هذا الغنى حتى تسابيت غزوة ... ناضت من بغداد حتى فقيرها
ونادى المنادي بالرحيل وشدّوا ... وعرج عاريها على مستعيرها
وشدّ لها الأدهم دياب بن غانم ... على أيدين ماضي وليد مقرب ميرها
وقال لهم حسن بن سرحان غرّبوا ... وسوقوا النجوع إن كان أنا هو غفيرها
ويركض وبيده شهامه بالتسامح ... وباليمين لا يجدوا في مغيرها
غدرني زيان السيح من عابس ... وما كان يرضى زين حمير وميرها
غدرني وهو زعما صديقي وصاحبي ... وأناليه ما من درقتي ما يديرها
ورجع يقول لهم بلال بن هاشم ... بحر البلاد العطشى ما بخيرها
حرام علي باب بغداد وأرضها ... داخل ولا عائد ركيزه من نعيرها
تصدف روحي عن بلاد ابن هاشم ... على الشمس أو حول الغظامن هجيرها

(1/807)


وباتت نيران العذارى قوادح ... بلوذ وبجرجان يشدوا أسيرها
ومن قولهم في رثاء أمير زناتة أبي سعدى اليفرني مقارعهم بإفريقية وأرض الزاب ورثاؤهم له على جهة التهكّم:
تقول فتاة الحيّ [1] سعدى وهاضها ... لها في ظعون الباكرين عويل
أيا سائلي عن قبر الزناتي خليفة ... خذ النعت مني لا تكون هبيل
تراه يعالي وادي ران وفوقه ... من الربط عيساوي بناه طويل
أراه يميل النور من شارع النقا ... به الواد شرقا واليراع دليل
أيا لهف كبدي على الزناتي خليفة ... قد كان لأعقاب الجياد سليل
قتيل فتى الهيجا دياب بن غانم ... جراحة كأفواه المزاد تسيل
أيا جائزا مات الزناتي خليفة ... لا ترحل إلا أن يريد رحيل
ألا واش رحّلنا ثلاثين مرة ... وعشرا وستا في النهار قليل
ومن قولهم على لسان الشّريف بن هاشم يذكر عتابا وقع بينه وبين ماضي بن مقرب:
تبدّى ماضي الجبار وقال لي ... أشكر ما نحنا عليك رضاش
أشكر أعد ما بقي ودّ بيننا ... ورانا عريب عربا لابسين نماش
نحن غدينا نصدفو ما قضى لنا ... كما صادفت طعم الزباد طشاش
أشكر أعد إلى يزيد ملامه ... ليحدو ومن عمر بلاده عاش
ان كان نبت الشوك يلقح بأرضكم ... هنا العرب ما زدنا لهن صياش
ومن قولهم في ذكر رحلتهم إلى الغرب وغلبهم زناتة عليه:
وأيّ جميل ضاع لي في الشريف بن هاشم ... وأي رجال ضاع قبلي جميلها
__________
[1] كذا. وفي ب: نقاة الخلد:

(1/808)


لقد كنت أنا وياه في زهو بيتنا ... عناني بحجة ما غباني دليلها
وعدت كأني شارب من مدامة ... من الخمر فهو ما قدر من يميلها
أو مثل شمطامات مظنون كبدها ... غريبا وهي مدوّخه عن قبيلها
أتاها زمان السوء حتى تدوّحت ... وهي بين عربا غافلا عن نزيلها
كذلك أنا مما لحاني من الوجى ... شاكي بكبد باديتها زعيلها
وأمرت قومي بالرحيل وبكّروا ... وقوّوا وشدّاد الحوايا حميلها
قعدنا سبعة أيام محبوس نجعنا ... والبدو ما ترفع عمود يقيلها
نظلّ على حداب الثنايا نوازي ... يظل الجرى فوق النضا ونصيلها
ومن شعر سلطان بن مظفّر بن يحيى من الزواودة [1] أحد بطون رياح وأهل الرئاسة فيهم، يقولها وهو معتقل بالمهديّة في سجن الأمير أبي زكريّا بن أبي حفص أوّل ملوك إفريقية من الموحّدين:
يقول وفي بوح الدجا بعد وهنة ... حرام على أجفان عيني منامها
يا من لقلب حالف الوجد والأسى ... وروح هيامي طال ما في سقامها
حجازية بدوية عربية ... عداوية ولها بعيد مرامها
مولعة بالبدو لا تألف القرى ... سوى عانك الوعسا يؤتي خيامها
غيات ومشتاها بها كل شتوة ... ممحونة بيها وبيها صحيح غرامها
ومر باها عشب الأراضي من الحيا ... يواتي من الخور الخلايا جسامها
تشوق شوق العين مما تداركت ... عليها من السحب السواري عمامها
وماذا بكت بالما وماذا تناحطت ... عيون غرار المزن عذبا حمامها
كأنّ عروس البكر لاحت ثيابها ... عليها ومن نور الأقاحي خزامها
فلاة ودهنا واتساع ومنة ... ومرعى سوى ما في مراعي نعامها
ومشروبها من مخض ألبان شولها ... غنيم ومن لحم الجوازي طعامها
__________
[1] كذا. وفي نسخة: الدواودة.

(1/809)


تفانت عن الأبواب والموقف الّذي ... يشيب الفتى مما يقاسي زحامها
سقى الله ذا الوادي المشجر بالحيا ... وبلا ويحيى ما بلي من رمامها
فكافأتها بالودّ مني وليتني ... ظفرت بأيام مضت في ركامها
ليالي أقواس الصبا في سواعدي ... إذا قمت لم تحظ من أيدي سهامها
وفرسي عديد تحت سرجي مشاقة ... زمان الصبا سرجا وبيدي لجامها
وكم من رداح أسهرتني ولم أرى ... من الخلق أبهى من نظام ابتسامها
وكم غيرها من كاعب مرجحنة ... مطرّزة الأجفان باهي وشامها
وصفقت من وجدي عليها طريجة ... بكفي ولم ينسى جداها ذمامها
ونار بخطب الوجد توهج في الحشا ... وتوهج لا يطفأ من الماء ضرامها
أيا من وعدتي الوعد هذا إلى متى ... فني العمر في دار عماني ظلامها
ولكن رأيت الشمس تكسف ساعة ... ويغمى عليها ثم يبدأ غيامها
بنود ورايات من السعد أقبلت ... إلينا بعون الله يهفو علامها
أرى في الفلا بالعين أظعان عزوتي ... ورمحي على كتفي وسيري أمامها
بجرعا عتاق النوق من فوق شامس ... أحب بلاد الله عندي حشامها
إلى منزل بالجعفرية للّوى ... مقيم بها ما لذ عندي مقامها
ونلقى سراة من هلال بن عامر ... يزيل الصدا والغل عني سلامها
بهم تضرب الأمثال شرقا ومغربا ... إذا قاتلوا قوما سريع انهزامها
عليهم ومن هو في حمامهم تحية ... مدى الدهر ما غنى يفينا حمامها
فدع ذا ولا تأسف على سالف مضى ... فذي الدنيا ما دامت لأحد دوامها
ومن أشعار المتأخّرين منهم قول خالد بن حمزة بن عمر، شيخ الكعوب، من أولاد أبي اللّيل، يعاتب أقتالهم أولاد مهلهل ويجيب شاعرهم شبل بن مسكيانة بن مهلهل، عن أبيات فخر عليهم فيها بقومه:
يقول وذا قول المصاب الّذي نشا ... قوارع قيعان يعاني صعابها

(1/810)


يريح بها حادي المصاب إذا سعى فنونا من إنشاد القوافي عذابها محيرة مختارة من نشادها تحدّى بها تام الوشا ملتهابها مغربلة عن ناقد في غضونها محكمة القيعان دأبي ودأبها وهيض بتذكاري لها يا ذوي الندى قوارع من شبل وهذي جوابها اشبل جنينا من حباك طرائفا فراح يريح الموجعين الغنا بها فخرت ولم تقصر ولا أنت عادم سوى قلت في جمهورها ما أعابها لقولك في أمّ المتين بن حمزة وحامي حماها عاديا في حرابها أما تعلم أنه قامها بعد ما لقي رصاص بني يحيى وغلاق دأبها شهابا من أهل الأمر يا شبل خارق وهل ريت من جا للوغى واصطلى بها سواها طفاها أضرمت بعد طفيه وأثنى طفاها جاسرا لا يهابها وأضرمت بعد الطفيتين ألن صحت لفاس إلى بيت المنى يقتدى بها وبان لوالي الأمر في ذا انشحابها فصار وهي عن كبر الاسنة تهابها كما كان هو يطلب على ذا تجنبت رجال بني كعب الّذي يتقى بها
ومنها في العتاب:
وليدا تعاتبتوا أنا أغنى لأنني ... غنيت بمعلاق الثنا واغتصابها
عليّ ونا ندفع بها كل مبضع ... بأسياف ننتاش العدا من رقابها
فإن كانت الأملاك بغت عرائس ... علينا بأطراف القنا اختضابها
ولا بعدها الارهاف وذبل ... وزرق كالسنة الحناش انسلابها
بني عمنا ما نرتضي الذل غلمه ... تسير السبايا والمطايا ركابها
وهي عالما بأنّ المنايا تنيلها ... بلا شك والدنيا سريع انقلابها
ومنها في وصف الظعائن:
قطعنا قطوع البيد لا نختشي العدا ... فتوق بحوبات مخوف جنابها

(1/811)


ترى العين فيها قل لشبل عرائف ... وكلّ مهاة محتظيها ربابها
ترى أهلها غبّ الصباح ان يفلها ... بكل حلوب الجوف ما سدّ بابها
لها كل يوم في الأرامي قتائل ... ورا الفاجر الممزوج عفو رضابها
ومن قولهم في الأمثال الحكميّة
وطلبك في الممنوع منك سفاهة ... وصدّك عمن صدّ عنك صواب
إذا رأيت أناسا يغلقوا عنك بابهم ... ظهور المطايا يفتح الله باب
ومن قول شبل يذكر انتساب الكعوب إلى برجم:
لشيب وشبان من أولاد برجم ... جميع البرايا تشتكي من ضهادها
ومن قول خالد يعاتب إخوانه في موالاة شيخ الموحّدين أبي محمّد بن تافراكين المستبدّ بحجابة السلطان بتونس على سلطانها مكفولة أبي إسحاق ابن السلطان أبي يحيى وذلك فيما قرب من عصرنا:
يقول بلا جهل فتى الجود خالد ... مقالة قوّال وقال صواب
مقالة حبر ذات ذهن ولم يكن ... هريجا ولا فيما يقول ذهاب
تهجست معنا نابها لا لحاجة ... ولا هرج ينقاد منه معاب
وكنت بها كبدي وهي نعم صابة ... حزينة فكر والحزين يصاب
تفوّهت بادي شرحها عن مآرب ... جرت من رجال في القبيل قراب
بني كعب أدنى الأقربين لدّمنا ... بني عمّ منهم شائب وشباب
جرى عند فتح الوطن منا لبعضهم ... مصافاة ودّ واتّساع جناب
وبعضهم ملنا له عن خصيمه ... كما يعلموا قولي يقينه صواب
وبعضهمو مرهوب من بعض ملكنا ... جزاعا وفي جوّ الضمير كتاب
وبعضهمو جانا جريحا تسمحت ... خواطر منها للنزيل وهاب

(1/812)


وبعضهمو نظار فينا بسوّة ... نقهناه حتى ما عنا به ساب
رجع ينتهي مما سفهنا قبيحه ... مرارا وفي بعض المرار يهاب
وبعضهمو شاكي من أوغاد قادر ... غلق عنه في أحكام السقائف باب
فصمناه عنه واقتضي منه مورد ... على كره مولى البالقي ودياب
ونحن على دافي المدى نطلب العلا ... لهم ما حططنا للفجور نقاب
وحزنا حمى وطن بترشيش بعد ما ... نفقنا عليها سبقا ورقاب
ومهد من الأملاك ما كان خارجا ... على أحكام والي أمرها له ناب
بردع قروم من قروم قبيلنا ... بني كعب لاواها الغريم. وطاب
جرينا بهم عن كل تأليف في العدا ... وقمنا لهم عن كل قيد مناب
إلى أن عاد من لا كان فيهم بهمة ... ربيها وخيراته عليه نصاب
وركبوا السّبايا المثمنات من أهلها ... ولبسوا من أنواع الحرير ثياب
وساقوا المطايا يا لشرا لا نسوا له ... جماهير ما يغلو بها بجلاب
وكسبوا من أصناف السعايا ذخائر ... ضخام لحزات الزمان تصاب
وعادوا نظير البرمكيين قبل ذا ... وإلا هلالا في زمان دياب
وكانوا لنا درعا لكل مهمة ... إلى أن بان من نار العدوّ شهاب
وخلوا الدار في جنح الظلام ولا اتقوا ... ملامه ولا دار الكرام عتاب
كسوا الحي جلباب البهيم لستره ... وهم لو دروا لبسوا قبيح جباب
كذلك منهم حانس ما دار النبا ... ذهل حلمي ان كان عقله غاب
يظنّ ظنونا ليس نحن بأهلها ... تمنى يكن له في السماح شعاب
خطا هو ومن واتاه في سوء ظنه ... بالاثبات من ظنّ القبائح عاب
فوا عزوتي ان الفتى بو محمد ... وهوب لآلاف بغير حساب
وبرحت الأوغاد منه ويحسبوا ... بروحه ما يحيى بروح سحاب
جروا يطلبوا تحت السحاب شرائع ... لقوا كل ما يستاملوه سراب

(1/813)


وهو لو عطى ما كان للرأي عارف ... ولا كان في قلة عطاه صواب
وان نحن ما نستاملوا عنه راحة ... وانه باسهام التلاف مصاب
وان ما وطا ترشيش يضياق وسعها ... عليه ويمشي بالفزوع لزاب
وانه منها عن قريب مفاصل ... خنوج عناز هوالها وقباب
وعن فاتنات الطرف بيض غوانج ... ربوا خلف استار وخلف حجاب
يتيه إذا تاهوا ويصبوا إذا صبوا ... بحسن قوانين وصوت رباب
يضلوه عن عدم اليمين وربّما ... يطارح حتى ما كأنّه شاب
بهم حازله زمّه وطوع أوامر ... ولذة مأكول وطيب شراب
حرام على ابن تافركين ما مضى ... من الودّ إلّا ما بدل بحراب
وان كان له عقل رجيح وفطنة ... يلجج في اليم الغريق غراب
وأما البدا لا بدّها من فياعل ... كبار إلى أن تبقى الرجال كباب
ويحمي بها سوق علينا سلاعه ... ويحمار موصوف القنا وجعاب
ويمسي غلام طالب ريح ملكنا ... ندوما ولا يمسي صحيح بناب
أيا واكلين الخبز تبغوا أدامه ... غلطتوا أدمتوا في السموم لباب
ومن شعر عليّ بن عمر بن إبراهيم من رؤساء بني عامر لهذا العهد أحد بطون زغبة يعاتب بني عمّه المتطاولين إلى رياسته:
محبرة كالدرّ في يد صانع ... إذا كان في سلك الحرير نظام
أباحها منها فيه أسباب ما مضى ... وشاء تبارك والضعون تسام
غدامنه لام الحيّ حيين وانشطت ... عصاها ولا صبنا عليه حكام
ولكن ضميري يوم بان بهم إلينا ... تبرّم على شوك القتاد برام
وإلا كأبراص التهامي قوادح ... وبين عواج الكانفات ضرام
والا لكان القلب في يد قابض ... أتاهم بمنشار القطيع غشام
لما قلت سما من شقا البين زارني ... إذا كان ينادي بالفراق وخام

(1/814)


ألا يا ربوع كان بالأمس عامر ... بيحيى وحله والقطين لمام
وغيد تداني للخطأ في ملاعب ... دجى الليل فيهم ساهر ونيام
ونعم يشوف الناظرين التحامها ... لنا ما بدا من مهرق وكظام
وعرود باسمها ليدعو لسربها ... واطلاق من شرب المها ونعام
واليوم ما فيها سوى البوم حولها ... ينوح على اطلال لها وخيام
وقفنا بها طورا طويلا نسألها ... بعين سخينا والدموع سجام
ولا صحّ لي منها سوى وحش خاطري ... وسقمي من أسباب إن عرفت أوهام
ومن بعد ذاتدّى لمنصور بو علي ... سلام ومن بعد السلام سلام
وقولوا له يا بو ألوفا كلح رأيكم ... دخلتم بحور غامقات دهام
زواخر ما تنقاس بالعود إنما ... لها سيلات على الفضا وإكام
ولا قستمو فيها قياسا يدلكم ... وليس البحور الطاميات تعام
وعانوا على هلكاتكم في ورودها ... من الناس عدمان العقول لئام
أيا غزوة ركبوا الضلالة ولا لهم ... قرار ولا دنيا لهن دوام
الا غناهمو لو ترى كيف زايهم ... مثل سراب فلاة ما لهن تمام
خلو القنا يبغون في مرقب العلا ... مواضع ما هيا لهم بمقام
وحق النبي والبيت وأركانه العلى ... ومن زارها في كل دهر وعام
لبرّ الليالي فيه ان طالت الحيا ... يذوقون من خمط الكساع مدام
ولا برها تبقى البوادي عواكف ... بكل رديني مطرب وحسام
وكل مسافة كالسد إياه عابر ... عليها من أولاد الكرام غلام
وكل كميت يكتعص عض نابه ... يظل يصارع في العنان لجام
وتحمل بنا الأرض العقيمة مدة ... وتولدنا من كل ضيق كظام
بالأبطال والقود الهجان وبالقنا ... لها وقت وجنات البدور زحام
أتجحدني وأنا عقيد نقودها ... وفي سن رمحي للحروب علام

(1/815)


ونحن كأضراس الموافي بنجعكم ... حتى يقاضوا من ديون غرام
متى كان يوم القحط يا مير أبو علي ... يلقى سعايا صائرين قدّام
كذلك بو حمو إلى اليسر ابعته ... وخلى الجياد العاليات تسام
وخلّ رجالا لا يرى الضيم جارهم ... ولا يجمعوا بدهى العدو زفام
ألا يقيموها وعقد بؤسهم ... وهم عذر عنه دائما ودوام
وكم ثار طعنها على البدو سابق ... ما بين صحاصيح وما بين حسام
فتى ثار قطار الصوى يومنا على ... لنا أرض ترك الظاعنين زمام
وكم ذا يجيبوا أثرها من غنيمة ... حليف الثنا قشاع كل غيام
وإن جاء خافوه الملوك ووسعوا ... غدا طبعه يجدي عليه قيام
عليكم سلام الله من لسن فاهم ... ما غنت الورقا وناح حمام
ومن شعر عرب نمر بنواحي حوران لامرأة قتل زوجها فبعثت إلى أحلافه من قيس تغريهم بطلب ثأره تقول:
تقول فتاة الحيّ أمّ سلامه ... بعين أراع الله من لا رثى لها
تبيت بطول الليل ما تألف الكرى ... موجعة كان الشقا في مجالها
على ما جرى في دارها وبو عيالها ... بلحظة عين البين غير حالها
فقدنا شهاب الدين يا قيس كلكم ... ونمتوا عن أخذ الثار ماذا مقالها
أنا قلت إذا ورد الكتاب يسرّني ... ويبرد من نيران قلبي ذبالها
أيا حين تسريح الذوائب واللحى ... وبيض العذارى ما حميتو جمالها

(1/816)


(الموشحات والأزجال للأندلس)
وأمّا أهل الأندلس فلمّا كثر الشّعر في قطرهم وتهذّبت مناحيه وفنونه وبلغ التّنميق فيه الغاية استحدث المتأخّرون منهم فنّا منه سمّوه بالموشّح ينظمونه أسماطا أسماطا وأغصانا أغصانا يكثرون من أعاريضها المختلفة. ويسمّون المتعدّد منها بيتا واحدا ويلتزمون عند قوافي تلك الأغصان وأوزانها متتاليا فيما بعد إلى آخر القطعة وأكثر ما تنتهي عندهم إلى سبعة أبيات. ويشتمل كلّ بيت على أغصان عددها بحسب الأغراض والمذاهب وينسبون فيها ويمدحون كما يفعل في القصائد. وتجاروا في ذلك إلى الغاية واستظرفه النّاس جملة الخاصّة والكافّة لسهولة تناوله وقرب طريقه. وكان المخترع لها بجزيرة الأندلس مقدّم بن معافر الفريريّ [1] من شعراء الأمير عبد الله بن محمّد المروانيّ. وأخذ ذلك عنه أبو عبد الله أحمد بن عبد ربّه صاحب كتاب العقد ولم يظهر لهما مع المتأخّرين ذكر وكسدت موشّحاتهما. فكان أوّل من برع في هذا الشّأن عبادة القزّاز شاعر المعتصم ابن صمادح صاحب المرية. وقد ذكر الأعلم البطليوسيّ أنّه سمع أبا بكر بن زهير يقول: كلّ الوشّاحين عيال على عبّادة القزّاز فيما اتّفق له من قوله: [2]
بدر تمّ. شمس ضحا ... غصن نقا. مسك شمّ
ما أتمّ. ما أوضحا ... ما أورقا ما أنمّ
لا جرم. من لمحا ... قد عشقا. قد حرم
وزعموا أنّه لم يسبقه وشّاح من معاصريه الّذين كانوا في زمن الطّوائف.
وذكر غير واحد من المشايخ أنّ أهل هذا الشّأن بالأندلس يذكرون أنّ
__________
[1] وفي نسخة أخرى: القبريري.
[2] الضمير يعود إلى عبادة.

(1/817)


جماعة من الوشّاحين اجتمعوا في مجلس بأشبيليّة وكان كلّ واحد منهم اصطنع موشّحة وتأنّق فيها فتقدّم الأعمى الطّليطليّ للإنشاد فلمّا افتتح موشّحته المشهورة بقوله:
ضاحك عن جمان. سافر عن درّ [1] ... ضاق عنه الزّمان. وحواه صدري
صرف [2] ابن بقيّ موشّحته وتبعه الباقون. وذكر الأعلم البطليوسيّ أنّه سمع ابن زهر يقول: ما حسدت قطّ وشّاحا على قول إلّا ابن بقيّ حين وقع له:
أما ترى أحمد. في مجده العالي لا يلحق ... أطلعه الغرب. فأرنا مثله يا مشرق
وكان في عصرهما من الموشّحين المطبوعين أبو بكر الأبيض. وكان في عصرهما أيضا الحكيم أبو بكر بن باجة صاحب التّلاحين المعروفة ومن الحكايات المشهورة أنّه حضر مجلس مخدومه ابن تيفلويت صاحب سرقسطة فألقى على بعض قيناته موشّحته الّتي أوّلها:
جرّر الذّيل أيما جرّ ... وصل الشّكر منك بالشّكر
فطرب الممدوح لذلك لمّا ختمها بقوله:
عقد الله راية النّصر ... لأمير العلا أبي بكر
فلمّا طرق ذلك التّلحين سمع ابن تيفلويت صاح: وا طرباه: وشقّ ثيابه وقال: ما أحسن ما بدأت وختمت وحلف بالأيمان المغلّظة لا يمشي ابن باجة إلى داره إلّا على الذّهب. فخاف الحكيم سوء العاقبة فاحتال بأن جعل ذهبا في نعله ومشى عليه. وذكر أبو الخطّاب بن زهر أنّه جرى في مجلس أبي بكر بن زهير ذكر أبي بكر الأبيض الوشّاح المتقدّم الذّكر فغصّ منه بعض الحاضرين فقال كيف تغصّ ممّن يقول:
__________
[1] وفي نسخة أخرى: بدر.
[2] وفي نسخة أخرى: حرق.

(1/818)


ما لذّ لي شراب راح «على رياض الأقاح ... لولا هضيم الوشاح» إذا أسا [1] في الصّباح
أو في الأصيل «أضحى يقول: ... ما للشمول» لطمت خدّي؟
وللشّمال «هبّت فمال ... غصن اعتدال» ضمّه بردي
ممّا أباد القلوبا «يمشي لنا مستريبا ... يا لحظه ردّ نوبا» ويا لماه الشّنيبا
برّد غليل «صبّ عليل ... لا يستحيل» فيه عن عهدي
ولا يزال «في كلّ حال ... يرجو الوصال» وهو في الصّدّ
واشتهر بعد هؤلاء في صدر دولة الموحّدين محمّد بن أبي الفضل بن شرف. قال الحسن بن دويدة: رأيت حاتم بن سعيد على هذا الافتتاح:
شمس قاربت بدرا ... راح ونديم
وابن بهرودس الّذي له:
يا ليلة الوصل والسعود ... باللَّه عودي
وابن مؤهّل الّذي له:
ما العيد في حلّة وطاق. وشمّ وطيب. ... وإنّما العيد في التّلاقي. مع الحبيب.
وأبو إسحاق الرّوينيّ [2] قال ابن سعيد: سمعت أبا الحسن سهل بن مالك يقول: إنّه دخل على ابن زهير [3] وقد أسنّ وعليه زيّ البادية إذ كان يسكن بحصن سبتة [4] فلم يعرفه فجلس حيث انتهى به المجلس. وجرت المحاضرة فأنشد لنفسه موشّحة وقع فيها:
كحل الدّجى يجري «من مقلة ... الفجر» على الصّباح
ومعصم النّهر «في حلل ... خضر» من البطاح
__________
[1] وفي نسخة أخرى: إذ أتى.. وفي نسخة ثانية إذا انثنى.
[2] وفي نسخة أخرى: الرديني.
[3] وفي نسخة أخرى: ابن زهر.
[4] وفي نسخة أخرى: حصن أستبه.

(1/819)


فتحرّك ابن زهير وقال أنت تقول هذا؟ قال: اختبر! قال: ومن تكون؟
فعرّفه، فقال: ارتفع فو الله ما عرفتك، قال ابن سعيد وسابق الحلبة الّذي أدرك هؤلاء أبو بكر بن زهير وقد شرّقت موشّحاته وغرّبت، قال: وسمعت أبا الحسن سهل بن مالك يقول قيل لابن زهير لو قيل لك ما أبدع وأرفع ما وقع لك في التّوشيح قال كنت أقول:
ما للمولّه من سكره لا يفيق. يا له سكران. من غير خمر. ما للكئيب المشوق.
يندب الأوطان.
هل تستعاد. أيامنا ... بالخليج. وليالينا
أو نستفاد. من النسيم ... الأريج. مسك دارينا
أو هل يكاد. حسن المكان ... البهيج. أن يحيّينا؟
روض أظلّه. دوح عليه أنيق. مورق الأفنان. والماء يجري. وعائم وغريق.
من جنى الرّيحان.
واشتهر بعده ابن حيّون الّذي له من الزّجل المشهور قوله:
يفوّق سهمه كلّ حين ... بما شئت من يد وعين
وينشد في القصيد:
خلقت مليح علمت رامي ... فليس تخلّ ساع من قتال
وتعمل بذي العينين متاعي ... ما تعمل يديّ بالنبال
واشتهر معهما يومئذ بغرناطة المهر بن الفرس، قال ابن سعيد، ولمّا سمع ابن زهر قوله:
للَّه ما كان من يوم بهيج ... بنهر حمص على تلك المروج
ثمّ انعطفنا على فمّ الخليج ... نفضّ في حانه مسك الختام

(1/820)


عن عسجد زانه صافي المدام ورداء الأصيل ضمّه كف الظلام
قال ابن زهر: أين كنّا نحن عن هذا الرداء وكان معه في بلده مطرّف. أخبر ابن سعيد عن والده أنّ مطرّفا هذا دخل على ابن الفرس فقام له وأكرمه، فقال:
لا تفعل! فقال ابن الفرس: كيف لا أقوم لمن يقول:
قلوب تصاب بألحاظ تصيب ... فقل كيف تبقى بلا وجد
وبعد هذا ابن حزمون بمرسية. ذكر ابن الرائس أنّ يحيى الخزرجيّ دخل عليه في مجلسه فأنشده موشّحة لنفسه فقال له ابن حزمون: لا يكون الموشّح بموشّح حتّى يكون عاريا عن التّكلّف، قال على مثل ماذا؟ قال على مثل قولي:
يا هاجري هل إلى الوصال ... منك سبيل
أو هل ترى عن هواك سالي ... قلب العليل
وأبو الحسن سهل بن مالك بغرناطة. قال ابن سعيد كان والدي يعجب بقوله:
إنّ سيل الصباح في الشرق ... عاد بحرا في أجمع الأفق
فتداعت نوادب الورق
أتراها خافت من الغرق ... فبكت سحرة على الورق
واشتهر بأشبيليّة لذلك العهد أبو الحسن بن الفضل، قال ابن سعيد عن والده، سمعت سهل ابن مالك يقول له: يا ابن الفضل لك على الوشّاحين الفضل بقولك:
وا حسرتا لزمان مضى ... عشيّة بأنّ الهوى وانقضى
وأفردت بالرغم لا بالرضى ... وبتّ على جمرات الغضى
أعانق بالفكر تلك الطّلول ... وألثم بالوهم تلك الرّسوم

(1/821)


قال وسمعت أبا بكر بن الصابونيّ ينشد الأستاذ أبا الحسن الدّباج موشّحاته غير ما مرّة، فما سمعته يقول له للَّه درّك، إلّا في قوله:
قسما بالهوى لذي حجر ... ما للّيل المشوّق من فجر
جمد الصّبح ليس يطرد ما للّيليّ فيما أظنّ غد اصح يا ليل إنّك الأبد
أو قفصت قوادم النسر ... فنجوم السماء لا تسري
ومن محاسن موشّحات ابن الصابوني قوله:
ما حال صبّ ذي ضنى واكتئاب ... أمرضه يا ويلتاه الطبيب
عامله محبوبه باجتناب ... ثمّ اقتدى فيه الكرى بالحبيب
جفا جفوني النوم لكنني ... لم أبكه الا لفقد الخيال
وذا الوصال اليوم قد غرّني ... منه كما شاء وشاء الوصال
فلست باللائم من صدّني ... بصورة الحقّ ولا بالمحال
واشتهر ببرّ أهل العدوة ابن خلف الجزائريّ صاحب الموشّحة المشهورة:
الإصباح قدحت زناد ... الأنوار في مجامز الزهر
وابن خرز البجائيّ وله من موشّحة:
ثغر الزمان موافق ... حباك منه بابتسام
ومن محاسن الموشّحات للمتأخّرين موشّحة ابن سهل شاعر إشبيليّة وسبتة من بعدها فمنها قوله:
هل دري ظبي الحمى أن قد حمى ... قلب صبّ حلّه عن مكنس
فهو في نار وخفق مثل ما ... لعبت ريح الصّبا بالقبس
وقد نسج على منواله فيها صاحبنا الوزير أبو عبد الله ابن الخطيب شاعر الأندلس والمغرب لعصره وقد مرّ ذكره فقال:

(1/822)


جادك الغيث إذا الغيث همي ... يا زمان الوصل بالأندلس
لم يكن وصلك إلّا حلما ... في الكرى أو خلسة المختلس
إذ يقود الدّهر أشتات المنى ... ينقل الخطو على ما يرسم
زمرا بين فرادى وثنا ... مثل ما يدعو الوفود [1] الموسم
والحيا قد جلّل الرّوض سنى ... فثغور الزّهر [2] فيه تبسم
وروى النّعمان عن ماء السّما ... كيف يروي مالك عن أنس؟
فكساه الحسن ثوبا معلما ... يزدهي منه بأبهى ملبس
في ليال كتمت سرّ الهوى ... بالدّجى لولا شموس الغرر [3]
مال نجم الكأس فيها وهوى ... مستقيم السّير سعد الأثر
وطر ما فيه من عيب سوى ... أنّه مرّ كلمح البصر
حين لذّ النّوم منّا [4] أو كما ... هجم الصّبح هجوم [4] الحرس
غارت الشّهب بنا أو ربّما ... أثّرت فينا عيون النّرجس
أيّ شيء لامرئ قد خلصا ... فيكون الرّوض قد مكّن فيه
تنهب الأزهار فيه الفرصا ... أمنت من مكره ما تتّقيه
فإذا الماء يناجي والحصا ... وخلا كلّ خليل بأخيه
تبصر الورد غيورا برما ... يكتسي من غيظه ما يكتسي
وترى الآس لبيبا فهما ... يسرق الدّمع بأذني فرس
يا أهيل الحيّ من وادي الغضا ... وبقلبي مسكن أنتم به
ضاق عن وجدي بكم رحب الفضا ... لا أبالي شرقه من غربة
__________
[1] وفي نسخة أخرى: الحجيج.
[2] وفي نسخة أخرى: الأزهار.
[3] وفي نسخة أخرى: القدر.
[4] وفي نسخة أخرى: شيئا. نجوم.

(1/823)


فأعيدوا عهد أنس قد مضى ... تنقذوا عانيكم من كربه [1]
واتّقوا الله وأحيوا مغرما ... يتلاشى نفسا في نفس
حبس القلب عليكم كرما ... أفترضون خراب الحبس [2]
وبقلبي منكم مقترب ... بأحاديث المنى وهو بعيد
قمر أطلع منه المغرب ... شقوة المغري به وهو سعيد
قد تساوى محسن أو مذنب ... في هواه بين وعد ووعيد
ساحر [3] المقلة معسول اللّمى ... جال في النّفس مجال النّفس
سدّد السّهم فأصمى إذ رمى ... بفؤادي نبلة المفترس [4]
إن يكن جار وخاب الأمل ... وفؤاد الصّبّ بالشّوق يذوب
فهو للنّفس حبيب أوّل ... ليس في الحبّ لمحبوب ذنوب
أمره معتمل ممتثل ... في ضلوع قد براها وقلوب
حكم اللّحظ بها فاحتكما ... لم يراقب [5] في ضعاف الأنفس
ينصف المظلوم ممّن ظلما ... ويجازي البرّ منها والمسي
ما لقلبي كلّما هبّت صبا ... عاده عيد من الشّوق جديد؟
كان في اللّوح له مكتتبا ... قوله إنّ عذابي لشديد
جلب الهمّ له والوصبا ... فهو للأشجان في جهد جهيد
لاعج في أضلعي قد أضرما ... فهي نار في هشيم اليبس
لم يدع من مهجتي إلّا الدّما [6] ... كبقاء الصّبح بعد الغلس
__________
[1] وفي نسخة أخرى: تنقذوا عائذكم.. إلخ وفي النسخة الباريسية: تعتقوا عانيكم من كربه.
[2] وفي النسخة الباريسية: أفترضون عفاء الحبس.
[3] وفي نسخة أخرى: احور المقلة.
[4] وفي نسخة أخرى:
سدد السهم وسمى ورمى ... ففؤادي نهبة المفترس
[5] لم يراقب: أي لم يحاذر الله.
[6] وفي نسخة أخرى: ذما والذماء: بقية الروح

(1/824)


سلّمي يا نفس في حكم القضا ... واعبري الوقت برجعى ومتاب
واتركي [1] ذكرى زمان قد مضى ... بين عتبى قد تقضّت وعتاب
واصرفي القول إلى المولى الرّضى ... ملهم التّوفيق في أمّ الكتاب
الكريم المنتهى والمنتمي ... أسد السّرج وبدر المجلس
ينزل النّصر عليه مثلما ... ينزل الوحي بروح القدس
وأمّا المشارقة فالتّكلّف ظاهر على ما عانوه من الموشّحات. ومن أحسن ما وقع لهم في ذلك موشّحة ابن سناء الملك الّتي اشتهرت شرقا وغربا وأوّلها:
حبيبي ارفع حجاب النور ... عن العذار
تنظر المسك على كافور ... في جلنار
كلّلي يا سحب تيجان الربى ... بالحلى واجعلي
سوارها منعطف الجدول
ولمّا شاع فنّ التوشيح في أهل الأندلس، وأخذ به الجمهور، لسلاسته وتنميق كلامه وترصيع أجزائه، نسجت العامّة من أهل الأمصار على منواله، ونظّموا في طريقته بلغتهم الحضريّة من غير أن يلتزموا فيها إعرابا. واستحدثوا فنّا سمّوه بالزجل، والتزموا النظم فيه على مناحيهم لهذا العهد، فجاءوا فيه بالغرائب واتّسع فيه للبلاغة مجال بحسب لغتهم المستعجمة.
وأوّل من أبدع في هذه الطّريقة. الزجليّة أبو بكر بن قزمان، وإن كانت قيلت قبله بالأندلس، لكن لم يظهر حلاها، ولا انسبكت معانيها واشتهرت رشاقتها إلّا في زمانه. وكان لعهد الملّثمين، وهو إمام الزجّالين على الإطلاق.
قال ابن سعيد: ورأيت أزجاله مرويّة ببغداد أكثر ممّا رأيتها بحواضر المغرب.
قال: وسمعت أبا الحسن بن جحدر الإشبيليّ، إمام الزجّالين في عصرنا يقول:
__________
[1] وفي نسخة أخرى: ودعي.

(1/825)


ما وقع لأحد من أئمّة هذا الشأن مثل ما وقع لابن قزمان شيخ الصناعة، وقد خرج إلى منتزه مع بعض أصحابه، فجلسوا تحت عريش وأمامهم تمثال أسد من رخام يصبّ الماء من فيه على صفائح من الحجر متدرّجة فقال:
وعريش قد قام على دكان ... بحال رواق
وأسد قد ابتلع ثعبان ... من غلظ ساق
وفتح فمه بحال إنسان ... بيه الفراق
وانطلق من ثم على الصفاح ... وألقى الصياح
وكان ابن قزمان، مع أنّه قرطبيّ الدار، كثيرا ما يتردّد إلى إشبيليّة ونيتاب نهرها، فاتّفق أن اجتمع ذات يوم جماعة من أعلام هذا الشأن. وقد ركبوا في النّهر للنزهة، ومعهم غلام جميل الصورة من سروات أهل البلد وبيوتهم. وكانوا مجتمعين في زورق للصيد، فنظموا في وصف الحال، وبدأ منهم عيسى البليديّ فقال:
يطمع بالخلاص قلبي وقد فاتو ... وقد ضمني عشقو لشهماتو
تراه قد حصل مسكين محلاتو ... يغلق وكذاك أمر عظيم صاباتو
توحش الجفون الكحل إن غابو ... وذيك الجفون الكحل أبلاتو
ثمّ قال أبو عمرو بن الزاهر الإشبيليّ:
نشب والهوى من لج فيه ينشب ... ترى ايش دعاه يشقى ويتعذب
مع العشق قام في بألوان يلعب ... وخلق كثير من ذا اللعب ماتوا
ثمّ قال أبو الحسن المقرّيّ الدانيّ:
نهار مليح يعجبن أوصافو ... شراب وملاح من حولي قد طافوا
والمقلين يقول من فوق صفصافو ... والبوري أخرى فقلاتو

(1/826)


ثمّ قال أبو بكر بن مرتين:
الحق تريد حديث بقالي عاد ... في الواد النزيه والبوري والصياد
لسنا حيتان ذيك الّذي يصطاد ... قلوب الورى هي في شبيكاتو
ثمّ قال أبو بكر بن قزمان:
إذا شمر كمامو يرميها ... ترى البوري يرشق لذاك الجيها
وليس مرادو أن يقع فيها ... إلا أن يقبل بدياتو
وكان في عصرهم بشرق الأندلس محلف الأسود، وله محاسن من الزّجل منها قوله:
قد كنت منشوب واختشيت النشب ... وردّني ذا العشق لأمر صعب
حتى تنظر الخدّ الشريق البهي ... تنتهي في الخمر ألما تنتهي
يا طالب الكيميا في عينيّ هي ... تنظر بها الفضة وترجع ذهب
وجاءت بعدهم حلبة كان سابقها مدغليس، وقعت له العجائب في هذه الطريقة، فمن قوله في زجله المشهور:
ورذاذ دق ينزل ... وشعاع الشمس يضرب
فترى الواحد يفضض ... وترى الآخر يذهب
والنبات يشرب ويسكر ... والغصون ترقص وتطرب
وتريد تجي إلينا ... ثم تستحي وتهرب
ومن محاسن أزجاله قوله:
لاح الضيا والنجوم حيارى ... فقم بنا ننزع الكسل
شربت ممزوج من قراعا ... أحلى هي عندي من العسل
يا من يلمني كما تقلد ... قلدك الله بما تقول

(1/827)


يقول بان الذنوب تولد ... وأنّه يفسد العقول
لارض الحجاز موريكن لك أرشد ... ايش ما ساقك معي في ذا الفضول
مر أنت للحج والزيارا ... ودعني في الشرب منهمل
من ليس لو قدره ولا استطاع ... النية أبلغ من العمل
وظهر بعد هؤلاء بأشبيليّة ابن جحدر الّذي فضل على الزّجالين في فتح ميورقة بالزّجل الّذي أوّله هذا:
من عاند التوحيد بالسيف يمحق ... أنا بري ممن يعاند الحق
قال ابن سعيد لقيته ولقيت تلميذه المعمع صاحب الزّجل المشهور الّذي أوّله:
يا ليتني ان رأيت حبيبي ... أفتل اذنو بالرسيلا
ليش أخذ عنق الغزيل ... وسرق فم الحجيلا
ثمّ جاء من بعدهم أبو الحسن سهل ابن مالك إمام الأدب، ثمّ من بعدهم لهذه العصور صاحبنا الوزير أبو عبد الله بن الخطيب إمام النظم والنثر في الملّة الإسلاميّة غير مدافع، فمن محاسنه في هذه الطريقة:
امزج الأكواس واملالي تجدّد ... ما خلق المال إلا أن يبدّد
ومن قوله على طريقة الصوفيّة وينحو منحى الشّشتريّ منهم:
بين طلوع وبين نزول ... اختلطت الغزول
ومضى من لم يكن ... وبقي من لم يزول
ومن محاسنه أيضا قوله في ذلك المعنى:
البعد عنك يا بني أعظم مصائبي ... وحين حصل لي قربك سببت قاربي

(1/828)


وكان لعصر الوزير ابن الخطيب بالأندلس محمّد بن عبد العظيم من أهل وادي آش، وكان إماما في هذه الطريقة وله من زجل يعارض به مدغليس في قوله:
لاح الضياء والنجوم حيارى بقوله:
حل المجون يا أهل الشطارا ... مذحلت الشمس في الحمل
تجدّدوا كل يوم خلاعا ... لا تجعلوا بينها ثمل
إليها يتخلعوا في شنبل ... على خضورة ذاك النبات
وحل بغداد واجتياز النيل ... أحسن عندي من ذيك الجهات
وطاقتها أصلح من أربعين ميل ... ان مرت الريح عليه وجات
لم تلتق الغبار امارا ... ولا بمقدار ما يكتحل
وكيف ولاش فيه موضع رقاعا ... إلا ونسرّح فيه النحل
وهذه الطريقة الزجليّة لهذا العهد هي فنّ العامّة بالأندلس من الشّعر، وفيها نظمهم حتّى أنّهم لينظمون بها في سائر البحور الخمسة عشر، لكن بلغتهم العاميّة ويسمّونه الشّعر الزجليّ مثل قول شاعرهم:
دهر لي نعشق جفونك وسنين ... وأنت لا شفقة ولا قلب يلين
حتى ترى قلبي من أجلك كيف رجع ... صنعة السكة بين الحدادين
الدموع ترشرش والنار تلتهب ... والمطارق من شمال ومن يمين
خلق الله النصارى للغزو ... وأنت تغزو قلوب العاشقين
وكان من المجيدين لهذه الطريقة لأوّل هذه المائة الأديب أبو عبد الله اللّوشيّ وله فيها قصيدة يمدح فيها السلطان ابن الأحمر:
طل الصباح قم يا نديمي نشربو ... ونضحكو من بعد ما نطربو
سبيكة الفجر أحكت شفق ... في ميلق الليل فقم قلبو

(1/829)


ترى عيارها خالص أبيض نقي ... فضة هو لكن الشفق ذهبو
فتنتفق سكتوا عند البشر ... نور الجفون من نورها يكسبو
فهو النهار يا صاحبي للمعاش ... عيش الغني فيه باللَّه ما أطيبوا
والليل أيضا للقبل والعناق ... على سرير الوصل يتقلبو
جاد الزمان من بعد ما كان بخيل ... ولش ليفلت من يديه عقربو
كما جرع مرو فما قد مضى ... يشرب بيننو ويأكل طيبو
قال الرقيب يا أدبا أيش ذا ... في الشرب والعشق ترى ننجبو
وتعجبوا عذالي من ذا الخبر ... فقلت يا قوم من ذا تتعجبوا
نعشق مليح الا رقيق الطباع ... علاش تكفروا باللَّه أو تكتبوا
ليش يربح الحسن إلا شاعر أديب ... يفض بكرا ويدع ثيبو
أما الكاس فحرام نعم هو حرام ... على الّذي ما يدري كيف يشربو
ويد الّذي يحسن حسابه ولم ... يقدر يحسن ألفاظ أن يجلبوا
وأهل العقل والفكر والمجون ... يغفر ذنوبهم لهذا إن أذنبوا
ظبي بهي فيها يطفي الجمر ... وقلبي في جمر الغضى يلهبو
غزال بهي ينظر قلوب الأسود ... وبالوهم قبل النظر يذهبوا
ثم يحييهم إذا ابتسم يضحكوا ... ويفرحوا من بعد ما يندبوا
فميم كالخاتم وثغر نقي ... خطيب الأمّة للقبل يخطبو
جوهر ومرجان أي عقد يا فلان ... قد صففه الناظم ولم يثقبو
وشارب أخضر يريد لاش يريد ... من شبهه بالمسك قد عيبو
يسبل دلال مثل جناح الغراب ... ليالي هجري منه يستغربوا
على بدن أبيض بلون الحليب ... ما قط راعي للغنم يحلبوا
وزوج هندات ما علمت قبلها ... ديك الصلا يا ريت ما أصلبوا
تحت العكاكن منها خصر رقيق ... من رقتو يخفي إذا تطلبوا

(1/830)


أرق هو من ديني فيما تقول جديد عتبك حق ما أكذبوا أي دين بقا لي معاك وأي عقل من يتبعك من ذا وذا تسلبوا تحمل ارداف ثقال كالرقيب حين ينظر العاشق وحين يرقبو ان لم ينفس غدر أو ينقشع في طرف ديسا والبشر تطلبوا يصير إليك المكان حين تجي وحين تغيب ترجع في عيني تبو محاسنك مثل خصال الأمير أو الرمل من هو الّذي يحسبو عماد الأمصار وفصيح العرب من فصاحة لفظه يتقرّبو بحمل العلم انفرد والعمل ومع بديع الشعر ما أكتبوا ففي الصدور بالرمح ما أطعنه وفي الرقاب بالسيف ما أضربوا من السماء يحسد في أربع صفات فمن يعدّ قلبي أو يحسبو الشمس نورو والقمر همتو الغيث جودو والنجوم منصبو يركب جواد الجود ويطلق عنان الاغنيا والجند حين يركبوا من خلعتو يلبس كل يوم بطيب منه بنات المعالي تطيبوا نعمتو تظهر على كل من يجيه قاصد ووارد قط ما خيبوا قد أظهر الحق وكان في حجاب لاش يقدر الباطل بعد ما يحجبو وقد بنى بالسر ركن التقى من بعد ما كان الزمان خربو تخاف حين تلقاه كما ترتجيه فمع سماحة وجهو ما أسيبو يلقى الحروب ضاحكا وهي عابسة غلاب هو لا شيء في الدنيا يغلبو إذا جبد سيفه ما بين الردود فليس شيء يغني من يضربو وهو سميّ المصطفى والإله للسلطنة اختار واستنخبو تراه خليفة أمير المؤمنين يقود جيوشو ويزين موكبو لذي الإمارة تخضع الرءوس نعم وفي تقبيل يديه يرغبوا ببيته بقي بدور الزمان يطلعوا في المجد ولا يغربوا

(1/831)


وفي المعالي والشرف يبعدوا وفي التواضع والحيا يقربوا والله يبقيهم ما دار الفلك وأشرقت شمسه ولاح كوكبو وما يغني ذا القصيد في عروض يا شمس خدر ما لها مغربو
ثمّ استحدث أهل الأمصار بالمغرب فنا آخر من الشّعر، في أعاريض مزدوجة كالموشّح، نظموا فيه بلغتهم الحضريّة أيضا وسمّوه عروض البلد، وكان أول من استحدثه فيهم رجل من أهل الأندلس نزل بفاس يعرف بابن عمير، فنظم قطعة على طريقة الموشّح ولم يخرج فيها عن مذاهب الإعراب إلّا قليلا مطلعها:
أبكاني بشاطئ النهر نوح الحمام ... على الغصن في البستان قريب الصباح
وكف السحر يمحو مداد الظلام ... وماء الندى يجري بثغر الاقاح
باكرت الرياض والطل فيها افتراق ... كثير الجواهر في نحور الجوار
ودمع النواعير ينهرق انهراق ... يحاكي ثعابين حلقت بالثمار
لووا بالغصون خلخال على كل ساق ... ودار الجميع بالروض دور السوار
وأيدي الندى تخرق جيوب الكمام ... ويحمل نسيم المسك عنها رياح
وعاج الصبا يطلى بمسك الغمام ... وجرّ النسيم ذيلو عليها وفاح
رأيت الحمام بين الورق في القضيب ... قد ابتلت ارياشو بقطر الندى
تنوح مثل ذاك المستهام الغريب ... قد التف من توبو الجديد في ردا
ولكن بما أحمر وساقو خضيب ... ينظم سلوك جوهر ويتقلدا
جلس بين الأغصان جلسة المستهام ... جناحا توسد والتوى في جناح
وصار يشتكي ما في الفؤاد من غرام ... منها ضمّ منقاره لصدره وصاح
قلت يا حمام أحرمت عيني الهجوع ... أراك ما تزال تبكي بدمع سفوح
قال لي بكيت حتى صفت لي الدموع ... بلا دمع نبقي طول حياتي ننوح
على فرخ طار لي لم يكن لو رجوع ... ألفت البكا والحزن من عهد نوح
كذا هو ألوفا وكذا هو الزمام ... انظر جفون صارت بحال الجراح

(1/832)


وأنتم من بكى منكم إذا تم عام ... يقول عناني ذا البكا والنواح
قلت يا حمام لو خضت بحر الضنى ... كنت تبكي وترثي لي بدمع هتون
ولو كان بقلبك ما بقلبي أنا ... ما كان يصير تحتك فروع الغصون
اليوم نقاسي الهجر كم من سنا ... حتى لا سبيل جمله تراني العيون
ومما كسا جسمي النحول والسقام ... أخفاني نحولي عن عيون اللواح
لو جتنى المنايا كان يموت في المقام ... ومن مات بعد يا قوم لقد استراح
قال لي لو رقدت لا وراق الرياض ... من خوفي عليه ودا النفوس للفؤاد
وتخضبت من دمعي وذاك البياض ... طوق العهد في عنقي ليوم التناد
أمّا طرف منقاري حديثو استفاض ... بأطراف البلد والجسم صار في الرماد
فاستحسنه أهل فاس وولعوا به ونظموا على طريقته، وتركوا الإعراب الّذي ليس من شأنهم، وكثر سماعه بينهم واستفحل فيه كثير منهم ونوّعوه أصنافا إلى المزدوج والكازي والملعبة والغزل. واختلفت أسماؤها باختلاف ازدواجها وملاحظاتهم فيها. فمن المزدوج ما قاله ابن شجاع من فصولهم وهو من أهل تازا:
المال زينة الدنيا وعز النفوس ... يبهي وجوها ليس هي باهيا
فها كل من هو كثير الفلوس ... ولوه الكلام والرتبة العاليا
يكبر من كثر ما لو ولو كان صغير ... ويصغر عزيز القوم إذ يفتقر
من ذا ينطبق صدري ومن ذا تغير ... وكاد ينفقع لولا الرجوع للقدر
حتى يلتجي من هو في قومو كبير ... لمن لا أصل عند وو لا لو خطر
لذا ينبغي يحزن على ذي العكوس ... ويصبغ عليه ثوب فراش صافيا
اللي صارت الاذناب أمام الرءوس ... وصار يستفيد الواد من الساقيا
ضعف الناس على ذا وفسد ذا الزمان ... ما يدروا على من يكثروا ذا العتاب
اللي صار فلان يصبح بو فلان ... ولو رأيت كيف يردّ الجواب

(1/833)


عشنا والسلام حتى رأينا عيان ... أنفاس السلاطين في جلود الكلاب
كبار النفوس جدّا ضعاف الاسوس ... هم ناحيا والمجد في ناحيا
يرو أنهم والناس يروهم تيوس ... وجوه البلد والعمدة الراسيا
ومن مذاهبهم قول ابن شجاع منهم في بعض مزدوجاته:
تعب من تبع ذا الزمان ... أهمل يا فلان لا يلعب الحسن فيك
ما منهم مليح عاهد الا وخان ... قليل من عليه تحبس ويحبس عليك
يهبوا على العشاق ويتمنعوا ... ويستعمدوا تقطيع قلوب الرجال
وان واصلوا من حينهم يقطعوا ... وان عاهدوا خانوا على كل حال
مليح كان هويتو وشت قلبي معو ... وصيرت من خدّي لقدمو نعال
ومهدت لو من وسط قلبي مكان ... وقلت لقلبي أكرم لمن حل فيك
وهوّن عليك ما يعتريك من هوان ... فلا بدّ من هول الهوى يعتريك
حكمتوا علي وارتضيت بو أمير ... فلو كان يرى حالي إذا يبصرو
يرجع مثل در حولي بوجه الغدير ... مرديه ويتعطس بحال انحرو
وتعلمت من ساعا بسبق الضمير ... ويفهم مرادو قبل أن يذكرو
ويحتل في مطلو لو أن كان ... عصر في الربيع أو في الليالي يريك
ويمشي بسوق كان ولو بأصبهان ... وايش ما يقل يحتاج لو يجيك
حتّى أتى على آخرها.
وكان منهم عليّ بن المؤذّن بتلمسان، وكان لهذه العصور القريبة من فحولهم بزرهون من ضواحي مكناسة رجل يعرف بالكفيف، أبدع في مذاهب هذا الفنّ. ومن أحسن ما علق له بمحفوظي قوله في رحلة السلطان أبي الحسن وبني مرين إلى إفريقية يصف هزيمتهم بالقيروان، ويعزّيهم عنها ويؤنسهم بما وقع لغيرهم بعد أن عيّبهم على غزاتهم إلى إفريقية في ملعبة من فنون هذه الطريقة

(1/834)


يقول في مفتحها، وهو من أبدع مذاهب البلاغة في الأشعار بالمقصد في مطلع الكلام وافتتاحه ويسمّى براعة الاستهلال:
سبحان مالك خواطر الأمرا ... ونواصيها في كل حين وزمان
ان طعناه أعظم لنا نصرا ... وان عصيناه عاقب بكل هوان
إلى أن يقول في السؤال عن جيوش المغرب بعد التخلّص:
كن مرعى قل ولا تكن راعي ... فالراعي عن رعيته مسئول
واستفتح بالصلاة على الداعي ... للإسلام والرضا السني المكمول
على الخلفاء الراشدين والاتباع ... واذكر بعدهم إذا تحب وقول
أحجاجا تخللوا الصحرا ... ودّوا سرح البلاد مع السكان
عسكر فاس المنيرة الغرّا ... وين سارت بو عزايم السلطان
أحجاج بالنبيّ الّذي زرتم ... وقطعتم لو كلاكل البيدا
عن جيش الغرب حين يسألكم ... المتلوف في افريقيا السودا
ومن كان بالعطايا يزوّدكم ... ويدع برية الحجاز رغدا
قام قل للسد صادف الجزرا ... ويعجز شوط بعد ما يخفان
ويزف كر دوم تهب في الغبرا ... أي ما زاد غزالهم سبحان
لو كان ما بين تونس الغربا ... وبلاد الغرب سدّ السكندر
مبنى من شرقها إلى غربا ... طبقا بحديد أو ثانيا بصفر
لا بد الطير أن تجيب نبا ... أو يأتي الريح عنهم بفرد خبر
ما أعوصها من أمور وما شرا ... لو تقرأ كل يوم على الديوان
لجرت بالدم وانصدع حجرا ... وهوت الخراب وخافت الغزلان
أدر لي بعقلك الفحاص ... وتفكر لي بخاطرك جمعا
ان كان تعلم حمام ولا رقاص ... عن السلطان شهر وقبله سبعا
تظهر عند المهيمن القصاص ... وعلامات تنشر على الصمعا

(1/835)


الا قوم عاريين فلا سترا ... مجهولين لا مكان ولا إمكان
ما يدروا كيف يصوروا كسرا ... وكيف دخلوا مدينة القيروان
أمولاي أبو الحسن خطينا الباب ... قضية سيرنا إلى تونس
فقنا كنا على الجريد والزاب ... واش لك في أعراب افريقيا القوبس
ما بلغك من عمر فتى الخطاب ... الفاروق فاتح القرى المولس
ملك الشام والحجاز وتاج كسرى ... وفتح من افريقيا وكان
ردّ ولدت لو كرّه ذكرى ... ونقل فيها تفرّق الاخوان
هذا الفاروق مردي الأعوان ... صرح في افريقيا بذا التصريح
وبقت حمى إلى زمن عثمان ... وفتحها ابن الزبير عن تصحيح
لمن دخلت غنائمها الديوان ... مات عثمان وانقلب علينا الريح
وافترق الناس على ثلاثة أمرا ... وبقي ما هو للسكوت عنوان
إذا كان ذا في مدّة البرارا ... اش نعمل في أواخر الأزمان
وأصحاب الحضر في مكناساتا ... وفي تاريخ كأنا وكيوانا
تذكر في صحتها أبياتا ... شق وسطيح وابن مرانا
ان مرين إذا تكف براياتا ... لجدّا وتونس قد سقط بنيانا
قد ذكرنا ما قال سيد الوزرا ... عيسى بن الحسن الرفيع الشان
قال لي رأيت وأنا بذا أدري ... لكن إذا جاء القدر عميت الأعيان
ويقول لك ما دهى المرينيا ... من حضرة فاس إلى عرب دياب
أراد المولى بموت ابن يحيى ... سلطان تونس وصاحب الأبواب
ثمّ أخذ في ترحيل السلطان وجيوشه، إلى آخر رحلته ومنتهى أمره، مع أعراب إفريقية، وأتى فيها بكلّ غريبة من الإبداع. وأمّا أهل تونس فاستحدثوا فنّ الملعبة أيضا على لغتهم الحضريّة، إلّا أنّ أكثره رديء ولم يعلق بمحفوظي منه شيء لرداءته
.

(1/836)


الموشحات والأزجال في المشرق
وكان لعامّة بغداد أيضا فنّ من الشعر يسمّونه المواليا، وتحته فنون كثيرة يسمّون منها القوما، وكان وكان، ومنه مفرد ومنه في بيتين، ويسمّونه دو بيت على الاختلاف المعتبرة عندهم في كلّ واحد منها، وغالبها مزدوجة من أربعة أغصان. وتبعهم في ذلك أهل مصر القاهرة وأتوا فيها بالغرائب، وتبحّروا فيها في أساليب البلاغة بمقتضى لغتهم الحضريّة، فجاءوا بالعجائب، ورأيت في ديوان الصفيّ الحلّي من كلامه «أنّ المواليا من بحر البسيط، وهو ذو أربعة أغصان وأربع قواف، ويسمّى صوتا وبيتين. وأنّه من مخترعات أهل واسط، وأنّ كان وكان فهو قافية واحدة وأوزان مختلفة في أشطاره: الشطر الأوّل من البيت أطول من الشطر الثاني ولا تكون قافيته إلّا مردفة بحرف العلّة وأنّه من مخترعات البغداديّين. وأنشد فيه لنا:
بغمز الحواجب حديث تفسير ومنو أوبو، وأمّ الأخرس تعرف بلغة الخرسان» . انتهى كلام الصفيّ. ومن أعجب ما علق بحفظي منه قول شاعرهم:
هذي جراحي طريا ... والدما تنضح
وقاتلي يا أخيا ... في الفلا يمرح
قالوا ونأخذ بثأرك ... قلت ذا أقبح
إلى جرحتي يداويني ... يكون أصلح
ولغيره:
طرقت باب الخبا قالت من الطارق ... فقلت مفتون لا ناهب ولا سارق
تبسمت لاح لي من ثغرها بارق ... رجعت حيران في بحر أدمعي غارق
ولغيره:

(1/837)


عهدي بها وهي لا تأمن علي البين ... وان شكوت الهوى قالت فدتك العين
لمن يعاين لها غيري غلام الزين ... ذكرتها العهد قالت لك على دين
ولغيره في وصف الحشيش:
دي خمر صرف التي عهدي بها باقي ... تغني عن الخمر والخمار والساقي
قحبا ومن قحبها تعمل على احراقي ... خبيتها في الحشى طلت من احداقي
ولغيره:
يا من وصالو لأطفال المحبة بح ... كم توجع القلب بالهجران أوّه أح
أودعت قلبي حوحو والتصبر بح ... كل الورى كخ في عيني وشخصك دح
ولغيره:
ناديتها ومسيبي قد طواني طيّ ... جودي عليّ بقبلة في الهوى يا مي
قالت وقد كوت داخل فؤادي كيّ ... ما ظن ذا القطن يغشى فمّ من هو حيّ
ولغيره:
رآني ابتسم سبقت سحب أدمعي برقه ... ماط اللثام تبدي بدر في شرقه
اسبل دجى الشعرتاه القلب في طرقه ... رجع هدانا بخيط الصبح من فرقه
ولغيره:
يا حادي العيس ازجر بالمطايا زجر ... وقف على منزل أحبابي قبيل الفجر
وصيح في حيهم يا من يريد الأجر ... ينهض يصلي على ميت قتيل الهجر
ولغيره:
عيني التي كنت ارعاكم بها باتت ... ترعى النجوم وبالتسهيد اقتاتت
وأسهم البين صابتني ولا فاتت ... وسلوتي عظم الله أجركم ماتت

(1/838)


ولغيره:
هويت في قنطرتكم يا ملاح الحكر ... غزال يبلى الأسود الضاريا بالفكر
غصن إذا ما انثنى يسبي البنات البكر ... وان تهلل فما للبدر عند وذكر
ومن الّذي يسمّونه دو بيت:
قد أقسم من أحبه بالباري ... أن يبعث طيفه مع الأسحار
يا نار أشواقي به فاتقدي ... ليلا فعساه يهتدي بالنار
واعلم أنّ الأذواق كلّها في معرفة البلاغة إنّما تحصل لمن خالط تلك اللّغة وكثر استعماله لها ومخاطبته بين أجيالها حتّى يحصّل ملكتها كما قلناه في اللّغة العربيّة. فلا يشعر الأندلسيّ بالبلاغة الّتي في شعر أهل المغرب ولا المغربيّ بالبلاغة الّتي في شعر أهل الأندلس والمشرق ولا المشرقيّ بالبلاغة الّتي في شعر الأندلس والمغرب. لأنّ اللّسان الحضريّ وتراكيبه مختلفة فيهم. وكلّ واحد منهم مدرك لبلاغة لغته وذائق لمحاسن الشّعر من أهل جلدته وفي خلق السّماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم آيات للعالمين وقد كدنا نخرج عن الغرض.

(1/839)


وجاء مصلّيا خلفه منهم ابن رافع، رأس [1] شعراء المأمون ابن ذي النون صاحب طليطلة. قالوا وقد أحسن في ابتدائه في موشّحته الّتي طارت له حيث يقول:
العود قد ترنّم بأبدع تلحين ... وسقت المذانب رياض البساتين
وفي انتهائه حيث يقول:
تخطّر ولا [2] تسلم عساك المأمون ... مروّع الكتائب يحيى بن ذي النون
ثمّ جاءت الحلبة الّتي كانت في دولة الملثّمين، فظهرت لهم البدائع، وسابق فرسان حلبتهم الأعمى الطليطليّ [3] ، ثمّ يحيى بن بقيّ، وللطليطليّ من الموشوحات المهذّبة قوله:
كيف السبيل إلى ... صبري وفي العالم أشجان
والركب وسط الفلا ... بالخرّد النواعم قد بان
خاتمة
ولذلك عزمنا أن نقبض العنان عن القول في هذا الكتاب الأوّل الّذي هو طبيعة العمران وما يعرض فيه وقد استوفينا من مسائله ما حسبناه كفاية له.
ولعلّ من يأتي بعدنا ممّن يؤيّده الله بفكر صحيح وعلم مبين يغوص من مسائله على أكثر ممّا كتبنا فليس على مستنبط الفنّ إحصاء مسائله وإنّما عليه تعيين موضع العلم وتنويع فصوله وما يتكلّم فيه والمتأخّرون يلحقون المسائل من بعده شيئا فشيئا إلى أن يكمل. وَالله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ 2: 216.
قال مؤلف الكتاب عفى الله عنه: أتممت هذا الجزء الأول المشتمل على المقدمة بالوضع والتأليف قبل التنقيح والتهذيب في مدة خمسة أشهر آخرها منتصف عام تسعة وسبعين وسبعمائة. ثم نقحته بعد ذلك وهذبته وألحقت به تواريخ الأمم كما ذكرت في أوله وشرطته. وما العلم الا من عند الله العزيز الحكيم.
__________
[1] وفي النسخة الباريسية: منهم ابن ارفع رأسه شاعر المأمون.
[2] وفي النسخة الباريسية: وليست.
[3] وفي النسخة الباريسية: التطيلي.

(1/840)