تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، ط التوفيقية
المجلد الثالث
الخلفاء الراشدون
سيرة أبو بكر الصديق
...
الخلفاء الراشدون:
سيرة أبو بكر الصديق:
2- "ع" أبو بكر الصديق "ت 13 هـ" رضي الله عنه خَلِيفَةَ رَسُولِ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
اسمه عبد الله -ويقال عتيق- بن أبي قُحافة عُثْمَانَ بْن عَامِرِ بْن
عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ بْن كعب بْن
لؤي القرشي التَّيْميّ -رضي الله عنه.
"رَوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ":
روى عنه خلْق من الصحابة وقدماء التابعين. من آخرهم أَنْس بْن مالك،
وَطَارِقِ بْن شِهَابٍ، وَقَيْسِ بْن أَبِي حَازِمٍ، ومُرَّة الطيب.
قَالَ ابن أبي مُلَيْكَة وغيره: إنّما كان عتيق لقبًا له.
وعن عائشة قالت: اسمه الَّذِي سمّاه أهلُهُ به عبد الله ولكن غَلَب
عليه عَتِيق1.
وَقَالَ ابن معين: لَقَبه عتيق لأنّ وجهه كان جميلًا، وكذا قَالَ
اللَّيْث بْن سَعْد.
وَقَالَ غيره: كان أعْلم قريش بأنسابها.
وقيل: كان أبيض نحيفًا خفيف العارضين، معروق الوجه، غائر العينين، ناتئ
الجبهة، يخضب شيبه بالحناء والكتم.
وكان أول من آمن من الرجال.
وَقَالَ ابن الأعرابي: العرب تقول للشيء قد بلغ النهاية في الجودة:
عَتيق.
وعن عائشة قالت: مَا أسلم أَبُو أحدٍ من المهاجرين إلا أَبُو بكر.
وعن الزُّهْرِيّ قَالَ: كان أَبُو بكر أبيض أصفر لطيفًا جعدًا مسترق
الوركين،
__________
1 أخرجه الترمذي "3699" في كتاب المناقب، باب: في مناقب أبي بكر وعمر
كليهما، عن عائشة أن أبا بكر دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: "أنت عتيق الله من النار فيومئذ سمي
عتيقا"، وصححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي".
(3/3)
لَا يثبت إزاره على وركيه. وَجَاءَ أَنَّهُ
اتَّجَرَ إِلَى بُصْرَى غَيْرَ مَرَّةٍ، وَأَنَّهُ انْفَقَ أمواله
عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَفِي سَبِيلِ
اللَّهِ.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا
نَفَعَنِي مَالٌ مَا نَفَعَنِي مال أبو بَكْرٍ" 1.
وَقَالَ عُرْوةُ بْن الزُّبَيْر: أسلم أَبُو بكر يوم أسلم وله أربعون
ألف دينار2.
وَقَالَ عمرو بْن العاص: يَا رَسُولَ اللَّهِ أي الرجال أحب إليك،
قَالَ: "أَبُو بكر" 3.
وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يبغض أبا بكر وعمر مؤمنٌ ولا
يحبُّهما منافق" 4.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلَيَّ: أَنَّ
النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَظَرَ إِلَى أَبِي
بكر وعمر فقال: "هذان سيدا كهول أهل الْجَنَّةِ مِنَ الْأَوَّلِينَ
وَالْآخِرِينَ إِلَّا النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ، لَا
تُخْبِرْهُمَا يَا عَلِيُّ" 5. وَرُوِيَ نَحْوُهُ مِنْ وجوه مقاربة عن
زر ابن حُبَيْشٍ، وَعَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، وَهَرِمٍ، عَنْ
عَلِيٍّ. وَقَالَ طَلْحَةُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ مِثْلَهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنِ الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ
قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ مِثْلُهُ.
أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، ثم رواه
من حديث الوقري، عن الزهري، ولم يصح.
__________
1 صحيح: أخرجه الترمذي "3681" في كتاب المناقب، باب: في مناقب أبي بكر
الصديق -رضي الله عنه- وابن ماجه "94" في المقدمة، باب: في فضائل
أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَنْ
حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- وصححه الألباني في "صحيح الجامع"
"5661": صحيح.
2 مرسل: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "2/ 91".
3 صحيح: وقد تقدم تخريجه.
4 أخرجه الخطيب البغدادي في "تاريخه" "10/ 236".
5 صحيح: أخرجه الترمذي "3686" في كتاب المناقب، باب: في مناقب أبي بكر
وعمر كليهما، وابن ماجه "95" في المقدمة، باب: في فضائل أَصْحَابِ
رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعبد الله بن
أحمد في زوائد "المسند" "1/ 80" وصححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي".
(3/4)
وقال ابن مسعود: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا
لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا" 1.
رَوَى مِثْلَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فَزَادَ: "وَلَكِنْ أخي وصاحبي في
اللَّهِ، سُدُّوا كُلَّ خَوْخَةٍ فِي الْمَسْجِدِ غَيْرَ خَوْخَةِ
أَبِي بَكْرٍ" 2.
هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ عُمَرَ
أَنَّهُ قَالَ: أبو بكر سيدنا وخيرنا وَأَحَبُّنَا إِلَى رَسُولِ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ3. صَحَّحَهُ
التِّرْمِذِيُّ.
وصح من حديث الجريري، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ: قُلْتُ
لعائشة: أيّ أصحاب النّبيّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ
أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قالت: أَبُو بكر، قلت: ثمَّ من؟ قالت: عُمَر، قلت: ثمَّ من؟ قالت:
أَبُو عبيدة، قلت: ثمَّ من؟ فسكتت4.
مَالِكٌ فِي "الْمُوَطَّأِ" عَنْ أَبِي النَّصْرِ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ
حُنَيْنٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنّ رَسُولَ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ
فَقَالَ: "إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ
مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا مَا شَاءَ وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ
مَا عِنْدَهُ"، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَدَيْنَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ
بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا، قَالَ: فَعَجِبْنَا، فَقَالَ النَّاسُ:
انْظُرُوا إِلَى هَذَا الشَّيْخِ يُخْبِرُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ عَبْدٍ خَيَّرَهُ اللَّهُ، وَهُوَ
يَقُولُ: فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا، قَالَ: فَكَانَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هُوَ
الْمُخَيَّرُ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أعلمنا به5.
__________
1 صحيح: أخرجه مسلم "2383" في كتاب فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي
بكر، والترمذي "3675"، في كتاب المناقب، باب: مناقب أبي بكر، وابن ماجه
"93" في المصدر السابق، وأبو نعيم في "الحلية" "10879".
2 صحيح: وقد تقدم.
3 صحيح: أخرجه الترمذي "3676" في المصدر السابق، وصححه الألباني في
"صحيح سنن الترمذي" وأوله عند البخاري "3754" في كتاب فضائل الصحابة،
باب: مناقب بلال بن رباح.
4 صحيح: أخرجه الترمذي "3677" في المصدر السابق، وابن ماجه "102" في
المقدمة، باب: في فضائل أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وصححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي".
5 صحيح: تقدم تخريجه.
(3/5)
وَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ مِنْ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي
صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبَا بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا
لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ،
لَا تُبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ خَوْخَةٌ إِلَّا خَوْخَةُ أَبِي
بَكْرٍ" 1. مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ.
وَقَالَ أَبُو عَوَانَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنِ
ابْنِ أَبِي الْمُعَلَّى، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا لِأَحَدٍ عِنْدَنَا يَدٌ إِلَّا وَقَدْ
كَافَأْنَاهُ مَا خَلَا أَبَا بَكْرٍ، فَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا يَدًا
يُكَافِئُهُ اللَّهُ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَا نَفَعَنِي مَالٌ
قَطُّ مَا نَفَعَنِي مَالُ أَبِي بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا
خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا أَلَا وَإِنَّ
صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ" 2. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ
غَرِيبٌ.
وَكَذَا قَالَ فِي حَدِيثِ كَثِيرٍ النَّوَّاءِ، عَنْ جُمَيْعِ بْنِ
عُمَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: "أَنْتَ صَاحِبِي عَلَى
الْحَوْضِ وَصَاحِبِي فِي الْغَارِ"3.
وَرُوِيَ عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا ينبغي لقوم فيهم أبي
بَكْرٍ أَنْ يَؤُمَّهُمْ غَيْرُهُ"4. تَفَرَّدَ بِهِ عِيسَى بْنُ
مَيْمُونٍ، عَنِ الْقَاسِمِ، وَهُوَ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ5.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ: أَخْبَرَنِي أَبِي أَنَّ
امْرَأَةً أَتَتْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى الله عليه وسلم-
__________
1 صحيح: وهو بقية الحديث السابق.
2 صحيح: أخرجه الترمذي "3681" في كتاب المناقب، باب: في مناقب أبي بكر،
وقال الألباني في "صحيح الجامع" "5661": صحيح.
3 ضعيف: أخرجه الترمذي "3690" في كتاب المناقب، باب: في مناقب أبي بكر
وعمر كليهما، وقال الألباني في "ضعيف الجامع" "756": ضعيف.
4 ضعيف جدا: أخرجه الترمذي "3693" في المصدر السابق، وقال الألباني في
"ضعيف سنن الترمذي" "757": ضعيف جدا.
5 نقل في "الميزان" "6617"، عن البخاري قال: منكر الحديث، وقال ابن
حبان: يروي أحاديث كلها موضوعات. وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: لَيْسَ
حَدِيثُهُ بِشَيْءٍ. وَقَالَ مرة: لا بأس به.
وقال الفلاس: متروك. وقال النسائي: ليس بثقة.
قلت: فهو بين الضعف والضعف الشديد: والله أعلم.
(3/6)
فَكَلَّمَتْهُ فِي شَيْءٍ، فَأَمَرَهَا
بِأَمْرٍ، فَقَالَتْ: أَرَأَيْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ لَمْ
أَجِدْكَ - قَالَ: "إِنْ لَمْ تَجِدِينِي فَأْتِي أَبَا بَكْرٍ" 1.
مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ.
وَقَالَ أَبُو بكر الهُذلي، عَنِ الحسن، عَنْ عليّ قَالَ: لقد أَمْرُ
رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أبا بكر أن يصليّ
بالنّاس، وإني لشاهدٌ وما بي مرض، فرضينا لدنيانا من رضي به النّبيّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لديننا2.
وَقَالَ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ،
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي مَرَضِهِ: "ادْعِي لِي أَبَاكِ وَأَخَاكِ
حَتَّى أَكْتُبَ كِتَابًا، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَتَمَنَّى مُتَمَنٍّ
وَيَقُولَ قَائِلٌ، وَيَأْبَى اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَّا أَبَا
بَكْرٍ" 3. هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ نَافِعُ بْنُ عُمَرَ: ثنا ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ
عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قَالَ فِي مَرَضِهِ: "ادْعُوا لِي أَبَا بَكْرٍ وَابْنَهُ فَلْيَكْتُبْ
لِكَيْلا يَطْمَعَ فِي أَمْرِ أَبِي بَكْرٍ طَامِعٌ وَلَا يَتَمَنَّى
مُتَمَنٍّ"، ثُمَّ قَالَ: "يَأْبَى اللَّهُ ذَلِكَ وَالْمُسْلِمُونَ"
4. تَابَعَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، مِنْهُمْ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ
رُفَيْعٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، وَلَفْظُهُ: "مَعَاذَ الله أن
يختلف المؤمنون فِي أَبِي بَكْرٍ" 5.
وَقَالَ زَائِدَةُ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ،
قَالَ: لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير، فأتاهم عُمَرُ فَقَالَ:
أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ أَمَرَ أَبَا بَكْرٍ فَأَمَّ النَّاسَ،
فَأيُّكُمْ تَطِيبُ نَفْسُهُ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَبَا بَكْرٍ،
فَقَالُوا: نَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ نتقدم أبا بكر6.
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3659" في كتاب فضائل الصحابة، باب: قول النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خليلا"،
ومسلم "2386/ 10" في كتاب فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي بكر
الصديق، وأحمد "4/ 82".
2 إسناده: ضعيف جدا: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "2/ 97"، والحسن مدلس،
وقد عنعنه، وأبو بكر الهذلي متروك كما في "التقريب" "8002".
3 صحيح: أخرجه مسلم "2387" في كتاب فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي
بكر الصديق، وابن سعد في "الطبقات" "2/ 96"، والبيهقي في "الدلائل" "6/
343".
4 أخرجه أحمد "6/ 106".
5 أخرجه ابن سعد في "الطبقات "2/ 96".
6 إسناده حسن: أخرجه النسائي "2/ 74، 75" في كتاب الإمامة، باب: ذكر
الإمامة والجماعة، وأحمد "1/ 396-405"، وقال الألباني في "صحيح سنن
النسائي": حسن الإسناد.
(3/7)
وأخرج البخاري من حديث أبي إدريس
الخُولانِيّ قَالَ: سمعت أبا الدَّرْدَاء يَقُولُ: كان بين أبي بكر
وعمر محاورةٌ فأغضب أَبُو بكر عُمَر، فانصرف عنه عُمَر مُغْضَبًا
فاتبعه أَبُو بَكْر يسأله أن يستغفر له، فلم يفعل حتى أغلق بابه في
وجهه، فأقبل أَبُو بكر إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاء: ونحن عنده، فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أما صاحبكم هذا فقد
غَامَرَ"، قَالَ: وندم عُمَر على مَا كان منه، فأقبل حتى سلم وجلس إلى
النّبيّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقصّ عَلَى رَسُولِ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الخبر، قَالَ أَبُو
الدَّرْدَاء: وغِضبَ رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
وجعل أَبُو بكر يَقُولُ: والله يَا رَسُولَ اللَّهِ لأَنَا كنتُ
أظْلَمُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"هل أنتم تاركون لي صاحبي? إني قلت أيها النَّاس إني رسول الله إليكم
جميعًا، فَقُلْتُم: كذَبْتَ، وَقَالَ أَبُو بكر: صَدَقْتَ" 1.
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ السَّلامِ بْنِ حَرْبٍ،
عَنْ أَبِي خَالِدٍ الدَّالانِيِّ، حَدَّثَنِي أَبُو خَالِدٍ مَوْلَى
جَعْدَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَخَذَ
بِيَدِي فَأَرَانِي الْبَابَ الَّذِي تَدْخُلُ مِنْهُ أُمَّتِي
الْجَنَّةَ"، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ مَعَكَ
حَتَّى أَنْظُرَ إِلَيْهِ، قَالَ: "أَمَا إِنَّكَ أَوَّلُ مَنْ
يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي"2. أَبُو خَالِدٍ مَوْلَى جَعْدَةَ
لَا يُعْرَفُ إِلا بِهَذَا الْحَدِيثِ.
وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ سُمَيْعٍ، عَنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ، عَنْ
أَبِي الْبَخْتَرِيِّ قَالَ: قَالَ عُمَرُ لِأَبِي عُبَيْدَةَ: ابْسُطْ
يَدَكَ حَتَّى أُبَايِعَكَ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "أَنْتَ أَمِينُ هَذِهِ
الْأُمَّةِ"، فَقَالَ: مَا كُنْتُ لِأَتَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْ رَجُلٍ
أمره رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ
يَؤُمَّنَا، فَأَمَّنَا حَتَّى مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ3.
وَقَالَ أبو بكر بْنُ عَيَّاشٍ: أَبُو بَكْرٍ خَلِيفَةَ رَسُولِ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْقُرْآنِ لأَنَّ
فِي الْقُرآنِ فِي الْمُهَاجِرِينَ {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} 4
فمن سماه صَادِقًا لَمْ يَكْذِبْ، هُمْ سَمَّوْهُ وَقَالُوا: يَا خليفة
رسول الله
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "3661" في كتاب فضائل الصحابة، باب: قول النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خليلا"،
وأبو نعيم في "الحلية" "13991".
2 ضعيف: أخرجه أبو داود "4652" في كتاب السنة، باب: في الخلفاء، وقال
الألباني في "ضعيف سنن أبي داود" "1008": ضعيف.
3 أخرجه أحمد "1/ 35".
4 سورة الحشر: 8.
(3/8)
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ
خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلالٍ قَالَ: لَمَّا بُويِعَ
أَبُو بَكْرٍ أَصْبَحَ وَعَلَى سَاعِدِهِ أبْرَاد، فَقَالَ عُمَرُ: مَا
هَذَا؟ قَالَ يَعْنِي لِي عِيَالٌ، قال: انطلق يفرض لك أبو عبيدة،
فانطلقنا إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ فَقَالَ: أَفْرِضُ لَكَ قُوتَ رَجُلٍ
مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَكِسْوَتَهُ، وَلَكَ ظَهْرُكَ إِلَى الْبَيْتِ1.
وقالت عائشة: لمّا استُخْلِفَ أَبُو بكر ألقى كل دينار ودرهم عنده في
بيت المال وَقَالَ: قد كنتُ أتَّجِرُ فيه وألْتَمِسُ به، فلمّا
وُلِّيتُهُم شغلوني2.
وَقَالَ عطاء بْن السائب: لما استخلف أبو بكر وعلى رقبته أثوابٌ يتجر
فيها، فلقيه عُمَر وأبو عبيدة فكلَّماه فَقَالَ: فمن أين أطْعِم عيالي؟
قالا: أنْطِلقْ حتى نفرض لك، قَالَ: ففرضوا له كل يوم شطر من شاة، وما
كسوه في الرأس والبطن، وَقَالَ عُمَر: إليَّ القضاء، وَقَالَ أَبُو
عبيدة: إليَّ الفيء، فَقَالَ عُمَر: لقد كان يأتي عليّ الشهرُ مَا
يختصم إليّ فيه اثنان3.
وعن ميمون بْن مِهران قال: جعلوا له ألفين وخمسمائة4.
وَقَالَ محمد بْن سيرين: كان أَبُو بكر أعبر هذه الأمة للرؤيا بعد
النّبيّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ الزبير بن بكار عن بعض أشياخه قَالَ: خُطَباء الصحابة: أَبُو
بكر، وعليّ.
وَقَالَ عَنْبَسَةُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، عَنِ
ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ
تَدْعُو عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ هَذِهِ
الأَبْيَاتِ، وَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ شِعْرًا فِي
جَاهِلِيَّةِ وَلا فِي إِسْلامٍ، وَلَقَدْ تَرَكَ هُوَ وَعُثْمَانُ
شُرْبَ الْخَمْرِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
وَقَالَ كثير النَّواء، عَنْ أبي جعفر الباقر: إنّ هذه الآية نزلت في
أبي بكر وعمر وعلي: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ
إِخْوَانًا} 5 الآية.
__________
1 أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "2/ 98" بنحوه.
2 أخرجه ابن سعد في الطبقات "2/ 98" بنحوه.
3 أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "2/ 98".
4 أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "2/ 98".
5 سورة الحجر: 47.
(3/9)
وَقَالَ حُصَيْن، عَنْ عبد الرحمن بْن أبي
ليلى أن عُمَر صعِد المنْبَرَ ثُمَّ قَالَ: ألا إن أفضل هذه الأمة بعد
نبيها أَبُو بكر، فمن قَالَ غير ذلك بعد مقامي هذا فهو مُفْتَرٍ، عليه
مَا على الْمُفْتَرِي.
وَقَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ وَجَمَاعَةٌ: ثنا سُهَيْلُ بْنُ أَبِي
صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كُنَّا نَقُولُ عَلَى
عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا
ذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ اسْتَوَى النَّاسُ،
فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فَلَمْ يُنْكِرْهُ1.
وَقَالَ عليّ: "خَيْرُ هَذِهِ الأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو
بَكْر، وعمر"2. هذا والله العظيم قاله عليّ وهو متواتر عنه؛ لأنه قاله
على منبر الكوفة، فقاتل الله الرّافضة مَا أجهلهم.
وقال السدي، عن عبد خَيْرٍ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: أَعْظَمُ النَّاسِ
أَجْرًا فِي الْمَصَاحِفِ أَبُو بَكْرٍ، كَانَ أَوَّلَ مَنْ جَمَعَ
الْقُرْآنَ بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ3. إِسْنَادُهُ حَسَنٌ.
وَقَالَ عقيل، عَنِ الزُّهْرِيّ أنّ أبا بكر والحارث بن كلدة كانا
يأكلان خزيزة أُهْدِيَت لأبي بكر، فَقَالَ الحارث: ارفع يدك يا خليفة
رسول الله، والله إنّ فيها لَسمّ سنةٍ، وأنا وأنت نموت في يومٍ واحد،
قَالَ: فلم يزالا عليلَيْن حتى ماتا في يومٍ واحد عند انقضاء السنة4.
وعن عائشة قالت: أول ما بدئ مَرَضُ أبي بكر أنّه اغْتَسَلَ، وكان يومًا
باردًا فحُمّ خمسة عشر يومًا لَا يخرج إلى صلاة، وكان يأمر عمر
بالصلاة، وكانوا يعودونه، وكان عثمان ألْزمهُم له في مرضه5.
وتُوُفِّيَ مساءَ ليلة الثلاثاء لثمانٍ بقين من جمادى الآخرة. وكانت
خلافته سنتين ومائة يوم.
__________
1 عزاء الحافظ ابن حجر في "الفتح" "7/ 20" للطبراني. وأصل الحديث صحيح
كما تقدم.
2 صحيح: أخرجه البخاري "3671" في كتاب فضائل الصحابة، باب: قول النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خليلا"،
والطبراني في "الأوسط" "810"، وأبو نعيم في "الحلية" "10321".
3 أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "2/ 103".
4 أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "2/ 105، 106".
5 أخرجه ابن سعد في الطبقات "2/ 107".
(3/10)
وقال أبو معشر: سنتين وأربعة أشهر إلَّا
أربع ليالٍ، عَنْ ثلاث وستين سنة.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ عَبْدِ
الْمَجِيدِ بْنِ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: وَأَخْبَرَنَا
بُرْدَانُ بْنُ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ محمد بن إبراهيم التيمي، وأنا
وعمرو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
الْبَهِيِّ، دَخَلَ حَدِيثُ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ
لَمَّا ثَقُلَ دَعَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ فَقَالَ:
أَخْبِرْنِي عَنْ عُمَرَ، فَقَالَ: مَا تَسْأَلُنِي عَنْ أَمْرٍ إِلا
وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، قَالَ: وَإِنْ، فَقَالَ: هُوَ
وَاللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ رَأْيِكَ فِيهِ، ثُمَّ دَعَا عُثْمَان
فَسَأَلَهُ عَنْ عُمَرَ، فَقَالَ: عِلْمِي فِيهِ أَنَّ سَرِيرَتَهُ
خَيْرٌ مِنْ عَلانِيَتِهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ فِينَا مِثْلُهُ، فَقَالَ:
يَرْحَمُكَ اللَّهُ وَاللَّهِ لَوْ تَرَكْتُهُ مَا عَدَوْتُكَ،
وَشَاوَرَ مَعَهُمَا سَعِيد بْن زَيْدٍ، وَأُسَيْد بْن الْحُضَيْرِ
وَغَيْرهمَا، فَقَالَ قَائِلٌ: مَا تَقُولُ لِرَبِّكَ إِذَا سَأَلَكَ
عَنِ استخلاف عُمَرَ وَقَدْ تَرَى غِلْظَتَهُ؟ فَقَالَ: أَجْلِسُونِي،
أَبِاللَّهِ تُخَوِّفُونِي! أَقُولُ: اسْتَخْلَفْتُ عَلَيْهِمْ خَيْرَ
أَهْلِكَ.
ثُمَّ دَعَا عُثْمَانَ فَقَالَ: اكْتُبْ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ، هَذَا مَا عَهِدَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي قُحَافَةَ فِي
آخِرِ عَهْدِهِ بِالدُّنْيَا خَارِجًا مِنْهَا، وَعِنْدَ أَوَّلِ
عَهْدِهِ بِالآخِرَةِ دَاخِلا فِيهَا، حَيْثُ يُؤْمِنُ الْكَافِرُ،
وَيُوقِنُ الْفَاجِرُ، وَيَصْدُقُ الْكَاذِبُ، إني استخلفت عليكم بعدي
عمر بن الخطاب فاستمعوا له وأطيعوه، وإني لم آل الله ورسوله وديته
وَنَفْسِي وَإِيَّاكُمْ خَيْرًا، فَإنْ عَدَلَ فَذَلِكَ ظَنِّي بِهِ
وَعِلْمِي فِيهِ، وَإِنْ بَدَّلَ فَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا اكْتَسَبَ،
وَالْخَيْرَ أَرَدْتُ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ
ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُون} 1.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي الْحَدِيثِ: لَمَّا أَنْ كَتَبَ عُثْمَانُ
الْكِتَابَ أُغْمِيَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، فَكَتَبَ عُثْمَانُ مِنْ
عِنْدِهِ اسْمَ عُمَرَ، فَلَمَّا أَفَاقَ أَبُو بَكْرٍ قَالَ: اقْرَأْ
مَا كَتَبْتَ، فَقَرَأَ، فَلَمَّا ذَكَرَ عُمَرَ كَبَّر أَبُو بَكْرٍ
وَقَالَ: أَرَاكَ خِفْتَ إِنْ افْتَلَتَتْ نَفْسِي الاخْتِلافَ،
فَجَزَاكَ اللَّهُ عَنِ الإِسْلامِ خَيْرًا، وَاللَّهِ إِنْ كُنْتَ
لَهَا أَهْلا2.
وَقَالَ عُلْوَانُ بْنُ دَاوُدَ الْبَجَلِيُّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِيهِ، وَقَدْ رَوَاهُ
اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ عُلْوَانَ، عَنْ صَالِحٍ نَفْسِهِ قَالَ:
دَخَلْتُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ أَعُودُهُ فِي مرضه
__________
1 سورة الشعراء: 227.
2 إسناده ضعيف جدا: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "2/ 106، 107".
(3/11)
فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ وَسَأَلْتُهُ كَيْفَ
أَصْبَحْتَ? فَقَالَ: بِحَمْدِ اللَّهِ بَارِئًا، أَمَّا إِنِّي عَلَى
مَا تَرَى وَجِعٌ، وَجَعَلْتُمْ لِي شُغُلا مَعَ وَجَعِي، جَعَلْتُ
لَكُمْ عَهْدًا بَعْدِي، وَاخْتَرْتُ لَكُمْ خَيْرَكُمْ فِي نَفْسِي
فَكُلُّكُمْ وَرِمَ لِذَلِكَ أَنْفُهُ رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ الأَمْرُ
لَهُ.
ثُمَّ قَالَ: أَمَا إِنِّي لا آسَى عَلَى شَيْء إِلا عَلَى ثَلاثٍ
فَعَلْتُهُنَّ، وَثَلاثٍ لَمْ أَفْعَلْهُنَّ، وَثَلاثٍ وَدِدْتُ أَنِّي
سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
عَنْهُنَّ: وَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ كَشَفْتُ بَيْتَ فاطمة وَأَنْ
أُغْلِقَ عَلَيَّ الْحَرْبَ، وَدِدْتُ أَنِّي يَوْمَ سَقِيفَةِ بَنِي
سَاعِدَةَ كُنْتُ قَذَفْتُ الأَمْرَ فِي عنق عمر أو أبي عبيدة، وددت
أَنِّي كُنْتُ وَجَّهْتُ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى أَهْلِ
الرِّدَّةِ وَأَقَمْتُ بِذِي الْقِصَّةِ، فَإِنْ ظَفِرَ المسلمون وإلا
كنت لهم مددًا ورداءً، وَوَدِدْتُ أَنِّي يَوْمَ أُتِيتُ بِالأَشْعَثِ
أَسِيرًا ضَرَبْتُ عنقه، فإنه خيل إِلَيَّ أَنَّهُ لا يَكُونُ شَرٌّ
إِلا طَارَ إليه، وودت أَنِّي يَوْمَ أُتِيتُ بِالْفُجَاءَةِ
السُّلَمِيِّ لَمْ أَكُنْ حَرَّقْتُهُ وَقَتَلْتُهُ أَوْ أَطْلَقْتُهُ
نَجِيحًا، وَوَدِدْتُ أَنِّي حَيْثُ وَجَّهْتُ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ
إِلَى الشَّامِ وَجَّهْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ إِلَى الْعِرَاقِ،
فَأَكُونُ قَدْ بَسَطْتُ يَمِينِي وَشِمَالِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
وَوَدِدْتُ أَنِّي سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فِي مَنْ هَذَا الأَمْرُ وَلا يُنَازِعُهُ أَهْلَهُ،
وَأَنِّي سَأَلْتُهُ هَلْ لِلأَنْصَارِ فِي هَذَا الأَمْرِ شَيْءٌ
وَأَنِّي سَأَلْتُهُ عَنِ الْعَمَّةِ وَبِنْتِ الأَخِ، فَإِنَّ فِي
نَفْسِي مِنْهَا حَاجَةً1، رَوَاهُ هَكَذَا وَأَطْوَلَ مِنْ هَذَا
ابْنُ وَهْبٍ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ
كَيْسَانَ، أَخْرَجَهُ كَذَلِكَ ابْنُ عَائِذٍ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: حَضَرْتُ أَبِي
وَهُوَ يَمُوتُ فَأَخَذَتْهُ غشْيَةٌ فتمثَّلْتُ:
مَنْ لا يَزَالُ دَمْعُهُ مُقَنَّعًا ... فَإِنَّهُ لا بُدَّ مَرَّةً
مَدْفُوقُ
فَرَفَعَ رَأْسَهُ وَقَالَ: يَا بُنَيَّةُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَكِنْ
كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ
بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} 2، 3.
وَقَالَ موسى الجُهنيُّ عَنْ أبي بكر بْن حفص بْن عُمَر: إنّ عائشة
تمثَّلَت لمّا احتضر أبو بكر:
__________
1 إسناده ضعيف: علوان بن داود البجلي منكر الحديث كما في "الميزان"
"5763" وقد ذكر له المصنف فيه هذا الأثر من مناكيره.
2 سورة ق: 19.
3 أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "2/ 105" عن عائشة.
(3/12)
لَعَمْرُكَ مَا يُغْني الثَّرَاءُ عَنِ
الْفَتَى ... إذا حشرجت يومًا وضاق بها الصَّدْرُ
فَقَالَ: ليس كذلك ولكن {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} ،
إني نحلتك حائطًا وإن نفسي منه شيئًا فرديه على الميراث، قالت: نعم،
قَالَ: أما إنّا مُنْذُ وُلِّينا أمر المُسْلِمين لم نأكل لهم دينارًا
ولا درهمًا ولكنّا أكلنا من جريش طعامهم في بطوننا، ولبِسْنا من خشن
ثيابهم على ظهورنا، وليس عندنا من فيء المُسْلِمين شيءٌ إِلَّا هذا
العبد الحبشي وهذا البعير الناضج وجرد هذه القطيفة، فإذا مت فابعثي
بهنّ إلى عُمَر، ففعلت1.
وَقَالَ القاسم، عَنْ عائشة: أن أبا بكر حين حَضَرهُ الموت قَالَ: إنّي
لَا أعلم عند آل أبي بكر غير اللقحة وغير هذا الغلام الصقيل، كان يعمل
سيوف المُسْلِمين ويخدُمُنا، فإذا مِتُّ فادْفَعِيهِ إلى عُمَر، فلمّا
دفعته إلى عُمَر قَالَ عُمَر: رحم الله أبا بكرٍ لقد أتعب من بعده2.
وَقَالَ الزُّهْرِيّ: أوصى أَبُو بكر أن تُغَسِّله امرأتُه أسماء بنت
عميس، فإنْ لم تستطع استعانت بابنه عبد الرحمن3.
وَقَالَ عبد الواحد بْن أيمن وغيره، عَنْ أبي جعفر الباقر قَالَ: دخل
عليٌّ على أبي بكر بعد مَا سُجِّيَ فَقَالَ: مَا أحد ألقى الله بصحيفته
أحبّ إليّ من هذا الْمُسَجَّى.
وَقَالَ القاسم: أوصى أَبُو بكر أنْ يُدْفَن إلى جنب رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَحُفِرَ له، وَجُعِلَ رأسُه عند كتفي
رسول الله -صلى الله عليه وَسَلَّمَ4.
وعن عامر بْن عبد الله بْن الزُّبَيْر قَالَ: رأس أبي بكر عند كتفي
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورأس عُمَر عند حقوي
أبي بكر5.
وقالت عائشة: مات ليلة الثلاثاء، ودُفِن قبل أن يُصْبح.
__________
1 أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "2/ 104".
2 أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "2/ 102".
3 أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "2/ 108" عن غير واحد من التابعين.
4 أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "2/ 111".
5 أخرجه ابن سعد في "الطبقات "2/ 112".
(3/13)
وعن مجاهد قَالَ: كُلِّم أَبُو قحافة في
ميراثه من ابنه فَقَالَ: قد رددت ذلك على ولده، ثُمَّ لم يعش بعده
إِلَّا ستة أشهرٍ وأيامًا.
وجاء أنه ورثه أبوه وزوجتاه أسماء بنتُ عُمَيْس، وحبيبة بنتُ خارجة
والدة أمِّ كلْثُوم، وعبد الرحمن، ومحمد، وعائشة، وأسماء، وأم كلثوم.
ويقال: إنّ اليهود سمَّتْهُ في أَرُزَّةٍ فمات بعد سنة، وله ثلاثٌ
وستُّون سنة.
ذِكْر عُمّال أبي بكر:
قَالَ موسى بْن أَنس بْن مالك: إنّ أبا بكر استعمل أباه أَنَسًا على
البحرين.
وَقَالَ خليفة: وجّه أَبُو بكر زياد بْن لبيد على اليمن أو المهاجر بْن
أبي أمية، واستعمل الآخر على كذا، وأقر على الطائف عثمان بْن أبي
العاص.
ولما حج استخلف على المدينة قتادة بْن النُّعْمَان.
وكان كاتبه عثمان بْن عفان، وحاجبه سُديد مولاه، ويقال كتب له زيد بْن
ثابت، وكان وزيره عُمَر بْن الخطاب وكان أيضًا على قضائه، وكان مؤذنه
سعد القرظ مولى عمار بْن ياسر.
(3/14)
خلافة الصديق -رضي الله عنه وأرضاه- سنة
إحدى عشرة:
قَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ
النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تُوُفِّيَ وَأَبُو
بَكْرٍ بِالسُّنُحِ، فَقَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ مَا مَاتَ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ
مَا كَانَ يَقَعُ فِي نَفْسِي إِلَّا ذَاكَ، وَلَيَبْعَثنُهُ اللَّهُ
فَيَقْطَعُ أَيْدِي رِجَالٍ وَأَرْجُلَهُمْ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ
الصِّدِّيقُ فَكَشَفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَبَّلَهُ، وَقَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، طِبْتَ
حَيًّا وَمَيِّتًا، والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُذِيقُكَ اللَّهُ
مَوْتَتَيْنِ أَبَدًا، ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ: أَيُّهَا الْحَالِفُ
عَلَى رِسْلِكَ، فَلَمَّا تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ جَلَسَ عُمَرُ،
فَقَالَ بَعْدَ أَنْ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ: مَنْ كَانَ
يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ
يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، وَقَالَ:
{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} 1. وَقَالَ: {وَمَا
مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ
أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} 2.
الْآيَةَ، فَنَشَجَ النَّاسُ يَبْكُونَ، وَاجْتَمَعَتِ الْأَنْصَارُ
إِلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ،
فَقَالُوا: مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ، فَذَهَبَ إِلَيْهِمْ
أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ، فَذَهَبَ عُمَرُ
يَتَكَلَّمُ فَسَكَّتَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ:
فَتَكَلَّمَ فَأَبْلَغَ، فَقَالَ فِي كَلَامِهِ: نَحْنُ الْأُمَرَاءُ
وَأَنْتُمُ الْوُزَرَاءُ، فَقَالَ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ: لَا
وَاللَّهِ لَا نَفْعَلُ أَبَدًا، مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا، وَلَكِنَّا الْأُمَرَاءُ وَأَنْتُمُ
الْوُزَرَاءُ، قُرَيْشٌ أَوْسَطُ الْعَرَبِ دَارًا وَأَعَزُّهُمْ
أَحْسَابًا فَبَايِعُوا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَوْ أَبَا
عُبَيْدَةَ، فَقَالَ عُمَرُ: بَلْ نُبَايِعُكَ، أَنْتَ خَيْرُنَا
وَسَيِّدُنَا وَأَحَبُّنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَخَذَ عُمَرُ بِيَدِهِ فَبَايَعَهُ وَبَايَعَهُ
النَّاسُ. فَقَالَ قَائِلٌ: قَتَلْتُمْ سَعْدَ بْنَ عُبادَةَ، فَقَالَ
عُمَرُ: قَتَلَهُ اللَّهُ3. رَوَاهُ سُلَيْمَانُ بْنُ بلال عنه، وهو
صحيح السند.
__________
1 سورة الزمر: 30.
2 سورة آل عمران: 144.
3 صحيح: أخرجه البخاري "4452، 4453، 4454" في كتاب المغازي، باب: مرضه
-صلى الله عليه وسلم- ووفاته، والبيهقي في "الدلائل" "7/ 215، 216".
(3/15)
وَقَالَ مَالِكٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ
عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ عُمَرَ خَطَبَ النَّاسَ
فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ قَائِلًا يَقُولُ:
"لَوْ مَاتَ عُمَرُ بَايَعْتُ فُلَانًا" فَلَا يَغْتَرَّنَّ امْرُؤٌ
أَنْ يَقُولَ: كَانَتْ بَيْعَةُ أَبِي بَكْرٍ فَلْتَةً، وَلَيْسَ
مِنْكُمْ مَنْ تُقْطَعُ الْأَعْنَاقُ إِلَيْهِ مِثْلُ أَبِي بَكْرٍ،
وَإِنَّهُ كَانَ مِنْ خَيْرِنَا حِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اجْتَمَعَ الْمُهَاجِرُونَ،
وَتَخَلَّفَ عَلِّيٌّ وَالزُّبَيْرُ فِي بَيْتِ فَاطِمَةَ بِنْتِ
رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَتَخَلَّفَ
الْأَنْصَارُ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا
بَكْرٍ انْطَلِقْ بِنَا إِلَى إِخْوَانِنَا مِنَ الْأَنْصَارِ،
فَانْطَلَقْنَا نَؤُمُّهُمْ، فَلَقِيَنَا رَجُلَانِ صَالِحَانِ مِنَ
الْأَنْصَارِ فَقَالَا: لَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَأْتُوهُمْ
وَأَبْرِمُوا1 أَمْرَكُمْ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَنَأْتِيَنَّهُمْ،
فَأَتَيْنَاهُمْ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ، فَإِذَا هُمْ
مُجْتَمِعُوَن عَلَى رَجُلٍ مُزَّمِّلٍ2 بِالثِّيَابِ، فَقُلْتُ: مَنْ
هَذَا؟ قَالُوا: سَعْدُ بْنُ عُبادَةَ مَرِيضٌ، فَجَلَسْنَا، وَقَامَ
خَطِيبُهُمْ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ
قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَنَحْنُ الْأَنْصَارُ وَكَتِيبَةُ الْإِيمَانِ،
وَأَنْتُمْ مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ رَهْطٌ مِنَّا، وَقَدْ دَفَّتْ
إِلَيْكُمْ دَافَّةٌ3 يُرِيدُونَ أَنْ يَخْتَزِلُونَا4 مِنْ أَصْلِنَا
وَيَحْضُنُونَا مِنَ الْأَمْرِ.
قَالَ عُمَرُ: فَلَمَّا سَكَتَ أَرَدْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ بِمَقَالَةٍ
قَدْ كَانَتْ أَعْجَبَتْنِي بَيْنَ يَدَيْ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ أَبُو
بَكْرٍ: عَلَى رِسْلِكَ، وَكُنْتُ أَعْرِفُ مِنْهُ الْجِدَّ،
فَكَرِهْتُ أَنْ أُغْضِبَهُ، وَهُوَ كَانَ خَيْرًا مِنِّي وَأَوْفَقَ
وَأَوْقَرَ، ثُمَّ تَكَلَّمَ فَوَاللَّهِ مَا تَرَكَ كَلِمَةً
أَعْجَبَتْنِي إِلَّا قَدْ قَالَهَا وَأَفْضَلَ مِنْهَا حَتَى سَكَتَ،
ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ: مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَهُوَ
فِيكُمْ مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، وَأَنْتُمْ أَهْلُهُ وَأَفْضَلَ
مِنْهُ، وَلَنْ تَعْرِفَ الْعَرَبُ هَذَا الْأَمْرَ إِلَّا لِهَذَا
الْحَيِّ مِنْ قُرَيْشٍ، هُمْ أَوْسَطُ الْعَرَبِ نَسَبًا وَدَارًا،
وَقَدْ رَضِيتُ لَكُمْ أَحَدَ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ، فَبَايِعُوا
أَيَّهُمَا شِئْتُمْ، وَأَخَذَ بِيَدِي وَيَدِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ
الْجَرَّاحِ، قَالَ: فَمَا كَرِهْتُ شَيْئًا مِمَّا قَالَهُ غَيْرَهَا.
كَانَ وَاللَّهِ أَنْ أُقَدَّمَ فَتُضْرَبَ عُنُقِي لَا يُقَرِّبُنِي
ذَلِكَ إِلَى إِثْمٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَأَمَّرَ عَلَى
قَوْمٍ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ إِلَّا أَنْ تَتَغَيَّرَ نَفْسِي عند
الموت، فقال رجل من الأنصار: إن جذيلها المحكك وعذيقها المرجب، منا
أمير ومنكم أَمِيرٌ مَعْشَرَ المُهَاجِرِينَ، قَالَ: وَكَثُرَ
اللَّغَطُ وَارْتَفَعَتِ الْأَصْوَاتُ حَتَى خَشِيتُ الْاخْتِلَافَ،
فَقُلْنَا: ابْسُطْ يَدَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ، فَبَسَطَ يَدَهُ
فَبَايَعْتُهُ وَبَايَعَهُ المهاجرون وبايعه.
__________
1 أبرموا: أحكموا.
2 مزمل: متلقف.
3 الدافة: الجماعة تسير سيرا بطيئا.
4 يختزلونا: يقتطعونا.
(3/16)
الْأَنْصَارُ، وَنَزَوْا1 عَلَى سَعْدِ
بْنِ عُبادَةَ، فَقَالَ قَائِلٌ: قَتَلْتُمْ سَعْدًا، فَقُلْتُ: قَتَلَ
اللَّهُ سَعْدًا، قَالَ عُمَرُ: فَوَاللَّهِ مَا وَجَدْنَا فِيمَا
حَضَرْنَا أَمْرًا أَوْفَقَ مِنْ مُبَايَعَةِ أَبِي بَكْرٍ، خَشِينَا
إِنْ نَحْنُ فَارَقْنَا الْقَومَ وَلَمْ تَكُنْ بَيْعَةً أَنْ
يُحْدِثُوا بَعْدَنَا بَيْعَةً، فَإِمَّا بَايَعْنَاهُمْ عَلَى ما لا
نرضى، وإما خالفناهم فيكون فساد. رَوَاهُ يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ بِطُولِهِ، فَزَادَ فِيهِ: قَالَ عُمَرُ: "فَلَا
يَعْتَزِلِ امْرُؤٌ أَنْ يَقُولَ: إنَّ بَيْعَةَ أَبِي بَكْرٍ كَانَتْ
فَلْتَةً فَتَمَّتْ، فَإِنَّهَا قَدْ كَانَتْ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّ
اللَّهَ وَقَى شَرَّهَا، فَمَنْ بَايَعَ رَجُلًا عَنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ
فَإِنَّهُ لَا يُتَابَعُ هُوَ وَلَا الَّذِي بَايَعَهُ تَغِرَّةً، أَنْ
يُقْتَلَا"2. مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ.
وَقَالَ عَاصِمُ بْنُ بَهْدَلَةَ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
قَالَ: لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير. فأتاهم عمر فَقَالَ:
يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ
قَدْ أَمَرَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ
يَؤُمَّ النَّاسَ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَأَيُّكُمْ تَطِيبُ
نَفْسُهُ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَبَا بَكْرٍ؟ قُلْتُ: يَعْنِي فِي
الصَّلَاةِ، فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: نَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ
نَتَقَدَّمَ أَبَا بَكْرٍ3. رَوَاهُ النَّاسُ عَنْ زَائِدَةَ عَنْهُ.
وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ: أَنَا الْعَوَّامُ بْنُ حَوْشَبٍ، عَنْ
إِبْرَاهِيمَ التَّيْميِّ قَالَ: لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَتَى عُمَرُ أَبَا عُبَيْدَةَ
فَقَالَ: ابْسُطْ يَدَكَ لِأُبَايِعَكَ، فَإِنَّكَ أَمِينُ هَذِهِ
الأمة على لسان رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ لِعُمَرَ: مَا رَأَيْتُ لَكَ فَهَّةً4
قَبْلَهَا مُنْذُ أَسْلَمْتَ، أَتُبَايِعُنِي وَفِيكُمُ الصِّدِّيقُ
وَثَانِيَ اثْنَيْنِ؟ 5.
وَرَوَى نَحْوَهُ عَنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ عَنْ أبي البختري.
وقال ابْنُ عَوْنٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ:
ابْسُطْ يَدَكَ نُبَايِعْ لَكَ، فَقَالَ عُمَرُ: أَنْتَ أَفْضَلُ
مِنِّي، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنْتَ أَقْوَى مِنِّي، قَالَ: إنَّ
قُوَّتِي لَكَ مع فضلك6.
__________
1 نزوا: وثبوا.
2 صحيح: أخرجه البخاري "6830" في كتاب الحدود، باب: رجم الحبلى من
الزنا إذا أحصنت، وأحمد "1/ 55، 56".
وأخرجه مسلم أصله "1691" في كتاب الحدود، باب: رجم الثيب في الزنى.
3 إسناده حسن: أخرجه أحمد، وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح" "12/ 159":
سنده حسن.
4 الفهة: السقطة.
5 أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "2/ 96".
6 إسناده منقطع.
(3/17)
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ
الْأَنْصَارِيُّ، عَنِ الْقَاسِمِ، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ تُوُفِّيَ اجْتَمَعَتِ الْأَنْصَارُ إِلَى
سَعْدٍ، فَأَتَاهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَجَمَاعَةٌ، فَقَامَ الْحُبَابُ
بْنُ المُنْذِرِ، وَكَانَ بَدْرِيًّا فَقَالَ: مِنَّا أَمِيرٌ
وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ1.
وَقَالَ وهيب: حدثنا داود بن أبي هند، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي
سَعِيدٍ قَالَ: لَمَا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَامَ خُطَبَاءُ الْأَنْصَارِ، فَجَعَلَ مِنْهُمْ
مَنْ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اسْتَعْمَلَ رَجُلًا
مِنْكُمْ قَرَنَ مَعَهُ رَجُلًا مِنَّا، فَنَرَى أَنْ يَلِيَ هَذَا
الْأَمْرَ رَجُلَانِ مِنَّا وَمِنْكُمْ، قَالَ: وَتَتَابَعَتْ
خُطَبَاءُ الْأَنْصَارِ عَلَى ذَلِكَ، فَقَامَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ
فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: جَزَاكُمُ اللَّهُ خَيْرًا مِنْ حَيٍّ
يَا مَعْشَرَ الأنصار وثبت قائلكم، أم والله فَعَلْتُمْ غَيْرَ ذَلِكَ
لَمَّا صَالَحْنَاكُمْ، ثُمَّ أَخَذَ زَيْدٌ بِيَدِ أَبِي بَكْرٍ
فَقَالَ: هَذَا صَاحِبُكُمْ فَبَايِعُوهُ، قَالَ: فَلَمَّا قَعَدَ
أَبُو بَكْرٍ عَلَى الْمِنْبَرِ نَظَرَ فِي وُجُوهِ الْقوَمِ فَلَمْ
يَرَ عليا، فسأل عنه، فقدم نَاسٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَأَتَوْا بِهِ.
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ وَخَتَنُهُ
أَرَدْتُ أَنْ تَشُقَّ عَصَا الْمُسْلِميْنَ! فَقَالَ: لَا تَثْرِيبَ
يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَبَايَعَهُ، ثُمَّ لَمْ يَرَ الزُّبَيْرَ، فَسَأَلَ عَنْهُ حَتَّى
جَاءُوا بِهِ، فَقَالَ: ابْنُ عَمَّةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَحَوَارِيُّهُ أردتم أَنْ تَشُقَّ عَصَا
الْمُسْلِميْنَ! فَقَالَ: لَا تَثْرِيبَ2 يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ
اللَّهِ، فَبَايَعَهُ3.
رَوَى مِنْهُ أَحْمَدُ فِي "مُسْنَدِهِ" إِلَى قَوْلِهِ "لَمَّا
صَالَحْنَاكُمْ" عَنْ عَفَّانَ عَنْ وُهَيْبٍ، وَرَوَاهُ بِتَمَامِهِ
ثِقَةٌ، عَنْ عَفَّانَ.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،
قَالَ عُمَرُ فِي خُطْبَتِهِ: وَإِنَّ عَلِيًّا وَالزُّبَيْرَ وَمَنْ
مَعَهُمَا تَخَلَّفُوا عَنَّا، وَتَخَلَّفَتِ الْأَنْصَارُ عَنَّا
بِأَسْرِهَا، فَاجْتَمَعُوا فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ،
وَاجْتَمَعَ الْمُهَاجِرُونَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَبَيْنَمَا نَحْنُ
فِي مَنْزِلِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
إِذَا رَجُلٌ يُنَادِي مِنْ وراء الجدار: اخرج يا ابن الْخَطَّابِ،
فَخَرَجْتُ فَقَالَ: إِنَّ الْأَنْصَارَ قَدِ اجْتَمَعُوا فأدركوهم قبل
أن يحدثوا أمرا يكون بينا وَبَيْنَهُمْ فِيهِ حَرْبٌ، وَقَالَ فِي
الْحَدِيثِ: وَتَابَعَهُ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ فَنَزَوْنَا
عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَقَالَ قَائِلٌ: قَتَلْتُمْ سَعْدًا،
قَالَ عُمَرُ: فَقُلْتُ وَأَنَا مُغْضَبٌ قَتَلَ اللَّهُ سَعْدًا
فَإِنَّهُ صَاحِبُ فتنة وشر.
__________
1 مرسل: أخرجه ابن سعد في "الطبقات" "2/ 97".
2 التثريب: اللوم.
3 أخرجه بتمامه البيهقي كما في "البداية" "3/ 316، 317".
(3/18)
وَهَذَا مِنْ حَدِيثِ جُوَيْرِيَةَ بْنِ
أَسْمَاءَ، عَنْ مَالِكٍ وَرَوَى مِثْلَهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ،
عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ قَيْسِ بْنِ
عَبَّادٍ، وَابْنِ الْكَوَّاءِ، أَنَّ عَلِيًّا -رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ- ذَكَرَ مَسِيرَه وَبَيْعَةَ الْمُهَاجِرِينَ أَبَا بَكْرٍ
فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
لَمْ يَمُتْ فَجْأَةً، مَرِضَ لَيَالِي، يَأْتِيهِ بِلَالٌ فيؤذيه
بِالصَّلَاةِ فَيَقُولُ: "مُرُوا أَبَا بَكْرٍ بِالصَّلَاةِ"،
فَأَرَادَتِ امْرَأَةٌ مِنْ نِسَائِهِ أَنْ تَصْرِفَهُ إِلَى غَيْرِهِ
فَغَضِبَ وَقَالَ: "إِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ"، فَلَمَّا قُبِضَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اخْتَرْنَا
وَاخْتَارَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْمُسْلِمُونَ لِدُنْيَاهُمْ مَنِ
اخْتَارَهُ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- لدينهم، وكان الصَّلَاةُ
عِظَمَ الْأَمْرِ وَقِوَامَ الدِّينِ1.
وَقَالَ الْوَلِيدُ بن مسلم: فحدثني محمد بن حرب، أنا الزبيري،
حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ سَمِعَ خُطْبَةَ عُمَرَ
الْآخِرَةَ قَالَ: حِينَ جَلَسَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غَدًا مَنْ مُتَوَفَّى
رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَتَشَهَّدَ
عُمَرُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي قُلْتُ لَكُمْ أَمْسِ
مَقَالَةً، وَإِنَّهَا لَمْ تَكُنْ كَمَا قُلْتُ، وَمَا وَجَدْتُ
الْمَقَالَةَ الَّتِي قُلْتُ لَكُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ ولا في عهد
عهده رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وَلَكِنْ رَجَوْتُ أَنَّهُ
يَعِيشُ حَتَّى يُدَبِّرَنَا يَقُولُ حَتَّى يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- آخِرَنَا فَاخْتَارَ اللَّهُ
لِرَسُولِهِ مَا عِنْدَهُ عَلَى الَّذِي عِنْدَكُمْ، فَإِنْ يَكُنْ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ مَاتَ،
فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ كِتَابَهُ الَّذِي
هَدَى بِهِ مُحَمَّدًا، فَاعْتَصِمُوا بِهِ تَهْتَدُوا بِمَا هُدِيَ
بِهِ مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ ذَكَرَ
أَبَا بَكْرٍ صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وَثَانِيَ اثْنَيْنِ وَأَنَّه أَحَقُّ النَّاسِ
بِأَمْرِهِمْ، فَقُومُوا فَبَايِعُوهُ، وَكَانَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ
قَدْ بَايَعُوهُ قَبْلَ ذَلِكَ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ،
وَكَانَتِ الْبَيْعَةُ عَلَى الْمِنْبَرِ بَيْعَةَ الْعَامَّةِ،
صَحِيحٌ غَرِيبٌ.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ،
حَدَّثَنِي أَبِي أَنَّ أَبَاهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ كَانَ
مَعَ عُمَرَ، وَأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ كَسَرَ سَيْفَ
الزُّبَيْرِ، ثم خطب أبو بكر واعتذر إلى النَّاسَ وَقَالَ: وَاللَّهِ
مَا كُنْتُ حَرِيصًا عَلَى الْإِمَارَةِ يَوْمًا وَلَا لَيْلَةً وَلَا
سَأَلْتُهَا اللَّهَ فِي سِرٍّ وَلَا عَلَانِيَةٍ، فَقَبِلَ
الْمُهَاجِرُونَ مَقَالَتَهُ، وَقَالَ عَلِيٌّ وَالزُّبَيْرُ: مَا
غَضِبْنَا إِلَّا لِأَنَّا أخرنا عن المشاورة، إنا نَرَى أَبَا بَكْرٍ
أَحَقَّ النَّاسِ بِهَا بَعْدَ
__________
1 إسناده ضعيف جدا: أبو بكر الهذلي متروك كما تقدم، وقد أخرج ابن سعد
في "الطبقات" "2/ 97" بعضه.
(3/19)
رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، أَنَّهُ لصاحب الغارن وإنا لنعرف شرفه وخيره، ولقد أمره
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بِالصَّلَاةِ بِالنَّاسِ وَهُوَ حَيٌّ.
وَقَدْ قِيلَ إِنَّ عَلِيًّا -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- تَمَادَى عَنِ
الْمُبَايَعَةِ مدة: فقال يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ
إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ
عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا تُوُفِّيَتْ فَاطِمَةُ بَعْدَ أَبِيهَا
بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ اجْتَمَعَ إِلَى عَلِيٍّ أَهْلُ بَيْتِهِ،
فَبَعَثُوا إِلَى أَبِي بَكْرٍ: ائْتِنَا، فَقَالَ عُمَرُ: لَا
وَاللَّهِ لَا تَأْتِيهِمْ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللَّهِ لآتينهم،
وما تخاف عَلَيَّ فِي أَنْفُسِكِمْ مِنْ هَذِهِ الصَّدَقَاتِ الَّتِي
وُلِّيتُ عَلَيْكُمْ، وَوَاللَّهِ مَا صَنَعْتُ ذَلِكَ إِلَّا أَنِّي
لَمْ أَكُنْ أُرِيدُ أَنْ أَكِلَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كُنْتُ أَرَى أثَرَهُ فِيهِ
وَعَمَلَهُ إِلَى غَيْرِي حَتَّى أَسْلُكَ بِهِ سَبِيلَهُ وَأُنْفِذَهُ
فِيمَا جَعَلَهُ اللَّهُ، وَوَاللَّهِ لَأَنْ أَصِلَكُمْ أَحَبُّ
إِلَيَّ من أن أصل أهل قرابتي لقرابتك من رَسُول اللَّه -صَلَّى اللَّه
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلِعَظِيمِ حَقِّهِ. ثُمَّ تَشَهَّدَ عَلِيٌّ
وَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ وَاللَّهِ مَا نَفَسْنَا عَلَيْكَ خَيْرًا
جَعَلَهُ اللَّهُ لَكَ أَنْ لَا تَكُونَ أَهْلًا لِمَا أُسْنِدَ
إِلَيْكَ، وَلَكِنَّا كُنَّا مِنَ الْأَمْرِ حَيْثُ قَدْ عَلِمْتَ
فَتَفُوتَ بِهِ عَلَيْنَا، فَوَجِدْنَا فِي أَنْفُسِنَا، وَقَدْ
رَأَيْتُ أَنْ أُبَايِعَ وَأَدْخُلَ فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ،
وَإِذَا كَانَتِ الْعَشِيَّةُ فَصَلِّ بِالنَّاسِ الظُّهْرَ، وَاجْلِسْ
عَلَى الْمِنْبَرِ حَتَّى آتِيَكَ فَأُبَايِعَكَ، فَلَمَّا صَلَّى
أَبُو بَكْرٍ الظُّهْرَ رَكِبَ الْمِنْبَرَ، فَحَمِدَ اللَّهَ
وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَذَكَرَ الَّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِ عَلِيٍّ،
وَمَا دَخَلَ فيه من أمر الجماعة والبيعة، وها هو ذا فَاسْمَعُوا
مِنْهُ، فَقَامَ عَلِيٌّ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عليه ثم أَبَا
بَكْرٍ وَفَضْلَهُ وسِنَّهُ، وَأنَّهُ أَهْلٌ لِمَا سَاقَ اللَّهُ
إِلَيْهِ مِنَ الْخَيْرِ، ثُمَّ قَامَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ
فَبَايَعَهُ1. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُقَيْلٍ عَنِ
الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، وَفِيهِ: وَكَانَ
لِعَلِيٍّ مِنَ النَّاسِ وَجْهٌ، حَيَاةَ فَاطِمَةَ، فَلَمَّا
تُوُفِّيَتِ اسْتَنْكَرَ عَلِيٌّ وُجُوهَ النَّاسِ، فَالْتَمَسَ
مُصَالَحَةَ أَبِي بَكْرٍ وَمُبَايَعَتَهُ.
قِصَّةُ الْأَسْوَدِ الْعَنْسِيِّ:
قَالَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ التَّمِيمِيُّ: حدثنا الْمُسْتَنِيرُ بْنُ
يَزِيدَ النَّخَعِيُّ، عَنْ عُرْوةَ بْنِ غَزِيَّةَ، عَنِ الضَّحَّاكِ
بْنِ فَيْرُوزَ الدَّيْلَمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَوَّلُ رِدَّةٍ
كَانَتْ فِي الْإِسْلَامِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى يَدِ عَبْهَلَةَ بْنِ كَعْبٍ،
وَهُوَ الأسود في عامة
__________
1 صحيح: أخرجه البخاري "4240، 4241" في كتاب المغازي، باب: غزوة خيبر،
ومسلم "1759/ 52" في كتاب الجهاد، باب: قول النبي -صلى الله عليه وسلم:
"لا نورث ما تركنا فهو صدقة" وأبو داود "2968" في كتاب الخراج، باب: في
صفايا رَسُولُ اللَّه -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَنْ
الأموال.
(3/20)
مذحج: خرج بعد حجة الوداع، وكانت شعبادا1
يُرِيهُمُ الْأَعَاجِيبَ، وَيَسْبِي قُلُوبَ مَنْ يَسْتَمِعُ
مَنْطِقَهُ، فَوَثَبَ هُوَ وَمَذْحِجٌ بِنَجْرَانَ إِلَى أَنْ صَارَ
إلى صنعاء فأخذهم وَلَحِقَ بِفَرْوَةَ مَنْ تَمَّ عَلَى إِسْلَامِهِ،
لَمْ يُكَاتِبِ الْأَسْوَدُ رَسْولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- لَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَحَدٌ يُشَاغِبُهُ، وَصَفا
لَهُ مُلْكُ الْيَمَنِ2.
فَرَوَى سَيْفٌ، عَنْ سَهْلِ بْنِ يُوسُفَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
عُبَيْدِ بْنِ صَخْرٍ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ بَالْجَنَدِ3 قَدْ
أَقَمْنَاهُمْ عَلَى مَا يَنْبَغِي، وَكَتَبْنَا بَيْنَنَا
وَبَيْنَهُمُ الْكُتَبَ، إِذَا جَاءَنَا كِتَابٌ مِنَ الْأَسْوَدِ أَنْ
أَمْسِكُوا عَلَيْنَا مَا أَخَذْتُمْ مِنْ أَرْضِنَا، وَوَفِّرُوا مَا
جَمَعْتُمْ فَنَحْنُ أَوْلَى بِهِ، وَأَنْتُمْ عَلَى ما أنتم عليه،
فبينا نحن ننظر في أمرنا إذا قِيلَ هَذَا الْأَسْوَدُ بِشَعُوبَ4،
وَقَدْ خَرَجَ إِلَيْهِ شَهْرُ بْنُ بَاذَامَ، ثُمَّ أَتَانَا
الْخَبَرُ أَنَّهُ قتل شها وَهَزَمَ الْأَبْنَاءَ، وَغَلَبَ عَلَى
صَنْعَاءَ بَعْدَ نَيِّفٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، وَخَرَجَ مُعَاذٌ
هَارِبًا حَتَّى مَرَّ بِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ بِمَأْرِبَ،
فَاقْتَحَمَا حَضْرَمَوْتَ.
وَغَلَبَ الْأَسْوَدُ عَلَى مَا بَيْنَ أَعْمَالِ الطَّائِفِ إِلَى
الْبَحْرَيْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَجَعَلَ يَسْتَطِيرُ اسْتِطَارَةَ
الْحَرِيقِ، وَكَانَ مَعَهُ سَبْعُمِائَةِ فَارِسٍ يَومَ لَقِيَ
شَهْرًا، وكان فؤاده: قَيْسُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ، وَيَزِيدُ بْنُ
مَخْزُومٍ، وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ، وَاسْتَغْلَظَ أَمْرُهُ وَغَلَبَ
عَلَى أَكْثَرِ اليمن، وارتد معه خلق، وعامل الْمُسْلِمُونَ
بِالتَّقِيَّةِ، وَكَانَ خَلِيفَتَهُ فِي مَذْحِجٍ عَمْرُو بن معد
يكرب، وَأَسْنَدَ أَمْرَ جُنْدِهِ إِلَى قَيْسِ بْنِ عَبْدِ بغوث،
وَأَمَرَ الْأَبْنَاءَ إِلَى فَيْرُوزَ الدَّيْلَمِيِّ، وَدَاذُوَيْهِ،
فَلَمَّا أثخن في الأرض استخف بهؤلاء، وتزوج أمره شهر، وهي بنت عم
فيروز، قال: فبينا نَحْنُ كَذَلِكَ بِحَضْرَمَوْتَ وَلَا نَأْمَنُ أَنْ
يَسِيرَ إِلَيْنَا الْأَسْوَدُ، وَقَدْ تَزَوَّجَ مُعَاذٌ فِي
السَّكُونِ، إذا جَاءَتْنَا كُتُبُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَأْمُرُنَا فِيهَا أَنْ نَبْعَثَ الرِّجَالَ
لِمُجَاوَلَتِهِ وَمُصَاوَلَتِهِ، فَقَامَ مُعَاذٌ فِي ذَلِكَ،
فَعَرَّفَنَا القُوَّةَ وَوَثَّقَنَا بالنصر5.
__________
1 أي مشعوذ.
2 إسناده ضعيف جدا: سيف بن عمر مصنف "الفتوح" هو كالواقدي متروك
الحديث، واتهم بالوضع، كما في الميزان "3637".
3 الجند: بلدة باليمن.
4 شعوب: قصر باليمن.
5 إسناده ضعيف جدا.
(3/21)
وَقَالَ سَيْفٌ: فَحَدَّثَنَا
الْمُسْتَنِيرُ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ فَيْرُوزَ، عَنْ
جِشْنِسَ بْنِ الدَّيْلَمِيِّ قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا وَبَرُ بْنُ
يُحَنَّسَ بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فَأَمَرَنَا فِيهِ بِالنُّهُوضِ فِي أَمْرِ الْأَسْوَدِ
فَرَأَيْنَا أَمْرًا كثيفا، ورأينا الأسود قد تغير لقيس ابن عَبْدِ
يَغُوثَ، فَأَخْبَرْنَا قَيْسًا وَأَبْلَغْنَاهُ عَنِ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَكَأَنَّمَا وَقَعْنَا عَلَيْهِ
مِنَ السَّمَاءِ فَأَجَابَنَا، وَجَاءَ وَبَرٌ وَكَاتَبْنَا النَّاسَ
وَدَعَوْنَاهُمْ، فَأَخْبَرَ الْأَسْوَدَ شَيْطَانُهُ فَأَرْسَلَ إِلَى
قَيْسٍ فقال: ما يقول الملك؟ عَمَدْتُ إِلَى قَيْسٍ فَأَكْرَمْتُهُ،
حَتَّى إِذَا دَخَلَ منك كل مدخل ما مَيْلَ عَدُوِّكَ، فَحَلَفَ لَهُ
وَتَنَصَّلَ، فَقَالَ: أَتُكَذِّبُ الملك؟ قد صدق وعرفى أَنَّكَ
تَائِبٌ، قَالَ: فَأَتَانَا قَيْسٌ وَأَخْبَرَنَا فَقُلْنَا: كَمَنْ
عَلَى حَذَرٍ، وَأَرْسَلَ إِلَيْنَا الْأَسْوَدُ أَلَمْ أُشَرِّفْكُمْ
عَلَى قَوْمِكُمْ، أَلَمْ يَبْلُغْنِي عَنْكُمْ؟ فَقُلْنَا: أَقِلْنَا
مَرَّتَنَا هَذِهِ، فَقَالَ: فَلَا يَبْلُغْنِي عَنْكُمْ
فَأَقْتُلَكُمْ، فَنَجَوْنَا وَلَمْ نَكِدْ، وَهُوَ فِي ارْتِيَابٍ
مِنْ أَمْرِنَا، قَالَ: فَكَاتَبَنَا عَامِرُ بْنُ شَهْرٍ، وَذُو
الْكَلَاعِ، وَذُو ظُلَيْمٍ، فَأَمَرْنَاهُمْ أَنْ لَا يَتَحَرَّكُوا
بِشَيْءٍ، قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَى امْرَأَتِهِ آذَادَ فقلت: يابنة عم
قد عرف بَلاءَ هَذَا الرَّجُلِ، وَقَتَلَ زَوْجَكِ وَقَوْمَكِ وَفَضَحَ
النِّسَاءَ، فَهَلْ مِنْ مُمَالأَةٍ عَلَيْهِ؟ قَالَتْ: مَا خَلَقَ
اللَّهُ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْهُ، مَا يَقُومُ عَلَى حَقٍّ وَلَا
يَنْتَهِي عَنْ حُرْمَةٍ، فَخَرَجْتُ فَإِذَا فَيْرُوزُ وَدَاذَوَيْهِ
يَنْتَظِرَانِي، وَجَاءَ قَيْسٌ وَنحْنُ نُرِيدُ أَنْ نُنَاهِضَهُ،
فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ قَبِلَ أَنْ يَجْلِسَ: الْمَلِكُ يَدْعُوكَ،
فَدَخَلَ فِي عَشَرَةٍ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى قَتْلِهِ، وَقَالَ يَا
عَبْهَلَةُ أَمِنِّي تَتَحَصَّنُ بالرِّجَالِ، أَلَمْ أُخْبِرْكَ
الْحَقَّ وَتُخْبِرْنِي الكذب، تريد قتلي! فقال: كَيْفَ وَأَنْتَ
رَسُولُ اللَّهِ فَمُرْنِي بِمَا أَحْبَبْتَ، فَأَمَّا الْخَوفُ
وَالْفَزَعُ فَأَنَا فِيهِمَا فَاقْتُلْنِي وَارْحَمْنِي، فَرَقَّ لَهُ
وَأَخْرَجَهُ، فَخَرَجَ عَلَيْنَا وَقَالَ: اعْمَلُوا عَمَلَكُمْ،
وَخَرَجَ عَلَيْنَا الْأَسْوَدُ فِي جَمْعٍ، فَقُمْنَا لَهُ،
وَبِالْبَابِ مِائَةُ بَقَرَةٍ وَبَعِيرٍ فَنَحَرَهَا، ثُمَّ قَالَ:
أَحَقُّ مَا بَلَغَنِي عَنْكَ يَا فَيْرُوزُ؟ لَقَدْ هَمَمْتُ
بِقَتْلِكَ، فَقَالَ: اخْتَرْتَنَا لِصِهْرِكَ وَفَضَّلْتَنَا عَلَى
الْأَبْنَاءِ، وَقَدْ جَمَعَ لَنَا أَمْرَ آخِرَةٍ وَدُنْيَا، فَلَا
تَقْبَلَنَّ عَلَيْنَا أَمْثَالَ مَا يَبْلُغُكَ. فَقَالَ: اقْسِمْ
هَذِهِ، فَجَعَلْتُ آمُرُ لِلِرَّهْطِ بِالْجَزُورِ، ثُمَّ اجْتَمَعَ
بِالْمَرْأَةِ فَقَالَتْ: هُوَ مُتَحَرِّزٌ، وَالْحَرَسُ مُحِيطُونَ
بِالْقَصْرِ سِوَى هَذَا الْبَابِ فَانْقُبُوا عَلَيْهِ، وهيأت لنا
سراحا، وَخَرَجَتْ فَتَلَقَّانِي الْأَسْوَدُ خَارِجًا مِنَ الْقَصْرِ
فَقَالَ: مَا أَدْخَلَكَ؟ وَوَجَأَ رَأْسِي فَسَقَطْتُ، فَصَاحَتِ
الْمَرْأَةُ وَقَالَتْ: ابْنُ عَمِّي زَارَنِي، فَقَالَ: اسْكُتِي لَا
أبالك فَقَدْ وَهَبْتُهُ لَكِ، فَأَتَيْتُ أَصْحَابِي وَقُلْتُ:
النَّجَاءُ، وأخبرتهم الخبر، فأنا على ذلك إذ
(3/22)
جَاءَنِي رَسُولُهَا: لَا تَدَعَنَّ مَا
فَارَقْتُكَ عَلَيْهِ. فَقُلْنَا لِفَيْرُوزَ: ائْتِهَا وَأَتْقِنْ
أَمْرَنَا، وَجِئْنَا بِاللَّيْلِ ودخلنا، فإذا سراج تحت جقنة،
فَاتَّقَيَا بِفَيْرُوزَ، وَكَانَ أَنْجَدَنَا، فَلَمَّا دَنَا مِنَ
الْبَيْتِ سَمِعَ غَطِيطًا شَدِيدًا، وَإِذَا الْمَرْأَةُ جَالِسَةٌ،
فلما قام بفيروز عَلَى الْبَابِ أَجْلَسَ الْأَسْوَدَ شَيْطَانُهُ
وَكَلَّمَهُ فَقَالَ أَيْضًا: فَمَا لِي وَلَكَ يَا فَيْرُوزُ،
فَخَشِيَ إِنْ رَجَعَ أَنْ يَهْلِكَ هُوَ وَالْمَرْأَةُ فَعَاجَلَهُ
وَخَالَطَهُ وَهُوَ مِثْلُ الْجَمَلِ، فَأَخَذَ بِرَأْسِهِ فَدَقَّ
عنقه وقتله، ثم قام ليخرج فأخذته الْمَرْأَةُ بِثَوْبِهِ تُنَاشِدُهُ،
فَقَالَ: أَخْبِرْ أَصْحَابِي بِقَتْلِهِ، فأتانا فقمنا معه، فأردنا حز
رَأْسِهِ فَحَرَّكَهُ الشَّيْطَانُ وَاضْطَرَبَ فَلَمْ يُضْبِطْهُ
فَقَالَ: اجْلِسُوا عَلَى صَدْرِهِ، فَجَلَسَ اثْنَانِ وَأَخَذَتِ
الْمَرْأَةُ بشعره، وسمعنا بَرْبَرَةً فَأَلْجَمْتُهُ بَمِلَاءَةٍ،
وَأَمَرَّ الشَّفْرَةَ عَلَى حَلْقِهِ، فَخَارَ كَأَشَدِّ خُوَارِ
ثَوْرٍ، فَابْتَدَرَ الْحَرَسُ الْبَابَ: مَا هَذَا مَا هَذَا؟
قَالَتْ: النَّبِيُّ يُوحَى إِلَيْهِ، قَالَ: وَسَمَرْنَا لَيْلَتَنَا
كَيْفَ نُخْبِرُ أَشْيَاعَنَا، فَأَجْمَعْنَا عَلَى النِّدَاءِ،
بِشِعَارِنَا ثُمَّ بِالْأَذَانِ، فَلَمَّا طَلَعَ الْفَجْرُ نَادَى
دَاذَوَيْهِ بِالشِّعَارِ، فَفَزِعَ الْمُسْلِمُونَ وَالْكَافِرُونَ،
وَاجْتَمَعَ الْحَرَسُ فَأَحَاطُوا بِنَا، ثُمَّ نَادَيْتُ
بِالْأَذَانِ، وَتَوَافَتْ خُيُولُهُمْ إِلَى الْحَرَسِ،
فَنَادَيْتُهُمْ أَشْهَدُ أن محمد رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّ عَبْهَلَةَ
كَذَّابٌ، وَأَلْقَيْنَا إِلَيْهِمُ الرَّأْسَ، وَأَقَامَ وَبَرُ
الصَّلَاةَ، وَشَنَّهَا الْقَوْمُ غَارَةً، وَنَادَيْنَا: يَا أَهْلَ
صَنْعَاءَ مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ داخل فتعلوا بِهِ، فَكَثُرَ النَّهْبُ
وَالسَّبْيُ، وَخَلُصَتْ صَنْعَاءُ وَالْجُنْدُ، وَأَعَزَّ اللَّهُ
الْإِسْلَامَ، وَتَنَافَسْنَا الْإِمَارَةَ، وَتَرَاجَعَ أَصْحَابُ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَاصْطَلَحْنَا
عَلَى مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، فَكَانَ يُصَلِّي بِنَا وَكَتَبْنَا إِلَى
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الخبر فتقدمت
رُسُلُنَا، وَقَدْ قُبِضَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم-
صبيحنئذ فَأَجَابَنَا أَبُو بَكْرٍ عَنْهُ1.
وَرَوَى الْوَاقِديُّ عَنْ رِجَالِهِ قَالَ: بَعَثَ أَبُو بَكْرٍ
قَيْسَ بْنَ مَكْشُوحٍ إِلَى الْيَمَنِ، فَقَتَلَ الْأَسْوَدَ
الْعَنْسِيَّ، هُوَ وَفَيْرُوزَ الدَّيْلَمِيَّ2 وَلِقَيْسٍ هَذَا
أَخْبَارٌ، وَقَدِ ارْتَدَّ ثُمَّ أَسَرَهُ الْمُسْلِمُونَ فَعَفَا
عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ، وَقُتِلَ مَعَ عَلِيٍّ بِصِفِّينَ.
جَيْشُ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ:
قَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: جَعَلَ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ في
__________
1 إسناده ضعيف جدا.
2 إسناده ضعيف جدا: الواقدي متروك كما تقدم.
(3/23)
مرضه: "أنقذوا جيشَ أُسَامَةَ"، فَسَارَ
حَتَّى بَلَغَ الْجُرْفَ1، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ امْرَأَتُهُ
فَاطِمَةُ بِنتُ قَيْسٍ تَقُولُ: لَا تَعْجَلْ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ
ثَقِيلٌ، فَلَمَّا يَبْرَحْ حَتَّى قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَمَّا قُبِضَ رَجَعَ إِلَى أَبِي
بَكْرٍ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- بَعَثَنِي وَأَنَا عَلَى غَيْرِ حَالِكُمْ هَذِهِ، وَأَنَا
أَتَخَوَّفُ أَنْ تَكْفُرَ الْعَرَبُ، وَإِنْ كَفَرَتْ كَانُوا أَوَّلَ
مَنْ يُقَاتِلُ، وَإِنْ لَمْ تَكْفُرْ مَضَيْتُ، فَإِنَّ مَعِيَ
سَرَوَاتِ النَّاسِ وَخِيَارَهُمْ، قَالَ: فَخَطَبَ أَبُو بَكْرٍ
النَّاسَ، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لأن تخطفي الطَّيْرُ أَحَبُّ إِلَيَّ
مِنْ أَنْ أَبْدَأَ بِشَيْءٍ قَبْلَ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَبَعَثَهُ أَبُو بَكْرٍ،
وَاسْتَأْذَنَ لِعُمَرَ أَنْ يَتْرُكَهُ عِنْدَهُ، وَأَمَرَ أَنْ لَا
يَجْزِرَ في القوم، أن يقع الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلَ وَالْأَوسَاطَ فِي
الْقِتَالِ، قَالَ: فَمَضَى حَتَّى أَغَارَ، ثُمَّ رَجَعُوا وَقَدْ
غَنِمُوا وَسَلِمُوا.
فَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ: مَا كُنْتُ لِأُحَيَّيَ أَحَدًا
بِالْإِمَارَةِ غَيْرَ أُسَامَةَ؛ لَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قُبِضَ وَهُوَ أَمِيرٌ، قَالَ: فَسَارَ،
فَلَمَّا دَنَوْا مِنَ الشَّامِ أَصَابَتْهُمْ ضَبَابَةٌ شَدِيدَةٌ
فَسَتَرَتْهُمْ، حَتَّى أَغَارُوا وَأَصَابُوا حَاجَتَهُمْ، قَالَ:
فَقُدِمَ بِنَعْيِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- عَلَى هِرَقْلَ وَإِغَارَةِ أُسَامَةَ فِي نَاحِيَةِ
أَرْضِهِ خَبَرًا وَاحِدًا، فَقَالَتِ الرُّومُ: مَا بَالُ هَؤُلَاءِ
يَمُوتُ صَاحِبُهَا ثُمَّ أَغَارُوا عَلَى أَرْضِنَا2.
وَعَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: سَارَ أُسَامَةُ فِي رَبِيعِ الْأَوَّلِ
حَتَّى بَلَغَ أَرْضَ الشَّامَ وَانْصَرَفَ، فَكَانَ مَسِيرُهُ
ذَاهِبًا وَقَافِلًا أَرْبَعِينَ يَوْمًا3.
وَقِيلَ: كَان ابْنُ عِشْرِينَ سَنَةً.
وَقَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ
قَالَ: فَلَمَّا فَرَغُوا مِنَ الْبَيعَةِ، وَاطْمَأَنَّ النَّاسُ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ لِأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ: امْضِ لِوَجْهِكَ.
فَكَلَّمَهُ رِجَالٌ من المهاجرين والأنصار وقالوا: أَمْسِكْ أُسَامَةَ
وَبَعْثَهُ فَإِنَّا نَخْشَى أَنْ تَمِيلَ علينا العرب إذا سمعوا بوفاة
رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَنَا
أَحْبِسُ جَيْشًا بَعَثَهُمْ رَسُول اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ! لَقَدِ اجْتَرَأْتَ عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ، وَالَّذِي
نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَنْ تَمِيلَ عَلَيَّ الْعَرَبُ أَحَبَّ إِلَيَّ
مِنْ أَنْ أَحْبِسَ جَيْشًا بَعَثَهُمْ رَسُول اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- امض يا أسامة في
__________
1 الجرف: موضع على ثلاثة أميال من المدينة جهة الشام.
2 مرسل.
3 مرسل.
(3/24)
جَيْشِكَ لِلْوَجْهِ الَّذِي أُمِرْتَ
بِهِ، ثُمَّ اغْزُ حَيْثُ أَمَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ نَاحِيَةِ فِلِسْطِينَ، وَعَلَى أَهْلِ
مُؤْتَة، فَإِنَّ اللَّهَ سَيَكْفِي مَا تَرَكْتَ، وَلَكِنْ إِنْ رأيت
أن تأذن لعمر فأستبشره وَأَسْتَعِينَ بِهِ فَافْعَلْ، فَفَعَلَ
أُسَامَةُ، وَرَجَعَ عَامَّةُ الْعَرَبِ عَنْ دِينِهِمْ وَعَامَّةُ
أَهْلِ الْمَشْرِقِ، وَغَطَفَانُ وَأسَدٌ وَعَامَّةُ أَشْجَعَ،
وَتَمَسَّكَتْ طَيِّءٌ بِالْإِسْلَامِ1.
شَأْنُ أَبِي بَكْرٍ وَفَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:
قَالَ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ فَاطِمَةَ
سألت أبي بَكْرٍ بَعْدَ وَفَاةُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَقْسِمَ لَهَا مِيرَاثَهَا مِمَّا تَرَكَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مما أفاء الله
عليه، فقال لها: رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قَالَ: "لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ" فَغَضِبَتْ وَهَجَرَتْ
أَبَا بَكْرٍ حَتَى تُوُفِّيَتْ2.
وَأَرْسَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ يَسْأَلْنَهُ
مِيرَاثَهُنَّ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ، حَتَّى كُنْتُ
أَنَا رَدَدْتُهُنَّ فَقُلْتُ لَهُنَّ: أَلَا تَتَّقِينَ اللَّهَ
أَلَمْ تَسْمَعْنَ من رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ إِنَّمَا
يَأْكُلُ آلُ مُحَمَّدٍ فِي هَذَا الْمَالِ" 3.
وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
أَنَّ رَسُولَ اللَّه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَا
يَقْتَسِمُ وَرَثَتِي دِينَارًا، مَا تَرَكْتُ بعد نفقة نسائي ومؤنة
عَامِلِي فَهُوَ صَدَقَةٌ" 4.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ السَّائِبِ -وَهُوَ مَتْرُوكٌ- عَنْ أَبِي
صَالِحٍ مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ: إِنَّ فَاطِمَةَ دَخَلَتْ عَلَى أَبِي
بَكْرٍ فَقَالَتْ: يَا أَبَا بَكْرٍ أَرَأَيْتَ لَوْ مُتَّ الْيَومَ
مَنْ كَانَ يَرِثُكَ؟ قَالَ: أَهْلِي وَوَلَدِي فقالت: ما لك تَرِثُ
رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَنْ دون أهله
وولده!
__________
1 مرسل إسناده ضعيف.
2 تقدم.
3 صحيح: أخرجه البخاري "6730" في كتاب الفرائض، باب: قول النبي -صلى
الله عليه وسلم: "لا نورث ما تركنا صدقة"، ومسلم "1758" في كتاب
الجهاد، باب: قول النبي -صلى الله عليه وسلم: "لا نورث ما تركنا فهو
صدقة"، ومالك في "الموطأ" "1635"، وأبو داود "2976، 2977" في كتاب
الخراج، باب: في صفايا رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
4 صحيح: أخرجه البخاري "6729" في المصدر السابق، ومسلم "1760" في
المصدر السابق، ومالك في "الموطأ" "1936"، وأبو داود "2974" في المصدر
السابق، وأحمد "2/ 242".
(3/25)
فَقَالَ: مَا فَعَلْتُ يَا بِنْتَ رَسُولِ
اللَّهِ. قَالَتْ: بَلَى قَدْ عَمَدْتَ إِلَى فَدَكَ1 وَكَانَتْ
صَافِيةً لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فَأَخَذْتَهَا، وَعَمَدْتَ إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ
فَرَفَعْتَهُ مِنَّا، فَقَالَ: لَمْ أَفْعَلْ، حَدَّثَنِي رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِنَّ يُطْعِمَ
النَّبِيَّ الطَّعْمَةَ مَا كَانَ حَيًّا فَإِذَا قبضه رفعها، فقالت:
أنت رسول اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَعْلَمُ، مَا
أَنَا بِسَائِلَتِكَ بَعْدَ مَجْلِسِي هَذَا2.
ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنِ الْوَلِيدُ بْنُ جُمَيْعٍ، عَنْ أَبِي
الطُّفَيْلِ قَالَ: لَمَّا قُبِضَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أَرْسَلَتْ فَاطِمَةُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ: أَنْتَ وريثة
رسول اللَّه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- أم أَهْلُهُ؟ فَقَالَ:
لَا بَلْ أَهْلُهُ، قَالَتْ: فَأَيْنَ سَهْمُهُ؟ قَالَ: إِنِّي
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ إِذَا أطعم نبيا طعمة ثم قبضه جعلها للذين
يَقُومُ مِنْ بَعْدِهِ"، فَرَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّهُ عَلَى
المُسْلِمينَ، قَالَتْ: أَنْتَ وَمَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ3.
رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي "مُسْنَدِهِ"، وَهُوَ مُنْكَرٌ، وَأَنْكَرُ مَا
فِيهِ قَوْلُهُ: "لَا، بَلْ أَهْلُهُ".
وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مسلم، وعمر بن عبد الواحد، حدثنا صَدَقَةُ
أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ
بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرِ الصِّدِيقِ، عَنْ يَزِيدَ
الرَّقَاشِيِّ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ فَاطِمَةَ أَتَتْ أَبَا بَكْرٍ
فَقَالَتْ: قد علمت الذي خلفنا عنه عن الصَّدَقَاتِ أَهْلَ الْبَيْتِ.
ثُمّ قَرَأَتْ عَلَيْهِ {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ
فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} 4 إِلَى آخِرِ الْآيَةِ،
فَقَالَ لَهَا: بِأَبي وَأُمِّي أَنْتِ وَوَالِدُكِ وَوَلَدُكِ،
وَعَلَيَّ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ كِتَابُ اللَّهِ وَحقُّ رَسُولِهِ
وَحَقُّ قَرَابَتِهِ، وَأَنَا أَقْرَأُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مِثْلَ
الَّذِي تَقْرَئِينَ، وَلَا يَبْلُغُ عِلْمِي فِيهِ أَنْ أَرَى
لِقَرَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
هَذَا السَّهْمَ كُلَّهُ مِنَ الْخُمُسِ يَجْرِي بِجَمَاعَتِهِ
عَلَيْهِمِ، قَالَتْ: أفلك هو ولقرابتك؟ قال: لا، وأنت
__________
1 فداك: قرية بالحجاز، بينها وبين المدينة يومان.
2 إسناده ضعيف جدا: أبو صالح ضعيف، ويظهر لي أنه لم يدرك أبا بكر،
ومحمد بن السائب هو الكلبي، متروك كما تقدم.
3 أخرجه أحمد "1/ 4" بهذا اللفظ، وقوله: "لا، بل أهله" أنكرها المصنف
كما يأتي، وتبعه على إنكارها الحافظ ابن كثير، في "البداية" "3/ 366"،
والحافظ ابن حجر في "الفتح" "6/ 233".
والحديث أخرجه أبو داود "2973" في كتاب الخراج، باب: في صفايا رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- دون هذه اللفظة، وصححه الألباني في "صحيح
سنن أبي داود".
4 سورة الأنفال: 41.
(3/26)
عِنْدِي أَمِينَةٌ مُصَدَّقةٌ، فَإِنْ
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَهِدَ
إِلَيْكِ فِي ذَلِكَ عَهْدًا وَوَعَدَكِ مَوْعِدًا أوْجَبَهُ لَكِ
حَقًّا وسلمه إِلَيْكِ، قَالَتْ: لَا، أَلَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ فِي
ذَلِكَ قَالَ: "أَبْشِرُوا آلَ مُحَمَّدٍ فَقَدْ جَاءَكُمُ الْغِنَى".
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقْتِ فَلَكِ الْغِنَى، وَلَمْ يَبْلُغْ
عِلْمِي فِيهِ وَلَا بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يُسَلَّمَ هَذَا السَّهْمُ
كُلُّهُ كَامِلًا، ولكن لكم الغني يُغْنِيكُمْ، وَيَفْضُلُ عَنْكُمْ،
فَانْظُرِي هَلْ يُوَافِقُكِ عَلَى ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْهُمْ،
فَانْصَرَفَتْ إِلَى عُمَرَ فَذَكَرَتْ لَهُ كَمَا ذَكَرَتْ لِأَبِي
بَكْرٍ، فَقَالَ لَهَا مِثْلُ الَّذِي رَاجَعَهَا بِهِ أَبُو بَكْرٍ،
فَعَجِبَتْ وظنت أنهما قد تذاكرا ذلك واجتمعنا عَلَيْهِ1.
وَبِالْإِسْنَادِ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -مِنْ دُونِ
ذِكْرِ الْوَلِيدِ بْنِ مسْلمٍ- قَالَ: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ قَالَ:
حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: كَانَ عُمَرُ عَرَضَ
عَلَيْنَا أَنْ يُعْطِينَا مِنَ الْفَيْءِ بِحَقِّ مَا يَرَى أَنَّهُ
له مِنَ الْحَقِّ، فَرَغِبْنَا عَنْ ذَلِكَ وَقُلْنَا: لَنَا مَا
سَمَّى اللَّهُ مِنْ حَقِّ ذِي الْقُرْبَى، وَهُوَ خُمْسُ الْخُمُسِ،
فَقَالَ عُمَرُ: لَيْسَ لَكُمْ مَا تَدَّعُونَ أَنَّهُ لَكُمْ حَقٌّ،
إِنَّمَا جَعَلَ اللَّهُ الْخُمُسَ لِأَصْنَافٍ سَمَّاهُم،
فَأَسْعَدُهُمْ فِيهِ حَظًّا أَشَدُّهُمْ فَاقَةً وَأَكْثَرُهُمْ
عِيَالًا، قَالَ: فَكَانَ عُمَرُ يُعْطِي مَنْ قَبِلَ مِنَّا مِنَ
الْخُمْسِ وَالْفَيْءِ نَحْوَ مَا يَرَى أَنَّهُ لَنَا، فَأَخَذَ
ذَلِكَ مِنَّا نَاسٌ وَتَرَكَهُ نَاسٌ2.
وَذَكَرَ الزُّهْرِيُّ أَنَّ مالك بن أوس الْحَدَثَانِ النَّصْرِيِّ،
قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عُمَرَ، فَقَالَ لِي: يَا مَالِكُ إِنَّهُ قَدِمَ
عَلَيْنَا مِنْ قَوْمِكَ أَهْلُ أَبْيَاتٍ وَقَدْ أَمَرْتُ فِيهِمْ
بِرَضْخٍ فَاقْسِمْهُ بَيْنَهُمْ، قُلْتُ: لَوْ أَمَرْتَ بِهِ غَيْرِي،
قَالَ: اقْبِضْهُ أيُّهَا الْمَرْءُ، قَالَ: وَأَتَاهُ حَاجِبُهُ
يَرْفَأُ فَقَالَ: هَلْ لَكَ فِي عُثْمَانَ، وَالزُّبَيْرِ، وعبد
الرحمن، وسعد يستأذنون؟ قال: نعم، فدخولا وَسَلَّمُوا وَجَلَسُوا،
ثُمَّ لَبِثَ يَرْفَأُ قَلِيلًا، ثُمَّ قَالَ لِعُمَرَ: هَلْ لَكَ فِي
عَلِيٍّ وَالْعَبَّاسِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَلَمَّا دَخَلَا سَلَّمَا
فَجَلَسَا، فَقَالَ عباس: يا أمير المؤمنين: اقضي بَيْنِي وَبَيْنَ
هَذَا الظَّالِمِ الْفَاجِرِ الْغَادِرِ الْخَائِنِ، فَاسْتَبَّا،
فَقَالَ عُثْمَانُ وَغيَرُهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اقْضِ
بَيْنَهُمَا وَأرِحْ أَحَدَهُمَا مِنَ الْآخِرِ، فَقَالَ: أنشدكما
بالله هل تعلمنا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ" قَالَا: قَدْ
قَالَ ذَلِكَ، قَالَ: فَإنِّي أُحَدِّثُكُمْ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ:
إِنَّ اللَّهَ كَانَ قَدْ خَصَّ رسوله في هذا.
__________
1 إسناده ضعيف: يزيد الرقاشي ضعيف كما في "التقريب" 7638".
2 إسناده ضعيف: للجهالة فيه.
(3/27)
الْفَيْءِ بِشَيْءٍ لَمْ يُعْطِهِ
غَيْرَهُ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ
مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ
وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ} 1، فَكَانَتْ هَذِهِ خَالِصَةً
لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ
وَاللَّهِ مَا احْتَازَهَا دُونَكُمْ وَلَا اسْتَأْثَرَ بِهَا
عَلَيْكُمْ، لَقَدِ أَعْطَاكُمُوهَا وَبَثَّهَا فِيكُمْ حَتَّى بَقِيَ
مِنْهَا هَذَا الْمَالُ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِمْ مِنْ
هَذَا الْمَالِ، ثُمَّ يَجْعَلُ مَا بَقِيَ مَجْعَلَ مَالِ اللَّهِ،
أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ، قَالُوا: نَعَمْ،
ثُمَّ تَوَفَّى اللَّهُ نَبِيَّهُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا
وَلِيُّ رَسُولِ اللَّهِ، فَقَبَضَهَا وَعَمِلَ فِيهَا بِمَا عَمِلَ
بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيهَا،
وَأَنْتُمَا تَزْعُمَانِ أَنَّ أَبَا بكر فيها كَاذِبٌ فَاجِرٌ
غَادِرٌ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّه فِيهَا لَصَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ،
ثُمَّ تَوَفَّاهُ اللَّهُ فَقُلْتُ: أَنَا وَلِيُّ رَسُولِ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَوَلِيُّ أَبِي بَكْرٍ،
فَقَبَضْتُهَا سَنَتَيْنِ مِنْ إِمَارَتِي، أَعْمَلُ فِيهَا
بِعَمَلِهِ، وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَشْهَدُونَ، وَأَقْبَلَ عَلَيَّ
عَلِيٌّ وَعَبَّاسٌ يَزْعُمُونَ أَنِّي فِيهَا فَاجِرٌ كَاذِبٌ،
وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي فِيهَا لَصَادِقٌ بار راشد تابع للحق، ثم
جئتماني وكلمتكما وَاحدَةٌ وَأَمْرُكُمَا جَمِيعٌ، فَجِئْتَنِي
تَسْأَلُنِي عَنْ نَصِيبِكَ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ، وَجَاءَنِي هَذَا
يَسْأَلُنِي عَنْ نَصِيبِ امْرَأَتِهِ مِنْ أَبِيهَا، فَقُلْتُ
لَكُمَا: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قال: "لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقةٌ" فَلَمَّا بَدَا لِيَ أَنْ
أَدْفَعَهَا إِلَيْكُمَا قُلْتُ: إِنْ شِئْتُمَا دَفَعْتُهَا
إِلَيْكُمَا عَلَى أَنَّ عَلَيْكُمَا عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ
لَتَعْمَلَانِ فِيهَا بِمَا عَمِلَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَبِمَا عَمِلَ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ،
وَإِلَّا فَلَا تُكَلِّمَانِي فَقُلْتُمَا: ادفعها إلينا بذلك، فدفعتها
إليكما أنشدكما ما بِاللَّهِ هَلْ دَفَعْتُهَا إِلَيْهِمَا بِذَلِكَ؟
قَالَ الرَّهْطُ: نَعَمْ، فَأَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ
فَقَالَ: أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ هَلْ دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا
بِذَلِكَ؟ قَالَا: نَعَمْ، قَالَ أَفَتَلْتَمِسَانِ مِنْي قَضَاءً
غَيْرَ ذَلِكَ! فَوَالَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ
لَا أَقْضِي فِيهَا غَيْرَ ذَلِكَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، فَإِنْ
عَجَزْتُمَا عَنْهَا فَادْفَعَاهَا إِلَيَّ أَكْفِيكُمَاهَا2.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: حَدَّثَنِي أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ
يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-
__________
1 سورة الحشر: 6.
2 صحيح أخرجه البخاري "3094" في كتاب فرض الخمس، باب: رقم "1"، ومسلم
"1757" في كتاب الجهاد، باب: حكم الفيء، وأبو داود "2963" في كتاب
الخراج، باب: في صفايا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والترمذي "1616"
في كتاب السير، باب: ما جاء في تركة النبي -صلى الله عليه وسلم-
والنسائي "7/ 136، 137"، في كتاب قسم الفيء، باب: رقم "1"، وأحمد "1/
25"، والشافعي في "مسنده" "ص332".
(3/28)
يَقُولُ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا
يَقْتَسِمُ وَرَثَتِي شَيْئًا مِمَّا تَرَكْتُ، مَا تَرَكْنَا
صَدَقَةٌ" 1 فَكَانَتْ هَذِهِ الصَّدَقَةُ بِيَدِ عَلِيٍّ غَلَبَ
عَلَيْهَا الْعَبَّاسُ، وكانت فيها خصومتها، فَأَبَى عُمَرُ أَنْ
يَقْسِمَهَا بَيْنَهُمَا حَتَّى أَعْرَضَ عنها عباس فَغَلَبَهُ
عَلَيْهَا عَلِيٌّ، ثُمَّ كَانَتْ عَلَى يَدَيِ الْحَسَنِ، ثُمَّ
كَانَتْ بِيَدِ الْحُسَيْنِ، ثُمَّ بِيَدِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ
وَالْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ، كِلَاهُمَا يتداولانها، ثم بيد زيد، وهي
صَدَقَةُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَقًّا.
خَبَرُ الرِّدَّةِ:
لَمَّا اشْتُهِرَتْ وَفَاةُ النَّبِيِّ بِالنَّوَاحِي، ارْتَدَّتْ
طَوَائِفُ كَثِيرَةٌ مِنَ الْعَرَبِ عَنِ الْإسْلَامِ وَمَنَعُوا
الزَّكَاةَ، فَنَهَضَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ- لِقِتَالِهِمْ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ عُمَرُ وَغَيْرُهُ أَنْ
يَفْتِرَ عَنْ قِتَالِهِمْ. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي
عِقَالًا أَوْ عِنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا،
فَقَالَ عُمَرُ: كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُول
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ
النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ
مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَمَنْ قَالَهَا عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ
وَدَمَهُ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ"، فَقَالَ أَبُو
بَكْرٍ: وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصلاة والزكاة،
فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ وَقَدْ قَالَ: إِلَّا بِحَقِّهَا
فَقَالَ عُمَرُ: فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيْتُ اللَّهَ
شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ
الْحَقُّ2، فَعَنْ عُرْوَةَ وَغَيْرِهِ قَالَ: فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ
فِي الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ حتى بلغ نفعا3، حِذَاءَ نَجْدَ،
وَهَرَبَتِ الْأَعْرَابُ بِذَرَارِيهِمْ، فَكَلَّمَ النَّاسُ أَبَا
بَكْرٍ وَقَالُوا: ارْجِعْ إِلَى الْمَدِينَةِ وَإِلَى الذُّرِّيَّةِ
وَالنِّسَاءِ وَأَمِّرْ رَجُلًا عَلَى الْجَيْشِ، وَلَمْ يَزَالُوا
بِهِ حَتَّى رَجَعَ وَأَمَرَ خَالِدَ بْنَ الوليد، وقال له: إذا أسلموا
وأعطو الصَّدَقَةَ فَمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ فَلْيَرْجِعْ، وَرَجَعَ أَبُو
بكر إلى المدينة4.
__________
1 تقدم.
2 صحيح: أخرجه البخاري "1399" في كتاب الزكاة، باب: وجوب الزكاة، ومسلم
"20" في كتاب الإيمان، باب: رقم "8" وأبو داود "1556" في أول كتاب
الزكاة، والترمذي "2616" في كتاب الإيمان باب: رقم "1"، والنسائي "5/
14" في كتاب الزكاة، باب: مانع الزكاة، وأحمد "1/ 29، 35، 36، 47، 48"،
وعبد الرزاق "18718"، والطبراني في "الأوسط "941"، وأبو نعيم في
"الحلية" "1816، 3030"، والبيهقي في "سننه" "4/ 104"، وابن حبان "216،
217"، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه.
3 النقع: موضع قرب مكة.
4 مرسل.
(3/29)
وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ مَسِيرُهُ فِي
جُمَادَى الْآخِرَةِ فَبَلَغَ ذَا الْقَصَّةِ، وَهِيَ عَلَى
بَرِيدَيْنِ وَأَمْيَالٍ مِنْ نَاحِيةِ طَرِيقِ الْعِرَاقِ،
وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ سِنَانًا الضَّمْرِيَّ، وَعَلَى
حِفْظِ أَنْقَابِ الْمَدِينَةِ عَبْدَ الله بن مسعود.
وقال ابن لهيعة: أنبأنا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ
حَنْظَلَةَ بْنِ عَلِيٍّ اللَّيْثِيِّ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ بَعَثَ
خَالِدًا، وَأَمَرَهُ أَنْ يُقَاتِلَ النَّاسَ عَلَى خَمْسٍ، مَنْ
تَرَكَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ قَاتَلَهُ كَمَا يُقَاتِلُ مَنْ تَرَكَ
الْخَمْسَ جَمِيعًا: عَلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ
وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ،
وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ1.
وَقَالَ عُرْوَةُ، عَنْ عَائِشَةَ: لَوْ نَزَلَ بِالْجِبَالِ
الرَّاسِيَاتِ مَا نَزَلَ بِأَبِي لَهَاضَهَا2، اشْرَأَبَّ3 النِّفَاقُ
بِالْمَدِينَةِ وَارْتَدَّتِ الْعَرَبُ، فَوَاللَّهِ مَا اختلفوا في
نقطة إلا طار أبي بِحَظِّهَا مِنَ الْإِسْلَامِ.
وَعَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ أَنَّ النَّاسَ قَالُوا لَهُ: إِنَّكَ
لَا تَصْنَعُ بِالْمَسِيرِ بِنَفْسِكَ شَيْئًا، وَلَا تَدْرِي لِمَنْ
تَقْصِدُ، فَأَمُرْ مَنْ تَثِقُ بِهِ وَارْجِعْ إِلَى الْمَدِينَةِ،
فَإِنَّكَ تَرَكْتَ بِهَا النِّفَاقَ يَغْلِي، فَعَقَدَ لِخَالِدٍ
عَلَى النَّاسِ، وَأَمَّرَ عَلَى الْأَنْصَارِ خَاصَّةً ثَابِتَ بْنَ
قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، وَأَمَرَ خَالِدًا أَنْ يَصْمُدَ لِطُلَيْحَةَ
الْأَسْدِيِّ.
وَعَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: سَارَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مِنْ ذِي
الْقَصَّةِ فِي أَلْفَيْنِ وَسَبْعِمِائَةٍ إِلَى ثَلَاثَةِ آلَافٍ،
يُرِيدُ طُلَيْحَةَ، وَوَجَّهَ عُكَّاشَةَ بْنَ مِحْصَنٍ الْأَسَدِيَّ
حَلِيفَ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، وَثَابِتَ بْنَ أَقْرَمَ الْأَنْصَارِيَّ
-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- فَانْتَهَوْا إِلَى قَطَنٍ4 فَصَادَفُوا
فِيهَا حِبَالًا مُتَوَجِّهًا إِلَى طُلَيْحَة بِثُقْلِهِ، فَقَتَلُوهُ
وَأَخَذُوا مَا مَعَهُ، فَسَارَ وَرَاءَهُمْ طُلَيْحَةُ وَأَخُوهُ
سَلَمَةُ فَقَتَلَا عُكَّاشَةَ وَثَابِتًا.
وَقَالَ الْوَلِيدُ الْمُوَقَّرِيُّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: فَسَارَ
خَالِدٌ لِقِتَالِ طُلَيْحَةَ الْكَذَّابَ فَهَزَمَهُ اللَّهُ، وَكَانَ
قَدْ بَايَعَ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ، فَلَمَّا رَأَى طُلَيْحَةُ
كَثْرَةَ انْهِزَامِ أَصْحَابِهِ قَالَ: مَا يَهْزِمُكُمْ؟ فَقَالَ
رَجُلٌ: أَنَا أُحَدِّثُكَ، لَيْسَ مِنَّا رَجُلٌ إلَّا وَهُوَ يُحِبُ
أَنْ يموت
__________
1 إسناده ضعيف: أسامة بن زيد ضعيف كما في "التقريب" "315"، وابن لهيعة
كذلك.
2 هاضها: كسرها.
3 اشرأب: تطاول.
4 قطن: جبل بني أسد.
(3/30)
صَاحِبُهُ قَبْلَهُ، وَإِنَّا نَلْقَى
قَوْمًا كُلَّهُمْ يُحِبُّ أَنْ يَمُوتَ قَبْلَ صَاحِبِهِ، وَكَانَ
طُلَيْحَةُ رَجُلًا شَدِيدَ الْبَأْسِ فِي الْقِتَالِ، فَقَتَلَ
طُلَيْحَةُ يَوْمَئِذٍ عُكَّاشَةَ بْنَ مِحْصَنٍ وَثَابِتَ بْنَ
أَقْرَمَ، وَقَالَ طُلَيْحَةُ:
عَشِيَّةَ غَادَرْتُ ابْنَ أَقْرَمَ ثَاوِيًا ... وَعُكَّاشَةُ
الْغَنْمِيُّ تَحْتَ مَجَالِي
أَقَمْتُ لَهُمْ صَدْرَ الْحِمَالَةِ إِنَّهَا ... مُعَاوَدَةٌ قَبْلَ
الْكُمَاةِ نِزَالِي
فَيَوْمًا تَرَاهَا فِي الْجَلَالِ مَصُونَةً ... وَيَوْمًا تَرَاهَا
فِي ظِلَالٍ عوال
فما ظنكم بالقوم إذا تَقْتُلُونَهُمْ ... أَلَيْسُوا وَإِنْ لَمْ
يَسْلَمُوا بِرِجَالِ
فَإِنْ تَكُ أَذْوَادٌ أُصِبْنَ وَنِسْوَةٌ ... فَلَمْ تَرْهَبُوا
فَرْغًا بِقَتْلِ حِبَالِ
فَلَمَّا غَلَبَ الْحَقُّ طُلَيْحَةَ تَرَجَّلَ. ثُمَّ أَسْلَمَ
وَأَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، فَرَكِبَ يَسِيرُ فِي النَّاسِ آمِنًا، حَتَّى
مَرَّ بِأَبِي بَكْرٍ بِالْمَدِينَةِ، ثُمَّ سَارَ إِلَى مَكَّةَ
فَقَضَى عُمْرَتَهُ، ثُمَّ حَسُنَ إِسْلَامُهُ.
وَفِي غَيْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ خَالِدًا لَقِيَ طُلَيْحَةَ
بِبُزَاخَةَ1، وَمَعَ طُلَيْحَةَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ، وَقُرَّةُ
بْنُ هُبَيْرَةَ الْقُشَيْرِيُّ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا،
ثُمَّ هَرَبَ طُلَيْحَةُ وَأُسِرَ عُيَيْنَةُ وَقُرَّةُ، وَبُعِثَ
بِهِمَا إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَحَقَنَ دِمَاءَهُمَا.
وَذُكِرَ أَنَّ قَيْسَ بْنَ مَكْشُوحٍ أَحَدَ مَنْ قَتَلَ الْأَسْوَدَ
الْعَنْسِيَّ ارْتَدَّ. وَتَابَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ
الْأَسْوَدِ، وَخَافَهُ أَهْلُ صَنْعَاءَ، وَأَتَى قَيْسٌ إِلَى
فَيْرُوزَ الدَّيْلَمِيِّ وَدَاذَوَيْهَ يَسْتَشِيرُهُمَا فِي شَأْنِ
أَصْحَابِ الْأَسْوَدِ خَدِيعَةً مِنْهُ، فَاطْمَأَنَّا إِلَيْهِ،
وَصَنَعَ لَهُمَا مِنَ الْغَدِ طَعَامًا، فَأَتَاهُ دَاذَوَيْهِ
فَقَتَلَهُ. ثُمَّ أَتَاهُ فَيْرُوزُ فَفَطِنَ بِالْأَمْرِ فَهَرَبَ،
ولقيه جشيش ابن شَهْرٍ وَمَضَى مَعَهُ إِلَى جِبَالِ خَوْلَانَ،
وَمَلَكَ قَيْسٌ صَنْعَاءَ، فَكَتَبَ فَيْرُوزُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ
يَسْتَمِدُّهُ، فَأَمَدَّهُ، فَلَقَوْا قَيْسًا فَهَزَمُوهُ ثُمَّ
أَسَرُوهُ وَحَمَلُوهُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَوَبَّخَهُ: فَأَنْكَرَ
الرِّدَّةَ: فَعَفَا عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ.
وَقَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ
قَالَ: فَسَارَ خَالِدٌ -وَكَانَ سَيْفًا مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ
تَعَالَى- فَأَسْرَعَ السَّيْرَ حَتَّى نَزَلَ بِبُزَاخَةَ، وَبَعَثَتْ
إِلَيْهِ طيء: إِنْ شِئْتَ أَنْ تَقْدَمَ عَلَيْنَا فَإِنَّا
سَامِعُونَ مُطِيعُونَ، وَإِنْ شِئْتَ، نَسِيرُ إِلَيْكَ؟ قَالَ
خَالِدٌ: بل أنا
__________
1 بزاخة: ماء لطيء بأرض نجد.
(3/31)
ظَاعِنٌ إِلَيْكُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ،
فَلَمْ يَزَلْ بِبُزَاخَةَ، وَجَمَعَ لَهُ هُنَاكَ الْعَدُوُّ بَنُو
أَسَدٍ وَغَطَفَانُ فَاقْتَتَلُوا، حَتَّى قُتِلَ مِنَ الْعَدُوِّ
خَلْقٌ وَأُسِرَ مِنْهُمْ أُسَارَى، فَأَمَرَ خَالِدٌ بِالْحُظُرِ أَنْ
تُبْنَى ثُمَّ أَوْقَدَ فِيهَا النِّيرَانَ وَأَلْقَى الْأُسَارَى
فِيهَا، ثُمَّ ظَعَنَ يُرِيدُ طَيِّئًا، فَأَقْبَلَتْ بَنُو عَامِرٍ
وَغَطَفَانُ وَالنَّاسُ مُسْلِمِينَ مُقِرِّينَ بِأَدَاءِ الْحَقِّ،
فَقَبِلَ مِنْهُمْ خَالِدٌ.
وقُتِلَ فِي ذَلِكَ الْوَجْهِ مَالِكُ بْنُ نُوَيْرَةَ التَّمِيمِيُّ
فِي رِجَالٍ مَعَهُ مِنْ تَمِيمٍ، فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: نَحْنُ
رَاجِعُونَ، قَدْ أَقَرَّتِ الْعَرَبُ بِالَّذِي كَانَ عَلَيْهَا،
فَقَالَ خَالِدٌ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ: قَدْ لَعَمْرِي
آذَنُ لكم، وقد أجمع أميركم بالمسير إلى مسيلمة بن تمامة الْكَذَّابِ،
وَلَا نَرَى أَنْ تَفَرَّقُوا عَلَى هَذِهِ الْحَالِ، فَإِنَّ ذَلِكَ
غَيْرُ حَسَنٍ، وَإِنَّهُ لَا حُجَّةَ لِأَحَدٍ مِنْكُمْ فَارَقَ
أَمِيرَهُ وَهُوَ أَشَدُّ مَا كَانَ إِلَيْهِ حَاجَةً، فَأَبَتِ
الْأَنْصَارُ إِلَّا الرُّجُوعَ وَعَزَمَ خَالِدٌ وَمَنْ مَعَهُ،
وَتَخَلَّفَتِ الْأَنْصَارُ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ يَنْظُرُونَ فِي
أَمْرِهِمْ، وَنَدِمُوا وقالوا: ما لكم وَاللَّهِ عُذْرٌ عِنْدَ
اللَّهِ وَلَا عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ إِنْ أُصِيبَ هَذَا الطَّرَفُ
وَقَدْ خَذَلْنَاهُمْ، فَأَسْرَعُوا نَحْوَ خَالِدٍ وَلَحِقُوا بِهِ،
فَسَارَ إِلَى الْيَمَامةِ، وَكَانَ مُجَّاعَةُ بْنُ مُرَارَةَ سَيِّدُ
بَنِي حَنِيفَةَ خَرَجَ فِي ثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ فَارِسًا يَطْلُبُ
دِمَاءً فِي بَنِي عَامِرٍ، فَأَحَاطَ بِهِمُ الْمُسْلِمُونَ، فَقَتَلَ
أَصْحَابَ مُجَّاعَةَ وَأَوْثَقَهُ.
وَقَالَ الْعَطَّافُ بْنُ خَالِدٍ: حَدَّثَنِي أَخِي عَبْدُ اللَّهِ
عَنْ بَعْضِ آلِ عَدِيٍّ، عَنْ وَحْشِيٍّ قَالَ: خَرَجْنَا حَتَّى
أَتَيْنَا طُلَيْحَةَ فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ، فَقَالَ خَالِدٌ: لَا
أَرْجِعُ حَتَّى آتِيَ مُسَيْلِمَةَ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بينا
وَبَيْنَهُمْ فَقَالَ لَهُ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ: إِنَّمَا بعثنا إلى
هؤلاء وقد كفى الله مؤنتهم، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُمْ، وَسَارَ، ثُمَّ
تَبِعَهُ ثَابِتٌ بَعْدَ يَوْمٍ فِي الْأَنْصَارِ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ
شِهَابٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ وَفْدُ بُزَاخَةَ أَسَدٍ وَغَطَفَانَ
عَلَى أَبِي بَكْرٍ يَسْأَلُونَهُ الصُّلْحَ، خَيَّرَهُمْ أَبُو بَكْرٍ
بَيْنَ حَرْبٍ مُجَلِّيَةٍ أَوْ حِطَّةٍ مُخْزِيَةٍ، فَقَالُوا: يَا
خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ أَمَّا الْحَرْبُ فَقَدْ عَرَفْنَاهَا،
فَمَا الْحِطَّةُ الْمُخْزِيَةُ؟ قَالَ: تُؤْخَذُ مِنْكُمُ الْحَلْقَةُ
وَالْكُرَاعُ1 وَتُتْرَكُونَ أَقْوَامًا تَتْبَعُونَ أَذْنَابَ
الْإِبِلِ حَتَّى يُرِيَ اللَّهُ خَلِيفَةَ نَبِيِّهِ وَالْمُؤْمِنِينَ
أن قتلانا في الجنة وأن قتلاكم فِي النَّارِ، وَتَدُونَ قَتْلَانَا
وَلَا نَدِي قَتْلَاكُمْ، فَقَالَ عُمَرُ: أَمَّا قَوْلُكَ "تَدُونَ
قَتْلَانَا" فَإِنَّ
__________
1 الكرع: اسم لجميع الخيل.
(3/32)
قَتْلَانَا قُتِلُوا عَلَى أَمْرِ اللَّهِ
لَا دِيَاتَ لَهُمْ. فَاتُّبِعَ عُمَرُ، وَقَالَ عُمَرُ فِي الْبَاقِي:
نِعْمَ مَا رَأَيْتَ.
مَقْتَلُ مَالِكِ بْنِ نُوَيْرَةَ التيمي الْحَنْظَلِيِّ
الْيَرْبُوعِيِّ:
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: أُتِيَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِمَالِكِ بْنِ
نُوَيْرَةَ فِي رَهْطٍ مِنْ قَوْمِهِ بَنِي حَنْظَلَةَ فَضَرَبَ
أَعْنَاقَهُمْ، وَسَارَ فِي أَرْضِ تَمِيمٍ، فَلَمَّا غَشَوْا قَوْمًا
مِنْهُمْ أَخَذُوا السِّلَاحَ وَقَالُوا: نَحْنُ مُسْلِمُونَ، فَقِيلَ
لَهُمْ: ضَعُوا السِّلَاحَ، فَوَضَعُوهُ، ثُمَّ صَلَّى الْمُسْلِمُونَ
وَصَلَّوْا.
فَرَوَى سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَدِمَ
أَبُو قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيُّ عَلَى أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ- فَأَخْبَرَهُ بِقَتْلِ مَالِكِ بن نويرة وأصحابه، فجزع لدلك،
ثُمَّ وَدَى مَالِكًا وَرَدَّ السَّبْيَ وَالْمَالَ.
وَرُوِيَ أَنَّ مَالِكًا كَانَ فَارِسًا شُجَاعًا مُطَاعًا فِي
قَوْمِهِ وَفِيهِ خُيَلَاءُ، كَانَ يُقَالُ لَهُ الْجَفُولُ، قدِم
عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَسْلَمَ
فَوَلَّاهُ صَدَقَةَ قَوْمِهِ، ثُمَّ ارْتَدَّ، فَلَمَّا نَازَلَهُ
خَالِدٌ قَالَ: أَنَا آتِي بِالصَّلَاةِ دُونَ الزَّكَاةِ، فَقَالَ:
أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ معا لا تقبل واحدة دون
الأخرى؟! فَقَالَ: قَدْ كَانَ صَاحِبُكَ يَقُولُ ذَلِكَ، قَالَ
خَالِدٌ: وَمَا تَرَاهُ لَكَ صَاحِبًا! وَاللَّهِ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ
أَضْرِبَ عُنُقَكَ، ثُمَّ تَحَاوَرَا طَوِيلًا، فَصَمَّمَ عَلَى
قَتْلِهِ، فَكَلَّمَهُ أَبُو قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيُّ وَابْنُ
عُمَرَ، فَكَرِهَ كَلَامَهُمَا، وَقَالَ لِضِرَارِ بْنِ الْأَزْوَرِ:
اضْرِبْ عُنُقَهُ، فَالْتَفَتَ مَالِكٌ إِلَى زَوْجَتِهِ وَقَالَ:
هَذِهِ الَّتِي قَتَلَتْنِي، وَكَانَتْ فِي غَايَةِ الْجَمَالِ، قَالَ
خَالِدٌ: بَلِ اللَّهُ قَتَلَكَ بِرُجُوعِكَ عَنِ الْإِسْلَامِ،
فَقَالَ: أَنَا عَلَى الْإِسْلَامِ، فَقَالَ: اضْرِبْ عُنُقَهُ،
فَضَرَبَ عُنُقَهُ وَجَعَلَ رَأْسَهُ أَحَدَ أَثَافِي1 قِدْرِ طَبْخٍ
فِيهَا طَعَامٌ، ثُمَّ تَزَوَّجَ خَالِدٌ بِالْمَرْأَةِ، فَقَالَ أَبُو
زُهَيْرٍ السَّعْدِيُّ مِنْ أَبْيَاتٍ:
قَضَى خَالِدٌ بَغْيًا عَلَيْهِ لِعُرْسِهِ ... وَكَانَ لَهُ فِيهَا
هَوًى قَبْلَ ذَلِكَا
وَذَكَرَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي "كَامِلِهِ" وَفِي "مَعْرِفَةِ
الصَّحَابَةِ" قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَارْتَدَّتِ الْعَرَبُ، وَظَهَرَتْ سَجَاحُ
وَادَّعَتِ النُّبُوَّةَ صَالَحَهَا مَالِكٌ، وَلَمْ تَظْهَرْ مِنْهُ
رِدَّةٌ، وَأَقَامَ بِالْبِطَاحِ، فَلَمَّا فَرَغَ خَالِدٌ مِنْ أَسَدٍ
وَغَطَفَانَ سَارَ إلى مالك وبث
__________
1 الأثافي: الحجارة التي يوضع عليها القدر.
(3/33)
سَرَايَاهُ فَأَتَى بِمَالِكٍ، فَذَكَرَ
الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: فَلَمَّا قَدِمَ خَالِدٌ قَالَ عُمَرُ: يَا
عَدُوَّ اللَّهِ قَتَلْتَ امْرَأً مُسْلِمًا ثُمَّ نَزَوْتَ عَلَى
امْرَأَتِهِ، لَأَرْجُمَنَّكَ، وَفِيهِ أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ شَهِدَ
أَنَّهُمْ أَذَّنُوا وَصَلُّوا.
وَقَالَ الْمُوَقَّرِيُّ: عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: وَبَعَثَ خَالِدٌ
إِلَى مَالِكِ بْنِ نِوَيْرَةَ سَرِيَّةً فِيهِمْ أَبُو قَتَادَةَ،
فَسَارُوا يَوْمَهُمْ سِرَاعًا حَتَّى انْتَهُوا إِلَى مَحَلَّةِ
الْحَيِّ، فَخَرَجَ مَالِكٌ فِي رَهْطِهِ فَقَالَ: مَنْ أَنْتُمْ؟
قَالُوا: نَحْنُ الْمُسْلِمُونَ، فَزَعَمَ أَبُو قَتَادَةَ أَنَّهُ
قَالَ: وَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ الْمُسْلِمُ، قَالَ: فَضَعِ السِّلَاحَ،
فَوَضَعَهُ فِي اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، فَلَمَّا وَضَعُوا السِّلَاحَ
رَبَطَهُمْ أَمِيرُ تِلْكَ السَّرِيَّةِ وَانْطَلَقَ بِهِمْ أُسَارَى،
وَسَارَ مَعَهُمُ السَّبْيُ حَتَّى أَتَوْا بِهِمْ خَالِدًا، فَحَدَّثَ
أَبُو قَتَادَةَ خَالِدًا أَنَّ لَهُمْ أَمَانًا وَأَنَّهُمْ قَدِ
ادَّعَوْا إِسْلَامًا، وَخَالَفَ أَبَا قَتَادَةَ جَمَاعَةُ
السَّرِيَّةِ فَأَخْبَرُوا خَالِدًا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ
أَمَانٌ، وَإِنَّمَا أُسِرُوا قَسْرًا، فَأَمَرَ بِهِمْ خَالِدٌ
فَقُتِلُوا وَقَبَضَ سَبْيَهُمْ، فَرَكِبَ أَبُو قَتَادَةَ فَرَسَهُ
وَسَارَ قِبَلَ أَبِي بَكْرٍ. فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ قَالَ:
تَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ لِمَالِكِ بْنِ نُوَيْرَةَ عَهْدٌ وَأَنَّهُ
ادَّعَى إِسْلَامًا، وَإِنِّي نَهَيْتُ خَالِدًا فَتَرَكَ قَوْلِي
وَأَخَذَ بِشَهَادَاتِ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ
الْغَنَائِمَ، فَقَامَ عُمَرُ فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ إِنَّ فِي
سَيْفِ خَالِدٍ رَهَقًا، وَإِنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ حَقًّا فَإِنَّ
حَقًّا عَلَيْكَ أَنْ تُقَيِّدَهُ، فَسَكَتَ أَبُو بَكْرٍ.
وَمَضَى خَالِدٌ قِبَلَ الْيَمَامَةِ، وَقَدِمَ مُتَمِّمُ بْنُ
نُوَيْرَةَ فَأَنْشَدَ أَبَا بَكْرٍ مَنْدَبَةً نَدَبَ بِهَا أَخَاهُ،
وَنَاشَدَهُ فِي دَمِ أَخِيهِ وَفِي سَبْيِهِمْ، فَرَدَّ إِلَيْهِ
أَبُو بَكْرٍ السَّبْيَ، وَقَالَ لِعُمَرَ وَهُوَ يُنَاشِدُ فِي
الْقَوَدِ، لَيْسَ عَلَى خَالِدٍ مَا تَقُولُ، هَبْهُ تَأَوَّلَ
فَأَخْطَأَ. قُلْتُ وَمِنَ الْمَنْدَبَةِ.
وَكُنَّا كَنُدْمَانَيْ جَذِيمَةَ حِقْبَةً ... مِنَ الدَّهْرِ حَتَّى
قِيلَ لَنْ يَتَصَدَّعَا
فَلَمَّا تَفَرَّقْنَا كَأَنِّي وَمَالِكًا ... لِطُولِ اجْتِمَاعٍ
لَمْ نَبِتْ لَيْلَةً مَعًا
قِتَالُ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ:
ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة قَالَ: سَارَ بِنَا خَالِدٌ إِلَى
الْيَمَامَةِ إِلَى مُسَيْلِمَةَ، وَخَرَجَ مُسَيْلِمَةُ بِمَجْمُوعَةٍ
فَنَزَلُوا بِعَقْرَبَاءَ، فَحَلَّ بِهَا خَالِدٌ عَلَيْهِمْ، وَهِيَ
طَرَفُ الْيَمَامَةِ، وَجَعَلُوا الْأَمْوَالَ خَلْفَهَا كُلَّهَا
وَرِيفَ الْيَمَامَةِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ.
(3/34)
وَقَالَ شُرَحْبِيلُ بْنُ مُسَيْلِمَةَ:
يَا بَنِي حُنَيْفَةَ الْيَوْمُ يَوْمُ الْغَيْرَةِ، الْيَوْمُ إِنْ
هُزِمْتُمْ سَتُرْدَفُ الْنِّسَاءُ سَبِيَّاتٍ ويُنكحن غَيْرَ
حَظِيَّاتٍ، فَقَاتِلُوا عَنْ أَحْسَابِكُمْ، فَاقْتَتَلُوا
بِعَقْرَبَاءَ قِتَالًا شَدِيدًا، فَجَالَ الْمُسْلِمُونَ جَوْلَةً
وَدَخَلَ نَاسٌ مِنْ بَنِي حُنَيْفَةَ فُسْطَاطَ خَالِدٍ وَفِيهِ
مُجَّاعَةُ أَسِيرٌ، وَأُمُّ تَمِيمٍ امْرَأَةُ خالد، فأرادوا أن
يقتلوها فقال مجاعة: إنه لَهَا جَارٌ، وَدَفَعَ عَنْهَا، وَقَالَ
ثَابِتُ بْنُ قيس حين رأي المسلمون مُدْبِرِينَ: أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا
تَعْمَلُونَ، وَكَرَّ الْمُسْلِمُونَ فَهَزَمَ اللَّهُ الْعَدُوَّ،
وَدَخَلَ نَفَرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فُسْطَاطَ خَالِدٍ فَأَرَادُوا
قَتْلَ مُجَّاعَةَ، فَقَالَتْ أُمُّ تَمِيمٍ: وَاللَّهِ لَا يُقْتَلُ
وَأَجَارَتْهُ. وَانْهَزَمَ أَعْدَاءُ اللَّهِ حَتَّى إِذَا كَانُوا
عِنْدَ حَدِيقَةِ الْمَوْتِ اقْتَتَلُوا عِنْدَهَا، أَشَدَّ
الْقِتَالِ، وَقَالَ مُحَكَّمُ بْنُ الطُّفَيْلِ: يَا بَنِي حُنَيْفَةَ
ادْخُلُوا الْحَدِيقَةَ فَإِنِّي سَأَمْنَعُ أَدْبَارَكُمْ، فَقَاتَلَ
دُونَهُمْ سَاعَةً وَقُتِلَ، وَقَالَ مسيلمة: يا قوم قاتلوا عن
أحسابكم، فاقتتوا قِتَالًا شَدِيدًا، حَتَّى قُتِلَ مُسَيْلِمَةُ.
وَحَدَّثَنِي مَوْلَى بَنِي نَوْفَلٍ.
وَقَالَ الْمُوَقِّرِيُّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: قَاتَلَ خَالِدٌ
مُسَيْلِمَةَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ بَنِي حُنَيْفَةَ، وهم يؤمئذ أَكْثَرُ
الْعَرَبِ عَدَدًا وَأَشَدُّهُ شَوْكَةً، فَاسْتُشْهِدَ خَلْقٌ
كَثِيرٌ، وَهَزَمَ اللَّهُ بَنِي حُنَيْفَةَ، وَقُتِلَ مُسَيْلِمَةُ،
قَتَلَهُ وَحْشِيٌّ بَحَرْبَةٍ.
وَكَانَ يُقَالُ: قَتَلَ وَحْشِيٌّ خير أهل الأرض بَعْدَ رَسُولِ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وشر أَهْلِ الْأَرْضِ.
وَعَنْ وَحْشِيٌّ قَالَ: لَمْ أَرَ قَطُّ أَصْبَرَ عَلَى الْمَوْتِ
مِنْ أَصْحَابِ مُسَيْلِمَةَ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ شَارَكَ فِي قَتْلِ
مُسَيْلِمَةَ.
وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ:
لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْيَمَامَةِ دَخَلَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ
فَتَحَنَّطَ، ثُمَّ قَامَ فَأَتَى الصَّفَّ وَالنَّاسُ مُنْهَزِمُونَ
فَقَالَ: هَكَذَا عَنْ وُجُوهِنَا، فَضَارَبَ الْقَوْمَ ثُمَّ قَالَ:
بِئْسَمَا عَوَّدْتُمْ أَقْرَانَكُمْ، مَا هَكَذَا كُنَّا نُقَاتِلُ
مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فَاسْتُشْهِدَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَالَ الْمُوَقِّرِيُّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: ثم تحصن من بني
خليفة مِنْ أَهْلِ الْيَمَامَةِ سَتَّةُ آلَافِ مُقَاتِلٍ فِي
حِصْنِهِمْ، فَنَزَلُوا عَلَى حُكْمِ خَالِدٍ فَاسْتَحْيَاهُمْ.
(3/35)
وقال ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن
عُرْوَةَ قَالَ: وَعَمَدَتْ بَنُو حُنَيْفَةَ حِينَ انْهَزَمُوا إِلَى
الْحُصُونِ فَدَخَلُوهَا، فَأَرَادَ خَالِدٌ أَنْ يُنْهِدَ إِلَيْهِمُ
الْكَتَائِبَ، فَلَمْ يَزَلْ مُجَّاعَةُ حَتَّى صَالَحَهُ عَلَى
الصَّفْرَاءِ وَالْبَيْضَاءِ وَالْحَلْقَةِ وَالْكُرَاعِ، وَعَلَى
نِصْفِ الرَّقِيقِ، وَعَلَى حَائِطٍ مِنْ كُلِّ قَرْيَةٍ، فَتَقَاضَوْا
عَلَى ذَلِكَ.
وَقَالَ سَلَامَةُ بْنُ عُمَيْرٍ الْحَنَفِيُّ: يَا بَنِي حُنَيْفَةَ
قَاتِلُوا وَلَا تُقَاضُوا خَالِدًا عَلَى شَيْءٍ، فَإِنَّ الْحِصْنَ
حَصِينٌ، وَالطَّعَامُ كَثِيرٌ، وَقَدْ حَضَرَ النِّسَاءُ، فَقَالَ
مُجَّاعَةُ: لَا تُطِيعُوهُ فإنه مشئوم. فَأَطَاعُوا مُجَّاعَةَ. ثُمَّ
إِنَّ خَالِدًا دَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَالْبَرَاءَةِ مِمَّا
كَانُوا عَلَيْهِ، فَأَسْلَمَ سَائِرُهُمْ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ، إِنَّ خَالِدًا قَالَ: يَا بَنِي حُنَيْفَةَ
مَا تَقُولُونَ؟ قَالُوا: مِنَّا نَبِيٌّ وَمِنْكُمْ نَبِيٌّ،
فَعَرَضَهُمْ عَلَى السَّيْفِ، يَعْنِي الْعِشْرِينَ الَّذِينَ كَانُوا
مَعَ مُجَّاعَةَ بْنِ مُرَارَةَ، وَأَوْثَقَهُ هُوَ فِي الْحَدِيدِ،
ثُمَّ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَقَالَ زَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ حِينَ
كَشَفَ النَّاسُ: لَا نَجَوْتُ بَعْدَ الرِّجَالِ، ثُمَّ قَاتَلَ
حَتَّى قُتِلَ.
وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ أَبَا مريم الحنفي قتل
زيدا.
وقال ابْنُ إِسْحَاقَ: رَمَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أبي بكر محكم
اليمامة ابن طُفَيْلٍ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ.
قُلْتُ: وَاخْتَلَفُوا فِي وَقْعَةِ الْيَمَامَةِ مَتَى كَانَتْ:
فَقَالَ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ
الطَّبَرِيُّ، كَانَتْ فِي سَنَةِ إِحْدَى عَشْرَةَ.
قَالَ عَبْد الباقي بن قانع: كانت في آخر سنة إحدى عشرة.
وَقَالَ أَبُو مَعْشَرٍ كَانَتِ الْيَمَامَةُ فِي رَبِيعِ الْأَوَّلِ
سَنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ. فَجَمِيعُ مَنْ قُتِلَ يَوْمَئِذٍ
أَرْبَعُمِائَةٌ وَخَمْسُونَ رَجُلًا.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: كَانَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ، وَكَذَلِكَ
قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ، وَمَعْنُ بْنُ عِيسَى، وَمُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ
كَاتِبُ الْوَاقِدِيِّ وَغَيْرُهُمْ.
قُلْتُ: وَلَعَلَّ مَبْدَأَ وَقْعَةِ الْيَمَامَةِ كَانَ فِي آخِرِ
سَنَةِ إِحْدَى عَشْرَةَ كَمَا قَالَ ابْنُ قَانِعٍ وَمُنْتَهَاهَا فِي
أَوَائِلِ سَنَةِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ، فَإِنَّهَا بَقِيَتْ أَيَّامًا
لِمَكَانِ الْحِصَارِ. وَسَأُعِيدُ ذِكْرَهَا وَالشُّهَدَاءِ بِهَا فِي
أَوَّلِ سَنَةِ اثنتي عشرة -إن شاء الله.
(3/36)
سَنَةُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ:
فِي أَوَائِلِهَا -عَلَى الْأَشْهَرِ- وَقْعَةُ الْيَمَامَةِ،
وَأَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَرَأْسُ الْكُفْرِ
مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ، فَقَتَلَهُ اللَّهُ. وَاسْتُشْهِدَ خلق من
الصحابة.
وَقِيلَ: إِنَّ مُسَيْلِمَةَ قُتِلَ عَنْ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً،
وَكَانَ قَدِ ادَّعَى النُّبَوَّةَ، وَتَسَمَّى بِرَحْمَانِ
الْيَمَامَةِ فِيمَا قِيلَ قَبْلَ أَنْ يُولَدَ عَبْدُ اللَّهِ أَبُو
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقُرْآنُ
مُسَيْلِمَةَ ضُحْكَةٌ لِلسَّامِعِينَ.
وَقْعَةُ جُوَاثَا 1:
بَعَثَ الصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- الْعَلَاءَ بْنَ
الْحَضْرَمِيَّ إِلَى الْبَحْرَيْنِ، وَكَانُوا قَدِ ارْتَدُّوا
-إِلَّا نَفَرًا ثَبَتُوا مَعَ الْجَارُودِ- فَالْتَقَوْا بِجُوَاثَا
فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَاصَرَهُمُ الْعَلَاءُ بِجُوَاثَا حَتَّى
كَادَ الْمُسْلِمُونَ يَهْلِكُونَ مِنَ الْجَهْدِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ
سَكِرُوا لَيْلَةً فِي حِصْنِهِمْ، فَبَيَّتَهُم الْعَلَاءُ، فَقِيلَ:
إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ اسْتُشْهِدَ
يَوْمَ جُوَاثَا لَا يَوْمَ الْيَمَامَةِ، شهد بدرا.
وفيما بَعَثَ الصِّدِّيقُ عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ إِلَى عُمَانَ
وَكَانُوا ارْتَدُّوا وَبَعَثَ الْمُهَاجِرَ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ
الْمَخْزُومِيَّ إِلَى أَهْلِ النُّجَيْرِ2، وَكَانُوا ارْتَدُّوا،
وَبَعَثَ زِيَادَ بْنَ لَبِيدٍ الْأَنْصَارِيَّ إِلَى طَائِفَةٍ مِنَ
الْمُرْتَدَّةِ.
فَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ
أَنَّ زِيَادًا بَيَّتَهُمْ فَقَتَلَ مُلُوكًا أَرْبَعَةً: حَمَدًا،
وَمِخْوَصًا، وَمِشْرَحًا، وَأَبْضَعَةَ.
وفيها أقام الحج أبو بكر للناس.
وَفِيهَا: بَعْدَ فَرَاغِ قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ بَعَثَ أَبُو
بَكْرٍ الصِّدِّيقُ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى أَرْضِ الْبَصْرَةِ،
وَكَانَتْ تُسَمَّى أَرْضَ الْهِنْدِ، فَسَارَ خالد بمن معه من اليمامة
إلى
__________
1 جواثا: موضع بالبحرين.
2 النجير: حصن باليمن قرب حضرموت.
(3/37)
أَرْضِ الْبَصْرَةِ، فَغَزَا الْأُبُلَّةَ1
فَافْتَتَحَهَا، وَدَخَلَ مَيْسَانَ2 فَغَنِمَ وَسَبَى مِنَ الْقُرَى،
ثُمَّ سَارَ نَحْوَ السَّوَادِ، فَأَخَذَ عَلَى أَرْضِ كَسْكَرٍ3
وَزَنْدَوَرْدٍ4 بَعْدَ أَنِ اسْتَخْلَفَ عَلَى الْبَصْرَةِ قُطْبَةَ
بْنَ قَتَادَةَ السَّدُوسِيَّ، وَصَالَحَ خَالِدٌ أَهْلَ أُلَّيْسَ5
عَلَى أَلْفِ دِينَارِ فِي شَهْرِ رَجَبٍ مِنَ السَّنَةِ، ثُمَّ
افْتَتَحَ نَهْرَ الْمَلِكِ6، وَصَالَحَهُ ابْنُ بُقَيْلَةَ صَاحِبُ
الْحِيرَةِ عَلَى تِسْعِينَ أَلْفًا، ثُمَّ سَارَ نَحْوَ أَهْلِ
الْأَنْبَارِ فَصَالَحُوهُ.
ثُمَّ حَاصَرَ عَيْنَ التَّمْرِ7 ونزلوا على حكمه، فقتل وسبى.
وَفِيهَا لَمَّا اسْتَحَرَّ الْقَتْلُ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ يَوْمَ
الْيَمَامَةِ أَمَرَ أَبُو بَكْرٍ بِكِتَابَةِ الْقُرْآنَ زَيْدَ بْنَ
ثَابِتٍ، فَأَخَذَ يَتَتَبَّعُهُ مِنَ الْعُسُبِ8 وَاللَّخَافِ9
وَصُدُورِ الرِّجَالِ، حَتَّى جَمَعَهُ زَيْدٌ فِي صُحُفٍ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: وَلَمَّا فَرَغَ خَالِدٌ
مِنْ فُتُوحِ مَدَائِنِ كِسْرَى الَّتِي بِالْعِرَاقِ صُلْحًا
وَحَرْبًا خَرَجَ لِخَمْسٍ بَقَيْنَ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ مُتَكَتِّمًا
بِحَجَّتِهِ، وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ تَعْتَسِفُ الْبِلَادَ حَتَّى أَتَى
مَكَّةَ، فَتَأَتَّى لَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا لَمْ يَتَأَتَّ لِدَلِيلٍ،
فَسَارَ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْحِيرَةِ، لَمْ يُرَ قَطُّ أَعْجَبُ
مِنْهُ وَلَا أَصْعَبُ، فَكَانَتْ غَيْبَتُهُ عَنِ الْجُنْدِ
يَسِيرَةً، فلم يعلم بحجة أحدا إِلَّا مَنْ أَفْضَى إِلَيْهِ بِذَلِكَ.
فَلَمَّا عَلِمَ أَبُو بَكْرٍ بِحَجِّهِ عَتَبَهُ وَعَنَّفَهُ
وَعَاقَبَهُ بِأَنْ صَرَفَهُ إِلَى الشَّامِ، فَلَمَّا وَافَاهُ
كِتَابُ أَبِي بَكْرٍ عِنْدَ مُنْصَرَفِهِ مِنْ حَجِّهِ بِالْحِيرَةِ
يَأْمُرُهُ بِانْصِرَافِهِ إِلَى الشَّامِ حَتَّى يَأْتِيَ مَنْ بِهَا
مِنْ جُمُوعِ الْمُسْلِمِينَ بِالْيَرْمُوكِ، وَيَقُولُ لَهُ: إِيَّاكَ
أَنْ تَعُودَ لِمِثْلِهَا.
قُلْتُ: وَإِنَّمَا جَاءَ الْكِتَابُ بِأَنْ يَسِيرَ إِلَى الشَّامِ
فِي أَوَائِلِ سَنَةِ ثلاثة عشرة.
__________
1 الأبلة: بلدة على شاطيء دجلة.
2 ميسان: كورة بين البصرة وواسط.
3 كسكر: مدينة بالعراق.
4 زندورد: مدينة قرب واسط.
5 أليس: موضع في أول أرض العراق.
6 نهر الملك: كورة ببغداد.
7 عين التمر: بلدة تفع غربي الكوفة.
8 العسب: جمع عسيب، وهو جريدة النخل.
9 اللخاف: حجارة بيض.
(3/38)
قُلْتُ: سَارَ خَالِدٌ بِجَيْشِهِ مِنَ
الْعِرَاقِ إِلَى الشَّامِ فِي الْبَرِّيَّةِ، وَكَادُوا يَهْلِكُونَ
عَطَشًا.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ ثَنَا مُوسَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ
التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَشَارَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ
عَلَى أَبِي بَكْرٍ أَنِ اكْتُبْ إِلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ
يَسِيرُ بِمَنْ مَعَهُ إِلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مَدَدًا لَهُ،
فَلَمَّا أَتَى كِتَابُ أَبِي بَكْرٍ خَالِدًا قَالَ: هَذَا مِنْ
عُمَرَ حَسَدَنِي عَلَى فَتْحِ الْعِرَاقِ وَأَنْ يَكُونَ عَلَى يَدِي،
فَأُحِبُّ أَنْ يَجْعَلَنِي مَدَدًا لِعَمْرٍو، فَإِنْ كَانَ فُتِحَ
كَانَ ذِكْرُهُ لَهُ دُونِي1.
__________
1 إسناده ضعيف جدا: فيه انقطاع بين محمد بن إبراهيم وأبي بكر، والواقد
متروك كما تقدم.
(3/39)
توجيه المسلمين قبل فلسطين والشام:
سَنَةُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ:
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: لَمَّا قَفَلَ أَبُو بَكْرٍ عَنِ الْحَجِّ
بَعَثَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ قِبَلَ فِلَسْطِينَ، وَيَزِيدَ بْنَ
أَبِي سُفْيَانَ وَأَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ وَشُرَحْبِيلَ
بْنَ حَسَنَةَ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْلُكُوا عَلَى الْبَلْقَاءِ.
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ قَالَ: قَالُوا لَمَّا وَجَّهَ أَبُو بَكْرٍ
الْجُنُودَ إِلَى الشَّامِ أَوَّلَ سَنَةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ، فَأَوَّلُ
لِوَاءٍ عَقَدَهُ لِوَاءُ خَالِدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، ثُمَّ
عَزَلَهُ قَبْلَ أَنْ يَسِيرَ خَالِدٌ، وَقِيلَ: بَلْ عَزَلَهُ بَعْدَ
أَشْهُرٍ مِنْ مَسِيرِهِ، وَكَتَبَ إِلَى خَالِدٍ فَسَارَ إِلَى
الشَّامِ، فَأَغَارَ عَلَى غَسَّانَ بِمَرْجِ رَاهِطٍ، ثُمَّ سَارَ
فَنَزَلَ عَلَى قَنَاةِ بُصْرَى، وَقَدِمَ أَبُو عُبَيْدَةَ
وَصَاحِبَاهُ فَصَالَحُوا أَهْلَ بُصْرَى، فَكَانَتْ أَوَّلَ مَا
فُتِحَ مِنْ مَدَائِنِ الشَّامِ، وَصَالَحَ خَالِدٌ فِي وجهه ذَلِكَ
أَهْلَ تَدْمُرَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ سَارُوا جَمِيعًا قِبَلَ فِلَسْطِينَ،
فَالْتَقَوْا بأجناين بَيْنَ الرَّمْلَةِ، وَبَيْتِ جِبْرِينَ1،
وَالْأُمَرَاءُ كُلٌّ عَلَى جُنْدِهِ، وَقِيلَ: إِنَّ عَمْرًا كَانَ
عَلَيْهِمْ جَمِيعًا، وَعَلَى الرُّومِ الْقُبُقْلَارِ2 فَقُتِلَ،
وَانْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ السَّبْتِ لِثَلَاثٍ مِنْ جُمَادَى
الْأُولَى سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ.
فَاسْتُشْهِدَ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ النحام، وَهِشَامُ
بْنُ الْعَاصِ، وَالْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ، وَأَبَانُ بْنُ سَعِيدٍ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: الثَّبْتُ عِنْدَنَا أَنَّ أَجْنَادَيْنَ
كَانَتْ فِي جُمَادَى الْأُولَى، وَبُشِّرَ بِهَا أَبُو بَكْرٍ وَهُوَ
بِآخِرِ رَمَقٍ.
وَقَالَ ابْنُ لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة قال: قُتِلَ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أَجْنَادَيْنَ عَمْرٌو، وَأَبَانٌ، وَخَالِدُ
بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ، وَالطُّفَيْلُ بْنُ
عَمْرٍو، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو الدَّوْسِيَّانِ، وَضِرَارُ
بْنُ الْأَزْوَرِ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلِ بْنِ
__________
1 بيت جبرين: مدينة بفلسطين.
2 القبقلار: رتبة عسكرية رومية.
(3/40)
هِشَامٍ، وَسَلَمَةُ بْنُ هِشَامِ بْنِ
الْمُغِيرَةِ عَمُّ عِكْرِمَةَ، وَهَبَّارُ بْنُ سُفْيَانَ
الْمَخْزُومِيُّ، وَنُعَيْمُ بْنُ النَّحَّامِ، وَصَخْرُ بْنُ نَصْرٍ
الْعَدَوِيَّانِ، وَهِشَامُ بْنُ الْعَاصِ السَّهْمِيُّ، وَتَمِيمٌ،
وَسَعِيدٌ ابْنَا الْحَارِثِ بْنِ قيس.
وقال محمد بن سعيد: قُتِلَ يَوْمَئِذٍ طُلَيْبُ بْنُ عُمَيْرٍ،
وَأُمُّهُ أَرْوَى هِيَ عَمَّةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَعَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ قَالَ: بَرَزَ يَوْمَ أَجْنَادِينَ
بَطْرِيقٌ1 فَبَرَزَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزبير بن عبد
المطلب بن هاشم، فَقَتَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ، ثُمَّ بَرَزَ بَطْرِيقٌ
آخَرُ فَقَتَلَهُ، عَبْدُ اللَّهِ بَعْدَ مُحَارَبَةٍ طَوِيلَةٍ،
فَعَزَمَ عَلَيْهِ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ أَنْ لَا يُبَارِزَ، فَقَالَ:
وَاللَّهِ مَا أَجِدُنِي أَصْبِرُ، فَلَمَّا اخْتَلَطَتِ السُّيُوفُ
وُجِدَ مَقْتُولًا.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: عَاشَ ثَلَاثِينَ سَنَةً، وَلَا نَعْلَمُهُ رَوَى
عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ مِمَّنْ ثَبَتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ حُنَيْنٍ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: قُتِلَ يَوْمَ أَجْنَادِينَ: الْحَارِثُ بْنُ
أَوْسِ بْنِ عَتِيكٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ بن أَبِي طلحة
الْعَبْدَرِيُّ، كَذَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَقْعَةُ مَرْجِ الصُّفَّرِ 2:
قال خليفة: كانت لاثنتي عشر بَقِيَتْ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى،
وَالْأَمِيرُ خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَعَلَى الْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ قَلْقَطٌّ،
وَقُتِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً وَانْهَزَمُوا.
وَرَوَى خَلِيفَةُ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ:
اسْتُشْهِدَ يَوْمَ مَرْجِ الصُّفَّرِ خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ
الْعَاصِ، وَيُقَالُ أَخُوهُ عَمْرٌو قُتِلَ أَيْضًا، وَالْفَضْلُ بْنُ
الْعَبَّاسِ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَأَبَانُ بْنُ سَعِيدٍ
يَوْمَئِذٍ بِخُلْفٍ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: قُتِلَ يَوْمَئِذٍ نُمَيْلَةُ بْنُ عُثْمَانَ
اللَّيْثِيُّ، وَسَعْدُ بْنُ سَلَامَةَ الْأَشْهَلِيُّ، وَسَالِمُ بْنُ
أسلم الأشهلي.
__________
1 البطريق: القائد.
2 مرج الصفر: موضع قرب دمشق.
(3/41)
وَقِيلَ: إِنَّ وَقْعَةَ مَرْجِ الصُّفَّرِ
كَانَتْ فِي أَوَّلِ سَنَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: الْتَقَوْا عَلَى النَّهْرِ
عِنْدَ الطَّاحُونَةِ، فَقُتِلَتِ الرُّومُ يَوْمَئِذٍ حَتَّى جَرَى
النهر وطحنتا طَاحُونَتُهَا بِدِمَائِهِمْ فَأُنْزِلَ النَّصْرُ،
وَقَتَلَتْ يَوْمَئِذٍ أُمُّ حَكِيمٍ سَبْعَةً مِنَ الرُّومِ بِعَمُودِ
فُسْطَاطِهَا، وَكَانَتْ تَحْتَ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ، ثُمَّ
تَزَوَّجَهَا خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ شُعَيْبٍ: فَلَمْ تُقِمْ مَعَهُ إِلَّا سَبْعَةَ
أَيَّامٍ عِنْدَ قَنْطَرَةِ أُمِّ حَكِيمٍ بِالصُّفَّرِ، وَهِيَ بِنْتُ
الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ الْمَخْزُومِيِّ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فِيمَا
قِيلَ عَمْرٌو.
وَقْعَةُ فِحْلٍ 1:
قَالَ ابْنُ لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة قال: كَانَتْ وَقْعَةُ
فِحْلٍ فِي ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: شَهِدْنَا أَجْنَادَيْنَ
وَنَحْنُ يَوْمَئِذٍ عِشْرُونَ أَلْفًا، وَعَلَيْنَا عَمْرُو بْنُ
الْعَاصِ، فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ، فَفَاءَتْ فِئَةٌ إِلَى فِحْلٍ فِي
خِلَافَةِ عُمَرَ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ عَمْرٌو فِي الْجَيْشِ
فَنَفَاهُمْ عَنْ فِحْلٍ.
__________
1 فحل: موضع بالشام.
(3/42)
|