تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ الطبري

امر إسرائيل بعد سليمان بن داود ع
رجع الحديث الى الخبر عن امر بنى إسرائيل بعد سليمان بن داود ع.
ثم ملك بعد سليمان بن داود على جميع بني إسرائيل ابنه رحبعم بن سليمان، وكان ملكه- فيما قيل- سبع عشرة سنة ثم افترقت ممالك بني إسرائيل فيما ذكر بعد رحبعم، فكان أبيا بن رحبعم ملك سبط يهوذا وبنيامين، دون سائر الأسباط، وذلك أن سائر الأسباط ملكوا عليهم يوربعم بن نابط، عبد سليمان، لسبب القربان الذي كانت زوجة سليمان قربته في داره، وكانت قربت فيها جرادة لصنم، فتوعده الله بإزالة بعض الملك عن ولده، فكان ملك رحبعم إلى أن توفي- فيما ذكر- ثلاث سنين.
ثم ملك أسا بن أبيا أمر السبطين اللذين كان أبوه يملك أمرهما- وهما سبط يهوذا وسبط بنيامين- إلى أن توفي، إحدى وأربعين سنة
. ذكر خبر أسا بن أبيا وزرح الهندي
حَدَّثَنِي مُحَمَّد بن سهل بن عسكر، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل، أنه سمع وهب بن منبه يقول: إن ملكا من ملوك بنى إسرائيل يقال له أسا بن أبيا، كان رجلا صالحا، وكان أعرج، وكان ملك من ملوك الهند يقال له زرح، وكان ملكا جبارا فاسقا يدعو الناس

(1/517)


إلى عبادته، وكان أبيا عابد أصنام، له صنمان يعبدهما من دون الله، ويدعو الناس إلى عبادتهما، حتى أضل عامة بني إسرائيل، وكان يعبد الأصنام حتى توفي ثم ملك ابنه أسا من بعده، فلما ملكهم بعث فيهم مناديا ينادي:
ألا إن الكفر قد مات وأهله، وعاش الإيمان وأهله، وانتكست الأصنام وعبادتها، وظهرت طاعة الله وأعمالها، فليس كافر من بني إسرائيل يطلع رأسه بعد اليوم بكفر في ولايتي ودهري، إلا أني قاتله فإن الطوفان لم يغرق الدنيا وأهلها، ولم يخسف بالقرى، ولم تمطر الحجارة والنار من السماء إلا بترك طاعة الله، وإظهار معصيته، فمن أجل ذلك ينبغي لنا ألا نقر لله معصية يعمل بها، ولا نترك طاعة لله إلا أظهرناها جهدنا، حتى نطهر الأرض من نجسها، وننقيها من دنسها، ونجاهد من خالفنا في ذلك بالحرب والنفي من بلادنا.
فلما سمع ذلك قومه ضجوا وكرهوا، فأتوا أم أسا الملك فشكوا إليها فعل ابنها بهم وبآلهتهم، ودعاءه إياهم إلى مفارقة دينهم، والدخول في عبادة ربهم، فتحملت لهم أمه أن تكلمه وتصرفه إلى عبادة أصنام والده، فبينا الملك قاعد وعنده أشراف قومه ورءوسهم وذوو طاعتهم، إذ اقبلت أم الملك فقام لها الملك من مجلسه، وأمرها أن تجلس فيه، معرفة بحقها، وتوقيرا لها فأبت عليه وقالت:
لست ابني إن لم تجبني إلى ما أدعوك إليه، وتضع طاعتك في يدي حتى تفعل ما آمرك به، وتجيبني إلى أمر، إن أطعتني فيه رشدت وأخذت بحظك، وإن عصيتني فحظك بخست، ونفسك ظلمت إنه بلغني يا بني أنك بدأت قومك بالعظيم، دعوتهم إلى مخالفة دينهم، والكفر بآلهتهم، والتحول عما كان عليه آباؤهم، وأحدثت فيهم سنة، وأظهرت فيهم بدعة، أردت بذلك- فيما زعمت- تعظيما لوقارك، ومعرفة بمكانك، وتشديدا لسلطانك، وفي التقصير يا بني دخلت، وبالشين أخذت ودعوت جميع الناس إلى حربك، وانتدبت لقتالهم وحدك، أردت بذلك أن تعيد الأحرار لك عبيدا، والضعيف

(1/518)


لك شديدا، سفهت بذلك رأي العلماء، وخالفت الحكماء، واتبعت رأي السفهاء ولعمري ما حملك على ذلك يا بني إلا كثرة طيشك، وحداثة سنك، وقلة علمك، فإن أنت رددت علي كلامي، ولم تعرف حقي، فلست من نسل والدك، ولا ينبغي الملك لمثلك يا بني بأي شيء تدل على قومك؟
لعلك أوتيت من الحروف مثل ما اتى موسى إلى فرعون، أن غرقه وأنجى قومه من الظلمة أو لعلك أوتيت من القوة ما أوتي داود، أن قتل الأسد لقومه، ولحق الذئب فشق شدقه، وقتل جالوت الجبار وحده أو لعلك أوتيت من الملك والحكمة أفضل مما أوتي سليمان بن داود رأس الحكماء، إذ صارت حكمته مثلا للباقين بعده! يا بني إنه ما يأتك من حسنة فأنا أحظى الناس بها، وإن تكن الأخرى فأنا أشقاهم بشقوتك.
فلما سمعها الملك اشتد غضبه، وضاق صدره، فقال لها: يا أمه! إنه لا ينبغي أن آكل على مائدة واحدة مع حبيبي وعدوي، كذلك لا ينبغي أن أعبد غير ربي هلمي إلى أمر إن أطعتني فيه رشدت، وإن تركته غويت، أن تعبدي الله وتكفري بكل آلهة دونه، فإنه ليس أحد يرد هذا علي إلا هو لله عدو، وأنا ناصره لأني عبده.
قالت له: ما كنت لأفارق أصنامي، ولا دين آبائي وقومي ولا أترك ذلك لقولك، ولا أعبد الرب الذي تدعوني إليه.
فقال لها الملك: حينئذ يا أمه، إن قولك هذا قد قطع فيما بيني وبينك رحمي.
وأمر بها الملك عند ذلك فأخرجوها وغربوها، ثم أوصى إلى صاحب شرطته وبابه أن يقتلها إن هي ألمت بمكانه.
فلما سمع ذلك منه الأسباط الذين كانوا حوله وقعت في قلوبهم المهابة،

(1/519)


فأذعنوا له بالطاعة، وانقطعت فيما بينهم وبينه كل حيلة، وقالوا: قد فعل هذا بأمه، فأين نقع نحن منه إذا خالفنا في أمره، ولم نجبه إلى دينه! فاحتالوا له كل حيلة، فحفظه الله وأباد مكرهم فلما لم يكن لهم عن ذلك صبر، ولا على فراق دينهم قوام، ائتمروا بأن يهربوا من بلاده، ويسكنوا بلادا غيرها، فخرجوا متوجهين الى زرح ملك الهند يطلبون أن يستحملوه على أسا ومن اتبعه، فلما دخلوا على زرح سجدوا له، فقال لهم: من أنتم؟ قَالُوا: نحن عبيدك، قَالَ: وأي عبيدي أنتم؟ قَالُوا: نحن من أرضك أرض الشام، وأنا كنا نعتز بملك، حتى ظهر فينا ملك صبي حديث السن سفيه، فغير ديننا، وسفه رأينا، وكفر آباءنا، وهان عليه سخطنا، فأتيناك لنعلمك ذلك، فتكون أنت أولى بملكنا، ونحن رءوسهم، وهي أرض كثير مالها، ضعيف أهلها، طيبة معيشتها، كثيرة أنضارها، وفيهم الكنوز وملك ثلاثين ملكا، وهم الذين كان يوشع بن نون خليفة موسى سار بهم في البحر هو وقومه، فنحن وأرضنا لك، وبلادنا بلادك، وليس أحد فيها يناصبك، هم دافعون أيديهم إليك بغير قتال، بأموالهم وانفسهم مسالمه.
قال: لهم زرح: لعمري، ما كنت لأجيبكم إلى ما دعوتموني إليه، ولا أستجيب إلى مقاتلة قوم لعلهم أطوع لي منكم، حتى أبعث إليهم من قومي أمناء، فإن وقع الأمر على ما تكلمتم به قدامي نفعكم ذلك عندي، وجعلتكم عليها ملوكا، وإن كان كلامكم كذبا فإني منزل بكم العقوبة التي تنبغي لمن كذبني.
قَالَ القوم: تكلمت بالعدل، وحكمت بالقسط، ونحن به راضون.
فأمر عند ذلك بالأرزاق فأجريت عليهم، واختار من قومه أمناء ليبعثهم جواسيس، فأوصاهم بوصيته، وخوفهم وحذرهم بطشه إن هم كذبوه،

(1/520)


ووعدهم المعروف ان هم صدقوه وقال زرح: إني مرسلكم لأمانتكم، وشحكم على دينكم، وحسن رأيكم في قومكم، لتطالعوا لي أرضا من أرضي، وتبحثوا لي عن شأنها، وتعلموني علم أهلها وملكها وجنودها وعددها وعدد مياهها، وفجاجها وطرقها، ومداخلها ومخارجها، وسهولتها وصعوبتها، حتى كأني شاهد ذلك وعالمه، وحاضر ذلك وخابره وخذوا معكم من الخزائن من الياقوت والمرجان والكسوة ما يفرغون إليه إذا رأوه، ويشترون منكم إذا نظروا إليه.
فأمكنهم من خزائنه حتى أخذوا منها، فجهزهم لبرهم وبحرهم، ووصف لهم القوم الذين أتوهم الطرق، ودلوهم على مقاصدها، فساروا كالتجار، حتى نزلوا ساحل البحر، ثم ركبوا منه حتى ارسوا على ساحل إيلياء، ثم ساروا حتى دخلوها، فخلفوا أثقالهم فيها، وأظهروا أمتعتهم وبضاعتهم، ودعوا الناس إلى أن يشتروا منهم، فلم يفرغوا لبضاعتهم، وكسدت تجارتهم، فجعلوا يعطون بالشيء القليل الشيء الكثير، لكيلا يخرجوهم من قريتهم، حتى يعلموا أخبارهم، ويحقوا شأنهم ويستخرجوا ما أمرهم به ملكهم من أخبارهم.
وكان أسا الملك قد تقدم إلى نساء بني إسرائيل ألا يقدر على امرأة لا زوج لها بهيئة امرأة لها زوج إلا قتلها أو نفاها من بلاده إلى جزائر البحار، فإن إبليس لم يدخل على أهل الدين في دينهم بمكيدة هي أشد من النساء، فكانت المرأة التي لا زوج لها لا تخرج إلا منتقبة في رثة الثياب لئلا تعرف، فلما بذل هؤلاء الأمناء بضاعتهم ما ثمنه مائة درهم بدرهم، جعل نساء بني إسرائيل يشترين خفية بالليل سرا، لا يعلم بهن أحد من أهل دينهن، حتى أنفقوا بضاعتهم واشتروا بها حاجتهم، واستوعبوا خبر مدينتهم وحصونهم، وعدد مياههم، وكانوا قد كتموا رءوس بضاعتهم ومحاسنها من اللؤلؤ والمرجان والياقوت هدية للملك، وجعل الأمناء يسألون من رأوا من أهل القرية عن خبر الملك

(1/521)


وشأنه إذ لم يشتر منهم شيئا، وقالوا: ما شأن الملك لا يشتري منا شيئا! ان كان غنيا فان عندنا من طرائف البضاعات فنعطيه ما شاء مما لم يدخل مثله في خزائنه، وإن كان محتاجا فما يمنعه أن يشهدنا فنعطيه ما شاء بغير ثمن! قَالَ لهم من حضرهم من أهل القرية: ان له من الغنى والخزائن وفنون المتاع ما لم يقدر على مثله، إنه استفرغ الخزائن التي كان موسى سار بها من مصر، والحلي الذي كان بنو إسرائيل أخذوا، وما جمع يوشع بن نون خليفة موسى، وما جمع سليمان رأس الحكماء والملوك، من الغنى الكثير والآنية التي لا يقدر على مثلها قَالَ الأمناء: فما قتاله؟ وبأي شيء عظمته؟ وما جنوده؟ أرأيتم لو أن ملكا انحرف عليه ففتق ملكه ما كان إذا قتاله إياه؟ وما عدته وعدد جنوده؟ أم بأي الخيل والفرسان غلبته؟ أم من أجل كثرة جمعه وخزائنه وقعت في قلوب الرجال هيبته! فأجابهم القوم وقالوا: إن أسا الملك قليلة عدته، ضعيفة قوته، غير أن له صديقا لو دعاه واستعان به على أن يزيل الجبال أزالها، فإذا كان معه صديقه فليس شيء من الخلق يطيقه.
قَالَ لهم الأمناء: ومن صديق أسا؟ وكم عدد جنوده؟ وكيف مواجهته وقتاله؟ وكم عدد عساكره ومراكبه؟ وأين قراره ومسكنه؟
فأجابهم القوم: أما مسكنه ففوق السموات العلا، مستو على عرشه، لا يحصى عدد جنوده، وكل شيء من الخلق له عبد، لو أمر البحر لطم على البر، ولو أمر الأنهار لغارت في عنصرها، لا يرى ولا يعرف قراره، وهو صديق أسا وناصره

(1/522)


فجعل الأمناء يكتبون كل شيء أخبروا به من أمر أسا وقضية أمره، فدخل بعض هؤلاء الأمناء عليه فقالوا: يا ايها الملك، إن معنا هدية نريد أن نهديها لك من طرائف بلادنا، أو تشتري منا فنرخصه عليك.
قَالَ لهم: ائتوني بذلك حتى أنظر إليه، فلما أتوه به قَالَ لهم: هل يبقى هذا لأهله ويبقون له؟ قَالُوا: بل يفنى هذا ويفنى أهله قَالَ لهم أسا:
لا حاجة لي فيه، إنما طلبتي ما تبقى بهجته لأهله، لا تزول ولا يزولون عنه.
فخرجوا من عنده، ورد عليهم هديتهم، فساروا من بيت المقدس متوجهين إلى زرح الهندي ملكهم فلما أتوه نشروا له كتاب خبرهم وأنبئوه بما انتهى إليهم من أمر ملكهم، وأخبروه بصديق اسا فلما سمع زرح كلامهم استحلفهم بعزته، وبالشمس والقمر اللذين يعبدونهما ولهما يصلون ألا يكتموه من خبر ما رأوا في بني إسرائيل شيئا فصدقوه.
فلما فرغوا من خبرهم وخبر أسا ملكهم وصديقه، قال لهم زرح: إن بني إسرائيل لما علموا أنكم جواسيس، وأنكم قد اطلعتم على عوراتهم ذكروا لكم صديق أسا وهم كاذبون، أرادوا بذلك ترهيبكم إن صديق أسا لا يطيق أن يأتي بأكثر من جندي، ولا بأكمل من عدتي، ولا بأقسى قلوبا ولا أجرأ على القتال من قومي، إن لقيني بألف لقيته بأكثر من ذلك.
ثم عمد زرح عند ذلك فكتب إلى كل من في طاعته أن يجهزوا من كل مخلاف جندا بعدتهم حتى استمد يأجوج ومأجوج والترك وفارس مع

(1/523)


من سواهم من الأمم ممن جرت عليه لزرح طاعه، كتب:
من زرح الجبار الهندي ملك الأرضين، إلى من بلغته كتبي: أما بعد فإن لي أرضا قد دنا حصادها وأينع ثمرها، وأردت أن تبعثوا إلي بعمال أغنمهم ما حصدوا منها، وهم قوم قصوا عني، وغلبوا على أطراف من أرضي وقهروا من تحت أيديهم من رقيقي، وقد منحتهم من نهض إليهم معي، فإن قصرت بكم قوة فعندي قوتكم، فإنه لا تتعطل خزائني.
فاجتمعوا إليه من كل ناحية، وأمدوه بالخيل والفرسان والرجالة والعدة، فلما اجتمعوا عنده أمكنهم من السلاح والجهاز من خزائنه، ثم أمر بإحصاء عددهم وتعبيتهم، فبلغ عددهم الف الف ومائه الف سوى اهل بلادهم.
وأمر بمائة مركب، فقرن له البغال، كل أربعة أبغل جميعا عليها سرير وقبة، وفي كل قبة منها جارية، ومع كل مركب عشرة من الخدم، وخمسة أفيال من فيلته، فبلغ في كل عسكر من عساكره مائة ألف، وجعل خاصته الذين يركبون معه مائة من رءوسهم، وجعل في كل عسكر عرفاء، وخطبهم وحرضهم على القتال، فلما نظر إليهم وسار فيهم تعزز وتعظم شأنه في قلوب من حضره، ثم قال زرح: أين صديق أسا؟ هل يستطيع أن يعصمه مني؟ أو من يطيق غلبتي؟ فلو أن أسا وصديقه ينظران إلي وإلى جندي ما اجترءا على قتالي، لأن عندي بكل واحد من جنده ألفا من جنودي، ليدخلن أسا أرضي أسيرا، ولأقدمن بقومه سبيا في جنودي.
فجعل زرح ينتقص اسا ويقول فيه ما لا ينبغى، فبلغ اسا صنيع زرح وجمعه عليه، فدعا ربه فقال: اللهم أنت الذي بقوتك خلقت السموات والأرض ومن فيهن حتى صار جميع ذلك في قبضتك، أنت ذو الاناه

(1/524)


الرفيقة والغضب الشديد، أسألك ألا تذكرنا بخطايانا فيما بيننا وبينك، ولا تعمدنا ولا تجزينا على معصيتك، ولكن تذكرنا برحمتك التي جعلتها للخلائق، فانظر إلى ضعفنا وقوة عدونا، وانظر إلى قلتنا وكثرة عدونا، وانظر إلى ما نحن فيه من الضيق والغم، وانظر إلى ما فيه عدونا من الفرح والراحة، فغرق زرحا وجنوده في اليم بالقدرة التي غرقت بها فرعون وجنوده، وأنجيت موسى وقومه وأسألك أن تحل على زرح وقومه عذابك بغتة! فأري أسا في المنام- والله أعلم- أني قد سمعت كلامك، ووصل الى جوارك، وانى على عرشي، وانى ان غرقت زرحا الهندي وقومه، لم يعلم بنو إسرائيل ولا من كان بحضرتهم كيف صنعت بهم، ولكن ساظهر في زرح وقومه لك ولمن اتبعك قدرة من قدرتي، حتى اكفيك مؤنتهم، وأهب لك غنيمتهم، وأضع في أيديكم عساكرهم، حتى يعلم أعداؤك أن صديق أسا لا يطاق وليه، ولا يهزم جنده، ولا يخيب مطيعه، فأنا أتمهل له حتى يفرغ من حاجته، ثم أسوقه إليك عبدا، وعساكره لك ولقومك خولا.
فسار زرح ومن معه حتى حلوا على ساحل ترشيش، فلم يكن إلا محلة يوم حتى دفنوا أنهارها، ومحوا مروجها، حتى كان الطير ينقصف عليهم، والوحش لا تستطيع الهرب منهم، فساروا حتى كانوا على مرحلتين من إيلياء، ففرق زرح عساكره منها الى إيلياء، وامتلأت منهم تلك الأرض: جبالها وسهولها، وامتلأت قلوب أهل الشام منهم رعبا، وعاينوا هلكتهم.
فسمع بهم أسا الملك، فبعث إليهم طليعة من قومه، وأمرهم أن يخبروه بعددهم وهيئتهم فسار القوم الذين بعثهم أسا حتى نظروا إليهم من رأس تل، ثم رجعوا إلى اسا فاخبروه انه لم تر عيون بني آدم، ولا سمعت آذانهم مثلهم ومثل أفيالهم وخيولهم وفرسانهم، وما ظننا أن في الناس مثلهم كثرة وعدة، فلت من إحصائهم عقولنا، وفلت من قتالهم حيلتنا، وانقطع فيما بيننا وبينهم رجاؤنا

(1/525)


فسمع بذلك أهل القرية فشقوا ثيابهم، وذروا التراب على رءوسهم، وعجوا بالعويل في أزقتهم وأسواقهم، وجعل بعضهم يودع بعضا ثم ساروا حتى أتوا الملك فقالوا: نحن خارجون بأجمعنا إلى هؤلاء القوم فدافعون إليهم أيدينا، لعلهم أن يرحمونا فيقرونا في بلادنا قَالَ لهم أسا الملك: معاذ الله أن نلقي بأيدينا في أيدي الكفرة، وأن نخلي بيت الله وكتابه للفجرة! قَالُوا: فاحتل لنا حيلة، واطلب إلى صديقك وربك الذي كنت تعدنا بنصره، وتدعونا إلى الإيمان به، فإن هو كشف عنا هذا البلاء، وإلا وضعنا أيدينا في أيدي عدونا لعلنا نتخلص بذلك من القتل.
قَالَ لهم أسا: إن ربي لا يطاق إلا بالتضرع والتبتل والاستكانة قَالُوا: فأبرز له لعله أن يجيبك فيرحم ضعفنا، فإن الصديق لا يسلم صديقه على مثل هذا فدخل اسا لمصلى، ووضع تاجه من راسه، وخلى ثيابه، ولبس المسوح وافترش الرماد، ثم مد يده يدعو ربه بقلب حزين، وتضرع كثير، ودموع سجال، وهو يقول: اللهم رب السموات السبع ورب العرش العظيم، إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، أنت المستخفي من خلقك حيث شئت، لا يدرك قرارك، ولا يطاق كنه عظمتك، أنت اليقظان الذي لا تنام، والجديد الذي لا تبليك الليالي والأيام، أسألك بالمسألة التي سألك بها إبراهيم خليلك فأطفأت بها عنه النار، وألحقته بها بالأبرار، وبالدعاء الذي دعاك به نجيك موسى فأنجيت بني إسرائيل من الظلمة، وأعتقتهم به من العبودية، وسيرتهم في البر والبحر، وغرقت فرعون ومن اتبعه وبالتضرع الذى تضرع لك عبدك داود فرفعته، ووهبت له من بعد الضعف القوة، ونصرته على جالوت الجبار، وهزمته وبالمسألة التي سألك بها سليمان نبيك فمنحته الحكمة، ووهبت له الرفعة، وملكته على كل دابة أنت محيي الموتى، ومفني الدنيا، وتبقى

(1/526)


وحدك خالدا لا تفنى، وجديدا لا تبلى أسألك يا إلهي أن ترحمني بإجابة دعوتي، فإني أعرج مسكين من أضعف عبادك، وأقلهم حيله، وقد حل بنا كرب عظيم، وحزب شديد، لا يطيق كشفه غيرك، ولا حول ولا قوة لنا إلا بك، فارحم ضعفنا بما شئت، فإنك ترحم من تشاء بما تشاء.
وجعل علماء بني إسرائيل يدعون الله خارجا وهم يقولون: اللهم أجب اليوم عبدك، فإنه قد اعتصم بك وحدك، ولا تخل بينه وبين عدوك، واذكر حبه إياك، وفراقه أمه وجميع الخلائق إلا من أطاعك.
فألقى الله على أسا النوم وهو في مصلاه ساجدا، ثم أتاه من الله آت- والله أعلم- فقال: يا أسا، إن الحبيب لا يسلم حبيبه، وإن الله عز وجل يقول:
إني قد ألقيت عليك محبتي، ووجب لك نصري، فأنا الذي أكفيك عدوك، فإنه لا يهون من توكل علي، ولا يضعف من تقوى بي كنت تذكرني في الرخاء، وأسلمك عند الشدائد، وكنت تدعوني آمنا، وأنا أسلمك خائفا، إن الله القوي يقول: أنا أقسم ان لو كايدتك السموات والأرض بمن فيهن لجعلت لك من جميع ذلك مخرجا، فأنا الذي أبعث طرفا من زبانيتي يقتلون أعدائي، فإني معك، ولن يخلص إليك ولا إلى من معك أحد.
فخرج أسا من مصلاه وهو يحمد الله، مسفرا وجهه، فأخبرهم بما قيل له، فأما المؤمنون فصدقوه، وأما المنافقون فكذبوه، وقال بعضهم لبعض:
إن أسا دخل أعرج وخرج أعرج، ولو كان صادقا أن الله قد أجابه إذا لأصلح رجله، ولكن يغرنا ويمنينا، حتى تقع الحرب فينا فيهلكنا! فبينا الملك يخبرهم عن صنع الله بهم إذ قدم رسل من زرح فدخلوا إيلياء ومعهم كتب من زرح إلى أسا، فيها شتم له ولقومه، وتكذيب بالله،

(1/527)


وكتب فيها: أن ادع صديقك الذي أضللت به قومك فليبارزني بجنوده، وليظهر لي مع ما أني أعلم أنه لن يطيقني هو ولا غيره، لانى انا زرح الهندي الملك.
فلما قرأ أسا الكتب التي قدم بها عليه هملت عيناه بالبكاء، ثم دخل مصلاه، ونشر تلك الكتب بين يدي الله، ثم قَالَ: اللهم ليس لي شيء من الأشياء أحب إلي من لقائك، غير أني أتخوف أن يطفأ هذا النور الذي أظهرته في أيامي هذه، وقد حضرت هذه الصحائف وعلمت ما فيها، ولو كنت المراد بها كان ذلك يسيرا، غير أن عبدك زرحا بكايدك ويتناولك، فخر بغير فخر، وتكلم بغير صدق، وأنت حاضر ذلك وشاهده.
فأوحى الله إلى أسا- والله أعلم- أنه لا تبديل لكلماتي، ولا خلف لموعدي، ولا تحويل لأمري، فأخرج من مصلاك، ثم مر خيلك أن تجتمع، ثم اخرج بهم وبمن اتبعك حتى تقفوا على نشز من الأرض.
فخرج أسا فأخبرهم بما قيل له، فخرج اثنا عشر رجلا من رؤسائهم، مع كل رجل منهم رهط من قومه، فلما أن خرجوا، ودعوا أهاليهم بألا يرجعوا الى الدنيا فوقفوا لزرح على رابيه من الارض فابصروا منها زرحا وقومه، فلما ابصرهم زرح نفض رأسه ليسخر منهم، وقال: إنما نهضت من بلادي، وأنفقت أموالي لمثل هؤلاء! ودعا عند ذلك بالنفر الذين كانوا نعتوا عنده أسا وقومه، فقال: كذبتموني وزعمتم أن قومكم كثير عددهم! فأمر بهم وبالأمناء الذين كان بعثهم ليخبروه خبرهم، فقتلوا جميعا، وأسا في ذلك كثير تضرعه، معتصم بربه، فقال زرح: ما أدري ما أفعل

(1/528)


بهؤلاء القوم؟ وما أدري ما قدر قلتهم في كثرتنا؟ إني لأستقلهم عن المحاربة، وأرى الا اقاتلهم.
فأرسل زرح إلى أسا فقال له: أين صديقك الذي كنت تعدنا به، وتزعم أنه يخلصك مما يحل بكم من سطواتي! أفتضعون أيديكم في يدي فأمضي فيكم حكمي، أو تلتمسون قتالي! فأجابه أسا فقال: يا شقي، إنك لست تعلم ما تقول، ولست تدري! أتريد أن تغالب ربك بضعفك، أم تريد أن تكاثره بقلتك؟ هو أعز شيء وأعظمه، وأغلب شيء وأقهره، وعباده أذل وأضعف عنده من أن ينظروا إليه معاينة هو معي في موقفي هذا، ولن يغلب أحد كان الله معه.
فاجتهد يا شقي بجهدك حتى تعلم ماذا يحل بك.
فلما اصطف قوم زرح وأخذوا مراتبهم، امر زرح الرماة من قومه أن يرموهم بنشابهم فبعث الله ملائكة من كل سماء- والله أعلم- عونا لأسا وقومه، ومادة له، فوقفهم أسا في مواقفهم، فلما رموا نشابهم، حال المشركون بين ضوء الشمس وبين الأرض، كأنها سحابة طلعت فنحتها الملائكة عن أسا وقومه، ثم رمت بها الملائكة قوم زرح فأصابت كل رجل منهم نشابته التي رمى بها، فقتل رماتهم بها كلها وأسا وقومه في كل ذلك يحمدون الله كثيرا، ويعجون إليه بالتسبيح، وتراءت الملائكة لهم- والله أعلم- فلما رآهم الشقي زرح وقع الرعب في قلبه، وسقط في يده، وقال: إن أسا لعظيم كيده، ماض سحره، وكذلك بنو إسرائيل، حيث كانوا لا يغلب سحرهم ساحر، ولا يطيق مكرهم عالم، وإنما تعلموه من مصر، وبه ساروا في البحر، ثم نادى الهندي في قومه: أن سلوا سيوفكم، ثم احملوا عليهم حملة واحدة.
فدقوهم.
فسلوا سيوفهم ثم حملوا على الملائكة فقتلتهم الملائكة، فلم يبق منهم غير زرح ونسائه ورقيقه

(1/529)


فلما راى ذلك زرح ولى مدبرا فارا هو ومن معه، وهو يقول: إن أسا ظهر علانية، وأهلكني صديقه سرا، وإني كنت أنظر إلى أسا ومن معه واقفين لا يقاتلون والحرب واقعة في قومى فلما راى اسا ان زرحا قد ولى مدبرا قال: اللهم ان زرحا قد ولى مدبرا، وانك ان لم تحل بيني وبينه استنفر علينا قومه ثانية فأوحى الله إلى أسا: إنك لم تقتل من قتل منهم ولكني قتلتهم، فقف مكانك، فإني لو خليت بينك وبينهم أهلكوكم جميعا، إنما يتقلب زرح في قبضتي، ولن ينصره أحد مني، وأنا لزرح بالمكان الذي لا يستطيع صدودا عنه ولا تحويلا، وإني قد وهبت لك ولقومك عساكره وما فيها من فضة ومتاع ودابة، فهذا اجرك إذ اعتصمت بي، ولا ألتمس منك أجرا على نصرتك! فسار زرح حتى أتى البحر يريد بذلك الهرب، ومعه مائة ألف، فهيئوا سفنهم ثم ركبوا فيها، فلما ساروا في البحر بعث الله الرياح من أطراف الأرضين والبحار إلى ذلك البحر واضطربت من كل ناحية أمواجه، وضربت السفن بعضها بعضا حتى تكسرت، فغرق زرح ومن كان معه، واضطربت بهم الأمواج حتى فزع لذلك أهل القرى حولهم، ورجفت الأرض، فبعث أسا من يعلمه علم ذلك، فأوحى الله إليه- والله أعلم- أن اهبط أنت وقومك أهل قراكم، فخذوا ما غنمكم الله بقوة، وكونوا فيه من الشاكرين، فإني قد سوغت كل من أخذ من هذه العساكر شيئا ما أخذه فهبطوا يحمدون الله ويقدسونه، فنقلوا تلك العساكر إلى قراهم ثلاثة أشهر والله أعلم.
ثم ملك بعده يهوشافاظ بن أسا إلى أن هلك خمسا وعشرين سنة

(1/530)


ثم ملكت عتليا وتسمى غزليا ابنة عمرم أم أخزيا، وكانت قتلت أولاد ملوك بني إسرائيل، فلم يبق منهم إلا يواش بن أخزيا، فإنه ستر عنها، ثم قتلها يواش وأصحابه، وكان ملكها سبع سنين.
ثم ملك يواش بن أخزيا إلى أن قتله أصحابه، وهو الذي قتل جدته، فكان ملكه أربعين سنة.
ثم ملك أموصيا بن يواش إلى أن قتله أصحابه تسعا وعشرين سنة، ثم ملك عوزيا بن أموصيا- وقد يقال لعوزيا: غوزيا- إلى أن توفي، اثنتين وخمسين سنة.
ثم ملك يوتام بن عوزيا إلى أن توفي، ست عشرة سنة.
ثم ملك أحاز بن يوتام إلى أن توفي، ست عشرة سنة.
ثم ملك حزقيا بن أحاز إلى أن توفي وقيل إنه صاحب شعيا الذي أعلمه شعيا انقضاء عمره، فتضرع إلى ربه فزاده وأمهله، وأمر شعيا بإعلامه ذلك.
وأما مُحَمَّد بن إسحاق فإنه قَالَ: صاحب شعيا الذي هذه القصة قصته اسمه صديقة

(1/531)