تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ
الطبري
ذكر خبر لهراسب وابنه بشتاسب وغزو بختنصر
بني إسرائيل وتخريبه بيت المقدس
ثم ملك بعد كيخسرو من الفرس لهراسب بن كيوجي بن كيمنوش بن كيفاشين،
باختيار كيخسرو إياه، فلما عقد التاج على رأسه قَالَ: نحن مؤثرون البر
على غيره واتخذ سريرا من ذهب مكللا بأنواع الجواهر للجلوس عليه، وأمر
فبنيت له بأرض خراسان مدينة بلخ، وسماها الحسناء، ودون الدواوين، وقوى
ملكه بانتخابه لنفسه الجنود، وعمر الأرض واجتبى الخراج لأرزاق الجنود،
ووجه بختنصر، وكان اسمه بالفارسية- فيما قيل- بخترشه.
فحدثت عن هشام بن مُحَمَّد قَالَ: ملك لهراسب- وهو ابن أخي قبوس- فبنى
مدينة بلخ، فاشتدت شوكة الترك في زمانه، وكان منزله ببلخ يقاتل الترك
قَالَ: وكان بختنصر في زمانه، وكان أصبهبذ ما بين الأهواز إلى أرض
الروم من غربي دجلة، فشخص حتى أتى دمشق، فصالحه أهلها ووجه قائدا له،
فأتى بيت المقدس فصالح ملك بني إسرائيل، وهو رجل من ولد داود، وأخذ منه
رهائن وانصرف فلما بلغ طبرية وثبت بنو إسرائيل على ملكهم فقتلوه،
وقالوا: راهنت أهل بابل وخذلتنا! واستعدوا للقتال، فكتب قائد بختنصر
إليه بما كان، فكتب إليه يأمره أن يقيم بموضعه حتى يوافيه، وأن يضرب
أعناق الرهائن الذين معه، فسار بختنصر حتى أتى بيت المقدس، فأخذ
المدينة عنوة، فقتل المقاتلة، وسبى الذرية.
قَالَ: وبلغنا أنه وجد في سجن بني إسرائيل إرميا النبي، وكان الله
تعالى بعثه نبيا- فيما بلغنا- إلى بني إسرائيل يحذرهم ما حل بهم من
بختنصر،
(1/538)
ويعلمهم أن الله مسلط عليهم من يقتل
مقاتلتهم، ويسبي ذراريهم، إن لم يتوبوا وينزعوا عن سيئ أعمالهم فقال له
بختنصر: ما خطبك؟ فأخبره أن الله بعثه إلى قومه ليحذرهم الذي حل بهم،
فكذبوه وحبسوه فقال بختنصر:
بئس القوم قوم عصوا رسول ربهم! وخلى سبيله، وأحسن إليه فاجتمع إليه من
بقي من ضعفاء بني إسرائيل، فقالوا: إنا قد أسأنا وظلمنا، ونحن نتوب إلى
الله مما صنعنا، فادع الله أن يقبل توبتنا فدعا ربه فأوحى إليه أنهم
غير فاعلين، فإن كانوا صادقين فليقيموا معك بهذه البلدة، فأخبرهم بما
أمرهم الله به، فقالوا: كيف نقيم ببلدة قد خربت وغضب الله على أهلها!
فأبوا أن يقيموا، فكتب بختنصر إلى ملك مصر: إن عبيدا لي هربوا مني
إليك، فسرحهم إلي، وإلا غزوتك وأوطأت بلادك الخيل فكتب إليه ملك مصر:
ما هم بعبيدك، ولكنهم الأحرار أبناء الأحرار، فغزاه بختنصر فقتله، وسبى
أهل مصر، ثم سار في أرض المغرب، حتى بلغ أقصى تلك الناحية، ثم انطلق
بسبي كثير من أهل فلسطين والأردن، فيهم دانيال وغيره من الأنبياء.
قَالَ: وفي ذلك الزمان تفرقت بنو إسرائيل، ونزل بعضهم أرض الحجاز بيثرب
ووادي القرى، وغيرها.
قَالَ: ثم أوحى الله إلى إرميا- فيما بلغنا: إني عامر بيت المقدس فاخرج
إليها، فانزلها فخرج إليها حتى قدمها وهي خراب، فقال في نفسه: سبحان
الله! أمرني الله أن أنزل هذه البلدة، وأخبرني أنه عامرها، فمتى يعمر
هذه، ومتى يحييها الله بعد موتها! ثم وضع رأسه فنام ومعه حماره وسلة
فيها طعام، فمكث في نومه سبعين سنة، حتى هلك بختنصر والملك الذي فوقه،
(1/539)
وهو لهراسب الملك الأعظم وكان ملك لهراسب
مائة وعشرين سنة وملك بعده بشتاسب ابنه، فبلغه عن بلاد الشام أنها
خراب، وأن السباع قد كثرت في أرض فلسطين، فلم يبق بها من الإنس أحد،
فنادى في أرض بابل في بني إسرائيل: إن من شاء أن يرجع إلى الشام فليرجع
وملك عليهم رجلا من آل داود، وأمره أن يعمر بيت المقدس ويبني مسجدها،
فرجعوا فعمروها، وفتح الله لإرميا عينيه، فنظر إلى المدينة كيف تعمر
وتبنى، ومكث في نومه ذلك، حتى تمت له مائة سنة، ثم بعثه الله وهو لا
يظن أنه نام أكثر من ساعة، وقد عهد المدينة خرابا يبابا، فلما نظر
إليها قَالَ: أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ على كل شيء قدير قَالَ: وأقام بنو
إسرائيل ببيت المقدس ورد إليهم أمرهم، وكثروا بها حتى غلبت عليهم الروم
في زمان ملوك الطوائف، فلم يكن لهم بعد ذلك جماعة.
قَالَ هشام: وفي زمان بشتاسب ظهر زرادشت، الذي تزعم المجوس انه نبيهم،
وكان زرادشت- فيما زعم قوم من علماء أهل الكتاب- من أهل فلسطين، خادما
لبعض تلامذة إرميا النبي خاصا به، أثيرا عنده، فخانه فكذب عليه، فدعا
الله عليه، فبرص فلحق ببلاد أذربيجان، فشرع بها دين المجوسية، ثم خرج
منها متوجها نحو بشتاسب، وهو ببلخ، فلما قدم عليه وشرح له دينه أعجبه
فقسر الناس على الدخول فيه، وقتل في ذلك من رعيته مقتلة عظيمة، ودانوا
به، فكان ملك بشتاسب مائة سنة واثنتي عشرة سنة.
وأما غيره من أهل الأخبار والعلم بأمور الأوائل فإنه ذكر أن كي لهراسب
(1/540)
كان محمودا في أهل مملكته، شديد القمع
للملوك المحيطة بايران شهر، شديد التفقد لأصحابه، بعيد الهمة كثير
الفكر في تشييد البنيان، وشق الأنهار، وعمارة البلاد، فكانت ملوك الروم
والمغرب والهند وغيرهم يحملون إليه في كل سنة وظيفة معروفة وإتاوة
معلومة، ويكاتبونه بالتعظيم ويقرون له أنه ملك الملوك هيبة له وحذرا.
قَالَ: ويقال: إن بختنصر حمل اليه من اوريشلم خزائن وأموالا، فلما أحس
بالضعف من قوته ملك ابنه بشتاسب، واعتزل الملك وفوضه إليه، وكان ملك
لهراسب- فيما ذكر- مائة سنة وعشرين سنة.
وزعم أن بختنصر هذا الذي غزا بني إسرائيل اسمه بخترشه، وأنه رجل من
العجم، من ولد جوذرز، وأنه عاش دهرا طويلا جاوزت مدته ثلاثمائة سنة،
وأنه كان في خدمة لهراسب الملك، أبي بشتاسب، وأن لهراسب وجهه إلى الشام
وبيت المقدس ليجلي عنها اليهود فسار إليها ثم انصرف، وأنه لم يزل من
بعد لهراسب في خدمة ابنه بشتاسب، ثم في خدمة بهمن من بعده، وأن بهمن
كان مقيما بمدينة بلخ- وهي التي كانت تسمى الحسناء- وأنه أمر بخترشه
بالتوجه إلى بيت المقدس ليجلي اليهود عنها، وأن السبب في ذلك وثوب صاحب
بيت المقدس على رسل كان بهمن وجههم إليه، وقتله بعضهم فلما ورد الخبر
على بهمن دعا بخترشه فملكه على بابل، وأمره بالمسير إليها، والنفوذ
منها إلى الشام وبيت المقدس، والقصد إلى اليهود حتى يقتل مقاتلتهم،
ويسبي ذراريهم، وبسط يده فيمن يختار من الأشراف والقواد، فاختار من أهل
بيت المملكة داريوش بن مهرى، من ولد ماذي بن يافث بن نوح، وكان ابن أخت
بخترشه واختار كيرش كيكوان من ولد غيلم بن سام،
(1/541)
وكان خازنا على بيت مال بهمن، وأخشويرش بن
كيرش بن جاماسب الملقب بالعالم، وبهرام بن كيرش بن بشتاسب فضم بهمن
إليه من أهله وخاصته هؤلاء الأربعة، وضم إليه من وجوه الأساورة
ورؤسائهم ثلاثمائة رجل، ومن الجند خمسين ألف رجل، وأذن له في أن يفرض
ما احتاج إليه، وفي إثباتهم ثم أقبل بهم حتى صار إلى بابل، فأقام بها
للتجهز والاستعداد سنة، والتفت إليه جماعة عظيمة، وكان فيمن سار إليه
رجل من ولد سنحاريب، الملك الذي كان غزا حزقيا بن أحاز الملك، الذي كان
بالشام وببيت المقدس من ولد سليمان بن داود صاحب شعيا، يقال له بختنصر
بن نبوزراذان بن سنحاريب، صاحب الموصل وناحيتها، بن داريوش بن عبيرى بن
تيرى بن روبا ابن راببا بن سلامون بن داود بن طامي بن هامل بن هرمان بن
فودي بن همول بن درمى بن قمائل بن صاما بن رغما بن نمرود بن كوش بن حام
بن نوح ع.
وكان مسيره إليه بسبب ما كان آتى حزقيا وبنو إسرائيل إلى جده سنحاريب
عند غزوه إياهم، وتوسل إليه بذلك، فقدمه في جماعة كثيرة، ثم اتبعه،
فلما توافت العساكر ببيت المقدس، نصر بخترشه على بني إسرائيل لما أراد
الله بهم من العقوبة، فسباهم، وهدم البيت وانصرف إلى بابل، ومعه يوياحن
بن يوياقيم ملك بني إسرائيل في ذلك الوقت، من ولد سليمان بعد أن ملك
متنيا عم يوحينا، وسماه صدقيا
(1/542)
فلما صار بختنصر ببابل خالفه صدقيا، فغزاه
بختنصر ثانية فظفر به، وأخرب المدينة والهيكل، وأوثق صدقيا، وحمله إلى
بابل بعد أن ذبح ولده، وسمل عينيه فمكث بنو إسرائيل ببابل إلى أن رجعوا
إلى بيت المقدس، فكان غلبة بختنصر- المسمى بخترشه- على بيت المقدس إلى
أن مات- في قول هذا الذي حكينا قوله- أربعين سنة.
ثم قام من بعده ابن يقال له او لمرودخ فملك الناحية ثلاثا وعشرين سنة،
ثم هلك وملك مكانه ابن يقال له بلتشصر بن او لمرودخ سنة، فلما ملك
بلتشصر خلط في أمره، فعزله بهمن وملك مكانه على بابل وما يتصل بها من
الشام وغيرها داريوش الماذوي، المنسوب إلى ماذي بن يافث بن نوح ع حين
صار إلى المشرق، فقتل بلتشصر، وملك بابل وناحية الشام ثلاث سنين ثم
عزله بهمن وولى مكانه كيرش الغيلمي، من ولد غيلم بن سام ابن نوح، الذي
كان نزع إلى جامر مع ماذي عند ما مضى جامر إلى المشرق.
فلما صار الأمر إلى كيرش كتب بهمن أن يرفق ببني إسرائيل، ويطلق لهم
النزول حيث أحبوا، والرجوع إلى أرضهم، وأن يولى عليهم من يختارونه،
فاختاروا دانيال النبي ع، فولي أمرهم، وكان ملك كيرش على بابل وما يتصل
بها ثلاث سنين، فصارت هذه السنون- من وقت غلبة بختنصر إلى انقضاء أمره
وأمر ولده وملك كيرش الغيلمي- معدودة من خراب بيت المقدس، منسوبة إلى
بختنصر، ومبلغها سبعون سنة.
ثم ملك بابل وناحيتها من قبل بهمن رجل من قرابته، يقال له اخشوارش ابن
كيرش بن جاماسب، الملقب بالعالم، من الأربعة الوجوه الذين اختارهم
بخترشه عند توجهه إلى الشام من قبل بهمن، وذلك أن أخشوارش انصرف إلى
بهمن من عند بختنصر محمودا، فولاه ذلك الوقت بابل وناحيتها، وكان السبب
في ولايته- فيما زعم- أن رجلا كان يتولى لبهمن ناحية السند والهند
(1/543)
يقال له كراردشير بن دشكال خالفه، ومعه من
الاتباع ستمائه ألف، فولى بهمن أخشويرش الناحية، وأمره بالمسير إلى
كراردشير، ففعل ذلك وحاربه، فقتله وقتل أكثر أصحابه، فتابع له بهمن
الزيادة في العمل، وجمع له طوائف من البلاد، فلزم السوس، وجمع الأشراف،
وأطعم الناس اللحم، وسقاهم الخمر، وملك بابل إلى ناحية الهند والحبشة
وما يلي البحر، وعقد لمائة وعشرين قائدا في يوم واحد الألوية، وصير تحت
يد كل قائد ألف رجل من أبطال الجند الذين يعدل الواحد منهم في الحرب
بمائة رجل، وأوطن بابل، وأكثر المقام بالسوس، وتزوج من سبي بني إسرائيل
امرأة يقال لها أشتر ابنة أبي جاويل، كان رباها ابن عم لها يقال له
مردخى، وكان أخاها من الرضاعة، لأن أم مردخى أرضعت أشتر، وكان السبب في
تزوجه إياها قتله امرأة كانت له جليلة جميلة خطيرة، يقال لها وشتا،
فأمرها بالبروز ليراها الناس، ليعرفوا جلالتها وجمالها، فامتنعت من ذلك
فقتلها، فلما قتلها جزع لقتلها جزعا شديدا، فأشير عليه باعتراض نساء
العالم، ففعل ذلك، وحببت إليه أشتر صنعا لبني إسرائيل، فتزعم النصارى
أنها ولدت له عند مسيره إلى بابل ابنا فسماه كيرش، وأن ملك أخشويرش كان
أربع عشرة سنة، وقد علمه مردخى، التوراة، ودخل في دين بني إسرائيل،
وفهم عن دانيال النبي ع ومن كان معه حينئذ، مثل حننيا وميشايل وعازريا،
فسألوه بأن يأذن لهم في الخروج إلى بيت المقدس فأبى وقال: لو كان معي
منكم ألف نبي ما فارقني منكم واحد ما دمت حيا وولى دانيال القضاء، وجعل
إليه جميع أمره، وأمره أن يخرج كل شيء في الخزائن مما كان بختنصر أخذه
من بيت المقدس ويرده، وتقدم في بناء بيت المقدس، فبني وعمر في أيام
(1/544)
كيرش بن أخشويرش وكان ملك كيرش، مما دخل في
ملك بهمن وخماني اثنتين وعشرين سنة.
ومات بهمن لثلاث عشرة سنة مضت من ملك كيرش، وكان موت كيرش لأربع سنين
مضين من ملك خماني، فكان جميع ملك كيرش بن أخشويرش اثنتين وعشرين سنة.
فهذا ما ذكر أهل السير والأخبار في أمر بختنصر وما كان من أمره وأمر
بني إسرائيل.
وأما السلف من أهل العلم فإنهم قَالُوا في أمرهم أقوالا مختلفة، فمن
ذلك ما حَدَّثَنِي القاسم بن الحسن، قَالَ: حدثنا الحسين، قال: حدثني
حجاج عن ابن جريج، قَالَ: حَدَّثَنِي يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير،
أنه سمعه يقول:
كان رجل من بني إسرائيل يقرأ، حتى إذا بلغ: بَعَثْنا عَلَيْكُمْ
عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ بكى، وفاضت عيناه، ثم أطبق المصحف،
فقال:
ذلك ما شاء الله من الزمان! ثم قَالَ: أي رب، أرني هذا الرجل الذي جعلت
هلاك بني إسرائيل على يديه فأري في المنام مسكينا ببابل يقال له
بختنصر، فانطلق بمال وأعبد له- وكان رجلا موسرا- فقيل له: أين تريد؟
فقال:
أريد التجارة، حتى نزل دارا ببابل فاستكراها، ليس فيها أحد غيره، فجعل
يدعو المساكين ويلطف بهم حتى لا يأتيه أحد إلا أعطاه، فقال:
هل بقي مسكين غيركم؟ فقالوا: نعم مسكين بفج آل فلان مريض، يقال له
بختنصر، فقال لغلمته: انطلقوا بنا، فانطلق حتى أتاه فقال: ما اسمك؟
قَالَ: بختنصر، فقال لغلمته: احتملوه فنقله إليه فمرضه حتى برئ، وكساه
وأعطاه نفقة، ثم أذن الإسرائيلي بالرحيل، فبكى بختنصر، فقال
الإسرائيلي:
ما يبكيك؟ قَالَ: أبكي أنك فعلت بي ما فعلت، ولا أجد شيئا اجزيك!
(1/545)
قَالَ: بلى شيئا يسيرا، إن ملكت أطعتني
فجعل الآخر يتبعه ويقول:
تستهزئ بي! ولا يمنعه أن يعطيه ما سأله إلا أنه يرى أنه يستهزئ به فبكى
الإسرائيلي وقال: لقد علمت ما يمنعك أن تعطيني ما سألتك، إلا أن الله
عز وجل يريد أن ينفذ ما قضى وكتب في كتابه.
وضرب الدهر من ضربه، فقال صيحون، وهو ملك فارس ببابل:
لو أنا بعثنا طليعة إلى الشام! قَالُوا: وما ضرك لو فعلت! قَالَ: فمن
ترون؟
قَالُوا: فلان، فبعث رجلا، واعطاه مائه والف، وخرج بختنصر في مطبخه لا
يخرج إلا ليأكل في مطبخه، فلما قدم الشام رأى صاحب الطليعة أكثر أرض
الله فرسا ورجلا جلدا، فكسره ذلك في ذرعه، فلم يسأل، فجعل بختنصر يجلس
مجالس أهل الشام فيقول: ما يمنعكم أن تغزوا بابل؟ فلو غزوتموها، فما
دون بيت مالها شيء قَالُوا: لا نحسن القتال ولا نقاتل حتى تنفذ مجالس
أهل الشام، ثم رجعوا فأخبر متقدم الطليعة ملكهم بما رأى، وجعل بختنصر
يقول لفوارس الملك: لو دعاني الملك لأخبرته غير ما أخبره فلان فرفع ذلك
إليه، فدعاه فأخبره الخبر، وقال: إن فلانا لما رأى أكثر أرض الله كراعا
ورجلا جلدا، كسر ذلك في ذرعه، ولم يسألهم عن شيء، وإني لم أدع مجلسا
بالشام إلا جالست أهله، فقلت لهم كذا وكذا، فقالوا لي كذا وكذا- للذي
ذكر سعيد بن جبير أنه قَالَ لهم- فقال متقدم الطليعة لبختنصر:
فضحتني! لك مائة ألف وتنزع عما قلت قَالَ: لو أعطيتني بيت مال بابل ما
نزعت وضرب الدهر من ضربه، فقال الملك: لو بعثنا جريدة خيل إلى الشام،
فإن وجدوا مساغا ساغوا، وإلا امتشوا ما قدروا عليه قَالُوا: ما ضرك
(1/546)
لو فعلت! قَالَ: فمن ترون؟ قَالُوا: فلان،
قَالَ: بل الرجل الذي أخبرني بما أخبرني، فدعا بختنصر، فأرسله وانتخب
معه أربعة آلاف من فرسانهم، فانطلقوا فجاسوا خلال الديار، فسبوا ما شاء
الله ولم يخربوا ولم يقتلوا، ورمي في جنازة صيحون، قَالُوا: استخلفوا
رجلا، قَالُوا: على رسلكم حتى يأتي أصحابكم، فإنهم فرسانكم، أن ينغصوا
عليكم شيئا! فأمهلوا حتى جاء بختنصر بالسبي وما معه، فقسمه في الناس
فقالوا: ما رأينا أحدا أحق بالملك من هذا! فملكوه.
وقال آخرون منهم: إنما كان خروج بختنصر إلى بني إسرائيل لحربهم حين
قتلت بنو إسرائيل يحيى بن زكرياء.
ذكر بعض من قَالَ ذلك منهم:
حَدَّثَنِي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط،
عن السدي، في الحديث الذي ذكرنا إسناده قبل: أن بختنصر بعثه صيحائين
لحرب بني إسرائيل حين قتل ملكهم يحيى بن زكرياء ع، وبلغ صيحائين
قَتَلَهُ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ
إِسْحَاقَ، قَالَ- فيما بلغني: استخلف الله عز وجل على بني إسرائيل بعد
شعيا رجلا منهم يقال له ياشيه بن اموص، فبعث الله لهم الخضر نبيا، واسم
الخضر- فيما كان وهب بن منبه يزعم عن بني إسرائيل- إرميا بن حلقيا،
وكان من سبط هارون.
وأما وهب بن منبه فإنه قَالَ فيه ما حَدَّثَنِي مُحَمَّد بن سهل بن
عسكر البخاري، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد
بن معقل، قال: سمعت وهب بن منبه يقول:
(1/547)
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن
إسحاق عمن لا يتهم عن وهب بن منبه اليماني أنه كان يقول: قَالَ الله عز
وجل لإرميا حين بعثه نبيا إلى بني إسرائيل: يا إرميا، من قبل أن أخلقك
اخترتك، ومن قبل أن أصورك في بطن أمك قدستك، ومن قبل أن أخرجك من بطن
أمك طهرتك، ومن قبل أن تبلغ السعي نبيتك، ومن قبل أن تبلغ الأشد
اختبرتك، ولأمر عظيم اجتبيتك فبعث الله عز وجل إرميا إلى ذلك الملك من
بني إسرائيل يسدده ويرشده، ويأتيه بالخبر من قبل الله فيما بينه وبين
الله عز وجل قال: ثم عظمت الأحداث في بني إسرائيل، وركبوا المعاصي،
واستحلوا المحارم، ونسوا ما كان الله صنع بهم، وما نجاهم من عدوهم
سنحاريب وجنوده، فأوحى الله عز وجل إلى إرميا: أن ائت قومك من بني
إسرائيل، فاقصص عليهم ما آمرك به، وذكرهم نعمي عليهم، وعرفهم أحداثهم
فقال إرميا: إني ضعيف إن لم تقوني، عاجز إن لم تبلغني، مخطئ إن لم
تسددني، مخذول إن لم تنصرني، ذليل إن لم تعزني قَالَ الله عز وجل: ألم
تعلم أن الأمور كلها تصدر عن مشيئتي، وأن القلوب كلها والألسن بيدي،
أقلبها كيف شئت فتطيعني! وأني أنا الله الذي لا شيء مثلي، قامت السموات
والأرض وما فيهن بكلمتي، وأنا كلمت البحار ففهمت قولي، وأمرتها فعقلت
أمري، وحددت عليها بالبطحاء فلا تعدى حدي، تأتي بأمواج كالجبال، حتى
إذا بلغت حدي ألبستها مذلة طاعتي خوفا واعترافا لأمري، إني معك ولن يصل
إليك شيء معي، وإني بعثتك إلى خلق عظيم من خلقي لتبلغهم رسالاتي،
ونستحق بذلك مثل أجر من اتبعك منهم، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، وإن
تقصر به عنها تستحق بذلك مثل وزر من تركت في عماه، لا ينقص ذلك من
أوزارهم شيئا انطلق إلى قومك فقل: إن الله ذكر
(1/548)
بكم صلاح آبائكم، فحمله ذلك على أن
يستتيبكم يا معشر الأبناء.
وسلهم كيف وجد آباءهم مغبة طاعتي وكيف وجدوا هم مغبة معصيتي! وهل علموا
أن أحدا قبلهم أطاعني فشقي بطاعتي، أو عصاني فسعد بمعصيتي! وأن الدواب
مما تذكر أوطانها الصالحة تنتابها، وأن هؤلاء القوم رتعوا في مروج
الهلكة أما أحبارهم ورهبانهم فاتخذوا عبادي خولا يتعبدونهم دوني،
ويحكمون فيهم بغير كتابي، حتى أجهلوهم أمري، وأنسوهم ذكري، وغروهم مني.
وأما أمراؤهم وقادتهم فبطروا نعمتي، وأمنوا مكري، ونبذوا كتابي، ونسوا
عهدي، وغيروا سنتي، وادان لهم عبادي بالطاعة التي لا تنبغي إلا لي، فهم
يطيعونهم في معصيتي، ويتابعونهم على البدع التي يبتدعون في ديني، جرأة
علي وغرة، وفرية علي وعلى رسلي فسبحان جلالي وعلو مكاني وعظمة شأني!
وهل ينبغي لبشر أن يطاع في معصيتي! وهل ينبغي أن أخلق عبادا أجعلهم
أربابا من دوني! وأما قراؤهم وفقهاؤهم فيتعبدون في المساجد، ويتزينون
بعمارتها لغيري لطلب الدنيا بالدين، ويتفقهون فيها لغير العلم،
ويتعلمون فيها لغير العمل وأما أولاد الأنبياء فمكثورون مقهورون
مغترون، يخوضون مع الخائضين، فيتمنون علي مثل نصرة آبائهم، والكرامة
التي أكرمتهم بها، ويزعمون أن لا أحد أولى بذلك منهم مني بغير صدق ولا
تفكر ولا تدبر ولا يذكرون كيف نصر آبائهم لي، وكيف كان جدهم في أمري،
حين غير المغيرون، وكيف بذلوا أنفسهم ودماءهم، فصبروا وصدقوا حتى عز
أمري، وظهر ديني، فتأنيت بهؤلاء القوم لعلهم يستجيبون، فأطولت لهم،
وصفحت عنهم لعلهم يرجعون، واكثرت ومددت لهم في العمر لعلهم يتفكرون،
فأعذرت وفي كل ذلك أمطر عليهم السماء، وأنبت لهم الأرض، وألبسهم
(1/549)
العافية، وأظهرهم على العدو، فلا يزدادون
إلا طغيانا وبعدا مني فحتى متى هذا! أبي يتمرسون! أم إياي يخادعون!
فإني أحلف بعزتي لأقيضن لهم فتنة يتحير فيها الحليم، ويضل فيها رأي ذي
الرأي وحكمة الحكيم ثم لأسلطن عليهم جبارا قاسيا عاتيا، ألبسه الهيبة،
وأنزع من صدره الرأفة والرحمة والليان، يتبعه عدد مثل سواد الليل
المظلم، له عساكر مثل قطع السحاب، ومراكب أمثال العجاج، كأن خفيق
راياته طيران النسور، وكأن حملة فرسانه كرير العقبان.
ثم أوحى الله عز وجل إلى إرميا أني مهلك بني إسرائيل بيافث- ويافث أهل
بابل، فهم من ولد يافث بن نوح ع- فلما سمع إرميا وحي ربه صاح وبكى وشق
ثيابه، ونبذ الرماد على رأسه، فقال: ملعون يوم ولدت فيه، ويوم لقنت فيه
التوراة، ومن شر أيامي يوم ولدت فيه، فما أبقيت آخر الأنبياء إلا لما
هو شر علي، لو أراد بي خيرا ما جعلني آخر الأنبياء من بني إسرائيل، فمن
أجلي تصيبهم الشقوة والهلاك! فلما سمع الله عز وجل تضرع الخضر وبكاءه،
وكيف يقول، ناداه:
يا إرميا، أشق عليك ما أوحيت لك! قَالَ: نعم يا رب، أهلكني قبل أن أرى
في بني إسرائيل ما لا أسر به، فقال الله تعالى: وعزتي وجلالي لا أهلك
بيت المقدس وبني إسرائيل حتى يكون الأمر من قبلك في ذلك ففرح عند ذلك
إرميا لما قَالَ له ربه، وطابت نفسه وقال: لا، والذي بعث موسى وأنبياءه
بالحق، لا آمر ربي بهلاك بني إسرائيل أبدا.
ثم أتى ملك بني إسرائيل فأخبره بما أوحى الله إليه فاستبشر وفرح، وقال:
إن يعذبنا ربنا فبذنوب كثيرة قدمناها لأنفسنا، وإن عفا عنا فبقدرته.
ثم إنهم لبثوا بعد هذا الوحي ثلاث سنين لم يزدادوا إلا معصية وتماديا
في الشر، وذلك حين اقترب هلاكهم، فقل الوحي حين لم يكونوا يتذكرون
الآخرة، وأمسك عنهم حين ألهتهم الدنيا وشأنها، فقال لهم ملكهم:
(1/550)
يا بني إسرائيل، انتهوا عما أنتم عليه قبل
أن يمسكم بأس الله، وقبل أن يبعث الله عليكم قوما لا رحمة لهم بكم، فإن
ربكم قريب التوبة مبسوط اليدين بالخير، رحيم بمن تاب إليه فأبوا عليه
أن ينزعوا عن شيء مما هم عليه وإن الله ألقى في قلب بختنصر بن
نبوزراذان بن سنحاريب بن دارياس بن نمرود بن فالغ ابن عابر- ونمرود
صاحب ابراهيم ع، الذي حاجه في ربه- أن يسير إلى بيت المقدس، ثم يفعل
فيه ما كان جده سنحاريب أراد أن يفعل فخرج في ستمائه ألف راية يريد أهل
بيت المقدس، فلما فصل سائرا أتى ملك بني إسرائيل الخبر أن بختنصر قد
أقبل هو وجنوده يريدكم، فأرسل الملك إلى إرميا، فجاءه فقال: يا إرميا،
أين ما زعمت لنا أن ربك أوحى إليك ألا يهلك أهل بيت المقدس حتى يكون
منك الأمر في ذلك! فقال إرميا للملك:
إن ربي لا يخلف الميعاد، وأنا به واثق.
فلما اقترب الأجل ودنا انقطاع ملكهم، وعزم الله تعالى على هلاكهم، بعث
الله عز وجل ملكا من عنده، فقال له: اذهب إلى إرميا واستفته.
وأمره بالذي يستفتيه فيه فأقبل الملك إلى إرميا، وقد تمثل له رجلا من
بني إسرائيل فقال له إرميا: من أنت؟ قَالَ: أنا رجل من بني إسرائيل
أستفتيك في بعض أمري، فأذن له، فقال له الملك: يا نبي الله، أتيتك
أستفتيك في أهل رحمي، وصلت أرحامهم بما أمرني الله به، لم آت إليهم إلا
حسنا، ولم آلهم كرامة، فلا تزيدهم كرامتي إياهم إلا إسخاطا لي، فأفتني
فيهم يا نبي الله! فقال له: أحسن فيما بينك وبين الله، وصل ما أمرك
الله أن تصل، وأبشر بخير قَالَ: فانصرف عنه الملك، فمكث أياما ثم أقبل
إليه في صورة ذلك الرجل الذي كان جاءه، فقعد بين يديه، فقال له إرميا:
من أنت؟ قَالَ أنا الرجل الذي أتيتك أستفتيك في شأن أهلي، فقال له نبي
الله:
اوما طهرت لك أخلاقهم بعد، ولم تر منهم الذي تحب! قَالَ: يا نبي الله،
والذي بعثك بالحق ما أعلم كرامة يأتيها أحد من الناس إلى أهل رحمه
(1/551)
إلا وقد أتيتها إليهم وأفضل من ذلك فقال
النبي: ارجع إلى أهلك فأحسن إليهم، واسأل الله الذي يصلح عباده
الصالحين أن يصلح ذات بينكم، وأن يجمعكم على مرضاته، ويجنبكم سخطه فقام
الملك من عنده فلبث أياما وقد نزل بختنصر وجنوده حول بيت المقدس بأكثر
من الجراد، ففزع منهم بنو إسرائيل فزعا شديدا، وشق ذلك على ملك بني
إسرائيل فدعا إرميا فقال:
يا نبي الله، أين ما وعدك الله؟ فقال: إني بربي واثق ثم إن الملك أقبل
إلى إرميا وهو قاعد على جدار بيت المقدس يضحك ويستبشر بنصر ربه الذي
وعده، فقعد بين يديه، فقال له إرميا: من أنت؟ قَالَ: أنا الذي كنت
أتيتك في شأن أهلي مرتين، فقال له النبي: أولم يأن لهم أن يفيقوا من
الذي هم فيه! فقال الملك: يا نبي الله، كل شيء كان يصيبني منهم قبل
اليوم كنت أصبر عليه، وأعلم أن مآلهم في ذلك سخطي، فلما أتيتهم اليوم
رأيتهم في عمل لا يرضاه الله ولا يحبه، قَالَ له النبي: على أي عمل
رأيتهم؟
قَالَ: يا نبي الله، رأيتهم على عمل عظيم من سخط الله، فلو كانوا على
مثل ما كانوا عليه قبل اليوم، لم يشتد غضبي عليهم، وصبرت لهم ورجوتهم،
ولكني غضبت اليوم لله ولك، فأتيتك لأخبرك خبرهم، وإني أسألك بالله الذي
هو بعثك بالحق إلا ما دعوت عليهم أن يهلكهم الله قَالَ إرميا: يا ملك
السموات والأرض، إن كانوا على حق وصواب فأبقهم، وإن كانوا على سخطك
وعمل لا ترضاه فأهلكهم.
فلما خرجت الكلمة من في إرميا أرسل الله عز وجل صاعقة من السماء في بيت
المقدس فالتهب مكان القربان، وخسف بسبعة أبواب من أبوابها.
فلما رأى ذلك إرميا صاح وشق ثيابه، ونبذ التراب على رأسه، وقال: يا ملك
السماء ويا أرحم الراحمين، أين ميعادك الذي وعدتني! فنودي: يا إرميا،
إنه لم يصبهم الذي أصابهم إلا بفتياك التي أفتيت بها رسولنا فاستيقن
النبي أنها
(1/552)
فتياه التي أفتى بها ثلاث مرات، وأنه رسول
ربه.
وطار إرميا حتى خالط الوحوش، ودخل بختنصر وجنوده بيت المقدس، فوطئ
الشام، وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم، وخرب بيت المقدس، ثم أمر جنوده أن
يملأ كل رجل منهم ترسه ترابا ثم يقذفه في بيت المقدس، فقذفوا فيه
التراب حتى ملئوه ثم انصرف راجعا إلى أرض بابل، واحتمل معه سبايا بني
إسرائيل، وأمرهم أن يجمعوا من كان في بيت المقدس كلهم، فاجتمع عنده كل
صغير وكبير من بني إسرائيل، فاختار منهم مائه الف صبى، فلما خرجت غنائم
جنده، وأراد أن يقسمها فيهم، قالت له الملوك الذين كانوا معه: أيها
الملك، لك غنائمنا كلها واقسم بيننا هؤلاء الصبيان الذين اخترتهم من
بني إسرائيل ففعل فأصاب كل رجل منهم أربعة غلمة- وكان من أولئك
الغلمان: دانيال، وحنانيا، وعزاريا، وميشايل- وسبعة آلاف من أهل بيت
داود، وأحد عشر ألفا من سبط يوسف بن يعقوب وأخيه بنيامين، وثمانية آلاف
من سبط أشر بن يعقوب وأربعة عشر ألفا من سبط زبالون ابن يعقوب، ونفثالي
بن يعقوب، وأربعة آلاف من سبط روبيل ولاوى ابني يعقوب، وأربعة آلاف من
سبط يهوذا بن يعقوب ومن بقي من بني إسرائيل.
وجعلهم بختنصر ثلاث فرق، فثلثا أقر بالشام، وثلثا سبى، وثلثا قتل وذهب
بآنية بيت المقدس حتى أقدمها بابل، وذهب بالصبيان السبعين الألف حتى
أقدمهم بابل، وكانت هذه الوقعه الاولى التي أنزلها الله ببني إسرائيل
بإحداثهم وظلمهم.
فلما ولى بختنصر عنهم راجعا إلى بابل بمن معه من سبايا بني إسرائيل
أقبل إرميا على حمار له معه عصير من عنب في ركوه وسله تين، حتى غشى
إيلياء فلما وقف عليها ورأى ما بها من الخراب دخله شك، فقال: أَنَّى
يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا! فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ
عَامٍ، وحماره وعصيره وسلة تينه عنده حيث أماته
(1/553)
الله وأمات حماره معه، وأعمى الله عنه
العيون فلم يره أحد ثم بعثه الله فقال له:
«كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ
لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ
يَتَسَنَّهْ» - يقول لم يتغير- «وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ
وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ
نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً» .
فنظر إلى حماره يتصل بعض إلى بعض- وقد كان مات معه- بالعروق والعصب، ثم
كيف كسى ذلك منه اللحم حتى استوى، ثم جرى فيه الروح، فقام ينهق ثم نظر
إلى عصيره وتينه، فإذا هو على هيئته حين وضعه لم يتغير فلما عاين من
قدرة الله ما عاين، قَالَ: «أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ» ثم عمر الله إرميا بعد ذلك، فهو الذي يرى بفلوات الأرض
والبلدان.
ثم إن بختنصر أقام في سلطانه ما شاء الله أن يقيم، ثم رأى رؤيا، فبينما
هو قد أعجبه ما رأى إذ رأى شيئا أصابه فأنساه الذي كان رأى، فدعا
دانيال، وحنانيا وعزاريا، وميشايل من ذراري الأنبياء، فقال: أخبروني عن
رؤيا رأيتها، ثم أصابني شيء فأنسانيها، وقد كانت أعجبتني ما هي؟
قَالُوا له: أخبرنا بها نخبرك بتأويلها، قَالَ: ما أذكرها، وإن لم
تخبروني بتأويلها لأنزعن أكتافكم فخرجوا من عنده، فدعوا الله واستغاثوا
وتضرعوا إليه، وسألوه أن يعلمهم إياها، فأعلمهم الذي سألهم عنه، فجاءوه
فقالوا له: رأيت تمثالا؟ قَالَ: صدقتم، قَالُوا: قدماه وساقاه من فخار،
وركبتاه وفخذاه من نحاس، وبطنه من فضة، وصدره من ذهب، ورأسه وعنقه من
حديد.
قَالَ: صدقتم قَالُوا: فبينما أنت تنظر إليه قد أعجبك، فأرسل الله عليه
صخرة من السماء فدقته، فهي التي أنستكها قَالَ: صدقتم، فما تأويلها؟
قَالُوا:
تأويلها أنك أريت ملك الملوك، فكان بعضهم ألين ملكا من بعض، وبعضهم كان
أحسن ملكا من بعض، وبعضهم كان أشد ملكا من بعض،
(1/554)
فكان أول الملك الفخار وهو أضعفه وألينه ثم
كان فوقه النحاس وهو أفضل منه وأشد، ثم كان فوق النحاس الفضة وهي أفضل
من ذلك وأحسن، ثم كان فوق الفضة الذهب، فهو أحسن من الفضة وأفضل، ثم
كان الحديد ملكك، فهو كان أشد الملوك وأعز مما كان قبله، وكانت الصخرة
التي رأيت أرسل الله عليه من السماء فدقته، نبيا يبعثه الله من السماء
فيدق ذلك أجمع، ويصير الأمر إليه.
ثم إن أهل بابل قَالُوا لبختنصر: أرأيت هؤلاء الغلمان من بني إسرائيل
الذين كنا سألناك أن تعطيناهم ففعلت! فإنا والله لقد أنكرنا نساءنا منذ
كانوا معنا، لقد رأينا نساءنا علقن بهم وصرفن وجوههن إليهم، فأخرجهم من
بين أظهرنا أو اقتلهم، قَالَ: شأنكم بهم، فمن أحب منكم أن يقتل من كان
في يده فليفعل، فأخرجوهم فلما قربوهم للقتل تضرعوا إلى الله فقالوا:
يا ربنا، أصابنا البلاء بذنوب غيرنا، فتحنن الله عليهم برحمته، فوعدهم
أن يحييهم بعد قتلهم، فقتلوا إلا من استبقى بختنصر منهم، وكان ممن
استبقى منهم: دانيال، وحنانيا، وعزاريا، وميشايل.
ثم إن الله تبارك وتعالى حين أراد هلاك بختنصر، انبعث فقال لمن كان في
يديه من بني إسرائيل: أرأيتم هذا البيت الذي أخربت، وهؤلاء الناس الذين
قتلت، من هم؟ وما هذا البيت؟ قَالُوا: هذا بيت الله ومسجد من مساجده،
وهؤلاء أهله كانوا من ذراري الأنبياء، فظلموا وتعدوا وعصوا فسلطت عليهم
بذنوبهم، وكان ربهم رب السموات والأرض، ورب الخلق كلهم يكرمهم ويمنعهم
ويعزهم، فلما فعلوا ما فعلوا أهلكهم الله وسلط عليهم غيرهم.
قَالَ: فأخبروني ما الذي يطلع بي إلى السماء العليا، لعلي أطلع إليها
فأقتل من فيها وأتخذها ملكا، فإني قد فرغت من الأرض ومن فيها، قَالُوا
له:
ما تقدر على ذلك وما يقدر على ذلك أحد من الخلائق، قَالَ: لتفعلن أو
لأقتلنكم عن آخركم، فبكوا إلى الله وتضرعوا إليه، فبعث الله بقدرته-
ليريه
(1/555)
ضعفه وهو انه عليه- بعوضة فدخلت في منخره
ثم ساخت في دماغه حتى عضت بأم دماغه، فما كان يقر ولا يسكن حتى يوجأ له
رأسه على أم دماغه، فلما عرف الموت قَالَ لخاصته من أهله: إذا مت فشقوا
رأسي، فانظروا ما هذا الذي قتلني؟ فلما مات شقوا رأسه، فوجدوا البعوضة
عاضة بأم دماغه ليري الله العباد قدرته وسلطانه، ونجى الله من كان بقي
في يديه من بني إسرائيل وترحم عليهم وردهم إلى الشام والى إيلياء
المسجد المقدس، فبنوا فيه وربلوا وكثروا، حتى كانوا على أحسن ما كانوا
عليه.
فيزعمون- والله أعلم- أن الله أحيا أولئك الموتى الذين قتلوا فلحقوا
بهم.
ثم إنهم لما دخلوا الشام دخلوها وليس معهم عهد من الله، كانت التوراة
قد استبيت منهم فحرقت وهلكت وكان عزيز من السبايا الذين كانوا ببابل
فرجع إلى الشام يبكي عليها ليله ونهاره، قد خرج من الناس فتوحد منهم،
وإنما هو ببطون الأودية وبالفلوات يبكي، فبينما هو كذلك في حزنه على
التوراة وبكائه عليها، إذ أقبل إليه رجل وهو جالس، فقال: يا عزير ما
يبكيك؟
قَالَ: أبكي على كتاب الله وعهده، كان بين أظهرنا فبلغت بنا خطايانا،
وغضب ربنا علينا أن سلط علينا عدونا، فقتل رجالنا، وأخرب بلادنا، وأحرق
كتاب الله الذي بين أظهرنا، الذي لا يصلح دنيانا وآخرتنا غيره- أو كما
قَالَ- فعلام أبكي إذا لم أبك على هذا! قَالَ: أفتحب ان يرد ذلك عليك؟
قَالَ: وهل إلى ذلك من سبيل؟ قَالَ: نعم ارجع فصم وتطهر وطهر ثيابك، ثم
موعدك هذا المكان غدا فرجع عزير فصام وتطهر وطهر ثيابه، ثم عمد إلى
المكان الذي وعده، فجلس فيه، فأتاه ذلك الرجل بإناء فيه ماء- وكان ملكا
بعثه الله إليه- فسقاه من ذلك الإناء، فمثلت التوراة في صدره، فرجع إلى
بني إسرائيل، فوضع لهم التوراة يعرفونها بحلالها وحرامها وسننها
وفرائضها
(1/556)
وحدودها، فأحبوه حبا لم يحبوه شيئا قط،
وقامت التوراة بين أظهرهم، وصلح بها أمرهم، واقام بين اظهرهم عزيز
مؤديا لحق الله، ثم قبضه الله على ذلك، ثم حدثت فيهم الأحداث حتى
قَالُوا لعزيز: هو ابن الله، وعاد الله عليهم فبعث فيهم نبيا كما كان
يصنع بهم، يسدد أمرهم، ويعلمهم ويأمرهم بإقامة التوراة وما فيها.
وقال جماعة أخر عن وهب بن منبه في أمر بختنصر وبني إسرائيل وغزوه إياهم
أقوالا غير ذلك، تركنا ذكرها كراهة إطالة الكتاب بذكرها
(1/557)
|