تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ
الطبري
رجع الخبر إلى قصة بشتاسب وذكر ملكه
والحوادث التي كانت في أيام ملكه التي جرت على يديه ويد غيره من عماله
في البلاد خلا ما جرى من ذلك على يد بختنصر
ذكر العلماء بأخبار الأمم السالفة من العجم والعرب، أن بشتاسب بن كي
لهراسب لما عقد له التاج، قَالَ يوم ملك: نحن صارفون فكرنا وعملنا
وعلمنا إلى كل ما ينال به البر وقيل: إنه ابتنى بفارس مدينة فسا،
وببلاد الهند وغيرها بيوتا للنيران، ووكل بها الهرابذة، وإنه رتب سبعة
نفر من عظماء أهل مملكته مراتب، وملك كل واحد منهم ناحية جعلها له، وان
زرادشت ابن أسفيمان ظهر بعد ثلاثين سنة من ملكه فادعى النبوة، وأراده
على قبول دينه، فامتنع من ذلك ثم صدقه، وقبل ما دعاه إليه وأتاه به من
كتاب ادعاه وحيا، فكتب في جلد اثني عشرة ألف بقرة حفرا في الجلود،
ونقشا بالذهب، وصير بشتاسب ذلك في موضع من إصطخر، يقال له دزنبشت، ووكل
به الهرابذة، ومنع تعليمه العامة وكان بشتاسب في ايامه تلك مهادنا
لحرزاسف بن كي سواسف، أخي فراسياب ملك الترك على ضرب من الصلح، وكان من
شرط ذلك الصلح أن يكون لبشتاسب بباب خرزاسف دابة موقوفة بمنزلة الدواب
التي تنوب على أبواب الملوك، فأشار زرادشت على بشتاسب بمفاسدة ملك
الترك، فقبل ذلك منه، وبعث إلى الدابة والموكل بها، فصرفهما إليه،
وأظهر الخبر لخرزاسف، فغضب من ذلك- وكان ساحرا عاتيا- فأجمع على محاربة
بشتاسب، وكتب إليه كتابا غليظا عنيفا، أعلمه فيه أنه أحدث حدثا عظيما،
وأنكر قبوله ما قبل من زرادشت، وأمره بتوجيهه إليه، وأقسم إن امتنع أن
يغزوه حتى يسفك دمه، ودماء اهل بيته
(1/561)
فلما ورد الرسول بالكتاب على بشتاسب، جمع
إليه أهل بيته وعظماء أهل مملكته، وفيهم جاماسف عالمهم وحاسبهم، وزرين
بن لهراسب فكتب بشتاسب إلى ملك الترك كتابا غليظا جواب كتابه، آذنه فيه
بالحرب، وأعلمه أنه غير ممسك عنه إن أمسك فسار بعضهما إلى بعض، مع كل
واحد منهما من المقاتلة ما لا يحصى كثرة، ومع بشتاسب يومئذ زرين اخوه
ونسطور ابن زرين وإسفنديار وبشوتن ابنا بشتاسب، وآل لهراسب جميعا، ومع
خرزاسف وجوهرمز وأندرمان أخواه وأهل بيته، وبيدرفش الساحر، فقتل في تلك
الحروب زرين، واشتد ذلك على بشتاسب، فأحسن الغناء عنه ابنه إسفنديار،
وقتل بيدرفش مبارزة، فصارت الدبرة على الترك، فقتلوا قتلا ذريعا، ومضى
خرزاسف هاربا، ورجع بشتاسب إلى بلخ، فلما مضت لتلك الحروب سنون سعى على
إسفنديار رجل يقال له قرزم، فأفسد قلب بشتاسب عليه، فندبه لحرب بعد
حرب، ثم أمر بتقييده وصيره في الحصن الذي فيه حبس النساء، وشخص بشتاسب
إلى ناحية كرمان وسجستان، وصار منها الى جبل يقال له طميذر لدراسة دينه
والنسك هناك، وخلف لهراسب أباه مدينة بلخ شيخا قد أبطله الكبر، وترك
خزائنه وأمواله ونساءه مع خطوس امرأته، فحملت الجواسيس الخبر الى
خزاسف، فلما عرف جمع جنودا لا يحصون كثرة، وشخص من بلاده نحو بلخ، وقد
أمل أن يجد فرصة من بشتاسب ومملكته فلما انتهى إلى تخوم ملك فارس قدم
أمامه جوهرمز أخاه- وكان مرشحا للملك بعده في جماعة من المقاتلة كثيرة-
وأمره أن يغذ السير حتى يتوسط المملكة ويوقع بأهلها، ويغير على القرى
والمدن، ففعل ذلك جوهرمز، وسفك الدماء واستباح من الحرم ما لا يحصى،
واتبعه خرزاسف فأحرق الدواوين، وقتل لهراسف والهرابذة، وهدم بيوت
النيران، واستولى على الأموال والكنوز، وسبى ابنتين لبشتاسب، يقال
لإحداهما:
خماني، وللأخرى باذافره، وأخذ- فيما أخذ- العلم الأكبر الذي كانوا
يسمونه
(1/562)
درفش كابيان، وشخص متبعا لبشتاسب، وهرب منه
بشتاسب حتى تحصن في تلك الناحية مما يلى فارس في الجبل الذى يعرف
بطميذر، ونزل ببشتاسب ما ضاق به ذرعا، فيقال إنه لما اشتد به الأمر وجه
إلى إسفنديار جاماسب حتى استخرجه من محبسه، ثم صار به إليه، فلما أدخل
عليه اعتذر إليه، ووعده عقد التاج على رأسه، وأن يفعل به مثل الذي فعل
لهراسب به، وقلده القيام بأمر عسكره، ومحاربة خرزاسف.
فلما سمع إسفنديار كلامه كفر له خاشعا، ثم نهض من عنده، فتولى عرض
الجند وتمييزهم، وتقدم فيما احتاج إلى التقدم فيه، وبات ليلته مشغولا
بتعبئته، فلما أصبح أمر بنفخ القرون، وجمع الجنود، ثم سار بهم نحو عسكر
الترك، فلما رأت الترك عسكره خرجوا في وجوههم يتسابقون، وفي القوم
جوهرمز وأندرمان، فالتحمت الحرب بينهم، وانقض إسفنديار وفي يده الرمح
كالبرق الخاطف، حتى خالط القوم، وأكب عليهم بالطعن، فلم يكن إلا هنيهة
حتى ثلم في العسكر ثلمة عظيمة، وفشا في الترك أن إسفنديار قد أطلق من
الحبس، فانهزموا لا يلوون على شيء، وانصرف إسفنديار، وقد ارتجع العلم
الأعظم، وحمله معه منشورا، فلما دخل على بشتاسب استبشر بظفره، وأمره
باتباع القوم، وكان مما أوصاه به أن يقتل خرزاسف إن قدر عليه بلهراسف،
ويقتل جوهرمز وأندرمان بمن قتل من ولده، ويهدم حصون الترك ويحرق مدنها،
ويقتل أهلها بمن قتلوا من حملة الدين، ويستنقذ السبايا ووجه معه ما
احتاج إليه من القواد والعظماء.
فذكروا أن إسفنديار دخل بلاد الترك من طريق لم يرمه أحد قبله، وأنه
قام- من حراسة جنده، وقتل ما قتل من السباع، ورمي العنقاء المذكورة-
بما لم يقم به أحد قبله، ودخل مدينة الترك التي يسمونها دزروئين-
وتفسيرها بالعربية الصفرية- عنوة حتى قتل الملك وإخوته ومقاتلته،
واستباح أمواله وسبى نساءه، واستنقذ أختيه، وكتب بالفتح إلى أبيه، وكان
أعظم الغناء
(1/563)
في تلك المحاربة بعد إسفنديار لفشوتن أخيه
وأدرنوش ومهرين ابن ابنته.
ويقال إنهم لم يصلوا إلى المدينة حتى قطعوا أنهارا عظيمة مثل كاس روذ،
ومهر روذ، ونهرا آخر لهم عظيما، وإن إسفنديار دخل أيضا مدينه كانت
لفراسياب، يقال لها وهشكند، ودوخ البلاد وصار إلى آخر حدودها، وإلى
التبت وباب صول، ثم قطع البلاد وصير كل ناحية منها إلى رجل من وجوه
الترك بعد أن آمنهم، ووظف على كل واحد منهم خراجا يحمله إلى بشتاسب في
كل سنة، ثم انصرف إلى بلخ.
ثم إن بشتاسب حسد ابنه إسفنديار لما ظهر منه، فوجهه إلى رستم بسجستان،
فحدثت عن هشام بن مُحَمَّد الكلبي أنه قَالَ: قد كان بشتاسب جعل الملك
من بعده لابنه إسفنديار، وأغزاه الترك، فظفر بهم، وانصرف إلى أبيه،
فقال له: هذا رستم متوسطا بلادنا، وليس يعطينا الطاعة لادعائه ما جعل
له قابوس من العتق من رق الملك، فسر إليه فأتني به، فسار إسفنديار إلى
رستم فقاتله، فقتله رستم ومات بشتاسب، وكان ملكه مائة سنة واثنتي عشرة
سنة.
وذكر بعضهم أن رجلا من بني إسرائيل، يقال له سمي كان نبيا، وأنه بعث
إلى بشتاسب فصار إليه إلى بلخ، ودخل مدينتها، فاجتمع هو وزرادشت صاحب
المجوس، وجاماسب العالم بن فخد، وكان سمي يتكلم بالعبرانية ويعرف
زرادشت ذلك بتلقين، ويكتب بالفارسية ما يقول سمي بالعبرانية، ويدخل
جاماسب معهما في ذلك، وبهذا السبب سمي جاماسب العالم.
وزعم بعض العجم أن جاماسب هو ابن فخد بن هو بن حكاو بن نذكاو بن فرس بن
رج بن خوراسرو بن منوشهر الملك، وان زرادشت بن يوسيسف ابن فردواسف بن
أرنجد بن منجدسف بن جخشنش بن فيافيل بن الحدى ابن هردان بن سفمان بن
ويدس بن أدرا بن رج بن خوراسرو بن منوشهر.
وقيل إن بشتاسب وأباه لهراسب كانا على دين الصابئين، حتى أتاه سمى
(1/564)
وزرداشت بما أتياه به، وأنهما أتياه بذلك
لثلاثين سنة مضت من ملكه.
وقال هذا القائل: كان ملك بشتاسب مائة وخمسين سنة، فكان ممن رتب بشتاسب
من النفر السبعة المراتب الشريفه، وسماهم عظماء بهكا بهند ومسكنه
دهستان من ارض جرجان، وقارن الفهلوى ومسكنه ماه نهاوند، وسورين الفهلوي
ومسكنه سجستان، وإسفنديار الفلهوي ومسكنه الري.
وقال آخرون: كان ملك بشتاسب مائة وعشرين سنة
(1/565)
|