تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ
الطبري
ذكر الأحداث التي كانت في أيام ملوك
الطوائف
فكان من ذلك- فيما زعمته الفرس- لمضي خمس وستين سنة من غلبة الإسكندر
على أرض بابل، ولإحدى وخمسين سنة من ملك الأشكانيين- ولادة مريم بنت
عمران عيسى بن مريم ع.
فأما النصارى فإنها تزعم أن ولادتها إياه كانت لمضى ثلاثمائة سنة وثلاث
سنين من وقت غلبة الإسكندر على أرض بابل وزعموا أن مولد يحيى بن زكرياء
كان قبل مولد عيسى ع بستة أشهر وذكروا أن مريم حملت بعيسى ولها ثلاث
عشرة سنة، وأن عيسى عاش إلى أن رفع اثنتين وثلاثين سنة وأياما، وأن
مريم بقيت بعد رفعه ست سنين، وكان جميع عمرها نيفا وخمسين سنة.
قَالَ: وزعموا أن يحيى اجتمع هو وعيسى بنهر الأردن وله ثلاثون سنة، وأن
يحيى قتل قبل أن يرفع عيسى وكان زكرياء بن برخيا أبو يحيى بن زكرياء
وعمران بن ماثان أبو مريم متزوجين بأختين، إحداهما عند زكرياء وهي أم
يحيى، والأخرى منهما عند عمران بن ماثان، وهي أم مريم، فمات عمران بن
ماثان وأم مريم حامل بمريم، فلما ولدت مريم كفلها زكرياء بعد موت أمها،
لأن خالتها أخت أمها كانت عنده واسم أم مريم حنة بنت فاقود ابن قبيل،
واسم أختها أم يحيى الأشباع ابنة فاقود وكفلها زكرياء، وكانت مسماة
بيوسف بن يعقوب بن ماثان بن اليعازار بن اليوذ بن أحين بن صادوق بن
عازور بن الياقيم بن أبيوذ بن زربابل بن شلتيل بن يوحنيا بن يوشيا بن
أمون بن منشا بن حزقيا بن أحاز بن يوثام بن عوزيا بن يورام بن يهوشافاظ
بن أسا بن أبيا بن رحبعم بن سليمان بن داود، ابن عم مريم.
وأما ابن حميد، فإنه حَدَّثَنَا عن سلمة، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، أنه
قَالَ:
(1/585)
مريم- فيما بلغني عن نسبها- ابنة عمران بن
ياشهم بن أمون بن منشا بن حزقيا ابن احزيق بن يوثام بن عزريا بن أمصيا
بن ياوش بن أحزيهو بن يارم بن يهشافاط بن أسا بن أبيا بن رحبعم بن
سليمان فولد لزكرياء يحيى ابن خالة عيسى بن مريم، فنبئ صغيرا، فساح، ثم
دخل الشام يدعو الناس، ثم اجتمع يحيى وعيسى، ثم افترقا بعد أن عمد يحيى
عيسى.
وقيل: إن عيسى بعث يحيى بن زكرياء في اثني عشر من الحواريين يعلمون
الناس: قال: وكان فيما نهوهم عنه نكاح بنات الأخ، فَحَدَّثَنِي أَبُو
السَّائِبِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عن الأعمش، عن
المنهال، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:
بَعَثَ عِيسَى بن مَرْيَمَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّاءَ، فِي اثْنَيْ
عَشَرَ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ، قَالَ: فَكَانَ
فِيمَا نَهَوْهُمْ عَنْهُ نِكَاحُ ابْنَةِ الأَخِ قَالَ: وَكَانَ
لِمَلِكِهِمُ ابْنَةُ أَخٍ تُعْجِبُهُ، يُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا،
وَكَانَتْ لَهَا كُلَّ يَوْمٍ حَاجَةٌ يَقْضِيهَا، فَلَمَّا بَلَغَ
ذَلِكَ أُمَّهَا قَالَتْ لَهَا: إِذَا دَخَلْتِ عَلَى الْمَلَكِ،
فَسَأَلَكِ حَاجَتَكِ فَقُولِي: حَاجَتِي أَنْ تَذْبَحَ لِي يَحْيَى
بْنَ زَكَرِيَّاءَ فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ سَأَلَهَا حَاجَتَهَا،
قَالَتْ: حَاجَتِي أَنْ تَذْبَحَ لِي يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّاءَ،
فَقَالَ:
سَلِينِي غَيْرَ هَذَا، قَالَتْ: مَا أَسْأَلُكَ إِلَّا هَذَا، قَالَ:
فَلَمَّا أَبَتْ عَلَيْهِ دَعَا يَحْيَى، وَدَعَا بِطَسْتٍ فذبحه،
فندرت قَطْرَةٌ مِنْ دَمِهِ عَلَى الْأَرْضِ فَلَمْ تَزَلْ تَغْلِي
حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ بُخْتَنَصَّرَ عَلَيْهِمْ، فَجَاءَتْهُ عَجُوزٌ
مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَدَلَّتْهُ عَلَى ذَلِكَ الدَّمِ، قَالَ:
فَأَلْقَى اللَّهُ فِي قَلْبِهِ أَنْ يَقْتُلَ عَلَى ذَلِكَ الدَّمِ
مِنْهُمْ حَتَّى يَسْكُنَ، فَقَتَلَ سَبْعِينَ أَلْفًا مِنْهُمْ مِنْ
سِنٍّ وَاحِدَةٍ، فَسَكَنَ.
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ الْهَمْدَانِيُّ، قَالَ: حدثنا عمرو
بن حماد، قال:
حدثنا أسباط، عن السدي، في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن
عباس- وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود- وعن ناس من اصحاب النبي ص،
إِنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، رَأَى فِي النَّوْمِ أَنَّ
خَرَابَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَهَلاكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى يَدَيْ
غُلَامٍ يَتِيمٍ، ابْنِ أَرْمَلَةٍ مِنْ أَهْلِ بَابِلَ، يُدْعَى
بُخْتَنَصَّرَ، وَكَانُوا يَصْدُقُونَ فَتَصْدُقَ رُؤْيَاهُمْ،
فَأَقْبَلَ يَسْأَلُ عَنْهُ، حَتَّى نَزَلَ عَلَى أُمِّهِ وَهُوَ
يَحْتَطِبُ، فَلَمَّا جَاءَ وَعَلَى راسه حزمه
(1/586)
حَطَبٍ أَلْقَاهَا، ثُمَّ قَعَدَ فِي
جَانِبِ الْبَيْتِ، فَكَلَّمَهُ، ثُمَّ أَعْطَاهُ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ،
فَقَالَ: اشْتَرِ بِهَذِهِ طَعَامًا وَشَرَابًا، فَاشْتَرَى بِدِرْهَمٍ
لَحْمًا، وَبِدِرْهَمٍ خُبْزًا، وَبِدِرْهَمٍ خَمْرًا، فَأَكَلُوا
وَشَرِبُوا، حَتَّى إِذَا كَانَ الْيَوْمُ الثَّانِي فَعَلَ بِهِ
ذَلِكَ، حَتَّى إِذَا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ فَعَلَ ذَلِكَ، ثُمَّ
قَالَ: إِنِّي أُحِبُّ أَنْ تَكْتُبَ لِي أَمَانًا إِنْ أَنْتَ
مَلَكْتَ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ، قَالَ: تَسْخَرُ بِي! قَالَ: إِنِّي
لَا أَسْخَرُ بِكَ، وَلَكِنْ مَا عَلَيْكَ أَنْ تَتَّخِذَ بِهَا
عِنْدِي يَدًا! فَكَلَّمَتْهُ أُمُّهُ، فَقَالَتْ: وَمَا عَلَيْكَ إِنْ
كَانَ، وَإِلَّا لَمْ يُنْقِصْكَ شَيْئًا! فَكَتَبَ لَهُ أَمَانًا،
فَقَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ جِئْتُ وَالنَّاسُ حَوْلَكَ، قَدْ حَالُوا
بَيْنِي وَبَيْنَكَ! فَاجْعَلْ لِي آيَةً تَعْرِفْنِي بِهَا، قَالَ:
تَرْفَعُ صَحِيفَتَكَ عَلَى قَصَبَةٍ فَأَعْرِفُكَ بِهَا فَكَسَاهُ
وَأَعْطَاهُ ثُمَّ إِنَّ مَلِكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ يُكْرِمُ
يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّاءَ، وَيُدْنِي مَجْلِسَهُ، وَيَسْتَشِيرُهُ فِي
أَمْرِهِ، وَلا يَقْطَعُ أَمْرًا دُونَهُ، وَإِنَّهُ هَوِيَ أَنْ
يَتَزَوَّجَ ابْنَةَ امْرَأَةٍ لَهُ، فَسَأَلَ يَحْيَى عَنْ ذَلِكَ،
فَنَهَاهُ عَنْ نِكَاحِهَا، وَقَالَ: لَسْتُ أَرْضَاهَا لَكَ، فَبَلَغَ
ذَلِكَ أُمَّهَا فَحَقَدَتْ عَلَى يَحْيَى حِينَ نَهَاهُ أَنْ
يَتَزَوَّجَ ابْنَتَهَا، فَعَمَدَتْ إِلَى الْجَارِيَةِ حِينَ جَلَسَ
الْمَلِكُ عَلَى شَرَابِهِ، فَأَلْبَسَتْهَا ثِيَابًا رِقَاقًا
حُمْرًا، وَطَيَّبَتْهَا، وَأَلْبَسَتْهَا مِنَ الْحُلِيِّ،
وَأَلْبَسَتْهَا فَوْقَ ذَلِكَ كِسَاءً أَسْوَدَ، فَأَرْسَلَتْهَا
إِلَى الْمَلِكِ، وَأَمَرَتْهَا أَنْ تَسْقِيَهُ، وَأَنْ تَعْرِضَ
لَهُ، فَإِنْ أَرَادَهَا عَلَى نَفْسِهَا أَبَتْ عَلَيْهِ، حَتَّى
يُعْطِيَهَا مَا سَأَلَتْهُ، فَإِذَا أَعْطَاهَا ذَلِكَ سَأَلَتْهُ
أَنْ تُؤْتَى بِرَأْسِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّاءَ فِي طَسْتٍ،
فَفَعَلَتْ فَجَعَلَتْ تَسْقِيهِ وَتَعْرِضُ لَهُ، فَلَمَّا أَخَذَ
فِيهِ الشَّرَابُ أَرَادَهَا عَلَى نَفْسِهَا، فَقَالَتْ: لا أَفْعَلُ
حَتَّى تُعْطِيَنِي مَا أَسْأَلُكَ، قَالَ: مَا تَسْأَلِينِي؟
قَالَتْ: أَسْأَلُكَ أَنْ تَبْعَثَ إِلَى يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّاءَ،
فَأُوتَى بِرَأْسِهِ فِي هَذَا الطَّسْتِ، فَقَالَ: وَيْحَكِ! سَلِينِي
غَيْرَ هَذَا! قَالَتْ: مَا أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ إِلَّا هَذَا.
قَالَ: فَلَمَّا أَبَتْ عَلَيْهِ، بَعَثَ إِلَيْهِ فَأُتِيَ
بِرَأْسِهِ، وَالرَّأْسُ يَتَكَلَّمُ، حَتَّى وُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ،
وَهُوَ يَقُولُ: لَا تَحِلُّ لَكَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ إِذَا دَمُهُ
يَغْلِي، فَأَمَرَ بِتُرَابٍ فَأُلْقِيَ عَلَيْهِ، فَرَقَى الدَّمُ
فَوْقَ التُّرَابِ يَغْلِي، فَأُلْقِيَ عَلَيْهِ التُّرَابُ أَيْضًا،
فَارْتَفَعَ الدَّمُ فَوْقَهُ، فَلَمْ يَزَلْ يُلْقَى عَلَيْهِ
التُّرَابُ حَتَّى بَلَغَ سُورَ الْمَدِينَةِ،
(1/587)
وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَغْلِي، وَبَلَغَ
صيحائين فَنَادَى فِي النَّاسِ، وَأَرَادَ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ
جَيْشًا، وَيُؤَمِّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا، فَأَتَاهُ بُخْتَنَصَّرُ،
فَكَلَّمَهُ، وَقَالَ: إِنَّ الَّذِي كُنْتَ أَرْسَلْتَ تِلْكَ
الْمَرَّةَ ضَعِيفٌ، فَإِنِّي قَدْ دَخَلْتُ الْمَدِينَةَ، وَسَمِعْتُ
كَلَامَ أَهْلِهَا، فَابْعَثْنِي، فَبَعَثَهُ فَسَارَ بُخْتَنَصَّرَ،
حَتَّى إِذَا بَلَغُوا ذَلِكَ الْمَكَانَ تَحَصَّنُوا مِنْهُ فِي
مَدَائِنِهِمْ، فَلَمْ يُطِقْهُمْ، فَلَمَّا اشْتَدَّ عَلَيْهِ
الْمُقَامُ، وَجَاعَ أَصْحَابُهُ اراد الرُّجُوعَ، فَخَرَجَتْ إِلَيْهِ
عَجُوزٌ مِنْ عَجَائِزِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالَتْ:
أَيْنَ أَمِيرُ الْجُنْدِ؟ فَأُتِيَ بِهِ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ:
إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَرْجِعَ بِجُنْدِكَ قَبْلَ
أَنْ تَفْتَحَ هَذِهِ الْمَدِينَةَ قَالَ: نَعَمْ، قَدْ طَالَ
مُقَامِي، وَجَاعَ أَصْحَابِي، فَلَسْتُ أَسْتَطِيعُ الْمُقَامَ فَوْقَ
الَّذِي كَانَ مِنِّي، فَقَالَتْ: أَرَأَيْتُكَ إِنْ فُتِحَتْ لَكَ
الْمَدِينَةُ، أَتُعْطِينِي مَا أَسْأَلُكَ، فَتَقْتُلُ مَنْ
أَمَرْتُكَ بِقَتْلِهِ، وَتَكُفُّ إِذَا أَمَرْتُكَ أَنْ تَكُفَّ؟
قَالَ لَهَا: نَعَمْ، قَالَتْ: إِذَا أَصْبَحْتَ فَاقْسِمْ جُنْدَكَ
أَرْبَعَةَ أَرْبَاعٍ، ثُمَّ أَقِمْ عَلَى كُلِّ زَاوِيَةٍ رُبْعًا،
ثُمَّ ارْفَعُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى السَّمَاءِ، فَنَادَوْا: إِنَّا
نَسْتَفْتِحُكَ يَا اللَّهِ بِدَمِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّاءَ،
فَإِنَّها سَوْفَ تَتَسَاقَطُ فَفَعَلُوا، فَتَسَاقَطَتِ الْمَدِينَةُ،
وَدَخَلُوا مِنْ جَوَانِبِهَا، فَقَالَتْ لَهُ: كُفَّ يَدَكَ، اقْتُلْ
عَلَى هَذَا الدَّمِ حَتَّى يَسْكُنَ، فَانْطَلَقَتْ بِهِ إِلَى دَمِ
يَحْيَى وَهُوَ عَلَى تُرَابٍ كَثِيرٍ، فَقَتَلَ عَلَيْهِ حَتَّى
سَكَنَ، فَقَتَلَ سَبْعِينَ أَلْفَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ، فَلَمَّا
سَكَنَ الدَّمُ، قَالَتْ لَهُ: كُفَّ يَدَكَ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ
وَجَلَّ إِذَا قُتِلَ نَبِيٌّ لَمْ يَرْضَ حَتَّى يُقْتَلَ مَنْ
قَتَلَهُ وَمَنْ رَضِيَ قَتْلَهُ فَأَتَاهُ صَاحِبُ الصَّحِيفَةِ
بِصَحِيفَتِهِ، فَكَفَّ عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَخَرَّبَ
بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَأَمَرَ بِهِ أَنْ تُطْرَحَ فِيهِ الْجِيَفُ،
وَقَالَ: مَنْ طَرَحَ فِيهِ جِيفَةً فَلَهُ جِزْيَتُهُ تِلْكَ
السَّنَةَ، وَأَعَانَهُ عَلَى خَرَابِهِ الرُّومُ مِنْ أَجْلِ أَنَّ
بَنِي إِسْرَائِيلَ قَتَلُوا يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّاءَ، فَلَمَّا
خَرَّبَهُ بُخْتَنَصَّرُ ذَهَبَ مَعَهُ بِوُجُوهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ
وَسَرَاتِهِمْ، وَذَهَبَ بِدَانْيَالَ وَعليَا وعزريَا وَمِيشَائِيلَ،
هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ مِنْ أَوْلَادِ الْأَنْبِيَاءِ، وَذَهَبَ مَعَهُ
بِرَأْسِ الْجَالُوتِ، فَلَمَّا قَدِمَ أَرْضَ بَابِلَ
(1/588)
وَجَدَ صيحَائينَ قَدْ مَاتَ، فَمَلَكَ
مَكَانَهُ، وَكَانَ أَكْرَمَ النَّاسِ عَلَيْهِ دَانْيَالُ
وَأَصْحَابُهُ، فَحَسَدَهُمُ الْمَجُوسُ، فَوَشَوْا بِهِمْ إِلَيْهِ،
فَقَالُوا: إِنَّ دَانْيَالَ وَأَصْحَابَهُ لا يَعْبُدُونَ إِلَهَكَ،
وَلا يَأْكُلُونَ مِنْ ذَبِيحَتِكَ، فَدَعَاهُمْ فَسَأَلَهُمْ
فَقَالُوا: أَجَلْ إِنَّ لَنَا رَبًّا نَعْبُدُهُ، وَلَسْنَا نَأْكُلُ
مِنْ ذَبِيحَتِكُمْ، وَأَمَرَ بِخَدٍّ فَخُدَّ، فَأُلْقُوا فِيهِ
وَهُمْ سِتَّةٌ، وَأُلْقِيَ مَعَهُمْ سَبُعٌ ضَارٍ لِيَأْكُلَهُمْ،
فَقَالُوا: انْطَلِقُوا فَلْنَأْكُلْ وَلْنَشْرَبْ، فَذَهَبُوا،
فَأَكَلُوا وَشَرِبُوا، ثُمَّ رَاحُوا فَوَجَدُوهُمْ جُلُوسًا،
وَالسَّبُعُ مُفْتَرِشٌ ذِرَاعَيْهِ بَيْنَهُمْ لَمْ يَخْدِشْ مِنْهُمْ
أَحَدًا، وَلَمْ يَنْكَأْهُ شَيْئًا، فَوَجَدُوا مَعَهُمْ رَجُلًا،
فَعَدُّوهُمْ فَوَجَدُوهُمْ سَبْعَةً، فَقَالَ: مَا بَالُ هَذَا
السَّابِعِ؟ إِنَّمَا كَانُوا سِتَّةً! فَخَرَجَ إِلَيْهِ السَّابِعُ-
وَكَانَ مَلَكًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ- فَلَطَمَهُ لَطْمَةً فَصَارَ فِي
الْوَحْشِ، فَكَانَ فِيهِمْ سَبْعُ سِنِينَ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا الْقَوْلُ- الَّذِي رُوِيَ عَمَّنْ
ذَكَرْتُ فِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ الَّتِي رَوَيْتُ وَعَمَّنْ لَمْ
يُذْكَرْ فِي هَذَا الْكِتَابِ، مِنْ أَنَّ بُخْتَنَصَّرَ، هُوَ
الَّذِي غَزَا بَنِي إِسْرَائِيلَ عِنْدَ قَتْلِهِمْ يَحْيَى بْنِ
زَكَرِيَّاءَ- عِنْدَ أَهْلِ السِّيَرِ وَالْأَخْبَارِ وَالْعِلْمِ
بِأُمُورِ الْمَاضِينَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ مِنْ
أَهْلِ الْمِلَلِ غَلَطٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ بِأَجْمَعِهِمْ
مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ بُخْتَنَصَّرَ إِنَّمَا غَزَا بَنِي
إِسْرَائِيلَ عِنْدَ قَتْلِهِمْ نَبِيَّهُمْ شَعْيَا فِي عَهْدِ
إِرْمِيَا بْنِ حلقِيَا، وَبَيْنَ عَهْدِ إِرْمِيَا وَتَخْرِيبِ
بُخْتَنَصَّرَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى مَوْلِدِ يَحْيَى بن زكرياء
أربعمائة سَنَةٍ وَإِحْدَى وَسِتُّونَ سَنَةً فِي قَوْلِ الْيَهُودِ
وَالنَّصَارَى وَيَذْكُرُونَ أَنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ فِي كُتُبِهِمْ
وَأَسْفَارِهِمْ مُبَيَّنٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَعُدُّونَ مِنْ لَدُنْ
تَخْرِيبِ بُخْتَنَصَّرَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى حِينِ عُمْرَانِهَا
فِي عَهْدِ كيرشَ بْنِ أَخْشويرشَ أَصْبهبذَ بَابِلَ مِنْ قِبَلِ
أَرْدِشِيرَ بهمن بْنِ إِسْفندِيَارِ بْنِ بشتَاسبَ، ثُمَّ مِنْ قِبَلِ
ابْنَتِهِ خماني سَبْعِينَ سَنَةً، ثُمَّ مِنْ بَعْدِ عُمْرَانِهَا
إِلَى ظُهُورِ الإِسْكَنْدَرِ عَلَيْهَا وَحِيَازَةِ مَمْلَكَتِهَا
إِلَى مَمْلَكَتِهِ ثَمَانِيًا وَثَمَانِينَ سَنَةً، ثُمَّ مِنْ بَعْدِ
مَمْلَكَةِ الإِسْكَنْدَرِ لها الى مولد يحيى بن زكرياء ثلاثمائة سنه
وثلاث سنين، فذلك على قولهم أربعمائة سَنَةٍ وَإِحْدَى وَسِتُّونَ
سَنَةً
(1/589)
وَأَمَّا الْمَجُوسُ فَإِنَّهَا تُوَافِقُ
النَّصَارَى وَالْيَهُودَ فِي مُدَّةِ خَرَابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ،
وَأَمْرِ بُخْتَنَصَّرَ، وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِ بَنِي
إِسْرَائِيلَ إِلَى غَلَبَةِ الإِسْكَنْدَرِ عَلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ
وَالشَّامِ وَهَلاكِ دارا، وَتُخَالِفُهُمْ فِي مُدَّةِ مَا بَيْنَ
مُلْكِ الإِسْكَنْدَرِ وَمَوْلِدِ يَحْيَى، فَتَزْعُمُ أَنَّ مُدَّةَ
ذَلِكَ إِحْدَى وَخَمْسُونَ سَنَةً فَبَيْنَ الْمَجُوسِ وَالنَّصَارَى
مِنَ الاخْتِلَافِ فِي مُدَّةِ مَا بَيْنَ مُلْكِ الإِسْكَنْدَرِ
وَمَوْلِدِ يَحْيَى وَعِيسَى مَا ذَكَرْتُ.
وَالنَّصَارَى تَزْعُمُ أَنَّ يَحْيَى وُلِدَ قَبْلَ عِيسَى بِسِتَّةِ
أَشْهُرٍ، وَأَنَّ الَّذِي قَتَلَهُ مَلِكٌ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ
يُقَالُ لَهُ هِيردُوسُ، بِسَبَبِ امْرَأَةٍ يُقَالُ لَهَا هِيرُوذيَا،
كَانَتِ امْرَأَةَ أَخٍ لَهُ، يُقَالُ لَهُ فيلفُوسُ، عَشِقَهَا
فَوَافَقَتْهُ عَلَى الْفُجُورِ، وَكَانَ لَهَا ابْنَةٌ يُقَالُ لَهَا
دمنَى فَأَرَادَ هِيردُوسُ أَنْ يَطَأَ امْرَأَةَ أَخِيهِ
الْمُسَمَّاةَ هِيروذيَا، فَنَهَاهُ يَحْيَى وَأَعْلَمَهُ أَنَّهُ لا
تَحِلُّ لَهُ، فَكَانَ هِيرُدوسُ مُعْجَبًا بِالابْنَةِ، فَأَلْهَتْهُ
يَوْمًا، ثُمَّ سَأَلَتْهُ حَاجَةً فَأَجَابَهَا إِلَيْهَا، وَأَمَرَ
صَاحِبًا لَهُ بِالنُّفُوذِ لِمَا تَأْمُرُهُ بِهِ، فَأَمَرَتْهُ أَنْ
يَأْتِيَهَا بِرَأْسِ يَحْيَى، فَفَعَلَ، فَلَّما عَرَفَ هِيردُوسُ
الْخَبَرَ أُسْقِطَ فِي يَدِهِ، وَجَزَعَ جَزَعًا شَدِيدًا.
وَأَمَّا مَا قَالَ فِي ذَلِكَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالأَخْبَارِ
وَأُمُورِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فَقَدْ حَكَيْتُ مِنْهُ مَا قَالَهُ
هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكَلْبِيُّ.
وأما ما قَالَ ابن إسحاق فيه، فهو مَا حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ،
قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بن إسحاق، قَالَ: عمرت بنو
إسرائيل بعد ذلك- يعني بعد مرجعهم من أرض بابل إلى بيت المقدس- يحدثون
الأحداث، ويعود الله عليهم ويبعث فيهم الرسل، ففريقا يكذبون وفريقا
يقتلون، حتى كان آخر من بعث فيهم من أنبيائهم زكرياء ويحيى بن زكرياء
وعيسى بن مريم، وكانوا من بيت آل داود ع وهو يحيى بن زكرياء بن ادى ابن
مسلم بن صدوق بن نحشان بن داود بن سليمان بن مسلم بن صديقة بن برخية بن
شفاطية بن فاحور بن شلوم بن يهفاشاط بن اسا بن أبيا بن رحبعم
(1/590)
ابن سليمان بن داود.
قَالَ: فلما رفع الله عيسى ع من بين أظهرهم، وقتلوا يحيى بن زكرياء ع-
وبعض الناس يقول: وقتلوا زكرياء- ابتعث الله عليهم ملكا من ملوك بابل
يقال له خردوس، فسار إليهم بأهل بابل، حتى دخل عليهم الشام، فلما ظهر
عليهم أمر رأسا من رءوس جنوده يدعى نبوزراذان، صاحب القتل، فقال له:
انى كنت حلفت بالله:
لئن أنا ظهرت على أهل بيت المقدس لأقتلنهم حتى تسيل دماؤهم في وسط
عسكري، إلى ألا أجد أحدا أقتله، فأمره أن يقتلهم، حتى يبلغ ذلك منهم
وإن نبوزراذان دخل بيت المقدس، فقام في البقعة التي كانوا يقربون فيها
قربانهم، فوجد فيها دما يغلي، وسألهم، فقال: يا بني إسرائيل، ما شأن
هذا الدم يغلي؟ أخبروني خبره ولا تكتموني شيئا من أمره، فقالوا: هذا دم
قربان كان لنا كنا قربناه فلم يقبل منا، فلذلك هو يغلي كما تراه، ولقد
قربنا منذ ثمانمائه سنة القربان، فيقبل منا إلا هذا القربان قَالَ: ما
صدقتموني الخبر، قَالُوا له: لو كان كأول زماننا لقبل منا، ولكنه قد
انقطع منا الملك والنبوة والوحي، فلذلك لم يقبل منا فذبح منهم
نبوزراذان على ذلك الدم سبعمائة وسبعين روحا من رءوسهم فلم يهدأ، فأمر
فاتى بسبعمائة غلام من غلمانهم، فذبحوا على الدم فلم يهدأ، فامر بسبعه
آلاف من بنيهم وأزواجهم فذبحهم على الدم فلم يبرد، فلما رأى نبوزراذان
الدم لا يهدأ قَالَ لهم: يا بني إسرائيل، ويلكم! اصدقوني واصبروا على
أمر ربكم، فقد طالما ملكتم في الأرض تفعلون فيها ما شئتم، قبل ألا أترك
منكم نافخ نار، أنثى ولا ذكرا إلا قتلته! فلما رأوا الجهد وشدة القتل
صدقوه الخبر فقالوا: إن هذا دم نبي منا كان ينهانا عن أمور كثيرة من
سخط الله، فلو أطعناه فيها لكان أرشد لنا، وكان يخبرنا بأمركم فلم
نصدقه فقتلناه، فهذا دمه فقال لهم نبوزراذان:
ما كان اسمه؟ قَالُوا: يحيى بن زكرياء، قَالَ: الآن صدقتموني، لمثل هذا
ينتقم ربكم منكم فلما رأى نبوزراذان أنهم قد صدقوه خر ساجدا، وقال لمن
حوله: أغلقوا أبواب المدينة، وأخرجوا من كان هاهنا من جيش خردوس
(1/591)
وخلا في بني إسرائيل ثم قَالَ: يا يحيى بن
زكرياء، قد علم ربي وربك ما قد أصاب قومك من أجلك، وما قتل منهم من
أجلك، فاهدأ بإذن الله قبل ألا أبقي من قومك أحدا، فهدأ دم يحيى بإذن
الله، ورفع نبوزراذان عنهم القتل، وقال: آمنت بما آمنت به بنو إسرائيل،
وصدقت به وأيقنت أنه لا رب غيره، ولو كان معه آخر لم يصلح، لو كان معه
شريك لم تستمسك السموات والأرض، ولو كان له ولد لم يصلح، فتبارك وتقدس
وتسبح وتكبر وتعظم! ملك الملوك الذي يملك السموات السبع بعلم وحكم
وجبروت وعزة، الذي بسط الأرض وألقى فيها رواسي لا تزول، فكذلك ينبغي
لربي أن يكون ويكون ملكه فأوحى إلى رأس من رءوس بقية الأنبياء أن
نبوزراذان حبور صدوق- والحبور بالعبرانية حديث الإيمان- وأن نبوزراذان
قَالَ لبني إسرائيل: إن عدو الله خردوس أمرني أن أقتل منكم حتى تسيل
دماؤكم وسط عسكره وإني فاعل، لست أستطيع أن أعصيه قَالُوا له: افعل ما
أمرت به، فأمرهم فحفروا خندقا، وأمر بأموالهم من الخيل والبغال والحمير
والبقر والغنم والإبل فذبحها، حتى سال الدم في العسكر، وأمر بالقتلى
الذين كانوا قتلوا قبل ذلك فطرحوا على ما قتل من مواشيهم، حتى كانوا
فوقهم، فلم يظن خردوس إلا أن ما كان في الخندق من بني إسرائيل.
فلما بلغ الدم عسكره أرسل إلى نبوزراذان: ارفع عنهم، فقد بلغني دماؤهم،
وقد انتقمت منهم بما فعلوا ثم انصرف عنهم إلى أرض بابل، وقد أفنى بني
إسرائيل أو كاد، وهي الوقعة الأخيرة التي أنزل الله ببني إسرائيل، يقول
الله تعالى لنبيه محمد ص: «وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي
الْكِتابِ» إلى قوله: «وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً» .
وعسى من الله حق، فكانت الوقعه الأولى بختنصر وجنوده، ثم رد
(1/592)
الله لهم الكرة عليهم، ثم كانت الوقعة
الأخيرة خردوس وجنوده، وهي كانت أعظم الوقعتين، فيها كان خراب بلادهم
وقتل رجالهم وسبي ذراريهم ونسائهم، يقول الله عز وجل: «وَلِيُتَبِّرُوا
ما عَلَوْا تَتْبِيراً» .
رجع الحديث الى حديث عيسى بن مريم وأمه عليهما السلام.
قَالَ: وكانت مريم ويوسف بن يعقوب ابن عمها يليان خدمة الكنيسة، فكانت
مريم إذا نفد ماؤها- فيما ذكر- وماء يوسف أخذ كل واحد منهما قلته،
فانطلق إلى المغارة التي فيها الماء الذي يستعذبانه، فيملأ قلته، ثم
يرجعان إلى الكنيسة فلما كان اليوم الذي لقيها فيه جبرئيل- وكان أطول
يوم في السنة وأشده حرا- نفد ماؤها، فقالت: يا يوسف، ألا تذهب بنا
نستقي! قَالَ: إن عندي لفضلا من ماء أكتفي به يومي هذا إلى غد، قالت:
لكني والله ما عندي ماء، فأخذت قلتها، ثم انطلقت وحدها، حتى دخلت
المغارة، فتجد عندها جبرئيل، قد مثله الله لها بشرا سويا: فقال لها:
يا مريم، إن الله قد بعثني إليك لأهب لك غلاما زكيا، قالت:
«إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا
» ، وهي تحسبه رجلا من بني آدم فقال: انما انا رسول ربك، قالت: «أَنَّى
يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا
قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً
لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا» ، أي أن الله
قد قضى أن ذلك كائن فلما قَالَ ذلك استسلمت لقضاء الله، فنفخ في جيبها،
ثم انصرف عنها، وملأت قلتها.
قال: فحَدَّثَنِي مُحَمَّد بن سهل بن عسكر البخاري، قال حدثنا اسماعيل
ابن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل، ابن أخي وهب،
(1/593)
قَالَ: سمعت وهبا قال: لما أرسل الله عز
وجل جبرئيل إلى مريم، تمثل لها بشرا سويا فقالت: «إِنِّي أَعُوذُ
بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا
» ، ثم نفخ في جيب درعها حتى وصلت النفخة إلى الرحم، واشتملت على عيسى
قَالَ: وكان معها ذو قرابة لها يقال له يوسف النجار، وكانا منطلقين إلى
المسجد الذي عند جبل صهيون، وكان ذلك المسجد يومئذ من أعظم مساجدهم،
وكانت مريم ويوسف يخدمان في ذلك المسجد في ذلك الزمان، وكان لخدمته فضل
عظيم، فرغبا في ذلك، فكانا يليان معالجته بأنفسهما وتجميره وكناسته
وطهوره، وكل عمل يعمل فيه، فكان لا يعلم من أهل زمانهما أحد أشد
اجتهادا وعبادة منهما، وكان أول من أنكر حمل مريم صاحبها يوسف، فلما
رأى الذي بها استعظمه، وعظم عليه، وفظع به، ولم يدر على ماذا يضع
أمرها! فإذا أراد يوسف أن يتهمها ذكر صلاحها وبراءتها، وأنها لم تغب
عنه ساعة قط، وإذا أراد أن يبرئها رأى الذي ظهر بها فلما اشتد عليه ذلك
كلمها، فكان أول كلامه إياها أن قَالَ لها: إنه قد وقع في نفسي من أمرك
أمر قد حرصت على أن أميته، وأكتمه في نفسي، فغلبني ذلك، فرأيت أن
الكلام فيه أشفى لصدري، قالت: فقل قولا جميلا، قَالَ: ما كنت لأقول إلا
ذلك، فحدثيني: هل ينبت زرع بغير بذر؟
قالت: نعم، قَالَ: فهل تنبت شجرة من غير غيث يصيبها؟ قالت: نعم، قَالَ:
فهل يكون ولد من غير ذكر؟ قالت: نعم، ألم تعلم أن الله أنبت الزرع يوم
خلقه من غير بذر، والبذر إنما كان من الزرع الذي أنبته الله من غير
بذر! أولم تعلم أن الله أنبت الشجر من غير غيث، وأنه جعل بتلك القدرة
الغيث حياة للشجر بعد ما خلق كل واحد منهما وحده! أو تقول لم يقدر الله
على أن ينبت الشجر، حتى استعان عليه بالماء، ولولا ذلك لم يقدر على
إنباته! قَالَ لها يوسف: لا أقول ذلك، ولكني أعلم أن الله بقدرته على
ما يشاء يقول لذلك: كن فيكون قالت له مريم: أولم تعلم أن الله عز وجل
(1/594)
خلق آدم وامرأته من غير ذكر ولا أنثى؟
قَالَ: بلى، فلما قالت له ذلك وقع في نفسه أن الذي بها شيء من الله عز
وجل، وأنه لا يسعه أن يسألها عنه، وذلك لما رأى من كتمانها لذلك ثم
تولى يوسف خدمة المسجد، وكفاها كل عمل كانت تعمل فيه، وذلك لما رأى من
رقة جسمها واصفرار لونها، وكلف وجهها، ونتوء بطنها، وضعف قوتها، ودأب
نظرها، ولم تكن مريم قبل ذلك كذلك، فلما دنا نفاسها أوحى الله إليها أن
اخرجي من أرض قومك، فإنهم إن ظفروا بك عيروك وقتلوا ولدك فأفضت عند ذلك
إلى أختها- وأختها حينئذ حبلى، وقد بشرت بيحيى- فلما التقيا وجدت أم
يحيى ما في بطنها خر لوجهه ساجدا معترفا بعيسى، فاحتملها يوسف إلى أرض
مصر على حمار له، ليس بينها حين ركبت الحمار وبين الإكاف شيء، فانطلق
يوسف بها، حتى إذا كان متاخما لأرض مصر في منقطع بلاد قومها أدرك مريم
النفاس، وألجأها إلى أري حمار- يعني مزود الحمار- في أصل نخلة، وذلك في
زمان الشتاء، فاشتد على مريم المخاض، فلما وجدت منه شدة التجأت إلى
النخلة، فاحتضنتها واحتوشتها الملائكة، قاموا صفوفا محدقين بها.
فلما وضعت وهي محزونة، قيل لها: «أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ
تَحْتَكِ سَرِيًّا» إلى «إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ
أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا» ، فكان الرطب يتساقط عليها، وذلك في
الشتاء.
فأصبحت الأصنام التي كانت تعبد من دون الله حين ولدت بكل أرض مقلوبة
منكوسة على رءوسها، ففزعت الشياطين وراعها، فلم يدروا ما سبب ذلك،
فساروا عند ذلك مسرعين، حتى جاءوا إبليس، وهو على عرش له، في لجة
خضراء، يتمثل بالعرش يوم كان على الماء ويحتجب، يتمثل بحجب النور التي
من دون الرحمن، فاتوه وقد خلاست ساعات من النهار، فلما
(1/595)
رأى إبليس جماعتهم، فزع من ذلك، ولم يرهم
جميعا منذ فرقهم قبل تلك الساعة، إنما كان يراهم أشتاتا، فسألهم
فأخبروه أنه قد حدث في الأرض حدث أصبحت الأصنام منكوسة على رءوسها، ولم
يكن شيء أعون على هلاك بني آدم منها، كنا ندخل في أجوافها فنكلمهم،
وندبر أمرهم فيظنون أنها التي تكلمهم، فلما أصابها هذا الحدث صغرها في
أعين بني آدم، وأذلها وأدناها، ذلك وقد خشينا ألا يعبدوها بعد هذا أبدا
واعلم أنا لم نأتك حتى أحصينا الأرض، وقلبنا البحار وكل شيء قوينا
عليه، فلم نزدد بما أردنا إلا جهلا قَالَ لهم إبليس: إن هذا لأمر عظيم،
لقد علمت بأني كتمته، وكونوا على مكانكم هذا فطار إبليس عند ذلك، فلبث
عنهم ثلاث ساعات، فمر فيهن بالمكان الذي ولد فيه عيسى، فلما رأى
الملائكة محدقين بذلك المكان، علم أن ذلك الحدث فيه، فأراد إبليس أن
يأتيه من فوقه، فإذا فوقه رءوس الملائكة ومناكبهم عند السماء ثم أراد
أن يأتيه من تحت الأرض، فإذا أقدام الملائكة راسية أسفل مما أراد إبليس
ثم أراد أن يدخل من بينهم فنحوه عن ذلك.
ثم رجع إبليس إلى أصحابه فقال لهم: ما جئتكم حتى أحصيت الأرض كلها
مشرقها ومغربها، وبرها وبحرها، والخافقين، والجو الأعلى، وكل هذا بلغت
في ثلاث ساعات، وأخبرهم بمولد المسيح، وقال لهم: لقد كتمت شأنه، وما
اشتملت قبله رحم أنثى على ولد إلا بعلمي، ولا وضعته قط، إلا وأنا
حاضرها، وأني لأرجو أن أضل به أكثر مما يهتدي به، وما كان نبي قبله أشد
علي وعليكم منه.
وخرج في تلك الليلة قوم يؤمونه من أجل نجم طلع أنكروه، وكان قبل ذلك
يتحدثون أن مطلع ذلك النجم من علامات مولود في كتاب دانيال.
فخرجوا يريدونه، ومعهم الذهب والمر واللبان، فمروا بملك من ملوك الشام،
فسألهم: أين يريدون؟ فأخبروه بذلك، قَالَ: فما بال الذهب والمر واللبان
اهديتموه له من بين الأشياء كلها؟ قَالُوا: تلك أمثاله: لأن الذهب هو
سيد المتاع كله، وكذلك هذا النبي هو سيد أهل زمانه، ولأن المر يجبر به
(1/596)
الجرح والكسر، وكذلك هذا النبي يشفي به
الله كل سقيم ومريض، ولأن اللبان ينال دخانه السماء ولا ينالها دخان
غيره، كذلك هذا النبي يرفعه الله إلى السماء لا يرفع في زمانه أحد
غيره.
فلما قَالُوا ذلك لذلك الملك حدث نفسه بقتله، فقال: اذهبوا، فإذا علمتم
مكانه فأعلموني ذلك، فإني أرغب في مثل ما رغبتم فيه من أمره فانطلقوا
حتى دفعوا ما كان معهم من تلك الهدية إلى مريم، وأرادوا أن يرجعوا إلى
هذا الملك ليعلموه مكان عيسى، فلقيهم ملك فقال لهم: لا ترجعوا إليه،
ولا تعلموه بمكانه، فإنه إنما أراد بذلك ليقتله، فانصرفوا في طريق آخر،
واحتملته مريم على ذلك الحمار ومعها يوسف، حتى وردا أرض مصر، فهي
الربوة التي قَالَ الله:
«وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ» .
فمكثت مريم اثنتي عشرة سنة تكتمه من الناس، لا يطلع عليه أحد، وكانت
مريم لا تأمن عليه ولا على معيشته أحدا، كانت تلتقط السنبل من حيث ما
سمعت بالحصاد، والمهد في منكبها والوعاء الذي تجعل فيه السنبل في
منكبها الآخر، حتى تم لعيسى ع اثنتا عشرة سنة، فكان أول آية رآها الناس
منه أن أمه كانت نازلة في دار دهقان من أهل مصر، فكان ذلك الدهقان قد
سرقت له خزانة، وكان لا يسكن في داره إلا المساكين، فلم يتهمهم، فحزنت
مريم لمصيبة ذلك الدهقان، فلما أن رأى عيسى حزن أمه بمصيبة صاحب
ضيافتها، قَالَ لها: يا أمه، أتحبين أن أدله على ماله؟
قالت: نعم يا بني، قَالَ: قولي له يجمع لي مساكين داره، فقالت مريم
للدهقان ذلك، فجمع له مساكين داره، فلما اجتمعوا عمد إلى رجلين منهم:
أحدهما أعمى والآخر مقعد، فحمل المقعد على عاتق الأعمى، ثم قَالَ له:
قم به، قَالَ الأعمى: أنا أضعف من ذلك، قَالَ عيسى ع:
فكيف قويت على ذلك البارحة؟ فلما سمعوه يقول ذلك، بعثوا الأعمى، حتى
قام به، فلما استقل قائما حاملا هوي المقعد إلى كوة الخزانة قَالَ
عيسى:
هكذا احتالا لمالك البارحة، لأنه استعان الأعمى بقوته، والمقعد بعينيه،
فقال
(1/597)
المقعد والأعمى: صدق، فردا على الدهقان
ماله ذلك، فوضعه الدهقان في خزانته، وقال: يا مريم خذي نصفه، قالت: إني
لم أخلق لذلك، قَالَ الدهقان: فأعطيه ابنك، قالت: هو أعظم مني شأنا، ثم
لم يلبث الدهقان أن أعرس ابن له فصنع له عيدا فجمع عليه أهل مصر كلهم،
فلما انقضى ذلك زاره قوم من أهل الشام لم يحذرهم الدهقان، حتى نزلوا
به، وليس عنده يومئذ شراب، فلما رأى عيسى اهتمامه بذلك دخل بيتا من
بيوت الدهقان، فيه صفان من جرار، فأمر عيسى يده على أفواهها، وهو يمشي،
فكلما أمر يده على جرة امتلأت شرابا، حتى أتى عيسى على آخرها، وهو
يومئذ ابن اثنتي عشرة سنة، فلما فعل ذلك عيسى فزع الناس لشأنه وما
أعطاه الله من ذلك، فأوحى الله عز وجل إلى أمه مريم، أن اطلعي به إلى
الشام، ففعلت الذي أمرت به، فلم تزل بالشام حتى كان ابن ثلاثين سنة،
فجاءه الوحي على ثلاثين سنة، وكانت نبوته ثلاث سنين ثم رفعه الله إليه،
فلما رآه إبليس يوم لقيه على العقبة لم يطلق منه شيئا، فتمثل له برجل
ذي سن وهيئة، وخرج معه شيطانان ماردان متمثلين كما تمثل إبليس، حتى
خالطوا جماعة الناس.
وزعم وهب أنه ربما اجتمع على عيسى من المرضى في الجماعة الواحدة خمسون
ألفا، فمن أطاق منهم أن يبلغه بلغه، ومن لم يطق ذلك منهم أتاه عيسى ع
يمشي إليه، وإنما كان يداويهم بالدعاء إلى الله عز وجل، فجاءه إبليس في
هيئة يبهر الناس حسنها وجمالها، فلما رآه الناس فرغوا له، ومالوا نحوه،
فجعل يخبرهم بالأعاجيب، فكان في قوله: إن شأن هذا الرجل لعجب، تكلم في
المهد، وأحيا الموتى، وأنبأ عن الغيب، وشفى المريض، فهذا الله قَالَ
أحد صاحبيه: جهلت أيها الشيخ، وبئس ما قلت! لا ينبغي لله أن يتجلى
للعباد، ولا يسكن الأرحام، ولا تسعه أجواف النساء، ولكنه ابن الله وقال
الثالث: بئس ما قلتما، كلا كما قد أخطأ وجهل، ليس ينبغي لله أن يتخذ
ولدا، ولكنه إله معه، ثم غابوا حين فرغوا
(1/598)
من قولهم، فكان ذلك آخر العهد منهم.
حدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن
السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس- وعن مرة
الهمداني عن ابن مسعود- وعن ناس من اصحاب النبي ص، قَالَ: خَرَجَتْ
مَرْيَمُ إِلَى جَانِبِ الْمِحْرَابِ لِحَيْضٍ أَصَابَهَا فَاتَّخَذَتْ
مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا مِنَ الْجُدْرَانِ، وهو قوله: «ف انْتَبَذَتْ
مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً
» فِي شَرْقِ الْمِحْرَابِ، فَلَمَّا طَهُرَتْ إِذَا هِيَ بِرَجُلٍ
مَعَهَا، وَهُوَ قَوْلُهُ: «فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا
» فهو جبرئيل «فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا
» فَلَمَّا رَأَتْهُ فَزِعَتْ مِنْهُ وَقَالَتْ:
«إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا قالَ
إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا قالَتْ
أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ
بَغِيًّا
» - تَقُولُ زَانِيَةً- «قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ
هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ
أَمْراً مَقْضِيًّا» فَخَرَجَتْ، عَلَيْهَا جِلْبَابُهَا، فَأَخَذَ
بِكُمَّيْهَا، فَنَفَخَ فِي جَيْبِ دِرْعِهَا- وَكَانَ مَشْقُوقًا مِنْ
قُدَّامِهَا- فَدَخَلَتِ النَّفْخَةُ فِي صَدْرِهَا، فَحَمَلَتْ،
فَأَتَتْهَا أُخْتُهَا امْرَأَةُ زَكَرِيَّاءَ لَيْلَةً تَزُورُهَا،
فَلَمَّا فَتَحَتْ لَهَا الْبَابَ الْتَزَمَتْهَا، فَقَالَتِ امْرَأَةُ
زَكَرِيَّاءَ: يَا مَرْيَمُ أَشَعَرْتِ أَنِّي حُبْلَى.
قَالَتْ مَرْيَمُ: أَشَعَرْتِ أَنِّي أَيْضًا حُبْلَى قَالَتِ
امْرَأَةُ زَكَرِيَّاءَ: فَإِنِّي وَجَدْتُ مَا فِي بَطْنِي يَسْجُدُ
لِمَا فِي بَطْنِكِ، فَذَلِكَ قوله: «مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ
اللَّهِ» .
فَوَلَدَتِ امْرَأَةُ زَكَرِيَّاءَ يَحْيَى، وَلَمَّا بَلَغَ أَنْ
تَضَعَ مَرْيَمُ، خَرَجَتْ إِلَى جَانِبِ الْمِحْرَابِ الشَّرْقِيِّ
مِنْهُ، فَأَتَتْ أَقْصَاهُ: «فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ
النَّخْلَةِ» يَقُولُ: أَلْجَأَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ
النَّخْلَةِ، «قالَتْ» : وَهِيَ تطلقُ مِنَ الْحَبْلِ اسْتِحْيَاءً
مِنَ النَّاسِ: «يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً
مَنْسِيًّا»
(1/599)
تَقُولُ: نَسِيًّا: نُسِيَ ذِكْرِي،
وَمَنْسِيًّا، تَقُولُ: نُسِيَ أَثَرِي، فَلا يُرَى لِي أَثَرٌ وَلا
عَيْنٌ «فَناداها» ، جبرئيل: «مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ
جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا» ، وَالسَّرِيُّ هُوَ النَّهْرُ
«وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ» ، وَكَانَ جِذْعًا مِنْهَا
مَقْطُوعًا فَهَزَّتْهُ، فَإِذَا هُوَ نَخْلَةٌ، وَأَجْرَى لَهَا فِي
الْمِحْرَابِ نَهْرًا فَتَسَاقَطَتِ النخله رطبا جنيا، فقال لها: كلى
وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا، «فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ
أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ
أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا» ، فَكَانَ مَنْ صَامَ فِي ذَلِكَ
الزَّمَانِ لَمْ يَتَكَلَّمْ حَتَّى يُمْسِيَ، فَقِيلَ لَهَا:
لا تَزِيدِي عَلَى هَذَا، فَلَمَّا وَلَدَتْهُ ذَهَبَ الشَّيْطَانُ
فَأَخْبَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّ مَرْيَمَ قَدْ وَلَدَتْ،
فَأَقْبَلُوا يَشْتَدُّونَ، فَدَعَوْهَا «فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها
تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا» -
يَقُولُ عَظِيمًا- «يَا أُخْتَ هارُونَ مَا كانَ أَبُوكِ امْرَأَ
سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا» ، فَمَا بَالُكِ أَنْتِ يَا
أُخْتَ هَارُونَ! وَكَانَتْ مِنْ بَنِي هَارُونَ أَخِي مُوسَى، وَهُوَ
كَمَا تَقُولُ: يَا أَخَا بَنِي فُلانٍ، إِنَّمَا تَعْنِي قَرَابَتَهُ
فَقَالَتْ لَهُمْ مَا أَمَرَهَا اللَّهُ، فَلَمَّا أَرَادُوهَا بَعْدَ
ذَلِكَ عَلَى الْكَلَامِ، أَشَارَتْ إِلَيْهِ- إِلَى عِيسَى-
فَغَضِبُوا وَقَالُوا: لَسُخْرِيَّتُهَا بِنَا حِينَ تَأْمُرُنَا أَنْ
نُكَلِّمَ هَذَا الصَّبِيَّ أَشَدُّ عَلَيْنَا مِنْ زِنَاهَا! «قالُوا
كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا» فَتَكَلَّمَ
عِيسَى فَقَالَ: «إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي
نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ» فَقَالَتْ بَنُو
إِسْرَائِيلَ: مَا أَحْبَلَهَا أَحَدٌ غَيْرُ زَكَرِيَّاءَ، هُوَ كَانَ
يَدْخُلُ إِلَيْهَا، فَطَلَبُوهُ فَفَرَّ مِنْهُمْ فَتَشَبَّهَ لَهُ
الشَّيْطَانُ فِي صُورَةِ رَاعٍ، فَقَالَ: يَا زَكَرِيَّاءُ، قَدْ
أَدْرَكُوكَ، فَادْعُ اللَّهَ حَتَّى تَنْفَتِحَ لَكَ هَذِهِ
الشَّجَرَةُ فَتَدْخُلَ فِيهَا، فَدَعَا اللَّهَ فَانْفَتَحَتْ لَهُ
الشَّجَرَةُ، فَدَخَلَ فِيهَا وَبَقِيَ مِنْ رِدَائِهِ هُدْبٌ،
فَمَرَّتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِالشَّيْطَانِ، فَقَالُوا:
يَا رَاعِي، هَلْ رَأَيْتَ رَجُلًا من هاهنا قَالَ: نَعَمْ سَحَرَ
هَذِهِ الشَّجَرَةَ،
(1/600)
فَانْفَتَحَتْ لَهُ، فَدَخَلَ فِيهَا،
وَهَذَا هُدْبُ رِدَائِهِ، فَعَمَدُوا فَقَطَعُوا الشَّجَرَةَ، وَهُوَ
فِيهَا بِالْمَنَاشِيرِ، وَلَيْسَ تَجِدُ يَهُودِيًّا إِلَّا تِلْكَ
الْهُدْبَة فِي رِدَائِهِ، فَلَمَّا وُلِدَ عِيسَى لَمْ يَبْقَ فِي
الأَرْضِ صَنَمٌ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِلَّا أَصْبَحَ سَاقِطًا
لِوَجْهِهِ حَدَّثَنِي المثنى، قَالَ: حَدَّثَنَا إسحاق بن الحجاج،
قال: حدثنا اسماعيل ابن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل، أنه
سمع وهبا يقول:
إن عيسى بن مريم ع لما أعلمه الله أنه خارج من الدنيا جزع من الموت،
وشق عليه، فدعا الحواريين، فصنع لهم طعاما، فقال:
احضروني الليلة، فإن لي إليكم حاجة، فلما اجتمعوا إليه من الليل، عشاهم
وقام يخدمهم، فلما فرغوا من الطعام أخذ يغسل أيديهم ويوضئهم بيده،
ويمسح أيديهم بثيابه، فتعاظموا ذلك وتكارهوه، فقال: ألا من رد علي شيئا
الليلة مما أصنع فليس مني ولا أنا منه! فأقروه حتى إذا فرغ من ذلك
قَالَ: أما ما صنعت بكم الليلة مما خدمتكم على الطعام، وغسلت أيديكم
بيدي، فليكن لكم بي أسوة، فإنكم ترون أني خيركم، ولا يتعظم بعضكم على
بعض، وليبذل بعضكم نفسه لبعض، كما بذلت نفسي لكم وأما حاجتي التي
أستعينكم عليها، فتدعون الله لي، وتجتهدون في الدعاء أن يؤخر أجلي،
فلما نصبوا أنفسهم للدعاء، وأرادوا أن يجتهدوا، أخذهم النوم، حتى لم
يستطيعوا دعاء، فجعل يوقظهم، ويقول: سبحان الله! ما تصبرون لي ليلة
واحدة تعينوني فيها! قَالُوا: والله ما ندري ما لنا! لقد كنا نسمر
فنكثر السمر، وما نطيق الليلة سمرا، وما نريد دعاء إلا حيل بيننا
وبينه! فقال: يذهب بالراعي وتتفرق الغنم وجعل يأتي بكلام نحو هذا، ينعى
به نفسه، ثم قَالَ:
الحق ليكفرن بي أحدكم، قبل ان يصيح الديك ثلاث مرات، وليبيعننى أحدكم
بدراهم يسيرة، وليأكلن ثمني فخرجوا فتفرقوا، وكانت اليهود تطلبه،
فأخذوا شمعون، أحد الحواريين، فقالوا: هذا من أصحابه، فجحد وقال:
ما أنا بصاحبه، فتركوه، ثم أخذه آخر فجحد كذلك، ثم سمع صوت ديك،
(1/601)
فبكى، فلما أصبح أتى أحد الحواريين إلى
اليهود، فقال: ما تجعلون لي إن دللتكم على المسيح؟ فجعلوا له ثلاثين
درهما، فأخذها ودلهم عليه- وكان شبه عليهم قبل ذلك- فأخذوه، فاستوثقوا
منه، وربطوه بالحبل، فجعلوا يقودونه، ويقولون: أنت كنت تحيي الموتى،
وتنتهر الشيطان، وتبرئ المجنون، أفلا تفتح نفسك من هذا الحبل! ويبصقون
عليه، ويلقون عليه الشوك، حتى أتوا به الخشبة التي أرادوا أن يصلبوه
عليها، فرفعه الله إليه، وصلبوا ما شبه لهم، فمكث سبعا ثم إن أمه
والمرأة- التي كان عيسى يداويها فأبرأها الله من الجنون- جاءتا تبكيان
عند المصلوب، فجاءهما عيسى ع، فقال: على من تبكيان؟ فقالتا: عليك،
فقال: إني قد رفعني الله إليه، ولم يصبني إلا خير، وإن هذا شيء شبه
لهم، فأمرا الحواريين أن يلقوني إلى مكان كذا وكذا، فلقوه إلى ذلك
المكان أحد عشر، وفقد الذي كان باعه، ودل عليه اليهود، فسأل عنه
أصحابه، فقالوا: إنه ندم على ما صنع، فاختنق وقتل نفسه، فقال: لو تاب
تاب الله عليه! ثم سألهم عن غلام يتبعهم يقال له يحيى، فقال: هو معكم،
فانطلقوا فإنه سيصبح كل إنسان منكم يحدث بلغة قوم فلينذرهم وليدعهم.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عمن لا
يتهم، عن وهب بن منبه اليماني، قال: توفى الله عيسى بن مريم ثلاث ساعات
من النهار، حتى رفعه الله إليه.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ:
والنصارى يزعمون أنه توفاه الله سبع ساعات من النهار، ثم أحياه الله،
فقال له: اهبط، فانزل على مريم المجدلانية في جبلها، فإنه لم يبك عليك
أحد بكاءها، ولم يحزن عليك أحد حزنها، ثم لتجمع لك الحواريين، فبثهم في
الأرض دعاة إلى الله، فإنك لم تكن فعلت ذلك فأهبطه الله عليها، فاشتعل
الجبل حين
(1/602)
هبط نورا، فجمعت له الحواريين، فبثهم
وأمرهم، أن يبلغوا الناس عنه ما أمره الله به، ثم رفعه الله إليه،
فكساه الريش، وألبسه النور، وقطع عنه لذة المطعم والمشرب، فطار في
الملائكة وهو معهم حول العرش، فكان إنسيا ملكيا سمائيا أرضيا، وتفرق
الحواريون حيث أمرهم، فتلك الليلة التي أهبط فيها الليلة التي تدخن
فيها النصارى وكان ممن وجه من الحواريين والأتباع الذين كانوا في الأرض
بعدهم، فطرس الحواري ومعه بولس- وكان من الأتباع، ولم يكن من
الحواريين- إلى رومية، واندراييس ومثى إلى الأرض التي يأكل أهلها
الناس- وهي فيما نرى للأساود- وتوماس إلى أرض بابل من أرض المشرق،
وفيلبس إلى القيروان وقرطاجنة، وهي إفريقية، ويحنس إلى دفسوس، قرية
الفتية أصحاب الكهف، ويعقوبس إلى أوريشلم، وهي إيليا بيت المقدس، وابن
تلما إلى العرابية، وهي أرض الحجاز، وسيمن إلى أرض البربر دون إفريقية،
ويهوذا- ولم يكن من الحواريين- إلى اريوبس، جعل مكان يوذس زكرياء يوطا،
حين أحدث ما أحدث.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عمر ابن
عبد الله بن عروة بن الزبير، عن ابن سليم الأنصاري، ثم الزرقي، قَالَ:
كان على امرأة منا نذر، لتظهرن على رأس الجماء- جبل بالعقيق من ناحية
المدينة- قَالَ: فظهرت معها، حتى إذا استوينا على رأس الجبل، إذا قبر
عظيم، عليه حجران عظيمان، حجر عند رأسه، وحجر عند رجليه، فيهما كتاب
بالمسند، لا أدري ما هو! فاحتملت الحجرين معي، حتى إذا كنت ببعض الجبل
منهبطا ثقلا علي، فألقيت أحدهما وهبطت
(1/603)
بالآخر، فعرضته على أهل السريانية: هل
يعرفون كتابه؟ فلم يعرفوه، وعرضته على من يكتب بالزبور من أهل اليمن،
ومن يكتب بالمسند فلم يعرفوه قَالَ: فلما لم أجد أحدا ممن يعرفه ألقيته
تحت تابوت لنا، فمكث سنين، ثم دخل علينا ناس من أهل ماه من الفرس
يبتغون الخرز، فقلت لهم: هل لكم من كتاب؟ فقالوا: نعم، فأخرجت إليهم
الحجر، فإذا هم يقرءونه، فإذا هو بكتابهم: هذا قبر رسول الله عيسى بن
مريم ع إلى أهل هذه البلاد، فإذا هم كانوا أهلها في ذلك الزمان، مات
عندهم فدفنوه على رأس الجبل.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ،
قَالَ: ثم عدوا على بقية الحواريين يشمسونهم ويعذبونهم، وطافوا بهم،
فسمع بذلك ملك الروم- وكانوا تحت يديه، وكان صاحب وثن- فقيل له: إن
رجلا كان في هؤلاء الناس الذين تحت يديك من بني إسرائيل عدوا عليه
فقتلوه، وكان يخبرهم أنه رسول الله، قد أراهم العجائب، وأحيا لهم
الموتى، وأبرأ لهم الأسقام، وخلق لهم من الطين كهيئة الطير، ونفخ فيه
فكان طائرا بإذن الله، وأخبرهم بالغيوب قَالَ: ويحكم! فما منعكم أن
تذكروا هذا لي من امره وامرهم! فو الله لو علمت ما خليت بينهم وبينه ثم
بعث إلى الحواريين، فانتزعهم من أيديهم، وسألهم عن دين عيسى وأمره،
فأخبروه خبره، فتابعهم على دينهم، واستنزل سرجس فغيبه، وأخذ خشبته التي
صلب عليها، فأكرمها وصانها لما مسها منه، وعدا على بني إسرائيل، فقتل
منهم قتلى كثيرة، فمن هنالك كان أصل النصرانية في الروم.
وذكر بعض أهل الأخبار أن مولد عيسى ع كان لمضي اثنتين وأربعين سنة من
ملك اغوسطوس، وان اغوسطوس عاش بعد ذلك بقية ملكه،
(1/604)
وكان جميع ملكه ستا وخمسين سنة- قَالَ
بعضهم: وأياما قَالَ: ووثبت اليهود بالمسيح، والرياسة ببيت المقدس في
ذلك الوقت لقيصر، والملك على بيت المقدس من قبل قيصر هيردوس الكبير
الذي دخلت عليه رسل ملك فارس الذين وجههم الملك الى المسيح، فصار إلى
هيردوس غلطا، وأخبروه أن ملك فارس بعث بهم ليقربوا إلى المسيح ألطافا
معهم من ذهب، ومر ولبان، وأنهم نظروا إلى نجمه قد طلع، فعرفوا ذلك
بالحساب، وقربوا الألطاف إليه ببيت لحم من فلسطين فلما عرف هيردوس
خبرهم كاد المسيح، فطلبه ليقتله، فأمر الله الملك أن يقول ليوسف الذي
كان مع مريم في الكنيسة ما أراد هيردوس من قتله، وأمره أن يهرب بالغلام
وأمه إلى مصر، فلما مات هيردوس قَالَ الملك ليوسف وهو بمصر: إن هيردوس
قد مات، وملك مكانه أركلاوس ابنه، وذهب من كان يطلب نفس الغلام، فانصرف
به إلى ناصرة من فلسطين ليتم قول شعيا النبي: من مصر دعوتك ومات
أركلاوس، وملك مكانه هيردوس الصغير، الذي صلب شبه المسيح في ولايته،
وكانت الرياسة في ذلك الوقت لملوك اليونانية والروم، وكان هيردوس وولده
من قبلهم، إلا أنهم كانوا يلقبون باسم الملك، وكان الملوك الكبار
يلقبون بقيصر، وكان ملك بيت المقدس في وقت الصلب لهيردوس الصغير من قبل
طيباريوس بن أغوسطوس دون القضاء، وكان القضاء لرجل رومي يقال له:
فيلاطوس من قبل قيصر، وكانت رياسة الجالوت ليونن بن بهبوثن.
قَالَ: وذكروا أن الذي شبه بعيسى وصلب مكانه رجل إسرائيلي، يقال له:
أيشوع بن فنديرا وكان ملك طيباريوس ثلاثا وعشرين سنة وأياما منها إلى
وقت ارتفاع المسيح ثماني عشرة سنة وأيام، ومنها بعد ذلك خمس سنين
(1/605)
|