تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ الطبري

ذِكْرُ الْخَبَرِ عَنْ فَتْحِ مَكَّةَ
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قال: حَدَّثَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ،

(3/42)


قال: ثم اقام رسول الله ص بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ بَعْثِهِ إِلَى مُؤْتَةَ، جُمَادَى الآخِرَةَ ورجب.
ثُمَّ إِنَّ بَنِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ عَدَتْ عَلَى خُزَاعَةَ، وَهُمْ عَلَى مَاءٍ لَهُمْ بِأَسْفَلَ مَكَّةَ، يُقَالُ لَهُ الْوَتِيرُ وَكَانَ الَّذِي هَاجَ مَا بَيْنَ بَنِي بَكْرٍ وبنى خزاعة رجل من بلحضرمى، يُقَالُ لَهُ مَالِكُ بْنُ عَبَّادٍ- وَحِلْفُ الْحَضْرَمِيِّ يَوْمَئِذٍ إِلَى الأَسْوَدِ بْنِ رِزْنٍ- خَرَجَ تَاجِرًا، فَلَمَّا تَوَسَّطَ أَرْضَ خُزَاعَةَ عَدَوْا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ، وَأَخَذُوا مَالَهُ، فَعَدَتْ بَنُو بَكْرٍ عَلَى رَجُلٍ مِنْ خُزَاعَةَ فَقَتَلُوهُ، فَعَدَتْ خُزَاعَةُ قُبَيْلَ الإِسْلامِ عَلَى بَنِي الأَسْوَدِ بْنِ رِزْنٍ الدِّيلِيِّ، وَهُمْ مَنْخَرُ بَنِي بَكْرٍ وَأَشْرَافُهُمْ: سُلْمَى، وَكُلْثُومٌ، وَذُؤَيْبٌ، فَقَتَلُوهُمْ بِعَرَفَةَ عِنْدَ أَنْصَابِ الْحَرَمِ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي الدِّيلِ، قَالَ: كَانَ بَنُو الأَسْوَدِ يُودَوْنَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ديتين ديتين، ونودى ديه ديه لفضلهم فينا.
فَبَيْنَا بَنُو بَكْرٍ وَخُزَاعَةُ عَلَى ذَلِكَ حَجَزَ بَيْنَهُمُ الإِسْلامُ، وَتَشَاغَلَ النَّاسُ بِهِ، فَلَمَّا كَانَ صلح الحديبية بين رسول الله ص وَبَيْنَ قُرَيْشٍ كَانَ فِيمَا شَرَطُوا عَلَى رَسُولِ الله ص، وَشَرَطَ لَهُمْ- كَمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ وَغَيْرِهِ مِنْ عُلَمَائِنَا- أَنَّهُ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْخُلَ في عهد رسول الله ص وَعَقْدِهِ دَخَلَ فِيهِ، وَمَن أَحَبَّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ وَعَقْدِهِمْ دَخَلَ فِيهِ، فَدَخَلَتْ بَنُو بَكْرٍ فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ، وَدَخَلَتْ خُزَاعَةُ في عقد رسول الله ص.
فَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ الْهُدْنَةُ اغْتَنَمَتْهَا بَنُو الدِّيلِ، مِنْ بَنِي بَكْرٍ مِنْ خُزَاعَةَ

(3/43)


وَأَرَادُوا أَنْ يُصِيبُوا مِنْهُمْ ثَأْرًا بِأُولَئِكَ النَّفَرِ الَّذِينَ أَصَابُوا مِنْهُمْ بِبَنِي الأَسْوَدِ بْنِ رِزْنٍ، فَخَرَجَ نَوْفَلُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الدِّيلِيُّ فِي بَنِي الدِّيلِ- وَهُوَ يَوْمَئِذٍ قَائِدُهُمْ، لَيْسَ كُلُّ بَنِي بَكْرٍ تَابِعَهُ- حَتَّى بَيَّتَ خُزَاعَةَ، وَهُمْ عَلَى الوتير، ماء لهم، فأصابوا منهم رجلا وتجاوزوا وَاقْتَتَلُوا، وَرَفَدَتْ قُرَيْشٌ بَنِي بَكْرٍ بِالسِّلاحِ وَقَاتَلَ مَعَهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ مَنْ قَاتَلَ بِاللَّيْلِ مُسْتَخْفِيًا، حَتَّى حَازُوا خُزَاعَةَ إِلَى الْحَرَمِ.
- قَالَ الواقدي: كَانَ مِمَّنْ أَعَانَ مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي بَكْرٍ عَلَى خُزَاعَةَ لَيْلَتَئِذٍ بِأَنْفُسِهِمْ مُتَنَكِّرِينَ صَفْوَانُ بْنُ أمية، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عَمْرٍو، مَعَ غَيْرِهِمْ وَعَبِيدِهِمْ- رَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَيْهِ قَالَتْ بَنُو بَكْرٍ: يَا نَوْفَلُ، إِنَّا قَدْ دَخَلْنَا الْحَرَمَ إِلَهَكَ إِلَهَكَ، فَقَالَ: كَلِمَةً عَظِيمَةً إِنَّهُ لا إِلَهَ لَهُ الْيَوْمَ! يَا بَنِي بَكْرٍ أَصِيبُوا ثَأْرَكُمْ، فَلَعَمْرِي إِنَّكُمْ لَتَسْرِقُونَ فِي الْحَرَمِ، أَفَلا تُصِيبُونَ ثَأْرَكُمْ فِيهِ! وَقَدْ أَصَابُوا مِنْهُمْ لَيْلَةَ بَيَّتُوهُمْ بِالْوَتِيرِ رَجُلا يُقَالُ لَهُ مُنَبِّهٌ، وَكَانَ مُنَبِّهٌ رَجُلا مَفْئُودًا خَرَجَ هُوَ وَرَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ، يُقَالُ لَهُ تَمِيمُ بْنُ أَسَدٍ- فَقَالَ لَهُ مُنَبِّهٌ: يَا تَمِيمُ، انْجُ بنفسك، فاما انا فو الله إِنِّي لَمَيِّتٌ قَتَلُونِي أَوْ تَرَكُونِي، لَقَدْ أَنَّبْتُ فُؤَادِيَ فَانْطَلَقَ تَمِيمٌ فَأَفْلَتَ، وَأَدْرَكُوا مُنَبِّهًا فَقَتَلُوهُ- فَلَمَّا دَخَلَتْ خُزَاعَةُ مَكَّةَ لَجَئُوا إِلَى دَارِ بُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيِّ وَدَارَ مَوْلًى لَهُمْ يُقَالُ لَهُ رَافِعٌ.
قَالَ: فَلَمَّا تَظَاهَرَتْ بَنُو بكر وقريش على خزاعة، وأصابوا منهم مَا أَصَابُوا، وَنَقَضُوا مَا كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رسول الله ص مِنَ الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ بِمَا اسْتَحَلُّوا مِنْ خُزَاعَةَ- وَكَانُوا فِي عَقْدِهِ وَعَهْدِهِ- خَرَجَ عَمْرُو بْنُ سَالِمٍ الْخُزَاعِيُّ، ثُمَّ أَحَدُ بَنِي كَعْبٍ، حَتَّى قدم على رسول الله ص

(3/44)


الْمَدِينَةَ، وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا هَاجَ فَتْحَ مَكَّةَ، فَوَقَفَ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ جَالِسٌ بَيْنَ ظهراني الناس، فقال:
لا هم انى ناشد محمدا ... حلف أبينا وابيه ألا تلدا
فَوَالِدًا كُنَّا وَكُنْتَ وَلَدًا ... ثُمَّتَ أَسْلَمْنَا فَلَمْ نَنْزِعْ يَدَا
فَانْصُرْ رَسُولَ اللَّهِ نَصْرًا أَعْتَدَا ... وَادْعُ عِبَادَ اللَّهِ يَأْتُوا مَدَدَا
فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ قَدْ تَجَرَّدَا ... أَبْيَضَ مِثْلَ الْبَدْرِ يُنْمِي صُعُدَا
إِنْ سِيمَ خَسْفًا وَجْهُهُ تَرَبَّدَا ... فِي فَيْلَقٍ كَالْبَحْرِ يَجْرِي مُزْبِدَا
إِنَّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوكَ الْمَوْعِدَا ... وَنَقَضُوا مِيثَاقَكَ الْمُؤَكَّدَا
وَجَعَلُوا لِي فِي كَدَاءَ رَصَدَا ... وَزَعَمُوا أَنْ لَسْتُ أَدْعُو أَحَدَا
وَهُمْ أَذَلُّ وَأَقَلُّ عَدَدَا ... هُمْ بَيَّتُونَا بِالْوَتِيرِ هُجَّدَا
فَقَتَلُونَا رُكَّعًا وَسُجَّدَا.
يَقُولُ: قَدْ قَتَلُونَا وقد أسلمنا فقال رسول الله ص حِينَ سَمِعَ ذَلِكَ: قَدْ نُصِرْتَ يَا عَمْرُو بن سالم! ثم عرض لرسول الله ص عَنَانٌ مِنَ السَّمَاءِ، فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ السَّحَابَةَ لَتَسْتَهِلُّ بِنَصْرِ بَنِي كَعْبٍ.
ثُمَّ خَرَجَ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ فِي نَفَرٍ مِنْ خُزَاعَةَ حَتَّى قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ الْمَدِينَةَ، فَأَخْبَرُوهُ بِمَا أُصِيبَ مِنْهُمْ، وَبِمُظَاهَرَةِ قُرَيْشٍ بَنِي بَكْرٍ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ انْصَرَفُوا رَاجِعِينَ إِلَى مَكَّةَ [وَقَدْ كَانَ رسول الله ص قَالَ لِلنَّاسِ:
كَأَنَّكُمْ بِأَبِي سُفْيَانَ قَدْ جَاءَ لِيَشْدُدَ الْعَقْدَ، وَيَزِيدَ فِي الْمُدَّةِ]

(3/45)


وَمَضَى بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ وَأَصْحَابُهُ، فَلَقُوا أَبَا سُفْيَانَ بِعُسْفَانَ، قَدْ بَعَثَتْهُ قُرَيْشٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ لِيَشْدُدَ الْعَقْدَ وَيَزِيدَ فِي الْمُدَّةِ، وَقَدْ رَهَبُوا الَّذِي صَنَعُوا، فَلَمَّا لَقِيَ أَبُو سُفْيَانَ بُدَيْلا، قَالَ: مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ يَا بُدَيْلُ؟ وَظَنَّ أَنَّهُ قَدْ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: سرت في خزاعة في الساحل وفي بطن هذا الوادى.
قال: او ما أَتَيْتَ مُحَمَّدًا؟ قَالَ: لا قَالَ: فَلَمَّا رَاحَ بُدَيْلٌ إِلَى مَكَّةَ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لَئِنْ كَانَ جَاءَ الْمَدِينَةَ لَقَدْ عَلَفَ بِهَا النَّوَى، فَعَمَدَ إِلَى مَبْرَكِ نَاقَتِهِ، فَأَخَذَ مِنْ بَعْرِهَا فَفَتَّهُ، فَرَأَى فِيهِ النَّوَى، فَقَالَ: أَحْلِفُ بِاللَّهِ لَقَدْ جَاءَ بُدَيْلٌ مُحَمَّدًا.
ثُمَّ خَرَجَ أَبُو سفيان حتى قدم على رسول الله ص الْمَدِينَةَ، فَدَخَلَ عَلَى ابْنَتِهِ أُمِّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ، فَلَمَّا ذَهَبَ لِيَجْلِسَ عَلَى فِرَاشِ رسول الله ص طَوَتْهُ عَنْهُ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّةُ، وَاللَّهِ مَا أَدْرِي أَرَغِبْتِ بِي عَنْ هَذَا الْفِرَاشِ، أَمْ رَغِبْتِ بِهِ عَنِّي! قَالَتْ: بَلْ هُوَ فِرَاشُ رَسُولِ اللَّهِ، وَأَنْتَ رَجُلٌ مُشْرِكٌ نَجِسٌ، فَلَمْ أُحِبَّ أَنْ تَجْلِسَ عَلَى فِرَاشِ رَسُولِ اللَّهِ، قَالَ:
وَاللَّهِ لَقَدْ أَصَابَكِ يَا بُنَيَّةُ بَعْدِي شَرٌّ ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ ص، فَكَلَّمَهُ فَلَمْ يَرْدُدْ عَلَيْهِ شَيْئًا، ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَكَلَّمَهُ أَنْ يُكَلِّمَ لَهُ رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ ثُمَّ أَتَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَكَلَّمَهُ فَقَالَ:
أَنَا اشفع لكم الى رسول الله! فو الله لَوْ لَمْ أَجِدْ إِلا الذَّرَّ لَجَاهَدْتُكُمْ ثُمَّ خَرَجَ فَدَخَلَ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَعِنْدَهُ فَاطِمَةُ ابْنَةُ رَسُولِ اللَّهِ، وَعِنْدَهَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، غُلامٌ يَدُبٌّ بَيْنَ يَدَيْهَا، فَقَالَ: يَا عَلِيُّ، إِنَّكَ أَمَسُّ الْقَوْمِ بِي رَحِمًا، وَأَقَرَبُهُمْ مِنِّي قَرَابَةً، وَقَدْ جِئْتُ فِي حَاجَةٍ، فَلا أَرْجِعَنَّ كَمَا جِئْتُ خَائِبًا، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ! قَالَ: وَيْحَكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ! وَاللَّهِ لَقَدْ عَزَمَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى أَمْرٍ مَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نُكَلِّمَهُ فِيهِ، فَالْتَفَتَ إِلَى فَاطِمَةَ، فَقَالَ: يَا ابْنَةَ مُحَمَّدٍ، هَلْ لَكِ أَنْ تَأْمُرِي بُنَيَّكِ هَذَا فَيُجِيرُ بَيْنَ النَّاسِ، فَيَكُونَ سَيِّدَ الْعَرَبِ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ! قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا بلغ بنيى ذلك

(3/46)


أَنْ يُجِيرَ بَيْنَ النَّاسِ، وَمَا يُجِيرُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ أَحَدٌ قَالَ: يَا أَبَا الْحَسَنِ، إِنِّي أَرَى الأُمُورَ قَدِ اشْتَدَّتْ عَلَيَّ فَانْصَحْنِي فَقَالَ لَهُ: وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ شَيْئًا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا، وَلَكِنَّكَ سَيِّدُ بَنِي كِنَانَةَ، فَقُمْ فَأَجِرْ بَيْنَ النَّاسِ، ثُمَّ الْحَقْ بِأَرْضِكَ.
قَالَ: او ترى ذَلِكَ مُغْنِيًا عَنِّي شَيْئًا! قَالَ: لا وَاللَّهِ مَا أَظُنُّ، وَلَكِنْ لا أَجِدُ لَكَ غَيْرَ ذَلِكَ، فَقَامَ أَبُو سُفْيَانَ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي قَدْ أَجَرْتُ بَيْنَ النَّاسِ، ثُمَّ رَكِبَ بَعِيرَهُ فَانْطَلَقَ.
فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى قُرَيْشٍ، قَالُوا: مَا وَرَاءَكَ؟ قَالَ: جِئْتُ مُحَمَّدًا فكلمته، فو الله مَا رَدَّ عَلَيَّ شَيْئًا، ثُمَّ جِئْتُ ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ، فَلَمْ أَجِدْ عِنْدَهُ خَيْرًا، ثُمَّ جِئْتُ ابْنَ الْخَطَّابِ، فَوَجَدْتُهُ أَعْدَى الْقَوْمِ، ثُمَّ جِئْتُ عَلِيَّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَوَجَدْتُهُ أَلْيَنَ القوم، وقد اشار على بشيء صنعته، فو الله مَا أَدْرِي هَلْ يُغْنِينِي شَيْئًا أَمْ لا! قَالُوا: وَبِمَاذَا أَمَرَكَ؟ قَالَ: أَمَرَنِي أَنْ أُجِيرَ بَيْنَ النَّاسِ فَفَعَلْتُ، قَالُوا: فَهَلْ أَجَازَ ذَلِكَ مُحَمَّدٌ؟ قَالَ: لا، قَالُوا: وَيْلَكَ! وَاللَّهِ إِنْ زَادَ عَلَى أَنْ لَعِبَ بِكَ، فَمَا يُغْنِي عَنَّا مَا قُلْتَ قَالَ: لا وَاللَّهِ، مَا وَجَدْتُ غَيْرَ ذَلِكَ، قَالَ: وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ص النَّاسَ بِالْجِهَازِ، وَأَمَرَ أَهْلَهُ أَنْ يُجَهِّزُوهُ، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى ابْنَتِهِ عَائِشَةَ وَهِيَ تُحَرِّكُ بعض جهاز رسول الله ص، فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّةُ، أَأَمَرَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ بِأَنْ تُجَهِّزُوهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَتَجَهَّزْ، قَالَ: فَأَيْنَ تَرَيْنَهُ يُرِيدُ؟ قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي.
ثُمَّ إِنَّ رسول الله ص أَعْلَمَ النَّاسَ أَنَّهُ سَائِرٌ إِلَى مَكَّةَ، وَأَمَرَهُمْ بِالْجِدِّ وَالتَّهَيُّؤِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ خُذِ الْعُيُونَ وَالأَخْبَارَ عَنْ قُرَيْشٍ حَتَّى نَبْغَتَهَا فِي بِلادِهَا.
فَتَجَهَّزَ النَّاسُ، فَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيُّ يُحَرِّضُ النَّاسَ، وَيَذْكُرُ مُصَابَ رِجَالِ خُزَاعَةَ:

(3/47)


أَتَانِي وَلَمْ أَشْهَدْ بِبَطْحَاءَ مَكَّةٍ ... رِجَالُ بَنِي كَعْبٍ تُحَزُّ رِقَابُهَا
بِأَيْدِي رِجَالٍ لَمْ يَسِلُّوا سُيُوفَهُمْ ... وَقَتْلَى كَثِيرٍ لَمْ تُجَنَّ ثِيَابُهَا
أَلا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ تَنَالَنَّ نُصْرَتِي ... سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو حَرُّهَا وَعِقَابُهَا!
وَصَفْوَانَ عُودًا حَزَّ مِنْ شفر استه ... فهذا او ان الحرب شد عصابها
فلا تامننا يا بن أُمِّ مُجَالِدٍ ... إِذَا احْتَلَبَتْ صَرْفًا وَأَعْصَلَ نَابُهَا
فَلا تَجْزَعُوا مِنْهَا فَإِنَّ سُيُوفَنَا ... لَهَا وَقْعَةٌ بِالْمَوْتِ يُفْتَحُ بَابُهَا
وَقَوْلُ حَسَّانٍ.
بِأَيْدِي رِجَالٍ لَمْ يَسُلُّوا سُيُوفَهُمْ.
يَعْنِي قُرَيْشًا وَابْنَ أُمِّ مُجَالِدٍ، يَعْنِي عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن محمد بن جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَغَيْرِهِ مِنْ عُلَمَائِنَا، قَالُوا: لَمَّا أَجْمَعَ رَسُولُ اللَّهِ ص الْمَسِيرَ إِلَى مَكَّةَ، كَتَبَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ كِتَابًا إِلَى قُرَيْشٍ، يُخْبِرُهُمْ بِالَّذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ مِنَ الأَمْرِ فِي السَّيْرِ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ أَعْطَاهُ امْرَأَةً- يَزْعُمُ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ أَنَّهَا مِنْ مُزَيْنَةَ، وَزَعَمَ غَيْرُهُ أَنَّهَا سَارَّةُ، مَوْلاةٌ لِبَعْضِ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ- وَجَعَلَ لَهَا جُعْلا عَلَى أَنْ تُبَلِّغَهُ قُرَيْشًا فَجَعَلَتْهُ فِي رَأْسِهَا، ثُمَّ فَتَلَتْ عَلَيْهِ قُرُونَهَا، ثُمَّ خرجت به واتى رسول الله ص الْخَبَرُ مِنَ السَّمَاءِ بِمَا صَنَعَ حَاطِبٌ، فَبَعَثَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ، فَقَالَ: أَدْرِكَا امْرَأَةً

(3/48)


قَدْ كَتَبَ مَعَهَا حَاطِبٌ بِكِتَابٍ إِلَى قُرَيْشٍ، يُحَذِّرُهُمْ مَا قَدْ أَجْمَعْنَا لَهُ فِي أَمْرِهِمْ، فَخَرَجَا حَتَّى أَدْرَكَاهَا بِالْحُلَيْفَةِ، حُلَيْفَةِ ابْنِ أَبِي أَحْمَدَ، فَاسْتَنْزَلاهَا، فَالْتَمَسَا فِي رَحْلِهَا، فَلَمْ يَجِدَا شَيْئًا، [فَقَالَ لَهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ:
انى احلف ما كذب رسول الله وَلا كُذِبْنَا، وَلْتُخْرِجِنَّ إِلَيَّ هَذَا الْكِتَابَ أَوْ لَنَكْشِفَنَّكِ،] فَلَمَّا رَأَتِ الْجِدَّ مِنْهُ، قَالَتْ: أَعْرِضْ عَنِّي، فَأَعْرَضَ عَنْهَا، فَحَلَّتْ قُرُونَ رَأْسِهَا، فَاسْتَخْرَجَتِ الْكِتَابَ مِنْهُ، فَدَفَعَتْهُ إِلَيْهِ، فَجَاءَ بِهِ إِلَى رسول الله ص، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ حَاطِبًا، فَقَالَ:
يَا حَاطِبُ، مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَمُؤْمِنٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، مَا غَيَّرْتُ وَلا بَدَّلْتُ، وَلَكِنِّي كُنْتُ امْرَأً لَيْسَ لِي فِي الْقَوْمِ أَصْلٌ وَلا عَشِيرَةٌ، وَكَانَ لِي بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ أَهْلٌ وَوَلَدٌ، فَصَانَعْتُهُمْ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دَعْنِي فَلأَضْرِبْ عُنُقَهُ، فَإِنَّ الرَّجُلَ قَدْ نافق، فقال رسول الله ص: وَمَا يُدْرِيكَ يَا عُمَرُ، لَعَلَّ اللَّهَ قَدِ اطَّلَعَ إِلَى أَصْحَابِ بَدْرٍ يَوْمَ بَدْرٍ، فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ! فَأَنْزَلَ الله عز وجل في حاطب: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ» الى قوله: «وَإِلَيْكَ أَنَبْنا» إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: ثُمَّ مَضَى رَسُولُ الله ص لسفره، واستخلف

(3/49)


عَلَى الْمَدِينَةِ أَبَا رُهْمٍ كُلْثُومَ بْنَ حُصَيْنِ بْنِ خَلَفٍ الْغِفَارِيَّ، وَخَرَجَ لِعَشْرٍ مَضَيْنَ مِنْ شهر رمضان، فصام رسول الله ص، وَصَامَ النَّاسُ مَعَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِالْكَدِيدِ مَا بَيْنَ عَسفَانَ وَأَمَجَ، أَفْطَرَ رَسُولُ اللَّهِ ص، ثُمَّ مَضَى حَتَّى نَزَلَ مَرَّ الظَّهْرَانِ فِي عَشَرَةِ آلافٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَسَبَّعَتْ سُلَيْمٌ، وَأَلَّفَتْ مُزَيْنَةُ وَفِي كُلِّ الْقَبَائِلِ عُدَدٌ وَإِسْلامٌ، وَأَوْعَبَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ، فَلَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَلَمَّا نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ ص مَرَّ الظَّهْرَانِ، وَقَدْ عَمِيَتِ الأَخْبَارُ عَنْ قُرَيْشٍ فَلا يَأْتِيهِمْ خَبَرٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، وَلا يَدْرُونَ مَا هُوَ فَاعِلٌ، فَخَرَجَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، وَبُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ، يَتَحَسَّسُونَ الأَخْبَارَ، هَلْ يَجِدُونَ خَبَرًا أَوْ يَسْمَعُونَ بِهِ! حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: وَقَدْ كَانَ فِيمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْبَدِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَقَدْ كَانَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ تَلَقَّى رَسُولَ الله ص بِبَعْضِ الطَّرِيقِ، وَقَدْ كَانَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ المغيره قد لقيا رسول الله ص بِنِيقِ الْعُقَابِ، فِيمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَالْتَمَسَ الدخول على رسول الله، فَكَلَّمَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ فِيهِمَا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ابْنُ عَمِّكَ وَابْنُ عَمَّتِكَ وَصِهْرُكَ، قَالَ: لا حَاجَةَ لِي بِهِمَا، أَمَّا ابْنُ عَمِّي فَهَتَكَ عِرْضِي، وَأَمَّا ابْنُ عَمَّتِي وَصِهْرِي فَهُوَ الَّذِي قَالَ بِمَكَّةَ مَا قَالَ.
فَلَمَّا خَرَجَ الْخَبَرُ إِلَيْهِمَا بِذَلِكَ، وَمَعَ أَبِي سُفْيَانَ بُنَيٌّ لَهُ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَيَأْذَنَنَّ لِي أَوْ لآخُذَنَّ بِيَدِ بُنَيَّ هَذَا، ثُمَّ لَنَذْهَبَنَّ فِي الأَرْضِ، حَتَّى نَمُوتَ عَطَشًا وَجُوعًا فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ رسول الله ص رَقَّ لَهُمَا، ثُمَّ أَذِنَ لَهُمَا،

(3/50)


فَدَخَلا عَلَيْهِ، فَأَسْلَمَا وَأَنْشَدَهُ أَبُو سُفْيَانَ قَوْلَهُ فِي إِسْلامِهِ وَاعْتِذَارِهِ مِمَّا كَانَ مَضَى مِنْهُ:
لَعَمْرِيَ إِنِّي يَوْمَ أَحْمِلُ رَايَةً ... لِتَغْلِبَ خَيْلُ اللَّاتِ خَيْلَ مُحَمَّدِ
لَكَالْمُدْلِجِ الْحَيْرَانِ أَظْلَمَ لَيْلُهُ ... فَهَذَا أَوَانِي حِينَ أُهْدَى وَأَهْتَدِي
وَهَادٍ هَدَانِي غَيْرَ نَفْسِي وَنَالَنِي ... مَعَ اللَّهِ مَنْ طَرَّدْتُ كُلَّ مُطَرَّدِ
أَصُدُّ وَأَنْأَى جَاهِدًا عَنْ مُحَمَّدٍ ... وَأُدْعَى وَلَوْ لَمْ أَنْتَسِبْ مِنْ مُحَمَّدِ
هُمُ مَا هُمُ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِهَوَاهُمُ ... وَإِنْ كَانَ ذَا رَأْيٍ يُلَمُّ وَيُفْنَدِ
أُرِيدُ لأُرْضِيهِمْ وَلَسْتُ بِلائِطٍ ... مَعَ الْقَوْمِ مَا لَمْ أُهْدَ فِي كُلِّ مَقْعَدِ
فَقُلْ لِثَقِيفٍ لا أُرِيدُ قتالها ... وقل لثقيف تلك غيرى او عدى
وَمَا كُنْتُ فِي الْجَيْشِ الَّذِي نَالَ عَامِرًا ... وَمَا كَانَ عَنْ جَرَّى لِسَانِي وَلا يَدِي
قَبَائِلُ جَاءَتْ مِنْ بِلادٍ بَعِيدَةٍ ... نَزَائِعُ جَاءَتْ مِنْ سِهَامٍ وَسُرْدَدِ
قَالَ: فَزَعَمُوا أَنَّهُ حِينَ انشد رسول الله ص قَوْلَهُ: وَنَالَنِي مَعَ اللَّهِ مَنْ طَرَّدْتُ كُلَّ مطرد، ضرب النبي ص فِي صَدْرِهِ، ثُمَّ قَالَ: أَنْتَ طَرَّدْتَنِي كُلَّ مطرد! وقال الواقدى: خرج رسول الله ص إِلَى مَكَّةَ، فَقَائِلٌ يَقُولُ: يُرِيدُ قُرَيْشًا، وَقَائِلٌ يَقُولُ: يُرِيدُ هَوَازِنَ، وَقَائِلٌ يَقُولُ: يُرِيدُ ثَقِيفًا، وَبَعَثَ إِلَى الْقَبَائِلِ فَتَخَلَّفَتْ عَنْهُ، وَلَمْ يَعْقِدِ الأَلْوِيَةَ وَلَمْ يَنْشُرِ الرَّايَاتِ حَتَّى قَدِمَ قُدَيْدًا، فَلَقِيَتْهُ بَنُو سُلَيْمٍ عَلَى الْخَيْلِ وَالسِّلاحِ التَّامِّ، وقد كان عيينه

(3/51)


لحق رسول الله بِالْعَرَجِ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَلَحِقَهُ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ بِالسُّقْيَا، فَقَالَ عُيَيْنَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا أَرَى آلَةَ الْحَرْبِ وَلا تَهْيِئَةَ الإِحْرَامِ، فَأَيْنَ تَتَوَجَّهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فقال رسول الله؟ فقال رسول الله ص:
حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ ص أَنْ تُعَمَّى عَلَيْهِمُ الأَخْبَارُ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ ص مَرَّ الظَّهْرَانِ، وَلَقِيَهُ الْعَبَّاسُ بِالسُّقْيَا، وَلَقِيَهُ مَخْرَمَةُ بْنُ نَوْفَلٍ بِنِيقِ الْعُقَابِ.
فَلَمَّا نَزَلَ مَرَّ الظَّهْرَانِ خَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَمَعَهُ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ فَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي حُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَ رَسُولُ الله ص مَرَّ الظَّهْرَانِ، قَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وقد خرج رسول الله ص مِنَ الْمَدِينَةِ: يَا صَبَاحَ قُرَيْشٍ! وَاللَّهِ لَئِنْ بغتها رسول الله فِي بِلادِهَا، فَدَخَلَ مَكَّةَ عَنْوَةً، إِنَّهُ لَهَلاكُ قُرَيْشٍ آخِرَ الدَّهْرِ! فَجَلَسَ عَلَى بَغْلَةِ رَسُولِ الله ص الْبَيْضَاءَ، وَقَالَ: أَخْرُجُ إِلَى الأَرَاكِ لَعَلِّي أَرَى حَطَّابًا أَوْ صَاحِبَ لَبَنٍ، أَوْ دَاخِلا يَدْخُلُ مكة، فيخبرهم بمكان رسول الله، فيأتونه فيستامنونه فخرجت، فو الله إِنِّي لأَطُوفُ فِي الأَرَاكِ أَلْتَمِسُ مَا خَرَجْتُ لَهُ، إِذْ سَمِعْتُ صَوْتَ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء، وَقَدْ خَرَجُوا يَتَحَسَّسُونَ الْخَبَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ص، فَسَمِعْتُ أَبَا سُفْيَانَ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ قَطُّ نِيرَانًا! فَقَالَ بُدَيْلٌ: هَذِهِ وَاللَّهِ نِيرَانُ خُزَاعَةَ، حَمَشَتْهَا الْحَرْبُ! فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: خُزَاعَةُ أَلأَمُ مِنْ ذَلِكَ وَأَذَلُّ! فَعَرَفْتُ صوته، فقلت:

(3/52)


يَا أَبَا حَنْظَلَةَ! فَقَالَ: أَبُو الْفَضْلِ! فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: لَبَّيْكَ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي! فَمَا وَرَاءَكَ؟ فَقُلْتُ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ وَرَائِي قَدْ دَلَفَ إِلَيْكُمْ بِمَا لا قِبَلَ لَكُمْ بِهِ بِعَشْرَةِ آلافٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَالَ: فَمَا تَأْمُرُنِي؟ فَقُلْتُ:
تَرْكَبُ عَجُزَ هَذِهِ الْبَغْلَةِ، فَأَسْتَأْمِنُ لَكَ رسول الله، فو الله لَئِنْ ظَفِرَ بِكَ لَيَضْرِبَنَّ عُنُقَكَ، فَرَدَفَنِي فَخَرَجْتُ به اركض بغله رسول الله ص نحو رسول الله ص، فَكُلَّمَا مَرَرْتُ بِنَارٍ مِنْ نِيرَانِ الْمُسْلِمِينَ وَنَظَرُوا الى، قالوا: عم رسول الله عَلَى بَغْلَةِ رَسُولِ اللَّهِ، حَتَّى مَرَرْتُ بِنَارِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: أَبُو سُفْيَانَ! الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَمْكَنَ مِنْكَ بِغَيْرِ عَقْدٍ وَلا عهد! ثم اشتد نحو النبي ص، وَرَكَّضْتُ الْبَغْلَةَ، وَقَدْ أَرْدَفْتُ أَبَا سُفْيَانَ، حَتَّى اقْتَحَمْتُ عَلَى بَابِ الْقُبَّةِ، وَسَبَقْتُ عُمَرَ بِمَا تَسْبِقُ بِهِ الدَّابَّةُ الْبَطِيئَةُ الرَّجُلَ الْبَطِيءَ، فَدَخَلَ عمر على رسول الله ص، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا أَبُو سُفْيَانَ عَدُوُّ اللَّهِ، قَدْ أَمْكَنَ اللَّهُ مِنْهُ بِغَيْرِ عَهْدٍ وَلا عَقْدٍ، فَدَعْنِي أَضْرِبُ عُنُقَهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي قَدْ أَجَرْتُهُ! ثُمَّ جلست الى رسول الله ص فَأَخَذْتُ بِرَأْسِهِ، فَقُلْتُ:
وَاللَّهِ لا يُنَاجِيهِ الْيَوْمَ أَحَدٌ دُونِي! فَلَمَّا أَكْثَرَ فِيهِ عُمَرُ، قُلْتُ: مهلا يا عمر! فو الله مَا تَصْنَعُ هَذَا إِلا لأَنَّهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، وَلَوْ كَانَ مِنْ بَنِي عدى ابن كَعْبٍ مَا قُلْتَ هَذَا فَقَالَ: مَهْلا يَا عباس! فو الله لإِسْلامُكَ يَوْمَ أَسْلَمْتَ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ إِسْلامِ الْخَطَّابِ لَوْ أَسْلَمَ! وَذَلِكَ لأَنِّي أَعْلَمُ أَنَّ إِسْلامَكَ كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ مِنْ إِسْلامِ الْخَطَّابِ لَوْ أَسْلَمَ، فَقَالَ رَسُولُ الله ص: اذْهَبْ فَقَدْ أَمَّنَّاهُ حَتَّى تَغْدُوَ بِهِ عَلَيَّ بِالْغَدَاةِ فَرَجَعَ بِهِ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ غدا به على رسول الله ص، فلما رآه قال:
[وَيْحَكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ! أَلَمْ يَأْنِ لَكَ أَنْ تَعْلَمَ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ! فَقَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، مَا أَوْصَلَكَ وَأَحْلَمَكَ وَأَكْرَمَكَ!] وَاللَّهِ لَقَدْ ظَنَنْتُ أَنْ لَوْ كَانَ مَعَ اللَّهِ غَيْرُهُ لَقَدْ أَغْنَى عَنِّي شَيْئًا، فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ! أَلَمْ يَأْنِ لَكَ أَنْ تَعْلَمَ أَنِّي

(3/53)


رَسُولُ اللَّهِ! فَقَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي مَا أَوْصَلَكَ وَأَحْلَمَكَ وَأَكْرَمَكَ! أَمَّا هَذِهِ فَفِي النَّفْسِ مِنْهَا شَيْءٌ! فَقَالَ الْعَبَّاسُ: فَقُلْتُ لَهُ وَيْلَكَ! تَشَهَّدْ شَهَادَةَ الْحَقِّ قَبْلَ وَاللَّهِ أَنْ تُضْرَبَ عُنُقُكَ، قَالَ: فَتَشَهَّدَ.
قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص لِلْعَبَّاسِ حِينَ تَشَهَّدَ أَبُو سُفْيَانَ:
انْصَرِفْ يَا عَبَّاسُ فَاحْبِسْهُ عِنْدَ خَطْمِ الْجَبَلِ بِمَضِيقِ الْوَادِي، حَتَّى تَمُرَّ عَلَيْهِ جُنُودُ اللَّهِ، فَقُلْتُ لَهُ: [يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ يُحِبُّ الْفَخْرَ، فَاجْعَلْ لَهُ شَيْئًا يَكُونُ فِي قَوْمِهِ فَقَالَ: نَعَمْ، مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ] .
فَخَرَجْتُ حَتَّى حَبَسْتُهُ عِنْدَ خَطْمِ الْجَبَلِ بِمَضِيقِ الْوَادِي، فَمَرَّتْ عَلَيْهِ الْقَبَائِلُ، فَيَقُولُ: مَنْ هَؤُلاءِ يَا عَبَّاسُ؟ فَأَقُولُ: سُلَيْمٌ، فَيَقُولُ: مَا لِي وَلِسُلَيْمٍ! فَتَمُرُّ بِهِ قَبِيلَةٌ، فَيَقُولُ: مَنْ هَؤُلاءِ؟ فَأَقُولُ: أَسْلَمُ، فَيَقُولُ: مَا لِي وَلأَسْلَمَ! وَتَمُرُّ جُهَيْنَةُ، فَيَقُولُ: مَا لِي وَلِجُهَيْنَةَ! حَتَّى مَرَّ رسول الله ص في الخضراء، كتيبه رسول الله ص مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ فِي الْحَدِيدِ، لا يُرَى مِنْهُمْ إِلا الْحَدَقُ، فَقَالَ: مَنْ هَؤُلاءِ يَا أَبَا الْفَضْلِ؟ فَقُلْتُ:
هَذَا رَسُولُ اللَّهِ فِي الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، فَقَالَ: يَا أَبَا الْفَضْلِ، لَقَدْ أَصْبَحَ مُلْكُ ابْنِ أَخِيكَ عَظِيمًا فَقُلْتُ: وَيْحَكَ إِنَّهَا النُّبُوَّةُ! فَقَالَ: نَعَمْ إِذًا، فَقُلْت: الْحَقِ الآنَ بِقَوْمِكَ فَحَذِّرْهُمْ، فَخَرَجَ سَرِيعًا حَتَّى أَتَى مَكَّةَ، فَصَرَخَ فِي الْمَسْجِدِ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، هَذَا مُحَمَّدٌ قَدْ جَاءَكُمْ بِمَا لا قِبَلَ لَكُمْ بِهِ! قَالُوا: فَمَهْ! فَقَالَ: مَنْ دَخَلَ دَارِي فَهُوَ آمِنٌ، فَقَالُوا: وَيْحَكَ! وَمَا تُغْنِي عَنَّا دَارُكَ! فَقَالَ: وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ.
حَدَّثَنِي عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنِي

(3/54)


أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا، أَبَانٌ الْعَطَّارُ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ، أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّكَ كَتَبْتَ إِلَيَّ تَسْأَلُنِي عَنْ خَالِدِ بْنِ الوليد: هل اغار يوم الفتح؟ ويأمر مَنْ أَغَارَ؟ وَإِنَّهُ كَانَ مِنْ شَأْنِ خَالِدٍ يوم الفتح انه كان مع النبي ص، فَلَمَّا رَكِبَ النَّبِيُّ بَطْنَ مَرٍّ عَامِدًا إِلَى مَكَّةَ، وَقَدْ كَانَتْ قُرَيْشٌ بَعَثُوا أَبَا سُفْيَانَ وحكيم بن حزام يتلقيان رسول الله ص، وَهُمْ حِينَ بَعَثُوهُمَا لا يَدْرُونَ أَيْنَ يَتَوَجَّهُ النبي ص! إِلَيْهِمْ أَوْ إِلَى الطَّائِفِ! وَذَاكَ أَيَّامَ الْفَتْحِ، وَاسْتَتْبَعَ أَبُو سُفْيَانَ وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ بُدَيْلَ بْنَ وَرْقَاءَ، وَأَحَبَّا أَنْ يَصْحَبَهُمَا، وَلَمْ يَكُنْ غَيْرُ أَبِي سُفْيَانَ وَحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ وَبُدَيْلٍ، وَقَالُوا لَهُمْ حِينَ بَعَثُوهُمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ص: لا نُؤْتَيَنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ، فَإِنَّا لا نَدْرِي مَنْ يُرِيدُ مُحَمَّدٌ! إِيَّانَا يُرِيدُ، أَوُ هَوَازِنَ يريد، او ثقيفا! وكان بين النبي ص وَبَيْنَ قُرَيْشٍ صُلْحٌ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَعَهْدٌ وَمُدَّةٌ، فَكَانَتْ بَنُو بَكْرٍ فِي ذَلِكَ الصُّلْحِ مَعَ قُرَيْشٍ، فَاقْتَتَلَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي كَعْبٍ وَطَائِفَةٌ مِنْ بَنِي بَكْرٍ، وَكَانَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ ص وَبَيْنَ قُرَيْشٍ فِي ذَلِكَ الصُّلْحِ الَّذِي اصْطَلَحُوا عَلَيْهِ: لا أَغْلالَ وَلا أَسْلالَ، فَأَعَانَتْ قُرَيْشٌ بَنِي بَكْرٍ بِالسِّلاحِ، فَاتَّهَمَتْ بَنُو كَعْبٍ قُرَيْشًا، فمنها غزا رسول الله ص أَهْلَ مَكَّةَ، وَفِي غَزْوَتِهِ تِلْكَ لَقِيَ أَبَا سُفْيَانَ وَحَكِيمًا وَبُدَيْلا بِمَرِّ الظَّهْرَانِ، وَلَمْ يَشْعُرُوا ان رسول الله ص نزل مر، حَتَّى طَلَعُوا عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَوْهُ بِمَرٍّ، دَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو سُفْيَانَ وَبُدَيْلٌ وَحَكِيمٌ بِمَنْزِلِهِ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ فَبَايَعُوهُ، فَلَمَّا بَايَعُوهُ بَعَثَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ إِلَى قُرَيْشٍ، يَدْعُوهُمْ إِلَى الإِسْلامِ، فَأُخْبِرْتُ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ- وَهِيَ بِأَعْلَى مَكَّةَ- وَمَنْ دَخَلَ دَارَ حَكِيمٍ- وَهِيَ بِأَسْفَلَ مَكَّةَ- فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ وَكَفَّ يَدَهُ فَهُوَ آمِنٌ.
وَإِنَّهُ لَمَّا خَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ وَحَكِيمٌ مِنْ عِنْدِ النبي ص عَامِدِينَ إِلَى مَكَّةَ، بَعَثَ فِي إِثْرِهِمَا الزُّبَيْرَ وَأَعْطَاهُ رَايَتَهُ، وَأَمَّرَهُ عَلَى خَيْلِ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ

(3/55)


وَأَمَرَهُ أَنْ يَغْرِزَ رَايَتَهُ بِأَعْلَى مَكَّةَ بِالْحَجُونِ، وَقَالَ لِلزُّبَيْرِ: لا تَبْرَحْ حَيْثُ أَمَرْتُكَ أَنْ تَغْرِزَ رَايَتِي حَتَّى آتِيَكَ، وَمِنْ ثَمَّ دَخَلَ رسول الله ص، وَأَمَّرَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ- فِيمَنْ كَانَ أَسْلَمَ مِنْ قُضَاعَةَ وَبَنِي سُلَيْمٍ وَأُنَاسٍ، إِنَّمَا أَسْلَمُوا قُبَيْلَ ذَلِكَ- أَنْ يَدْخُلَ مِنْ أَسْفَلَ مَكَّةَ، وَبِهَا بَنُو بَكْرٍ قَدِ اسْتَنْفَرَتْهُمْ قُرَيْشٌ، وَبَنُو الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ وَمَنْ كَانَ مِنَ الأَحَابِيشِ أَمَرَتْهُمْ قُرَيْشٌ أَنْ يَكُونُوا بِأَسْفَلِ مَكَّةَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِمْ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مِنْ أَسْفَلَ مكة.
وحدثت ان النبي ص قَالَ لِخَالِدٍ وَالزُّبَيْرِ حِينَ بَعَثَهُمَا:
لا تُقَاتِلا إِلا مَنْ قَاتَلَكُمَا، فَلَمَّا قَدِمَ خَالِدٌ عَلَى بنى بكر وو الاحابيش بِأَسْفَلَ مَكَّةَ، قَاتَلَهُمْ فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَمْ يَكُنْ بِمَكَّةَ قِتَالٌ غَيْرَ ذَلِكَ، غَيْرَ أَنْ كُرْزَ بْنَ جَابِرٍ أَحْدَ بَنِي مُحَارِبِ بن فهر وابن الأشعر- رجلا مِنْ بَنِي كَعْبٍ- كَانَا فِي خَيْلِ الزُّبَيْرِ فَسَلَكَا كُدَاءَ، وَلَمْ يَسْلُكَا طَرِيقَ الزُّبَيْرِ الَّذِي سَلَكَ، الَّذِي أُمِرَ بِهِ فَقَدِمَا عَلَى كَتِيبَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ مَهْبِطَ كُدَاءَ فَقُتِلا، وَلَمْ يَكُنْ بِأَعْلَى مَكَّةَ مِنْ قِبَلِ الزُّبَيْرِ قِتَالٌ، وَمِنْ ثم قدم النبي ص، وَقَامَ النَّاسُ إِلَيْهِ يُبَايِعُونَهُ، فَأَسْلَمَ أَهْلُ مَكَّةَ، واقام النبي ص عِنْدَهُمْ نِصْفَ شَهْرٍ، لَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، حَتَّى جَاءَتْ هَوَازِنُ وَثَقِيفٌ فَنَزَلُوا بِحُنَيْنٍ.
وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: حدثني محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن ابى نجيح، ان النبي ص حِينَ فَرَّقَ جَيْشَهُ مِنْ ذِي طُوًى، أَمَرَ الزُّبَيْرَ أَنْ يَدْخُلَ فِي بَعْضِ النَّاسِ مِنْ كُدًى، وَكَانَ الزُّبَيْرُ عَلَى الْمُجَنِّبَةِ الْيُسْرَى، فَأَمَرَ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ أَنْ يَدْخُلَ فِي بَعْضِ النَّاسِ مِنْ كَدَاءَ فَزَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ سَعْدًا قَالَ حِينَ وُجِّهَ دَاخِلا: الْيَوْمُ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ، الْيَوْمُ تُسْتَحَلُّ الْحُرْمَةُ فَسَمِعَهَا رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، [فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اسْمَعْ مَا قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَمَا نَأْمَنُ أَنْ تَكُونَ لَهُ فِي قُرَيْشٍ صَوْلَةٌ! فَقَالَ رسول الله ص لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ:
أَدْرِكْهُ فَخُذِ الرَّايَةَ، فَكُنْ أَنْتَ الَّذِي تَدْخُلُ بِهَا]

(3/56)


حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح في حديثه، ان رسول الله ص أَمَرَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، فَدَخَلَ مِنَ اللِّيطِ أَسْفَلَ مَكَّةَ، فِي بَعْضِ النَّاسِ، وَكَانَ خَالِدٌ عَلَى الْمَجْنَبَةِ الْيُمْنَى، وَفِيهَا أَسْلَمُ وَغِفَارٌ وَمُزَيْنَةُ وَجُهَيْنَةُ وَقَبَائِلُ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَأَقْبَلَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ بِالصَّفِّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَنْصِبُ لمكه بين يدي رسول الله ص، ودخل رسول الله ص مِنْ أَذَاخِرَ، حَتَّى نَزَلَ بِأَعْلَى مَكَّةَ، وَضُرِبَتْ هُنَالِكَ قُبَّتُهُ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بْنِ أَبِي نَجِيحٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بكر، ان صفوان بن اميه، وعكرمه ابن أَبِي جَهْلٍ، وَسُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو، وَكَانُوا قَدْ جَمَعُوا أُنَاسًا بِالْخَنْدَمَةِ لِيُقَاتِلُوا، وَقَدْ كَانَ حِمَاسُ بْنُ قَيْسِ بْنِ خَالِدٍ أَخُو بَنِي بَكْرٍ يُعِدُّ سِلاحًا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ رَسُولُ اللَّهِ ص مَكَّةَ وَيُصْلِحُ مِنْهَا، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ:
لِمَاذَا تعد ما ارى؟ قال: محمد وَأَصْحَابِهِ، فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا أُرَاهُ يَقُومُ لِمُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ شَيْءٌ، قَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لأَرْجُوَ أَنْ اخدمك بعضهم، فقال:
ان تقبلوا اليوم فمالى عِلَّهْ ... هَذَا سِلاحٌ كَامِلٌ وَآلَهْ
وَذُو غَرَارِينَ سَرِيعُ السَّلَّهْ.
ثُمَّ شَهِدَ الْخَنْدَمَةَ مَعَ صَفْوَانَ وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو وَعِكْرِمَةَ، فَلَمَّا لَقِيَهُمُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَصْحَابِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ نَاوَشُوهُمْ شَيْئًا من قتال، فقتل كرز ابن جَابِرِ بْنِ حِسْلِ بْنِ الأَجَبِّ بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ شَيْبَانَ بْنِ مُحَارِبِ بْنِ فهر، وحبيش بْنُ خَالِدٍ، وَهُوَ الأَشْعَرُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ اصرم بن ضبيس

(3/57)


ابن حَرَامِ بْنِ حُبْشِيَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو، حَلِيفُ بَنِي مُنْقِذٍ- وَكَانَا فِي خَيْلِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، فَشَذَّا عَنْهُ، وَسَلَكَا طَرِيقًا غَيْرَ طَرِيقِهِ، فَقُتِلا جَمِيعًا- قُتِلَ خُنَيْسٌ قَبْلَ كُرْزِ بْنِ جَابِرٍ، فَجَعَلَهُ كُرْزٌ بَيْنَ رِجْلَيْهِ، ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ وَهُوَ يَرْتَجِزُ، وَيَقُولُ:
قَدْ عَلِمَتْ صَفْرَاءُ مِنْ بَنِي فِهْرِ ... نَقِيَّةُ الْوَجْهِ نَقِيَّةُ الصَّدْرِ
لأَضْرِبَنَّ الْيَوْمَ عَنْ أَبِي صَخْرِ.
وَكَانَ خُنَيْسٌ يُكْنَى بِأَبِي صَخْرٍ، وَأُصِيبَ مِنْ جُهَيْنَةَ سَلَمَةُ بْنُ الْمِيلاءِ مِنْ خَيْلِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَأُصِيبَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أُنَاسٌ قَرِيبٌ مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ أَوْ ثَلاثَةَ عَشَرَ ثُمَّ انْهَزَمُوا، فَخَرَجَ حِمَاسٌ مُنْهَزِمًا، حَتَّى دَخَلَ بَيْتَهُ، ثُمَّ قَالَ لامْرَأَتِهِ: أَغْلِقِي عَلَيَّ بَابِي، قَالَتْ: فَأَيْنَ مَا كُنْتَ تَقُولُ؟ فَقَالَ:
إِنَّكِ لَوْ شَهِدْتِ يَوْمَ الْخَنْدَمَهْ ... إِذْ فَرَّ صَفْوَانُ وَفَرَّ عِكْرِمَهْ
وَأَبُو يَزِيدَ قَائِمٌ كَالْمُؤْتِمَهْ ... وَاسْتَقْبَلَتْهُمْ بِالسُّيُوفِ الْمُسْلِمَهْ
يَقْطَعْنَ كُلَّ سَاعِدٍ وَجُمْجُمَهْ ... ضَرْبًا فَلا تَسْمَعُ إِلا غَمْغَمَهْ
لَهُمْ نَهِيتٌ خَلْفُنَا وَهَمْهَمَهْ ... لم تنطقى في اللؤم أَدْنَى كَلِمَهْ
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ:
وَكَانَ رَسُولُ الله ص قَدْ عَهِدَ إِلَى أُمَرَائِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حِينَ امرهم ان يدخلوا مكة، الا يَقْتُلُوا أَحَدًا إِلا مَنْ قَاتَلَهُمْ إِلا أَنَّهُ قَدْ عَهِدَ فِي نَفَرٍ سَمَّاهُمْ، أَمَرَ بِقَتْلِهِمْ وان وجدوا تحت استار الكعبه منهم عبد الله بن سعد

(3/58)


ابن أَبِي سَرْحِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ جُذَيْمَةَ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرِ ابن لؤي- وانما امر رسول الله ص بِقَتْلِهِ، لأَنَّهُ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ فَارْتَدَّ مُشْرِكًا، فَفَرَّ إِلَى عُثْمَانَ، وَكَانَ أَخَاهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فغيبه حتى اتى به رسول الله ص بَعْدَ أَنِ اطْمَأَنَّ أَهْلُ مَكَّةَ، فَاسْتَأْمَنَ لَهُ رسول الله، فذكر ان رسول الله ص صَمَتَ طَوِيلا، ثُمَّ قَالَ: نَعَمْ، فَلَمَّا انْصَرَفَ بِهِ عُثْمَانُ، [قَالَ رَسُولُ اللَّهِ لِمَنْ حَوْلَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ: أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ صَمَتُّ لِيَقُومَ إِلَيْهِ بَعْضُكُمْ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ! فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: فَهَلا أَوْمَأْتَ إِلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ لا يَقْتُلُ بِالإِشَارَةِ]- وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَطَلٍ، رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَيْمِ بن غالب- وانما امر بقتله لأنه كان مسلما، فبعثه رسول الله ص مُصَّدِّقًا، وَبَعَثَ مَعَهُ رَجُلا مِنَ الأَنْصَارِ، وَكَانَ مَعَهُ مَوْلًى لَهُ يَخْدِمُهُ، وَكَانَ مُسْلِمًا، فَنَزَلَ مَنْزِلا، وَأَمَرَ الْمَوْلَى أَنْ يَذْبَحَ لَهُ تَيْسًا، وَيَصْنَعَ لَهُ طَعَامًا، وَنَامَ فَاسْتَيْقَظَ وَلَمْ يَصْنَعْ لَهُ شَيْئًا، فَعَدَا عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ ارْتَدَّ مُشْرِكًا، وَكَانَتْ لَهْ قَيْنَتَانِ: فَرْتَنَى وَأُخْرَى مَعَهَا، وكانتا تغنيان بهجاء رسول الله ص، فَأَمَرَ بِقَتْلِهِمَا مَعَهُ- وَالْحُوَيْرِثُ بْنُ نُقَيْذِ بْنِ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ بْنِ قُصَيٍّ، وَكَانَ مِمَّنْ يُؤْذِيهِ بِمَكَّةَ، وَمِقْيَسُ بْنُ صُبَابَةَ- وَإِنَّمَا أَمَرَ بِقَتْلِهِ لِقَتْلِهِ الأَنْصَارِيَّ الَّذِي كَانَ قَتَلَ أَخَاهُ خَطَأً، وَرُجُوعِهِ إِلَى قُرَيْشٍ مُرْتَدًّا- وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَسَارَةُ مَوْلاةٌ كَانَتْ لِبَعْضِ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَكَانَتْ مِمَّنْ يُؤْذِيهِ بِمَكَّةَ فَأَمَّا عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ فَهَرَبَ إِلَى الْيَمَنِ، وَأَسْلَمَتِ امْرَأَتُهُ أُمُّ حَكِيمٍ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ هشام، فاستامنت له رسول الله فَأَمَّنَهُ، فَخَرَجَتْ فِي طَلَبِهِ حَتَّى أَتَتْ بِهِ رسول الله ص، فَكَانَ عِكْرِمَةُ يُحَدِّثُ- فِيمَا يَذْكُرُونَ- أَنَّ الَّذِي رَدَّهُ إِلَى الإِسْلامِ بَعْدَ خُرُوجِهِ إِلَى الْيَمَنِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: أَرَدْتُ رُكُوبَ الْبَحْرِ لأَلْحَقَ بِالْحَبَشَةِ، فَلَمَّا أَتَيْتُ السَّفِينَةَ لأَرْكَبَهَا قَالَ صَاحِبُهَا: يَا عَبْدَ اللَّهِ، لا تَرْكَبْ سَفِينَتِي حَتَّى تُوَحِّدَ اللَّهَ، وَتَخْلَعَ مَا دُونَهُ مِنَ الأَنْدَادِ، فَإِنِّي أَخْشَى إِنْ لَمْ تَفْعَلْ أَنْ نَهْلِكَ فِيهَا، فَقُلْتُ: وَمَا يَرْكَبُهُ أَحَدٌ

(3/59)


حَتَّى يُوَحِّدَ اللَّهَ وَيَخْلَعَ مَا دُونَهُ! قَالَ: نَعَمْ، لا يَرْكَبُهُ أَحَدٌ إِلا أَخْلَصَ.
قَالَ: فَقُلْتُ: فَفِيمَ أُفَارِقُ مُحَمَّدًا! فَهَذَا الَّذِي جَاءَنَا به، فو الله إِنَّ إِلَهَنَا فِي الْبَحْرِ لإِلَهُنَا فِي الْبَرِّ، فَعَرَفْتُ الإِسْلامَ عِنْدَ ذَلِكَ، وَدَخَلَ فِي قَلْبِي واما عبد الله ابن خَطَلٍ، فَقَتَلَهُ سَعِيدُ بْنُ حُرَيْثٍ الْمَخْزُومِيُّ وَأَبُو بَرْزَةَ الأَسْلَمِيُّ، اشْتَرَكَا فِي دَمِهِ، وَأَمَّا مِقْيَسُ بْنُ صُبَابَةَ فَقَتَلَهُ نُمَيْلَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَقَالَتْ أُخْتُ مِقْيَسٍ:
لَعَمْرِي لَقَدْ أَخَزَى نُمَيْلَةُ رَهْطَهُ ... وَفَجَّعَ أَضْيَافَ الشِّتَاءِ بِمِقْيَسِ
فَلِلَّهِ عَيْنَا مَنْ رَأَى مِثْلَ مِقْيَسٍ ... إِذَا النُّفَسَاءُ أَصْبَحَتْ لَمْ تُخَرَّسِ!
وَأَمَّا قَيْنَتَا ابْنِ خَطَلٍ فَقُتِلَتْ إِحْدَاهُمَا، وَهَرَبَتِ الأُخْرَى حَتَّى استؤمن لها رسول الله ص بَعْدُ، فَأَمَّنَهَا وَأَمَّا سَارَةُ، فَاسْتُؤْمِنَ لَهَا فَأَمَّنَهَا، ثُمَّ بَقِيَتْ حَتَّى أَوْطَأَهَا رَجُلٌ مِنَ النَّاسِ فَرَسًا لَهُ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِالأَبْطَحِ، فَقَتَلَهَا وَأَمَّا الْحُوَيْرِثُ بْنُ نُقَيْذٍ، فَقَتَلَهُ عَلِيّ بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وقال الواقدى: امر رسول الله ص بِقَتْلِ سِتَّةِ نَفَرٍ وَأَرْبَعِ نِسْوَةٍ، فَذَكَرَ مِنَ الرِّجَالِ مَنْ سَمَّاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَمِنَ النِّسَاءِ هند بنت عتبة ابن رَبِيعَةَ، فَأَسْلَمَتْ وَبَايَعَتْ، وَسَارَةَ مَوْلاةَ عَمْرِو بْنِ هاشم بن عبد المطلب ابن عَبْدِ مَنَافٍ، قُتِلَتْ يَوْمَئِذٍ، وَقَرِيبَةَ، قُتِلَتْ يَوْمَئِذٍ، وَفَرْتَنَى عَاشَتْ إِلَى خِلافَةِ عُثْمَانَ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عمر بن موسى ابن الْوَجِيهِ، عَنْ قَتَادَةَ السَّدُوسِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص قَامَ قَائِمًا حِينَ وَقَفَ عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ، ثُمَّ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ، لا شَرِيكَ لَهُ،

(3/60)


صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ أَلا كُلُّ مَأْثَرَةٍ، أَوْ دَمٍ، أَوْ مَالٍ يُدَّعَى، فَهُوَ تَحْتَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ إِلا سِدَانَةَ الْبَيْتِ وَسِقَايَةَ الْحَاجِّ.
أَلا وَقَتِيلُ الْخَطَأ مِثْلُ العمد، السوط والعصا، فيهما الدِّيَةُ مُغَلَّظَةٌ مِائَةٌ مِنَ الإِبِلِ، مِنْهَا أَرْبَعُونَ فِي بُطُونِهَا أَوْلادُهَا.
يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ نَخْوَةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَعَظُّمَهَا بِالآبَاءِ النَّاسُ مِنْ آدَمَ، وَآدَمُ خُلِقَ مِنْ تراب ثم تلا رسول الله ص:
«يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ» الآيَةَ.
يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، وَيَا أَهْلَ مَكَّةَ، مَا تَرَوْنَ أَنِّي فَاعِلٌ بِكُمْ؟ قَالُوا:
خَيْرًا، أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ ثُمَّ قَالَ: اذهبوا فأنتم الطلقاء.
فاعتقهم رسول الله ص، وَقَدْ كَانَ اللَّهُ أَمْكَنَهُ مِنْ رِقَابِهِمْ عَنْوَةً، وَكَانُوا لَهُ فَيْئًا، فَبِذَلِكَ يُسَمَّى أَهْلُ مَكَّةَ الطُّلَقَاءَ ثُمَّ اجْتَمَعَ النَّاسُ بِمَكَّةَ لِبَيْعَةِ رَسُولِ الله ص عَلَى الإِسْلامِ، فَجَلَسَ لَهُمْ- فِيمَا بَلَغَنِي- عَلَى الصَّفَا وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ تَحْتَ رَسُولِ اللَّهِ أَسْفَلَ مِنْ مَجْلِسِهِ يَأْخُذُ عَلَى النَّاسِ فَبَايَعَ رسول الله ص عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ- فِيمَا اسْتَطَاعُوا- وَكَذَلِكَ كَانَتْ بَيْعَتُهُ لِمَنْ بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ ص مِنَ النَّاسِ عَلَى الإِسْلامِ فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ الله ص مِنْ بَيْعَةِ الرِّجَالِ بَايَعَ النِّسَاءَ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءِ قُرَيْشٍ، فِيهِنَّ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ، مُتَنَقِّبَةً مُتَنَكِّرَةً لِحَدَثِهَا وَمَا كَانَ مِنْ صَنِيعِهَا بِحَمْزَةَ، فَهِيَ تَخَافُ أَنْ يَأْخُذَهَا رَسُولُ الله ص

(3/61)


بِحَدَثِهَا ذَلِكَ، فَلَمَّا دَنَوْنَ مِنْهُ لِيُبَايِعْنَهُ [قَالَ، رسول الله ص- فِيمَا بَلَغَنِي-: تُبَايِعْنَنِي عَلَى أَلا تُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا! فَقَالَتْ هِنْدٌ:
وَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَأْخُذُ عَلَيْنَا أَمْرًا مَا تَأْخُذُهُ عَلَى الرِّجَالِ وَسَنُؤْتِيكَهُ قَالَ: وَلا تَسْرِقْنَ، قَالَتْ: وَاللَّهِ إِنْ كُنْتُ لأُصِيبُ مِنْ مَالِ أَبِي سُفْيَانَ الْهَنَةَ وَالْهَنَةَ وَمَا ادرى اكان ذلك حلالي أَمْ لا! فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ- وَكَانَ شَاهِدًا لِمَا تَقُولُ: أَمَّا مَا أَصَبْتِ فِيمَا مَضَى فَأَنْتِ مِنْهُ فِي حِلٍّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص:
وَإِنَّكِ لَهِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ! فَقَالَتْ: أَنَا هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ، فَاعْفُ عَمَّا سَلَفَ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ! قَالَ: وَلا تَزْنِينَ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ تَزْنِي الْحُرَّةُ! قَالَ: وَلا تَقْتُلْنَ أَوْلادَكُنَّ، قَالَتْ: قَدْ رَبَّيْنَاهُمْ صِغَارًا، وَقَتَلْتَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ كِبَارًا، فَأَنْتَ وَهُمْ أَعْلَمُ! فَضَحِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مِنْ قَوْلِهَا حَتَّى اسْتَغْرَبَ.
قَالَ: وَلا تَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ تَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُنَّ وَأَرْجُلِكُنَّ، قَالَتْ:
وَاللَّهِ إِنَّ إِتْيَانَ الْبُهْتَانِ لَقَبِيحٌ، وَلَبَعْضُ التَّجَاوُزِ أَمْثَلُ قَالَ: وَلا تَعْصِينَنِي فِي مَعْرُوفٍ، قَالَتْ: مَا جَلَسْنَا هَذَا الْمَجْلِسَ وَنَحْنُ نُرِيدُ أَنْ نَعْصِيَكَ فِي مَعْرُوفٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص لِعُمَرَ: بَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ، فَبَايَعَهُنَّ عمر،] وكان رسول الله ص لا يُصَافِحُ النِّسَاءَ، وَلا يَمَسُّ امْرَأَةً وَلا تَمَسُّهُ إِلا امْرَأَةٌ أَحَلَّهَا اللَّهُ لَهُ، أَوْ ذَاتُ مَحْرَمٍ مِنْهُ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبَانَ ابن صَالِحٍ، أن بيعة النساء قد كانت على نحوين- فيما أخبره بعض أهل العلم- كان يوضع بين يدي رسول الله ص إناء فيه ماء، فإذا أخذ عليهن وأعطينه غمس يده فِي الإناء، ثُمَّ أخرجها فغمس النساء أيديهن فيه ثُمَّ كان بعد ذَلِكَ يأخذ عليهن، فإذا أعطينه ما شرط عليهن، قَالَ: اذهبن فقد بايعتكن، لا يزيد على ذَلِكَ
. قَالَ الواقدي:

فيها قتل خراش بْن أمية الكعبي جنيدب بْن الأدلع

(3/62)


الهذلي- وقال ابن إسحاق: ابن الأثوع الهذلي- وإنما قتله بذحل، كان فِي الجاهلية، فَقَالَ [النبي ص: إن خراشا قتال، إن خراشا قتال! يعيبه بذلك، فامر النبي ص خزاعة أن يدوه] .
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ- قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَلا أَعْلَمُهُ إِلا وَقَدْ حَدَّثَنِي عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ- قَالَ: خَرَجَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ يُرِيدُ جُدَّةَ، لِيَرْكَبَ مِنْهَا إِلَى الْيَمَنِ، فَقَالَ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ، يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنَّ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ سَيِّدُ قَوْمِهِ، وَقَدْ خَرَجَ هَارِبًا مِنْكَ لِيَقْذِفَ نَفْسَهُ فِي الْبَحْرِ، فَأَمِّنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ! قَالَ: هُوَ آمِنٌ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْطِنِي شَيْئًا يَعْرِفُ بِهِ أَمَانَكَ، فَأَعْطَاهُ عِمَامَتَهُ الَّتِي دَخَلَ فِيهَا مَكَّةَ، فَخَرَجَ بِهَا عُمَيْرٌ حَتَّى أَدْرَكَهُ بِجُدَّةَ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَرْكَبَ الْبَحْرَ، فَقَالَ: يَا صَفْوَانُ، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي! أُذَكِّرُكَ اللَّهَ فِي نَفْسِكَ أَنْ تُهْلِكَهَا! فَهَذَا أَمَانٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ قَدْ جِئْتُكَ بِهِ، قَالَ:
وَيْلَكَ! اغْرُبْ عَنِّي فَلا تُكَلِّمْنِي! قَالَ: أَيْ صَفْوَانُ! فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي! أَفْضَلُ النَّاسِ، وَأَبَرُّ النَّاسِ، وَأَحْلَمُ النَّاسِ، وَخَيْرُ النَّاسِ، ابْنُ عَمَّتِكَ، عِزُّهُ عِزُّكَ، وَشَرَفُهُ شَرَفُكَ، وَمُلْكُهُ مُلْكُكَ! قَالَ: إِنِّي أَخَافُهُ عَلَى نَفْسِي، قَالَ: هُوَ أَحْلَمُ مِنْ ذَلِكَ وَأَكْرَمُ، فَرَجَعَ بِهِ مَعَهُ، حَتَّى قَدِمَ به على رسول الله ص فَقَالَ صَفْوَانُ: إِنَّ هَذَا زَعَمَ أَنَّكَ قَدْ أَمَّنْتَنِي، قَالَ: صَدَقَ، قَالَ: فَاجْعَلْنِي فِي أَمْرِي بِالْخِيَارِ شَهْرَيْنِ، قَالَ: أَنْتَ فِيهِ بِالْخِيَارِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَنَّ أُمَّ حَكِيمٍ بِنْتَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ وَفَاخِتَةَ بِنْتَ الْوَلِيدِ- وَكَانَتْ فَاخِتَةُ عِنْدَ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، وَأُمُّ حَكِيمٍ عِنْدَ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ- أَسْلَمَتَا، فَأَمَّا أُمُّ حَكِيمٍ فَاسْتَأْمَنَتْ رَسُولَ اللَّهِ لِعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ، فَآمَنَهُ، فَلَحِقَتْ بِهِ بِالْيَمَنِ، فَجَاءَتْ بِهِ، فَلَمَّا أَسْلَمَ عِكْرِمَةُ وَصَفْوَانُ، اقرهما رسول الله ص عِنْدَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ الأَوَّلِ

(3/63)


حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، لَمَّا دخل رسول الله ص مَكَّةَ هَرَبَ هُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ الْمَخْزُومِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرَى السَّهْمِيُّ إِلَى نَجْرَانَ حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيِّ، قَالَ: رَمَى حَسَّانُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزِّبَعْرَى وَهُوَ بِنَجْرَانَ بِبَيْتٍ وَاحِدٍ، مَا زَادَهُ عَلَيْهِ:
لا تَعْدَمَنْ رَجُلا أَحَلَّكَ بُغْضَهُ ... نَجْرَانَ فِي عَيْشٍ أَحَذَّ لَئِيمِ
فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ الزِّبَعْرَى، رجع الى رسول الله ص، فَقَالَ حِينَ أَسْلَمَ:
يَا رَسُولَ الْمَلِيكِ إِنَّ لِسَانِي ... رَاتِقٌ مَا فَتَقْتُ إِذْ أَنَا بُورُ
إِذْ أُبَارِي الشَّيْطَانَ فِي سِنَنِ الرِّيحِ ... وَمَنْ مَالَ مَيْلَهُ مَثْبُورُ
آمَنَ اللَّحْمُ وَالْعِظَامُ لِرَبِّي ... ثُمَّ نَفْسِي الشَّهِيدُ أَنْتَ النَّذِيرُ
إِنَّنِي عَنْكَ زَاجِرٌ ثَمَّ حَيٌّ ... مِنْ لُؤَيٍّ فَكُلُّهُمْ مَغْرُورُ
وَأَمَّا هُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ، فَأَقَامَ بِهَا كَافِرًا، وَقَدْ قَالَ حِينَ بَلَغَهُ إِسْلامُ أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ وَكَانَتْ تَحْتَهُ، وَاسْمُهَا هِنْدٌ:
أَشَاقَتْكَ هِنْدٌ أَمْ نَآكَ سُؤَالُهَا ... كَذَاكَ النَّوَى أَسْبَابُهَا وَانْفِتَالُهَا
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قال:
وكان جميع من شهد فتح مكة من المسلمين عشره آلاف، من بنى غفار أربعمائة، ومن اسلم أربعمائة، ومن مزينة ألف وثلاثة نفر، ومن بني سليم

(3/64)


سبعمائة، ومن جهينة الف وأربعمائة رجل، وسائرهم من قريش والأنصار وحلفائهم وطوائف العرب من بني تميم وقيس وأسد
. قَالَ الواقدي:

فِي هذه السنة تزوج رَسُول اللَّهِ ص مليكة بنت داود الليثية،
فجاء إليها بعض ازواج النبي ص، فقالت لها: ألا تستحيين حين تزوجين رجلا قتل أباك! فاستعاذت منه، وكانت جميلة، وكانت حدثة، ففارقها رَسُول اللَّهِ، وكان قتل أباها يوم فتح مكة
. قَالَ:

وفيها هدم خالد بْن الوليد العزى ببطن نخلة،
لخمس ليال بقين من رمضان، وهو صنم لبني شيبان، بطن من سليم حلفاء بني هاشم، وبنو أسد بْن عبد العزى، يقولون: هذا صنمنا، فخرج إليه خالد، فَقَالَ: قد هدمته، قَالَ: أرأيت شيئا؟ قَالَ: لا، قَالَ: فارجع فاهدمه، فرجع خالد إلى الصنم فهدم بيته، وكسر الصنم، فجعل السادن يقول: أعزى اغضبي بعض غضباتك! فخرجت عليه امرأة حبشية عريانة مولولة، فقتلها وأخذ ما فيها من حلية، ثُمَّ اتى رسول الله ص، فأخبره بذلك، فَقَالَ:
تلك العزى، ولا تعبد العزى أبدا.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ:
بَعَثَ رَسُولُ الله ص خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى الْعُزَّى- وَكَانَتْ بِنَخْلَةَ، وَكَانَتْ بَيْتًا يُعَظِّمُهُ هَذَا الْحَيُّ مِنْ قُرَيْشٍ وَكِنَانَةَ وَمُضَرَ كُلِّهَا، وَكَانَتْ سَدَنَتُهَا مِنْ بَنِي شَيْبَانَ، مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ حُلَفَاءَ بَنِي هَاشِمٍ- فَلَمَّا سَمِعَ صَاحِبُهَا بِمَسِيرِ خَالِدٍ إِلَيْهَا، عَلَّقَ عَلَيْهَا سَيْفَهُ، وَأَسْنَدَ فِي الْجَبَلِ الَّذِي هِيَ إِلَيْهِ فَأُصْعِدَ فِيهِ، وَهُوَ يَقُولُ:
أَيَا عُزُّ شُدِّي شَدَّةً لا شَوًى لَهَا ... عَلَى خَالِدٍ أَلْقِي الْقِنَاعَ وَشَمِّرِي
وَيَا عُزُّ إِنْ لَمْ تَقْتُلِي الْيَوْمَ خَالِدًا ... فَبُوئِي بِإِثْمٍ عَاجِلٍ أَوْ تنصرى

(3/65)


فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهَا خَالِدٌ هَدَمَهَا، ثُمَّ رَجَعَ الى رسول الله ص
قَالَ الواقدي:

وَفِيهَا هُدِمَ سُوَاعٌ،
وَكَانَ بِرُهَاطٍ لِهُذَيْلٍ، وَكَانَ حَجَرًا، وَكَانَ الَّذِي هَدَمَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ لَمَّا انْتَهَى إِلَى الصَّنَمِ، قَالَ لَهُ السَّادِنُ:
مَا تُرِيدُ؟ قَالَ: هَدْمَ سُوَاعٍ، قَالَ: لا تَطِيقُ تَهْدِمُهُ، قَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ:
أَنْتَ فِي الْبَاطِلِ بَعْدُ! فَهَدَمَهُ عمرو، ولم يَجِدْ فِي خِزَانَتِهِ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ عَمْرٌو لِلسَّادِنِ: كَيْفَ رَأَيْتَ؟ قَالَ: أَسْلَمْتُ وَاللَّهِ
. وَفِيهَا هُدِمَ مَنَاةُ بِالْمُشَلَّلِ،
هَدَمَهُ سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ الأشهلي، وكان للأوس والخزرج
. مسير خالد بن الوليد الى بنى جذيمة بن مالك
وَفِيهَا كَانَتْ غَزْوَةُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ بَنِي جُذَيْمَةَ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِهِمْ مَا حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: قَدْ كَانَ رَسُولُ الله ص بَعَثَ فِيمَا حَوْلَ مَكَّةَ السَّرَايَا تَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِقِتَالِ، وَكَانَ مِمَّنْ بَعَثَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَسِيرَ بِأَسْفَلَ تِهَامَةَ دَاعِيًا، وَلَمْ يَبْعَثْهُ مُقَاتِلا، فَوَطِئَ بَنِي جُذَيْمَةَ، فَأَصَابَ مِنْهُمْ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عن محمد بن إِسْحَاقَ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ حُنَيْفٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ص حِينَ افْتَتَحَ مَكَّةَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ دَاعِيًا وَلَمْ يَبْعَثْهُ مُقَاتِلا، وَمَعَهُ قَبَائِلُ مِنَ الْعَرَبِ: سُلَيْمٌ وَمِدْلَجٌ، وَقَبَائِلُ مِنْ غَيْرِهِمْ، فَلَمَّا نَزَلُوا عَلَى الْغُمَيْصَاءِ- وَهِيَ مَاءٌ مِنْ مِيَاهِ بَنِي جذيمة بن عامر بن عبد مناه ابن كِنَانَةَ- عَلَى جَمَاعَتِهِمْ، وَكَانَتْ بَنُو جُذَيْمَةَ قَدْ أصابوا في الجاهلية عوف بن عبد عَوْفٍ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَالْفَاكِهَ بْنَ الْمُغِيرَةِ- وَكَانَا أَقْبَلا تَاجِرَيْنِ مِنَ الْيَمَنِ- حَتَّى إِذَا نَزَلا بِهِمْ قَتَلُوهُمَا، وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمَا، فلما كان الاسلام، وبعث

(3/66)


رسول الله ص خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، سَارَ حَتَّى نَزَلَ ذَلِكَ الْمَاءَ، فَلَمَّا رَآهُ الْقَوْمُ أَخَذُوا السِّلاحَ، فَقَالَ لَهُمْ خَالِدٌ: ضَعُوا السِّلاحَ، فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ أَسْلَمُوا.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ:
حَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي جُذَيْمَةَ، قَالَ: لَمَّا أَمَرَنَا خَالِدٌ بِوَضْعِ السِّلاحِ، قَالَ رَجُلٌ مِنَّا يُقَالُ لَهُ جَحْدَمٌ: وَيْلَكُمْ يَا بَنِي جُذَيْمَةَ! إِنَّهُ خَالِدٌ! وَاللَّهِ مَا بَعْدَ وَضْعِ السِّلاحِ إِلا الإِسَارُ، ثُمَّ مَا بَعْدَ الإِسَارِ إِلا ضَرْبُ الأَعْنَاقِ، وَاللَّهِ لا أَضَعُ سِلاحِي أَبَدًا قَالَ: فَأَخَذَهُ رِجَالٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَقَالُوا: يَا جَحْدَمُ، أَتُرِيدُ أَنْ تَسْفِكَ دِمَاءَنَا! إِنَّ النَّاسَ قَدْ أَسْلَمُوا، وَوُضِعَتِ الْحَرْبُ، وَأَمِنَ النَّاسُ، فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى نَزَعُوا سِلاحَهُ، وَوَضَعَ الْقَوْمُ السِّلاحَ لِقَوْلِ خَالِدٍ، فَلَمَّا وَضَعُوهُ أَمَرَ بِهِمْ خَالِدٌ عِنْدَ ذَلِكَ فَكُتِّفُوا، ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى السَّيْفِ، فَقَتَلَ مَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ فلما انتهى الخبر الى رسول الله ص رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ! ثُمَّ دَعَا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ ع، [فَقَالَ: يَا عَلِيُّ اخْرُجْ إِلَى هَؤُلاءِ الْقَوْمِ، فَانْظُرْ فِي أَمْرِهِمْ، وَاجْعَلْ أَمْرَ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيْكَ فَخَرَجَ حَتَّى جَاءَهُمْ وَمَعَهُ مَالٌ قَدْ بعثه رسول الله ص بِهِ، فَوَدِيَ لَهُمْ الدِّمَاءَ وَمَا أُصِيبَ مِنَ الأَمْوَالِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَدِي مِيلَغَةَ الْكَلْبِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ دَمٍ وَلا مَالٍ إِلا وَدَاهُ، بَقِيَتْ مَعَهُ بَقِيَّةٌ مِنَ المال.
فقال لهم على ع حِينَ فَرَغَ مِنْهُمْ: هَلْ بَقِيَ لَكُمْ دَمٌ أَوْ مَالٌ لَمْ يُودَ إِلَيْكُمْ؟ قَالُوا: لا، قَالَ: فَإِنِّي أُعْطِيكُمْ هَذِهِ الْبَقِيَّةَ مِنْ هَذَا المال احتياطا لرسول الله ص مِمَّا لا يَعْلَمُ وَلا تَعْلَمُونَ فَفَعَلَ، ثُمَّ رجع الى رسول الله ص فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ: أَصَبْتَ وَأَحْسَنْتَ] ثُمَّ قَامَ رسول الله ص، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ قَائِمًا شَاهِرًا يَدَيْهِ، حَتَّى إِنَّهُ ليرى بياض

(3/67)


مَا تَحْتَ مَنْكِبَيْهِ، وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، ثَلاثَ مَرَّاتٍ! قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَنْ يَعْذُرُ خَالِدًا: إِنَّهُ قَالَ: مَا قَاتَلْتُ حَتَّى أَمَرَنِي بِذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ السَّهْمِيُّ، وَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَدْ أَمَرَكَ بِقَتْلِهِمْ لامْتِنَاعِهِمْ مِنَ الإِسْلامِ، وَقَدْ كَانَ جَحْدَمٌ قَالَ لَهُمْ حِينَ وَضَعُوا سِلاحَهُمْ، وَرَأَى مَا يَصْنَعُ خَالِدٌ بِبَنِي جُذَيْمَةَ: يَا بَنِي جُذَيْمَةَ، ضَاعَ الضَّرْبُ، قَدْ كُنْتُ حَذَّرْتُكُمْ مَا وَقَعْتُمْ فِيهِ! حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ:
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: كَانَ بَيْنَ خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن ابن عَوْفٍ- فِيمَا بَلَغَنِي- كَلامٌ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ: عَمِلْتَ بِأَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي الإِسْلامِ! فَقَالَ: إِنَّمَا ثَأَرْتَ بِأَبِيكَ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحَمْنِ بْنُ عَوْفٍ: كَذَبْتَ! قَدْ قَتَلْتَ قَاتِلَ أَبِي، وَلَكِنَّكَ إِنَّمَا ثَأَرْتَ بِعَمِّكَ الْفَاكِهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، حَتَّى كَانَ بَيْنَهُمَا شَيْءٌ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ ص، [فَقَالَ: مَهْلا يَا خَالِدُ! دَعْ عَنْكَ أَصْحَابِي، فو الله لَوْ كَانَ لَكَ أُحُدٌ ذَهَبًا ثُمَّ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، مَا أَدْرَكْتَ غَدْوَةَ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِي وَلا رَوْحَتَهُ] .
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى الأُمَوِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حَدْرَدٍ الأَسْلَمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حَدْرَدٍ، قَالَ: كُنْتُ يَوْمَئِذٍ فِي خَيْلِ خَالِدٍ، فَقَالَ لِي فَتًى مِنْهُمْ- وَهُوَ فِي السَّبْيِ، وَقَدْ جُمِعَتْ يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ بِرُمَّةٍ وَنِسْوَةٌ مُجْتَمِعَاتٌ غَيْرَ بَعِيدٍ مِنْهُ: يَا فَتَى! قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: هَلْ أَنْتَ آخِذٌ بِهَذِهِ الرُّمَّةِ فَقَائِدِي بِهَا إِلَى هَؤُلاءِ النِّسْوَةِ، حَتَّى اقضى

(3/68)


إِلَيْهِنَّ حَاجَةً، ثُمَّ تَرُدَّنِي بَعْدُ، فَتَصْنَعُوا بِي مَا بَدَا لَكُمْ؟ قَالَ: قُلْتُ: وَاللَّهِ لَيَسِيرٌ مَا سَأَلْتَ، فَأَخَذْتُ بِرُمَّتِهِ فَقُدْتُهُ بِهَا حَتَّى أَوْقَفْتُهُ عَلَيْهِنَّ، فَقَالَ:
اسْلَمِي حُبَيْشُ، عَلَى نَفَدِ الْعَيْشِ:
أَرَيْتُكَ إِذْ طَالَبْتُكُمْ فَوَجَدْتُكُمْ ... بِحُلِيَّةٍ أَوْ الفيتكم بالخوانق!
الم يك حقا أَنْ يُنَوَّلَ عَاشِقٌ ... تَكَلَّفَ إِدْلاجَ السُّرَى وَالْوَدَائِقِ!
فَلا ذَنْبَ لِي قَدْ قُلْتُ إِذْ أَهْلُنَا مَعًا ... أَثِيبِي بِوُدٍّ قَبْلَ إِحْدَى الصَّفَائِقِ!
أَثِيبِي بِوُدٍّ قَبْلَ أَنْ تَشْحَطَ النَّوَى ... وَيَنْأَى الأَمِيرُ بِالْحَبِيبِ الْمُفَارِقِ
فَإِنِّيَ لا سِرًّا لَدَيَّ أَضَعْتُهُ ... وَلا رَاقَ عَيْنِي بَعْدَ وَجْهِكِ رَائِقِ
عَلَى أَنَّ مَا نَابَ الْعَشِيرَةَ شَاغِلٌ ... وَلا ذُكِرَ إِلا أَنْ يَكُونَ لِوَامِقِ
قَالَتْ: وَأَنْتَ فَحُيِّيتَ عَشْرًا، وَسَبْعًا وِتْرًا، وَثَمَانِيًا تَتْرَى! ثُمَّ انْصَرَفْتُ بِهِ، فَقَدِمَ فَضَرَبْتُ عُنُقَهُ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن أبي فراس بْن أبي سنبلة الأسلمي، عن أشياخ منهم، عمن كان حضرها، قالوا:
قامت إليه حين ضربت عنقه، فأكبت عليه، فما زالت تقبله حَتَّى ماتت عِنْدَهُ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عَنِ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: أَقَامَ رسول الله ص بِمَكَّةَ بَعْدَ فَتْحِهَا خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً يَقْصُرُ الصَّلاةَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ فَتْحُ مَكَّةَ لِعَشْرِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ ثمان.

(3/69)


545241 ذكر الخبر عن غزوه رسول الله ص هَوَازِنَ بِحُنَيْنٍ
وَكَانَ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ ص وَأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْرِ هَوَازِنَ مَا حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ نَصْرِ بْنِ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ وَعَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ- قَالَ عَلِيٌّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، وَقَالَ عَبْدُ الْوَارِثِ: حَدَّثَنَا أَبِي- قَالَ: حَدَّثَنَا أَبَانُ الْعَطَّارُ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ، قَالَ:
اقام النبي ص بِمَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ نِصْفَ شَهْرٍ، لَمْ يَزِدْ على ذلك، حتى جاءت هوازن وثقيف، فنزلوا بِحُنَيْنٍ- وَحُنَيْنٌ وَادٍ إِلَى جَنْبِ ذِي الْمَجَازِ- وهم يومئذ عامدون يريدون قتال النبي ص، وَكَانُوا قَدْ جَمَعُوا قَبْلَ ذَلِكَ حِينَ سَمِعُوا بِمَخْرَجِ رَسُولِ اللَّهِ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُ إِنَّمَا يُرِيدُهُمْ حَيْثُ خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا أَتَاهُمْ أَنَّهُ قَدْ نَزَلَ مَكَّةَ، أَقْبَلَتْ هوازن عامدين الى النبي ص، وَأَقْبَلُوا مَعَهُمْ بِالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالأَمْوَالِ- وَرَئِيسُ هَوَازِنَ يَوْمَئِذٍ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ أَحَدُ بَنِي نَصْرٍ- واقبلت معهم ثقيف، حتى نزلوا حنينا يريدون النبي ص، فَلَمَّا حُدِّثَ النَّبِيُّ وَهُوَ بِمَكَّةَ أَنْ قَدْ نَزَلَتْ هَوَازِنُ وَثَقِيفٌ بِحُنَيْنٍ، يَسُوقُهُمْ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ أَحَدُ بَنِي نَصْرٍ- وَهُوَ رَئِيسُهُمْ يَوْمَئِذٍ- عمد النبي ص حَتَّى قَدِمَ عَلَيْهِمْ، فَوَافَاهُمْ بِحُنَيْنٍ، فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَانَ فِيهَا مَا ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْكِتَابِ، وَكَانَ الَّذِي سَاقُوا مِنَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْمَاشِيَةِ غَنِيمَةً غَنَمَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ رَسُولَهُ، فَقَسَمَ أَمْوَالَهُمْ فِيمَنْ كَانَ أَسْلَمَ مَعَهُ مِنْ قُرَيْشٍ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قال:
لما سمعت هوازن برسول الله ص وما فتح الله عليه من مكة، جمعها مالك بْن عوف النصري، واجتمعت إليه مَعَ هوازن ثقيف كلها، فجمعت نصر وجشم كلها وسعد بْن بكر وناس من بني هلال، وهم قليل، ولم يشهدها من قيس عيلان إلا هؤلاء، وغابت عنها فلم يحضرها من هوازن كعب ولا كلاب، ولم يشهدها منهم أحد له اسم، وفي جشم دريد بْن

(3/70)


الصمة شيخ كبير، ليس فيه شيء إلا التيمن برأيه ومعرفته بالحرب، وكان شيخا كبيرا مجربا، وفي ثقيف سيدان لهم فِي الأحلاف: قارب بن الأسود ابن مسعود، وفي بني مالك ذو الخمار سبيع بْن الحارث وأخوه الأحمر بْن الحارث فِي بني هلال، وجماع أمر الناس إلى مالك بْن عوف النصري.
فلما أجمع مالك المسير الى رسول الله ص حط مَعَ الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم، فلما نزل بأوطاس، اجتمع إليه الناس، وفيهم دريد بْن الصمة فِي شجار له يقاد به، فلما نزل قَالَ: بأي واد أنتم؟ قالوا:
بأوطاس، قَالَ: نعم مجال الخيل! لا حزن ضرس ولا سهل دهس، ما لي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، ويعار الشاء، وبكاء الصغير! قالوا: ساق مالك بْن عوف مَعَ الناس أبناءهم ونساءهم وأموالهم، فَقَالَ:
أين مالك؟ فقيل: هذا مالك، فدعي له، فَقَالَ: يا مالك، إنك قد أصبحت رئيس قومك، وإن هذا يوم كائن له ما بعده من الأيام، ما لي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، ويعار الشاء، وبكاء الصغير! قَالَ:
سقت مَعَ الناس أبناءهم ونساءهم وأموالهم، قَالَ: ولم؟ قَالَ: أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم، قَالَ: فانقض به ثُمَّ قَالَ: راعي ضأن والله! هل يرد المنهزم شيء! إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت فِي أهلك ومالك.
ما فعلت كعب وكلاب؟ قالوا: لم يشهد منهم أحد، قَالَ: غاب الجد والحد، لو كان يوم علاء ورفعة لم تغب عنه كعب وكلاب، ولوددت أنكم فعلتم ما فعلت كعب وكلاب، فمن شهدها منكم؟ قالوا: عمرو بْن عامر وعوف بْن عامر، قَالَ: ذانك الجذعان من بني عامر! لا ينفعان ولا

(3/71)


يضران، يا مالك إنك لم تصنع بتقديم البيضة، بيضة هوازن، إلى نحور الخيل شيئا، ارفعهم إلى متمنع بلادهم وعليا قومهم، ثُمَّ الق الصباء على متون الخيل، فإن كانت لك لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك ألفاك ذَلِكَ وقد أحرزت أهلك ومالك قَالَ: والله لا أفعل، إنك قد كبرت وكبر علمك، والله لتطيعنني يا معشر هوازن أو لأتكئن على هذا السيف حَتَّى يخرج من ظهري! وكره أن يكون لدريد فيها ذكر ورأي قَالَ دريد بْن الصمة: هذا يوم لم أشهده، ولم يفتني:
يا ليتني فيها جذع ... أخب فيها وأضع
أقود وطفاء الزمع ... كأنها شاة صدع
وكان دريد رئيس بني جشم وسيدهم وأوسطهم، ولكن السن أدركته حَتَّى فني- وهو دريد بْن الصمة بْن بكر بْن علقمة بْن جداعة بْن غزية ابن جشم بْن معاوية بْن بكر بْن هوازن- ثُمَّ قَالَ مالك للناس: إذا أنتم رأيتم القوم فاكسروا جفون سيوفكم، وشدوا شدة رجل واحد عَلَيْهِمْ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عن ابن إسحاق، عن اميه ابن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، أَنَّهُ حَدَّثَ أَنَّ مَالِكَ بْنَ عَوْفٍ بَعَثَ عُيُونًا مِنْ رِجَالِهِ لِيَنْظُرُوا لَهُ، وَيَأْتُوهُ بِخَبَرِ النَّاسِ، فَرَجَعُوا إِلَيْهِ وَقَدْ تَفَرَّقَتْ أَوْصَالُهُمْ، فَقَالَ: وَيْلَكُمْ! مَا شَأْنُكُمْ؟ قَالُوا: رَأَيْنَا رِجَالا بيضا على خيل بلق، فو الله مَا تَمَاسَكْنَا أَنْ أَصَابَنَا مَا تَرَى! فَلَمْ يَنْهَهُ ذَلِكَ عَنْ وَجْهِهِ، إِنْ مَضَى عَلَى مَا يُرِيدُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا سَمِعَ بهم رسول الله ص بعث

(3/72)


إِلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي حَدْرَدٍ الأَسْلَمِيَّ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْخُلَ فِي النَّاسِ فَيُقِيمَ فِيهِمْ حَتَّى يَأْتِيَهُ بِخَبَرٍ مِنْهُمْ، وَيَعْلَمَ مِنْ عِلْمِهِمْ فَانْطَلَقَ ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ، فَدَخَلَ فِيهِمْ، فَأَقَامَ مَعَهُمْ حَتَّى سَمِعَ وَعَلِمَ مَا قَدْ أَجْمَعُوا له من حرب رسول الله ص، وَعَلِمَ أَمْرَ مَالِكٍ وَأَمْرَ هَوَازِنَ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ ثُمَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ، فَأَخْبَرَهُ الْخَبْرَ، فدعا رسول الله ص عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَأَخْبَرَهُ خَبَرَ ابْنِ أَبِي حَدْرَدٍ، فَقَالَ عُمَرُ: كَذَبَ! فَقَالَ ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ:
إِنْ تُكَذِّبْنِي فَطَالَمَا كَذَّبْتَ بِالْحَقِّ يَا عُمَرُ! فَقَالَ عُمَرُ: أَلا تَسْمَعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَى مَا يَقُولُ ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ! [فقال رسول الله ص: قَدْ كُنْتَ ضَالا فَهَدَاكَ اللَّهُ يَا عُمَرُ] .
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: [حَدَّثَنِي أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، قَالَ: لَمَّا اجمع رسول الله ص السَّيْرَ إِلَى هَوَازِنَ لِيَلْقَاهُمْ، ذُكِرَ لَهُ أَنَّ عِنْدَ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ أَدْرَاعًا وَسِلاحًا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا أَبَا أُمَيَّةَ- وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ:
أَعِرْنَا سِلاحَكَ هَذَا نَلْقَ فِيهِ عَدُوَّنَا غَدًا فَقَالَ لَهُ صَفْوَانُ: أَغَصْبًا يَا مُحَمَّدُ! قَالَ: بَلْ عَارِيَةً مَضْمُونَةً حَتَّى نُؤَدِّيَهَا إِلَيْكَ، قَالَ: لَيْسَ بِهَذَا بَأْسٌ، فَأَعْطَاهُ مِائَةَ دِرْعٍ بِمَا يُصْلِحُهَا مِنَ السِّلاحِ، فَزَعَمُوا أَنَّ رَسُولَ الله ص سَأَلَهُ أَنْ يَكْفِيَهُ حَمْلَهَا فَفَعَلَ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ: فَمَضَتِ السُّنَّةُ أَنَّ الْعَارِيَةَ مَضْمُونَةٌ مُؤَدَّاةٌ] .
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله ابن أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ص، وَمَعَهُ أَلْفَانِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، مَعَ عَشَرَةِ آلافٍ مِنْ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ فَتَحَ اللَّهُ بِهِمْ مَكَّةَ، فَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَاسْتَعْمَلَ رَسُولُ الله ص عتاب بن اسيد ابن أَبِي الْعِيصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ عَلَى مَكَّةَ أَمِيرًا عَلَى مَنْ غَابَ عَنْهُ مِنَ النَّاسِ، ثُمَّ مَضَى عَلَى وَجْهِهِ يُرِيدُ لقاء هوازن

(3/73)


حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا اسْتَقْبَلْنَا وَادِيَ حُنَيْنٍ، انْحَدَرْنَا فِي وَادٍ مِنْ أَوْدِيَةِ تِهَامَةَ أَجْوَفَ حَطُوطٍ، إِنَّمَا نَنْحَدِرُ فِيهِ انْحِدَارًا- قَالَ: وَفِي عِمَايَةِ الصُّبْحِ، وَكَانَ الْقَوْمُ قَدْ سَبَقُوا إِلَى الْوَادِي، فَكَمَنُوا لَنَا فِي شِعَابِهِ وَأَحْنَائِهِ وَمَضَايِقِهِ، قَدْ اجمعوا وتهيئوا وأعدوا- فو الله مَا رَاعِنَا وَنَحْنُ مُنْحَطُّونَ إِلا الْكَتَائِبَ قَدْ شَدَّتْ عَلَيْنَا شَدَّةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَانْهَزَمَ النَّاسُ أَجْمَعُونَ، فَانْشَمَرُوا لا يَلْوِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وانحاز رسول الله ص ذَاتَ الْيَمِينِ، ثُمَّ قَالَ: أَيْنَ أَيُّهَا النَّاسُ! هلم الى! انا رسول الله، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ! قَالَ: فَلا شَيْءَ، احْتَمَلَتِ الإِبِلُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَانْطَلَقَ النَّاسُ، إِلا أَنَّهُ قَدْ بَقِيَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ص نَفَرٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَمِمَّنْ ثَبَتَ مَعَهُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَمِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَالْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَابْنُهُ الْفَضْلُ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ، وَرَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ، وَأَيْمَنُ بن عبيد- وهو ايمن بن أُمِّ أَيْمَنَ- وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ قَالَ: وَرَجُلٌ مِنْ هَوَازِنَ عَلَى جَمَلٍ لَهُ أَحْمَرَ، بِيَدِهِ رَايَةٌ سَوْدَاءُ فِي رَأْسِ رُمْحٍ طَوِيلٍ، أَمَامَ النَّاسِ وَهَوَازِنُ خَلْفَهُ، إِذَا أُدْرِكَ طَعَنَ بِرُمْحِهِ، وَإِذَا فَاتَهُ النَّاسُ رَفَعَ رُمْحَهُ لِمَنْ وَرَاءَهُ، فَاتَّبَعُوهُ وَلَمَّا انْهَزَمَ النَّاسُ، وَرَأَى من كان مع رسول الله ص مِنْ جُفَاةِ أَهْلِ مَكَّةَ الْهَزِيمَةَ، تَكَلَّمَ رِجَالٌ مِنْهُمْ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنَ الضِّغْنِ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ: لا تَنْتَهِي هَزِيمَتُهُمْ دُونَ الْبَحْرِ، وَالأَزْلامُ مَعَهُ فِي كِنَانَتِهِ، وَصَرَخَ كَلَدَةُ بْنُ الْحَنْبَلِ- وَهُوَ مَعَ أَخِيهِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وَكَانَ أَخَاهُ لأُمِّهِ، وَصَفْوَانُ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي جَعَلَ له رسول الله ص- فَقَالَ: أَلا بَطَلَ السِّحْرُ الْيَوْمَ! فَقَالَ لَهُ صفوان: اسكت فض الله فاك! فو الله لأَنْ يُرَبِّنِي رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يُرَبِّنِي

(3/74)


رَجُلٌ مِنْ هَوَازِنَ! وَقَالَ شَيْبَةُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، أَخُو بَنِي عَبْدِ الدَّارِ:
قُلْتُ: الْيَوْمَ أُدْرِكُ ثَأْرِي- وَكَانَ أَبُوهُ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ- الْيَوْمَ أَقْتُلُ مُحَمَّدًا.
قَالَ: فَأَرَدْتُ رسول الله لأَقْتُلَهُ، فَأَقْبَلَ شَيْءٌ حَتَّى تَغَشَّى فُؤَادِي فَلَمْ أُطِقْ ذَلِكَ، وَعَلِمْتُ أَنَّهُ قَدْ مُنِعَ مِنِّي.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ الْعَبَّاسِ، عَنْ أَبِيهِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ المطلب، قال:
انى لمع رسول الله ص آخِذٌ بِحَكَمَةِ بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ، قَدْ شَجَرْتُهَا بِهَا، قَالَ: وَكُنْتُ امْرَأً جَسِيمًا شَدِيدَ الصَّوْتِ، قَالَ: ورسول الله ص يَقُولُ حِينَ رَأَى مِنَ النَّاسِ مَا رَأَى: أَيْنَ أَيُّهَا النَّاسُ! فَلَمَّا رَأَى النَّاسَ لا يَلْوُونَ عَلَى شَيْءٍ قَالَ: يَا عَبَّاسُ، اصْرُخْ: يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ! يَا أَصْحَابَ السَّمُرَةِ! فَنَادَيْتُ: يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، يَا مَعْشَرَ أَصْحَابِ السَّمُرَةِ! قَالَ: فَأَجَابُوا: أَنْ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ! قَالَ: فَيَذْهَبُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يُرِيدُ لِيُثْنِيَ بَعِيرَهُ، فَلا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، فَيَأْخُذُ دِرْعَهُ فَيَقْذِفُهَا فِي عُنُقِهِ، وَيَأْخُذُ سَيْفَهُ وَتِرْسَهُ، ثُمَّ يَقْتَحِمُ عَنْ بَعِيرِهِ فَيُخَلِّي سَبِيلَهُ فِي النَّاسِ، ثُمَّ يَؤُمُّ الصَّوْتَ، حتى ينتهى الى رسول الله ص، حَتَّى إِذَا اجْتَمَعَ إِلَيْهِ مِنْهُمْ مِائَةُ رَجُلٍ استقبلوا الناس، فاقتتلوا، فكانت الدعوى أول مَا كَانَتْ: يَا للأَنْصَارِ! ثُمَّ جُعِلَتْ أَخِيرًا: يَا لِلْخَزْرَجِ! وَكَانُوا صُبُرًا عِنْدَ الْحَرْبِ، فَأَشْرَفَ رسول الله ص فِي رِكَابِهِ، فَنَظَرَ مُجْتَلَدَ الْقَوْمِ وَهُمْ يَجْتَلِدُونَ، فَقَالَ: الآنَ حَمِيَ الْوَطِيسُ! حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ الْمِقْدَامِ، قَالَ:
حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: كَانَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ يقود بالنبي ص بغلته يوم حنين، فلما

(3/75)


غشى النبي ص الْمُشْرِكُونَ، نَزَلَ فَجَعَلَ يَرْتَجِزُ، وَيَقُولُ:
[أَنَا النَّبِيُّ لا كَذِبْ ... أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ
] فَمَا رُئِيَ مِنَ النَّاسِ أَشَدُّ مِنْهُ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عن ابن إسحاق، عن عاصم ابن عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ أَبِيهِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: بَيْنَا ذَلِكَ الرَّجُلُ مِنْ هَوَازِنَ صَاحِبُ الرَّايَةِ عَلَى جَمَلِهِ يَصْنَعُ مَا يَصْنَعُ، إِذْ هَوَى لَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، يُرِيدَانِهِ، فَيَأْتِيهِ عَلِيٌّ مِنْ خَلْفِهِ، فَيَضْرِبُ عُرْقُوبَيِ الْجَمَلِ، فَوَقَعَ عَلَى عَجُزِهِ، وَوَثَبَ الأَنْصَارِيُّ عَلَى الرَّجُلِ فَضَرَبَهُ ضَرْبَةً أَطَنَّ قَدَمَهُ بِنِصْفِ سَاقِهِ، فَانْجَعَفَ عَنْ رَحْلِهِ.
قَالَ: وَاجْتَلَدَ الناس، فو الله مَا رَجَعَتْ رَاجِعَةُ النَّاسِ مِنْ هَزِيمَتِهِمْ حَتَّى وَجَدُوا الأُسَارَى مُكَتَّفِينَ، وَقَدِ الْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ ص الى ابى سفيان ابن الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ- وَكَانَ مِمَّنْ صَبَرَ يومئذ مع رسول الله ص، وَكَانَ حَسَنَ الإِسْلامِ حِينَ أَسْلَمَ، وَهُوَ آخِذٌ بِثَفَرِ بَغْلَتِهِ- فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: ابْنُ أُمِّكَ يَا رَسُولَ اللَّهَ! حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، أن رسول الله ص الْتَفَتَ، فَرَأَى أُمَّ سُلَيْمٍ بِنْتَ مِلْحَانَ- وَكَانَتْ مَعَ زَوْجِهَا أَبِي طَلْحَةَ- حَازِمَةً وَسَطَهَا بِبُرْدٍ لَهَا، وَإِنَّهَا لَحَامِلٌ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، وَمَعَهَا جَمَلُ أَبِي طَلْحَةَ، وَقَدْ خَشِيَتْ أَنْ يَعُزَّهَا الْجَمَلُ، فَأَدْنَتْ رَأْسَهُ مِنْهَا، فَأَدْخَلَتْ يَدَهَا فِي خِزَامَتِهِ مَعَ الْخِطَامِ، فَقَالَ رَسُولُ الله ص: أُمَّ سُلَيْمٍ! قَالَتْ: نَعَمْ،

(3/76)


بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ! اقْتُلْ هَؤُلاءِ الَّذِينَ يَفِرُّونَ عَنْكَ كَمَا تَقْتُلُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكَ، فَإِنَّهُمْ لِذَلِكَ أَهْلٌ، فَقَالَ رَسُولُ الله ص:
او يكفى اللَّهُ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ! وَمَعَهَا خِنْجَرٌ فِي يَدِهَا، فَقَالَ لَهَا أَبُو طَلْحَةَ: مَا هَذَا مَعَكِ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ؟ قَالَتْ: خِنْجَرٌ أَخَذْتُهُ مَعِي، إِنْ دَنَا مِنِّي أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بعجته به قال: يقول أَبُو طَلْحَةَ: أَلا تَسْمَعُ مَا تَقُولُ أُمُّ سُلَيْمٍ يَا رَسُولَ اللَّهَ!.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عن ابن إسحاق، قال:
حَدَّثَنِي حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ ابن مَالِكٍ، قَالَ: لَقَدِ اسْتَلَبَ أَبُو طَلْحَةَ يَوْمَ حُنَيْنٍ عِشْرِينَ رَجُلا وَحْدَهُ هُوَ قَتَلَهُمْ.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ حَدَّثَ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ قَبْلَ هَزِيمَةِ الْقَوْمِ وَالنَّاسُ يَقْتَتِلُونَ مِثْلَ الْبِجَادِ الأَسْوَدِ، أَقْبَلَ مِنَ السَّمَاءِ حَتَّى سَقَطَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا نَمْلٌ أَسْوَدُ مَبْثُوثٌ قَدْ مَلَأَ الْوَادِيَ، فَلَمْ أَشُكَّ أَنَّهَا الْمَلائِكَةُ، وَلَمْ يَكُنْ إِلا هَزِيمَةُ الْقَوْمِ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إِسْحَاقَ، قَالَ:
فلما انهزمت هوازن استحر القتل من ثقيف ببني مالك، فقتل منهم سبعون رجلا تحت رايتهم، فيهم عثمان بْن عبد الله بْن ربيعة بْن الحارث بْن حبيب، جد ابن أم حكم بنت أبي سفيان، وكانت رايتهم مَعَ ذي الخمار، فلما قتل أخذها عثمان بْن عبد الله فقاتل بها حَتَّى قُتِلَ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عَامِرِ بْنِ وَهْبِ بْنِ الأَسْوَدِ بْنِ مَسْعُودٍ، قال: لما بلغ رسول الله ص قَتْلُ عُثْمَانَ، قَالَ: أَبْعَدَهُ اللَّهُ! فَإِنَّهُ كَانَ يبغض قريشا

(3/77)


حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ زَاذَانَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ انس، قال: كان النبي ص يَوْمَ حُنَيْنٍ عَلَى بَغْلَةٍ بَيْضَاءَ، يُقَالُ لَهَا دلدل، فلما انهزم المسلمون، [قال النبي ص لِبَغْلَتِهِ: الْبَدِي دُلْدُلُ! فَوَضَعَتْ بَطْنَهَا عَلَى الأَرْضِ فاخذ النبي ص حِفْنَةً مِنْ تُرَابٍ، فَرَمَى بِهَا فِي وُجُوهِهِمْ، وَقَالَ: حم لا يُنْصَرُونَ!] .
فَوَلَّى الْمُشْرِكُونَ مُدْبِرِينَ، مَا ضَرَبَ بِسَيْفٍ وَلا طَعَنَ بِرُمْحٍ وَلا رَمَى بِسَهْمٍ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، قال: حدثني مُحَمَّد بن إِسْحَاقَ، عن يَعْقُوبَ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الأَخْنَسِ، قَالَ: قُتِلَ مَعَ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ غُلامٌ لَهُ نَصْرَانِيٌّ أَغْرَلُ قَالَ: فَبَيْنَا رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ يَسْتَلِبُ قَتْلَى مِنْ ثَقِيفٍ، إِذْ كَشَفَ الْعَبْدَ لِيَسْتَلِبَهُ، فَوَجَدَهُ أَغْرَلَ، فَصَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّ ثَقِيفًا غُرْلٌ مَا تَخْتَتِنُ! قَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ، وَخَشِيتُ أَنْ تَذْهَبَ عَنَّا فِي الْعَرَبِ، فَقُلْتُ: لا تَقُلْ ذَلِكَ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي! إِنَّمَا هُوَ غُلامٌ لَنَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ جَعَلْتُ أَكْشِفُ لَهُ قَتْلانَا فَأَقُولُ: أَلا تَرَاهُمْ مُخَتَّنِينَ! قَالَ: وَكَانَتْ رَايَةُ الأَحْلافِ مَعَ قَارِبِ بْنِ الأَسْوَدِ بْنِ مَسْعُودٍ، فَلَمَّا هُزِمَ النَّاسُ أَسْنَدَ رَايَتَهُ إِلَى شَجَرَةٍ، وَهَرَبَ هُوَ وَبَنُو عَمِّهِ وَقَوْمُهُ مِنَ الأَحْلافِ، فَلَمْ يُقْتَلْ مِنْهُمْ إِلا رَجُلانِ، رَجُلٌ مِنْ بَنِي غِيَرَةَ يُقَالُ لَهُ وَهْبٌ، وَآخَرُ مِنْ بَنِي كُنَّةَ يُقَالُ لَهُ: الْجُلاحُ، فقال رسول الله ص حِينَ بَلَغَهُ قَتْلُ الْجَلاحِ: قُتِلَ الْيَوْمَ سَيِّدُ شَبَابِ ثَقِيفٍ، إِلا مَا كَانَ مِنَ ابْنِ هُنَيْدَةَ- وَابْنُ هُنَيْدَةَ الْحَارِثُ بْنُ أَوْسٍ.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إِسْحَاقَ، قَالَ: ولما انهزم المشركون أتوا الطائف، ومعهم مالك بْن عوف، وعسكر بعضهم بأوطاس، وتوجه بعضهم نحو نخلة- ولم يكن فيمن توجه نحو نخلة إلا بنو غيرة من ثقيف- فتبعت خيل رسول الله ص من سلك فِي نخلة

(3/78)


من الناس، ولم تتبع من سلك الثنايا، فأدرك ربيعة بْن رفيع بْن أهبان بْن ثعلبة بْن رَبِيعَةَ بْن يربوع بْن سمال بْن عوف بْن امرئ القيس- وكان يقال له ابن لذعة وهي أمه، فغلبت على نسبه- دريد بْن الصمة، فأخذ بخطام جمله، وهو يظن أنه امرأة، وذلك أنه كان فِي شجار له، فإذا هو رجل، فأناخ به، وإذا هو بشيخ كبير، وإذا هو دريد بْن الصمة، لا يعرفه الغلام، فَقَالَ له دريد: ماذا تريد بي؟ قَالَ: أقتلك، قَالَ: ومن أنت؟ قَالَ: أنا ربيعة بْن رفيع السلمى، ثم ضربه بسيفه فلم يغن شيئا، فَقَالَ: بئسما سلحتك أمك! خذ سيفي هذا من مؤخر الرحل فِي الشجار، ثُمَّ اضرب به وارفع عن العظام، واخفض عن الدماغ، فإني كذلك كنت أقتل الرجال ثُمَّ إذا أتيت أمك فأخبرها أنك قتلت دريد بْن الصمة، فرب يوم والله قد منعت نساءك! فزعمت بنو سليم أن ربيعة قَالَ: لما ضربته فوقع تكشف الثوب عنه، فإذا عجانه وبطون فخذيه مثل القرطاس من ركوب الخيل أعراء، فلما رجع ربيعة إلى أمه أخبرها بقتله إياه، فقالت: والله لقد أعتق أمهات لك ثلاثا.
قَالَ أبو جعفر: وبعث رسول الله ص فِي آثار من توجه قبل أوطاس، فَحَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْكِنْدِيُّ، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:
لَمَّا قدم النبي ص مِنْ حُنَيْنٍ بَعَثَ أَبَا عَامِرٍ عَلَى جَيْشٍ إِلَى أَوْطَاسَ، فَلَقِيَ دُرَيْدَ بْنَ الصُّمَّةِ، فَقَتَلَ دُرَيْدًا، وَهَزَمَ اللَّهُ أَصْحَابَهُ.
قَالَ أَبُو مُوسَى: فَبَعَثَنِي مَعَ أَبِي عَامِرٍ، قَالَ: فَرُمِيَ أَبُو عَامِرٍ فِي رُكْبَتِهِ، رَمَاهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي جُشَمٍ بِسَهْمٍ فَأَثْبَتَهُ فِي رُكْبَتِهِ، فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ:
يَا عَمِّ، مَنْ رَمَاكَ؟ فَأَشَارَ أَبُو عَامِرٍ لأَبِي مُوسَى، فَقَالَ: إِنَّ ذَاكَ قَاتِلِي، تَرَاهُ ذَلِكَ الَّذِي رَمَانِي!

(3/79)


قَالَ أَبُو مُوسَى: فَقَصَدْتُ لَهُ فَاعْتَمَدْتُهُ، فَلَحِقْتُهُ، فَلَمَّا رَآنِي وَلَّى عَنِّي ذَاهِبًا، فَاتَّبَعْتُهُ، وَجَعَلْتُ اقول له: الا تستحي! أَلَسْتَ عَرَبِيًّا! أَلا تَثْبَتُ! فَكَرَّ، فَالْتَقَيْتُ أَنَا وَهُوَ، فَاخْتَلَفْنَا ضَرْبَتَيْنِ، فَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى أَبِي عَامِرٍ، فَقُلْتُ: قَدْ قَتَلَ اللَّهُ صَاحِبَكَ، قَالَ: فَانْزَعْ هَذَا السَّهْمَ، فَنَزَعْتُهُ فَنَزَا منه الماء، فقال: يا بن أَخِي، انْطَلِقْ إِلَى رَسُول اللَّهِ، فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلامَ، وَقُلْ لَهُ إِنَّهُ يَقُولُ لَكَ: اسْتَغْفِرْ لِي.
قَالَ: وَاسْتَخْلَفَنِي أَبُو عَامِرٍ عَلَى النَّاسِ فَمَكَثَ يَسِيرًا ثُمَّ إِنَّهُ مَاتَ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قَالَ:
يزعمون أن سلمة بْن دريد، هو الذي رمى أبا عامر بسهم فأصاب ركبته، فقتله، فَقَالَ سلمة بْن دريد فِي قتله أبا عامر:
إن تسألوا عني فإني سلمه ابن سمادير لمن توسمه أضرب بالسيف رءوس المسلمه.
وسمادير أم سلمة، فانتمى إليها.
قَالَ: وخرج مالك بْن عوف عِنْد الهزيمة، فوقف فِي فوارس من قومه على ثنية من الطريق، وقال لأصحابه: قفوا حَتَّى تمضي ضعفاؤكم وتلحق أخراكم، فوقف هنالك حَتَّى مضى من كان لحق بهم من منهزمة النَّاسُ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قال: حدثني مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي بَعْضُ بَنِي سعد بن بكر، ان رسول الله ص قَالَ يَوْمَئِذٍ لِخَيْلِهِ الَّتِي بَعَثَ: إِنْ قَدَرْتُمْ على بجاد- رجل من بنى سعد ابن بَكْرٍ- فَلا يَفْلِتَنَّكُمْ، وَكَانَ بِجَادٌ قَدْ أَحْدَثَ حَدَثًا، فَلَمَّا ظَفَرَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ سَاقُوهُ وَأَهْلَهُ، وَسَاقُوا أُخْتَهُ الشَّيْمَاءَ بِنْتَ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، أُخْتَ رَسُولِ اللَّهِ ص مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَعَنَّفُوا عَلَيْهَا فِي السِّيَاقِ مَعَهُمْ،

(3/80)


فَقَالَتْ لِلْمُسْلِمِينَ: تَعْلَمُونَ وَاللَّهِ أَنِّي لأُخْتُ صَاحِبِكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَلَمْ يُصَدِّقُوهَا حَتَّى أَتَوْا بِهَا رسول الله ص.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حَدَّثَنَا ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي وَجْزَةَ يَزِيدَ بْنِ عُبَيْدٍ السَّعْدِيِّ، قَالَ: لَمَّا انْتُهِيَ بِالشَّيْمَاءِ الى رسول الله ص قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُخْتُكَ، قَالَ: وَمَا عَلامَةُ ذَلِكَ؟ قَالَتْ عَضَّةٌ عَضَضْتَنِيهَا فِي ظَهْرِي وَأَنَا مُتَوَرِّكَتُكَ قَالَ: فَعَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ ص الْعَلامَةَ، فَبَسَطَ لَهَا رِدَاءَهُ، ثُمَّ قَالَ: هَاهُنَا، فَأَجْلَسَهَا عَلَيْهِ، وَخَيَّرَهَا، وَقَالَ: إِنْ أَحْبَبْتِ فَعِنْدِي مُحَبَّبَةً مُكَرَّمَةً، وَإِنْ أَحْبَبْتِ أُمَتِّعْكِ وَتَرْجِعِي إِلَى قَوْمِكَ، قَالَتْ: بَلْ تُمَتِّعُنِي وَتَرُدُّنِي إِلَى قَوْمِي، فمتعها رسول الله ص، وَرَدَّهَا إِلَى قَوْمِهَا، فَزَعَمَتْ بَنُو سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ أَنَّهُ أَعْطَاهَا غُلامًا لَهُ يُقَالُ لَهُ مَكْحُولٌ، وَجَارِيَةً، فَزَوَّجَتْ أَحَدَهُمَا الآخَرَ، فَلَمْ يَزَلْ فِيهِمْ مِنْ نَسْلِهِمَا بَقِيَّةٌ.
قال ابن إسحاق: استشهد يوم حنين من قريش، ثُمَّ من بني هاشم:
أيمن بْن عبيد- وهو ابن أم ايمن، مولاه رسول الله ص- ومن بني أسد بْن عبد العزى يزيد بْن زمعة بْن الأَسْوَدِ بْن المطلب بْن أسد- جمح به فرس له يقال له الجناح، فقتل- ومن الأنصار سراقة بْن الحارث ابن عدي بْن بلعجلان، ومن الأشعريين أبو عامر الأشعري ثم جمعت الى رسول الله ص سبايا حنين وأموالها، وكان على المغانم مسعود بن عمرو القاري، فامر رسول الله ص بالسبايا والأموال إلى الجعرانة فحبست بها حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال ابن إسحاق:
لما قدم فل ثقيف الطائف أغلقوا عليهم أبواب مدينتها، وصنعوا الصنائع للقتال، ولم يشهد حنينا ولا حصار الطائف عروة بْن مسعود ولا غيلان بْن

(3/81)


سلمة، كانا بجرش يتعلمان صنعة الدباب والضبور والمجانيق.

غزوه الطائف
فَحَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ نَصْرِ بْنِ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبَانُ الْعَطَّارُ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ عروه، قال: سار رسول الله ص يَوْمَ حُنَيْنٍ مِنْ فَوْرِهِ ذَلِكَ- يَعْنِي مُنْصَرَفَهُ مِنْ حُنَيْنٍ- حَتَّى نَزَلَ الطَّائِفَ، فَأَقَامَ نِصْفَ شهر يقاتلهم رسول الله ص وَأَصْحَابُهُ، وَقَاتَلَتْهُمْ ثَقِيفٌ مِنْ وَرَاءِ الْحِصْنِ، لَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَأَسْلَمَ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ، وَجَاءَتْ رَسُولَ الله ص وفودهم، ثم رجع النبي ص وَلَمْ يُحَاصِرْهُمْ إِلا نِصْفَ شَهْرٍ حَتَّى نَزَلَ الْجِعْرَانَةَ، وَبِهَا السَّبْيُ الَّذِي سَبَى رَسُولُ اللَّهِ مِنْ حُنَيْنٍ مِنْ نِسَائِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ- وَيَزْعُمُونَ أَنَّ ذَلِكَ السَّبْيَ الَّذِي أَصَابَ يَوْمَئِذٍ مِنْ هَوَازِنَ كَانَتْ عُدَّتُهُ سِتَّةَ آلافٍ مِنْ نِسَائِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ- فلما رجع النبي ص إِلَى الْجِعْرَانَةِ، قَدِمَتْ عَلَيْهِ وُفُودُ هَوَازِنَ مُسْلِمِينَ، فَأَعْتَقَ أَبْنَاءَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ كُلَّهُمْ، وَأَهَلَّ بِعُمْرَةٍ مِنَ الْجِعْرَانَةِ، وَذَلِكَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ.
ثُمَّ إِنَّ رسول الله ص رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَاسْتَخْلَفَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ، وَأَمْرَهُ أَنْ يُقِيمَ لِلنَّاسِ الْحَجَّ، وَيُعَلِّمَ النَّاسَ الإِسْلامَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَمِّنَ مَنْ حَجَّ مِنَ النَّاسِ، وَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا

(3/82)


قَدِمَهَا قَدِمَ عَلَيْهِ وُفُودُ ثَقِيفٍ، فَقَاضُوهُ عَلَى الْقَضِيَّةِ الَّتِي ذُكِرَتْ، فَبَايَعُوهُ، وَهُوَ الْكِتَابُ الَّذِي عِنْدَهُمْ كَاتَبُوهُ عَلَيْهِ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ عمرو بن شعيب، ان رسول الله ص سَلَكَ إِلَى الطَّائِفِ مِنْ حُنَيْنٍ عَلَى نَخْلةِ الْيَمَانِيَّةِ، ثُمَّ عَلَى قَرَنٍ، ثُمَّ عَلَى الْمُلَيْحِ، ثُمَّ عَلَى بَحْرَةَ الرُّغَاءِ مِنْ لِيَّةَ، فَابْتَنَى بِهَا مَسْجِدًا، فَصَلَّى فِيهِ، فَأَقَادَ يَوْمَئِذٍ بِبَحْرَةَ الرغاه حِينَ نَزَلَهَا بِدَمٍ- وَهُوَ أَوَّلُ دَمٍ أُقِيدَ بِهِ فِي الإِسْلامِ- رَجُلا مِنْ بَنِي لَيْثٍ، قَتَلَ رَجُلا مِنْ هُذَيْلٍ، فَقَتَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ ص، وَأَمَرَ رَسُول اللَّهِ وَهُوَ بِلِيَّةَ بِحِصْنِ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ فَهُدِمَ، ثُمَّ سَلَكَ فِي طَرِيقٍ يُقَالُ لَهَا الضَّيِّقَةُ، فَلَمَّا تَوَجَّهَ فِيهَا، سَأَلَ عَلَى اسْمِهَا، فَقَالَ: مَا اسْمُ هَذِهِ الطَّرِيقِ؟
فَقِيلَ لَهُ: الضَّيْقَةُ، فَقَالَ: بَلْ هِيَ الْيُسْرَى ثم خرج رسول الله ص عَلَى نَخَبٍ، حَتَّى نَزَلَ تَحْتَ سِدْرَةٍ يُقَالُ لَهَا الصَّادِرَةُ، قَرِيبًا مِنْ مَالِ رَجُلٍ مِنْ ثقيف، فأرسل اليه رسول الله ص: إِمَّا أَنْ تَخْرُجَ، وَإِمَّا أَنْ نُخَرِّبَ عَلَيْكَ حَائِطَكَ، فَأَبَى أَنْ يَخْرُجَ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ص بِإِخْرَابِهِ ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ حَتَّى نَزَلَ قَرِيبًا مِنَ الطَّائِفِ، فَضَرَبَ عَسْكَرُهُ، فَقُتِلَ أُنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ بِالنَّبْلِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَسْكَرَ اقْتَرَبَ مِنْ حَائِطِ الطَّائِفِ فَكَانَتِ النَّبْلُ تَنَالُهُمْ، وَلَمْ يَقْدِرِ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَدْخُلُوا حَائِطَهُمْ، غَلَّقُوهُ دُونَهُمْ، فَلَمَّا أُصِيبَ أُولَئِكَ النَّفَرُ مِنْ أَصْحَابِهِ بِالنَّبْلِ، ارْتَفَعَ، فَوَضَعَ عَسْكَرَهُ عِنْدَ مَسْجِدِهِ الَّذِي بِالطَّائِفِ الْيَوْمَ، فَحَاصَرَهُمْ بِضْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، وَمَعَهُ امْرَأَتَانِ مِنْ نِسَائِهِ، إِحْدَاهُمَا أُمُّ سَلَمَةَ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ وَأُخْرَى مَعَهَا- قَالَ الواقدي:
الأُخْرَى زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ- فَضَرَبَ لَهُمَا قُبَّتَيْنِ، فَصَلَّى بَيْنَ القبتين

(3/83)


فَلَمَّا أَسْلَمَتْ ثَقِيفٌ، بَنَى عَلَى مُصَلَّى رَسُول الله ص ذَلِكَ أَبُو أُمَيَّةَ بْنُ عَمْرِو بْنِ وَهْبِ بْنِ مُعَتِّبِ بْنِ مَالِكٍ مَسْجِدًا، وَكَانَتْ فِي ذَلِكَ الْمَسْجِدِ سَارِيةٌ- فِيمَا يَزْعُمُونَ- لا تَطْلُعُ عَلَيْهَا الشَّمْسُ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ، إِلا سُمِعَ لها نقيض، فحاصرهم رسول الله ص، وَقَاتَلَهُمْ قِتَالا شَدِيدًا، وَتَرَامَوْا بِالنَّبْلِ حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمَ الشَّدْخَةِ عِنْدَ جِدَارِ الطَّائِفِ، دَخَلَ نفر من اصحاب رسول الله ص تَحْتَ دَبَّابَةٍ، ثُمَّ زَحَفُوا بِهَا إِلَى جِدَارِ الطَّائِفِ، فَأَرْسَلَتْ عَلَيْهِمْ ثَقِيفٌ سِكَكَ الْحَدِيدِ مُحَمَّاةً بِالنَّارِ، فَخَرَجُوا مِنْ تَحْتِهَا، فَرَمَتْهُمْ ثَقِيفٌ بِالنَّبْلِ، وَقَتَلُوا رِجَالا، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ بِقَطْعِ أَعْنَابِ ثَقِيفٍ، فَوَقَعَ فِيهَا النَّاسُ يَقْطَعُونَ.
وَتَقَدَّمَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ إِلَى الطائف فناديا ثَقِيفًا:
أَنْ أَمِّنُونَا حَتَّى نُكَلِّمَكُمْ! فَأَمَّنُوهُمَا، فَدَعَوْا نِسَاءً مِنْ نِسَاءِ قُرَيْشٍ وَبَنِي كِنَانَةَ لِيَخْرُجَنَّ إِلَيْهِمَا- وَهُمَا يَخَافَانِ عَلَيْهِنَّ السِّبَاءَ- فَأَبَيْنَ، مِنْهُنَّ آمِنَةُ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ، كَانَتْ عِنْدَ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ لَهُ مِنْهَا دَاوُدُ بْنُ عُرْوَةَ وَغَيْرُهَا.
وَقَالَ الواقدي: حَدَّثَنِي كَثِيرُ بْنُ زَيْدٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: لَمَّا مَضَتْ خَمْسَ عَشْرَةَ مِنْ حِصَارِ الطَّائِفِ، اسْتَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ نَوْفَلَ بْنَ مُعَاوِيَةَ الدِّيلِيَّ، وَقَالَ: يَا نَوْفَلُ، مَا تَرَى فِي الْمُقَامِ عَلَيْهِمْ؟
قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثَعْلَبٌ فِي جُحْرٍ، إِنْ أَقَمْتَ عَلَيْهِ أَخَذْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَضُرَّكَ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: قد بلغنى ان رسول الله ص قَالَ لأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ، وَهُوَ مُحَاصِرٌ ثَقِيفًا بِالطَّائِفِ: يَا أَبَا بَكْرٍ، إِنِّي رَأَيْتُ أَنَّهُ أُهْدِيَتْ لِي قَعْبَةٌ

(3/84)


مَمْلُوءَةٌ زُبْدًا، فَنَقَرَهَا دِيكٌ فَأَهْرَاقَ مَا فِيهَا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا أَظُنُّ أَنْ تُدْرِكَ مِنْهُمْ يَوْمَكَ هَذَا مَا تُرِيدُ يَا رَسُولَ الله فقال رسول الله ص:
وَأَنَا لا أَرَى ذَلِكَ.
ثُمَّ إِنَّ خَوْلَةَ بِنْتَ حَكِيمِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ الأَوْقَصِ السُّلَمِيَّةِ- وَهِيَ امْرَأَةُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ- قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْطِنِي إِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ الطَّائِفَ حُلِّيَّ بَادِيَةَ بِنْتِ غَيْلانَ بْنِ سَلَمَةَ، أَوْ حُلِيَّ الْفَارِعَةِ بِنْتِ عَقِيلٍ- وَكَانَتَا مِنْ أَحْلَى نِسَاءِ ثَقِيفٍ- قَالَ: فَذُكِرَ لي ان رسول الله ص قَالَ لَهَا: وَإِنْ كَانَ لَمْ يُؤْذَنْ لِي فِي ثَقِيفٍ يَا خُوَيْلَةُ! فَخَرَجَتْ خُوَيْلَةُ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَدَخَلَ عُمَرُ عَلَى رسول الله ص، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا حَدِيثٌ حَدَّثَتْنِيهِ خُوَيْلَةُ أَنَّكَ قُلْتَهُ! قَالَ: قَدْ قُلْتُهُ، قَالَ: او ما أُذِنَ فِيهِمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: لا، قَالَ:
أَفَلا أُؤَذِّنُ بِالرَّحِيلِ فِي النَّاسِ! قَالَ: بلى، فاذن عمر بِالرَّحِيلِ، فَلَمَّا اسْتَقَلَّ النَّاسُ نَادَى سَعِيدَ بْنَ عُبَيْدِ بْنِ أُسَيْدِ بْن أَبِي عَمْرِو بْنِ عِلاجٍ الثَّقَفِيَّ:
أَلا إِنَّ الْحَيَّ مُقِيمٌ! قَالَ: يَقُولُ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ: أَجَلْ وَاللَّهِ مَجَدَّةً كِرَامًا! فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: قَاتَلَكَ اللَّهُ يَا عُيَيْنَةُ! أَتَمْدَحُ قَوْمًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِالامْتِنَاعِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ، وَقَدْ جِئْتَ تَنْصُرَهُ! قَالَ: إِنِّي وَاللَّهِ مَا جِئْتُ لأُقَاتِلَ مَعَكُمْ ثَقِيفًا، وَلَكِنِّي أَرَدْتُ أَنْ يَفْتَحَ مُحَمَّدٌ الطَّائِفَ فَأُصِيبُ مِنْ ثَقِيفٍ جَارِيَةً أَتَبَطَّنُهَا لَعَلَّهَا أَنْ تَلِدَ لِي رَجُلا، فَإِنَّ ثَقِيفًا قَوْمٌ مَنَاكِيرُ.
واستشهد بالطائف من اصحاب رسول الله ص اثْنَا عَشَرَ رَجُلا، سَبْعَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَرَجُلٌ من بنى ليث، واربعه من الانصار

(3/85)


امر اموال هوازن وعطايا المؤلفه قلوبهم منها
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ:
ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ص حِينَ انْصَرَفَ مِنَ الطَّائِفِ عَلَى دَحْنَا، حَتَّى نَزَلَ الْجِعْرَانَةَ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ قَدِمَ سَبْيُ هَوَازِنَ حِينَ سَارَ إِلَى الطَّائِفِ الى الجعرانة، فحبس بها، ثم اتته بالجعرانة، وكان مع رسول الله ص مِنْ سَبْيِ هَوَازِنَ مِنَ النِّسَاءِ وَالذَّرَارِيِّ عَدَدٌ كَثِيرٌ، وَمِنَ الإِبِلِ سِتَّةُ آلافِ بَعِيرٍ، وَمِنَ الشَّاءِ مَا لا يُحْصَى.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حدثنا سلمة قال: حدثني محمد بن إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: أَتَى وَفْدُ هَوَازِنَ رَسُولَ الله ص وَهُوَ بِالْجِعْرَانَةِ، وَقَدْ أَسْلَمُوا، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا أَصْلٌ وَعَشِيرَةٌ، وَقَدْ أَصَابَنَا مِنَ الْبَلاءِ مَا لا يَخْفَى عَلَيْكَ، فَامْنُنْ عَلَيْنَا مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكَ! فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ هَوَازِنَ- أَحَدُ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ، وَكَانَ بَنُو سعد هم الذين ارضعوا رسول الله ص- يُقَالُ لَهُ زُهَيْرُ بْنُ صُرَدَ، وَكَانَ يُكَنَّى بِأَبِي صُرَدَ- فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا فِي الْحَظَائِرِ عَمَّاتُكَ وَخَالاتُكَ وَحَوَاضِنُكَ اللَّاتِي كُنَّ يَكْفُلْنَكَ! وَلَوْ أَنَّنَا مَلَحْنَا لِلْحَارِثِ بْنِ أَبِي شِمْرٍ أَوْ لِلنُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ، ثُمَّ نَزَلَ مِنَّا بِمِثْلِ مَا نَزَلْتَ بِهِ، رَجَوْنَا عَطْفَهُ وَعَائِدَتَهُ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْمَكْفُولِينَ! ثُمَّ قَالَ:
امْنُنْ عَلَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ فِي كَرَمٍ ... فَإِنَّكَ الْمَرْءُ نرجوه وندخر

(3/86)


امْنُنْ عَلَى بَيْضَةٍ قَدْ عَاقَهَا قَدَرٌ ... مُمَزَّق شَمْلُهَا، فِي دَهْرِهَا غِيَرُ
فِي أَبْيَاتٍ قَالَهَا، فقال رسول الله ص: أَبْنَاؤُكُمْ وَنِسَاؤُكُمْ أَحَبُّ إِلَيْكُمْ أَمْ أَمْوَالُكُمْ؟ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، خَيَّرْتَنَا بَيْنَ أَحْسَابِنَا وَأَمْوَالِنَا، بَلْ تَرُدُّ عَلَيْنَا نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا فَهُمْ أَحَبُّ إِلَيْنَا، فَقَالَ: أَمَّا مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ، فَإِذَا أَنَا صَلَّيْتُ بِالنَّاسِ، فَقُولُوا: إِنَّا نَسْتَشْفِعُ بِرَسُولِ اللَّهِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَبِالْمُسْلِمِينَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فِي أَبْنَائِنَا وَنِسَائِنَا، فَسَأُعْطِيكُمْ عِنْدَ ذَلِكَ، وَأَسْأَلُ لَكُمْ، فَلَمَّا صلى رسول الله ص بِالنَّاسِ الظُّهْرَ، قَامُوا فَتَكَلَّمُوا بِالَّذِي أَمَرَهُمْ بِهِ، فقال رسول الله: أَمَّا مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ، وَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ: وَمَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللَّهِ، وَقَالَتِ الأَنْصَارُ:
وَمَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللَّهِ قَالَ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ: أَمَّا أَنَا وَبَنُو تَمِيمٍ فَلا، وَقَالَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ: أَمَّا أَنَا وَبَنُو فَزَارَةَ فلا، وقال عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ: أَمَّا أَنَا وَبَنُو سُلَيْمٍ فَلا، قَالَتْ بَنُو سُلَيْمٍ: مَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللَّهِ.
قَالَ: يَقُولُ الْعَبَّاسُ لِبَنِي سليم: وهنتمونى! [فقال رسول الله ص: أَمَّا مَنْ تَمَسَّكَ بِحَقِّهِ مِنْ هَذَا السَّبْيِ مِنْكُمْ فَلَهُ بِكُلِّ إِنْسَانٍ سِتُّ فَرَائِضَ مِنْ أَوَّلِ شَيْءٍ نُصِيبُهُ، فَرُدُّوا إِلَى النَّاسِ أَبْنَاءَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ] .
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ السَّعْدِيُّ أَبُو وَجْزَةَ، أَنَّ رَسُولَ الله ص كَانَ أَعْطَى عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ جَارِيَةً مِنْ سَبْيِ حُنَيْنٍ يُقَالُ لَهَا رَيْطَةُ بِنْتُ هِلالِ بْنِ حَيَّانَ بْنِ عُمَيْرَةَ بْنِ هِلالِ بْنِ نَاصِرَةَ بْنِ قُصَيَّةَ بْنِ نَصْرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ، وَأَعْطَى عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ جَارِيَةً يُقَالُ لَهَا زَيْنَبُ بِنْتُ حَيَّانَ بْنِ

(3/87)


عَمْرِو بْنِ حَيَّانَ، وَأَعْطَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ جَارِيَةً، فَوَهَبَهَا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ ص عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ جَارِيَةً مِنْ سَبْيِ هَوَازِنَ، فَوَهَبَهَا لِي، فَبَعَثْتُ بِهَا إِلَى أَخْوَالِي مِنْ بَنِي جُمَحٍ لِيُصْلِحُوا لِي مِنْهَا حَتَّى أَطُوفَ بِالْبَيْتِ ثُمَّ آتِيهِمْ، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُصِيبَهَا إِذَا رَجَعْتُ إِلَيْهَا، قَالَ: فَخَرَجْتُ مِنَ الْمَسْجِدِ حِينَ فَرَغْتُ، فَإِذَا النَّاسُ يَشْتَدُّونَ، فَقُلْتُ: مَا شَأْنُكُمْ؟ قَالُوا: رَدَّ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا، قَالَ: قُلْتُ: تِلْكُمْ صَاحِبَتُكُمْ فِي بَنِي جُمَحٍ، اذْهَبُوا فَخُذُوهَا، فَذَهَبُوا إِلَيْهَا فَأَخَذُوهَا، وَأَمَّا عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ فَأَخَذَ عَجُوزًا مِنْ عَجَائِزِ هَوَازِنَ، وَقَالَ حِينَ أَخَذَهَا: أَرَى عَجُوزًا وَأَرَى لَهَا فِي الْحَيِّ نَسَبًا، وَعَسَى أَنْ يَعْظُمَ فداؤها! فلما رد رسول الله ص السَّبَايَا بِسِتِّ فَرَائِضَ أَبَى أَنْ يَرُدَّهَا، فَقَالَ له زهير ابو صرد: خذها عنك، فو الله مَا فُوهَا بِبَارِدٍ، وَلا ثَدْيُهَا بِنَاهِدٍ، وَلا بطنها بوالد، ولا درها بما كد، وَلا زَوْجُهَا بِوَاجِدٍ فَرَدَّهَا بِسِتِّ فَرَائِضَ حِينَ قَالَ لَهُ زُهَيْرٌ مَا قَالَ، فَزَعَمُوا أَنَّ عُيَيْنَةَ لَقِيَ الأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ، فَشَكَا إِلَيْهِ ذَلِكَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّكَ مَا أَخَذْتَهَا بِكْرًا غَرِيرَةً، وَلا نَصَفًا وَثِيرَةً، [فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص لِوَفْدِ هَوَازِنَ، وَسَأَلَهُمْ عَنْ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ: مَا فَعَلَ؟ فَقَالُوا: هُوَ بِالطَّائِفِ مَعَ ثَقِيفٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: أَخْبِرُوا مَالِكًا أَنَّهُ إِنْ أَتَانِي مُسْلِمًا رَدَدْتُ عَلَيْهِ أَهْلَهُ وَمَالَهُ، وَأَعْطَيْتُهُ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ،] فَأَتَى مَالِكٌ بِذَلِكَ، فَخَرَجَ مِنَ الطَّائِفِ إِلَيْهِ، وَقَدْ كَانَ مَالِكٌ خَافَ ثَقِيفًا عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ رَسُولَ الله ص قَالَ لَهُ مَا قَالَ، فَيَحْبِسُوهُ، فَأَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَهُيِّئَتْ لَهُ، وَأَمَرَ بِفَرَسٍ لَهُ فَأُتِيَ بِهِ الطَّائِفَ، فَخَرَجَ لَيْلا، فَجَلَسَ عَلَى فَرَسِهِ فَرَكَضَهُ، حَتَّى أَتَى رَاحِلَتَهُ حَيْثُ أَمَرَ بِهَا أَنْ تُحْبَسَ لَهُ، فَرَكِبَهَا، فَلَحِقَ بِرَسُولِ اللَّهِ فَأَدْرَكَهُ بالجعرانة- او

(3/88)


بِمَكَّةَ- فَرَدَّ عَلَيْهِ أَهْلَهُ وَمَالَهُ، وَأَعْطَاهُ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ، وَأَسْلَمَ فَحَسُنَ إِسْلامُهُ.
وَاسْتَعْمَلَهُ رَسُولُ الله ص عَلَى قَوْمِهِ وَعَلَى مَنْ أَسْلَمَ مِنْ تِلْكَ الْقَبَائِلِ حَوْلَ الطَّائِفِ: ثُمَالَةَ وَسَلِمَةَ وَفَهْمَ، فَكَانَ يُقَاتِلُ بِهِمْ ثَقِيفًا، لا يَخْرُجُ لَهُمْ سَرْحٌ إِلا أَغَارَ عَلَيْهِ، حَتَّى ضَيَّقَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ ابو محجن ابن حَبِيبِ بْن عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ الثَّقَفِيُّ:
هَابَتِ الأَعْدَاءُ جَانِبَنَا ... ثُمَّ تَغْزُونَا بَنُو سَلِمَهْ
وَأَتَانَا مَالِكٌ بِهِمْ ... نَاقِضًا لِلْعَهْدِ وَالْحُرْمَهْ
وَأَتَوْنَا فِي مَنَازِلِنَا ... وَلَقَدْ كُنَّا أُولِي نِقْمَهْ
وَهَذَا آخِرُ حَدِيثِ أَبِي وَجْزَةَ.
ثُمَّ رَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، قَالَ: فَلَمَّا فَرَغَ رسول الله ص مِنْ رَدِّ سَبَايَا حُنَيْنٍ إِلَى أَهْلِهَا، رَكِبَ وَاتَّبَعَهُ النَّاسُ [يَقُولُونَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اقْسِمْ علينا فيئنا الإِبِلِ وَالْغَنَمِ، حَتَّى أَلْجَئُوهُ إِلَى شَجَرَةٍ، فَاخْتَطَفَتِ الشَّجَرَةُ عَنْهُ رِدَاءَهُ، فَقَالَ: رُدُّوا عَلَيَّ رِدَائِي ايها الناس، فو الله لَوْ كَانَ لِي عَدَدَ شَجَرِ تِهَامَةَ نِعَمًا لَقَسَمْتُهَا عَلَيْكُمْ، ثُمَّ مَا لَقِيتُمُونِي بَخِيلا وَلا جَبَانًا وَلا كَذَّابًا ثُمَّ قَامَ إِلَى جَنْبِ بَعِيرٍ، فَأَخَذَ وَبْرَةً مِنْ سِنَامِهِ فَجَعَلَهَا بَيْنَ أُصْبَعَيْهِ، ثُمَّ رَفَعَهَا فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ وَاللَّهِ لَيْسَ لِي مِنْ فَيْئِكُمْ وَلا هَذِهِ الْوَبَرَةُ إِلا الْخُمُسُ، وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ، فَأَدُّوا الخياط والمخيط،

(3/89)


فَإِنَّ الْغُلُولَ يَكُونُ عَلَى أَهْلِهِ عَارًا وَنَارًا وَشَنَارًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَجَاءَهُ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ بِكُبَّةٍ مِنْ خُيُوطِ شَعَرٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخَذْتُ هَذِهِ الْكُبَّةَ أَعْمَلُ بِهَا بَرْذَعَةَ بَعِيرٍ لِي دُبِرَ، قَالَ: أَمَّا نَصِيبِي مِنْهَا فَلَكَ،] فَقَالَ:
إِنَّهُ إِذَا بَلَغْتَ هَذِهِ فَلا حَاجَةَ لِي بِهَا، ثُمَّ طَرَحَهَا مِنْ يَدِهِ.
إِلَى هَاهُنَا حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله ابن ابى بكر، قال: اعطى رسول الله ص الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ- وَكَانُوا أَشْرَافًا مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ يَتَأَلَّفُهُمْ وَيَتَأَلَّفُ بِهِ قُلُوبَهُمْ- فَأَعْطَى أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ مِائَةَ بَعِيرٍ، وَأَعْطَى ابْنَهُ مُعَاوِيَةَ مائه بعير، واعطى حكيم ابن حِزَامٍ مِائَةَ بَعِيرٍ، وَأَعْطَى النَّضِيرَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ بْنِ عَلْقَمَةَ أَخَا بَنِي عَبْدِ الدَّارِ مِائَةَ بَعِيرٍ، وَأَعْطَى الْعَلاءِ بْنِ جَارِيَةَ الثَّقَفِيِّ حَلِيفِ بَنِي زُهْرَةَ مِائَةَ بَعِيرٍ، وَأَعْطَى الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ مِائَةَ بَعِيرٍ، وَأَعْطَى صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ مِائَةَ بَعِيرٍ، وَأَعْطَى سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو مِائَةَ بَعِيرٍ، وَأَعْطَى حُوَيْطِبَ بْنَ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ أَبِي قَيْسٍ مِائَةَ بَعِيرٍ، وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ مِائَةَ بَعِيرٍ، وَأَعْطَى الأَقْرَعَ ابن حَابِسٍ التَّمِيمِيَّ مِائَةَ بَعِيرٍ، وَأَعْطَى مَالِكَ بْنَ عوف النصرى مِائَةَ بَعِيرٍ، فَهَؤُلاءِ أَصْحَابُ الْمِئِينَ، وَأَعْطَى دُونَ المائه رجالا من قريش، منهم مخرمه ابن نَوْفَلِ بْنِ أُهَيْبٍ الزُّهْرِيُّ، وَعُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ الْجُمَحِيُّ، وَهِشَامُ بْنُ عَمْرٍو أَخُو بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ- لا يُحْفَظُ عِدَةُ مَا أَعْطَاهُمْ، وَقَدْ عُرِفَ فِيمَا زُعِمَ أَنَّهَا دُونَ الْمِائَةِ- وَأَعْطَى سَعِيدَ بْنَ يَرْبُوعِ بْنِ عَنْكَثَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ مَخْزُومٍ خَمْسِينَ مِنَ الإِبِلِ، وَأَعْطَى السَّهْمِيَّ خَمْسِينَ مِنَ الإِبِلِ، وَأَعْطَى عَبَّاسَ بْنَ مرداس السلمى اباعر فنسخطها، وعاتب فيها رسول الله ص، فقال:

(3/90)


كَانَتْ نِهَابًا تَلافَيْتُهَا ... بِكَرِّي عَلَى الْمُهْرِ فِي الأَجْرَعِ
وَإِيقَاظِيَ الْقَوْمَ أَنْ يَرْقُدُوا ... إِذَا هَجَعَ النَّاسُ لَمْ أَهْجَعِ
فَأَصْبَحَ نَهْبِي وَنَهْبَ الْعَبِيدِ ... بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالأَقْرَعِ
وَقَدْ كُنْتُ فِي الْحَرْبِ ذَا تُدْرَإٍ ... فَلَمْ أُعْطَ شَيْئًا وَلَمْ أُمْنَعِ
إِلا أَفَائِلَ أُعْطَيْتُهَا ... عَدِيدَ قَوَائِمِهَا الأَرْبَعِ
وَمَا كَانَ حِصْنٌ وَلا حَابِسٌ ... يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ فِي الْمَجْمَعِ
وَمَا كُنْتُ دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا ... وَمَنْ تَضَعِ الْيَوْمَ لا يُرْفَعِ
قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ الله ص: اذْهَبُوا فَاقْطَعُوا عَنِّي لِسَانَهُ، فَزَادُوهُ حَتَّى رَضِيَ، فَكَانَ ذَلِكَ قَطْعَ لِسَانِهِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عن ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ [مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الحارث، ان قائلا قال لرسول الله ص مِنْ أَصْحَابِهِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْطَيْتَ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ وَالأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ مِائَةً مِائَةً، وَتَرَكْتَ جُعَيْلَ بْنَ سُرَاقَةَ الضَّمْرِيَّ! فَقَالَ رَسُولُ الله ص: أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَجُعَيْلُ بْنُ سُرَاقَةَ خَيْرٌ مِنْ طِلاعِ الأَرْضِ، كُلِّهِمْ مِثْلَ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ وَالأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ، وَلَكِنِّي تَأَلَّفْتُهُمَا لِيُسْلِمَا، وَوَكَلْتُ جُعَيْلَ بْنَ سُرَاقَةَ إِلَى إِسْلامِهِ]

(3/91)


حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ مِقْسَمٍ أَبِي الْقَاسِمِ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ، قَالَ: خَرَجْتُ أَنَا وَتَلِيدُ بْنُ كِلابٍ اللَّيْثِيُّ حَتَّى أتينا عبد الله ابن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ مُعَلِّقًا نَعْلَيْهِ بِيَدِهِ، فَقُلْنَا لَهُ:
هَلْ حَضَرْتَ رَسُولَ الله ص حِينَ كَلَّمَهُ التَّمِيمِيُّ يَوْمَ حُنَيْنٍ؟
[قَالَ: نَعَمْ، أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ يُقَالُ لَهُ ذو الخويصره، فوقف على رسول الله ص وَهُوَ يُعْطِي النَّاسَ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ قَدْ رَأَيْتُ مَا صَنَعْتَ فِي هَذَا الْيَوْمِ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: أَجَلْ، فَكَيْفَ رَأَيْتَ؟ قَالَ: لَمْ ارك عدلت! فغضب رسول الله ص، ثُمَّ قَالَ: وَيْحَكَ! إِذَا لَمْ يَكُنِ الْعَدْلُ عِنْدِي، فَعِنْدَ مَنْ يَكُونُ! فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلا نَقْتُلُهُ! فَقَالَ: لا، دَعُوهُ، فَإِنَّهُ سَيَكُونُ لَهُ شِيعَةٌ يَتَعَمَّقُونَ فِي الدِّينِ حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهُ كَمَا يَخْرُجُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يُنْظَرُ فِي النَّصْلِ فَلا يوجد شيء، ثم في القدح فَلا يُوجَدُ شَيْءٌ، ثُمَّ فِي الْفَوْقِ فَلا يُوجَدُ شَيْءٌ، سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدَّمَ] .
حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ مِثْلَ ذَلِكَ، وَسَمَّاهُ ذَا الْخُوَيْصِرَةِ التَّمِيمِيَّ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ الَّذِي كَلَّمَ رسول الله ص بهذا الكلام، انما كلمه به في مال كان على ع بَعَثَهُ مِنَ الْيَمَنِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، فَقَسَمَهُ بَيْنَ جَمَاعَةٍ، مِنْهُمْ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ، وَالأَقْرَعُ، وَزَيْدُ الْخَيْلِ، فَقَالَ حِينَئِذٍ مَا ذُكِرَ عَنْ ذِي الْخُوَيْصِرَةِ أَنَّهُ قَالَهُ رَجُلٌ حَضَرَهُ

(3/92)


حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أَبِي بَكْرٍ [أَنَّ رَجُلا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ص مِمَّنْ شَهِدَ مَعَهُ حُنَيْنًا، قَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لاسير الى جنب رسول الله ص عَلَى نَاقَةٍ لِي، وَفِي رِجْلَيَّ نَعْلٌ غَلِيظَةٌ، إِذْ زَحَمَتْ نَاقَتِي نَاقَةَ رَسُولِ اللَّهِ، وَيَقَعُ حَرْفُ نَعْلِي عَلَى سَاقِ رَسُولِ اللَّهِ فَأَوْجَعَهُ، قال: فقرع قدمي بالسوط، وقال:
أوجعتني فتأخر عَنِّي، فَانْصَرَفْتُ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ إِذَا رسول الله يَلْتَمِسُنِي، قَالَ: قُلْتُ: هَذَا وَاللَّهِ لِمَا كُنْتُ أَصَبْتُ مِنْ رِجْلِ رَسُولِ اللَّهِ بِالأَمْسِ قَالَ:
فَجِئْتُهُ وَأَنَا أَتَوَقَّعُ، فَقَالَ لِي: إِنَّكَ قَدْ اصبت رجلي بالأمس فاوجعتنى فقرعت قدمك بالسوط، فَدَعَوْتُكَ لأُعَوِّضَكَ مِنْهَا، فَأَعْطَانِي ثَمَانِينَ نَعْجَةً بِالضَّرْبَةِ الَّتِي ضَرَبَنِي] .
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عاصم ابن عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: لَمَّا أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ مَا أَعْطَى مِنْ تِلْكَ الْعَطَايَا فِي قُرَيْشٍ وَقَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الأَنْصَارِ مِنْهَا شَيْءٌ، وَجَدَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِهِمْ، حَتَّى كَثُرَتْ مِنْهُمُ الْقَالَةُ، حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ: لَقِيَ وَاللَّهِ رَسُولُ اللَّهِ قَوْمَهُ! فَدَخَلَ عَلَيْهِ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذَا الْحَيَّ مِنَ الأَنْصَارِ قَدْ وَجَدُوا عَلَيْكَ فِي أَنْفُسِهِمْ لِمَا صَنَعْتَ فِي هَذَا الْفَيْءِ الَّذِي أَصَبْتَ، قَسَمْتَ فِي قَوْمِكَ وَأَعْطَيْتَ عَطَايَا عِظَامًا فِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الْحَيِّ مِنَ الأَنْصَارِ شَيْءٌ، قَالَ: فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ! قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَنَا إِلا مِنْ قَوْمِي! قَالَ: فَاجْمَعْ لِي قَوْمَكَ فِي الْحَظِيرَةِ، قَالَ: فَخَرَجَ سَعْدٌ فَجَمَعَ الأَنْصَارَ فِي تِلْكَ الْحَظِيرَةِ، قَالَ: فَجَاءَهُ رِجَالٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، فَتَرَكَهُمْ فَدَخَلُوا، وَجَاءَ آخَرُونَ فَرَدَّهُمْ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا إِلَيْهِ أَتَاهُ سَعْدٌ فَقَالَ: قَدِ اجْتَمَعَ لَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الأَنْصَارِ، فَأَتَاهُمْ رسول الله ص، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِالَّذِي هُوَ لَهُ أَهْلٌ، ثُمَّ قَالَ: يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، مَا قَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ،

(3/93)


وَمَوْجِدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَلَمْ آتِكُمْ ضُلَّالَّا فَهَدَاكُمُ اللَّهُ، وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ، وَأَعْدَاءً فَأَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ! قَالُوا: بَلَى، لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ الْمَنُّ وَالْفَضْلُ! فَقَالَ: أَلا تُجِيبُونِي يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ! قَالُوا: وَبِمَاذَا نُجِيبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ الْمَنُّ وَالْفَضْلُ! قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَصَدَقْتُمْ، وَلَصُدِّقْتُمْ، أَتَيْتَنَا مُكَذَّبًا فَصَدَّقْنَاكَ، وَمَخْذُولا فَنَصَرْنَاكَ، وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ، وَعَائِلا فَآسَيْنَاكَ، وَجَدْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ فِي لُعَاعَةٍ مِنَ الدُّنْيَا تَأَلَّفْتُ بِهَا قَوْمًا لِيُسْلِمُوا، وَوَكَلْتُكُمْ إِلَى إِسْلامِكُمْ! أَفَلا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاءِ وَالْبَعِيرِ، وَتَرْجِعُوا برسول الله الى رحالكم! [فو الذى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْلا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا وَسَلَكَتِ الأَنْصَارُ شِعْبًا، لَسَلَكْتُ شِعْبَ الأَنْصَارِ! اللَّهُمَّ ارْحَمِ الأَنْصَارَ وَأَبْنَاءَ الأَنْصَارِ وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الأَنْصَارِ!] قَالَ: فَبَكَى الْقَوْمُ حَتَّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ، وَقَالُوا: رَضِينَا بِرَسُولِ اللَّهِ قِسْمًا وَحَظًّا، ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ الله ص وتفرقوا
. عمرة رسول الله من الجعرانة
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ص مِنَ الْجِعْرَانَةِ مُعْتَمِرًا، وَأَمَرَ بِبَقَايَا الْفَيْءِ، فَحُبِسَ بِمَجَنَّةَ، وَهِيَ بِنَاحِيَةِ مَرِّ الظَّهْرَانِ، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ مِنْ عُمْرَتِهِ وَانْصَرَفَ رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ، اسْتَخْلَفَ عَتَّابَ بْنَ أَسِيدِ عَلَى مَكَّةَ، وَخَلَفَ مَعَهُ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ يُفَقِّهُ النَّاسَ فِي الدِّينِ وَيُعَلِّمُهُمُ الْقُرْآنَ، وَاتُّبِعَ رَسُولُ اللَّهِ ص ببقايا الفيء وكانت عمره رسول الله في ذي القعده، فقدم رسول الله ص

(3/94)


الْمَدِينَةَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ أَوْ فِي ذِي الْحَجَّةِ، وَحَجَّ النَّاسُ تِلْكَ السَّنَةِ عَلَى مَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَحُجُّ عَلَيْهِ، وَحَجَّ تِلْكَ السَّنَةِ بِالْمُسْلِمِينَ عَتَّابُ بْنُ أَسِيدٍ، وَهِيَ سَنَةُ ثَمَانٍ، وَأَقَامَ أَهْلُ الطَّائِفِ عَلَى شِرْكِهِمْ وَامْتِنَاعِهِمْ فِي طَائِفِهِمْ مَا بَيْنَ ذِي الْقَعْدَةِ، إِذِ انْصَرَفَ رسول الله عَنْهُمْ إِلَى شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ.
قال الواقدى: لما قسم رسول الله ص الْغَنَائِمَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِالْجِعْرَانَةِ، أَصَابَ كُلَّ رَجُلٍ أَرْبَعٌ مِنَ الإِبِلِ وَأَرْبَعُونَ شَاةً، فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ فَارِسًا أَخَذَ سَهْمَ فَرَسِهِ أَيْضًا وَقَالَ أيضا: قدم رسول الله ص الْمَدِينَةَ لِلَيَالٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحَجَّةِ مِنْ سَفْرَتِهِ هَذِهِ.
قَالَ: وَفِيهَا بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ص عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ إِلَى جَيْفَرٍ وَعَمْرِو ابْنَيْ الْجلندي مِنَ الأَزْدِ مُصَدِّقًا، فَخَلَّيَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّدَقَةِ، فَأَخَذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَرَدَّهَا عَلَى فُقَرَائِهِمْ، وَأَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنَ الْمَجُوسِ الَّذِينَ بِهَا، وَهُمْ كَانُوا أَهْلَ الْبَلَدِ، وَالْعَرَبُ كَانُوا يَكُونُونَ حولها.
قال: وفيها تزوج رسول الله ص الْكِلابِيَّةَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا فَاطِمَةُ بِنْتُ الضَّحَّاكِ بْنِ سُفْيَانَ، فَاخْتَارَتِ الدُّنْيَا حِينَ خُيِّرَتْ وَقِيلَ: إِنَّهَا اسْتَعَاذَتْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ، فَفَارَقَهَا وَذُكِرَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ وُثَيْمَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ، حَدَّثَهُ عَنْ أَبِي وَجْزَةَ السعدي ان النبي ص تَزَوَّجَهَا فِي ذِي الْقَعْدَةِ.
قَالَ: وَفِيهَا وَلَدَتْ مَارِيَّةُ إِبْرَاهِيمَ فِي ذِي الْحَجَّةِ، فَدَفَعَهُ رَسُولُ الله ص إِلَى أُمِّ بُرْدَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ بْنِ زَيْدِ بن لبيد بن خداش بن عامر ابن غَنْمِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ، وَزَوْجُهَا الْبَرَاءُ بن أوس بن خالد بن الجعد ابن عَوْفِ بْنِ مَبْذُولِ بْنِ عَمْرِو بْنِ غَنْمِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ، فَكَانَتْ تُرْضِعُهُ.
قَالَ: وكانت قابلتها سلمى مولاه رسول الله ص، فَخَرَجَتْ إِلَى أَبِي رَافِعٍ فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا وَلَدَتْ غُلامًا، فَبَشَّرَ بِهِ أَبُو رَافِعٍ رَسُولَ اللَّهِ، فَوَهَبَ لَهُ مَمْلُوكًا.
قَالَ: وَغَارَتْ نِسَاءُ رَسُولِ الله ص، وَاشْتَدَّ عَلَيْهِنَّ حِينَ رُزِقَتْ مِنْهُ الْوَلَدَ

(3/95)