تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ
الطبري
ثُمَّ دخلت
سنة تسع وخمسين
(ذكر مَا كَانَ فِيهَا من الأحداث) ففيها كَانَ مشتى عَمْرو بن مُرَّةَ
الجهني أرض الروم فِي البر، قَالَ الْوَاقِدِيّ:
لَمْ يَكُنْ عامئذ غزو فِي البحر وَقَالَ غيره: بل غزا فِي البحر
جُنَادَة بن أبي أمية.
وفيها عزل عبد الرحمن بن أم الحكم عن الْكُوفَة، وَاسْتَعْمَلَ
عَلَيْهَا النُّعْمَان بن بشير الأَنْصَارِيّ، وَقَدْ ذكرنا قبل سبب
عزل ابن أم الحكم عن الكوفه.
ذكر ولايه عبد الرحمن بن زياد خراسان
وفي هَذِهِ السنة ولى مُعَاوِيَة عبد الرَّحْمَن بن زياد بن سمية
خُرَاسَان.
ذكر سبب استعمال مُعَاوِيَة إِيَّاهُ عَلَى خُرَاسَان:
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ
مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو، قَالَ: سَمِعْتُ
أَشْيَاخَنَا يَقُولُونَ: قَدِمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادٍ
وَافِدًا عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،
أَمَا لَنَا حَقٌّ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ:
فَمَاذَا تُوَلِّيَنِي؟ قَالَ: بِالْكُوفَةِ النُّعْمَانُ رشيد، وهو
رجل من اصحاب النبي ص، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ عَلَى
الْبَصْرَةِ وَخُرَاسَانَ، وَعَبَّادُ بْنُ زِيَادٍ عَلَى سِجِسْتَانَ،
وَلَسْتُ أَرَى عَمَلا يُشْبِهُكَ إِلا أَنْ أُشْرِكَكَ فِي عَمَلِ
أَخِيكَ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ أَشْرِكْنِي، فَإِنَّ عَمَلَهُ
وَاسِعٌ يَحْتَمِلُ الشِّرْكَةَ، فَوَلاهُ خُرَاسَانَ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَذَكَرَ أَبُو حَفْصٍ الأَزْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي
عُمَرُ، قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا قَيْسُ بْنُ الْهَيْثَمِ
السُّلَمِيُّ، وَقَدْ وَجَّهَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادٍ،
فَأَخَذَ اسلم بن
(5/315)
زُرْعَةَ فَحَبَسَهُ، ثُمَّ قَدِمَ عَبْدُ
الرَّحَمْنِ، فَأَغْرَمَ اسلم بن زرعه ثلاثمائة أَلْفِ دِرْهَمٍ.
قَالَ: وَذَكَرَ مُصْعَبُ بْنُ حَيَّانَ، عَنْ أَخِيهِ مُقَاتِلِ بْنِ
حَيَّانَ، قَالَ:
قَدِمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادٍ خُرَاسَانَ، فَقَدِمَ رَجُلٌ
سَخِيٌّ حَرِيصٌ ضَعِيفٌ لَمْ يَغْزُ غَزْوَةً وَاحِدَةً، وَقَدْ
أَقَامَ بِخُرَاسَانَ سَنَتَيْنِ.
قَالَ عَلِيٌّ: قَالَ عَوَانَةَ: قَدِمَ عَبْدُ الرَّحَمْنِ بْنُ
زِيَادٍ عَلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ مِنْ خُرَاسَانَ بَعْدَ قَتْلِ
الحسين ع، واستخلف على خراسان قيس ابن الهيثم.
قال: وحدثنى مسلمه بْنُ مُحَارِبٍ وَأَبُو حَفْصٍ، قَالا: قَالَ
يَزِيدُ لعبد الرحمن ابن زِيَادٍ: كَمْ قَدِمْتُ بِهِ مَعَكَ مِنَ
الْمَالِ مِنْ خُرَاسَانَ؟ قَالَ: عِشْرِينَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ،
قَالَ: إِنْ شِئْتَ حَاسَبْنَاكَ وَقَبَضْنَاهَا مِنْكَ، وَرَدَدْنَاكَ
عَلَى عَمَلِكَ، وَإِنْ شِئْتَ سَوَّغْنَاكَ وَعَزَلْنَاكَ، وَتُعْطِي
عبد الله بن جعفر خمسمائة أَلْفِ دِرْهَمٍ، قَالَ: بَلْ تُسَوِّغُنِي
مَا قُلْتَ، وَيُسْتَعْمَلُ عَلَيْهَا غَيْرِي وَبَعَثَ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادٍ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ بِأَلْفِ
الف درهم، وقال: خمسمائة الف من قبل امير المؤمنين، وخمسمائة الف من
قبلي
. ذكر وفود عبيد الله بن زياد على معاويه
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَفَدَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ عَلَى
مُعَاوِيَةَ فِي أَشْرَافِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَعَزَلَهُ عَنِ
الْبَصْرَةِ، ثُمَّ رَدَّهُ عَلَيْهَا وَجَدَّدَ له الولاية.
ذكر من قَالَ ذَلِكَ:
حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: وفد عُبَيْد
اللَّهِ بن زياد فِي أهل العراق إِلَى مُعَاوِيَةَ فَقَالَ لَهُ: ائذن
لوفدك عَلَى منازلهم وشرفهم، فأذن لهم،
(5/316)
ودخل الأحنف فِي آخرهم، وَكَانَ سيئ
المنزلة من عُبَيْد اللَّهِ، فلما نظر إِلَيْهِ مُعَاوِيَة رحب بِهِ،
وأجلسه مَعَهُ عَلَى سريرة، ثُمَّ تكلم القوم فأحسنوا الثناء عَلَى
عُبَيْد اللَّهِ، والأحنف ساكت، فَقَالَ: ما لك يَا أَبَا بحر لا
تتكلم! قَالَ: إن تكلمت خالفت القوم فَقَالَ: انهضوا فقد عزلته عنكم،
واطلبوا واليا ترضونه، فلم يبق فِي القوم أحد إلا أتى رجلا من بني
أُمَيَّة أو من أشراف أهل الشام، كلهم يطلب، وقعد الأحنف فِي منزله،
فلم يأت أحدا، فلبثوا أياما، ثُمَّ بعث إِلَيْهِم مُعَاوِيَة فجمعهم،
فلما دخلوا عَلَيْهِ قَالَ: من اخترتم؟
فاختلفت كلمتهم، وسمى كل فريق مِنْهُمْ رجلا والأحنف ساكت، فَقَالَ
لَهُ مُعَاوِيَة: ما لك يَا أَبَا بحر لا تتكلم! قَالَ: إن وليت علينا
أحدا من أهل بيتك لم نعدل بعبيد اللَّه أحدا، وإن وليت من غيرهم فانظر
فِي ذَلِكَ، قَالَ مُعَاوِيَة: فإني قَدْ أعدته عَلَيْكُمْ، ثُمَّ
أوصاه بالأحنف، وقبح رأيه فِي مباعدته، فلما هاجت الْفِتْنَة لم يف
لعبيد الله غير الأحنف.
ذكر هجاء يزيد بن مفرغ الحميرى بنى زياد
وفي هَذِهِ السنة كَانَ مَا كَانَ من أمر يَزِيد بن مفرغ الحميري وعباد
بن زياد وهجاء يزيد بنى زياد.
ذكر سبب ذَلِكَ:
حدثت عن أبي عبيدة معمر بْن المثنى أن يَزِيد بن رَبِيعَة بن مفرغ
الحميري كَانَ مع عباد بن زياد بسجستان، فاشتغل عنه بحرب الترك،
فاستبطأه، فأصاب الجند مع عباد ضيق فِي إعلاف دوابهم، فَقَالَ ابن
مفرغ:
أَلا ليت اللحى عادت حشيشا ... فنعلفها خيول المسلمينا!
وَكَانَ عباد بن زياد عظيم اللحية، فأنهي شعره إِلَى عباد، وقيل:
مَا أراد غيرك، فطلبه عباد، فهرب مِنْهُ، وهجاه بقصائد كثيرة، فكان مما
هجاه بِهِ قوله:
(5/317)
إذا أودى مُعَاوِيَة بن حرب ... فبشر شعب
قعبك بانصداع
فأشهد أن أمك لم تباشر ... أبا سُفْيَان واضعة القناع
ولكن كَانَ أمرا فِيهِ لبس ... عَلَى وجل شديد وارتياع
وقوله:
أَلا أبلغ مُعَاوِيَة بن حرب ... مغلغلة من الرجل اليماني
أتغضب أن يقال أبوك عف ... وترضى ان يقال ابوك زان!
فأشهد أن رحمك من زياد ... كرحم الفيل من ولد الأتان
فَحَدَّثَنِي أَبُو زَيْد، قَالَ: لما هجا ابن المفرغ عبادا فارقه
مقبلا إِلَى الْبَصْرَة، وعبيد اللَّه يَوْمَئِذٍ وافد عَلَى
مُعَاوِيَة، فكتب عباد إِلَى عُبَيْد اللَّهِ ببعض مَا هجاه بِهِ، فلما
قرأ عُبَيْد اللَّهِ الشعر دخل عَلَى مُعَاوِيَة فأنشده إِيَّاهُ،
واستأذنه فِي قتل ابن مفرغ، فأبى عَلَيْهِ أن يقتله، وَقَالَ: أدبه
وَلا تبلغ بِهِ القتل، وقدم ابن مفرغ الْبَصْرَة، فاستجار بالأحنف بن
قيس، فَقَالَ: إنا لا نجير عَلَى ابن سمية، فإن شئت كفيتك شعراء بني
تميم، قَالَ: ذاك مَا لا أبالي أن أكفاه، فأتى خَالِد بن عَبْدِ
اللَّهِ فوعده، وأتى أُمَيَّة فوعده، ثُمَّ أتى عُمَر بن عُبَيْد
اللَّهِ بن معمر فوعده، ثُمَّ أتى المنذر بن الجارود فأجاره، وأدخله
داره، وكانت بحرية بنت المنذر عِنْدَ عُبَيْد اللَّهِ، فلما قدم
عُبَيْد اللَّهِ الْبَصْرَة أخبر بمكان ابن مفرغ عِنْدَ المنذر، وأتى
المنذر عُبَيْد اللَّهِ مسلما، فأرسل عُبَيْد اللَّهِ الشرط إِلَى دار
المنذر، فأخذوا ابن مفرغ، فلم يشعر المنذر وَهُوَ عِنْدَ عُبَيْد
اللَّهِ إلا بابن مفرغ قَدْ أقيم عَلَى رأسه، فقام إِلَى عُبَيْد
اللَّهِ وَقَالَ: أيها الأمير، إني قَدْ أجرته، قَالَ: وَاللَّهِ يَا
منذر ليمدحنك وأباك ويهجوني أنا وأبي، ثُمَّ تجيره علي! فأمر بِهِ فسقي
دواء، ثُمَّ حمل عَلَى حمار عَلَيْهِ إكاف فجعل يطاف بِهِ وَهُوَ يسلح
(5/318)
فِي ثيابه، فيمر بِهِ فِي الأسواق، فمر
بِهِ فارسي فرآه، فسأل عنه، فَقَالَ: اين جيست؟ ففهمها ابن مفرغ، فقال:
آب است نبيذ است ... عصارات زبيب است
سميه رو سپيد است
ثم هجا المنذر بن الجارود:
تركت قريشا أن أجاور فِيهِمُ ... وجاورت عبد القيس أهل المشقر
أناس أجارونا فكان جوارهم ... أعاصير من فسو العراق المبذر
فأصبح جاري من جذيمة نائما ... وَلا يمنع الجيران غير المشمر
وَقَالَ لعبيد اللَّه:
يغسل الماء مَا صنعت وقولي ... راسخ مِنْكَ فِي العظام البوالي
ثُمَّ حمله عُبَيْد اللَّهِ إِلَى عباد بسجستان، فكلمت اليمانية فِيهِ
بِالشَّامِ مُعَاوِيَة، فأرسل رسولا إِلَى عباد، فحمل ابن مفرغ من عنده
حَتَّى قدم عَلَى مُعَاوِيَة، فَقَالَ فِي طريقه:
عدسْ مَا لعبّاد عَلَيْك إمارة ... نجوت وهذا تحملين طليق
لعمري لقد نجاك من هوة الردى ... إمام وحبل للأنام وثيق
(5/319)
سأشكر مَا أوليت من حسن نعمة ... ومثلي
بشكر المنعمين حقيق
فلما دخل عَلَى مُعَاوِيَة بكى، وَقَالَ: ركب مني مَا لم يركب من مسلم
عَلَى غير حدث وَلا جريرة! قَالَ: أولست القائل:
أَلا أبلغ مُعَاوِيَة بن حرب ... مغلغلة من الرجل اليماني!
القصيدة- قَالَ: لا والذي عظم حق أَمِير الْمُؤْمِنِينَ مَا قلت هَذَا،
قَالَ:
أفلم تقل:
فأشهد أن أمك لم تباشر ... أبا سُفْيَان واضعة القناع
فِي أشعار كثيرة هجوت بِهَا ابن زياد! اذهب فقد عفونا لك عن جرمك، أما
لو إيانا تعامل لَمْ يَكُنْ مما كَانَ شَيْء، فانطلق، وفي أي أرض شئت
فانزل.
فنزل الموصل، ثُمَّ إنه ارتاح إِلَى الْبَصْرَة، فقدمها، ودخل عَلَى
عُبَيْد اللَّهِ فآمنه.
وأما أَبُو عبيدة فإنه قَالَ فِي نزول ابن مفرغ الموصل عن الَّذِي
أَخْبَرَنِي بِهِ أَبُو زَيْد، قَالَ: ذكر أن مُعَاوِيَة لما قَالَ
لَهُ: ألست القائل:
أَلا أبلغ مُعَاوِيَة بن حرب ... مغلغلة من الرجل اليماني
الأبيات، حلف ابن مفرغ أنه لم يقله، وأنه إنما قاله عبد الرحمن بن أم
الحكم أخو مَرْوَان، واتخذني ذريعة إِلَى هجاء زياد، وَكَانَ عتب
عَلَيْهِ قبل ذَلِكَ، فغضب معاويه على عبد الرحمن بن أم الحكم وحرمه
عطاءه، حتى اضربه، فكلم فِيهِ، فَقَالَ: لا أرضى عنه حَتَّى يرضى
عُبَيْد اللَّهِ، فقدم العراق عَلَى عُبَيْد اللَّهِ، فَقَالَ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ لَهُ:
لأنت زيادة فِي آل حرب ... أحب إلي من إحدى بناني
أراك أخا وعما وابن عم ... وَلا أدري بغيب مَا تراني
(5/320)
فَقَالَ: أراك وَاللَّهِ شاعر سوء! فرضي
عنه، فَقَالَ مُعَاوِيَة لابن مفرغ:
ألست القائل:
فأشهد أن أمك لم تباشر ... أبا سُفْيَان واضعة القناع
الأبيات! لا تعودن إِلَى مثلها، عفونا عنك فأقبل حَتَّى نزل الموصل،
فتزوج امرأة، فلما كَانَ فِي ليلة بنائها خرج حين أصبح إِلَى الصيد،
فلقي دهانا أو عطارا عَلَى حمار لَهُ، فَقَالَ لَهُ ابن مفرغ: من أين
أقبلت؟ قَالَ:
من الأهواز، قَالَ: وما فعل ماء مسرقان؟ قَالَ: عَلَى حاله، قَالَ:
فخرج ابن مفرغ فتوجه قبل الْبَصْرَة، ولم يعلم أهله بمسيره، ومضى
حَتَّى قدم عَلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد بِالْبَصْرَةِ، فدخل
عَلَيْهِ فآمنه، ومكث عنده حَتَّى استأذنه فِي الخروج إِلَى كَرْمَان،
فأذن لَهُ فِي ذَلِكَ، وكتب الى عامله هنالك بالوصاية والإكرام لَهُ،
فخرج إِلَيْهَا وَكَانَ عامل عُبَيْد الله يومئذ على كرمان شريك ابن
الأعور الحارثي.
وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة عُثْمَان بن مُحَمَّدِ بْن أَبِي
سُفْيَانَ، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَحْمَد بْن ثَابِت، عمن حدثه، عن
إِسْحَاق بْن عِيسَى، عن أبي معشر، وكذلك قَالَ الْوَاقِدِيُّ وغيره.
وَكَانَ الوالي عَلَى الْمَدِينَة الْوَلِيد بن عتبة بن أَبِي
سُفْيَانَ، وعلى الْكُوفَة النُّعْمَان بن بشير، وعلى قضائها شريح،
وعلى البصرة عبيد الله بن زياد، وعلى قضائها هشام بن هبيرة، وعلى
خراسان عبد الرحمن بن زياد، وعلى سجستان عباياد بن زياد، وعلى كَرْمَان
شريك بن الأعور من قبل عُبَيْد اللَّهِ بن زياد
(5/321)
ثُمَّ دخلت
سنة ستين
(ذكر مَا كَانَ فِيهَا من الأحداث) ففي هَذِهِ السنة كَانَتْ غزوة مالك
بن عَبْدِ اللَّهِ سورية ودخول جناده ابن ابى اميه رودس، وهدمه
مدينتها، في قول الواقدى.
ذكر عهد معاويه لابنه يزيد
وفيها كَانَ أخذ مُعَاوِيَة عَلَى الوفد الَّذِينَ وفدوا إِلَيْهِ مع
عُبَيْد اللَّهِ بن زياد البيعة لابنه يَزِيد، وعهد إِلَى ابنه يَزِيد
حين مرض فِيهَا مَا عهد إِلَيْهِ فِي النفر الَّذِينَ امتنعوا من
البيعة ليزيد حين دعاهم إِلَى البيعة.
وَكَانَ عهده الَّذِي عهد، مَا ذكر هِشَام بن مُحَمَّدٍ، عن أبي مخنف،
قَالَ:
حَدَّثَنِي عَبْد الْمَلِكِ بن نوفل بن مساحق بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مخرمة، أن مُعَاوِيَة لما مرض مرضته الَّتِي هلك فِيهَا دعا يَزِيد
ابنه، فَقَالَ: يَا بني، إني قَدْ كفيتك الرحلة والترحال، ووطأت لك
الأشياء، وذللت لك الأعداء، وأخضعت لك أعناق العرب، وجمعت لك من جمع
واحد، وإني لا أتخوف أن ينازعك هَذَا الأمر الَّذِي استتب لك إلا أربعة
نفر من قريش:
الْحُسَيْن بن علي، وعبد اللَّه بن عُمَرَ، وعبد اللَّه بن
الزُّبَيْرِ، وعبد الرَّحْمَن بن أبي بكر، فأما عَبْد اللَّهِ بن
عُمَرَ فرجل قَدْ وقذته العبادة، وإذا لم يبق أحد غيره بايعك، وأما
الْحُسَيْن بن علي فإن أهل العراق لن يدعوه حَتَّى يخرجوه، فإن خرج
عَلَيْك فظفرت بِهِ فاصفح عنه فإن لَهُ رحما ماسة وحقا عظيما، وأما ابن
أبي بكر فرجل إن رَأَى أَصْحَابه صنعوا شَيْئًا صنع مثلهم، ليس لَهُ
همة إلا فِي النساء واللهو، وأما الَّذِي يجثم لك جثوم الأسد، ويراوغك
مراوغة
(5/322)
الثعلب، فإذا أمكنته فرصة وثب، فذاك ابن
الزُّبَيْر، فإن هُوَ فعلها بك فقدرت عَلَيْهِ فقطعه إربا إربا.
قَالَ هِشَام: قَالَ عوانة: قَدْ سمعنا فِي حديث آخر أن مُعَاوِيَة لما
حضره الموت- وَذَلِكَ فِي سنة ستين- وَكَانَ يَزِيد غائبا، فدعا
بالضحاك بن قيس الفهري- وَكَانَ صاحب شرطته- ومسلم بن عُقْبَةَ المري،
فأوصى إليهما فَقَالَ: بلغا يَزِيد وصيتي، أنظر أهل الحجاز فإنهم أصلك،
فأكرم من قدم عَلَيْك مِنْهُمْ، وتعاهد من غاب، وأنظر أهل العراق، فإن
سألوك أن تعزل عَنْهُمْ كل يوم عاملا فافعل، فإن عزل عامل أحب إلي من
أن تشهر عَلَيْك مائة ألف سيف، وأنظر أهل الشام فليكونوا بطانتك
وعيبتك، فإن نابك شَيْء من عدوك فانتصر بهم، فإذا أصبتهم فاردد أهل
الشام إِلَى بلادهم، فإنهم إن أقاموا بغير بلادهم أخذوا بغير أخلاقهم،
وإني لست أخاف من قريش إلا ثلاثة: حُسَيْن بن علي، وعبد اللَّه بن عمر،
وعبد الله ابن الزُّبَيْرِ، فأما ابن عمر فرجل قَدْ وقذه الدين، فليس
ملتمسا شَيْئًا قبلك، وأما الْحُسَيْن بن علي فإنه رجل خفيف، وأرجو أن
يكفيكه اللَّه بمن قتل أباه، وخذل أخاه، وإن لَهُ رحما ماسة، وحقا
عظيما، وقرابة من محمد ص، وَلا أظن أهل العراق تاركيه حَتَّى يخرجوه،
فإن قدرت عَلَيْهِ فاصفح عنه، فإني لو أني صاحبه عفوت عنه، وأما ابن
الزُّبَيْر فإنه خب ضب، فإذا شخص لك فألبد لَهُ، إلا أن يلتمس مِنْكَ
صلحا، فإن فعل فاقبل، واحقن دماء قومك مَا استطعت
. ذكر وفاه مُعَاوِيَة بن أَبِي سُفْيَانَ
وفي هَذِهِ السنة هلك مُعَاوِيَة بن أَبِي سُفْيَانَ بدمشق، فاختلف فِي
وقت وفاته بعد إجماع جميعهم عَلَى أن هلاكه كَانَ فِي سنة ستين من
الهجره،
(5/323)
وفي رجب منها، فَقَالَ هِشَام بن مُحَمَّد:
مات مُعَاوِيَة لهلال رجب من سنة ستين.
وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: مات مُعَاوِيَة للنصف من رجب.
وَقَالَ عَلِيّ بن مُحَمَّد: مات مُعَاوِيَة بدمشق سنة ستين يوم الخميس
لثمان بقين من رجب، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ الْحَارِث عنه
. ذكر الخبر عن مدة ملكه
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ ثَابِت الرازي، قال: حدثني من سمع إسحاق بن
عِيسَى يذكر عن أبي معشر، قَالَ: بويع لمعاوية بأذرح، بايعه الْحَسَن
بن علي فِي جمادى الأولى سنة إحدى وأربعين، وتوفي مُعَاوِيَة فِي رجب
سنة ستين، وكانت خلافته تسع عشره سنه وثلاثة اشهر.
وحدثني الحارث، قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن سعد، قال: أَخْبَرَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ بْنِ
دِينَارٍ السَّعْدِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالُوا:
تُوُفِّيَ مُعَاوِيَةُ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ لِلنِّصْفِ مِنْ رجب سنة
ستين، وكانت خلافته تسع عشرة سَنَةً وَثَلاثَةَ أَشْهُرٍ وَسَبْعَةً
وَعِشْرِينَ يَوْمًا.
وَحَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، قَالَ: بايع أهل
الشام مُعَاوِيَة بالخلافة فِي سنة سبع وثلاثين فِي ذي القعدة حين تفرق
الحكمان، وكانوا قبل بايعوه عَلَى الطلب بدم عُثْمَان، ثُمَّ صالحه
الْحَسَن بن علي، وَسَلَّمَ لَهُ الأمر سنة إحدى وأربعين، لخمس بقين من
شهر ربيع الأول، فبايع الناس جميعا مُعَاوِيَة، فقيل: عام الجماعة،
ومات بدمشق سنة ستين، يوم الخميس لثمان بقين من رجب وكانت ولايته تسع
عشرة سنة وثلاثة أشهر وسبعة وعشرين يَوْمًا.
قَالَ: ويقال: كَانَ بين موت علي ع وموت مُعَاوِيَة تسع عشرة سنة وعشرة
أشهر وثلاث ليال
(5/324)
وَقَالَ هِشَام بن مُحَمَّد: بويع لمعاوية
بالخلافة فِي جمادى الأولى سنة إحدى وأربعين، فولى تسع عشرة سنة وثلاثة
أشهر إلا أياما، ثُمَّ مات لهلال رجب من سنة ستين
ذكر مده عمره
واختلفوا فِي مدة عمره، وكم عاش؟ فَقَالَ بعضهم: مات يوم مات وَهُوَ
ابن خمس وسبعين سنة.
ذكر من قال ذلك:
حدثني عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ:
أَخْبَرَنِي هِشَامُ بْنُ الْوَلِيدِ، قَالَ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ
الزُّهْرِيُّ: سَأَلَنِي الْوَلِيدُ عَنْ أَعْمَارِ الْخُلَفَاءِ،
فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ مَاتَ وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ
وَسَبْعِينَ سَنَةً، فَقَالَ: بَخٍ بَخٍ! إِنَّ هَذَا لَعُمْرٌ.
وَقَالَ آخَرُونَ: مَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَلاثٍ وسبعين سنة.
ذكر من قال ذلك:
حدثني عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ زهير قَالَ: قَالَ
عَلِيّ بن مُحَمَّد:
مات مُعَاوِيَة وَهُوَ ابن ثلاث وسبعين، قَالَ: ويقال ابن ثمانين سنة.
وَقَالَ آخرون: توفي وَهُوَ ابن ثمان وسبعين سنة.
ذكر من قَالَ ذلك:
حدثني الحارث، قَالَ: حدثنا محمد بن سعد، قال: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بن سعيد بن دينار، عن أبيه،
قال: تُوُفِّيَ مُعَاوِيَةُ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً.
وَقَالَ آخَرُونَ: تُوُفِّيَ وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً،
حُدِّثْتُ بِذَلِكَ عَنْ هِشَامِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ كَانَ
يَقُولُهُ عَنْ أَبِيهِ
(5/325)
ذكر العلة الَّتِي كَانَتْ فِيهَا وفاته
حَدَّثَنِي الحارث، قال: حدثنا مُحَمَّد بن سعد، قال: حَدَّثَنَا أَبُو
عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي يَعْقُوبَ الثَّقَفِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ
بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ: لَمَّا ثَقُلَ مُعَاوِيَةُ وَحَدَّثَ النَّاسُ
أَنَّهُ الْمَوْتُ، قَالَ لأَهْلِهِ: احْشُوا عَيْنِي إِثْمِدًا،
وَأَوْسِعُوا رَأْسِي دُهْنًا، فَفَعَلُوا، وَبَرَّقُوا وَجْهَهُ
بِالدُّهْنِ، ثُمَّ مُهِّدَ لَهُ، فَجَلَسَ وَقَالَ:
أَسْنِدُونِي، ثُمَّ قَالَ: ائْذَنُوا لِلنَّاسِ فَلْيُسَلِّمُوا
قِيَامًا، وَلا يَجْلِسْ أَحَدٌ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَدْخُلُ
فَيُسَلِّمُ قَائِمًا فَيَرَاهُ مُكْتَحِلا مُدَّهِنًا فَيَقُولُ:
يَقُولُ النَّاسُ: هُوَ لِمَآبِهِ، وَهُوَ أَصَحُّ النَّاسِ، فَلَمَّا
خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ قَالَ مُعَاوِيَةُ:
وَتَجَلُّدِي لِلشَّامِتِينَ أُريهم ... أَنِّي لِرَيْبِ الدَّهْرِ لا
أَتَضَعْضَعُ
وَإِذَا الْمَنِيَّةُ أَنْشَبَتْ أَظْفَارَهَا ... أَلْفَيْتَ كُلَّ
تَمِيمَةٍ لا تَنْفَعُ
قَالَ: وَكَانَ بِهِ النُّفَاثَاتُ، فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ.
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ زهير، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ، عن
إِسْحَاق بن أيوب، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بن ميناس الكلبي، قَالَ:
قَالَ مُعَاوِيَة، لابنتيه فِي مرضه الَّذِي مات فِيهِ وهما تقلبانه:
تقلبان حولا قلبا، جمع المال من شب إِلَى دب إن لم يدخل النار، ثُمَّ
تمثل:
لقد سعيت لكم من سعي ذي نصب ... وَقَدْ كفيتكم التطواف والرحلا
ويقال: من جمع ذي حسب.
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنْ سُلَيْمَانَ
بْنِ أَيُّوبَ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ وَعَلِيِّ بْنِ مُجَاهِدٍ، عَنْ
عَبْدِ الأَعْلَى بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ مُعَاوِيَةَ
قَالَ فِي
(5/326)
مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص كَسَانِي
قَمِيصًا فَرَفَعْتُهُ.
وَقَلَّمَ أَظْفَارَهُ يَوْمًا، فَأَخَذْتُ قُلامَتَهُ فَجَعَلْتُهَا
فِي قَارُورَةٍ، فَإِذَا مِتُّ فَأَلْبِسُونِي ذَلِكَ الْقَمِيصَ،
وَقَطِّعُوا تِلَكَ الْقُلامَةَ، وَاسْحَقُوهَا وَذَرُوهَا فِي
عَيْنِي، وَفِي فِيَّ، فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَرْحَمَنِي
بِبَرَكَتِهَا! ثُمَّ قَالَ مُتَمَثِّلا بِشِعْرِ الأَشْهَبِ بْنِ
رُمَيْلَةَ النَّهْشَلِيِّ يَمْدَحُ بِهِ الْقُبَاعَ:
إِذَا مِتَّ مَاتَ الْجُودُ وَانْقَطَعَ النَّدَى ... مِنَ النَّاسِ
إِلا مِنْ قَلِيلٍ مُصَرَّدِ
وَرُدَّتْ أَكُفُّ السَّائِلِينَ وَأَمْسَكُوا ... مِنَ الدِّينِ
وَالدُّنْيَا بِخَلَفٍ مُجَدَّدِ
فَقَالَتْ إِحْدَى بَنَاتِهِ- أَوْ غَيْرُهَا: كَلا يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، بَلْ يَدْفَعُ اللَّهُ عَنْكَ، فَقَالَ مُتَمَثِّلا:
وَإِذَا الْمَنِيَّةُ أَنْشَبَتْ أَظْفَارَهَا ... أَلْفَيْتَ كُلَّ
تَمِيمَةٍ لا تَنْفَعُ
ثُمَّ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ: لِمَنْ حَضَرَهُ
مِنْ أَهْلِهِ: اتَّقُوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّ اللَّهَ
سُبْحَانَهُ يَقِي مَنِ اتَّقَاهُ، وَلا وَاقِيَ لِمَنْ لا يَتَّقِي
اللَّهَ، ثم قضى.
حدثنا أَحْمَدُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ، عَمَّنْ
حَدَّثَهُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا حُضِرَ أَوْصَى بِنِصْفِ مَالِهِ
أَنْ يُرَدَّ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ، كَانَ أَرَادَ أَنْ يَطِيبَ لَهُ
الْبَاقِي، لأَنَّ عُمَرَ قَاسَمَ عُمَّالَهُ |