تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ
الطبري
. ذكر الخبر عن
دخول عبد الملك بن مروان الكوفه
وفي هذه السنة دخل عبد الملك بن مروان الكوفة وفرق أعمال العراق
والمصرين الكوفة والبصرة على عماله في قول الواقدي، وأما أبو الحسن
فإنه ذكر أن ذلك في سنة اثنتين وسبعين.
وحدثني عمر، قال: حدثني علي بن مُحَمَّد، قال: قتل مصعب يوم الثلاثاء
لثلاث عشرة خلت من جمادى الأولى أو الآخرة سنة اثنتين وسبعين.
ولما أتي عبد الملك الكوفة- فيما ذكر- نزل النخيلة، ثم دعا الناس إلى
البيعة، فجاءت قضاعة، فرأى قلة، فقال: يا معشر قضاعة، كيف سلمتم من مضر
مع قلتكم! فقال: عبد الله بن يعلى النهدي:
نحن أعز منهم وأمنع، قال: بمن؟ قال: بمن معك منا يا امير المؤمنين.
ثم جاءت مذجح وهمدان فقال: ما أرى لأحد مع هؤلاء بالكوفة شيئا ثم جاءت
جعفي، فلما نظر إليهم عبد الملك قال: يا معشر جعفي، اشتملتم على ابن
أختكم، وواريتموه؟ يعني يحيى بن سعيد بن العاص- قالوا: نعم، قال:
فهاتوه، قالوا: وهو آمن؟ قال: وتشترطون أيضا! فقال رجل منهم: إنا والله
ما نشترط جهلا بحقك، ولكنا نتسحب عليه تسحب الولد على والده، فقال: أما
والله لنعم الحي أنتم، إن كنتم لفرسانا في الجاهلية والاسلام، هو آمن،
فجاءوا به وكان يكنى أبا أيوب، فلما نظر إليه عبد الملك قال أبا قبيح،
بأي وجه تنظر إلى ربك وقد
(6/162)
خلعتني! قال: بالوجه الذي خلقه، فبايع ثم
ولى فنظر عبد الملك في قفاه فقال: لله دره! أي ابن زوملة هو! يعني
غريبة.
وقال علي بن مُحَمَّد: حدثني القاسم بن معن وغيره أن معبد بن خالد
الجدلي قال: ثم تقدمنا إليه معشر عدوان، قال: فقدمنا رجلا وسيما جميلا،
وتأخرت- وكان معبد دميما- فقال عبد الملك: من؟
فقال الكاتب: عدوان، فقال عبد الملك:
عذير الحي من عدوان ... كانوا حية الأرض
بغى بعضهم بعضا ... فلم يرعوا على بعض
ومنهم كانت السادات ... والموفون بالقرض
ثم أقبل على الجميل فقال: إيه! فقال: لا أدري، فقلت من خلفه:
ومنهم حكم يقضي ... فلا ينقض ما يقضي
ومنهم من يجيز ... الحج بالسنة والفرض
وهم مذ ولدوا شبوا ... بسر النسب المحض
قال: فتركني عبد الملك، ثم أقبل على الجميل فقال: من هو؟ قال:
لا أدري، فقلت من خلفه: ذو الإصبع، قال: فأقبل على الجميل فقال:
ولم سمى ذا الإصبع؟ فقال: لا أدري، فقلت من خلفه: لأن حية عضت إصبعه
فقطعتها، فأقبل على الجميل فقال: ما كان اسمه؟
فقال: لا أدري، فقلت من خلفه: حرثان بن الحارث، فأقبل على الجميل،
فقال: من أيكم كان؟ قال: لا أدري، فقلت من خلفه: من بني ناج، فقال:
أبعد بني ناج وسعيك بينهم ... فلا تتبعن عينيك ما كان هالكا
(6/163)
إذا قلت معروفا لأصلح بينهم ... يقول وهيب:
لا أصالح ذلكا
فأضحى كظهر العير جب سنامه ... تطيف به الولدان أحدب باركا
ثم أقبل على الجميل، فقال: كم عطاؤك؟ قال: سبعمائة، فقال لي:
في كم أنت؟ قلت: في ثلاثمائة، فأقبل على الكاتبين، فقال: حطا من عطاء
هذا أربعمائة، وزيداها في عطاء هذا، فرجعت وأنا في سبعمائة، وهو في
ثلاثمائة ثم جاءت كندة فنظر إلي عبد الله بن إسحاق بن الأشعث، فأوصى به
بشرا أخاه، وقال: اجعله في صحابتك وأقبل داود بن قحذم في مائتين من بكر
بن وائل، عليهم الأقبية الداودية، وبه سميت، فجلس مع عبد الملك على
سريره، فأقبل عليه عبد الملك، ثم نهض ونهضوا معه فأتبعهم عبد الملك
بصره، فقال: هؤلاء الفساق، والله لولا أن صاحبهم جاءني ما أعطاني أحد
منهم طاعة.
ثم إنه ولى- فيما قيل- قطن بن عبد الله الحارثي الكوفة أربعين يوما ثم
عزله، وولى بشر بن مروان وصعد منبر الكوفة فخطب فقال:
إن عبد الله بن الزبير لو كان خليفة كما يزعم لخرج فآسى بنفسه، ولم
يغرز ذنبه في الحرم ثم قال: إني قد استعملت عليكم بشر بن مروان، وأمرته
بالإحسان إلى أهل الطاعة، والشدة على أهل المعصية، فاسمعوا له وأطيعوا.
817 واستعمل مُحَمَّد بن عمير على همذان، ويزيد بن رؤيم على الري، وفرق
العمال، ولم يف لأحد شرط عليه ولاية أصبهان، ثم قال: علي هؤلاء الفساق
الذين انغلوا الشام، وأفسدوا العراق، فقيل:
قد أجارهم رؤساء عشائرهم، فقال: وهل يجير علي أحد! وكان عبد الله بن
يزيد بن أسد لجأ إلى علي بن عبد الله بن عباس، ولجأ إليه أيضا يحيى بن
معيوف الهمداني، ولجأ الهذيل بن زفر بن الحارث وعمرو بن زيد الحكمي إلى
خالد بن يزيد بن معاوية، فآمنهم عبد الملك، فظهروا
(6/164)
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة تنازع الرياسة
بالبصرة عبيد الله بن أبي بكرة وحمران بن أبان، فحدثني عمر بن شبة قال:
حدثني علي بن مُحَمَّد قال: لما قتل المصعب وثب حمران بن أبان وعبيد
الله بن أبي بكرة فتنازعا في ولاية البصرة، فقال ابن أبي بكرة: أنا
أعظم غناء منك، أنا كنت أنفق على أصحاب خالد يوم الجفرة فقيل لحمران:
إنك لا تقوى على ابن أبي بكرة، فاستعن بعبد الله بن الأهتم، فإنه إن
أعانك لم يقو عليك ابن أبي بكرة، ففعل، وغلب حمران على البصرة وابن
الأهتم على شرطها.
وكان لحمران منزلة عند بني أمية، حدثني أبو زيد قال: حدثني أبو عاصم
النبيل قال: أخبرني رجل قال: قدم شيخ أعرابي فرأى حمران فقال: من هذا؟
فقالوا: حمران، فقال: لقد رأيت هذا وقد مال رداؤه عن عاتقه فابتدره
مروان وسعيد بن العاص أيهما يسويه قال أبو زيد:
قال أبو عاصم: فحدثت بذلك رجلا من ولد عبد الله بن عامر، فقال:
حدثني أبي أن حمران مد رجله فابتدر معاوية وعبد الله بن عامر أيهما
يغمزها
. ذكر خبر ولايه خالد بن عبد الله على
البصره
وفي هذه السنة بعث عبد الملك خالد بن عبد الله على البصرة واليا،
حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، قال:
مكث حمران على البصرة يسيرا، وخرج ابن أبي بكرة حتى قدم على عبد الملك
الكوفة بعد مقتل مصعب، فولى عبد الملك خالد بن عبد الله بن خالد بن
أسيد على البصرة وأعمالها، فوجه خالد عبيد الله بن أبي بكرة خليفته على
البصرة، فلما قدم على حمران، قال: أقد جئت لا جئت! فكان ابن أبي بكرة
على البصرة حتى قدم خالد.
وفي هذه السنة رجع عبد الملك- فيما زعم الواقدي- إلى الشام
(6/165)
قال: وفيها نزع ابن الزبير جابر بن الأسود
بن عوف عن المدينة، واستعمل عليها طلحة بن عبد الله بن عوف قال: وهو
آخر وال لابن الزبير على المدينة، حتى قدم عليها طارق بن عمرو مولى
عثمان، فهرب طلحة، وأقام طارق بالمدينة حتى كتب إليه عبد الملك.
وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة عَبْد اللَّهِ بن الزبير في قول
الواقدى
. خطبه عبد الله بن الزبير بعد مقتل مصعب
وذكر أبو زيد عن أبي غسان مُحَمَّد بن يحيى، قال: حدثنى مصعب ابن
عثمان، قال: لما انتهى إلى عبد الله بن الزبير قتل مصعب قام في الناس
فقال:
الحمد لله الذي له الخلق والأمر، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن
يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء ألا وإنه لم يذلل الله من كان الحق
معه، وإن كان فردا، ولم يعزز من كان وليه الشيطان وحزبه وإن كان معه
الأنام طرا ألا وإنه قد أتانا من العراق خبر حزننا وأفرحنا، أتانا قتل
مصعب رحمة الله عليه، فأما الذي أفرحنا فعلمنا أن قتله له شهادة، وأما
الذي حزننا فإن لفراق الحميم لوعة يجدها حميمه عند المصيبة، ثم يرعوي
من بعدها ذو الرأي إلى جميل الصبر وكريم العزاء، ولئن أصبت بمصعب لقد
أصبت بالزبير قبله، وما أنا من عثمان بخلو مصيبة، وما مصعب إلا عبد من
عبيد الله وعون من أعواني إلا أن أهل العراق أهل الغدر والنفاق، أسلموه
وباعوه بأقل الثمن، فإن يقتل فإنا والله ما نموت على مضاجعنا كما تموت
بنو أبي العاص، والله ما قتل منهم رجل في زحف في الجاهلية ولا الإسلام،
وما نموت إلا قعصا بالرماح، وموتا تحت ظلال السيوف ألا انما الدنيا
عارية من الملك الأعلى الذي لا يزول سلطانه، ولا يبيد ملكه، فإن تقبل
لا آخذها أخذ الأشر البطر، وإن تدبر لا ابك عليها بكاء الحرق المهين،
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم
(6/166)
وذكر أن عبد الملك لما قتل مصعبا ودخل
الكوفة أمر بطعام كثير فصنع، وأمر به إلى الخورنق، وأذن إذنا عاما،
فدخل الناس فأخذوا مجالسهم، فدخل عمرو بن حريث المخزومي فقال: إلي وعلى
سريري، فأجلسه معه، ثم قال: أي الطعام أكلت أحب إليك وأشهى عندك؟ قال:
عناق حمراء قد أجيد تمليحها، وأحكم نضجها، قال:
ما صنعت شيئا، فأين أنت من عمروس راضع قد أجيد سمطه، وأحكم نضجه،
اختلجت إليك رجله، فأتبعتها يده، غذي بشريجين من لبن وسمن ثم جاءت
الموائد فأكلوا، فقال عبد الملك بن مروان: ما ألذ عيشنا لو أن شيئا
يدوم! ولكنا كما قال الأول:
وكل جديد يا أميم إلى بلى ... وكل امرئ يوما يصير إلى كان
فلما فرغ من الطعام طاف عبد الملك في القصر يقول لعمرو بن حريث: لمن
هذا البيت؟ ومن بنى هذا البيت؟ وعمرو يخبره، فقال عبد الملك:
وكل جديد يا أميم إلى بلى ... وكل امرئ يوما يصير إلى كان
ثم أتى مجلسه فاستلقى، وقال:
اعمل على مهل فإنك ميت ... واكدح لنفسك أيها الإنسان
فكأن ما قد كان لم يك إذ مضى ... وكأن ما هو كائن قد كان
وفي هذه السنة افتتح عبد الملك- في قول الواقدي- قيساريه.
(6/167)
ثم دخلت
سنة اثنتين وسبعين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث الجليلة) قال أبو جعفر: فمن
ذلك ما كان من امر الخوارج وامر المهلب بن ابى ضفره وعبد العزيز بن عبد
الله بن خالد بن أسيد.
ذكر هِشَام بن مُحَمَّدٍ، عن أبي مخنف أن حصيرة بن عبد الله وأبا زهير
العبسي حدثاه أن الأزارقة والمهلب بعد ما اقتتلوا بسولاف ثمانية أشهر
أشد القتال، أتاهم أن مصعب بن الزبير قد قتل، فبلغ ذلك الخوارج قبل أن
يبلغ المهلب وأصحابه، فناداهم الخوارج: ألا تخبروننا ما قولكم في مصعب؟
قالوا: إمام هدى، قالوا: فهو وليكم في الدنيا والآخرة؟ قالوا:
نعم، قالوا: وأنتم أولياؤه أحياء وأمواتا؟ قالوا: ونحن أولياؤه أحياء
وأمواتا، قالوا: فما قولكم في عبد الملك بن مروان؟ قالوا: ذلك ابن
اللعين، نحن إلى الله منه برآء، هو عندنا أحل دما منكم، قالوا: فأنتم
منه برآء في الدنيا والآخرة؟ قالوا: نعم كبراءتنا منكم، قالوا: وأنتم
له أعداء أحياء وأمواتا؟
قالوا: نعم نحن له أعداء كعداوتنا لكم، قالوا: فان امامكم مصعبا قد
قتله عبد الملك بن مروان، ونراكم ستجعلون غدا عبد الملك إمامكم، وأنتم
الآن تتبرءون منه، وتلعنون أباه! قالوا: كذبتم يا أعداء الله فلما كان
من الغد تبين لهم قتل مصعب، فبايع المهلب الناس لعبد الملك بن مروان
فأتتهم الخوارج فقالوا: ما تقولون في مصعب؟ قالوا: يا أعداء الله، لا
نخبركم ما قولنا فيه، وكرهوا أن يكذبوا أنفسهم عندهم، قالوا:
فقد أخبرتمونا أمس أنه وليكم في الدنيا والآخرة، وأنكم أولياؤه أحياء
وأمواتا، فأخبرونا ما قولكم في عبد الملك؟ قالوا: ذاك إمامنا وخليفتنا-
ولم يجدوا إذ بايعوه بدا من أن يقولوا هذا القول- قالت لهم الأزارقة:
يا أعداء الله، أنتم أمس تتبرءون منه في الدنيا والآخرة، وتزعمون انكم
له أعداء احياء وأمواتا، وهو اليوم إمامكم وخليفتكم، وقد قتل إمامكم
الذي كنتم
(6/168)
تولونه! فأيهما المحق، وأيهما المهتدي،
وأيهما الضال! قالوا لهم: يا أعداء الله، رضينا بذاك إذ كان ولي
أمورنا، ونرضى بهذا كما رضينا بذاك، قالوا:
لا والله ولكنكم إخوان الشياطين، وأولياء الظالمين، وعبيد الدنيا وبعث
عبد الملك بن مروان بشر بن مروان على الكوفة، وخالد بن عبد الله بن
خالد بن أسيد على البصرة فلما قدم خالد أثبت المهلب على خراج الأهواز
ومعونتها، وبعث عامر بن مسمع على سابور، ومقاتل بن مسمع على أردشير
خرة، ومسمع بن مالك بن مسمع على فسا ودرابجرد، والمغيرة بن المهلب على
إصطخر.
ثم إنه بعث إلى مقاتل فبعثه على جيش، وألحقه بناحية عبد العزيز فخرج
يطلب الأزارقة، فانحطوا عليه من قبل كرمان حتى أتوا درابجرد، فسار
نحوهم وبعث قطري مع صالح بن مخراق تسعمائة فارس، فأقبل يسير بهم حتى
استقبل عبد العزيز وهو يسير بالناس ليلا، يجرون على غير تعبئة، فهزم
الناس، ونزل مقاتل بن مسمع فقاتل حتى قتل، وانهزم عبد العزيز بن عبد
الله وأخذت امرأته ابنة المنذر بن الجارود، فأقيمت فيمن يزيد، فبلغت
مائة ألف- وكانت جميلة- فغار رجل من قومها كان من رءوس الخوارج يقال
له: أبو الحديد الشني، فقال:
تنحوا هكذا، ما أرى هذه المشركة إلا قد فتنتكم، فضرب عنقها ثم زعموا
أنه لحق بالبصرة، فرآه آل منذر فقالوا: والله ما ندري أنحمدك أم نذمك!
فكان يقول: ما فعلته إلا غيرة وحمية وجاء عبد العزيز حتى انتهى إلى
رامهرمز، وأتى المهلب فأخبر به، فبعث إليه شيخا من أشياخ قومه كان أحد
فرسانه، فقال: ائته فإن كان منهزما فعزه وأخبره أنه لم يفعل شيئا لم
يفعله الناس قبله، وأخبره أن الجنود تأتيه عاجلا، ثم يعزه الله وينصره
فأتاه ذلك الرجل، فوجدوه نازلا في نحو من ثلاثين رجلا كئيبا حزينا،
فسلم عليه الأزدي، وأخبره أنه رسول المهلب، وبلغه ما أمره به، وعرض
عليه أن يذكر له ما كانت له من حاجة ثم انصرف إلى المهلب فأخبره الخبر،
فقال له المهلب: الحق الآن بخالد بالبصرة فأخبره الخبر،
(6/169)
فقال: أنا آتيه أخبره أن أخاه هزم! والله
لا آتيه، فقال المهلب: لا والله لا يأتيه غيرك، أنت الذي عاينته
ورأيته، وأنت كنت رسولي إليه، قال:
هو إذا بهديك يا مهلب إن ذهب إليه العام، ثم خرج قال المهلب:
أما أنت والله فإنك لي آمن، أما والله لو أنك مع غيري، ثم أرسلك على
رجليك خرجت تشتد! قال له وأقبل عليه: كأنك إنما تمن علينا بحلمك! فنحن
والله نكافئك بل نزيد، أما تعلم أنا نعرض أنفسنا للقتل دونك، ونحميك من
عدوك! ولو كنا والله مع من يجهل علينا، ويبعثنا في حاجاته على أرجلنا،
ثم احتاج إلى قتالنا ونصرتنا جعلناه بيننا وبين عدونا، ووقينا به
أنفسنا قال له المهلب: صدقت صدقت ثم دعا فتى من الأزد كان معه فسرحه
إلى خالد يخبره خبر أخيه، فأتاه الفتى الأزدي وحوله الناس، وعليه جبة
خضراء ومطرف أخضر، فسلم عليه، فرد عليه، فقال: ما جاء بك؟ قال: أصلحك
الله! أرسلني إليك المهلب لأخبرك خبر ما عاينته، قال: وما عاينت؟ قال:
رأيت عبد العزيز برامهرمز مهزوما، قال: كذبت، قال: لا، والله ما كذبت،
وما قلت لك إلا الحق، فإن كنت كاذبا فاضرب عنقي، وإن كنت صادقا فأعطني
أصلحك الله جبتك ومطرفك قال: ويحك! ما أيسر ما سألت، ولقد رضيت مع
الخطر العظيم إن كنت كاذبا بالخطر الصغير إن كنت صادقا.
فحبسه وأمر بالإحسان إليه حتى تبينت له هزيمة القوم، فكتب إلى عبد
الملك:
أَمَّا بَعْدُ، فإني أخبر أَمِير الْمُؤْمِنِينَ أكرمه الله أني بعثت
عبد العزيز بن عبد الله في طلب الخوارج، وأنهم لقوه بفارس، فاقتتلوا
قتالا شديدا، فانهزم عبد العزيز لما انهزم عنه الناس، وقتل مقاتل بن
مسمع، وقدم الفل إلى الأهواز أحببت أن أعلم أمير المؤمنين ذلك ليأتيني
رأيه وأمره أنزل عنده إن شاء الله، والسلام عليك ورحمة الله
(6/170)
فكتب إليه:
أما بعد، فقد قدم رسولك في كتابك، تعلمني فيه بعثتك أخاك على قتال
الخوارج، وبهزيمة من هزم، وقتل من قتل، وسألت رسولك عن مكان المهلب،
فحدثني أنه عامل لك على الأهواز، فقبح الله رأيك حين تبعث أخاك أعرابيا
من أهل مكة على القتال، وتدع المهلب إلى جنبك يجبي الخراج، وهو الميمون
النقيبة، الحسن السياسة، البصير بالحرب، المقاسي لها، ابنها وابن
أبنائها! انظر ان تنهض بالناس حتى تستقبلهم بالأهواز ومن وراء الأهواز
وقد بعثت إلى بشر أن يمدك بجيش من أهل الكوفة، فإذا أنت لقيت عدوك فلا
تعمل فيهم برأي حتى تحضره المهلب، وتستشيره فيه إن شاء الله والسلام
عليك ورحمة الله فشق عليه انه فيل رأيه في بعثة أخيه وترك المهلب، وفي
أنه لم يرض رأيه خالصا حتى قال: أحضره المهلب واستشره فيه وكتب عبد
الملك إلى بشر بن مروان: أما بعد، فإني قد كتبت إلى خالد بن عبد الله.
آمره بالنهوض إلى الخوارج، فسرح إليه خمسة آلاف رجل، وابعث عليهم رجلا
من قبلك ترضاه، فإذا قضوا غزاتهم تلك صرفتهم إلى الري فقاتلوا عدوهم،
وكانوا في مسالحهم، وجبوا فيئهم حتى تأتي أيام عقبهم فتعقبهم وتبعث
آخرين مكانهم.
فقطع على أهل الكوفة خمسة آلاف، وبعث عليهم عبد الرحمن بن مُحَمَّد بن
الأشعث، وقال: إذا قضيت غزاتك هذه فانصرف إلى الري.
وكتب له عليها عهدا وخرج خالد بأهل البصرة حتى قدم الأهواز، وجاء عبد
الرحمن بن مُحَمَّد ببعث أهل الكوفة حتى وافاهم بالأهواز،
(6/171)
وجاءت الأزارقة حتى دنوا من مدينة الأهواز
ومن معسكر القوم، وقال المهلب لخالد بن عبد الله: انى ارى هاهنا سفنا
كثيره، فضمها إليك، فو الله ما أظن القوم إلا محرقيها فما لبث إلا ساعة
حتى ارتفعت خيل من خيلهم إليها فحرقتها وبعث خالد بن عبد الله على
ميمنته المهلب، وعلى ميسرته داود بن قحذم من بني قيس بن ثعلبة، ومر
المهلب على عبد الرحمن بن مُحَمَّد ولم يخندق، فقال: يا بن أخي، ما
يمنعك من الخندق! فقال: والله لهم أهون علي من ضرطة الجمل، قال: فلا
يهونوا عليك يا بن أخي، فإنهم سباع العرب، لا أبرح أو تضرب عليك خندقا،
ففعل وبلغ الخوارج قول عبد الرحمن بن مُحَمَّد لهم: أهون علي من ضرطة
الجمل، فقال شاعرهم:
يا طالب الحق لا تستهو بالأمل ... فإن من دون ما تهوى مدى الأجل
واعمل لربك واسأله مثوبته ... فإن تقواه فاعلم أفضل العمل
واغز المخانيث في الماذي معلمة ... كيما تصبّح غدوا ضرطة الجمل
فأقاموا نحوا من عشرين ليلة ثم إن خالدا زحف إليهم بالناس، فرأوا أمرا
هالهم من عدد الناس وعدتهم، فأخذوا ينحازون، واجترأ عليهم الناس، فكرت
عليهم الخيل، وزحف إليهم فانصرفوا كأنهم على حامية وهم مولون لا يرون
لهم طاقة بقتال جماعة الناس، واتبعهم خالد بن عبد الله داود بن قحذم في
جيش من أهل البصرة، وانصرف خالد إلى البصرة، وانصرف عبد الرحمن بن
مُحَمَّد إلى الري وأقام المهلب بالأهواز، فكتب خالد بن عبد الله إلى
عبد الملك: أما بعد، فإني أخبر أمير المؤمنين أصلحه الله أني خرجت إلى
الأزارقة الذين مرقوا من الدين، وخرجوا من ولاية المسلمين، فالتقينا
بمدينة الأهواز
(6/172)
فتناهضنا فاقتتلنا كأشد قتال كان في الناس
ثم إن الله أنزل نصره على المؤمنين والمسلمين، وضرب الله وجوه أعدائه،
فأتبعهم المسلمون يقتلونهم، ولا يمنعون ولا يمتنعون، وأفاء الله ما في
عسكرهم على المسلمين، ثم أتبعتهم داود بن قحذم، والله ان شاء مهلكهم
ومستأصلهم، والسلام عليك.
فلما قدم هذا الكتاب على عبد الملك كتب عبد الملك الى بشر ابن مروان:
أما بعد، فابعث من قبلك رجلا شجاعا بصيرا بالحرب في أربعة آلاف فارس،
فليسيروا إلى فارس في طلب المارقة، فإن خالدا كتب إلي يخبرني أنه قد
بعث في طلبهم داود بن قحذم، فمر صاحبك الذى تبعث الا يخالف داود بن
قحذم إذا ما التقيا، فإن اختلاف القوم بينهم عون لعدوهم عليهم والسلام
عليك.
فبعث بشر بن مروان عتاب بن ورقاء في أربعة آلاف فارس من أهل الكوفة،
فخرجوا حتى التقوا هم وداود بن قحذم بأرض فارس، ثم اتبعوا القوم
يطلبونهم حتى نفقت خيول عامتهم، وأصابهم الجهد والجوع، ورجع عامة ذينك
الجيشين مشاة إلى الأهواز، فقال ابن قيس الرقيات- من بني مخزوم- في
هزيمة عبد العزيز وفراره عن امرأته:
عبد العزيز فضحت جيشك كلهم ... وتركتهم صرعى بكل سبيل
من بين ذي عطش يجود بنفسه ... وملحب بين الرجال قتيل
هلا صبرت مع الشهيد مقاتلا ... إذ رحت منتكث القوى بأصيل
وتركت جيشك لا أمير عليهمُ ... فارجع بعار في الحياه طويل
نسيت عرسك إذ تقاد سبية ... تبكي العيون برنة وعويل
(6/173)
خروج ابى فديك
الخارجي وغلبته على البحرين
وفي هذه السنة كان خروج أبي فديك الخارجي، وهو من بنى قيس ابن ثعلبة،
فغلب على البحرين، وقتل نجدة بن عامر الحنفي، فاجتمع على خالد بن عبد
الله نزول قطري الأهواز وأمر أبي فديك، فبعث أخاه أمية بن عبد الله على
جند كثيف إلى أبي فديك، فهزمه أبو فديك، وأخذ جارية له فاتخذها لنفسه،
وسار أمية على فرس له حتى دخل البصرة في ثلاثة أيام، فكتب خالد إلى عبد
الملك بحاله وحال الازارقه
. خبر توجيه عبد الملك الحجاج لقتال ابن
الزبير
وفي هذه السنة وجه عبد الملك الحجاج بن يوسف إلى مكة لقتال عبد الله
ابن الزبير، وكان السبب في توجيهه الحجاج إليه دون غيره- فيما ذكر- أن
عبد الملك لما أراد الرجوع إلى الشام، قام إليه الحجاج بن يوسف فقال.
يا أمير المؤمنين، إني رأيت في منامي أني أخذت عبد الله بن الزبير
فسلخته، فابعثني إليه، وولني قتاله فبعثه في جيش كثيف من أهل الشام،
فسار حتى قدم مكة، وقد كتب إليهم عبد الملك بالأمان إن دخلوا في طاعته.
فحدثني الحارث، قال: حدثني مُحَمَّد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر،
قال: حدثنا مصعب بن ثابت، عن أبي الأسود، عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، قال: بعث عبد الملك بن مروان حين قتل مصعب
ابن الزبير الحجاج بن يوسف إلى ابن الزبير بمكة، فخرج في ألفين من جند
أهل الشام في جمادى من سنة اثنتين وسبعين، فلم يعرض للمدينة، وسلك طريق
العراق، فنزل بالطائف، فكان يبعث البعوث إلى عرفة في الخيل، ويبعث ابن
الزبير بعثا فيقتتلون هنالك، فكل ذلك تهزم خيل ابن الزبير وترجع خيل
الحجاج بالظفر ثم كتب الحجاج إلى عبد الملك يستأذنه في حصار ابن الزبير
ودخول الحرم عليه، ويخبره أن
(6/174)
شوكته قد كلت، وتفرق عنه عامة أصحابه،
ويسأله أن يمده برجال، فجاءه كتاب عبد الملك، وكتب عبد الملك إلى طارق
بن عمرو يأمره أن يلحق بمن معه من الجند بالحجاج، فسار في خمسة آلاف من
أصحابه حتى لحق بالحجاج وكان قدوم الحجاج الطائف في شعبان سنة اثنتين
وسبعين فلما دخل ذو القعدة رحل الحجاج من الطائف حتى نزل بئر ميمون
وحصر ابن الزبير.
وحج الحجاج بالناس في هذه السنة، وابن الزبير محصور، وكان قدوم طارق
مكة لهلال ذي الحجة، ولم يطف بالبيت، ولم يصل إليه وهو محرم، وكان يلبس
السلاح، ولا يقرب النساء ولا الطيب إلى أن قتل عبد الله بن الزبير ونحر
ابن الزبير بدنا بمكة يوم النحر، ولم يحج ذلك العام ولا أصحابه لأنهم
لم يقفوا بعرفة.
قال محمد بن عمر: حدثني سعيد بن مسلم بن بابك، عن أبيه، قال: حججت في
سنة اثنتين وسبعين فقدمنا مكة، فدخلناها من أعلاها، فنجد أصحاب الحجاج
وطارق فيما بين الحجون إلى بئر ميمون، فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة،
ثم حج بالناس الحجاج، فرأيته واقفا بالهضبات من عرفة على فرس، وعليه
الدرع والمغفر، ثم صدر فرأيته عدل إلى بئر ميمون، ولم يطف بالبيت
وأصحابه متسلحون، ورأيت الطعام عندهم كثيرا، ورأيت العير تأتي من الشام
تحمل الطعام، الكعك والسويق والدقيق، فرأيت أصحابه مخاصيب، ولقد ابتعنا
من بعضهم كعكا بدرهم، فكفانا إلى أن بلغنا الجحفة وإنا لثلاثة نفر.
قال مُحَمَّد بن عمر: حدثني مصعب بن ثابت، عن نافع مولى بني أسد، قال-
وكان عالما بفتنة ابن الزبير- قال: حصر ابن الزبير ليلة هلال ذي القعدة
سنة اثنتين وسبعين
(6/175)
|