تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ الطبري

ثم دخلت

سنة ثمان وسبعين
(ذكر الخبر عن الكائن في هذه السنة من الأحداث الجليلة) فمن ذلك عزل عبد الملك بن مروان أمية بن عبد الله عن خراسان وضمه خراسان وسجستان إلى الحجاج بن يوسف فلما ضم ذلك إليه فرق فيه عماله.

ذكر الخبر عن العمال الذين ولاهم الحجاج خراسان وسجستان
وذكر السبب في توليته من ولاه ذلك وشيئا منه ذكر أن الحجاج لما فرغ من شبيب ومطرف شخص من الكوفة إلى البصرة، واستخلف على الكوفة المغيرة بن عبد الله بن أبي عقيل- وقد قيل: إنه استخلف عبد الرحمن بن عبد الله بن عامر الحضرمي، ثم عزله، وجعل مكانه المغيرة بن عبد الله- فقدم عليه المهلب بها، وقد فرغ من امر الأزارقة.
فقال هشام: حدثني أبو مخنف عن أبي المخارق الراسبي، أن المهلب بن أبي صفرة لما فرغ من الأزارقة قدم على الحجاج- وذلك سنه ثمان وسبعين- فاجلسه معه، ودعا باصحاب البلاء من اصحاب المهلب، فأخذ الحجاج لا يذكر له المهلب رجلا من أصحابه ببلاء حسن إلا صدقه الحجاج بذلك، فحملهم الحجاج وأحسن عطاياهم، وزاد في أعطياتهم، ثم قال: هؤلاء أصحاب الفعال، وأحق بالأموال، هؤلاء حماة الثغور، وغيظ الأعداء.
قال هشام عن أبي مخنف: قال يونس بن ابى إسحاق: وقد كان الحجاج ولى المهلب سجستان مع خراسان، فقال له المهلب: ألا أدلك على رجل هو أعلم بسجستان مني، وقد كان ولي كابل وزابل، وجباهم

(6/319)


وقاتلهم وصالحهم؟ قال له: بلى، فمن هو؟ قال عبيد الله بن أبي بكرة.
ثم إنه بعث المهلب على خراسان وعبيد الله بن أبي بكرة على سجستان، وكان العامل هنالك أمية بن عبد الله بن خالد بْنَ أُسَيْدِ بْنِ أَبِي الْعِيصِ بْنِ أُمَيَّةَ، وكان عاملا لعبد الملك بن مروان، لم يكن للحجاج شيء من أمره حين بعث على العراق حتى كانت تلك السنة، فعزله عبد الملك وجمع سلطانه للحجاج، فمضى المهلب إلى خراسان، وعبيد الله بن أبي بكرة إلى سجستان، فمكث عبيد الله بن أبي بكرة بقية سنته.
فهذه رواية أبي مخنف عن أبي المخارق، وأما علي بن مُحَمَّد فإنه ذكر عن المفضل بن مُحَمَّد أن خراسان وسجستان جمعتا للحجاج مع العراق في أول سنة ثمان وسبعين بعد ما قتل الخوارج، فاستعمل عبيد الله بن أبي بكرة على خراسان، والمهلب بن أبي صفرة على سجستان، فكره المهلب سجستان، فلقي عبد الرحمن بن عبيد بن طارق العبشمي- وكان على شرطة الحجاج- فقال: إن الأمير ولاني سجستان، وولى ابن أبي بكرة خراسان، وأنا أعرف بخراسان منه، قد عرفتها أيام الحكم بن عمرو الغفاري، وابن أبي بكرة أقوى على سجستان مني، فكلم الأمير يحولني إلى خراسان، وابن أبي بكرة إلى سجستان، قال: نعم، وكلم زاذان فروخ يعينني، فكلمه، فقال: نعم، فقال عبد الرحمن بن عبيد للحجاج: وليت المهلب سجستان وابن أبي بكرة أقوى عليها منه، فقال زاذان فروخ: صدق، قال: إنا قد كتبنا عهده، قال زاذان فروخ: ما أهون تحويل عهده! فحول ابن أبي بكرة إلى سجستان، والمهلب إلى خراسان، وأخذ المهلب بألف ألف من خراج الأهواز، وكان ولاها إياه خالد بن عبد الله، فقال المهلب لابنه المغيرة: إن خالدا ولاني الأهواز، وولاك إصطخر، وقد أخذني الحجاج بألف ألف، فنصف علي ونصف عليك، ولم يكن عند المهلب مال، كان إذا عزل استقرض، قال: فكلم أبا ماوية مولى عبد الله بن عامر- وكان أبو ماوية على بيت مال عبد الله بن عامر- فأسلف المهلب ثلاثمائة الف،

(6/320)


فقالت خيرة القشيرية امرأة المهلب: هذا لا يفي بما عليك، فباعت حليا لها ومتاعا، فأكمل خمسمائة الف، وحمل المغيره الى ابيه خمسمائة ألف فحملها إلى الحجاج، ووجه المهلب ابنه حبيبا على مقدمته، فأتى الحجاج فودعه، فأمر الحجاج له بعشرة آلاف وبغلة خضراء، قال:
فسار حبيب على تلك البغلة حتى قدم خراسان هو وأصحابه على البريد، فسار عشرين يوما، فتلقاهم حين دخلوا حمل حطب، فنفرت البغلة فتعجبوا منها ومن نفارها بعد ذلك التعب وشدة السير فلم يعرض لأمية ولا لعماله، وأقام عشرة أشهر حتى قدم عليه المهلب سنة تسع وسبعين.
وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة الْوَلِيد بن عبد الملك، حدثني بذلك احمد ابن ثَابِت عمن ذكره، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى، عن أبي معشر.
وكان أمير المدينة في هذه السنة أبان بن عثمان، وأمير الكوفة والبصرة وخراسان وسجستان وكرمان الحجاج بن يوسف، وخليفته بخراسان المهلب، وبسجستان عبيد الله ابن أبي بكرة، وعلى قضاء الْكُوفَة شريح، وعلى قضاء الْبَصْرَة- فيما قيل- موسى بن أنس.
وأغزى عبد الملك في هذه السنة يحيى بن الحكم.

(6/321)


ثم دخلت

سنة تسع وسبعين
(ذكر ما كَانَ فِيهَا من الأحداث الجليلة) فمن ذَلِكَ ما أصاب أهل الشام في هذه السنة من الطاعون حتى كادوا يفنون من شدته، فلم يغز في تلك السنة أحد- فيما قيل- للطاعون الذي كان بها، وكثرة الموت.
وفيها- فيما قيل-: أصابت الروم أهل أنطاكية.

ذكر الخبر عن غزو عبيد الله بن ابى بكره رتبيل
وفيها غزا عبيد الله بن أبي بكرة رتبيل.
ذكر الخبر عن غزوته إياه:
قال هشام: حدثني أبو مخنف، عن أبي المخارق الراسبي، قال:
لما ولى الحجاج المهلب خراسان، وعبيد الله بن أبي بكرة سجستان، مضى المهلب إلى خراسان وعبيد الله بن أبي بكرة إلى سجستان، وذلك في سنة ثمان وسبعين، فمكث عبيد الله بن أبي بكرة بقية سنته ثم إنه غزا رتبيل وقد كان مصالحا، وقد كانت العرب قبل ذلك تأخذ منه خراجا، وربما امتنع فلم يفعل، فبعث الحجاج إلى عبيد الله بن أبي بكرة أن ناجزه بمن معك من المسلمين فلا ترجع حتى تستبيح أرضه، وتهدم قلاعه، وتقتل مقاتلته، وتسبي ذريته فخرج بمن معه من المسلمين من أهل الكوفة وأهل البصرة، وكان على أهل الكوفة شريح بن هانئ الحارثي ثم الضبابي، وكان من أصحاب علي، وكان عبيد الله على أهل البصرة، وهو أمير الجماعة، فمضى حتى وغل في بلاد رتبيل، فأصاب من البقر والغنم والأموال ما شاء وهدم قلاعا وحصونا، وغلب على أرض من أرضهم كثيرة، وأصحاب رتبيل من الترك يخلون لهم عن أرض بعد أرض، حتى أمعنوا في بلادهم

(6/322)


ودنوا من مدينتهم، وكانوا منها ثمانية عشر فرسخا، فأخذوا على المسلمين العقاب والشعاب، وخلوهم والرساتيق، فسقط في أيدي المسلمين، وظنوا أن قد هلكوا، فبعث ابن أبي بكرة إلى شريح بن هانئ: أني مصالح القوم على أن أعطيهم مالا، ويخلوا بيني وبين الخروج، فأرسل اليهم فصالحهم على سبعمائة ألف درهم، فلقيه شريح فقال: إنك لا تصالح على شيء إلا حسبه السلطان عليكم في أعطياتكم، قال: لو منعنا العطاء ما حيينا كان أهون علينا من هلاكنا، قال شريح: والله لقد بلغت سنا، وقد هلكت لداتي، ما تأتي علي ساعة من ليل أو نهار فأظنها تمضي حتى أموت، ولقد كنت أطلب الشهادة منذ زمان، ولئن فاتتني اليوم ما أخالني مدركها حتى أموت، وقال: يا أهل الإسلام، تعاونوا على عدوكم، فقال له ابن أبي بكرة: إنك شيخ قد خرفت، فقال شريح: إنما حسبك أن يقال: بستان ابن أبي بكرة وحمام ابن أبي بكرة، يا أهل الإسلام، من أراد منكم الشهادة فإلي فاتبعه ناس من المتطوعة غير كثير، وفرسان الناس وأهل الحفاظ، فقاتلوا حتى أصيبوا إلا قليلا، فجعل شريح يرتجز يومئذ ويقول:
أصبحت ذا بث أقاسي الكبرا قد عشت بين المشركين أعصرا ثمت أدركت النبي المنذرا وبعده صديقه وعمرا ويوم مهران ويوم تسترا والجمع في صفينهم والنهرا وباجميرات مع المشقرا هيهات ما أطول هذا عمرا فقاتل حتى قتل في ناس من أصحابه، ونجا من نجا، فخرجوا من بلاد رتبيل حتى خرجوا منها، فاستقبلهم من خرجوا إليهم من المسلمين بالأطعمة، فإذا أكل أحدهم وشبع مات، فلما رأى ذلك الناس حذروا يطعمونهم، ثم جعلوا يطعمونهم السمن قليلا قليلا، حتى استمرءوا وبلغ ذلك الحجاج، فأخذه ما تقدم وما تأخر، وبلغ ذلك منه كل مبلغ، وكتب إلى عبد الملك:
أما بعد، فإن جند أمير المؤمنين الذين بسجستان أصيبوا فلم

(6/323)


ينج منهم إلا القليل، وقد اجترأ العدو بالذي أصابه على أهل الإسلام فدخلوا بلادهم، وغلبوا على حصونهم وقصورهم، وقد أردت أن أوجه إليهم جندا كثيفا من أهل المصرين، فأحببت أن أستطلع رأي أمير المؤمنين في ذلك، فإن رأى لي بعثة ذلك الجند أمضيته، وإن لم ير ذلك فإن أمير المؤمنين أولى بجنده، مع أني أتخوف إن لم يأت رتبيل ومن معه من المشركين جند كثيف عاجلا أن يستولوا على ذلك الفرج كله.
وفي هذه السنة قدم المهلب خراسان أميرا، وانصرف عنها أمية بن عبد الله، وقيل استعفى شريح القاضي من القضاء في هذه السنة، وأشار بأبي بردة بن أبي موسى الأشعري، فأعفاه الحجاج وولى أبا بردة.
وحج بالناس في هذه السنة- فيما حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْن ثَابِت عمن ذكره، عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي معشر- أبان بن عثمان، وكذلك قال الواقدي وغيره من أهل السير.
وكان أبان هذه السنة أميرا على المدينة من قبل عبد الملك بن مروان وعلى العراق والمشرق كله الحجاج بن يوسف.
وكان على خراسان المهلب من قبل الحجاج.
وقيل: إن المهلب كان على حربها، وابنه المغيرة على خراجها، وعلى قضاء الكوفة أبو بردة بن أبي موسى، وعلى قضاء البصرة موسى بن انس.

(6/324)


ثم دخلت

سنة ثمانين
(ذكر الأحداث الجليلة التي كانت في هذه السنة) وفي هذه السنة جاء- فيما حدثت عَنِ ابْنِ سَعْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ الواقدي- سيل بمكة ذهب بالحجاج، فغرقت بيوت مكة فسمي ذلك العام عام الجحاف، لأن ذلك السيل جحف كل شيء مر به.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رفاعة بن ثعلبة، عن أبيه، عن جده، قال: جاء السيل حتى ذهب بالحجاج ببطن مكة، فسمي لذلك عام الجحاف، ولقد رأيت الإبل عليها الحمولة والرجال والنساء تمر بهم ما لأحد فيهم حيلة، وإني لأنظر إلى الماء قد بلغ الركن وجاوزه.
وفي هذه السنة كان بالبصرة طاعون الجارف، فيما زعم الواقدى.

ذكر خبر غزو المهلب ما وراء النهر
وفي هذه السنة قطع المهلب نهر بلخ فنزل على كس، فذكر علي بن مُحَمَّد، عن المفضل بن مُحَمَّد وغيره أنه كان على مقدمة المهلب حين نزل على كس أبو الأدهم زياد بن عمرو الزماني في ثلاثة آلاف وهم خمسة آلاف إلا أن أبا الأدهم كان يغني غناء ألفين في البأس والتدبير والنصيحة قال: فأتى المهلب وهو نازل على كس ابن عم ملك الختل، فدعاه إلى غزو الختل، فوجه معه ابنه يزيد، فنزل في عسكره، ونزل ابن عم الملك- وكان الملك يومئذ اسمه السبل- في عسكره على ناحية، فبيت السبل ابن عمه، فكبر في عسكره، فظن ابن عم السبل أن العرب قد غدروا به، وأنهم خافوه.
على الغدر حين اعتزل عسكرهم، فأسره السبل، فأتى به قلعته فقتله قال:
فأطاف يزيد بن المهلب بقلعة السبل، فصالحوه على فدية حملوها إليه، ورجع إلى المهلب فأرسلت أم الذي قتله السبل إلى أم السبل: كيف ترجين

(6/325)


بقاء السبل بعد قتل ابن عمه، وله سبعه اخوه قد وترهم! وأتت أم واحد فأرسلت إليها: أن الأسد تقل أولادها.
والخنازير كثير أولادها ووجه المهلب ابنه حبيبا إلى ربنجن فوافى صاحب بخارى في أربعين ألفا، فدعا رجل من المشركين إلى المبارزة، فبرز له جبلة غلام حبيب، فقتل المشرك، وحمل على جمعهم، فقتل منهم ثلاثة نفر، ثم رجع ورجع العسكر، ورجع العدو إلى بلادهم، ونزلت جماعة من العدو قرية، فسار إليهم حبيب في أربعة آلاف، فقاتلهم فظفر بهم، فأحرقها، ورجع إلى أبيه فسميت المحترقة ويقال إن الذي أحرقها جبلة غلام حبيب.
قال: فمكث المهلب سنتين مقيما بكس، فقيل له: لو تقدمت إلى السغد وما وراء ذلك! قال: ليت حظي من هذه الغزوة سلامة هذه الجند، حتى يرجعوا إلى مرو سالمين.
قال: وخرج رجل من العدو يوما، فسأله البراز، فبرز إليه هريم بن عدي، أبو خالد بن هريم وعليه عمامة قد شدها فوق البيضة، فانتهى إلى جدول، فجاوله المشرك ساعة فقتله هريم وأخذ سلبه، فلامه المهلب، وقال: لو أصبت ثم أمددت بألف فارس ما عدلوك عندي، واتهم المهلب وهو بكس قوما من مضر فحبسهم بها، فلما قفل وصار صلح خلاهم، فكتب إليه الحجاج: إن كنت أصبت بحبسهم فقد أخطأت في تخليتهم، وإن كنت أصبت بتخليتهم فقد ظلمتهم إذ حبستهم فقال المهلب:
خفتهم فحبستهم، فلما أمنت خليتهم.
وكان فيمن حبس عبد الملك بن أبي شيخ القشيري ثم صالح المهلب أهل كس على فدية، فأقام ليقبضها، وأتاه كتاب ابن الأشعث بخلع الحجاج ويدعوه إلى مساعدته على خلعه، فبعث بكتاب ابن الأشعث إلى الحجاج