تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ
الطبري
هزيمه ابن الاشعث
واصحابه في وقعه مسكن
وفي هذه السنة كانت الوقعة بمسكن بين الحجاج وابن الأشعث بعد ما انهزم
من دير الجماجم.
ذكر الخبر عن سبب هذه الوقعة وعن صفتها:
قال هشام: حدثني أبو مخنف، عن أبي يزيد السكسكي، قال:
خرج مُحَمَّد بن سعد بن أبي وقاص بعد وقعة الجماجم حتى نزل المدائن،
واجتمع إليه ناس كثير، وخرج عبيد الله بن عبد الرَّحْمَنِ بْنَ
سَمُرَةَ بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ شمس القرشي حتى أتى البصرة وبها
أيوب بن الحكم بن أبي عقيل، ابن عم الحجاج، فأخذها، وخرج عبد الرحمن بن
مُحَمَّد حتى قدم البصرة وهو بها، فاجتمع الناس إلى عبد الرحمن ونزل،
فأقبل عبيد الله حينئذ إلى ابن مُحَمَّد بن الأشعث، وقال له: إني لم
أرد فراقك، وإنما أخذتها لك وخرج الحجاج فبدأ بالمدائن، فأقام عليها
خمسا حتى هيأ الرجال في المعابر، فلما بلغ مُحَمَّد بن سعد عبورهم
إليهم خرجوا حتى لحقوا بابن الأشعث جميعا وأقبل نحوهم الحجاج، فخرج
الناس معه إلى مسكن على دجيل، وأتاه أهل الكوفة والفلول من الأطراف،
وتلاوم الناس على الفرار، وبايع أكثرهم بسطام بن مصقلة على الموت،
وخندق عبد الرحمن على أصحابه، وبثق الماء من جانب، فجعل القتال من وجه
واحد، وقدم عليه خالد بن جرير بن عبد الله القسري من خراسان في ناس من
بعث الكوفة، فاقتتلوا خمس عشرة ليلة من شعبان أشد القتال حتى قتل زياد
بن غنيم القيني، وكان على مسالح الحجاج، فهده ذلك وأصحابه هدا شديدا.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي أَبُو جهضم الأَزْدِيّ، قال: بات الحجاج
ليله كله يسير فينا يقول لنا: إنكم أهل الطاعة، وهم أهل المعصية، وأنتم
تسعون في رضوان الله، وهم يسعون في سخط الله، وعادة الله عندكم فيهم
(6/366)
حسنة، ما صدقتموهم في موطن قط ولا صبرتم
لهم إلا أعقبكم الله النصر عليهم والظفر بهم، فأصبحوا اليهم عادين
جادين، فانى لست أشك في النصر إن شاء الله قال: فأصبحنا، وقد عبأنا في
السحر، فباكرناهم فقاتلناهم أشد قتال قاتلنا هموه قط، وقد جاءنا عبد
الملك بن المهلب مجففا، وقد كشفت خيل سفيان بن الأبرد، فقال له الحجاج:
ضم إليك يا عبد الملك هذا النشر لعلي أحمل عليهم، ففعل، وحمل الناس من
كل جانب، فانهزم أهل العراق أيضا، وقتل أبو البختري الطائي وعبد الرحمن
بن أبي ليلى، وقالا قبل ان يقتلا: إن الفرار كل ساعة بنا لقبيح فأصيبا
قال: ومشى بسطام بن مصقلة الشيباني في أربعة آلاف من أهل الحفاظ من أهل
المصرين، فكسروا جفون السيوف، وقال لهم ابن مصقلة:
لو كنا إذا فررنا بأنفسنا من الموت نجونا منه فررنا، ولكنا قد علمنا
أنه نازل بنا عما قليل، فأين المحيد عما لا بد منه! يا قوم إنكم محقون،
فقاتلوا على الحق، والله لو لم تكونوا على الحق لكان موت في عز خيرا من
حياة في ذل فقاتل هو وأصحابه قتالا شديدا كشفوا فيه أهل الشام مرارا،
حتى قال الحجاج: علي بالرماة لا يقاتلهم غيرهم، فلما جاءتهم الرماة،
وأحاط بهم الناس من كل جانب قتلوا إلا قليلا، وأخذ بكير بن ربيعة بن
ثروان الضبي أسيرا، فأتي به الحجاج فقتله قال أبو مخنف: فحدثني أبو
الجهضم، قال: جئت بأسير كان الحجاج يعرفه بالبأس، فقال الحجاج: يا أهل
الشام، إنه من صنع الله.
لكم إن هذا غلام من الغلمان جاء بفارس أهل العراق أسيرا، اضرب عنقه،
فقتله.
قال: ومضى ابن الأشعث والفل من المنهزمين معه نحو سجستان فأتبعهم
الحجاج عمارة بن تميم اللخمي ومعه ابنه مُحَمَّد بن الحجاج وعمارة أمير
(6/367)
على القوم، فسار عمارة بن تميم إلى عبد
الرحمن فأدركه بالسوس، فقاتله ساعة من نهار، ثم إنه انهزم هو وأصحابه
فمضوا حتى أتوا سابور، واجتمعت إلى عبد الرحمن بن مُحَمَّد الأكراد مع
من كان معه من الفلول، فقاتلهم عمارة بن تميم قتالا شديدا على العقبة
حتى جرح عمارة وكثير من أصحابه، ثم انهزم عمارة وأصحابه وخلوا لهم عن
العقبة، ومضى عبد الرحمن حتى مر بكرمان.
قال الواقدي: كانت وقعة الزاوية بالبصرة في المحرم سنة ثلاث وثمانين.
قال أبو مخنف: حدثني سيف بن بشر العجلي، عن المنخل بن حابس العبدي،
قال: لما دخل عبد الرحمن بن مُحَمَّد كرمان تلقاه عمرو بن لقيط العبدي-
وكان عامله عليها- فهيأ له نزلا فنزل، فقال له شيخ من عبد القيس يقال
له معقل: والله لقد بلغنا عنك يا بن الأشعث أن قد كنت جبانا، فقال عبد
الرحمن: والله ما جبنت، والله لقد دلفت الرجال بالرجال، ولففت الخيل
بالخيل، ولقد قاتلت فارسا، وقاتلت راجلا، وما انهزمت، ولا تركت العرصة
للقوم في موطن حتى لا أجد مقاتلا ولا أرى معي مقاتلا، ولكني زاولت ملكا
مؤجلا ثم إنه مضى بمن معه حتى فوز في مفازة كرمان قال أبو مخنف: فحدثني
هشام بن أيوب بن عبد الرحمن بن أبي عقيل الثقفي، قال: لما مضى ابن
مُحَمَّد في مفازة كرمان وأتبعه أهل الشام دخل بعض أهل الشام قصرا في
المفازة، فإذا فيه كتاب قد كتبه بعض أهل الكوفة من شعر أبي جلدة
اليشكري، وهي قصيدة طويلة:
أيا لهفا ويا حزنا جميعا ... ويا حر الفواد لما لقينا!
تركنا الدين والدنيا جميعا ... وأسلمنا الحلائل والبنينا
فما كنا أناسا أهل دين ... فنصبر في البلاء إذا ابتلينا
وما كنا أناسا أهل دنيا ... فنمنعها ولو لم نرج دينا
(6/368)
تركنا دورنا لطغام عك ... وأنباط القرى
والأشعرينا
ثم إن ابن مُحَمَّد مضى حتى خرج على زرنج مدينة سجستان، وفيها رجل من
بني تميم قد كان عبد الرحمن استعمله عليها، يقال له عبد الله بن عامر
البعار من بني مجاشع بن دارم، فلما قدم عليه عبد الرحمن بن مُحَمَّد
منهزما أغلق باب المدينة دونه، ومنعه دخولها، فأقام عليها عبد الرحمن
أياما رجاء افتتاحها ودخولها فلما رأى أنه لا يصل إليها خرج حتى أتى
بست، وقد كان استعمل عليها رَجُلا مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ يُقَالُ
لَهُ عياض بن هميان أبو هشام بن عياض السدوسي، فاستقبله، وقال له:
انزل، فجاء حتى نزل به، وانتظر حتى إذا غفل أصحاب عبد الرحمن وتفرقوا
عنه وثب عليه فأوثقه، وأراد أن يأمن بها عند الحجاج، ويتخذ بها عنده
مكانا وقد كان رتبيل سمع بمقدم عبد الرحمن عليه، فاستقبله في جنوده،
فجاء رتبيل حتى أحاط ببست، ثم نزل وبعث إلى البكري: والله لئن آذيته
بما يقذي عينه، أو ضررته ببعض المضرة، أو رزأته حبلا من شعر لا أبرح
العرصة حتى أستنزلك فأقتلك وجميع من معك، ثم أسبي ذراريكم، وأقسم بين
الجند أموالكم فأرسل إليه البكري أن أعطنا أمانا على أنفسنا وأموالنا،
ونحن ندفعه إليك سالما، وما كان له من مال موفرا فصالحهم على ذلك،
وآمنهم، ففتحوا لابن الأشعث الباب وخلوا سبيله، فأتى رتبيل فقال له: إن
هذا كان عاملي على هذه المدينة، وكنت حيث وليته واثقا به، مطمئنا إليه،
فغدر بي وركب مني ما قد رأيت، فأذن لي في قتله، قال:
قد آمنته وأكره أن أغدر به، قال: فأذن لي في دفعه ولهزه، والتصغير به،
قال: أما هذا فنعم ففعل به عبد الرحمن بن مُحَمَّد، ثم مضى حتى دخل مع
رتبيل بلاده، فأنزله رتبيل عنده وأكرمه وعظمه، وكان معه ناس من الفل
كثير.
ثم إن عظم الفلول وجماعة أصحاب عبد الرحمن ومن كان لا يرجو
(6/369)
الأمان، من الرءوس والقادة الذين نصبوا
للحجاج في كل موطن مع ابن الأشعث، ولم يقبلوا أمان الحجاج في أول مرة،
وجهدوا عليه الجهد كله، أقبلوا في أثر ابن الأشعث وفي طلبه حتى سقطوا
بسجستان، فكان بها منهم وممن تبعهم من أهل سجستان وأهل البلد نحو من
ستين ألفا، ونزلوا على عبد الله بن عامر البعار فحصروه، وكتبوا إلى عبد
الرحمن يخبرونه بقدومهم وعددهم وجماعتهم، وهو عند رتبيل وكان يصلي بهم
عبد الرحمن بن العباس بْن رَبِيعَة بْن الْحَارِث بْن عبد المطلب،
فكتبوا إليه: أن أقبل إلينا لعلنا نسير إلى خراسان، فإن بها منا جندا
عظيما، فلعلهم يبايعوننا على قتال أهل الشام، وهي بلاد واسعة عريضة،
وبها الرجال والحصون فخرج إليهم عبد الرحمن بن مُحَمَّد بمن معه،
فحصروا عبد الله بن عامر البعار حتى استنزلوه، فأمر به عبد الرحمن فضرب
وعذب وحبس وأقبل نحوهم عمارة بن تميم في أهل الشام، فقال أصحاب عبد
الرحمن بن مُحَمَّد لعبد الرحمن: اخرج بنا عن سجستان فلندعها له ونأتي
خراسان، فقال عبد الرحمن بن مُحَمَّد:
على خراسان يزيد بن المهلب، وهو شاب شجاع صارم، وليس بتارك لكم سلطانه،
ولو دخلتموها وجدتموه إليكم سريعا، ولن يدع أهل الشام اتباعكم، فأكره
أن يجتمع عليكم أهل خراسان واهل الشام، واخاف الا تنالوا ما تطلبون،
فقالوا: إنما أهل خراسان منا، ونحن نرجو أن لو قد دخلناها أن يكون من
يتبعنا منهم أكثر ممن يقاتلنا، وهي أرض طويلة عريضة ننتحي فيها حيث
شئنا، ونمكث حتى يهلك الله الحجاج أو عبد الملك، أو نرى من رأينا فقال
لهم عبد الرحمن: سيروا على اسم الله.
فساروا حتى بلغوا هراة، فلم يشعروا بشيء حتى خرج من عسكره عبيد الله بن
عبد الرحمن بن سمرة القرشي في ألفين، ففارقه، فأخذ طريقا سوى طريقهم،
فلما أصبح ابن مُحَمَّد قام فيهم فحمد اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ،
ثُمَّ قَالَ:
أَمَّا بَعْدُ، فإني قد شهدتكم في هذه المواطن، وليس فيها مشهد
(6/370)
إلا أصبر لكم فيه نفسي حتى لا يبقى منكم
فيه أحد، فلما رأيت أنكم لا تقاتلون، ولا تصبرون، أتيت ملجأ ومأمنا
فكنت فيه، فجاءتني كتبكم بأن أقبل إلينا، فإنا قد اجتمعنا وأمرنا واحد،
لعلنا نقاتل عدونا، فأتيتكم فرأيت أن أمضي إلى خراسان وزعمتم انكم
مجتمعون على، وأنكم لن تفرقوا عني ثم هذا عبيد الله بن عبد الرحمن قد
صنع ما قد رأيتم، فحسبي منكم يومي هذا فاصنعوا ما بدا لكم، أما أنا
فمنصرف إلى صاحبي الذي أتيتكم من قبله، فمن أحب منكم أن يتبعني
فليتبعني، ومن كره ذلك فليذهب حيث أحب في عياذ من الله.
فتفرقت منهم طائفة، ونزلت معه طائفة، وبقي عظم العسكر، فوثبوا إلى عبد
الرحمن بن العباس لما انصرف عبد الرحمن، فبايعوه ثم مضى ابن مُحَمَّد
إلى رتبيل ومضوا هم إلى خراسان حتى انتهوا إلى هراة، فلقوا بها الرقاد
الأزدي من العتيك، فقتلوه، وسار إليهم يزيد بن المهلب.
وأما علي بن مُحَمَّد المدائني فإنه ذكر عن المفضل بن مُحَمَّد أن ابن
الأشعث لما انهزم من مسكن مضى إلى كابل، وأن عبيد الله بن عبد الرحمن
بن سمرة أتى هراة، فذم ابن الأشعث وعابه بفراره، وأتى عبد الرحمن بن
عباس سجستان فانضم إليه فل ابن الأشعث، فسار إلى خراسان في جمع يقال
عشرين ألفا، فنزل هراة ولقوا الرقاد بن عبيد العتكي فقتلوه، وكان مع
عبد الرحمن من عبد القيس عبد الرحمن بن المنذر بن الجارود، فأرسل إليه
يزيد بن المهلب: قد كان لك في البلاد متسع، ومن هو أكل مني حدا وأهون
شوكة، فارتحل الى بلد ليس فيه سلطان، فإني أكره قتالك، وإن أحببت أن
أمدك بمال لسفرك أعنتك به، فأرسل إليه: ما نزلنا هذه البلاد لمحاربة
ولا لمقام، ولكنا أردنا أن نريح، ثم نشخص إن شاء الله، وليست بنا حاجة
إلى ما عرضت فانصرف رسول يزيد إليه، وأقبل الهاشمي على الجباية، وبلغ
يزيد، فقال: من أراد أن يريح ثم يجتاز لم يجب الخراج، فقدم المفضل في
أربعة آلاف- ويقال في ستة آلاف-
(6/371)
ثم أتبعه في أربعة آلاف، ووزن يزيد نفسه
بسلاحه، فكان أربعمائة رطل، فقال: ما أراني إلا قد ثقلت عن الحرب، أي
فرس يحملني! ثم دعا بفرسه الكامل فركبه، واستخلف على مرو خاله جديع بن
يزيد، وصير طريقه على مرو الروذ، فأتى قبر أبيه فأقام عنده ثلاثة أيام،
وأعطى من معه مائة درهم مائة درهم، ثم أتى هراة فأرسل إلى الهاشمي: قد
أرحت وأسمنت وجبيت، فلك ما جبيت، وان اردت زياده زدناك، فاخرج فو الله
ما أحب أن أقاتلك قال: فأبى إلا القتال ومعه عبيد الله بن عبد الرحمن
بن سمرة، ودس الهاشمي إلى جند يزيد يمنيهم ويدعوهم إلى نفسه، فأخبر
بعضهم يزيد، فقال: جل الأمر عن العتاب، أتغدى بهذا قبل أن يتعشى بي،
فسار إليه حتى تدانى العسكران، وتأهبوا للقتال، وألقي ليزيد كرسي فقعد
عليه، وولى الحرب أخاه المفضل، فأقبل رجل من أصحاب الهاشمي- يقال له
خليد عينين من عبد القيس- على ظهر فرسه، فرفع صوته فقال:
دعت يا يزيد بن المهلب دعوة ... لها جزع ثم استهلت عيونها
ولو يسمع الداعي النداء أجابها ... بِصُم القنا والبيض تلقى جفونها
وقد فر أشراف العراق وغادروا ... بها بقرا للحين جما قرونها
وأراد أن يحض يزيد، فسكت يزيد طويلا حتى ظن الناس أن الشعر قد حركه، ثم
قال لرجل: ناد وأسمعهم، جشموهم ذلك، فقال خليد:
لبئس المنادي والمنوه باسمه ... تناديه أبكار العراق وعونها
يزيد إذا يدعى ليوم حفيظة ... ولا يمنع السوآت إلا حصونها
فإني أراه عن قليل بنفسه ... يدان كما قد كان قبل يدينها
فلا حرة تبكيه لكن نوائح ... تبكي عليه البقع منها وجونها
(6/372)
فقال يزيد للمفضل: قدم خيلك، فتقدم بها،
وتهايجوا فلم يكن بينهم كبير قتال حتى تفرق الناس عن عبد الرحمن، وصبر
وصبرت معه طائفة من أهل الحفاظ، وصبر معه العبديون، وحمل سعد بن نجد
القردوسي على حليس الشيباني وهو أمام عبد الرحمن، فطعنه حليس فأذراه عن
فرسه، وحماه أصحابه، وكثرهم الناس فانكشفوا، فأمر يزيد بالكف عن
اتباعهم، وأخذوا ما كان في عسكرهم، وأسروا منهم أسرى، فولى يزيد عطاء
بن أبي السائب العسكر، وأمره بضم ما كان فيه، فأصابوا ثلاث عشرة امرأة،
فأتوا بهن يزيد، فدفعهن إلى مرة بن عطاء بن أبي السائب، فحملهن إلى
الطبسين، ثم حملهن إلى العراق وقال يزيد لسعد بن نجد: من طعنك؟ قال:
حليس الشيباني، وأنا والله راجلا أشد منه وهو فارس قال:
فبلغ حليسا، فقال: كذب والله، لأنا أشد منه فارسا وراجلا وهرب عبد
الرحمن بن منذر بن بشر بن حارثة فصار إلى موسى بن عبد الله بن خازم
قال: فكان في الأسرى مُحَمَّد بن سعد بن أبي وقاص، وعمرو بن موسى بن
عبيد الله بن معمر، وعياش بن الأسود بن عوف الزهري والهلقام بن نعيم بن
القعقاع بن معبد بن زراره، وفيروز حصين، وأبو العلج مولى عبيد الله بن
معمر، ورجل من آل أبي عقيل، وسوار بن مروان، وعبد الرحمن بن طلحة بن
عبد الله بن خلف، وعبد الله بن فضالة الزهراني.
ولحق الهاشمى بالسند، وأتى ابن سمرة مرو، ثم انصرف يزيد إلى مرو وبعث
بالأسرى إلى الحجاج مع سبرة بن نخف بن أبي صفرة، وخلى عن ابن طلحة وعبد
الله بن فضالة، وسعى قوم بعبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة، فأخذه يزيد
فحبسه.
وأما هشام فإنه ذكر أنه حدثه القاسم بن محمد الحضرمى، عن حفص ابن عمرو
بن قبيصة، عن رجل من بني حنيفة يقال له جابر بن عمارة، أن يزيد بن
المهلب حبس عنده عبد الرحمن بن طلحة وأمنه، وكان الطلحي قد آلى على
يمين الا يرى يزيد بن المهلب في موقف إلا أتاه حتى يقبل يده شكرا لما
أبلاه قال: وقال مُحَمَّد بن سعد بن أبي وقاص ليزيد: أسألك
(6/373)
بدعوة أبي لأبيك! فخلى سبيله ولقول
مُحَمَّد بن سعد ليزيد: أسألك بدعوة أبي لأبيك حديث فيه بعض الطول.
قَالَ هِشَامٌ: حَدَّثَنِي أَبُو مِخْنَفٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي هشام بن
أيوب بن عبد الرحمن بن أبي عقيل الثقفي، قال: بعث يزيد بن المهلب ببقية
الأسرى إلى الحجاج بن يوسف، بعمر بن موسى بن عبيد الله بن معمر، فقال:
أنت صاحب شرطه عبد الرحمن؟ فقال: أصلح الله الأمير! كانت فتنة شملت
البر والفاجر، فدخلنا فيها، فقد أمكنك الله منا، فإن عفوت فبحلمك
وفضلك، وإن عاقبت عاقبت ظلمة مذنبين، فقال الحجاج: أما قولك: انها شملت
البر والفاجر فكذبت، ولكنها شملت الفجار، وعوفي منها الأبرار، وأما
اعترافك بذنبك فعسى أن ينفعك.
فعزل، ورجا الناس له العافية حتى قدم بالهلقام بن نعيم، فقال له
الحجاج: أخبرني عنك، ما رجوت من اتباع عبد الرحمن بن مُحَمَّد؟
أرجوت أن يكون خليفة؟ قال: نعم، رجوت ذلك، وطمعت أن ينزلني منزلتك من
عبد الملك، قال: فغضب الحجاج وقال: اضربوا عنقه، فقتل.
قال: ونظر الى عمر بن موسى بن عبيد الله بن معمر وقد نحي عنه فقال:
اضربوا عنقه، وقتل بقيتهم وقد كان آمن عمرو بن أبي قرة الكندي ثم
الحجري وهو شريف وله بيت قديم، فقال: يا عمرو، كنت تفضي إلي وتحدثني
أنك ترغب عن ابن الأشعث وعن الأشعث قبله، ثم تبعت عبد الرحمن بن
مُحَمَّد بن الأشعث، والله ما بك عن اتباعهم رغبة، ولا نعمة عين لك ولا
كرامة.
قال: وقد كان الحجاج حين هزم الناس بالجماجم نادى مناديه:
من لحق بقتيبة بن مسلم بالري فهو أمانه، فلحق ناس كثير بقتيبة، وكان
فيمن لحق به عامر الشعبي، فذكر الحجاج الشعبي يوما فقال: أين هو؟ وما
فعل؟ فقال له يزيد بن أبي مسلم: بلغني أيها الأمير أنه لحق بقتيبة بن
مسلم بالري، قال: فابعث إليه فلنؤت به
(6/374)
فكتب الحجاج إلى قتيبة: أما بعد، فابعث إلي
بالشعبي حين تنظر في كتابي هذا، والسلام عليك، فسرح إليه.
قال أبو مخنف: فحدثني السري بن إسماعيل عن الشعبي، قال: كنت لابن أبي
مسلم صديقا، فلما قدم بي على الحجاج لقيت ابن أبي مسلم فقلت: أشر علي،
قال: ما أدري ما أشير به عليك غير أن أعتذر ما استطعت من عذر! وأشار
بمثل ذلك علي نصحائي وإخواني، فلما دخلت عليه رأيت والله غير ما رأوا
لي، فسلمت عليه بالإمرة ثم قلت:
أيها الأمير، إن الناس قد أمروني أن أعتذر إليك بغير ما يعلم الله أنه
الحق، وايم الله لا أقول في هذا المقام إلا حقا، قد والله سودنا عليك،
وحرضنا وجهدنا عليك كل الجهد، فما آلونا، فما كنا بالأقوياء الفجرة،
ولا الأتقياء البررة، ولقد نصرك الله علينا، وأظفرك بنا، فإن سطوت
فبذنوبنا وما جرت إليه أيدينا، وإن عفوت عنا فبحلمك، وبعد الحجة لك
علينا، فقال له الحجاج: أنت والله أحب إلي قولا ممن يدخل علينا يقطر
سيفه من دمائنا ثم يقول: ما فعلت ولا شهدت، قد أمنت عندنا يا شعبي،
فانصرف.
قال: فانصرفت، فلما مشيت قليلا قال: هلم يا شعبي، قال: فوجل لذلك قلبي،
ثم ذكرت قوله: قد أمنت يا شعبي، فاطمأنت نفسي، قال:
كيف وجدت الناس يا شعبي بعدنا؟ قال- وكان لي مكرما: فقلت:
أصلح الله الأمير! اكتحلت والله بعدك السهر، واستوعرت الجناب، واستحلست
الخوف، وفقدت صالح الإخوان، ولم أجد من الأمير خلفا.
قال: انصرف يا شعبي، فانصرفت قال أبو مخنف: قال خالد بن قطن الحارثي:
أتي الحجاج بالأعشى، أعشى همدان، فقال: إيه يا عدو الله! أنشدني قولك:
بين الأشج وبين
(6/375)
قيس، أنفذ بيتك، قال: بل أنشدك ما قلت لك،
قال: بل أنشدني هذه، فأنشده:
ابى الله الا ان يتمم نوره ... ويطفى نور الفاسقين فيخمدا
ويظهر أهل الحق في كل موطن ... ويعدل وقع السيف من كان أصيدا
وينزل ذلا بالعراق وأهله ... لما نقضوا العهد الوثيق المؤكد
وما أحدثوا من بدعة وعظيمة ... من القول لم تصعد إلى الله مصعدا
وما نكثوا من بيعة بعد بيعة ... إذا ضمنوها اليوم خاسوا بها غدا
وجبنا حشاه ربهم في قلوبهم ... فما يقربون الناس إلا تهددا
فلا صدق في قول ولا صبر عندهم ... ولكن فخرا فيهمُ وتزيدا
فكيف رأيت الله فرق جمعهم ... ومزقهم عرض البلاد وشردا!
فقتلاهمُ قتلى ضلال وفتنة ... وحيهمُ أمسى ذليلا مطردا
ولما زحفنا لابن يوسف غدوة ... وأبرق منا العارضان وأرعدا
قطعنا إليه الخندقين وإنما ... قطعنا وأفضينا إلى الموت مرصدا
فكافحنا الحجاج دون صفوفنا ... كفاحا ولم يضرب لذلك موعدا
بصف كأن البرق في حجراته ... إذا ما تجلى بيضه وتوقدا
دلفنا إليه في صفوف كأنها ... جبال شرورى لو تعان فتنهدا
فما لبث الحجاج أن سل سيفه ... علينا فولى جمعنا وتبددا
وما زاحف الحجاج إلا رأيته ... معانا ملقى للفتوح معودا
(6/376)
وإن ابن عباس لفي مرجحنة ... نشبهها قطعا
من الليل أسودا
فما شرعوا رمحا ولا جردوا له ... ألا ربما لاقى الجبان فجردا
وكرت علينا خيل سفيان كره ... بفرسانها والسمهري مقصدا
وسفيان يهديها كأن لواءه ... من الطعن سند بات بالصبغ مجسدا
كهول ومرد من قضاعة حوله ... مساعير أبطال إذا النكس عردا
إذا قال شدوا شدة حملوا معا ... فأنهل خرصان الرماح وأوردا
جنود أمير المؤمنين وخيله ... وسلطانه أمسى عزيزا مؤيدا
فيهني أمير المؤمنين ظهوره ... على أمة كانوا بغاة وحسدا
نزوا يشتكون البغي من أمرائهم ... وكانوا همُ أبغى البغاة وأعندا
وجدنا بني مروان خير أئمة ... وافضل هذى الناس حلما وسوددا
وخير قريش في قريش أرومة ... وأكرمهم إلا النبي مُحَمَّدا
إذا ما تدبرنا عواقب أمره ... وجدنا أمير المؤمنين مسددا
سيغلب قوم غالبوا الله جهرة ... وإن كايدوه كان أقوى وأكيدا
كذاك يضل الله من كان قلبه ... مريضا ومن والى النفاق وألحدا
فقد تركوا الأهلين والمال خلفهم ... وبيضا عليهن الجلابيب خردا
ينادينهم مستعبرات إليهمُ ... ويذرين دمعا في الخدود وإثمدا
فإلا تناولهن منك برحمة ... يكن سبايا والبعولة أعبدا
أنكثا وعصيانا وغدرا وذلة ... أهان الإله من أهان وأبعدا
لقد شأم المصرين فرخ محمد ... يحق وما لاقى من الطير أسعدا
(6/377)
كما شأم الله النجير وأهله ... بجد له قد
كان أشقى وأنكدا
فقال أهل الشام: أحسن، أصلح الله الأمير! فقال الحجاج: لا، لم يحسن،
إنكم لا تدرون ما أراد بها، ثم قال: يا عدو الله، إنا لسنا نحمدك على
هذا القول، إنما قلت: تأسف الا يكون ظهر وظفر، وتحريضا لأصحابك علينا،
وليس عن هذا سألناك، أنفذ لنا قولك:
بين الاشج وبين قيس باذخ.
فأنفذها، فلما قال:
بخ بخ لوالده وللمولود
قال الحجاج: لا والله لا تبخبخ بعدها لأحد أبدا، فقدمه فضرب عنقه.
وقد ذكر من أمر هؤلاء الأسرى الذين أسرهم يزيد بن المهلب ووجههم إلى
الحجاج ومن فلول ابن الأشعث الذين انهزموا يوم مسكن أمر غير ما ذكره
أبو مخنف عن أصحابه والذي ذكر عنهم من ذلك أنه لما انهزم ابن الأشعث
مضى هؤلاء مع سائر الفل إلى الري، وقد غلب عليها عمر بن ابى الصلت بن
كنار مولى بني نصر بن معاوية، وكان من أفرس الناس، فانضموا إليه، فأقبل
قتيبة بن مسلم إلى الري من قبل الحجاج وقد ولاه عليها.
فقال النفر الذين ذكرت أن يزيد بن المهلب وجههم إلى الحجاج مقيدين
وسائر فل ابن الأشعث الذين صاروا إلى الري لعمر بن أبي الصلت: نوليك
أمرنا وتحارب بنا قتيبة، فشاور عمر أباه أبا الصلت، فقال له أبوه:
والله يا بني ما كنت أبالي إذا سار هؤلاء تحت لوائك أن تقتل من غد فعقد
لواءه، وسار فهزم وهزم أصحابه، وانكشفوا إلى سجستان، واجتمعت بها
الفلول، وكتبوا إلى عبد الرحمن بن مُحَمَّد وهو عند رتبيل، ثم كان من
أمرهم وأمر يزيد بن المهلب ما قد ذكرت
(6/378)
وذكر أبو عبيدة أن يزيد لما أراد أن يوجه
الأسرى إلى الحجاج قال له أخوه حبيب: بأي وجه تنظر إلى اليمانية وقد
بعثت ابن طلحة! فقال يزيد:
هو الحجاج، ولا يتعرض له! وقال: وطن نفسك على العزل، ولا ترسل به، فإن
له عندنا بلاء، قال: وما بلاؤه؟ قال لزم المهلب في مسجد الجماعة بمائتي
ألف، فأداها طلحة عنه فأطلقه، وأرسل بالباقين، فقال الفرزدق:
وجد ابن طلحة يوم لاقى قومه ... قحطان يوم هراة خير المعشر
وقيل: إن الحجاج لما أتي بهؤلاء الأسرى من عند يزيد بن المهلب قال
لحاجبه: إذا دعوتك بسيدهم فأتني بفيروز، فأبرز سريره- وهو حينئذ بواسط
القصب قبل أن تبنى مدينة واسط- ثم قال لحاجبه: جئني بسيدهم، فقال
لفيروز: قم، فقال له الحجاج: أبا عثمان، ما أخرجك مع هؤلاء؟ فو الله ما
لحمك من لحومهم، ولا ذمك من دمائهم! قال: فتنة عمت الناس، فكنا فيها،
قال: اكتب لي أموالك، قال: ثم ماذا؟ قال:
اكتبها أول، قال: ثم أنا آمن على دمي؟ قال: اكتبها، ثم أنظر، قال: اكتب
يا غلام، ألف ألف ألفي ألف، فذكر مالا كثيرا، فقال الحجاج: أين هذه
الأموال؟ قال: عندي، قال: فأدها، قال: وأنا آمن على دمي؟ قال: والله
لتؤدينها ثم لأقتلنك، قال: والله لا تجمع مالي ودمي، فقال الحجاج
للحاجب: نحه، فنحاه.
ثم قال: ائتني بمُحَمَّد بن سعد بن أبي وقاص، فدعاه فقال له الحجاج:
إيها يا ظل الشيطان أعظم الناس تيها وكبرا، تأبى بيعة يزيد بن معاوية،
وتشبه بحسين وابن عمر، ثم صرت مؤذنا لابن كنارا عبد بني نصر- يعني عمر
بن أبي الصلت- وجعل يضرب بعود في يده رأسه حتى أدماه، فقال له
مُحَمَّد: أيها الرجل، ملكت فأسجح! فكف يده، فقال: إن رأيت أن تكتب إلى
أمير المؤمنين فإن جاءك عفو كنت شريكا في ذلك محمودا، وإن جاءك غير ذلك
كنت قد أعذرت فأطرق مليا ثم قال: اضرب عنقه، فضربت عنقه
(6/379)
ثم دعا بعمر بن موسى فقال: يا عبد المرأة،
أتقوم بالعمود على رأس ابن الحائك، وتشرب معه الشراب في حمام فارس،
وتقول المقالة التي قلت! أين الفرزدق؟ قم فأنشده ما قلت فيه، فأنشده:
وخضبت أيرك للزناء ولم تكن ... يوم الهياج لتخضب الأبطالا
فقال: أما والله لقد رفعته عن عقائل نسائك، ثم أمر بضرب عنقه.
ثم دعا ابن عبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة، فإذا غلام حدث، فقال:
أصلح الله الأمير! ما لي ذنب، إنما كنت غلاما صغيرا مع أبي وأمي لا أمر
لي ولا نهي، وكنت معهما حيث كانا، فقال: وكانت أمك مع أبيك في هذه
الفتن كلها؟ قال: نعم، قال: على أبيك لعنة الله.
ثم دعا بالهلقام بن نعيم فقال: اجعل ابن الأشعث طلب ما طلب، ما الذي
أملت أنت معه؟ قال: أملت أن يملك فيوليني العراق كما ولاك عبد الملك
قال: قم يا حوشب فاضرب عنقه، فقام اليه، فقال له الهلقام: يا بن لقيطة،
أتنكأ القرح! فضرب عنقه.
ثم أتى بعبد الله بن عامر، فلما قام بين يديه قال: لا رأت عيناك يا
حجاج الجنة إن أقلت ابن المهلب بما صنع قال: وما صنع؟ قال:
لأنه كاس في إطلاق أسرته ... وقاد نحوك في أغلالها مضرا
وقى بقومك ورد الموت أسرته ... وكان قومك أدنى عنده خطرا
فأطرق الحجاج مليا ووقرت في قلبه، وقال: وما أنت وذاك! اضرب عنقه فضربت
عنقه ولم تزل في نفس الحجاج حتى عزل يزيد عن خراسان وحبسه.
ثم أمر بفيروز فعذب، فكان فيما عذب به أن كان يشد عليه القصب الفارسي
المشقوق، ثم يجر عليه حتى يخرق جسده، ثم ينضح عليه الخل والملح، فلما
أحس بالموت قال لصاحب العذاب: إن الناس لا يشكون أني قد قتلت، ولي
ودائع وأموال عند الناس، لا تؤدى
(6/380)
إليكم أبدا، فأظهروني للناس ليعلموا أني حي
فيؤدوا المال فأعلم الحجاج، فقال: أظهروه، فأخرج إلى باب المدينة، فصاح
في الناس: من عرفني فقد عرفني، ومن أنكرني فأنا فيروز حصين، إن لي عند
أقوام مالا، فمن كان لي عنده شيء فهو له وهو منه في حل فلا يؤدين منه
أحد درهما، ليبلغ الشاهد الغائب فأمر به الحجاج فقتل وكان ذلك مما روى
الوليد بن هشام بن قحذم عن أبي بكر الهذلي.
وذكر ضمره بن ربيعه، عن ابى شوذب، أن عمال الحجاج كتبوا إليه:
أن الخراج قد انكسر، وأن أهل الذمة قد أسلموا ولحقوا بالأمصار، فكتب
إلى البصرة وغيرها أن من كان له أصل في قرية فليخرج إليها.
فخرج الناس فعسكروا، فجعلوا يبكون وينادون: يا مُحَمَّداه يا
مُحَمَّداه! وجعلوا لا يدرون أين يذهبون! فجعل قراء أهل البصرة يخرجون
إليهم متقنعين فيبكون لما يسمعون منهم ويرون قال: فقدم ابن الأشعث على
تفيئة ذلك، واستبصر قراء أهل البصرة في قتال الحجاج مع عبد الرحمن ابن
مُحَمَّد بن الأشعث.
وذكر عن ضمرة بن ربيعة عن الشيباني، قال: قتل الحجاج يوم الزاوية أحد
عشر ألفا، ما استحيا منهم الا واحدا، كان ابنه في كتاب الحجاج، فقال
له: أتحب أن نعفو لك عن أبيك؟ قال: نعم، فتركه لابنه، وإنما خدعهم
بالأمان، أمر مناديا فنادى عند الهزيمة: ألا لا أمان لفلان ولا فلان،
فسمى رجالا من أولئك الأشراف، ولم يقل: الناس آمنون، فقالت العامة: قد
آمن الناس كلهم إلا هؤلاء النفر، فأقبلوا إلى حجرته فلما اجتمعوا أمرهم
بوضع أسلحتهم، ثم قال: لآمرن بكم اليوم رجلا ليس بينكم وبينه قرابة،
فأمر بهم عمارة بن تميم اللخمي فقربهم فقتلهم.
وروي عن النضر بن شميل، عن هشام بن حسان، أنه قال: بلغ
(6/381)
ما قتل الحجاج صبرا مائة وعشرين، أو مائة
وثلاثين ألفا.
وقد ذكر في هزيمة ابن الأشعث بمسكن قول غير الذي ذكره أبو مخنف، والذي
ذكر من ذلك أن ابن الأشعث والحجاج اجتمعا بمسكن من أرض أبزقباذ، فكان
عسكر ابن الأشعث على نهر يدعى خداش مؤخر النهر، نهر تيرى، ونزل الحجاج
على نهر أفريذ والعسكران جميعا بين دجلة والسيب والكرخ، فاقتتلوا شهرا-
وقيل: دون ذلك- ولم يكن الحجاج يعرف إليهم طريقا إلا الطريق الذي
يلتقون فيه، فأتى بشيخ كان راعيا يدعى زورقا، فدله على طريق من وراء
الكرخ طوله ستة فراسخ، في أجمة وضحضاح من الماء، فانتخب أربعة آلاف من
جلة أهل الشام، وقال لقائدهم:
ليكن هذا العلج أمامك، وهذه أربعة آلاف درهم معك، فإن أقامك على عسكرهم
فادفع المال إليه، وإن كان كذبا فاضرب عنقه، فإن رأيتهم فاحمل عليهم
فيمن معك، وليكن شعاركم: يا حجاج يا حجاج.
فانطلق القائد صلاة العصر، والتقى عسكر الحجاج وعسكر ابن الأشعث حين
فصل القائد بمن معه وذلك مع صلاة العصر، فاقتتلوا إلى الليل، فانكشف
الحجاج حتى عبر السيب- وكان قد عقده- ودخل ابن الأشعث عسكره فانتهب ما
فيه، فقيل له: لو اتبعته؟ فقال: قد تعبنا ونصبنا، فرجع إلى عسكره فألقى
أصحابه السلاح، وباتوا آمنين في أنفسهم لهم الظفر وهجم القوم عليهم نصف
الليل يصيحون بشعارهم، فجعل الرجل من أصحاب ابن الأشعث لا يدري أين
يتوجه! دجيل عن يساره ودجلة أمامه، ولها جرف منكر، فكان من غرق أكثر
ممن قتل.
وسمع الحجاج الصوت فعبر السيب إلى عسكره، ثم وجه خيله إلى القوم فالتقى
العسكران على عسكر ابن الأشعث، وانحاز في ثلاثمائة، فمضى على شاطئ دجلة
حتى أتى دجيلا فعبره في السفن، وعقروا دوابهم، وانحدروا في السفن إلى
البصرة، ودخل الحجاج عسكره فانتهب ما فيه، وجعل يقتل من وجد حتى قتل
أربعة آلاف، فيقال: إن فيمن قتل عبد الله
(6/382)
ابن شداد بن الهاد، وقتل فيهم بسطام بن
مصقله بن هبيرة، وعمر ابن ضبيعة الرقاشي، وبشر بن المنذر بن الجارود
والحكم بن مخرمة العبديين، وبكير بن ربيعة بن ثروان الضبي، فأتي الحجاج
برءوسهم على ترس، فجعل ينظر إلى رأس بسطام ويتمثل:
إذا مررت بوادي حية ذكر ... فاذهب ودعني أقاسي حية الوادي
ثم نظر إلى رأس بكير، فقال: ما ألقى هذا الشقي مع هؤلاء خذ بأذنه يا
غلام فألقه عنهم ثم قال: ضع هذا الترس بين يدي مسمع بن مالك ابن مسمع،
فوضع بين يديه، فبكى، فقال له الحجاج: ما أبكاك؟ أحزنا عليهم؟ قال: بل
جزعا لهم من النار
. ذكر خبر بناء مدينه واسط
وفي هذه السنة: بنى الحجاج واسطا، وكان سبب بنائه ذلك- فيما ذكر- أن
الحجاج ضرب البعث على أهل الكوفة إلى خراسان، فعسكروا بحمام عمر وكان
فتى من أهل الكوفة من بني أسد حديث عهد بعرس بابنة عم له، انصرف من
العسكر إلى ابنة عمه ليلا، فطرق الباب طارق ودقه دقا شديدا، فإذا سكران
من أهل الشام، فقالت للرجل ابنة عمه: لقد لقينا من هذا الشامي شرا،
يفعل بنا كل ليلة ما ترى، يريد المكروه، وقد شكوته إلى مشيخة أصحابه،
وعرفوا ذلك، فقال: ائذنوا له، ففعلوا، فأغلق الباب، وقد كانت المرأة
نجدت منزلها وطيبته، فقال الشامي:
قد آن لكم، فاستقنأه الأسدي، فأندر رأسه، فلما أذن بالفجر خرج الرجل
إلى العسكر وقال لامرأته: إذا صليت الفجر فابعثي إلى الشاميين أن
أخرجوا صاحبكم، فسيأتون بك الحجاج، فاصدقيه الخبر على وجهه،
(6/383)
ففعلت، ورفع القتيل إلى الحجاج، وأدخلت
المرأة عليه وعنده عنبسة ابن سعيد على سريره، فقال لها: ما خطبك؟
فأخبرته، فقال: صدقتني.
ثم قال لولاة الشامي: ادفنوا صاحبكم فإنه قتيل الله إلى النار، لا قود
له ولا عقل، ثم نادى مناديه: لا ينزلن أحد على أحد، واخرجوا فعسكروا.
وبعث روادا يرتادون له منزلا، وأمعن حتى نزل أطراف كسكر، فبينا هو في
موضع واسط إذا راهب قد أقبل على حمار له وعبر دجلة، فلما كان في موضع
واسط تفاجت الأتان فبالت، فنزل الراهب، فاحتفر ذلك البول، ثم احتمله
فرمى به في دجلة، وذلك بعين الحجاج، فقال: علي به، فأتي به، فقال: ما
حملك على ما صنعت؟ قال: نجد في كتبنا أنه يبنى في هذا الموضع مسجد يعبد
الله فيه ما دام في الأرض أحد يوحده.
فاختط الحجاج مدينة واسط، وبنى المسجد في ذلك الموضع.
[أخبار متفرقة]
وفي هذه السنة عزل عبد الملك- فيما قال الواقدي- عن المدينة أبان بن
عثمان، واستعمل عليها هشام بن إسماعيل المخزومي وحج بالناس في هذه
السنة هشام بن إسماعيل، وحدثنى بذلك احمد ابن ثَابِت، عمن حدثه، عن
إِسْحَاق بْن عِيسَى، عن أبي معشر.
وكان العمال في هذه السنة على الأمصار سوى المدينة هم العمال الذين
كانوا عليها في السنة التي قبلها، وأما المدينة فقد ذكرنا من كان عليها
فيها.
(6/384)
ثم دخلت
سنة أربع وثمانين
(ذكر مَا كَانَ فِيهَا من الأحداث) ففيها كانت غزوة عبد الله بن عبد
الملك بن مروان الروم، ففتح فيها المصيصة، كذلك ذكر الواقدي.
خبر قتل الحجاج أيوب بن القرية
وفيها قتل الحجاج أيوب بن القرية، وكان ممن كان مع ابن الأشعث، وكان
سبب قتله إياه- فيما ذكر- أنه كان يدخل حوشب بن يزيد بعد انصرافه من
دير الجماجم- وحوشب على الكوفة عامل للحجاج- فيقول حوشب:
انظروا إلى هذا الواقف معي، وغدا أو بعد غد يأتي كتاب من الأمير لا
استطيع الا نفاذه، فبينا هو ذات يوم واقف إذ أتاه كتاب من الحجاج:
أما بعد، فإنك قد صرت كهفا لمنافقي أهل العراق ومأوى، فإذا نظرت في
كتابي هذا فابعث إلي بابن القرية مشدودة يده إلى عنقه، مع ثقة من قبلك.
فلما قرأ حوشب الكتاب رمى به إليه، فقرأه فقال: سمعا وطاعة، فبعث به
إلى الحجاج موثقا، فلما دخل الحجاج قال له: يا بن القرية، ما أعددت
لهذا الموقف؟ قال: أصلح الله الأمير! ثلاثة حروف كأنهن ركب وقوف، دنيا،
وآخرة، ومعروف قال: اخرج مما قلت، قال: أفعل، أما الدنيا فمال حاضر،
يأكل منه البر والفاجر، وأما الآخرة فميزان عادل، ومشهد ليس فيه باطل،
وأما المعروف فإن كان علي اعترفت، وإن كان لي اغترفت قال: أما لا
فاعترف بالسيف إذا وقع بك قال:
أصلح الله الأمير! أقلني عثرتي، واسغنى ريقي، فإنه ليس جواد إلا له
(6/385)
كبوة، ولا شجاع إلا له هبوة قال الحجاج:
كلا والله لأرينك جهنم، قال: فأرحني فإني أجد حرها، قال: قدمه يا حرسي
فاضرب عنقه فلما نظر إليه الحجاج يتشحط في دمه قال: لو كنا تركنا ابن
القرية حتى نسمع من كلامه! ثم أمر به فأخرج فرمي به قال هشام: قال
عوانة: حين منع الحجاج من الكلام ابن القرية، قال له ابن القرية: أما
والله لو كنت أنا وأنت على السواء لسكنا جميعا، أولا لفيت منيعا
. فتح يزيد بن المهلب قلعة نيزك بباذغيس
وفي هذه السنة فتح يزيد بن المهلب قلعة نيزك بباذغيس ذكر سبب فتحه
إياها:
ذكر علي بن مُحَمَّد، عن المفضل بن مُحَمَّد، قال: كان نيزك ينزل بقلعة
باذغيس، فتحين يزيد غزوه، ووضع عليه العيون، فبلغه خروجه، فخالفه يزيد
إليها، وبلغ نيزك فرجع، فصالحه على أن يدفع إليه ما في القلعة من
الخزائن، ويرتحل عنها بعياله، فقال كعب بن معدان الأشقري:
وباذغيس التي من حل ذروتها ... عز الملوك فان شاء جار أو ظلما
منيعة لم يكدها قبله ملك ... إلا إذا واجهت جيشا له وجما
تخال نيرانها من بعد منظرها ... بعض النجوم إذا ما ليلها عتما
لما أطاف بها ضاقت صدورهمُ ... حتى أقروا له بالحكم فاحتكما
فذل ساكنها من بعد عزته ... يعطى الجزى عارفا بالذل مهتضما
وبعد ذلك أياما نعددها ... وقبلها ما كشفت الكرب والظلما
أعطاك ذاك ولي الرزق يقسمه ... بين الخلائق والمحروم من حرما
(6/386)
يداك إحداهما تسقي العدو بها ... سما وأخرى
نداها لم يزل ديما
فهل كسيب يزيد أو كنائله ... إلا الفرات وإلا النيل حين طما
ليسا بأجود منه حين مدهما ... إذ يعلوان حداب الأرض والأكما
وقال:
ثنائي على حي العتيك بأنها ... كرام مقاريها، كرام نصابها
إذا عقدوا للجار حل بنجوة ... عزيز مراقيها، منيع هضابها
نفى نيزكا عن باذغيس ونيزك ... بمنزله أعيا الملوك اغتصابها
محلقة دون السماء كأنها ... غمامة صيف زل عنها سحابها
ولا يبلغ الأروى شماريخها العلا ... ولا الطير إلا نسرها وعقابها
وما خوفت بالذئب ولدان أهلها ... ولا نبحت إلا النجوم كلابها
تمنيت أن ألقى العتيك ذوي النهي ... مسلطة تحمي بملك ركابها
كما يتمنى صاحب الحرث أعطشت ... مزارعه غيثا غزيرا ربابها
فأسقي بعد اليأس حتى تحيرت ... جداولها ريا وعب عبابها
لقد جمع الله النوى وتشعبت ... شعوب من الآفاق شتى مآبها
قال: وكان نيزك يعظم القلعة إذا رآها سجد لها وكتب يزيد بن المهلب إلى
الحجاج بالفتح، وكانت كتب يزيد إلى الحجاج يكتبها يحيى بن يعمر
العدواني، وكان حليفا لهذيل، فكتب: أنا لقينا العدو فمنحنا الله
أكتافهم، فقتلنا طائفة، وأسرنا طائفة، ولحقت طائفة برءوس الجبال وعراعر
الأودية، وأهضام الغيطان وأثناء الأنهار، فقال الحجاج:
من يكتب ليزيد؟ فقيل: يحيى بن يعمر، فكتب إلى يزيد فحمله على البريد،
فقدم عليه أفصح الناس، فقال له: أين ولدت؟ قال: بالأهواز، قال: فهذه
الفصاحة؟ قال: حفظت كلام أبي وكان فصيحا قال: من
(6/387)
هناك فأخبرني هل يلحن عنبسة بن سعيد؟ قال:
نعم كثيرا، قال: ففلان؟
قال: نعم، قال: فأخبرني عنى االحن؟ قال: نعم تلحن لحنا خفيا، تزيد حرفا
وتنقص حرفا، وتجعل أن في موضع إن، وإن في موضع أن قال: قد أجلتك ثلاثا،
فإن أجدك بعد ثلاث بأرض العراق قتلتك، فرجع الى خراسان
. [أخبار متفرقة]
وحج بالناس في هذه السنة هشام بن إسماعيل المخزومي، كذلك حَدَّثَنِي
أَحْمَدُ بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، وكانت
عمال الأمصار في هذه السنة عمالها الذين سميت قبل في سنة ثلاث وثمانين
(6/388)
ثم دخلت
سنة خمس وثمانين
(ذكر ما كان فيها من الاحداث)
خبر هلاك عبد الرحمن بن مُحَمَّد بن الأشعث
ففيها كان هلاك عبد الرحمن بن مُحَمَّد بن الأشعث ذكر السبب الذي به.
هلك، وكيف كان:
ذكر هِشَام بن مُحَمَّدٍ، عن أبي مخنف، قال: لما انصرف ابن الأشعث من
هراة راجعا إلى رتبيل كان معه رجل من أود يقال له علقمة بن عمرو، فقال
له: ما أريد أن أدخل معك، فقال له عبد الرحمن: لم؟ قال:
لأني أتخوف عليك وعلى من معك، والله لكأني بكتاب الحجاج قد جاء، فوقع
إلى رتبيل يرغبه ويرهبه، فإذا هو قد بعث بك سلما او قتلكم.
ولكن هاهنا خمسمائة قد تبايعنا على أن ندخل مدينة فنتحصن فيها، ونقاتل
حتى نعطي أمانا أو نموت كراما، فقال له عبد الرحمن: أما لو دخلت معي
لآسيتك وأكرمتك، فأبى عليه علقمة، ودخل عبد الرحمن بن مُحَمَّد إلى
رتبيل وخرج هؤلاء الخمسمائة فبعثوا عليهم مودودا النضري، وأقاموا حتى
قدم عليهم عمارة بن تميم اللخمي فحاصرهم، فقاتلوه وامتنعوا منه حتى
آمنهم، فخرجوا إليه فوفي لهم.
قال: وتتابعت كتب الحجاج إلى رتبيل في عبد الرحمن بن مُحَمَّد أن ابعث
به إلي، وإلا فو الذى لا إله إلا هو لأوطئن أرضك ألف ألف مقاتل.
وكان عند رتبيل رجل من بني تميم ثم من بني يربوع يقال له عبيد بن أبي
سبيع، فقال لرتبيل: أنا آخذ لك من الحجاج عهدا ليكفن الخراج
(6/389)
عن أرضك سبع سنين على أن تدفع إليه عبد
الرحمن بن مُحَمَّد، قال رتبيل لعبيد: فإن فعلت فإن لك عندي ما سألت.
فكتب إلى الحجاج يخبره أن رتبيل لا يعصيه، وأنه لن يدع رتبيل حتى يبعث
إليه بعبد الرحمن بن مُحَمَّد، فأعطاه الحجاج على ذلك مالا وأخذ من
رتبيل عليه مالا، وبعث رتبيل برأس عبد الرحمن بن مُحَمَّد إلى الحجاج،
وترك له الصلح الذي كان يأخذه منه سبع سنين وكان الحجاج يقول: بعث إلى
رتبيل بعدو الله فألقى نفسه من فوق إجار فمات.
قال أبو مخنف: وحدثني سُلَيْمَان بن أبي راشد أنه سمع مليكة ابنة يزيد
تقول: والله لمات عبد الرحمن وإن رأسه لعلى فخذي، كان السل قد أصابه
فلما مات وأرادوا دفنه بعث إليه رتبيل فحز رأسه، فبعث به إلى الحجاج،
وأخذ ثمانية عشر رجلا من آل الأشعث فحبسهم عنده، وترك جميع من كان معه
من أصحابه وكتب إلى الحجاج بأخذه الثمانية عشر رجلا من أهل بيت عبد
الرحمن، فكتب إليه: أن اضرب رقابهم، وابعث إلي برءوسهم وكره أن يؤتى
بهم إليه أحياء فيطلب فيهم إلى عبد الملك، فيترك منهم أحدا.
وقد قيل في امر بن أبي سبيع وابن الأشعث غير ما ذكرت عن أبي مخنف، وذلك
ما ذكر عن أبي عبيدة معمر بن المثنى أنه كان يقول:
زعم أن عمارة بن تميم خرج من كرمان فأتى سجستان وعليها رجل من بني
العنبر يدعى مودودا، فحصره ثم آمنه، ثم استولى على سجستان، وأرسل إلى
رتبيل وكتب إليه الحجاج: أما بعد، فإني قد بعثت إليك عمارة بن تميم في
ثلاثين ألفا من أهل الشام لم يخالفوا طاعة، ولم يخلعوا خليفة، ولم
يتبعوا إمام ضلالة يجرى على كل رجل منهم في كل شهر مائة درهم، يستطعمون
الحرب استطعاما، يطلبون ابن الأشعث فأبى رتبيل أن يسلمه وكان مع ابن
الأشعث عبيد بن أبي سبيع التميمي قد خص به،
(6/390)
وكان رسوله إلى رتبيل، فخص برتبيل أيضا،
وخف عليه فقال القاسم ابن مُحَمَّد بن الأشعث لأخيه عبد الرحمن: إني لا
آمن غدر التميمي، فاقتله، فهم به، وبلغ ابن أبي سبيع، فخافه فوشى به
إلى رتبيل، وخوفه الحجاج، ودعاه إلى الغدر بابن الأشعث فأجابه، فخرج
سرا إلى عمارة بن تميم، فاستعجل في ابن الأشعث، فجعل له ألف ألف، فأقام
عنده، وكتب بذلك عمارة إلى الحجاج، فكتب إليه أن أعط عبيدا ورتبيل ما
سالاك واشترط، فاشترط رتبيل الا تغزى بلاده عشر سنين، وأن يؤدي بعد
العشر سنين في كل سنه تسعمائة ألف، فأعطى رتبيل وعبيدا ما سألا، وأرسل
رتبيل إلى ابن الأشعث فأحضره وثلاثين من أهل بيته، وقد أعد لهم الجوامع
والقيود، فألقى في عنقه جامعة، وفي عنق القاسم جامعة، وأرسل بهم جميعا
إلى أدنى مسالح عمارة منه، وقال لجماعة من كان مع ابن الأشعث من الناس:
تفرقوا إلى حيث شئتم، ولما قرب ابن الأشعث من عمارة ألقى نفسه من فوق
قصر فمات، فاحتز رأسه، فأتى به وبالأسرى عمارة، فضرب أعناقهم، وأرسل
برأس ابن الأشعث وبرءوس أهله وبامرأته إلى الحجاج، فقال في ذلك بعض
الشعراء:
هيهات موضع جثة من رأسها ... رأس بمصر وجثة بالرخج
وكان الحجاج أرسل به إلى عبد الملك، فأرسل به عبد الملك إلى عبد العزيز
وهو يومئذ على مصر.
وذكر عمر بن شبة أن ابن عائشة حدثه قال: أخبرني سعد بن عبيد الله قال:
لما أتي عبد الملك برأس ابن الأشعث أرسل به مع خصي إلى امرأة منهم كانت
تحت رجل من قريش، فلما وضع بين يديها قالت: مرحبا بزائر لا يتكلم، ملك
من الملوك طلب ما هو أهله فأبت المقادير فذهب الخصي يأخذ الرأس
فاجتذبته من يده، قالت: لا والله حتى أبلغ
(6/391)
حاجتي، ثم دعت بخطمي فغسلته وغلفته ثم
قالت: شأنك به الآن.
فأخذه، ثم أخبر عبد الملك، فلما دخل عليه زوجها، قال: إن استطعت أن
تصيب منها سخلة.
وذكر أن ابن الأشعث نظر إلى رجل من أصحابه وهو هارب إلى بلاد رتبيل
فتمثل:
يطرده الخوف فهو تائه ... كذاك من يكره حر الجلاد
منخرق الخفين يشكو الوجا ... تنكبه أطراف مرو حداد
قد كان في الموت له راحة ... والموت حتم في رقاب العباد
فالتفت إليه فقال: يا لحية، هلا ثبت في موطن من المواطن فنموت بين
يديك، فكان خيرا لك مما صرت إليه! قال هشام: قال أبو مخنف: خرج الحجاج
في أيامه تلك يسير ومعه حميد الأرقط وهو يقول:
ما زال يبني خندقا ويهدمه ... عن عسكر يقوده فيسلمه
حتى يصير في يديك مقسمه ... هيهات من مصفه منهزمه
إن أخا الكظاظ من لا يسأمه.
فقال الحجاج: هذا أصدق من قول الفاسق أعشى همدان:
نبئت أن بني يوسف ... خر من زلق فتبا
قد تبين له من زلق وتب ودحض فانكب، وخاف وخاب، وشك وارتاب، ورفع صوته
فما بقي أحد إلا فزع لغضبه، وسكت الأريقط، فقال له الحجاج: عد فيما كنت
فيه، ما لك يا أرقط! قال: إني جعلت فداك أيها الأمير وسلطان الله عزيز،
ما هو إلا أن رأيتك غضبت فأرعدت خصائلي، واحزألت مفاصلي، وأظلم بصري،
ودارت بي الأرض قال له
(6/392)
الحجاج: أجل، إن سلطان الله عزيز، عد فيما كنت فيه، ففعل وقال الحجاج
وهو ذات يوم يسير ومعه زياد بن جرير بن عبد الله البجلي وهو أعور، فقال
الحجاج للأريقط: كيف قلت لابن سمرة؟ قال: قلت:
يا أعور العين فديت العورا ... كنت حسبت الخندق المحفورا
يرد عنك القدر المقدورا ... ودائرات السوء أن تدورا
وقد قيل: إن مهلك عبد الرحمن بن مُحَمَّد كان في سنة أربع وثمانين |