تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ
الطبري
خبر عزل عمر بن عبد
العزيز عن الحجاز
وفيها عزل عمر بن عبد العزيز عن المدينة.
ذكر سبب عزل الوليد إياه عنها:
وكان سبب ذلك- فيما ذكر- أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى الوليد يخبره
بعسف الحجاج أهل عمله بالعراق، واعتدائه عليهم، وظلمه لهم بغير حق ولا
جناية، وأن ذلك بلغ الحجاج، فاضطغنه على عمر، وكتب إلى الوليد: أن من
قبلي من مراق أهل العراق وأهل الشقاق قد جلوا عن
(6/481)
العراق، ولجئوا إلى المدينة ومكة، وأن ذلك
وهن.
فكتب الوليد إلى الحجاج: أن أشر علي برجلين، فكتب إليه يشير عليه
بعثمان بن حيان وخالد بن عبد الله، فولى خالدا مكة وعثمان المدينة،
وعزل عمر بن عبد العزيز.
قال: مُحَمَّد بن عمر: خرج عمر بن عبد العزيز من المدينة فأقام
بالسويداء وهو يقول لمزاحم: أتخاف أن تكون ممن نفته طيبة! وفيها ضرب
عمر بن عبد العزيز خبيب بن عبد الله بن الزبير بأمر الوليد إياه، وصب
على رأسه قربة من ماء بارد ذكر مُحَمَّد بن عمر، أن أبا المليح حدثه
عمن حضر عمر بن عبد العزيز حين جلد خبيب بن عبد الله بن الزبير خمسين
سوطا، وصب على رأسه قربة من ماء في يوم شات، ووقفه على باب المسجد،
فمكث يومه ثم مات.
وحج بالناس في هذه السنة عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك،
حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَحْمَد بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إسحاق بْن عيسى،
عن أبي معشر.
وكانت عمال الأمصار في هذه السنة عمالها في السنة التي قبلها، إلا ما
كان من المدينة، فإن العامل عليها كان عثمان بن حيان المري، وليها-
فيما قيل- في شعبان سنة ثلاث وتسعين.
وأما الواقدي فإنه قال: قدم عثمان المدينة لليلتين بقيتا من شوال سنة
أربع وتسعين.
وقال بعضهم: شخص عمر بن عبد العزيز عن المدينة معزولا في شعبان من سنة
ثلاث وتسعين وغزا فيها، واستخلف عليها حين شخص عنها أبا بكر بن
مُحَمَّد بن عمرو بن حزم الأنصاري وقدم عثمان بن حيان المدينة لليلتين
بقيتا من شوال
(6/482)
ثم دخلت
سنة أربع وتسعين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك ما كان من غزوة
العباس بن الوليد أرض الروم، فقيل: إنه فتح فيها أنطاكية وفيها غزا-
فيما قيل- عبد العزيز بن الوليد أرض الروم حتى بلغ غزالة وبلغ الوليد
بن هشام المعيطي أرض برج الحمام، ويزيد بن أبي كبشة أرض سورية.
وفيها كانت الرجفة بالشام وفيها افتتح القاسم بن محمد الثقفى ارض
الهند.
غزو الشاش وفرغانه
وفيها غزا قتيبة شاش وفرغانة حتى بلغ خجندة وكاشان، مدينتي فرغانة.
ذكر الخبر عن غزوة قتيبة هذه:
ذكر علي بن مُحَمَّد، أن أبا الفوارس التميمي، أخبره عن ماهان ويونس
ابن أبي إسحاق، أن قتيبة غزا سنة أربع وتسعين فلما قطع النهر فرض على
أهل بخارى وكس ونسف وخوارزم عشرين ألف مقاتل قال: فساروا معه إلى
السغد، فوجهوا إلى الشاش، وتوجه هو إلى فرغانة، وسار حتى أتى خجندة،
فجمع له أهلها فلقوه فاقتتلوا مرارا، كل ذلك يكون الظفر للمسلمين ففرغ
الناس يوما فركبوا خيولهم، فأوفى رجل على نشز فقال: تالله ما رأيت
كاليوم غرة، لو كان هيج اليوم ونحن على ما ارى
(6/483)
من الانتشار لكانت الفضيحة، فقال له رجل
إلى جنبه: كلا، نحن كما قال عوف بن الخرع:
نؤم البلاد لحب اللقا ... ولا نتقي طائرا حيث طارا
سنيحا ولا جاريا بارحا ... على كل حال نلاقي اليسارا
وقال سحبان وائل يذكر قتالهم بخجندة:
فسل الفوارس في خجندة ... تحت مرهفة العوالي
هل كنت أجمعهم إذا ... هزموا وأقدم في قتالي
أم كنت أضرب هامة ... العاتي وأصبر للعوالي
هذا وأنت قريع قيس ... كلها ضخم النوال
وفضلت قيسا في الندى ... وأبوك في الحجج الخوالي
ولقد تبين عدل حكمك ... فيهمُ في كل مال
تمت مروءتكم وناغي ... عزكم غلب الجبال
قال: ثم أتى قتيبة كاشان مدينة فرغانة، وأتاه الجنود الذين وجههم إلى
الشاش وقد فتحوها وحرقوا أكثرها، وانصرف قتيبة إلى مرو وكتب الحجاج إلى
مُحَمَّد بن القاسم الثقفي أن وجه من قبلك من أهل العراق إلى قتيبة،
ووجه إليهم جهم بن زحر بن قيس، فإنه في أهل العراق خير منه في أهل
الشام وكان مُحَمَّد وادا الجهم بن زحر، فبعث سُلَيْمَان بن صعصعة وجهم
بن زحر، فلما ودعه جهم بكى وقال: يا جهم، إنه للفراق، قال: لا بد منه.
قال: وقدم على قتيبة سنة خمس وتسعين.
(6/484)
ولايه عثمان بن حيان
المري على المدينة
وفي هذه السنة قدم عثمان بن حيان المري المدينة واليا عليها من قبل
الوليد بن عبد الملك.
ذكر الخبر عن ولايته:
قد ذكرنا قبل سبب عزل الوليد عمر بن عبد العزيز عن المدينة ومكة
وتأميره على المدينة عثمان بن حيان، فزعم مُحَمَّد بن عمر أن عثمان قدم
المدينة أميرا عليها لليلتين بقيتا من شوال سنة أربع وتسعين، فنزل بها
دار مروان وهو يقول: محله والله مظعان، المغرور من غربك فاستقضى أبا
بكر بن حزم.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عبد الله بن
أبي حرة، عن عمه قال: رأيت عثمان بن حيان أخذ رياح بن عبيد الله ومنقذا
العراقي فحبسهم وعاقبهم، ثم بعث بهم في جوامع إلى الحجاج بن يوسف، ولم
يترك بالمدينة أحدا من أهل العراق تاجرا ولا غير تاجر، وأمر بهم أن
يخرجوا من كل بلد، فرأيتهم في الجوامع، وأتبع أهل الأهواء، وأخذ هيصما
فقطعه، ومنحورا- وكان من الخوارج- قال: وسمعته يخطب على المنبر يقول
بعد حمد الله:
أيها الناس، إنا وجدناكم أهل غش لأمير المؤمنين في قديم الدهر وحديثه،
وقد ضوى إليكم من يزيدكم خبالا أهل العراق هم أهل الشقاق والنفاق، هم
والله عش النفاق وبيضته التي تفلقت عنه والله ما جربت عراقيا قط إلا
وجدت أفضلهم عند نفسه الذي يقول في آل أبي طالب ما يقول، وما هم لهم
بشيعة، وإنهم لأعداء لهم ولغيرهم، ولكن لما يريد الله من سفك دمائهم
فإني والله لا أوتى بأحد آوى أحدا منهم، أو أكراه منزلا، ولا أنزله،
إلا هدمت منزله، وأنزلت به ما هو أهله ثم إن البلدان لما مصرها عمر بن
الخطاب وهو مجتهد على ما يصلح رعيته جعل يمر عليه من يريد الجهاد
فيستشيره: الشام أحب إليك أم العراق؟ فيقول:
الشام أحب إلي إني رأيت العراق داء عضالا، وبها فرخ الشيطان والله
(6/485)
لقد أعضلوا بي، وإني لأراني سأفرقهم في
البلدان، ثم أقول: لو فرقتهم لأفسدوا من دخلوا عليه بجدل وحجاج، وكيف؟
ولم؟ وسرعة وجيف في الفتنة، فإذا خبروا عند السيوف لم يخبر منهم طائل
لم يصلحوا على عثمان، فلقي منهم الأمرين، وكانوا أول الناس فتق هذا
الفتق العظيم، ونقضوا عرى الإسلام عروة عروة، وأنغلوا البلدان والله
إني لأتقرب إلى الله بكل ما أفعل بهم لما أعرف من رأيهم ومذاهبهم ثم
وليهم أمير المؤمنين معاوية فدامجهم فلم يصلحوا عليه، ووليهم رجل الناس
جلدا فبسط عليهم السيف، وأخافهم، فاستقاموا له أحبوا أو كرهوا، وذلك
أنه خبرهم وعرفهم.
أيها الناس، إنا والله ما رأينا شعارا قط مثل الأمن، ولا رأينا حلسا قط
شرا من الخوف فالزموا الطاعة، فان عندي يا اهل المدينة حبره من الخلاف
والله ما أنتم بأصحاب قتال، فكونوا من أحلاس بيوتكم وعضوا على النواجذ،
فإني قد بعثت في مجالسكم من يسمع فيبلغني عنكم أنكم في فضول كلام غيره
ألزم لكم، فدعوا عيب الولاة، فإن الأمر إنما ينقض شيئا شيئا حتى تكون
الفتنة وإن الفتنة من البلاء، والفتن تذهب بالدين وبالمال والولد.
قال: يقول القاسم بن مُحَمَّد: صدق في كلامه هذا الأخير، إن الفتنة
لهكذا قال مُحَمَّد بن عمر: وحدثني خالد بن القاسم، عن سعيد بن عمرو
الأنصاري، قال: رأيت منادي عثمان بن حيان ينادي عندنا: يا بني أمية بن
زيد، برئت ذمه ممن آوى عراقيا- وكان عندنا رجل من أهل البصرة له فضل
(6/486)
يقال له أبو سوادة، من العباد- فقال: والله
ما أحب أن أدخل عليكم مكروها، بلغوني مأمني، قلت: لا خير لك في الخروج
إن الله يدفع عنا وعنك قال: فأدخلته بيتي، وبلغ عثمان بن حيان فبعث
أحراسا فأخرجته إلى بيت أخي، فما قدروا على شيء وكان الذي سعى بي عدوا،
فقلت للأمير: أصلح الله الأمير! يؤتى بالباطل فلا تعاقب عليه قال:
فضرب الذي سعى بي عشرين سوطا وأخرجنا العراقي، فكان يصلي معنا ما يغيب
يوما واحدا، وحدب عليه أهل دارنا، فقالوا: نموت دونك! فما برح حتى عزل
الخبيث.
قال مُحَمَّد بن عمر: وحدثنا عبد الحكيم بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
أَبِي فَرْوَةَ، قَالَ:
إنما بعث الوليد عثمان بن حيان إلى المدينة لإخراج من بها من العراقيين
وتفريق أهل الأهواء ومن ظهر عليهم أو علا بأمرهم، فلم يبعثه واليا،
فكان لا يصعد المنبر ولا يخطب عليه، فلما فعل في أهل العراق ما فعل،
وفي منحور وغيره أثبته على المدينة، فكان يصعد على المنبر.
ذكر الخبر عن مقتل سعيد بن جبير
وفي هذه السنة قتل الحجاج سعيد بن جبير.
ذكر الخبر عن مقتله:
وكان سبب قتل الحجاج إياه خروجه عليه مع من خرج عليه مع عبد الرَّحْمَن
بن مُحَمَّدِ بْنِ الأشعث، وكان الحجاج جعله على عطاء الجند حين وجه
عبد الرحمن إلى رتبيل لقتاله، فلما خلع عبد الرحمن الحجاج كان سعيد
فيمن خلعه معه، فلما هزم عبد الرحمن وهرب إلى بلاد رتبيل هرب سعيد.
فحدثنا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عياش،
قال: كتب الحجاج إلى فلان وكان على أصبهان- وكان سعيد، قال الطبري:
أظنه أنه لما هرب
(6/487)
من الحجاج ذهب إلى أصبهان فكتب إليه-: أن
سعيدا عندك فخذه فجاء الأمر إلى رجل تحرج، فأرسل إلى سعيد: تحول عني،
فتنحى عنه، فأتى أذربيجان، فلم يزل بأذربيجان فطال عليه السنون، واعتمر
فخرج إلى مكة فأقام بها، فكان أناس من ضربه يستخفون فلا يخبرون
بأسمائهم قال: فقال أبو حصين وهو يحدثنا هذا: فبلغنا أن فلانا قد أمر
على مكة، فقلت له: يا سعيد، إن هذا الرجل لا يؤمن، وهو رجل سوء، وأنا
أتقيه عليك، فاظعن واشخص، فقال: يا أبا حصين، قد والله فررت حتى
استحييت من الله! سيجيئني ما كتب الله لي قلت:
أظنك والله سعيدا كما سمتك أمك قال: فقدم ذلك الرجل إلى مكة، فأرسل
فأخذ فلان له وكلمه، فجعل يديره وذكر أبو عاصم عن عمر بن قيس، قال: كتب
الحجاج إلى الوليد: أن أهل النفاق والشقاق قد لجئوا إلى مكة، فإن رأى
أمير المؤمنين أن يأذن لي فيهم! فكتب الوليد إلى خالد بن عبد الله
القسري، فأخذ عطاء وسعيد بن جبير ومجاهد وطلق بن حبيب وعمرو بن دينار،
فأما عمرو بن دينار وعطاء فأرسلا لأنهما مكيان، وأما الآخرون فبعث بهم
إلى الحجاج، فمات طلق في الطريق، وحبس مجاهد حتى مات الحجاج.
وقتل سعيد بن جبير.
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ، قال:
حدثنا الأشجعي، قال: لما أقبل الحرسيان بسعيد بن جبير نزل منزلا قريبا
من الربذة، فانطلق أحد الحرسيين في حاجته وبقي الآخر، فاستيقظ الذي
عنده، وقد رأى رؤيا، فقال: يا سعيد، إني أبرأ إلى الله من دمك! انى
رايت في منامي، فقيل لي: ويلك! تبرأ من دم سعيد بن جبير اذهب حيث شئت
لا أطلبك أبدا، فقال سعيد: أرجو العافية وأرجو وأبى حتى
(6/488)
جاء ذاك، فنزلا من الغد، فأري مثلها، فقيل:
أبرأ من دم سعيد.
فقال: يا سعيد، اذهب حيث شئت، إني أبرأ إلى الله من دمك، حتى جاء به.
فلما جاء به إلى داره التي كان فيها سعيد وهي دارهم هذه، حَدَّثَنَا
أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ، قال: حدثنا يزيد بن
أبي زياد مولى بني هاشم قال: دخلت عليه في دار سعيد هذه، جيء به مقيدا
فدخل عليه قراء أهل الكوفة قلت: يا أبا عبد الله، فحدثكم؟
قال: إي والله ويضحك، وهو يحدثنا، وبنية له في حجره، فنظرت نظرة فأبصرت
القيد فبكت، فسمعته يقول: أي بنية لا تطيري، إياك- وشق والله عليه-
فاتبعناه نشيعه، فانتهينا به إلى الجسر، فقال الحرسيان: لا نعبر به
أبدا حتى يعطينا كفيلا، نخاف أن يغرق نفسه.
قال: قلنا: سعيد يغرق نفسه! فما عبروا حتى كفلنا به.
قال وهب بن جرير: حَدَّثَنَا أبي، قال: سمعت الفضل بن سويد قال: بعثني
الحجاج في حاجة، فجيء بسعيد بن جبير، فرجعت فقلت: لأنظرن ما يصنع، فقمت
على رأس الحجاج، فقال له الحجاج:
يا سعيد، ألم أشركك في أمانتي! ألم أستعملك! ألم أفعل! حتى ظننت أنه
يخلي سبيله، قال: بلى، قال: فما حملك على خروجك علي؟
قال: عزم علي، قال: فطار غضبا وقال: هيه! رأيت لعزمة عدو الرحمن عليك
حقا، ولم تر لله ولا لأمير المؤمنين ولا لي عليك حقا! اضربا عنقه،
فضربت عنقه، فندر رأسه عليه كمة بيضاء لا طيه صغيرة.
وحدثت عن أبي غسان مالك بن إسماعيل، قال: سمعت خلف بن خليفة يذكر عن
رجل قال: لما قتل سعيد بن جبير فندر رأسه لله، هلل ثلاثا:
مرة يفصح بها.
وفي الثنتين يقول مثل ذلك فلا يفصح بها وذكر أبو بكر الباهلي، قال:
سمعت أنس بن أبي شيخ، يقول: لما
(6/489)
أتي الحجاج بسعيد بن جبير، قال: لعن الله
ابن النصرانية- قال: يعني خالدا القسري، وهو الذي أرسل به من مكة- أما
كنت أعرف مكانه! بلى والله والبيت الذي هو فيه بمكة ثم أقبل عليه فقال:
يا سعيد، ما أخرجك علي؟ فقال: أصلح الله الأمير! إنما أنا امرؤ من
المسلمين يخطئ مرة ويصيب مرة، قال: فطابت نفس الحجاج، وتطلق وجهه، ورجا
أن يتخلص من أمره، قال: فعاوده في شيء، فقال له:
إنما كانت له بيعة في عنقي، قال: فغضب وانتفخ حتى سقط أحد طرفي ردائه
عن منكبه، فقال: يا سعيد، ألم أقدم مكة فقتلت ابن الزبير، ثم أخذت بيعة
أهلها، وأخذت بيعتك لأمير المؤمنين عبد الملك! قال:
بلى، قال: ثم قدمت الكوفة واليا على العراق فجددت لأمير المؤمنين
البيعة، فأخذت بيعتك له ثانية! قال: بلى، قال: فتنكث بيعتين لأمير
المؤمنين، وتفي بواحدة للحائك ابن الحائك! اضربا عنقه، قال: فإياه عنى
جرير بقوله:
يا رب ناكث بيعتين تركته ... وخضاب لحيته دم الأوداج
وذكر عتاب بن بشر، عن سالم الأفطس، قال: أتي الحجاج بسعيد بن جبير وهو
يريد الركوب، وقد وضع إحدى رجليه في الغرز- أو الركاب- فقال: والله لا
أركب حتى تبوء مقعدك من النار، اضربوا عنقه فضربت عنقه، فالتبس مكانه،
فجعل يقول: قيودنا قيودنا، فظنوا أنه قال: القيود التي على سعيد بن
جبير، فقطعوا رجليه من أنصاف ساقيه وأخذوا القيود.
قال مُحَمَّد بن حاتم: حدثنا عبد الملك بن عبد الله عن هلال بن خباب
قال: جيء بسعيد بن جبير إلى الحجاج فقال: اكتبت الى مصعب ابن الزبير؟
قال: بل كتب إلي مصعب، قال: والله لأقتلنك، قال:
(6/490)
إني إذا لسعيد كما سمتني أمي! قال: فقتله،
فلم يلبث بعده إلا نحوا من أربعين يوما، فكان إذا نام يراه في منامه
يأخذ بمجامع ثوبه فيقول:
يا عدو الله، لم قتلتني؟ فيقول: ما لي ولسعيد بن جبير! ما لي ولسعيد
ابن جبير! قال أبو جعفر: وكان يقال لهذه السنة سنة الفقهاء، مات فيها
عامة فقهاء أهل المدينة، مات في أولها علي بن الحسين ع، ثم عروة بن
الزبير، ثم سعيد بن المسيب، وأبو بكر بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ.
واستقضى الوليد في هذه السنة بالشام سُلَيْمَان بن حبيب.
واختلف فيمن أقام الحج للناس في هذه السنة، فَقَالَ أَبُو معشر- فِيمَا
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْن ثَابِت عمن ذكره، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى عنه-
قال: حج بالناس مسلمة بن عبد الملك سنة أربع وتسعين.
وقال الواقدي: حج بالناس سنة أربع وتسعين عبد العزيز بن الوليد بن عبد
الملك- قال: ويقال: مسلمة بن عبد الملك.
وكان العامل فيها على مكة خالد بن عبد الله القسري، وعلى المدينة عثمان
بن حيان المري، وعلى الكوفة زياد بن جرير، وعلى قضائها ابو بكر ابن أبي
موسى وعلى البصرة الجراح بن عبد الله وعلى قضائها عبد الرحمن ابن أذينة
وعلى خراسان قتيبة بن مسلم، وعلى مصر قرة بن شريك، وكان العراق والمشرق
كله إلى الحجاج
(6/491)
ثم دخلت
سنة خمس وتسعين
(ذكر الأحداث التي كانت فيها) ففيها كانت غزوة العباس بن الوليد بن عبد
الملك أرض الروم، ففتح الله على يديه ثلاثة حصون فيما قيل، وهي: طولس،
والمرزبانين، وهرقلة.
وفيها فتح آخر الهند إلا الكيرج والمندل.
وفيها بنيت واسط القصب في شهر رمضان وفيها انصرف موسى بن نصير إلى
إفريقية من الأندلس، وضحى بقصر الماء- فيما قيل- على ميل من القيروان.
بقية الخبر عن غزو الشاش
وفيها غزا قتيبة بن مسلم الشاش.
ذكر الخبر عن غزوته هذه:
رجع الحديث إلى حديث علي بن مُحَمَّد، قال: وبعث الحجاج جيشا من العراق
فقدموا على قتيبة سنة خمس وتسعين، فغزا، فلما كان بالشاش- أو بكشماهن-
أتاه موت الحجاج في شوال، فغمه ذلك، وقفل راجعا إلى مرو، وتمثل:
لعمري لنعم المرء من آل جعفر ... بحوران أمسى اعلقته الحبائل
فان تحى لا أملل حياتي وإن تمت ... فما في حياة بعد موتك طائل
قال: فرجع بالناس ففرقهم، فخلف في بخارى قوما، ووجه قوما إلى كس ونسف،
ثم أتى مرو فأقام بها، وأتاه كتاب الوليد: قد عرف أمير المؤمنين بلاءك
وجدك في جهاد أعداء المسلمين، وامير المؤمنين
(6/492)
رافعك وصانع بك كالذي يجب لك، فالمم مغازيك
وانتظر ثواب ربك، ولا تغب عن أمير المؤمنين كتبك: حتى كأني أنظر إلى
بلادك والثغر الذي أنت به.
وفيها مات الحجاج بن يوسف في شوال- وهو يومئذ ابن اربع وخمسين سنه
وقيل: ابن ثلاث وخمسين سنة- وقيل: كانت وفاته في هذه السنة لخمس ليال
بقين من شهر رمضان.
وفيها استخلف الحجاج لما حضرته الوفاة على الصلاة ابنه عبد الله بن
الحجاج وكانت إمرة الحجاج على العراق فيما قال الواقدي عشرين سنة وفي
هذه السنة افتتح العباس بن الوليد قنسرين وفيها قتل الوضاحي بأرض الروم
ونحو من ألف رجل معه.
وفيها- فيما ذكر- ولد المنصور عبد الله بن مُحَمَّد بن علي وفيها ولي
الوليد بن عبد الملك يزيد بن أبي كبشة على الحرب والصلاة بالمصرين:
الكوفة والبصرة، وولى خراجهما يزيد بن أبي مسلم.
وقيل: إن الحجاج كان استخلف حين حضرته الوفاة على حرب البلدين والصلاة
بأهلهما يزيد بن أبي كبشة، وعلى خراجهما يزيد بن أبي مسلم، فأقرهما
الوليد بعد موت الحجاج على ما كان الحجاج استخلفهما عليه وكذلك فعل
بعمال الحجاج كلهم، أقرهم بعده على أعمالهم التي كانوا عليها في حياته.
وحج بالناس في هذه السنة بشر بن الوليد بن عبد الملك، حدثني
(6/493)
بِذَلِكَ أَحْمَد بْن ثَابِت عمن ذكره، عن
إِسْحَاق بْن عِيسَى، عن أبي معشر.
وكذلك قال الواقدي.
وكان عمال الأمصار فِي هَذِهِ السنة هم العمال الَّذِينَ كَانُوا فِي
السنة الَّتِي قبلها، إلا ما كان من الكوفة والبصرة، فإنهما ضمتا إلى
من ذكرت بعد موت الحجاج.
(6/494)
|