تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ الطبري

خلافة عمر بن عبد العزيز
وفي هذه السنة استخلف عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم.
ذكر الخبر عن سبب استخلاف سُلَيْمَان إياه:
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: حدثنا محمد بن عمر، قال: حدثني الهيثم بن واقد، قال: استخلف عمر بن عبد العزيز بدابق يوم الجمعة لعشر مضين من صفر سنة تسع وتسعين.
قال مُحَمَّد بن عمر: حدثني داود بن خالد بن دينار، عن سهيل بن أبي سهيل قال: سمعت رجاء بن حيوة، يقول: لما كان يوم الجمعة لبس سُلَيْمَان بن عبد الملك ثيابا خضرا من خز، ونظر في المرآة، فقال: أنا والله الملك الشاب، فخرج إلى الصلاة فصلى بالناس الجمعة، فلم يرجع حتى وعك، فلما ثقل عهد في كتاب كتبه لبعض بنيه وهو غلام ولم يبلغ فقلت: ما تصنع يا أمير المؤمنين! إنه مما يحفظ الخليفة في قبره أن يستخلف على المسلمين الرجل الصالح فقال سُلَيْمَان: أنا أستخير الله وأنظر فيه ولم أعزم عليه، قال: فمكث يوما أو يومين، ثم خرقه، فدعاني، فقال: ما ترى في داود بن سُلَيْمَان؟ فقلت: هو غائب عنك بقسطنطينية وأنت لا تدري أحي هو أم ميت! فقال لي: فمن ترى؟ قلت: رأيك يا امير المؤمنين، وانا اريد أنظر من يذكر، قال: كيف ترى في عمر بن عبد العزيز؟ فقلت:
أعلمه والله خيرا فاضلا مسلما، فقال: هو والله على ذلك، ثم قال: والله لئن وليته ولم أول أحدا سواه لتكونن فتنة، ولا يتركونه أبدا يلي عليهم إلا أن يجعل أحدهم بعده، ويزيد بن عبد الملك غائب على الموسم، قال: فيزيد ابن عبد الملك أجعله بعده، فإن ذلك مما يسكنهم ويرضون به، قلت:
رأيك قال: فكتب

(6/550)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا كِتَابٌ مِنْ عبد الله سُلَيْمَان أمير المؤمنين لعمر بن عبد العزيز، إني قد وليتك الخلافة من بعدي، ومن بعده يزيد بن عبد الملك، فاسمعوا له وأطيعوا، واتقوا الله ولا تختلفوا فيطمع فيكم.
وختم الكتاب، وأرسل إلى كعب بن حامد العبسي صاحب شرطه فقال: مر أهل بيتي فليجتمعوا، فأرسل كعب إليهم أن يجتمعوا فاجتمعوا، ثم قال سُلَيْمَان لرجاء بعد اجتماعهم: اذهب بكتابي هذا إليهم فأخبرهم أن هذا كتابي، وأمرهم فليبايعوا من وليت فيه، ففعل رجاء، فلما قال رجاء ذلك لهم قالوا: ندخل فنسلم على أمير المؤمنين؟ قال: نعم، فدخلوا فقال لهم سُلَيْمَان في هذا الكتاب- وهو يشير لهم إليه وهم ينظرون إليه في يد رجاء ابن حيوة- عهدي، فاسمعوا وأطيعوا وبايعوا لمن سميت في هذا الكتاب.
فبايعوه رجلا رجلا، ثم خرج بالكتاب مختوما في يد رجاء بن حيوة.
قال رجاء: فلما تفرقوا جاءني عمر بن عبد العزيز فقال: أخشى أن يكون هذا أسند إلي شيئا من هذا الأمر، فأنشدك الله وحرمتي ومودتي إلا أعلمتني إن كان ذلك حتى أستعفيه الآن قبل أن تأتي حال لا أقدر فيها على ما أقدر عليه الساعة! قال رجاء: لا والله ما أنا بمخبرك حرفا، قال:
فذهب عمر غضبان.
قال رجاء: لقيني هشام بن عبد الملك، فقال: يا رجاء، إن لي بك حرمة ومودة قديمة، وعندي شكر، فأعلمني هذا الأمر، فإن كان إلي علمت، وإن كان إلى غيري تكلمت، فليس مثلي قصر به، فأعلمني فلك الله على الا أذكر من ذلك شيئا أبدا قال رجاء: فأبيت فقلت: والله لا أخبرك حرفا واحدا مما أسر إلي.
قال: فانصرف هشام وهو قد يئس، ويضرب بإحدى يديه على الأخرى وهو يقول: فإلى من إذا نحيت عني؟ أتخرج من بني عبد الملك؟ قال رجاء: ودخلت على سُلَيْمَان فإذا هو يموت، فجعلت إذا أخذته السكرة من

(6/551)


سكرات الموت حرفته إلى القبلة، فجعل يقول حين يفيق: لم يأن لذلك بعد يا رجاء، ففعلت ذلك مرتين، فلما كانت الثالثة قال: من الآن يا رجاء إن كنت تريد شيئا، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أن مُحَمَّدا عبده ورسوله.
قال: فحرفته ومات، فلما غمضته سجيته بقطيفة خضراء، وأغلقت الباب.
وأرسلت إلي زوجته تقول: كيف أصبح؟ فقلت: نائم، وقد تغطى، فنظر الرسول إليه مغطى بالقطيفة، فرجع فأخبرها فقبلت ذلك، وظنت أنه نائم، قال رجاء: وأجلست على الباب من أثق به، واوصيته الا يبرح حتى آتيه، ولا يدخل على الخليفة أحد قال: فخرجت فأرسلت إلى كعب بن حامد العبسي، فجمع أهل بيت أمير المؤمنين، فاجتمعوا في مسجد دابق، فقلت: بايعوا، فقالوا: قد بايعنا مرة ونبايع أخرى! قلت: هذا عهد أمير المؤمنين، فبايعوا على ما أمر به ومن سمى في هذا الكتاب المختوم، فبايعوا الثانية، رجلا رجلا قال رجاء:
فلما بايعوا بعد موت سُلَيْمَان رأيت أني قد أحكمت الأمر، قلت: قوموا إلى صاحبكم فقد مات، قالوا: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! وقرأت الكتاب عليهم، فلما انتهيت إلى ذكر عمر بن عبد العزيز نادى هشام بن عبد الملك: لا نبايعه أبدا، قلت: أضرب والله عنقك، قم فبايع، فقام يجر رجليه.
قال رجاء: وأخذت بضبعي عمر بن عبد العزيز فاجلسته لما وقع فيه وهشام يسترجع على المنبر وهو يسترجع لما أخطأه، فلما انتهى هشام إلى عمر قال عمر: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! حين صارت الى لكراهته إياها، والآخر يقول: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، حيث نحيت عني.
قال: وغسل سُلَيْمَان وكفن وصلى عليه عمر بن عبد العزيز، قال رجاء: فلما فرغ من دفنه أتي بمراكب الخلافة: البراذين والخيل والبغال ولكل دابة سائس، فقال: ما هذا! قالوا: مركب الخلافة، قال:

(6/552)


دابتي أوفق لي، وركب دابته قال: فصرفت تلك الدواب، ثم أقبل سائرا، فقيل: منزل الخلافة، فقال: فيه عيال أبي أيوب وفي فسطاطي كفاية حتى يتحولوا، فأقام في منزله حتى فرغوه بعد، قال رجاء: فلما كان المساء من ذلك اليوم قال: يا رجاء، ادع لي كاتبا، فدعوته وقد رأيت منه كل ما سرني، صنع في المراكب ما صنع، وفي منزل سُلَيْمَان، فقلت:
كيف يصنع الآن في الكتاب؟ أيصنع نسخا، أم ماذا؟ فلما جلس الكاتب أملى عليه كتابا واحدا من فيه إلى يد الكاتب بغير نسخة، فأملى أحسن إملاء وأبلغه وأوجزه، ثم أمر بذلك الكتاب أن ينسخ إلى كل بلد.
وبلغ عبد العزيز بن الوليد- وكان غائبا- موت سُلَيْمَان بن عبد الملك، ولم يعلم ببيعة الناس عمر بن عبد العزيز، وعهد سُلَيْمَان إلى عمر، فعقد لواء، ودعا إلى نفسه، فبلغته بيعة الناس عمر بعهد سُلَيْمَان، فأقبل حتى دخل على عمر بن عبد العزيز، فقال له عمر: قد بلغني أنك كنت بايعت من قبلك، وأردت دخول دمشق، فقال: قد كان ذاك، وذلك أنه بلغني أن الخليفة سُلَيْمَان لم يكن عقد لأحد، فخفت على الأموال أن تنتهب، فقال عمر: لو بويعت وقمت بالأمر ما نازعتك ذلك، ولقعدت في بيتي، فقال عبد العزيز:
ما أحب أنه ولي هذا الأمر غيرك وبايع عمر بن عبد العزيز قال: فكان يرجى لسُلَيْمَان بتوليته عمر بن عبد العزيز وترك ولده.
وفي هذه السنة وجه عمر بن عبد العزيز إلى مسلمة وهو بأرض الروم وأمره بالقفول منها بمن معه من المسلمين، ووجه إليه خيلا عتاقا وطعاما كثيرا، وحث الناس على معونتهم، وكان الذى وجه اليه الخيل العتاق- فيما قيل- خمسمائة فرس.
وفي هذه السنة أغارت الترك على أذربيجان، فقتلوا من المسلمين جماعة، ونالوا منهم، فوجه اليهم عمر بن عبد العزيز بن حاتم بن النعمان الباهلي،

(6/553)


فقتل أولئك الترك، فلم يفلت منهم إلا اليسير، فقدم منهم على عمر بخناصرة بخمسين أسيرا.
وفيها عزل عمر يزيد بن المهلب عن العراق، ووجه على البصرة وأرضها عدي بن أرطاة الفزاري، وبعث على الكوفة وأرضها عبد الحميد بن عبد الرحمن ابن زيد بن الخطاب الأعرج القرشي، من بني عدي بن كعب، وضم إليه أبا الزناد، فكان أبو الزناد كاتب عبد الحميد بن عبد الرحمن، وبعث عدي في أثر يزيد بن المهلب موسى بن الوجيه الحميري.
وحج بالناس في هذه السنة أبو بكر مُحَمَّد بن عمرو بن حزم، وكان عامل عمر على المدينة.
وكان عامل عمر على مكة في هذه السنة عبد العزيز بن عبد الله ابن خالد بن أسيد، وعلى الكوفة وأرضها عبد الحميد بن عبد الرحمن، وعلى البصرة وأرضها عدي بن أرطاة، وعلى خراسان الجراح بن عبد الله.
وعلى قضاء البصرة إياس بن معاوية بن قرة المزني، وقد ولى فيما ذكر قبله الحسن بن أبي الحسن، فشكا، فاستقصى إياس بن معاوية.
وكان على قضاء الكوفة في هذه- السنة فيما قيل- عامر الشعبي وكان الواقدي يقول: كان الشعبي على قضاء الكوفة أيام عمر بن عبد العزيز من قبل عبد الحميد بن عبد الرحمن، والحسن بن أبي الحسن البصري على قضاء البصرة من قبل عدي بن أرطاة، ثم إن الحسن استعفى من القضاء عديا، فأعفاه وولى اياسا

(6/554)


ثم دخلت

سنة مائة
(ذكر الخبر عن الأحداث الَّتِي كَانَتْ فِيهَا)

فمن ذلك خروج الخارجة التي خرجت على عمر بن عبد العزيز بالعراق.
ذكر الخبر عن أمرهم: ذكر مُحَمَّد بن عمر أن ابن أبي الزناد حدثه، قال خرجت حرورية بالعراق، فكتب عمر بن عبد العزيز إلى عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ ابن الخطاب عامل العراق يأمره أن يدعوهم إلى العمل بكتاب الله وسنه نبيه ص فلما أعذر في دعائهم بعث إليهم عبد الحميد جيشا فهزمتهم الحرورية، فبلغ عمر، فبعث إليهم مسلمة بن عبد الملك في جيش من أهل الشام جهزهم من الرقة، وكتب إلى عبد الحميد: قد بلغني ما فعل جيشك جيش السوء، وقد بعثت مسلمة بن عبد الملك، فخل بينه وبينهم.
فلقيهم مسلمة في أهل الشام، فلم ينشب أن أظهره الله عليهم 4
. خبر خروج شوذب الخارجي
وذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى أن الذي خرج على عبد الحميد بن عبد الرحمن بالعراق في خلافة عمر بن عبد العزيز شوذب- واسمه بسطام من بني يشكر- لكان مخرجه بجوخى في ثمانين فارسا أكثرهم من ربيعة، فكتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد، الا تحركهم إلا أن يسفكوا دما، أو يفسدوا في الأرض، فإن فعلوا فحل بينهم وبين ذلك، وانظر رجلا صليبا حازما فوجهه إليهم، ووجه معه جندا، وأوصه بما أمرتك به.
فعقد عبد الحميد لمُحَمَّد بن جرير بن عبد الله البجلي في الفين من أهل الكوفة، وأمره بما أمره به عمر، وكتب عمر إلى بسطام يدعوه ويسأله عن مخرجه، فقدم كتاب عمر عليه، وقد قدم عليه مُحَمَّد بن جرير، فقام بإزائه لا يحركه

(6/555)


ولا يهيجه، فكان في كتاب عمر إليه: أنه بلغني أنك خرجت غضبا لله ولنبيه، ولست بأولى بذلك مني، فهلم أناظرك فإن كان الحق بأيدينا دخلت فيما دخل فيه الناس، وإن كان في يدك نظرنا في أمرنا فلم يحرك بسطام شيئا، وكتب إلى عمر: قد أنصفت، وقد بعثت إليك رجلين يدارسانك ويناظرانك- قال أبو عبيدة: أحد الرجلين اللذين بعثهما شوذب إلى عمر ممزوج مولى بني شيبان، والآخر من صليبة بني يشكر- قال: فيقال: أرسل نفرا فيهم هذان، فأرسل إليهم عمر: أن اختاروا رجلين، فاختاروهما، فدخلا عليه فناظراه، فقالا له: أخبرنا عن يزيد لم تقره خليفة بعدك؟ قال:
صيره غيري، قالا: أفرأيت لو وليت مالا لغيرك ثم وكلته إلى غير مأمون عليه، أتراك كنت أديت الأمانة إلى من ائتمنك! قال: فقال: انظراني ثلاثا، فخرجا من عنده، وخاف بنو مروان أن يخرج ما عندهم وفي أيديهم من الأموال، وأن يخلع يزيد، فدسوا إليه من سقاه سما، فلم يلبث بعد خروجهما من عنده إلا ثلاثا حتى مات.
وفي هذه السنة أغزى عمر بن عبد العزيز الوليد بن هشام المعيطى وعمرو ابن قيس الكندي من أهل حمص الصائفة.
وفيها شخص عمر بن هبيرة الفزاري إلى الجزيرة عاملا لعمر عليها
. خبر القبض على يزيد بن المهلب
وفي هذه السنة حمل يزيد بن المهلب من العراق إلى عمر بن عبد العزيز.
ذكر الخبر عن سبب ذلك، وكيف وصل إليه حتى استوثق منه:
اختلف أهل السير في ذلك، فأما هشام بن مُحَمَّد فإنه ذكر عن أبي مخنف أن عمر بن عبد العزيز لما جاء يزيد بن المهلب فنزل واسطا، ثم ركب السفن يريد البصرة، بعث عدي بن أرطاة إلى البصرة أميرا، فبعث عدي موسى بن الوجيه الحميري، فلحقه في نهر معقل عند الجسر، جسر

(6/556)


البصرة فأوثقه، ثم بعث به إلى عمر بن عبد العزيز، فقدم به عليه موسى ابن الوجيه، فدعا به عمر بن عبد العزيز- وقد كان عمر يبغض يزيد وأهل بيته، ويقول: هؤلاء جبابرة، ولا أحب مثلهم، وكان يزيد بن المهلب يبغض عمر ويقول: إني لأظنه مرائيا، فلما ولي عمر عرف يزيد أن عمر كان من الرياء بعيدا ولما دعا عمر يزيد سأله عن الأموال التي كتب بها إلى سُلَيْمَان بن عبد الملك، فقال: كنت من سُلَيْمَان بالمكان الذي قد رأيت، وإنما كتبت إلى سُلَيْمَان لأسمع الناس به، وقد علمت أن سُلَيْمَان لم يكن ليأخذني بشيء سمعت، ولا بأمر أكرهه، فقال له: ما أجد في أمرك إلا حبسك، فاتق الله وأد ما قبلك، فإنها حقوق المسلمين، ولا يسعني تركها، فرده إلى محبسه، وبعث إلى الجراح بن عبد الله الحكمي فسرحه إلى خراسان، وأقبل مخلد بن يزيد من خراسان يعطي الناس، ولا يمر بكورة إلا أعطاهم فيها أموالا عظاما ثم خرج حتى قدم على عمر بن عبد العزيز، فدخل عليه فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إن الله يا أمير المؤمنين صنع لهذه الأمة بولايتك عليها، وقد ابتلينا بك، فلا نكن أشقى الناس بولايتك، علام تحبس هذا الشيخ! أنا أتحمل ما عليه، فصالحني على ما إياه تسأل، فقال عمر: لا الا ان تحمل جميع ما نسأله اياه، فقال: يا أمير المؤمنين، إن كانت لك بينة فخذ بها، وإن لم تكن بينة فصدق مقالة يزيد، وإلا فاستحلفه، فإن لم يفعل فصالحه.
فقال له عمر: ما أجد إلا أخذه بجميع المال فلما خرج مخلد قال: هذا خير عندي من أبيه، فلم يلبث مخلدا إلا قليلا حتى مات، فلما أبى يزيد أن يؤدي إلى عمر شيئا ألبسه جبة من صوف، وحمله على جمل، ثم قال: سيروا به إلى دهلك، فلما أخرج فمر به على الناس أخذ يقول: ما لي عشيرة، ما لي يذهب بي إلى دهلك! إنما يذهب إلى دهلك بالفاسق المريب الخارب، سبحان الله! أما لي عشيرة! فدخل على عمر سلامة بن نعيم

(6/557)


الخولاني، فقال: يا أمير المؤمنين، اردد يزيد إلى محبسه، فإني أخاف إن أمضيته أن ينتزعه قومه، فإني قد رأيت قومه غضبوا له فرده إلى محبسه، فلم يزل في محبسه ذلك حتى بلغه مرض عمر.
وأما غير أبي مخنف فإنه قال: كتب عمر بن عبد العزيز الى عدى ابن أرطاة يأمره بتوجيه يزيد بن المهلب، ودفعه إلى من بعين التمر من الجند، فوجهه عدي بن أرطاة مع وكيع بن حسان بن أبي سود التميمي مغلولا مقيدا في سفينة، فلما انتهى به إلى نهر أبان، عرض لوكيع ناس من الأزد لينتزعوه منه، فوثب وكيع فانتضى سيفه، وقطع قلس السفينة، وأخذ سيف يزيد ابن المهلب، وحلف بطلاق امرأته ليضربن عنقه إن لم يتفرقوا، فناداهم يزيد بن المهلب، فأعلمهم يمين وكيع، فتفرقوا، ومضى به حتى سلمه إلى الجند الذين بعين التمر، ورجع وكيع إلى عدي بن أرطاة، ومضى الجند الذين بعين التمر بيزيد بن المهلب إلى عمر بن عبد العزيز، فحبسه في السجن
. عزل الجراح بن عبد الله عن خراسان
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة عزل عمر بن عبد العزيز الجراح بن عبد الله عن خراسان، وولاها عبد الرحمن بن نعيم القشيري، فكانت ولاية الجراح بخراسان سنة وخمسة أشهر، قدمها سنة تسع وتسعين، وخرج منها لأيام بقيت من شهر رمضان سنة مائة.
(ذكر سبب عزل عمر إياه:) وكان سبب ذلك- فيما ذكر علي بْن مُحَمَّد عن كليب بن خلف عن إدريس بن حنظلة، والمفضل عن جده وعلي بن مجاهد عن خالد ابن عبد العزيز، أن يزيد بن المهلب ولى جهم بن زحر جرجان حين شخص عنها، فلما كان من أمر يزيد ما كان وجه عامل العراق من العراق واليا على جرجان، فقدم الوالي عليها من العراق، فأخذه جهم فقيده وقيد

(6/558)


رهطا قدموا معه، ثم خرج في خمسين من اليمن يريد الجراح بخراسان، فأطلق أهل جرجان عاملهم، فقال الجراح لجهم: لولا أنك ابن عمي لم أسوغك هذا، فقال له جهم: ولولا أنك ابن عمي لم آتك- وكان جهم سلف الجراح من قبل ابنتي حصين بن الحارث وابن عمه، لأن الحكم وجعفي ابنا سعد- فقال له الجراح: خالفت إمامك، وخرجت عاصيا، فاغز لعلك أن تظفر، فيصلح أمرك عند خليفتك فوجهه إلى الختل، فخرج، فلما قرب منهم سار متنكرا في ثلاثة، وخلف في عسكره ابن عمه القاسم بن حبيب- وهو ختنه على ابنته أم الأسود- حتى دخل على صاحب الختل فقال له:
أخلني، فأخلاه، فاعتزى، فنزل صاحب الختل عن سريره وأعطاه حاجته- ويقولون: الختل موالي النعمان- وأصاب مغنما، فكتب الجراح إلى عمر: وأوفد وفدا، رجلين من العرب، ورجلا من الموالي من بني ضبة ويكنى أبا الصيداء واسمه صالح بن طريف، كان فاضلا في دينه وقال بعضهم: المولى سعيد أخو خالد أو يزيد النحوي فتكلم العربيان والآخر جالس، فقال له عمر: أما أنت من الوفد؟ قال: بلى، قال: فما يمنعك من الكلام! قال:
يا أمير المؤمنين، عشرون ألفا من الموالي يغزون بلا عطاء ولا رزق، ومثلهم قد أسلموا من أهل الذمة يؤخذون بالخراج، وأميرنا عصبي جاف يقوم على منبرنا، فيقول: أتيتكم حفيا، وأنا اليوم عصبي! والله لرجل من قومي أحب إلي من مائة من غيرهم وبلغ من جفائه أن كم درعه يبلغ نصف درعه، وهو بعد سيف من سيوف الحجاج، قد عمل بالظلم والعدوان فقال عمر:
إذن مثلك فليوفد.
وكتب عمر إلى الجراح: أنظر من صلى قبلك إلى القبلة، فضع عنه الجزية فسارع الناس إلى الإسلام، فقيل للجراح: إن الناس قد سارعوا إلى الإسلام، وإنما ذلك نفورا من الجزية، فامتحنهم بالختان.
فكتب الجراح بذلك إلى عمر، فكتب إليه عمر: إن الله بعث محمدا ص داعيا ولم يبعثه خاتنا وقال عمر: ابغوني رجلا صدوقا،

(6/559)


أسأله عن خراسان، فقيل له: قد وجدته، عليك بأبي مجلز فكتب إلى الجراح: أن أقبل واحمل أبا مجلز وخلف على حرب خراسان عبد الرحمن بن نعيم الغامدي وعلى جزيتها عبيد الله- أو عبد الله- بن حبيب.
فخطب الجراح فقال: يا أهل خراسان، جئتكم في ثيابي هذه التي علي وعلى فرسي، لم أصب من مالكم إلا حلية سيفي- ولم يكن عنده إلا فرس قد شاب وجهه، وبغلة قد شاب وجهها، فخرج في شهر رمضان واستخلف عبد الرحمن بن نعيم، فلما قدم قال له عمر: متى خرجت؟ قال: في شهر رمضان، قال: قد صدق من وصفك بالجفاء، هلا أقمت حتى تفطر ثم تخرج! وكان الجراح يقول: أنا والله عصبي عقبي- يريد من العصبية وكان الجراح لما قدم خراسان كتب إلى عمر: أني قدمت خراسان فوجدت قوما قد أبطرتهم الفتنة فهم ينزون فيها نزوا، أحب الأمور إليهم أن تعود ليمنعوا حق الله عليهم، فليس يكفهم إلا السيف والسوط، وكرهت الإقدام على ذلك إلا بإذنك فكتب إليه عمر:
يا بن أم الجراح، أنت أحرص على الفتنة منهم، لا تضربن مؤمنا ولا معاهدا سوطا إلا في حق، واحذر القصاص فإنك صائر إلى من يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ، وتقرأ كتابا لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها.
ولما أراد الجراح الشخوص من خراسان إلى عمر بن عبد العزيز أخذ عشرين ألفا وقال بعضهم: عشرة آلاف من بيت المال وقال: هي علي سلفا حتى أؤديها إلى الخليفة، فقدم على عمر، فقال له عمر: متى خرجت؟ قال:
لأيام بقين من شهر رمضان، وعلي دين فاقضه، قال: لو أقمت حتى تفطر ثم خرجت قضيت عنك فأدى عنه قومه في أعطياتهم.

(6/560)


ذكر الخبر عن سبب تولية عمر بن عبد العزيز عبد الرحمن بن نعيم وعبد الرحمن بن عبد الله القشيري خراسان
وكان سبب ذلك- فيما ذكر لي- أن الجراح بن عبد الله لما شكي، واستقدمه عمر بن عبد العزيز، فقدم عليه عزله عن خراسان لما قد ذكرت قبل.
ثم إن عمر لما أراد استعمال عامل على خراسان، قال- فيما ذكر على ابن مُحَمَّد عن خارجة بن مصعب الضبعي وعبد الله بن المبارك وغيرهما: ابغوني رجلا صدوقا أسأله عن خراسان، فقيل له: أبو مجلز لاحق بن حميد، فكتب فيه، فقدم عليه- وكان رجلا لا تأخذه العين- فدخل أبو مجلز على عمر في جفة الناس، فلم يثبته عمر، وخرج مع الناس فسأل عنه فقيل:
دخل مع الناس ثم خرج، فدعا به عمر فقال: يا أبا مجلز، لم أعرفك، قال:
فهلا أنكرتني إذ لم تعرفني! قال: أخبرني عن عبد الرحمن بن عبد الله، قال:
يكافئ الأكفاء، ويعادي الأعداء، وهو أمير يفعل ما يشاء، ويقدم إن وجد من يساعده قال: عبد الرحمن بن نعيم، قال: ضعيف لين يحب العافية، وتأتي له، قال: الذي يحب العافية وتأتي له أحب إلي، فولاه الصلاة والحرب، وولى عبد الرحمن القشيري ثم أحد بني الأعور بن قشير الخراج، وكتب إلى أهل خراسان: أني استعملت عبد الرحمن على حربكم وعبد الرحمن بن عبد الله على خراجكم عن غير معرفة مني بهما ولا اختيار، إلا ما أخبرت عنهما، فإن كانا على ما تحبون فاحمدوا الله، وإن كانا على غير ذلك فاستعينوا بالله،.
ولا حول ولا قوة إلا بالله قال علي: وحدثنا أبو السري الأزدي، عن إبراهيم الصائغ، أن عمر ابن عبد العزيز كتب إلى عبد الرحمن بن نعيم:
أما بعد، فكن عبدا ناصحا لله في عباده، ولا يأخذك في الله لومة لائم، فإن الله أولى بك من الناس، وحقه عليك أعظم، فلا تولين شيئا من أمر المسلمين إلا المعروف بالنصيحة لهم والتوفير عليهم، وأداء الأمانة فيما استرعي،

(6/561)


وإياك أن يكون ميلك ميلا إلى غير الحق، فان الله لا تخفى عليه خافية، ولا تذهبن عن الله مذهبا، فإنه لا ملجأ من الله إلا إليه.
قال علي، عن مُحَمَّد الباهلي، وأبي نهيك بن زياد وغيرهما: إن عمر بن عبد العزيز بعث بعهد عبد الرحمن بن نعيم على حرب خراسان وسجستان مع عبد الله بن صخر القرشي، فلم يزل عبد الرحمن بن نعيم على خراسان حتى مات عمر بن عبد العزيز، وبعد ذلك حتى قتل يزيد بن المهلب، ووجه مسلمة سعيد بن عبد العزيز بن الحارث بن الحكم، فكانت ولايته أكثر من سنة ونصف، وليها في شهر رمضان من سنة مائة، وعزل سنة اثنتين ومائة، بعد ما قتل يزيد بن المهلب.
قال علي: كانت ولاية عبد الرحمن بن نعيم خراسان ستة عشر شهرا