تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ الطبري

ثم دخلت

سنة ست وأربعين ومائة
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)

خبر استتمام بناء بغداد وتحول ابى جعفر إليها
فمما كان فيها من ذلك استتمام أبي جعفر مدينته بغداد، ذكر محمد بْن عمر أن أبا جعفر تحول من مدينة ابن هبيرة الى بغداد في صفر سنة ست وأربعين ومائة، فنزلها وبنى مدينتها.
ذكر الخبر عن صفة بنائه إياها:
قد ذكرنا قبل السبب الباعث كان لأبي جعفر على بنائها، والسبب الذي من أجله اختار البقعة التي بنى فيها مدينته، ونذكر الآن صفة بنائه إياها.
ذكر عن رشيد أبي داود بْن رشيد أن أبا جعفر شخص إلى الكوفة حين بلغه خروج محمد بْن عبد الله، وقد هيأ لبناء مدينة بغداد ما يحتاج إليه من خشب وساج وغير ذلك، واستخلف حين شخص على إصلاح ما أعد لذلك مولى له يقال له أسلم، فبلغ أسلم أن إبراهيم بْن عبد الله قد هزم عسكر أبي جعفر، فأحرق ما كان خلفه عليه أبو جعفر من ساج وخشب، خوفا أن يؤخذ منه ذلك، إذا غلب مولاه، فلما بلغ أبا جعفر ما فعل من ذلك مولاه أسلم كتب إليه يلومه على ذلك، فكتب إليه أسلم يخبر أنه خاف أن يظفر بهم إبراهيم فيأخذه، فلم يقل له شيئا.
وذكر عن اسحق بْن إبراهيم الموصلي، عن أبيه، قَالَ: لما أراد المنصور بناء مدينة بغداد، شاور أصحابه فيها، وكان ممن شاوره فيها خالد بْن برمك، فأشار بها، فذكر عن علي بْن عصمة أن خالد بْن برمك خط مدينة أبي جعفر له، وأشار بها عليه، فلما احتاج إلى الأنقاض، قَالَ له: ما ترى في نقض بناء مدينة إيوان كسرى بالمدائن وحمل نقضه إلى مدينتي هذه؟ قَالَ: لا أرى ذلك يا أمير المؤمنين، قَالَ: ولم؟ قَالَ: لأنه علم من أعلام الإسلام، يستدل به الناظر إليه على أنه لم يكن ليزال مثل أصحابه عنه بأمر دنيا، وإنما

(7/650)


هو على أمر دين، ومع هذا يا أمير المؤمنين، فإن فيه مصلى علي بْن أبي طالب صلوات الله عليه، قَالَ: هيهات يا خالد! أبيت إلا الميل إلى أصحابك العجم! وأمر أن ينقض القصر الأبيض، فنقضت ناحية منه، وحمل نقضه، فنظر في مقدار ما يلزمهم للنقض والحمل فوجدوا ذلك أكثر من ثمن الجديد لو عمل، فرفع ذلك إلى المنصور، فدعا بخالد بْن برمك، فأعلمه ما يلزمهم في نقضه وحمله، وقال: ما ترى؟ قَالَ: يا أمير المؤمنين، قد كنت ارى قبل الا تفعل، فاما إذ فعلت فإني أرى أن تهدم الآن حتى تلحق بقواعده، لئلا يقال: إنك قد عجزت عن هدمه فأعرض المنصور عن ذلك، وأمر الا يهدم فقال موسى بْن داود المهندس: قَالَ لي المأمون- وحدثني بهذا الحديث: يا موسى إذا بنيت لي بناء فاجعله ما يعجز عن هدمه ليبقى طلله ورسمه وذكر أن أبا جعفر احتاج إلى الأبواب للمدينة، فزعم أبو عبد الرحمن الهماني أن سليمان بْن داود كان بنى مدينة بالقرب من موضع بناء الحجاج واسطا يقال لها الزندورد، واتخذت له الشياطين لها خمسة أبواب من حديد لا يمكن الناس اليوم عمل مثلها، فنصبها عليها، فلم تزل عليها الى ان بنى الحجاج واسطا، وخربت تلك المدينة، فنقل الحجاج أبوابها فصيرها على مدينته بواسط، فلما بنى أبو جعفر المدينة أخذ تلك الأبواب فنصبها على المدينة، فهي عليها إلى اليوم وللمدينة ثمانية أبواب: أربعة داخلة وأربعة خارجة، فصار على الداخلة أربعة أبواب من هذه الخمسة، وعلى باب القصر الخارج الخامس منها، وصير على باب خراسان الخارج بابا جيء به من الشام من عمل الفراعنة، وصير على باب الكوفة الخارج بابا جيء به من الكوفة، كان عمله خالد بْن عبد الله القسري، وأمر باتخاذ باب لباب الشام، فعمل ببغداد، فهو أضعف الأبواب كلها وبنيت المدينة مدورة لئلا يكون الملك إذا نزل وسطها إلى موضع منها أقرب منه إلى موضع، وجعل أبوابها أربعة، على تدبير العساكر في الحروب، وعمل لها سورين، فالسور الداخل أطول من السور الخارج،

(7/651)


وبنى قصره في وسطها، والمسجد الجامع حول القصر.
وذكر أن الحجاج بْن أرطاة هو الذي خط مسجد جامعها بأمر أبي جعفر، ووضع أساسه وقيل أن قبلتها على غير صواب وأن المصلي فيه يحتاج أن ينحرف إلى باب البصرة قليلا، وأن قبلة مسجد الرصافة أصوب من قبلة مسجد المدينة، لأن مسجد المدينة بني على القصر، ومسجد الرصافة بني قبل القصر وبني القصر عليه، فلذلك صار كذلك.
وذكر يحيى بْن عبد الخالق أن أباه حدثه أن أبا جعفر ولى كل ربع من المدينة قائدا يتولى الاستحثاث على الفراغ من بناء ذلك الربع.
وذكر هارون بْن زياد بْن خالد بْن الصلت، قَالَ: أخبرني أبي، قَالَ:
ولى المنصور خالد بْن الصلت النفقة على ربع من أرباع المدينة وهي تبنى.
قَالَ خالد: فلما فرغت من بناء ذلك الربع رفعت إليه جماعة النفقة عليه، فحسبها بيده، فبقي علي خمسة عشر درهما، فحبسني بها في حبس الشرقية أياما حتى أديتها، وكان اللبن الذي صنع لبناء المدينة اللبنة منها ذراعا في ذراع.
وذكر عن بعضهم أنه هدم من السور الذي يلي باب المحول قطعة فوجد فيها لبنة مكتوبا عليها بمغرة وزنها مائة وسبعة عشر رطلا قَالَ: فوزناها فوجدناها على ما كان مكتوبا عليها من الوزن وكانت مقاصير جماعة من قواد أبي جعفر وكتابه تشرع أبوابها إلى رحبة المسجد.
وذكر عن يحيى بْن الحسن بْن عبد الخالق، خال الفضل بْن الربيع، أن عيسى بْن علي شكا إلى أبي جعفر، فقال: يا أمير المؤمنين، إن المشي يشق علي من باب الرحبة إلى القصر، وقد ضعفت قَالَ: فتحمل في محفة، قَالَ: إني أستحيي من الناس، قَالَ: وهل بقي احد يستحيا منه! قَالَ:
يا أمير المؤمنين، فأنزلني منزلة راوية من الروايا، قَالَ: وهل يدخل المدينة راوية أو راكب؟ قَالَ: فأمر الناس بتحويل أبوابهم إلى فصلان الطاقات، فكان لا يدخل الرحبة أحد إلا ماشيا قَالَ: ولما أمر المنصور بسد الأبواب مما يلي الرحبة وفتحها إلى الفصلان صيرت الأسواق في طاقات المدينة الأربع،

(7/652)


في كل واحد سوق، فلم تزل على ذلك مدة حتى قدم عليه بطريق من بطارقة الروم وافدا، فأمر الربيع أن يطوف به في المدينة وما حولها ليرى العمران والبناء، فطاف به الربيع، فلما انصرف قَالَ: كيف رأيت مدينتي- وقد كان أصعد إلى سور المدينة وقباب الأبواب؟ قَالَ: رأيت بناء حسنا، إلا أني قد رأيت أعداءك معك في مدينتك، قَالَ: ومن هم؟ قَالَ: السوقة، قَالَ: فأضب عليها أبو جعفر، فلما انصرف البطريق أمر بإخراج السوق من المدينة، وتقدم إلى إبراهيم بْن حبيش الكوفي، وضم إليه جواس بْن المسيب اليماني مولاه، وأمرهما أن يبنيا الأسواق ناحية الكرخ، ويجعلاها صفوفا وبيوتا لكل صنف، وأن يدفعاها إلى الناس فلما فعلا ذلك حول السوق من المدينة إليها، ووضع عليهم الغلة على قدر الذرع، فلما كثر الناس بنوا في مواضع من الأسواق لم يكن رغب في البناء فيها إبراهيم بْن حبيش وجواس، لأنها لم تكن على تقديم الصفوف من أموالهم، فألزموا من الغلة أقل مما ألزم الذين نزلوا في بناء السلطان.
وذكر بعضهم أن السبب في نقل أبي جعفر التجار من المدينة إلى الكرخ وما قرب منها مما هو خارج المدينة، أنه قيل لأبي جعفر: إن الغرباء وغيرهم يبيتون فيها، ولا يؤمن أن يكون فيهم جواسيس، ومن يتعرف الأخبار، أو أن يفتح أبواب المدينة ليلا لموضع السوق، فأمر بإخراج السوق من المدينة وجعلها للشرط والحرس، وبنى للتجار بباب طاق الحراني وباب الشام والكرخ.
وذكر عن الفضل بْن سليمان الهاشمي، عن أبيه، أن سبب نقله الأسواق من مدينة السلام ومدينة الشرقية إلى باب الكرخ وباب الشعير وباب المحول، أن رجلا كان يقال له أبو زكرياء يحيى بْن عبد الله، ولاه المنصور حسبة بغداد والأسواق سنة سبع وخمسين ومائة، والسوق في المدينة، وكان المنصور يتبع من خرج مع محمد وإبراهيم ابني عبد الله بْن حسن، وقد كان لهذا المحتسب معهم سبب، فجمع على المنصور جماعة استغواهم من السفلة، فشغبوا واجتمعوا، فأرسل المنصور إليهم أبا العباس الطوسي فسكنهم، وأخذ

(7/653)


أبا زكرياء فحبسه عنده، فأمره أبو جعفر بقتله، فقتله بيده حاجب كان لأبي العباس الطوسي يقال له موسى، على باب الذهب في الرحبة بأمر المنصور، وأمر أبو جعفر بهدم ما شخص من الدور في طريق المدينة، ووضع الطريق على مقدار أربعين ذراعا، وهدم ما زاد على ذلك المقدار، وأمر بنقل الأسواق إلى الكرخ.
وذكر عن أبي جعفر أنه لما أمر بإخراج التجار من المدينة إلى الكرخ كلمه أبان بْن صدقة في بقال، فأجابه إليه على ألا يبيع إلا الخل والبقل وحده، ثم أمر أن يجعل في كل ربع بقال واحد على ذلك المثال.
وذكر عن علي بْن محمد أن الفضل بْن الربيع، حدثه أن المنصور لما فرغ من بناء قصره بالمدينة، دخله فطاف فيه، واستحسنه واستنظفه، وأعجبه ما رأى فيه، غير انه استكثره ما أنفق عليه قَالَ: ونظر إلى موضع فيه استحسنه جدا، فقال لي: اخرج إلى الربيع فقل له: اخرج إلى المسيب، فقل له: يحضرني الساعة بناء فارها قَالَ: فخرجت إلى المسيب فأخبرته، فبعث إلى رئيس البنائين فدعاه، فأدخله على أبي جعفر، فلما وقف بين يديه قَالَ له: كيف عملت لأصحابنا في هذا القصر؟ وكم أخذت من الأجرة لكل ألف آجرة ولبنة؟ فبقي البناء لا يقدر على أن يرد عليه شيئا، فخافه المسيب، فقال له المنصور: مالك لا تكلم! فقال: لا علم لي يا أمير المؤمنين، قَالَ: ويحك! قل وأنت آمن من كل ما تخافه قَالَ: يا أمير المؤمنين، لا والله ما أقف عليه ولا اعلمه قال: فاخذ بيده، وقال له: تعال، لا علمك الله خيرا! وأدخله الحجرة التي استحسنها، فأراه مجلسا كان فيها، فقال له:
انظر إلى هذا المجلس وابن لي بإزائه طاقا يكون شبيها بالبيت، لا تدخل فيه خشا، قَالَ: نعم يا أمير المؤمنين، قَالَ: فأقبل البناء وكل من معه يتعجبون من فهمه بالبناء والهندسة، فقال له البناء: ما أحسن أن أجيء به على هذا، ولا أقوم به على الذي تريد! فقال له: فأنا أعينك عليه، قَالَ: فأمر بالآجر والجص، فجيء به، ثم أقبل يحصي جميع ما دخل في بناء الطاق من الآجر والجص، ولم يزل كذلك حتى فرغ منه في يومه وبعض اليوم الثاني،

(7/654)


فدعا بالمسيب، فقال له: ادفع إليه أجره على حسب ما عمل معك، قَالَ: فحاسبه المسيب، فأصابه خمسة دراهم، فاستكثر ذلك المنصور، وقال: لا أرضى بذلك، فلم يزل به حتى نقصه درهما، ثم أخذ المقادير، ونظر مقدار الطاق من الحجرة حتى عرفه، ثم أخذ الوكلاء والمسيب بحملان النفقات، وأخذ معه الأمناء من البنائين والمهندسين حتى عرفوه قيمة ذلك، فلم يزل يحسبه شيئا شيئا، وحملهم على ما رفع في أجرة بناء الطاق، فخرج على المسيب مما في يده ستة آلاف درهم ونيف، فأخذه بها واعتقله، فما برح من القصر حتى أداها إليه.
وذكر عن عيسى بْن المنصور أنه قَالَ: وجدت في خزائن أبي المنصور في الكتب أنه أنفق على مدينة السلام وجامعها وقصر الذهب بها والأسواق والفصلان والخنادق وقبابها وأبوابها اربعه آلاف الف وثمانمائه وثلاثة وثلاثين درهما، ومبلغها من الفلوس مائة ألف ألف فلس وثلاثة وعشرون ألف فلس، وذلك أن الأستاذ من البنائين كان يعمل يومه بقيراط فضة، والروزكاري بحبتين إلى ثلاث حبات
. ذكر الخبر عن عزل مسلم بن قتيبة عن البصره
وفي هذه السنة عزل المنصور عن البصرة سلم بْن قتيبة، وولاها محمد بْن سليمان بْن علي.
ذكر الخبر عن سبب عزله إياه:
ذكر عبد الملك بْن شيبان أن يعقوب بْن الفضل بْن عبد الرحمن الهاشمي، قَالَ: كتب أبو جعفر إلى سلم بْن قتيبة لما ولاه البصرة: أما بعد، فاهدم دور من خرج مع إبراهيم، واعقر نخلهم فكتب إليه سلم: بأي ذلك أبدأ؟ أبالدور أم بالنخل؟ فكتب إليه أبو جعفر: أما بعد، فقد كتبت إليك آمرك بإفساد تمرهم، فكتبت تستأذنني في أية تبدأ به بالبرني

(7/655)


أم بالشهريز! وعزله وولى محمد بْن سليمان، فقدم فعاث.
وذكر عن يونس بْن نجدة، قَالَ: قدم علينا سلم بْن قتيبة أميرا بعد الهزيمة وعلى شرطه أبو برقة يزيد بْن سلم، فأقام بها سلم أشهرا خمسة، ثم عزل، وولى علينا محمد بْن سليمان.
قَالَ عبد الملك بْن شيبان: هدم محمد بْن سليمان لما قدم دار يعقوب بْن الفضل، ودار أبي مروان في بني يشكر، ودار عون بْن مالك، ودار عبد الواحد ابن زياد، ودار الخليل بْن الحصين في بني عدي، ودار عفو الله بْن سفيان، وعقر نخلهم.
وغزا الصائفة في هذه السنة جعفر بْن حنظلة البهراني وفي هذه السنة عزل عن المدينة عبد الله بْن الربيع، وولي مكانه جعفر ابن سليمان، فقدمها في شهر ربيع الأول وعزل أيضا في هذه السنة عن مكة السري بن عبد الله، ووليها عبد الصمد ابن علي.
وحج بالناس في هذه السنة عبد الوهاب بْن إبراهيم بْن محمد بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس، كذلك قَالَ محمد بن عمر وغيره.
تم الجزء السابع من تاريخ الطبرى ويليه الجزء الثامن، واوله: ذكر حوادث سنه سبع واربعين ومائه

(7/656)


الجزء الثامن
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ثم دخلت

سنة سبع وأربعين ومائة
(ذكر الأخبار عن الأحداث الَّتِي كَانَتْ فِيهَا) فِمِمَّا كَانَ فِيهَا من ذلك اغاره استر خان الخوارزمي في جمع من الترك على المسلمين بناحية أرمينية وسبيه من المسلمين وأهل الذمة خلقا كثيرا، ودخولهم تفليس، وقتلهم حرب بْن عبد الله الراوندي الذي تنسب إليه الحربية ببغداد وكان حرب هذا- فيما ذكر- مقيما بالموصل في ألفين من الجند، لمكان الخوارج الذين بالجزيرة وكان أبو جعفر حين بلغه نحزب الترك فيما هناك وجه إليهم لحربهم جبرئيل بْن يحيى، وكتب إلى حرب يأمره بالمسير معه، فسار معه حرب، فقتل حرب وهزم جبرئيل، واصيب من المسلمين من ذكرت.

ذكر الخبر عن مهلك عبد الله بن على بن عباس
وفي هذه السنة كان مهلك عبد الله بن على بْن عباس واختلفوا في سبب هلاكه، فقال بعضهم ما ذكره علي بْن محمد النوفلي عن أبيه أن أبا جعفر حج سنة سبع وأربعين ومائة بعد تقدمته المهدي على عيسى بْن موسى بأشهر، وقد كان عزل عيسى بْن موسى عن الكوفة وأرضها، وولى مكانه محمد بن سليمان ابن علي، وأوفده إلى مدينة السلام، فدعا به، فدفع إليه عبد الله بْن علي سرا في جوف الليل، ثم قَالَ له: يا عيسى، إن هذا أراد أن يزيل النعمة عني وعنك، وأنت ولي عهدي بعد المهدي، والخلافة صائرة إليك، فخذه إليك فاضرب عنقه، وإياك أن تخور أو تضعف، فتنقض علي أمري الذي دبرت

(8/7)


ثم مضى لوجهه، وكتب إليه من طريقه ثلاث مرات يسأله: ما فعل في الأمر الذي أوعز إليه فيه؟ فكتب إليه: قد أنفذت ما أمرت به، فلم يشك أبو جعفر في أنه قد فعل ما أمره به، وأنه قد قتل عبد الله بْن على، وكان عيسى حين دفعه إليه ستره، ودعا كاتبه يونس بْن فروة، فقال له: إن هذا الرجل دفع إلي عمه، وأمرني فيه بكذا وكذا فقال له: أراد أن يقتلك ويقتله، أمرك بقتله سرا، ثم يدعيه عليك علانية ثم يقيدك به قَالَ: فما الرأي؟
قَالَ: الرأي ان تستره في منزلك، فلا نطلع على أمره أحدا، فإن طلبه منك علانية دفعته إليه علانية، ولا تدفعه إليه سرا أبدا، فإنه وإن كان أسره إليك، فإن أمره سيظهر ففعل ذلك عيسى.
وقدم المنصور ودس إلى عمومته من يحركهم على مسألته هبة عبد الله بْن علي لهم، ويطمعهم في أنه سيفعل فجاءوا إليه وكلموه ورققوه، وذكروا له الرحم، وأظهروا له رقة، فقال: نعم، علي بعيسى بْن موسى، فأتاه فقال له: يا عيسى، قد علمت أني دفعت إليك عمي وعمك عبد الله بْن علي قبل خروجي إلى الحج، وأمرتك أن يكون في منزلك، قَالَ: قد فعلت ذلك يا أمير المؤمنين، قَالَ: فقد كلمني عمومتك فيه، فرأيت الصفح عنه وتخلية سبيله، فأتنا به فقال: يا أمير المؤمنين، ألم تأمرني بقتله فقتلته! قَالَ:
ما أمرتك بقتله، إنما أمرتك بحبسه في منزلك قَالَ: قد أمرتني بقتله، قَالَ له المنصور: كذبت، ما أمرتك بقتله ثم قَالَ لعمومته: إن هذا قد أقر لكم بقتل أخيكم، وادعى أني أمرته بذلك، وقد كذب، قالوا: فادفعه إلينا نقتله به، قَالَ: شأنكم به، فأخرجوه إلى الرحبة، واجتمع الناس، وشهر الأمر، فقام أحدهم فشهر سيفه، وتقدم إلى عيسى ليضربه، فقال له عيسى:
أفاعل أنت؟ قَالَ: أي والله، قَالَ: لا تعجلوا، ردوني إلى أمير المؤمنين، فردوه إليه، فقال: إنما أردت بقتله أن تقتلني، هذا عمك حي سوي، إن أمرتني بدفعه إليك دفعته قَالَ: ائتنا به، فأتاه به، فقال له عيسى: دبرت علي أمرا فخشيته، فكان كما خشيت، شأنك وعمك قَالَ: يدخل حتى

(8/8)


أرى رأيي ثم انصرفوا ثم أمر به فجعل في بيت أساسه ملح، وأجرى في أساسه الماء، فسقط عليه فمات، فكان من أمره ما كان وتوفي عبد الله بْن علي في هذه السنة ودفن في مقابر باب الشام، فكان أول من دفن فيها.
وذكر عن إبراهيم بْن عيسى بْن المنصور بْن بريه أنه قَالَ: كانت وفاة عبد الله بْن علي في الحبس سنة سبع وأربعين ومائة، وهو ابن اثنتين وخمسين سنة.
قَالَ إبراهيم بْن عيسى: لما توفي عبد الله بْن علي ركب المنصور يوما ومعه عبد الله بْن عياش، فقال له وهو يجاريه: اتعرف ثلاثة خلفاء، اسماؤهم على العين مبدؤها، قتلوا ثلاثة خوارج مبدأ أسمائهم العين؟ قَالَ: لا أعرف إلا ما تقول العامة، إن عليا قتل عثمان- وكذبوا- وعبد الملك بْن مروان قتل عبد الرحمن بْن محمد بْن الأشعث، وعبد الله بْن الزبير وعمرو بْن سعيد وعبد الله بْن علي سقط عليه البيت، فقال له المنصور: فسقط على عبد الله بْن علي البيت، فأنا ما ذنبي؟ قال: ما قلت ان لك ذنبا