تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ
الطبري
ذكر الخبر عن بدء
الخلاف بين الامين والمأمون
وفي هذه السنة كان بدء اختلاف الحال بين الأمين محمد وأخيه المأمون،
وعزم كل واحد منهما بالخلاف على صاحبه فيما كان والدهما هارون أخذ
عليهما العمل به، في الكتاب الذى ذكرنا انه كان كتبه عليهما وبينهما
(8/365)
ذكر الخبر عن السبب الذي كان أوجب اختلاف
حالهما فيما ذكرت:
قال أبو جعفر: قد ذكرنا قبل أن الرشيد جدد حين شخص إلى خراسان البيعة
للمأمون على القواد الذين معه، وأشهد من معه من القواد وسائر الناس
وغيرهم أن جميع من معه من الجند مضمومون إلى المأمون، وأن جميع ما معه
من مال وسلاح وآلة وغير ذلك للمأمون فلما بلغ محمد بْن هارون أن أباه
قد اشتدت علته، وأنه لمآبه، بعث من يأتيه بخبره في كل يوم، وارسل بكر
بْن المعتمر، وكتب معه كتبا، وجعلها في قوائم صناديق منقوره وألبسها
جلود البقر، وقال: لا يظهرن أمير المؤمنين ولا أحد ممن في عسكره على
شيء من أمرك وما توجهت فيه، ولا ما معك، ولو قتلت حتى يموت أمير
المؤمنين، فإذا مات فادفع إلى كل رجل منهم كتابه.
فلما قدم بكر بْن المعتمر طوس، بلغ هارون قدومه، فدعا به، فسأله:
ما أقدمك؟ قَالَ: بعثني محمد لأعلم له علم خبرك وآتيه به، قَالَ: فهل
معك كتاب؟ قَالَ: لا، فأمر بما معه ففتش فلم يصيبوا معه شيئا، فهدده
بالضرب فلم يقر بشيء، فأمر به فحبس وقيد فلما كان في الليلة التي مات
فيها هارون أمر الفضل بْن الربيع أن يصير إلى محبس بكر بْن المعتمر
فيقرره، فإن أقر وإلا ضرب عنقه، فصار إليه، فقرره فلم يقر بشيء، ثم غشي
على هارون، فصاح النساء، فأمسك الفضل عن قتله، وصار إلى هارون ليحضره،
ثم أفاق هارون وهو ضعيف، قد شغل عن بكر وعن غيره لحس الموت، ثم غشي
عليه غشية ظنوا أنها هي، وارتفعت الضجة، فبعث بكر بْن المعتمر برقعة
منه إلى الفضل بْن الربيع مع عبد الله بن ابى نعيم، يسأله الا يعجلوا
بأمر، ويعلمه أن معه أشياء يحتاجون إلى علمها- وكان بكر محبوسا عند
حسين الخادم- فلما توفي هارون في الوقت الذي توفي فيه، دعا الفضل بْن
الربيع ببكر من ساعته، فسأله عما عنده، فأنكر أن يكون عنده شيء، وخشي
على نفسه من أن يكون هارون حيا، حتى صح عنده موت هارون، وأدخله عليه،
فأخبره أن عنده كتبا من أمير المؤمنين محمد، وأنه لا يجوز له إخراجها،
وهو على حاله في قيوده وحبسه، فامتنع حسين الخادم من إطلاقه حتى أطلقه
الفضل، فأتاهم
(8/366)
بالكتب التي عنده، وكانت في قوائم المطابخ
المجلدة بجلود البقر، فدفع إلى كل إنسان منهم كتابه وكان في تلك الكتب
كتاب من محمد بْن هارون إلى حسين الخادم بخطه، يأمره بتخلية بكر بْن
المعتمر وإطلاقه، فدفعه إليه، وكتاب إلى عبد الله المأمون، فاحتبس كتاب
المأمون عنده ليبعثه إلى المأمون بمرو، وأرسلوا الى صالح بن الرشيد-
وكان مع أبيه بطوس، وذلك أنه كان أكبر من يحضر هارون من ولده- فأتاهم
في تلك الساعة، فسألهم عن أبيه هارون، فأعلموه، فجزع جزعا شديدا، ثم
دفعوا إليه كتاب أخيه محمد الذي جاء به بكر وكان الذين حضروا وفاة
هارون هم الذين ولوا أمره وغسله وتجهيزه، وصلى عليه ابنه صالح.
وكانت نسخة كتاب محمد إلى أخيه عبد الله المأمون:
إذا ورد عليك كتاب أخيك- أعاذه الله من فقدك- عند حلول ما لا مرد له
ولا مدفع مما قد اخلف وتناسخ في الأمم الخالية والقرون الماضيه فعز
نفسك بما عزاك الله به واعلم أن الله جل ثناؤه قد اختار لأمير المؤمنين
أفضل الدارين، وأجزل الحظين فقبضه الله طاهرا زاكيا، قد شكر سعيه، وغفر
ذنبه إن شاء الله فقم في أمرك قيام ذي الحزم والعزم، والناظر لأخيه
ونفسه وسلطانه وعامة المسلمين وإياك أن يغلب عليك الجزع، فإنه يحبط
الأجر، ويعقب الوزر وصلوات الله على أمير المؤمنين حيا وميتا، وإِنَّا
لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! وخذ البيعه عمن قبلك من قوادك
وجندك وخاصتك وعامتك لأخيك ثم لنفسك، ثم للقاسم ابْن أمير المؤمنين،
على الشريطة التي جعلها لك أمير المؤمنين من نسخها له وإثباتها، فإنك
مقلد من ذاك ما قلدك الله وخليفته وأعلم من قبلك رأيي في صلاحهم وسد
خلتهم والتوسعة عليهم، فمن أنكرته عند بيعته أو اتهمته على طاعته،
فابعث إلي برأسه مع خبره وإياك وإقالته، فإن النار أولى به.
واكتب إلى عمال ثغورك وأمراء أجنادك بما طرقك من المصيبة بأمير
المؤمنين، وأعلمهم أن الله لم يرض الدنيا له ثوابا حتى قبضه إلى روحه
وراحته وجنته، مغبوطا محمودا قائدا لجميع خلفائه إلى الجنة إن شاء الله
ومرهم أن يأخذوا البيعه
(8/367)
على أجنادهم وخواصهم وعوامهم على مثل ما
أمرتك به من أخذها على من قبلك وأوعز إليهم في ضبط ثغورهم، والقوة على
عدوهم واعلمهم إني متفقد حالاتهم ولام شعثهم، وموسع عليهم، ولا تنى في
تقويه اجنادى وانصارى، ولتكن كتبك إليهم كتبا عامة، لتقرأ عليهم، فإن
في ذلك ما يسكنهم ويبسط أملهم.
واعمل بما تامر به لمن حضرك، أو نأى عنك من أجنادك، على حسب ما ترى
وتشاهد، فإن أخاك يعرف حسن اختيارك، وصحة رأيك، وبعد نظرك، وهو يستحفظ
الله لك، ويسأله أن يشد بك عضده، ويجمع بك أمره، إنه لطيف لما يشاء
وكتب بكر بْن المعتمر بين يدي وإملائي في شوال سنه ثنتين وتسعين ومائة.
وإلى أخيه صالح:
بسم الله الرحمن الرحيم. إذا ورد عليك كتابي هذا عند وقوع ما قد سبق في
علم الله ونفذ من قضائه في خلفائه وأوليائه، وجرت به سنته في الأنبياء
والمرسلين والملائكة المقربين، فقل: «كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا
وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» ، فاحمدوا الله ما
صار إليه أمير المؤمنين من عظيم ثوابه ومرافقه انبيائه، صلوات الله
عليهم، وإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. وإياه نسأل أن يحسن الخلافة على
أمه نبيه محمد ص، وقد كان لهم عصمة وكهفا، وبهم رءوفا رحيما، فشمر في
أمرك، وإياك أن تلقي بيديك، فإن أخاك قد اختارك لما استنهضك له، وهو
متفقد مواقع فقدانك، فحقق ظنه ونسأل الله التوفيق وخذ البيعة على من
قبلك من ولد أمير المؤمنين وأهل بيته ومواليه وخاصته وعامته لمحمد أمير
المؤمنين، ثم لعبد الله بن أمير المؤمنين، ثم للقاسم بْن أمير
المؤمنين، على الشريطة التي جعلها أمير المؤمنين صلوات الله عليه من
فسخها على القاسم أو إثباتها، فإن السعادة واليمن في الأخذ بعهده،
والمضي على مناهجه وأعلم من قبلك من الخاصة والعامة رأيي في استصلاحهم،
ورد مظالمهم وتفقد حالاتهم، وأداء أرزاقهم وأعطياتهم عليهم، فإن شغب
شاغب، أو نعر ناعر، فاسط به سطوة تجعله نَكَالا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا
وَمَا خلفها
(8/368)
وموعظه للمتقين واضمم الى الميمون بن
الميمون الفضل بن الربيع ولد أمير المؤمنين وخدمه وأهله، ومره بالمسير
معهم فيمن معه من جنده ورابطته، وصير إلى عبد الله بْن مالك أمر العسكر
وأحداثه، فإنه ثقة على ما يلي، مقبول عند العامة، واضمم إليه جميع جند
الشرط من الروابط وغيرهم إلى من معه من جنده، ومره بالجد والتيقظ
وتقديم الحزم في أمره كله، ليله ونهاره، فإن أهل العداوة والنفاق لهذا
السلطان يغتنمون مثل حلول هذه المصيبة وأقر حاتم بْن هرثمة على ما هو
عليه، ومره بحراسة ما يحفظ به قصور أمير المؤمنين، فإنه ممن لا يعرف
إلا بالطاعة، ولا يدين إلا بها بمعاقد من الله مما قدم له من حال أبيه
المحمود عند الخلفاء ومر الخدم باحضار روابطهم ممن يسد بهم وبأجنادهم
مواضع الخلل من عسكرك، فإنهم حد من حدودك، وصير مقدمتك إلى أسد بْن
يزيد بْن مزيد، وساقتك إلى يحيى بْن معاذ، فيمن معه من الجنود، ومرهما
بمناوبتك في كل ليلة، والزم الطريق الأعظم، ولا تعدون المراحل، فإن ذلك
أرفق بك ومر أسد بْن يزيد أن يتخير رجلا من أهل بيته أو قواده، فيصير
الى مقدمته ثم يصير أمامه لتهيئة المنازل، أو بعض الطريق، فإن لم يحضرك
في عسكرك بعض من سميت، فاختر لمواضعهم من تثق بطاعته ونصيحته وهيبته
عند العوام، فإن ذلك لن يعوزك من قوادك وأنصارك إن شاء الله وإياك أن
تنفذ رأيا أو تبرم أمرا إلا برأي شيخك وبقية آبائك الفضل بْن الربيع،
وأقرر جميع الخدم على ما في أيديهم من الأموال والسلاح والخزائن وغير
ذلك، ولا تخرجن أحدا منهم من ضمن ما يلي إلى أن تقدم علي.
وقد أوصيت بكر بْن المعتمر بما سيبلغكه، واعمل في ذلك بقدر ما تشاهد
وترى، وإن أمرت لأهل العسكر بعطاء أو رزق، فليكن الفضل بْن الربيع
المتولي لإعطائهم على دواوين يتخذها لنفسه، بمحضر من أصحاب الدواوين،
فإن الفضل بْن الربيع لم يزل يتقلد مثل ذلك لمهمات الأمور وأنفذ إلي
عند وصول كتابي هذا إليك إسماعيل بْن صبيح وبكر بْن المعتمر على
مركبيهما من البريد، ولا يكون لك عرجة ولا مهلة بموضعك الذي أنت فيه
حتى توجه إلي بعسكرك
(8/369)
بما فيه من الأموال والخزائن إن شاء الله
أخوك يستدفع الله عنك، ويسأله لك حسن التأييد برحمته.
وكتب بكر بْن المعتمر بين يدي واملائى في شوال سنه ثنتين وتسعين ومائة.
وخرج رجاء الخادم بالخاتم والقضيب والبردة، وبنعي هارون حين دفن حتى
قدم بغداد ليلة الخميس- وقيل يوم الأربعاء- فكان من الخبر ما قد ذكرت
قبل.
وقيل: إن نعي الرشيد لما ورد بغداد صعد إسحاق بْن عيسى بْن عَلَى
الْمِنْبَرِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قال: اعظم
الناس رزيئه، واحسن الناس بقية رزؤنا، فإنه لم يرزأ أحد كرزئنا، فمن له
مثل عوضنا! ثم نعاه إلى الناس، وحض الناس على الطاعة.
وذكر الحسن الحاجب أن الفضل بْن سهل أخبره، قَالَ: استقبل الرشيد وجوه
أهل خراسان، وفيهم الحسين بْن مصعب قَالَ: ولقيني فقال لي:
الرشيد ميت أحد هذين اليومين، وامر محمد بن الرشيد ضعيف، والأمر أمر
صاحبك، مد يدك فمد يده فبايع للمأمون بالخلافة قال: ثم أتاني بعد أيام
ومعه الخليل بْن هشام، فقال: هذا ابن أخي، وهو لك ثقة خذ بيعته.
وكان المأمون قد رحل من مرو إلى قصر خالد بْن حماد على فرسخ من مرو
يريد سمرقند، وأمر العباس بْن المسيب بإخراج الناس واللحوق بالعسكر،
فمر به إسحاق الخادم ومعه نعي الرشيد، فغم العباس قدومه، فوصل إلى
المأمون فأخبره، فرجع المأمون إلى مرو، ودخل دار الإمارة، دار أبي
مسلم، ونعى الرشيد على المنبر، وشق ثوبه ونزل، وأمر للناس بمال، وبايع
لمحمد ولنفسه وأعطى الجند رزق اثني عشر شهرا.
قَالَ: ولما قرأ الذين وردت عليهم كتب محمد بطوس من القواد والجند
وأولاد هارون، تشاوروا في اللحاق بمحمد، فقال الفضل بْن الربيع:
لا أدع ملكا حاضرا لآخر لا يدرى ما يكون من أمره، وأمر الناس بالرحيل،
ففعلوا ذلك محبة منهم للحوق بأهلهم ومنازلهم ببغداد، وتركوا العهود
التي كانت أخذت عليهم للمأمون، فانتهى الخبر بذلك من أمرهم إلى المأمون
بمرو،
(8/370)
فجمع من معه من قواد أبيه، فكان معه منهم
عبد الله بْن مالك، ويحيى ابن معاذ، وشبيب بْن حميد بْن قحطبة، والعلاء
مولى هارون، والعباس بْن المسيب بْن زهير وهو على شرطته، وأيوب بْن أبي
سمير وهو على كتابته، وكان معه من أهل بيته عبد الرحمن بْن عبد الملك
بْن صالح، وذو الرياستين، وهو عنده من أعظم الناس قدرا وأخصهم به،
فشاورهم وأخبرهم الخبر، فأشاروا عليه أن يلحقهم في ألفي فارس جريدة،
فيردهم، وسمى لذلك قوم، فدخل عليه ذو الرياستين، فقال له: إن فعلت ما
أشاروا به عليك جعلت هؤلاء هدية إلى محمد، ولكن الرأي أن تكتب إليهم
كتابا، وتوجه إليهم رسولا، فتذكرهم البيعة، وتسألهم الوفاء، وتحذرهم
الحنث، وما يلزمهم في ذلك في الدنيا والدين قَالَ: قلت له: إن كتابك
ورسلك تقوم مقامك، فتستبرئ ما عند القوم، وتوجه سهل بْن صاعد- وكان على
قهرمته- فإنه يأملك، ويرجو أن ينال أمله، فلن يألوك نصحا، وتوجه نوفلا
الخادم مولى موسى أمير المؤمنين- وكان عاقلا فكتب كتابا، ووجههما
فلحقاهم بنيسابور قد رحلوا ثلاث مراحل.
فذكر الحسن بْن ابى سعيد عن سهل بن صاعد، انه قال له: فاوصلت إلى الفضل
بْن الربيع كتابه، فقال لي: إنما أنا واحد منهم، قَالَ لي سهل:
وشد علي عبد الرحمن بْن جبلة بالرمح، فأمره على جنبي، ثم قال لي:
قل لصاحبك: والله لو كنت حاضرا لوضعت الرمح في فيك، هذا جوابي.
قَالَ: ونال من المأمون، فرجعت بالخبر.
قَالَ الفضل بْن سهل: فقلت للمأمون: أعداء قد استرحت منهم، ولكن افهم
عني ما أقول لك، إن هذه الدولة لم تكن قط أعز منها أيام أبي جعفر، فخرج
عليه المقنع وهو يدعي الربوبية، وقال بعضهم: طلب بدم أبي مسلم، فتضعضع
العسكر بخروجه بخراسان، فكفاه الله المؤنة ثم خرج بعده يوسف البرم وهو
عند بعض المسلمين كافر، فكفى الله المؤنة، ثم خرج استاذسيس
(8/371)
يدعو إلى الكفر، فسار المهدي من الري الى
نيسابور فكفى المؤنه، ولكن ما أصنع! أكثر عليك! أخبرني كيف رأيت الناس
حين ورد عليهم خبر رافع؟ قَالَ: رأيتهم اضطربوا اضطرابا شديدا، قلت:
وكيف بك وأنت نازل في أخوالك، وبيعتك في أعناقهم! كيف يكون اضطراب أهل
بغداد! اصبر وأنا أضمن لك الخلافة- ووضعت يدي على صدري- قَالَ: قد
فعلت، وجعلت الأمر إليك فقم به قَالَ: قلت: والله لأصدقنك، أن عبد الله
بْن مالك ويحيى بْن معاذ ومن سمينا من أمراء الرؤساء، إن قاموا لك
بالأمر كانوا انفع منى لك برياستهم المشهورة، ولما عندهم من القوة على
الحرب، فمن قام بالأمر كنت خادما له حتى تصير إلى محبتك، وترى رأيك في
فلقيتهم في منازلهم، وذكرتهم البيعة التي في أعناقهم وما يجب عليهم من
الوفاء.
قَالَ: فكأني جئتهم بجيفة على طبق، فقال بعضهم: هذا لا يحل، اخرج، وقال
بعضهم: من الذي يدخل بين امير المؤمنين وأخيه! فجئت فاخبرته، قَالَ: قم
بالأمر، قَالَ: قلت: قد قرأت القرآن، وسمعت الأحاديث، وتفقهت في الدين،
فالرأي أن تبعث إلى من بالحضرة من الفقهاء، فتدعوهم إلى الحق والعمل به
وإحياء السنة، وتقعد على اللبود، وترد المظالم ففعلنا وبعثنا إلى
الفقهاء، وأكرمنا القواد والملوك وأبناء الملوك، فكنا نقول للتميمي:
نقيمك مقام موسى بْن كعب، وللربعى: نقيمك مقام أبي داود خالد بْن
إبراهيم، ولليماني:
نقيمك مقام قحطبة ومالك بْن الهيثم، فكنا ندعو كل قبيله الى نقباء
رءوسهم، واستملنا الرءوس، وقلنا لهم مثل ذلك، وحططنا عن خراسان ربع
الخراج، فحسن موقع ذلك منهم، وسروا به، وقالوا: ابن أختنا، وابن عم
النبي ص.
قَالَ علي بْن إسحاق: لما أفضت الخلافة الى محمد، وهذا الناس ببغداد،
أصبح صبيحة السبت بعد بيعته بيوم، فأمر ببناء ميدان حول قصر أبي جعفر
في المدينة للصوالجة واللعب، فقال في ذلك شاعر من أهل بغداد:
(8/372)
بنى أمين الله ميدانا ... وصير الساحة
بستانا
وكانت الغزلان فيه بانا ... يهدي إليه فيه غزلانا
وفي هذه السنة شخصت أم جعفر من الرقة بجميع ما كان معها هنالك من
الخزائن وغير ذلك في شعبان، فتلقاها ابنها محمد الأمين بالأنبار في
جميع من كان ببغداد من الوجوه، وأقام المأمون على ما كان يتولى من عمل
خراسان ونواحيها إلى الري، وكاتب الأمين، وأهدى إليه هدايا كثيرة،
وتواترت كتب المأمون إلى محمد بالتعظيم والهدايا إليه من طرف خراسان من
المتاع والآنية والمسك والدواب والسلاح.
وفي هذه السنة دخل هرثمة حائط سمرقند، ولجأ رافع إلى المدينة الداخلة،
وراسل رافع الترك فوافوه، فصار هرثمة بين رافع والترك، ثم انصرف الترك،
فضعف رافع.
وقتل في هذه السنة نقفور ملك الروم في حرب برجان، وكان ملكه- فيما قيل-
سبع سنين، وملك بعده إستبراق بْن نقفور وهو مجروح، فبقي شهرين ومات
وملك ميخائيل بْن جورجس ختنه على أخته.
وحج بالناس في هذه السنة داود بْن عيسى بْن موسى بْن محمد بْن علي،
وكان والي مكة.
وأقر محمد بْن هارون أخاه القاسم بْن هارون في هذه السنة على ما كان
أبوه هارون ولاه من عمل الجزيرة، واستعمل عليها خزيمة بْن خازم، وأقر
القاسم على قنسرين والعواصم.
(8/373)
ثم دخلت
سنة أربع وتسعين ومائة
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك ما كان من مخالفة أهل
حمص عاملهم إسحاق بْن سليمان، وكان محمد ولاه إياها، فلما خالفوه انتقل
إلى سلمية، فصرفه محمد عنهم، وولى مكانه عبد الله بْن سعيد الحرشي ومعه
عافية بْن سليمان، فحبس عدة من وجوههم، وضرب مدينتهم من نواحيها
بالنار، وسألوه الأمان فأجابهم، وسكنوا ثم هاجوا، فضرب أيضا أعناق عدة
منهم.
وفيها عزل محمد أخاه القاسم عن جميع ما كان أبوه هارون ولاه من عمل
الشام وقنسرين والعواصم والثغور، وولى مكانه خزيمة بْن خازم، وأمره
بالمقام بمدينة السلام.
وفي هذه السنة أمر محمد بالدعاء لابنه موسى على المنابر بالإمرة.
ذكر تفاقم الخلاف بين الامين والمأمون
وفيها مكر كل واحد منهما بصاحبه: محمد الأمين وعبد الله المأمون، وظهر
بينهما الفساد.
ذكر الخبر عن سبب ذلك:
ذكر أن الفضل بن الربيع فكر بعد مقدمه العراق على محمد منصرفا عن طوس،
وناكثا للعهود التي كان الرشيد أخذها عليه لابنه عبد الله، وعلم أن
الخلافة إن أفضت إلى المأمون يوما وهو حي لم يبق عليه، وكان في ظفره به
عطبه، فسعى في إغراء محمد به، وحثه على خلعه، وصرف ولاية العهد من بعده
إلى ابنه موسى، ولم يكن ذلك من رأي محمد ولا عزمه، بل كان عزمه- فيما
ذكر عنه- الوفاء لأخويه: عبد الله والقاسم، بما كان أخذ عليه لهما
والده من العهود والشروط، فلم يزل الفضل به يصغر في عينه شأن المأمون،
(8/374)
ويزين له خلعه، حتى قَالَ له: ما تنتظر يا
أمير المؤمنين بعبد الله والقاسم أخويك! فإن البيعة كانت لك متقدمة
قبلهما، وإنما أدخلا فيها بعدك واحدا بعد واحد، وأدخل في ذلك من رأيه
معه علي بْن عيسى بْن ماهان والسندي وغيرهما ممن بحضرته، فأزال محمدا
عن رأيه.
فأول ما بدأ به محمد عن رأي الفضل بْن الربيع فيما دبر من ذلك، أن كتب
إلى جميع العمال في الأمصار كلها بالدعاء لابنه موسى بالإمرة بعد
الدعاء له وللمأمون والقاسم بن الرشيد، فذكر الفضل بْن إسحاق بْن
سليمان ان المأمون لما بلغه ما امر به محمد من الدعاء لابنه موسى وعزله
القاسم عما كان الرشيد ضم إليه من الأعمال وإقدامه إياه مدينة السلام،
علم أنه يدبر عليه في خلعه، فقطع البريد عن محمد، واسقط اسمه من الطرز
والضرب.
وكان رافع بْن الليث بْن نصر بْن سيار لما انتهى إليه من الخبر عن
المأمون وحسن سيرته في أهل عمله وإحسانه إليهم، بعث في طلب الأمان
لنفسه، فسارع إلى ذلك هرثمة وخرج رافع فلحق بالمأمون، وهرثمة بعد مقيم
بسمرقند فأكرم المأمون رافعا وكان مع هرثمة في حصار رافع طاهر بن
الحسين، فلما دخل رافع في الأمان، استأذن هرثمة المأمون في القدوم
عليه، فعبر نهر بلخ بعسكره والنهر جامد، فتلقاه الناس، وولاه المأمون
الحرس فأنكر ذلك كله محمد، فبدأ بالتدبير على المأمون، فكان من التدبير
أنه كتب إلى العباس بْن عبد الله بْن مالك- وهو عامل المأمون على الري-
وأمره أن يبعث إليه بغرائب غروس الري- مريدا بذلك امتحانه- فبعث اليه
ما امره به، وكتم المأمون وذا الرياستين.
فبلغ ذلك من أمره المأمون، فوجه الحسن بن على المامونى واردفه بالرستمى
على البريد، وعزل العباس بْن عبد الله بن مالك، فذكر عن الرستمي أنه لم
ينزل عن دابته حتى اجتمع إليه ألف رجل من أهل الري.
ووجه محمد إلى المأمون ثلاثة أنفس رسلا: أحدهم العباس بْن موسى بْن
عيسى، والآخر صالح صاحب المصلى، والثالث محمد بْن عيسى بْن نهيك،
(8/375)
وكتب معهم كتابا إلى صاحب الري، أن
استقبلهم بالعدة والسلاح الظاهر.
وكتب إلى والي قومس ونيسابور وسرخس بمثل ذلك، ففعلوا ثم وردت الرسل
مرو، وقد أعد لهم من السلاح وضروب العدد والعتاد، ثم صاروا إلى
المأمون، فأبلغوه رسالة محمد بمسألته تقديم موسى على نفسه، ويذكر له
أنه سماه الناطق بالحق، وكان الذي أشار عليه بذلك علي بْن عيسى بْن
ماهان، وكان يخبره أن أهل خراسان يطيعونه، فرد المأمون ذلك وأباه
قَالَ: فقال لي ذو الرئاستين: قَالَ العباس بْن موسى بْن عيسى بْن
موسى: وما عليك أيها الأمير من ذلك، فهذا جدي عيسى بْن موسى قد خلع فما
ضره ذلك، قَالَ: فصحت به: اسكت، فإن جدك كان في أيديهم أسيرا، وهذا بين
أخواله وشيعته قَالَ: فانصرفوا، وأنزل كل واحد منهم منزلا قال ذو
الرياستين: فأعجبني ما رأيت من ذكاء العباس بْن موسى، فخلوت به فقلت:
ايذهب عليك في فهمك وسنك أن تأخذ بحظك من الإمام- وسمي المأمون في ذلك
اليوم بالإمام ولم يسم بالخلافة، وكان سبب ما سمي به الإمام ما جاء من
خلع محمد له، وقد كان محمد قَالَ للذين أرسلهم: قد تسمى المأمون
بالإمام، فقال لي العباس: قد سميتموه الإمام! قَالَ: قلت له: قد يكون
إمام المسجد والقبيلة، فإن وفيتم لم يضركم، وإن غدرتم فهو ذاك.
قَالَ: ثم قلت للعباس: لك عندي ولاية الموسم، ولا ولاية أشرف منها، ولك
من مواضع الأعمال بمصر ما شئت.
قَالَ: فما برح حتى أخذت عليه البيعة للمأمون بالخلافة، فكان بعد ذلك
يكتب إلينا بالأخبار، ويشير علينا بالرأي.
قَالَ: فأخبرني علي بْن يحيى السرخسي، قَالَ: مر بي العباس بْن موسى
ذاهبا إلى مرو- وقد كنت وصفت له سيرة المأمون وحسن تدبير ذي الرياستين
واحتماله الموضع، فلم يقبل ذلك مني- فلما رجع مر بي، فقلت له: كيف
رأيت؟ قال: ذو الرياستين أكثر مما وصفت، فقلت: صافحت
(8/376)
الإمام؟ قَالَ: نعم، قلت: امسح يدك على
رأسي قَالَ: ومضى القوم إلى محمد فأخبروه بامتناعه، قَالَ: فألح الفضل
بْن الربيع وعلي بْن عيسى على محمد في البيعة لابنه وخلع المأمون،
وأعطى الفضل الأموال حتى بايع لابنه موسى، وسماه الناطق بالحق، وأحضنه
علي بْن عيسى وولاه العراق قَالَ: وكان أول من أخذ له البيعة بشر بْن
السميدع الأزدي، وكان واليا على بلد، ثم أخذها صاحب مكة وصاحب المدينة
على خواص من الناس قليل، دون العامة.
قَالَ: ونهى الفضل بْن الربيع عن ذكر عبد الله والقاسم والدعاء لهما
على شيء من المنابر، ودس لذكر عبد الله والوقيعة فيه، ووجه إلى مكة
كتابا مع رسول من حجبة البيت يقال له محمد بْن عبد الله بْن عثمان بْن
طلحة في أخذ الكتابين اللذين كان هارون كتبهما، وجعلهما في الكعبة لعبد
الله على محمد، فقدم بهما عليه، وتكلم في ذلك بقية الحجبة، فلم يحفل
بهم، وخافوا على أنفسهم، فلما صار بالكتابين إلى محمد قبضهما منه،
واجازه بجائزه عظيمة، ومزقهما وأبطلهما.
وكان محمد- فيما ذكر- كتب إلى المأمون قبل مكاشفة المأمون إياه بالخلاف
عليه، يسأله أن يتجافى له عن كور من كور خراسان- سماها- وأن يوجه
العمال إليها من قبل محمد، وأن يحتمل توجيه رجل من قبله يوليه البريد
عليه ليكتب إليه بخبره فلما ورد إلى المأمون الكتاب بذلك، كبر ذلك عليه
واشتد، فبعث إلى الفضل بْن سهل وإلى أخيه الحسن، فشاورهما في ذلك، فقال
الفضل: الأمر مخطر، ولك من شيعتك وأهل بيتك بطانة، ولهم تأنيس
بالمشاورة، وفي قطع الأمر دونهم وحشة، وظهوره قلة ثقة، فرأي الأمير في
ذلك وقال الحسن: كان يقال: شاور في طلب الرأي من تثق بنصيحته، وتألف
العدو فيما لا اكتتام له بمشاورته، فأحضر المأمون الخاصة من الرؤساء
والأعلام، وقرأ عليهم الكتاب، فقالوا جميعا له: أيها الأمير،
(8/377)
تشاور في مخطر، فاجعل لبديهتنا حظا من
الروية، فقال المأمون: ذلك هو الحزم، وأجلهم ثلاثا، فلما اجتمعوا بعد
ذلك، قَالَ أحدهم: أيها الأمير، قد حملت على كرهين، ولست أرى خطأ
مدافعة بمكروه أولهما مخافة مكروه آخرهما وقال آخر: كان يقال أيها
الأمير، أسعدك الله، إذا كان الأمر مخطرا، فإعطاؤك من نازعك طرفا من
بغيته أمثل من أن تصير بالمنع إلى مكاشفته.
وقال آخر: إنه كان يقال: إذا كان علم الأمور مغيبا عنك، فخذ ما امكنك
من هدنة يومك، فإنك لا تأمن أن يكون فساد يومك راجعا بفساد غدك وقال
آخر: لئن خيفت للبذل عاقبة، إن أشد منها لما يبعث الآباء من الفرقة
وقال آخر: لا أرى مفارقة منزلة سلامة، فلعلي أعطى معها العافية فقال
الحسن: فقد وجب حقكم باجتهادكم، وإن كنت من الرأي على مخالفتكم، فقال
له المأمون: فناظرهم، قَالَ: لذلك ما كان الاجتماع.
وأقبل الحسن عليهم، فقال: هل تعلمون أن محمدا تجاوز إلى طلب شيء ليس له
بحق؟ قالوا: نعم، ويحتمل ذلك لما نخاف من ضرر منعه قال: فهل تثقون بكفه
بعد إعطائه إياها، فلا يتجاوز بالطلب إلى غيرها؟ قالوا: لا، ولعل سلامة
تقع من دون ما يخاف ويتوقع قَالَ: فإن تجاوز بعدها بالمسألة، أفما
ترونه قد توهن بما بذل منها في نفسه! قالوا: ندفع ما يعرض له في عاقبة
بمدافعه محذور في عاجله! قَالَ: فهذا خلاف ما سمعناه من قول الحكماء
قبلنا، قالوا: استصلح عاقبة أمرك باحتمال ما عرض من كره يومك، ولا
تلتمس هدنة يومك بإخطار أدخلته على نفسك في غدك قَالَ المأمون للفضل:
ما تقول فيما اختلفوا فيه؟ قَالَ: أيها الأمير، أسعدك الله، هل يؤمن
محمد أن يكون طالبك بفضل قوتك ليستظهر بها عليك غدا على مخالفتك! وهل
يصير الحازم إلى فضلة من عاجل الدعة بخطر يتعرض له في عاقبة، بل إنما
أشار الحكماء بحمل ثقل فيما يرجون به صلاح عواقب أمورهم فقال المأمون:
بل بإيثار العاجلة صار من صار إلى فساد العاقبة في امر دنيا او امر
آخره.
قَالَ القوم: قد قلنا بمبلغ الرأي، والله يؤيد الأمير بالتوفيق فقال:
اكتب
(8/378)
يا فضل إليه، فكتب:
قد بلغني كتاب امير المؤمنين يسألني التجافي عن مواضع سماها مما أثبته
الرشيد في العقد، وجعل أمره إلي، وما أمر رآه أمير المؤمنين أحد يجاوز
أكثره، غير أن الذي جعل إلي الطرف الذي أنابه، لا ظنين في النظر
لعامته، ولا جاهل بما أسند إلي من أمره، ولو لم يكن ذلك مثبتا بالعهود
والمواثيق المأخوذة، ثم كنت على الحال التي أنا عليها من إشراف عدو
مخوف الشوكة، وعامة لا تتألف عن هضمها، وأجناد لا يستتبع طاعتها إلا
بالأموال وطرف من الإفضال- لكان في نظر أمير المؤمنين لعامته وما يحب
من لم أطرافه ما يوجب عليه أن يقسم له كثيرا من عنايته، وأن يستصلحه
ببذل كثير من ماله، فكيف بمسألة ما أوجبه الحق، ووكد به مأخوذ العهد!
وإني لأعلم أن أمير المؤمنين لو علم من الحال ما علمت لم يطلع بمسألة
ما كتب بمسألته إلي ثم أنا على ثقة من القبول بعد البيان إن شاء الله.
وكان المأمون قد وجه حارسة إلى الحد، فلا يجوز رسول من العراق حتى
يوجهوه مع ثقات من الأمناء، ولا يدعه يستعلم خبرا ولا يؤثر أثرا، ولا
يستتبع بالرغبة ولا بالرهبة أحدا، ولا يبلغ أحدا قولا ولا كتابا فحصر
أهل خراسان من أن يستمالوا برغبة، أو أن تودع صدورهم رهبة، أو يحملوا
على منزل خلاف أو مفارقة ثم وضع على مراصد الطرق ثقات من الحراس لا
يجوز عليهم إلا من لا يدخل الظنة في أمره ممن أتى بجواز في مخرجه إلى
دار مآبه، أو تاجر معروف مأمون في نفسه ودينه، ومنع الإشتاتات من جواز
السبل والقطع بالمتاجر والوغول في البلدان في هيئة الطارئة والسابلة،
وفتشت الكتب.
وكان- فيما ذكر- أول من أقبل من قبل محمد مناظرا في منعه ما كان سأل
جماعة، وإنما وجهوا ليعلم أنهم قد عاينوا وسمعوا، ثم يلتمس منهم ان
يبذلوا او يحرموا فيكون مما قالوا حجة يحتج بها، أو ذريعه الى ما التمس
منها فلما صاروا إلى حد الري، وجدوا تدبيرا مؤيدا، وعقدا مستحصدا
متأكدا، وأخذتهم الأحراس من جوانبهم، فحفظوا في حال ظعنهم وإقامتهم من
أن يخبروا أو يستخبروا، وكتب بخبرهم من مكانهم، فجاء الإذن في حملهم
(8/379)
فحملوا محروسين، لا خبر يصل إليهم، ولا خبر
يتطلع منهم إلى غيرهم، وقد كانوا معدين لبث الخبر في العامة وإظهار
الحجة بالمفارقة والدعاء لأهل القوة إلى المخالفة، يبذلون الأموال،
ويضمنون لهم معظم الولايات والقطائع والمنازل، فوجدوا جميع ذلك ممنوعا
محسوما، حتى صاروا إلى باب المأمون.
وكان الكتاب النافذ معهم إلى المأمون:
أما بعد، فإن أمير المؤمنين الرشيد وإن كان أفردك بالطرف، وضم ما ضم
إليك من كور الجبل، تأييدا لأمرك، وتحصينا لطرفك، فإن ذلك لا يوجب لك
فضلة المال عن كفايتك وقد كان هذا الطرف وخراجه كافيا لحدثه، ثم تتجاوز
بعد الكفاية إلى ما يفضل من رده، وقد ضم لك إلى الطرف كورا من أمهات
كور الأموال لا حاجة لك فيها، فالحق فيها أن تكون مردودة في أهلها،
ومواضع حقها فكتبت إليك أسألك رد تلك الكور الى ما كانت عليه من حالها،
لتكون فضول ردها مصروفة إلى مواضعها، وأن تأذن لقائم بالخبر يكون
بحضرتك يؤدي إلينا علم ما نعني به من خبر طرفك، فكتبت تلط دون ذلك بما
أن تم أمرك عليه صيرنا الحق إلى مطالبتك، فاثن عن همك أثن عن مطالبتك،
إن شاء الله.
فلما قرأ المأمون الكتاب كتب مجيبا له:
أما بعد، فقد بلغني كتاب أمير المؤمنين، ولم يكتب فيما جهل فأكشف له عن
وجهه، ولم يسال ما يوجبه حق فيلزمني الحجة بترك إجابته، وإنما يتجاوز
المتناظران منزلة النصفة ما ضاقت النصفة عن أهلها، فمتى تجاوز متجاوز-
وهي موجودة الوسع- ولم يكن تجاوزها إلا عن نقضها واحتمال ما في تركها،
فلا تبعثني يا بن أبي علي مخالفتك وأنا مذعن بطاعتك، ولا على قطيعتك
وأنا على إيثار ما تحب من صلتك، وارض بما حكم به الحق في أمرك أكن
بالمكان الذي أنزلني به الحق فيما بيني وبينك والسلام.
ثم أحضر الرسل، فقال: إن أمير المؤمنين كتب في امر كتبت له في جوابه،
فأبلغوه الكتاب، وأعلموه أني لا أزال على طاعته، حتى يضطرني
(8/380)
بترك الحق الواجب إلى مخالفته فذهبوا
يقولون، فقال: قفوا أنفسكم حيث وقفنا بالقول بكم، وأحسنوا تأدية ما
سمعتم، فقد أبلغتمونا من كتابنا ما عسى ان تقولوه لنا فانصرف الرسل ولم
يثبتوا لأنفسهم حجة، ولم يحملوا خبرا يؤدونه إلى صاحبهم، ورأوا جدا غير
مشوب بهزل، في منع ما لهم من حقهم الواقع- بزعمهم.
فلما وصل كتاب المأمون إلى محمد وصل منه ما فظع به، وتخمط غيظا بما
تردد منه في سمعه، وأمر عند ذلك بما ذكرناه من الإمساك عن الدعاء له
على المنابر، وكتب إليه:
أما بعد، فقد بلغني كتابك غامطا لنعمة الله عليك فيما مكن لك من ظلها،
متعرضا لحراق نار لا قبل لك بها، ولحظك عن الطاعة كان أودع لك، وإن كان
قد تقدم مني متقدم، فليس بخارج من مواضع نفعك إذ كان راجعا على العامة
من رعيتك، وأكثر من ذلك ما يمكن لك من منزله السلامة، ويثبت لك من حال
الهدنة، فأعلمني رأيك أعمل عليه إن شاء الله.
وذكر سهل بْن هارون عن الحسن بْن سهل، أن المأمون قال لذى الرياستين:
إن ولدي وأهلي ومالي الذي أفرده الرشيد لي بحضرة محمد- وهو مائة ألف
ألف- وأنا إليها محتاج، وهي قبله فما ترى في ذلك؟ وراجعه في ذلك مرارا
فقال له ذو الرياستين: أيها الأمير، بك حاجة إلى فضلة مالك، وأن يكون
أهلك في دارك وجنابك، وإن أنت كتبت فيه كتاب عزمة فمنعك صار إلى خلع
عهده، فإن فعل حملك ولو بالكره على محاربته، وأنا أكره أن تكون
المستفتح باب الفرقة ما أرتجه الله دونك، ولكن تكتب كتاب طالب لحقك،
وتوجيه أهلك على ما لا يوجب عليه المنع نكثا لعهدك، فإن أطاع فنعمة
وعافية، وإن ابى لم تكن بعثت على نفسك حربا او مشاقه فاكتب إليه، فكتب
عنه:
أما بعد، فإن نظر أمير المؤمنين للعامة نظر من لا يقتصر عنه على إعطاء
النصفة من نفسه حتى يتجاوزها إليهم ببره وصلته، وإذا كان ذلك رأيه في
(8/381)
عامته، فأحر بأن يكون على مجاوزة ذلك بصنوه
وقسيم نسبه، فقد تعلم يا أمير المؤمنين حالا أنا عليها من ثغور حللت
بين لهواتها، وأجناد لا تزال موقنة بنشر غيها وبنكث آرائها، وقلة الخرج
قبلي، والأهل والولد قبل أمير المؤمنين، وما للأهل- وإن كانوا في كفاية
من بر أمير المؤمنين، فكان لهم والدا- بد من الإشراف والنزوع إلى كنفى،
وما لي بالمال من القوة والظهير على لم الشعث بحضرتي، وقد وجهت لحمل
العيال وحمل ذلك المال، فرأي أمير المؤمنين في إجازة فلان إلى الرقة في
حمل ذلك المال، والأمر بمعونته عليه، غير محرج له فيه إلى ضيقة تقع
بمخالفته، أو حامل له على رأي يكون على غير موافقة والسلام.
فكتب إليه محمد:
أما بعد، فقد بلغني كتابك بما ذكرت مما عليه رأي أمير المؤمنين في
عامته فضلا عما يجب من حق لذي حرمته وخليط نفسه، ومحلك بين لهوات ثغور،
وحاجتك لمحلك بينها إلى فضلة من المال لتأييد أمرك، والمال الذي سمي لك
من مال الله، وتوجيهك من وجهت في حمله وحمل أهلك من قبل أمير المؤمنين.
ولعمري ما ينكر أمير المؤمنين رأيا هو عليه مما ذكرت لعامته، يوجب عليه
من حقوق أقربيه وعامته وبه إلى ذلك المال الذي ذكرت حاجة في تحصين أمور
المسلمين، فكان أولى به إجراؤه منه على فرائضه، ورده على مواضع حقه،
وليس بخارج من نفعك ما عاد بنفع العامة من رعيتك وأما ما ذكرت من حمل
أهلك، فإن رأي أمير المؤمنين تولي أمرهم، وإن كنت بالمكان الذي أنت به
من حق القرابة ولم أر من حملهم على سفرهم مثل الذي رايت من تعريضهم
بالسفر للتشتت، وان أر ذلك من قبلي أوجههم إليك مع الثقة من رسلي إن
شاء الله والسلام.
قَالَ: ولما ورد الكتاب على المأمون، قَالَ: لاط دون حقنا يريد أن
نتوهن مما يمنع من قوتنا، ثم يتمكن للوهنة من الفرصة في مخالفتنا فقال
له ذو الرياستين: أو ليس من المعلوم دفع الرشيد ذلك المال إلى الأمين
لجمعه، وقبض الأمين إياه على أعين الملأ من عامته، على أنه يحرسه قنيه،
فهو
(8/382)
لا ينزع إليها، فلا تأخذ عليه مضايقها،
وامل له ما لم تضطرك جريرته إلى مكاشفته بها، والرأي لزوم عروة الثقه،
وحسم الفرقة، فان امسك فبنعمه وان تطلع إليها فقد تعرض لله بالمخالفة،
وتعرضت منه بالإمساك للتأييد والمعونة.
قَالَ: وعلم المأمون والفضل أنه سيحدث بعد كتابه من الحدث ما يحتاج الى
لمه، ومن الخبر ما يحتاج أن يباشره بالثقة من أصحابه، وأنه لا يحدث في
ذلك حدثا دون مواطأة رجال النباهة والأقدار من الشيعة وأهل السابقة،
فرأى أن يختار رجلا يكتب معه إلى أعيان أهل العسكر من بغداد، فإن أحدث
محمد خلعا للمأمون صار الى دفعها، وتلطف لعلم حالات أهلها، وإن لم يفعل
من ذلك شيئا خنس في حقته، وأمسك عن إيصالها، وتقدم إليه في التعجيل.
ولما قدم أوصل الكتب، وكان كتابه مع الرسول الذي وجهه لعلم الخبر:
أما بعد، فإن أمير المؤمنين كأعضاء البدن، يحدث العلة في بعضها، فيكون
كره ذلك مؤلما لجميعها، وكذلك الحدث في المسلمين، يكون في بعضهم فيصل
كره ذلك إلى سائرهم، للذي يجمعهم من شريعة دينهم، ويلزمهم من حرمه
اخوتهم، ثم ذلك من الأئمة أعظم للمكان الذي به الأئمة من سائر أممهم،
وقد كان من الخبر ما لا احسبه الا سيعرب عن محنته، ويسفر عما استتر من
وجهه، وما اختلف مختلفان فكان أحدهما مع امر الله إلا كان أول معونة
المسلمين وموالاتهم في ذات الله، وأنت يرحمك الله من الأمر بمرأى
ومسمع، وبحيث إن قلت آذن لقولك، وإن لم تجد للقول مساغا فأمسكت عن مخوف
أقتدي فيه بك، ولن يضيع علي الله ثواب الإحسان مع ما يجب علينا
بالإحسان من حقك، ولحظ حاز لك النصيبين أو أحدهما أمثل من الإشراف لأحد
الحظين، مع التعرض لعدمهما، فاكتب إلي برأيك، وأعلم ذلك لرسولي ليؤديه
إلي عنك إن شاء الله.
وكتب إلى رجال النباهة من أهل العسكر بمثل ذلك.
قَالَ: فوافق قدوم الرسول بغداد ما أمر به من الكف عن الدعاء للمأمون
(8/383)
في الخطبة يوم الجمعة، وكان بمكان الثقة من
كل من كتب إليه معه، فمنهم من أمسك عن الجواب وأعرب للرسول عما في
نفسه، ومنهم من أجاب عن كتابه، فكتب أحدهم:
أما بعد فقد بلغني كتابك وللحق برهان يدل على نفسه تثبت به الحجة على
كل من صار إلى مفارقته، وكفى غبنا بإضاعة حظ من حظ العاقبه، لمامول من
حظ عاجله، وأبين من الغبن إضاعة حظ عاقبه مع التعرض للنكبة والوقائع،
ولى من العلم بمواضع حظى ما أرجو أن يحسن معه النظر مني لنفسي، ويضع
عني مؤنة استزادتي إن شاء الله قال: وكتب الرسول المتوجه الى بغداد الى
المأمون وذي الرياستين:
أما بعد، فإني وافيت البلدة، وقد أعلن خليطك بتنكره، وقدم علما من
اعتراضه ومفارقته وامسك عما كان يجب ذكره وتوفيته بحضرته، ودفعت كتبك
فوجدت أكثر الناس ولاة السريره ونفاه العلانية، ووجدت المشرفين بالرعية
لا يحوطون الا عنها ولا يبالون ما احتملوا فيها، والمنازع مختلج الرأي،
لا يجد دافعا منه عن همه، ولا راغبا في عامه، والمحلون بانفسهم يحلون
تمام الحدث، ليسلموا من منهزم حدثهم، والقوم على جد، ولا تجعلوا
للتوانى في امركم نصيبا إن شاء الله والسلام.
قَالَ: ولما قدم على محمد من معسكر المأمون سعيد بْن مالك بْن قادم
وعبد الله بْن حميد بْن قحطبة والعباس بْن الليث مولى أمير المؤمنين
ومنصور بْن أبي مطر وكثير بْن قادره، الطفهم وقربهم، وأمر لمن كان قبض
منهم الستة الأشهر برزق اثني عشر شهرا، وزادهم في الخاصة والعامة، ولمن
لم يقبضها بثمانية عشر شهرا.
قال: ولما عزم محمد على خلع المأمون دعا يحيى بْن سليم فشاوره في ذلك،
فقال يحيى: يا أمير المؤمنين، كيف بذلك لك مع ما قد وكد الرشيد من
بيعته، وتوثق بها من عهده، والأخذ للأيمان والشرائط في الكتاب الذي
(8/384)
كتبه! فقال له محمد: إن رأي الرشيد كان
فلتة شبهها عليه جعفر بْن يحيى بسحره، واستماله برقاه وعقده، فغرس لنا
غرسا مكروها لا ينفعنا ما نحن فيه معه إلا بقطعه، ولا تستقيم لنا
الأمور إلا باجتثاثه والراحة منه فقال:
أما إذا كان راى امير المؤمنين خلعه، فلا يجاهره مجاهرة فيستنكرها
الناس، ويستشنعها العامة، ولكن تستدعي الجند بعد الجند والقائد بعد
القائد، وتؤنسه بالألطاف والهدايا، وتفرق ثقاته ومن معه، وترغبهم
بالأموال، وتستميلهم بالأطماع، فإذا أوهنت قوته، واستفرغت رجاله، أمرته
بالقدوم عليك، فإن قدم صار إلى الذي تريد منه، وإن أبى كنت قد تناولته
وقد كل حده وهيض جناحه، وضعف ركنه وانقطع عزه فقال محمد: ما قطع أمرا
كصريمة، أنت مهذار خطيب، ولست بذي رأي، فزل عن هذا الرأي إلى الشيخ
الموفق والوزير الناصح، قم فالحق بمدادك وأقلامك، قال يحيى:
فقلت: غضب يشوبه صدق ونصيحه، اشرت الى راى يخلطه غش وجهل قال: فو الله
ما ذهبت الأيام حتى ذكر كلامه، وقرعه بخطئه وخرقه.
قال سهل بْن هارون: وقد كان الفضل بْن سهل دس قوما اختارهم ممن يثق به
من القواد والوجوه ببغداد ليكاتبوه بالأخبار يوما يوما، فلما هم محمد
بخلع المأمون، بعث الفضل بْن الربيع إلى أحد هؤلاء الرجال يشاوره فيما
يرى من ذلك، فعظم الرجل عليه أمر نقض العهد للمأمون، وقبح الغدر به.
فقال له الفضل: صدقت، ولكن عبد الله قد أحدث الحدث الذي وجب به نقض ما
أخذ الرشيد له قال: افتثبت الحجة عند العوام بمعلوم حدثه كما تثبت
الحجة بما جدد من عهده! قَالَ: لا، قَالَ: أفحدث هذا منكم يوجب عند
العامة نقض عهدكم ما لم يكن حدثه معلوما يجب به فسخ عهده! قَالَ: نعم،
قَالَ الرجل- ورفع صوته: بالله ما رأيت كاليوم رأي رجل يرتاد به النظر،
يشاور في رفع ملك في يده بالحجة ثم يصير إلى مطالبته بالعناد
والمغالبة! قَالَ: فأطرق الفضل مليا، ثم قال: صدقتني الرأي، واحتملت
ثقل الأمانة، ولكن أخبرني ان نحن أغمضنا من قالة العامة ووجدنا مساعدين
(8/385)
من شيعتنا وأجنادنا، فما القول؟ قَالَ:
أصلحك الله، وهل أجنادك إلا من عامتك في أخذ بيعتهم وتمكن برهان الحق
في قلوبهم! افليسوا وان اعطوك ظاهر طاعه هم مع ما تأكد من وثائق العهد
في معارفهم، قال: فان أعطونا بذلك الطاعة قال: لا طاعه دون ان تكون على
تثبت من البصائر.
قَالَ: نرغبهم بتشريف حظوظهم، قال: إذا يصيروا الى التقبل، ثم إلى
خذلانك عند حاجتك إلى مناصحتهم قَالَ: فما ظنك بأجناد عبد الله؟ قَالَ:
قوم على بصيره من امرهم لتقدم بيعتهم وما يتعاهدون من حظهم، قَالَ: فما
ظنك بعامتهم؟ قَالَ: قوم كانوا في بلوى عظيمه من تحيف ولاتهم في
أموالهم، ثم في أنفسهم صاروا به إلى الأمنية من المال والرفاغة في
المعيشة، فهم يدافعون عن نعمة حادثة لهم، ويتذكرون بليه لا يأمنون
العودة إليها قال: فهل من سبيل الى استفساد عظماء البلاد عليه، لتكون
محاربتنا اياه بالمكيدة من ناحيته، لا بالزخرف نحوه لمناجزته! قال: اما
الضعفاء فقد صاروا له البا لما نالوا به من الأمان والنصفة، وأما ذوو
القوة فلم يجدوا مطعنا ولا موضع حجه والضعفاء السواد الأكثر قال: ما
أراك ابقيت لنا موضع راى في اعتزالك الى اجنادنا، ولا تمكن النظر في
ناحيته باحتيالنا، ثم أشد من ذلك ما قلت به وهنة أجنادنا وقوة أجناده
في مخالفته وما تسخو نفس امير المؤمنين بترك ما لا يعرف من حقه، ولا
نفسي بالهدنة مع تقدم جرى في امره، وربما اقبلت الأمور مشرفه
بالمخالفة، ثم تكشف عن الفلج والدرك في العاقبه ثم تفرقا.
قال: وكان الفضل بْن الربيع أخذ بالمراصد لئلا تجاوز الكتب الحد، فكتب
الرسول مع امرأة، وجعل الكتاب وديعة في عود منقور من أعواد الأكاف،
وكتب إلى صاحب البريد بتعجيل الخبر، وكانت المرأة تمضي على المسالح
كالمجتازة من القرية إلى القرية، لا تهاج ولا تفتش وجاء الخبر إلى
المأمون موافقا لسائر ما ورد عليه من الكتب، قد شهد بعضها ببعض، فقال
لذى الرياستين: هذه أمور قد كان الرأي أخبر عن عيبها، ثم هذه طوالع
تخبر عن أواخرها، وكفانا أن نكون مع الحق، ولعل كرها يسوق خيرا.
قال: وكان أول ما دبره الفضل بْن سهل بعد ترك الدعاء للمأمون وصحه
(8/386)
الخبر به، أن جمع الأجناد التي كان أعدها
بجنبات الري مع أجناد قد كان مكنها فيها، واجناد للقيام بامرهم، وكانت
البلاد اجدبت بحضرتهم، فأعد لهم من الحمولة ما يحمل إليهم من كل فج
وسبيل، حتى ما فقدوا شيئا احتاجوا إليه، وأقاموا بالحد لا يتجاوزونه
ولا يطلقون يدا بسوء في عامد ولا مجتاز ثم أشخص طاهر بْن الحسين فيمن
ضم إليه من قواده وأجناده، فسار طاهر مغذا لا يلوي على شيء، حتى ورد
الري، فنزلها ووكل بأطرافها، ووضع مسالحه، وبث عيونه وطلائعه، فقال بعض
شعراء خراسان:
رمى أهل العراق ومن عليها ... إمام العدل والملك الرشيد
بأحزم من مشى رأيا وحزما ... وكيدا نافذا فيما يكيد
بداهيه ناد خنفقيق ... يشيب لهول صولتها الوليد
وذكر أن محمدا وجه عصمة بْن حماد بْن سالم إلى همذان في ألف رجل، وولاه
حرب كور الجبل، وأمره بالمقام بهمذان، وأن يوجه مقدمته إلى ساوة،
واستخلف أخاه عبد الرحمن بْن حماد على الحرس، وجعل الفضل بْن الربيع
وعلي بْن عيسى يلهبان محمدا، ويبعثانه على خلع المأمون والبيعه لابنه
موسى.
[أخبار متفرقة]
وفي هذه السنة عقد محمد بْن هارون في شهر ربيع الأول لابنه موسى على
جميع ما استخلفه عليه، وجعل صاحب أمره كله علي بْن عيسى بْن ماهان،
وعلى شرطه محمد بْن عيسى بْن نهيك، وعلى حرسه عثمان بن عيسى ابن نهيك،
وعلى خراجه عبد الله بْن عبيدة وعلى ديوان رسائله علي بْن صالح صاحب
المصلى.
وفي هذه السنة وثب الروم على ميخائيل صاحب الروم فهرب وترهب، وكان ملكه
سنتين فيما قيل
(8/387)
وفيها ملك على الروم ليون القائد.
وفيها صرف محمد بْن هارون إسحاق بْن سليمان عن حمص، وولاها عبد الله
بْن سعيد الحرشي، ومعه عافية بْن سليمان، فقتل عدة من وجوههم، وحبس
عدة، وحرق مدينتهم من نواحيها بالنار، فسألوه الأمان، فأجابهم فسكنوا
ثم هاجوا، فضرب أعناق عدة منهم.
(8/388)
ثم دخلت
سنة خمس وتسعين ومائة
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك ما كان من أمر محمد
بْن هارون بإسقاط ما كان ضرب لأخيه عبد الله المأمون من الدنانير
والدراهم بخراسان في سنة أربع وتسعين ومائة، لأن المأمون كان أمر ألا
يثبت فيها اسم محمد، وكان يقال لتلك الدنانير والدراهم الرباعية، وكانت
لا تجوز حينا.
النهى عن الدعاء للمأمون على المنابر
وفيها نهى الأمين عن الدعاء على المنابر في عمله كله للمأمون والقاسم،
وأمر بالدعاء له عليها ثم من بعده لابنه موسى، وذلك في صفر من هذه
السنة، وابنه موسى يومئذ طفل صغير، فسماه الناطق بالحق، وكان ما فعل من
ذلك عن رأي الفضل بْن الربيع، فقال في ذلك بعض الشعراء:
أضاع الخلافة غش الوزير ... وفسق الأمير، وجهل المشير
ففضل وزير، وبكر مشير ... يريدان ما فيه حتف الأمير
فبلغ ذلك المأمون، فتسمى بإمام الهدى، وكوتب بذلك
. عقد الإمرة لعلى بن عيسى
وفيها عقد محمد لعلي بْن عيسى بْن ماهان يوم الأربعاء لليلة خلت من شهر
ربيع الآخر على كور الجبل كلها: نهاوند وهمذان وقم وأصفهان،
(8/389)
حربها وخراجها، وضم إليه جماعة من القواد
وأمر له- فيما ذكر- بمائتي ألف دينار، ولولده بخمسين ألف دينار، وأعطى
الجند مالا عظيما، وأمر له من السيوف المحلاة بألفي سيف وستة آلاف ثوب
للخلع، وأحضر محمد أهل بيته ومواليه وقواده المقصورة بالشماسية يوم
الجمعة لثمان خلون من جمادى الآخرة، فصلى محمد الجمعة، ودخل وجلس لهم
ابنه موسى في المحراب، ومعه الفضل ابن الربيع وجميع من أحضر، فقرأ
عليهم كتابا من الأمين يعلمهم رأيه فيهم وحقه عليهم، وما سبق لهم من
البيعة متقدما مفردا بها، ولزوم ذلك لهم، وما أحدث عبد الله من التسمي
بالإمامة، والدعاء إلى نفسه، وقطع ذكره في دور الضرب والطرز، وأن ما
أحدث من ذلك ليس له، ولا ما يدعي من الشروط التي شرطت له بجائزة له
وحثهم على طاعته، والتمسك ببيعته.
وقام سعيد بْن الفضل الخطيب بعد قراءة الكتاب، فعارض ما في الكتاب
بتصديقه والقول بمثله ثم تكلم الفضل بْن الربيع وهو جالس، فبالغ في
القول وأكثر، وذكر أنه لا حق لأحد في الإمامة والخلافة إلا لأمير
المؤمنين محمد الأمين، وأن الله لم يجعل لعبد الله ولا لغيره في ذلك
حظا له ولا نصيبا فلم يتكلم أحد من أهل بيت محمد ولا غيرهم بشيء إلا
محمد بْن عيسى بْن نهيك ونفر من وجوه الحرس وقال الفضل بْن الربيع في
كلامه: إن الأمير موسى ابْن أمير المؤمنين قد أمر لكم يا معاشر أهل
خراسان من صلب ماله بثلاثة آلاف ألف درهم تقسم بينكم ثم انصرف الناس،
وأقبل علي بْن عيسى علي محمد يخبره أن أهل خراسان كتبوا إليه يذكرون
أنه إن خرج هو أطاعوه وانقادوا معه
. شخوص على بن عيسى الى حرب المأمون
وفيها شخص علي بْن عيسى إلى الري إلى حرب المأمون.
ذكر الخبر عن شخوصه إليها وما كان من أمره في شخوصه ذلك:
ذكر الفضل بْن إسحاق، أن علي بْن عيسى شخص من مدينة السلام
(8/390)
عشية الجمعة لخمس عشرة خلت من جمادى الآخرة
سنة خمس وتسعين ومائة، شخص عشية تلك فيما بين صلاة الجمعة إلى صلاة
العصر الى معسكره بنهر بين، فأقام فيه في زهاء أربعين ألفا، وحمل معه
قيد فضة ليقيد به المأمون بزعمه، وشخص معه محمد الأمين إلى النهروان
يوم الأحد لست بقين من جمادى الأخرة، فعرض بها الذين ضموا إلى علي بْن
عيسى، ثم أقام بقية يومه ذلك بالنهروان، ثم انصرف إلى مدينة السلام
وأقام علي بْن عيسى بالنهروان ثلاثة أيام، ثم شخص إلى ما وجه له مسرعا
حتى نزل همذان، فولى عليها عبد الله بْن حميد بْن قحطبة وقد كان محمد
كتب إلى عصمة بْن حماد بالانصراف في خاصة أصحابه وضم بقية العسكر وما
فيه من الأموال وغير ذلك إلى علي بْن عيسى، وكتب إلى أبي دلف القاسم
بْن عيسى بالانضمام إليه فيمن معه من اصحابه، ووجه معه هلال بْن عبد
الله الحضرمي، وأمر له بالفرض، ثم عقد لعبد الرحمن بْن جبله الابناوى
على الدينور، وأمره بالسير في بقية أصحابه، ووجه معه الفى الف درهم
حملت إليه قبل ذلك، ثم شخص علي بْن عيسى من همذان يريد الري قبل ورود
عبد الرحمن عليه، فسار حتى بلغ الري على تعبئة، فلقيه طاهر بْن الحسين
وهو في أقل من أربعة آلاف- وقيل كان في ثلاثة آلاف وثمانمائه- وخرج من
عسكر طاهر ثلاثة أنفس إلى علي بْن عيسى يتقربون إليه بذلك، فسألهم: من
هم؟
ومن أي البلدان هم؟ فأخبره احدهم انه كان من جند عيسى ابيه الذي قتله
رافع قَالَ: فأنت من جندي! فأمر به فضرب مائتي سوط، واستخف بالرجلين
وانتهى الخبر إلى أصحاب طاهر، فازدادوا جدا في محاربته ونفورا منه.
فذكر أحمد بْن هشام أنه لم يكن ورد عليهم الكتاب من المأمون، بان تسمى
بالخلافة، إذ التقيا- وكان أحمد على شرطة طاهر- فقلت لطاهر:
قد ورد علي بْن عيسى فيمن ترى، فإن ظهرنا له، فقال: أنا عامل أمير
المؤمنين وأقررنا له بذلك، لم يكن لنا أن نحاربه فقال لي طاهر: لم
يجئني في هذا
(8/391)
شيء، فقلت: دعني وما أريد، قَالَ: شأنك،
قَالَ: فصعدت المنبر، فخلعت محمدا، ودعوت للمأمون بالخلافة، وسرنا من
يومنا أو من غد يوم السبت، وكان ذلك في شعبان سنة خمس وتسعين ومائة،
فنزلنا قسطانة، وهي أول مرحلة من الري إلى العراق وانتهى علي بْن عيسى
إلى برية يقال لها مشكويه، وبيننا وبينه سبعه فراسخ، وجعلنا مقدمتنا
على فرسخين من جنده وكان علي بْن عيسى ظن أن طاهرا إذا رآه يسلم إليه
العمل، فلما رأى الجد منه، قال: هذا موضع مفازة، وليس موضع مقام.
فأخذ يساره إلى رستاق يقال له رستاق بني الرازي، وكان معنا الأتراك،
فنزلنا على نهر، ونزل قريبا منا، وكان بيننا وبينه دكادك وجبال، فلما
كان في آخر الليل جاءني رجل فأخبرني أن علي بْن عيسى دخل الري- وقد كان
كاتبهم فأجابوه- فخرجت معه إلى الطريق، فقلت له: هذا طريقهم، وما هنا
أثر حافر، وما يدل على أنه سار وجئت إلى طاهر فأنبهته، فقلت له: تصلي؟
قَالَ: نعم، فدعا بماء فتهيأ، فقلت له: الخبر كيت وكيت.
وأصبحنا، فقال لي: تركب، فوقفنا على الطريق، فقال لي: هل لك أن تجوز
هذه الدكادك؟ فأشرفنا على عسكر علي بْن عيسى وهم يلبسون السلاح، فقال:
ارجع، أخطأنا، فرجعنا فقال لي: اخرج أصحابنا قَالَ: فدعوت المأموني
والحسن بْن يونس المحاربي والرستمي، فخرجوا جميعا، فكان على الميمنة
المأموني، وعلى الميسره الرستمي ومحمد بْن مصعب.
قَالَ: وأقبل علي في جيشه، فامتلأت الصحراء بياضا وصفرة من السلاح
والمذهب، وجعل على ميمنته الحسين بْن علي ومعه أبو دلف القاسم بْن عيسى
بْن إدريس، وعلى ميسرته آخر، وكروا، فهزمونا حتى دخلوا العسكر، فخرج
إليهم الساعة السوعاء فهزموهم.
قَالَ: وقال طاهر لما رأى علي بْن عيسى: هذا ما لا قبل لنا به، ولكن
نجعلها خارجية، فقصد قصد القلب، فجمع سبعمائة رجل من الخوارزمية،
(8/392)
فيهم ميكائيل وسبسل وداود سياه.
قَالَ أحمد بْن هشام: قلنا لطاهر: نذكر علي بْن عيسى البيعة التي كانت،
والبيعة التي أخذها هو للمأمون خاصة على معاشر أهل خراسان، فقال: نعم،
قَالَ: فعلقناهما على رمحين، وقمت بين الصفين، فقلت: الأمان! لا ترمونا
ولا نرميكم، فقال علي بْن عيسى: ذلك لك، فقلت: يا علي بْن عيسى، ألا
تتقي الله! أليس هذه نسخة البيعة التي أخذتها أنت خاصة! اتق الله فقد
بلغت باب قبرك، فقال: من أنت؟ قلت: أحمد بْن هشام- وقد كان علي بْن
عيسى ضربه أربعمائة سوط- فصاح علي بْن عيسى: يا أهل خراسان، من جاء به
فله ألف درهم قَالَ: وكان معنا قوم بخارية، فرموه، وقالوا: نقتلك ونأخذ
مالك: وخرج من عسكره العباس بْن الليث مولى المهدي، وخرج رجل يقال له
حاتم الطائي، فشد عليه طاهر، وشد يديه على مقبض السيف، فضربه فصرعه
فقتله، وشد داود سياه على علي بْن عيسى فصرعه، وهو لا يعرفه وكان علي
بْن عيسى على برذون أرحل، حمله عليه محمد- وذلك يكره في الحرب ويدل على
الهزيمة- قَالَ: فقال داود: ناري أسنان كتبتم قَالَ: فقال طاهر الصغير-
وهو طاهر بْن التاجي: علي بْن عيسى أنت؟ قَالَ: نعم، أنا على بن عيسى،
وظن انه يهاب فلا يقدم عليه أحد، فشد عليه فذبحه بالسيف ونازعهم محمد
بْن مقاتل بْن صالح الرأس، فنتف محمد خصلة من لحيته، فذهب بها إلى طاهر
وبشره، وكانت ضربة طاهر هي الفتح، فسمي يومئذ ذا اليمينين بذلك السبب
لأنه أخذ السيف بيديه جميعا وتناول أصحابه النشاب ليرمونا، فلم أعلم
بقتل علي حتى قيل: قتل والله الأمير فتبعناهم فرسخين، وواقفونا اثني
عشرة مرة، كل ذلك نهزمهم، فلحقني طاهر بن التاجى، ومعه راس على ابن
عيسى، وكان آلى أن ينصب رأس أحمد عند المنبر الذي خلع عليه محمد، وقد
كان على أمر أن يهيأ له الغداء بالري قَالَ: فانصرفت فوجدت عيبه
(8/393)
على فيها دراعة وجبة وغلالة، فلبستها،
وصليت ركعتين شكرا لله تبارك وتعالى ووجدنا في عسكره سبعمائة كيس، في
كل كيس ألف درهم، ووجدنا عدة بغال عليها صناديق في أيدي أولئك البخارية
الذين شتموه، وظنوا أنه مال، فكسروا الصناديق، فإذا فيها خمر سوادي،
وأقبلوا يفرقون القناني، وقالوا: عملنا الجد حتى نشرب.
قَالَ أحمد بْن هشام: وجئت إلى مضرب طاهر، وقد اغتم لتأخري عنه، فقال:
لي البشرى! هذه خصله من لحيه على، فقلت له: البشرى! هذا رأس علي قَالَ:
فأعتق طاهر من كان بحضرته من غلمانه شكرا لله، ثم جاءوا بعلي وقد شد
الأعوان يديه الى رجليه، فحمل على خشبة كما يحمل الحمار الميت وأمر به
فلف في لبد وألقي في بئر قال: وكتب الى ذي الرياستين بالخبر.
قَالَ: فسارت الخريطة وبين مرو وذلك الموضع نحو من خمسين ومائتي فرسخ،
ليلة الجمعة وليلة السبت وليلة الأحد، ووردت عليهم يوم الأحد.
قال ذو الرياستين: كنا قد وجهنا هرثمة، واحتشدنا في السلاح مددا، وسار
في ذلك اليوم، وشيعه المأمون فقلت للمأمون: لا تبرح، حتى يسلم عليك
بالخلافة فقد وجبت لك، ولا نامن ان يقال: يصلح بين الأخوين، فإذا سلم
عليك بالخلافة لم يمكن أن ترجع فتقدمت أنا وهرثمة والحسن بْن سهل،
فسلمنا عليه بالخلافة، وتبادر شيعة المأمون، فرجعت وأنا كال تعب لم أنم
ثلاثة أيام في جهاز هرثمة، فقال لي الخادم: هذا عبد الرحمن بْن مدرك-
وكان يلي البريد، ونحن نتوقع الخريطة لنا أو علينا- فدخل وسكت، قلت:
ويلك! ما وراءك؟ قَالَ: الفتح، فإذا كتاب طاهر إلي: أطال الله بقاءك،
وكبت اعداءك، وجعل من يشنؤك فداءك، كتبت إليك ورأس علي بْن عيسى بين
يدي، وخاتمه في أصبعي، والحمد لله رب العالمين فوثبت إلى دار أمير
المؤمنين، فلحقني الغلام بالسواد، فدخلت على المأمون فبشرته، وقرأت
عليه الكتاب، فأمر بإحضار أهل بيته والقواد ووجوه الناس، فدخلوا فسلموا
عليه بالخلافة، ثم ورد رأس علي يوم الثلاثاء، فطيف به في خراسان
(8/394)
وذكر الحسن بْن أبي سعيد، قَالَ: عقدنا
لطاهر سنة أربع وتسعين ومائة فاتصل عقده إلى الساعة.
وذكر محمد بْن يحيى بْن عبد الملك النيسابوري، قَالَ: لما جاء نعي علي
ابن عيسى وقتله الى محمد بن زبيدة- وكان في وقته ذلك على الشط يصيد
السمك- فقال للذي أخبره: ويلك! دعني، فإن كوثرا قد اصطاد سمكتين وأنا
ما اصطدت شيئا بعد قال: وكان بعض اهل الحسد يقول: ظن طاهر إن عليا يعلو
عليه، وقال: متى يقوم طاهر لحرب علي مع كثرة جيشه وطاعة أهل خراسان له!
فلما قتل علي تضاءل، وقال: والله لو لقيه طاهر وحده لقاتله في جيشه حتى
يغلب أو يقتل دونه.
وقال رجل من أصحاب علي له بأس ونجده في قتل على ولقاء طاهر:
لقينا الليث مفترسا لديه ... وكنا ما ينهنهنا اللقاء
نخوض الموت والغمرات قدما ... إذا ما كر ليس به خفاء
فضعضع ركبنا لما التقينا ... وراح الموت وانكشف الغطاء
وأردى كبشنا والرأس منا ... كأن بكفه كان القضاء
ولما انتهى الخبر بقتل علي بْن عيسى إلى محمد والفضل، بعث إلى نوفل
خادم المأمون- وكان وكيل المأمون ببغداد وخازنه، وقيمه في أهله وولده
وضياعه وأمواله- عن لسان محمد، فأخذ منه الألف ألف درهم التي كان
الرشيد وصل بها المأمون، وقبض ضياعه وغلاته بالسواد، وولى عمالا من
قبله، ووجه عبد الرحمن الأبناوي بالقوة والعدة فنزل همذان.
وذكر بعض من سمع عبد الله بْن خازم عند ذلك يقول: يريد محمد إزالة
الجبال وفل العساكر بتدبيره والمنكوس من تظهيره، هيهات! هو والله كما
قَالَ الأول:
قد ضيع الله ذودا أنت راعيها
(8/395)
ولما بايع محمد لابنه موسى ووجه علي بْن
عيسى، قَالَ الشاعر من أهل بغداد في ذلك لما رأى تشاغل محمد بلهوه
وبطالته وتخليته عن تدبير على والفضل ابن الربيع:
أضاع الخلافة غش الوزير ... وفسق الإمام وجهل المشير؟
ففضل وزير، وبكر مشير ... يريدان ما فيه حتف الأمير
وما ذاك إلا طريق غرور ... وشر المسالك طرق الغرور
لواط الخليفة أعجوبة ... وأعجب منه خلاق الوزير
فهذا يدوس وهذا يداس ... كذاك لعمري اختلاف الأمور
فلو يستعينان هذا بذاك ... لكانا بعرضة أمر ستير
ولكن ذا لج في كوثر ... ولم يشف هذا دعاس الحمير
فشنع فعلاهما منهما ... وصارا خلافا كبول البعير
وأعجب من ذا وذا أننا ... نبايع للطفل فينا الصغير
ومن ليس يحسن غسل استه ... ولم يخل من بوله حجر ظير
وما ذاك إلا بفضل وبكر ... يريدان نقض الكتاب المنير
وهذان لولا انقلاب الزمان ... أفي العير هذان أم في النفير
ولكنها فتن كالجبال ... ترفع فيها الوضيع الحقير
فصبرا ففي الصبر خير كثير ... وإن كان قد ضاق صدر الصبور
فيا رب فاقبضهما عاجلا ... إليك واوردهم عذاب السعير
ونكل بفضل وأشياعه ... وصلبهم حول هذي الجسور
وذكر أن محمدا لما بعث إلى المأمون في البيعة لابنه موسى، ووجه الرسل
إليه في ذلك، كتب المأمون جواب كتابه:
(8/396)
أما بعد، فقد انتهى إلي كتاب أمير المؤمنين
منكرا لإبائي منزلة تهضمني بها، وأرادني على خلاف ما يعلم من الحق
فيها، ولعمري ان لو رد امير المؤمنين الأمر الى النصفة فلم يطالب إلا
بها، ولم يوجب نكرة على تركها، لانبسطت بالحجة مطالع مقالته، ولكنت
محجوجا بمفارقه ما يجب من طاعته، فأما وأنا مذعن بها وهو على ترك
أعمالها، فأولى به أن يدير الحق في أمره، ثم يأخذ به، ويعطي من نفسه،
فإن صرت إلى الحق فرغت عن قلبه، وان أبيت الحق قام الحق بمعذرته واما
ما وعد من بر بطاعته، وأوعد من الوطأة بمخالفته، فهل أحد فارق الحق في
فعله فابقى للمستبين موضع ثقة بقوله! والسلام.
قَالَ: وكتب إلى علي بْن عيسى لما بلغه ما عزم عليه:
أما بعد، فإنك في ظل دعوة لم تزل أنت وسلفك بمكان ذب عن حريمها، وعلى
العنايه بحفظها ورعاية لحقها، توجبون ذلك لأئمتكم، وتعتصمون بحبل
جماعتكم، وتعطون بالطاعة من أنفسكم، وتكونون يدا على اهل مخالفتكم،
وحزبا وأعوانا لأهل موافقتكم، تؤثرونهم على الآباء والأبناء، وتتصرفون
فيما تصرفوا فيه من منزله شديده ورجاء، لا ترون شيئا أبلغ في صلاحكم من
الأمر الجامع لألفتكم، ولا أحرى لبواركم مما دعا الى شتات كلمتكم، ترون
من رغب عن ذلك جائرا عن القصد وعن أمه على منهاج الحق، ثم كنتم على
أولئك سيوفا من سيوف نقم الله، فكم من أولئك قد صاروا وديعة مسبعة،
وجزرا جامدة، قد سفت الرياح في وجهه، وتداعت السباع إلى مصرعه، غير
ممهد ولا موسد قد صار إلى أمة، وغير عاجل حظه، ممن كانت الأئمة تنزلكم
لذلك، بحيث أنزلتم أنفسكم، من الثقة بكم في أمورها، والتقدمة في
آثارها، وأنت مستشعر دون كثير من ثقاتها وخاصتها، حتى بلغ الله بك في
نفسك أن كنت قريع اهل دعوتك، والعلم القائم بمعظم امر ائمتك، إن قلت:
ادنوا دنوا وإن أشرت: أقبلوا أقبلوا وان امسكت وقفوا وأقروا، وئاما لك
واستنصاحا، وتزداد نعمة مع الزيادة في نفسك، ويزدادون نعمة مع الزيادة
لك بطاعتك، حتى حللت المحل الذي
(8/397)
قربت به من يومك، وانقرض فيما دونه أكثر
مدتك، لا ينتظر بعدها إلا ما يكون ختام عملك من خير فيرضى ما تقدم من
صالح فعلك، أو خلاف فيضل له متقدم سعيك، وقد ترى يا أبا يحيى حالا
عليها جلوت أهل نعمتك، والولاة القائمة بحق إمامتك، من طعن في عقده كنت
القائم بشدها، وخثر بعهود توليت معاقد أخذها، يبدأ فيها بالأخصين، حتى
أفضى الأمر إلى العامة من المسلمين، بالأيمان المحرجه والمواثيق
المؤكدة وما طلع مما يدعو الى نشر كلمه، وتفريق امر أمه وشت امر جماعة،
وتتعرض به لتبديل نعمة وزوال ما وطأت الأسلاف من الأئمة، ومتى زالت
نعمة من ولاة أمركم وصل زوالها إليكم في خواص انفسكم، ولن يغير الله ما
بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وليس الساعي في نشرها
بساع فيها على نفسه دون السعى على حملتها، القائمين بحرمتها، قد عرضوهم
أن يكونوا جزرا لاعدائهم، وطعمه قوم تتظفر مخالبهم في دمائهم ومكانك
المكان الذي إن قلت رجع إلى قولك، وإن أشرت لم تتهم في نصيحتك، ولك مع
إيثار الحق الحظوة عند أهل الحق ولا سواء من حظي بعاجل مع فراق الحق
فأوبق نفسه في عاقبته، ومن أعان الحق فأدرك به صلاح العاقبة، مع وفور
الحظ في عاجلته، وليس لك ما تستدعى ولا عليه ما تستعطف، ولكنه حق من حق
إحسابك يجب ثوابه على ربك، ثم على من قمت بالحق فيه من أهل إمامتك، فإن
أعجزك قول أو فعل فصر إلى الدار التي تأمن فيها على نفسك وتحكم فيها
برأيك، وتنحاز إلى من يحسن تقبلا لصالح فعلك، ويكون مرجعك إلى عقدك
وأموالك، ولك بذلك الله، وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا* وإن تعذر ذلك بقية
على نفسك، فإمساكا بيدك، وقولا بحق، ما لم تخف وقوعه بكرهك، فلعل
مقتديا بك، ومغتبطا بنهيك.
ثم أعلمني رأيك أعرفه إن شاء الله.
قَالَ: فأتى علي بالكتاب إلى محمد، فشب أهل النكث من الكفاة من تلهيبه،
وأوقدوا نيرانه، وأعان على ذلك حميا قدرته، وتساقط طبيعته، ورد الرأي
إلى الفضل بْن الربيع لقيامه كان بمكانفته.
وكانت كتب ذي الرياستين ترد إلى الدسيس الذي كان يشاوره في امره: ان
(8/398)
ابى القوم الا عزمه الخلاف، فالطف لأن
يجعلوا أمره لعلي بْن عيسى وانما خص ذو الرياستين عليا بذلك لسوء أثره
في أهل خراسان، واجتماع رأيهم على ما كرهه، وأن العامة قائلة بحربه
فشاور الفضل الدسيس الذي كان يشاوره، فقال: على بن عيسى ان فعل فلم
ترمهم بمثله، في بعد صوبه وسخاوة نفسه، ومكانه في بلاد خراسان في طول
ولايته عليهم وكثرة صنائعه فيهم، ثم هو شيخ الدعوة وبقية أهل المشايعة،
فأجمعوا على توجيه علي، فكان من توجيهه ما كان وكان يجتمع للمأمون
بتوجيه علي جندان: أجناده الذين يحاربه بهم، والعامه من اهل خراسان حرب
عليه لسوء أثره فيهم، وذلك رأي يكثر الإخطار به إلا في صدور رجال ضعاف
الرأي لحال علي في نفسه، وما تقدم له ولسلفه، فكان ما كان من أمره
ومقتله.
وذكر سهل أن عمرو بْن حفص مولى محمد قَالَ: دخلت على محمد في جوف
الليل- وكنت من خاصته أصل إليه حيث لا يصل إليه أحد من مواليه وحشمه-
فوجدته والشمع بين يديه، وهو يفكر، فسلمت عليه فلم يرد علي، فعلمت أنه
في تدبير بعض أموره، فلم أزل واقفا على رأسه حتى مضى أكثر الليل، ثم
رفع رأسه إلي، فقال: أحضرني عبد الله بْن خازم، فمضيت إلى عبد الله،
فأحضرته، فلم يزل في مناظرته حتى انقضى الليل، فسمعت عبد الله وهو
يقول: أنشدك الله يا أمير المؤمنين أن تكون أول الخلفاء نكث عهده، ونقض
ميثاقه، واستخف بيمينه، ورد رأي الخليفة قبله! فقال: أسكت، لله أبوك!
فعبد الملك كان أفضل منك رأيا، وأكمل نظرا، حيث يقول: لا يجتمع فحلان
في هجمة قَالَ عمرو بْن حفص: وسمعت محمدا يقول للفضل ابن الربيع: ويلك
يا فضل! لا حياة مع بقاء عبد الله وتعرضه، ولا بد من خلعه، والفضل
يعينه على ذلك، ويعده أن يفعل، وهو يقول: فمتى ذلك! إذا غلب على خراسان
وما يليها! وذكر بعض خدم محمد أن محمدا لما هم بخلع المأمون والبيعة
لابنه، جمع وجوه القواد، فكان يعرض عليهم واحدا واحدا، فيأبونه، وربما
(8/399)
ساعده قوم حتى بلغ إلى خزيمة بْن خازم،
فشاوره في ذلك، فقال:
يا أمير المؤمنين، لم ينصحك من كذبك ولم يغشك من صدقك، لا تجرئ القواد
على الخلع فيخلعوك، ولا تحملهم على نكث العهد فينكثوا عهدك وبيعتك، فإن
الغادر مخذول، والناكث مفلول وأقبل علي بْن عيسى بْن ماهان، فتبسم
محمد، ثم قَالَ: لكن شيخ هذه الدعوة، وناب هذه الدولة لا يخالف على
إمامه، ولا يوهن طاعته، ثم رفعه إلى موضع لم أره رفعه إليه فيما مضى،
فيقال: إنه أول القواد أجاب إلى خلع عبد الله، وتابع محمدا على رأيه.
قَالَ أبو جعفر: ولما عزم محمد على خلع عبد الله، قال له الفضل بن
الربيع: الا تعذر إليه يا أمير المؤمنين فإنه أخوك، ولعله يسلم هذا
الأمر في عافية، فتكون قد كفيت مؤونته، وسلمت من محاربته ومعاندته!
قَالَ:
فأفعل ماذا؟ قَالَ: تكتب إليه كتابا، تستطيب به نفسه، وتسكن وحشته،
وتسأله الصفح لك عما في يده، فإن ذلك أبلغ في التدبير، وأحسن في القالة
من مكاثرته بالجنود، ومعالجته بالكيد فقال له: أعمل في ذلك برأيك فلما
حضر إسماعيل بْن صبيح للكتاب إلى عبد الله قَالَ: يا أمير المؤمنين، إن
مسألتك الصفح عما في يديه توليد للظن، وتقوية للتهمة، ومدعاة للحذر،
ولكن اكتب إليه فأعلمه حاجتك إليه، وما تحب من قربه والاستعانة برأيه،
وسله القدوم إليك، فإن ذلك أبلغ وأحرى أن يبلغ فيما يوجب طاعته وإجابته
فقال الفضل: القول ما قَالَ يا أمير المؤمنين، قَالَ: فليكتب بما رأى،
قَالَ: فكتب إليه:
من عند الأمين محمد أمير المؤمنين إلى عبد الله بْن هارون أمير
المؤمنين.
أما بعد، فإن أمير المؤمنين روى في امرك، والموضع الذى أنت فيه من
ثغره، وما يؤمل في قربك من المعاونة والمكانفه على ما حمله الله، وقلده
من أمور عباده وبلاده، وفكر فيما كان أمير المؤمنين الرشيد أوجب لك من
الولاية، وأمر به من افرادك على ما يصير إليك منها، فرجا أمير المؤمنين
ألا يدخل عليه وكف في دينه، ولا نكث في يمينه، إذ كان إشخاصه إياك فيما
يعود على
(8/400)
المسلمين نفعه، ويصل إلى عامتهم صلاحه
وفضله وعلم أمير المؤمنين أن مكانك بالقرب منه أسد للثغور، وأصلح
للجنود، وآكد للفيء، وأرد على العامة من مقامك ببلاد خراسان منقطعا عن
أهل بيتك، متغيبا عن أمير المؤمنين وما يجب الاستمتاع به من رأيك
وتدبيرك وقد رأى أمير المؤمنين أن يولي موسى بن أمير المؤمنين فيما
يقلده من خلافتك ما يحدث إليه من أمرك ونهيك فاقدم على أمير المؤمنين
على بركة الله وعونه، بأبسط أمل وأفسح رجاء وأحمد عاقبة، وأنفذ بصيرة،
فإنك أولى من استعان به أمير المؤمنين على أموره، واحتمل عنه النصب
فيما فيه من صلاح اهل ملته وذمته والسلام ودفع الكتاب إلى العباس بْن
موسى بْن عيسى بْن موسى بْن محمد بْن علي، وإلى عيسى بْن جعفر بْن أبي
جعفر، وإلى محمد بْن عيسى بْن نهيك، وإلى صالح صاحب المصلى، وأمرهم أن
يتوجهوا به الى عبد الله المأمون، والا يدعوا وجها من اللين والرفق إلا
بلغوه، وسهلوا الأمر عليه فيه، وحمل بعضهم الأموال والألطاف والهدايا،
وذلك في سنة أربع وتسعين ومائة فتوجهوا بكتابه، فلما وصلوا إلى عبد
الله، أذن لهم، فدفعوا إليه كتاب محمد، وما كان بعث به معهم من الأموال
والالطاف والهدايا ثم تكلم العباس بْن موسى بْن عيسى، فَحَمِدَ اللَّهَ
وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:
أَيُّهَا الأمير، إن أخاك قد تحمل من الخلافة ثقلا عظيما، ومن النظر في
أمور الناس عبئا جليلا، وقد صدقت نيته في الخير، فأعوزه الوزراء
والأعوان والكفاه في العدل، وقليل ما يأنس بأهل بيته، وأنت أخوه
وشقيقه، وقد فزع إليك في أموره، واملك للموازره والمكانفه، ولسنا
نستبطئك في بره اتهاما لنصرك له، ولا نحضك على طاعة تخوفا لخلافك عليه،
وفي قدومك عليه أنس عظيم، وصلاح لدولته وسلطانه، فأجب أيها الأمير دعوة
أخيك وآثر طاعته، وأعنه على ما استعانك عليه في أمره، فإن في ذلك قضاء
الحق، وصلة الرحم، وصلاح الدولة، وعز الخلافة عزم الله للأمير على
الرشد في أموره، وجعل له الخيرة والصلاح في عواقب رأيه
(8/401)
وتكلم عيسى بْن جعفر بْن أبي جعفر، فقال:
ان الاكثار على الأمير- ايده الله- في القول خرق، والاقتصاد في تعريفه
ما يجب من حق أمير المؤمنين تقصير، وقد غاب الأمير أكرمه الله عن أمير
المؤمنين، ولم يستغن عن قربه، ومن شهد غيره من اهل بيته فلا يجد عنده
غناء، ولا يجد منه خلفا ولا عوضا، والأمير أولى من بر أخاه، وأطاع
إمامه، فليعمل الأمير فيما كتب به إليه أمير المؤمنين، بما هو أرضى
وأقرب من موافقة أمير المؤمنين ومحبته، فإن القدوم عليه فضل وحظ عظيم،
والإبطاء عنه وكف في الدين، وضرر ومكروه على المسلمين.
وتكلم محمد بْن عيسى بْن نهيك، فقال: أيها الأمير، إنا لا نزيدك
بالإكثار والتطويل فيما أنت عليه من المعرفة بحق امير المؤمنين، ولا
نشحذ نيتك بالأساطير والخطب فيما يلزمك من النظر والعناية بأمور
المسلمين وقد أعوز أمير المؤمنين الكفاة والنصحاء بحضرته، وتناولك فزعا
إليك في المعونة والتقوية له على أمره، فإن تجب امير المؤمنين فيما
دعاك فنعمه عظيمه تتلافى بها رعيتك وأهل بيتك، وإن تقعد يغن الله أمير
المؤمنين عنك، ولن يضعه ذلك مما هو عليه من البر بك والاعتماد على
طاعتك ونصيحتك.
وتكلم صاحب المصلى، فقال: أيها الأمير، إن الخلافة ثقيلة والأعوان
قليل، ومن يكيد هذه الدولة وينطوي على غشها والمعاندة لأوليائها من أهل
الخلاف والمعصية كثير، وأنت أخو أمير المؤمنين وشقيقه، وصلاح الأمور
وفسادها راجع عليك وعليه، إذ أنت ولي عهده، والمشارك في سلطانه
وولايته، وقد تناولك أمير المؤمنين بكتابه، ووثق بمعاونتك على ما
استعانك عليه من أموره، وفي إجابتك إياه إلى القدوم عليه صلاح عظيم في
الخلافة، وأنس وسكون لأهل الملة والذمة وفق الله الأمير في أموره، وقضى
له بالذي هو أحب إليه وأنفع له! فحمد الله المأمون وأثنى عليه، ثم
قَالَ: قد عرفتموني من حق أمير المؤمنين أكرمه الله ما لا أنكره،
ودعوتموني من الموازرة والمعونة إلى ما أوثره ولا أدفعه، وأنا لطاعة
أمير المؤمنين مقدم، وعلى المسارعة إلى ما سره ووافقه حريص، وفي
(8/402)
الروية تبيان الرأي، وفي أعمال الرأي نصح
الاعتزام، والأمر الذي دعاني إليه أمير المؤمنين أمر لا أتأخر عنه
تثبطا ومدافعة، ولا أتقدم عليه اعتسافا وعجلة، وأنا في ثغر من ثغور
المسلمين كلب عدوه، شديد شوكته، وإن أهملت أمره لم آمن دخول الضرر
والمكروه على الجنود والرعية، وان اقمت لم آمن فوت ما أحب من معونة
أمير المؤمنين وموازرته، وإيثار طاعته، فانصرفوا حتى أنظر في أمري،
ونصح الرأي فيما أعتزم عليه من مسيري إن شاء الله ثم أمر بإنزالهم
وإكرامهم والإحسان إليهم.
فذكر سفيان بْن محمد أن المأمون لما قرأ الكتاب أسقط في يده، وتعاظمه
ما ورد عليه منه، ولم يدر ما يرد عليه، فدعا الفضل بْن سهل، فأقرأه
الكتاب، وقال: ما عندك في هذا الأمر؟ قَالَ: أرى أن تتمسك بموضعك، ولا
تجعل عليك سبيلا، وأنت تجد من ذلك بدا قَالَ: وكيف يمكنني التمسك
بموضعي ومخالفة محمد، وعظم القواد والجنود معه، وأكثر الأموال والخزائن
قد صارت إليه، مع ما قد فرق في أهل بغداد من صلاته وفوائده! وإنما
الناس مائلون مع الدراهم، منقادون لها، لا ينظرون إذا وجدوها حفظ بيعة،
ولا يرغبون في وفاء عهد ولا أمانة فقال له الفضل: إذا وقعت التهمه حق
الاحتراس، وانا الغدر محمد متخوف، ومن شرهه إلى ما في يديك مشفق، ولأن
تكون في جندك وعزك مقيما بين ظهراني أهل ولايتك أحرى، فإن دهمك منه أمر
جردت له وناجزته وكايدته، فإما أعطاك الله الظفر عليه بوفائك ونيتك، أو
كانت الأخرى فمت محافظا مكرما، غير ملق بيديك، ولا ممكن عدوك من
الاحتكام في نفسك ودمك قَالَ: إن هذا الأمر لو كان أتاني وأنا في قوة
من أمري، وصلاح من الأمور، كان خطبه يسيرا، والاحتيال في دفعه ممكنا،
ولكنه أتاني بعد إفساد خراسان واضطراب عامرها وغامرها، ومفارقه جبغويه
الطاعة، والتواء خاقان صاحب التبت، وتهيؤ ملك كابل للغارة على ما يليه
من بلاد خراسان، وامتناع ملك ابراز بنده بالضريبة التي كان يؤديها، وما
لي بواحدة من هذه الأمور يد، وأنا أعلم أن محمدا لم يطلب قدومي
(8/403)
إلا لشر يريده، وما أرى إلا تخلية ما أنا
فيه، واللحاق بخاقان ملك الترك، والاستجارة به وببلاده، فبالحرى أن آمن
على نفسي، وأمتنع ممن أراد قهري والغدر بي.
فقال له الفضل: أيها الأمير، إن عاقبة الغدر شديدة، وتبعه الظلم والبغي
غير مأمون شرها، ورب مستذل قد عاد عزيزا، ومقهور قد عاد قاهرا مستطيلا،
وليس النصر بالقلة والكثرة، وحرج الموت أيسر من حرج الذل والضيم، وما
أرى أن تفارق ما أنت فيه وتصير إلى طاعة محمد متجردا من قوادك وجندك
كالرأس المختزل عن بدنه، يجري عليك حكمه، فتدخل في جملة أهل مملكته من
غير أن تبلي عذرا في جهاد ولا قتال، ولكن اكتب الى جبغويه وخاقان،
فولهما بلادهما، وعدهما التقوية لهما في محاربة الملوك، وابعث إلى ملك
كابل بعض هدايا خراسان وطرفها، وسله الموادعة تجده على ذلك حريصا، وسلم
الملك ابراز بنده ضريبته في هذه السنه، وصيرها صله منك وصلته بها، ثم
اجمع إليك أطرافك، واضمم إليك من شذ من جندك، ثم اضرب الخيل بالخيل،
والرجال بالرجال، فإن ظفرت وإلا كنت على ما تريد من اللحاق بخاقان
قادرا فعرف عبد الله صدق ما قَالَ، فقال: اعمل في هذا الأمر وغيره من
أموري بما ترى، وأنفذ الكتب إلى أولئك العصاة، فرضوا وأذعنوا، وكتب إلى
من كان شاذا عن مرو من القواد والجنود، فأقدمهم عليه، وكتب إلى طاهر
بْن الحسين وهو يومئذ عامل عبد الله علي الري، فأمره أن يضبط ناحيته،
وأن يجمع إليه أطرافه، ويكون على حذر وعده من جيش ان طرقه، أو عدو ان
هجم عليه واستعد للحرب، وتهيأ لدفع محمد عن بلاد خراسان.
ويقال: إن عبد الله بعث إلى الفضل بْن سهل فاستشاره في أمر محمد، فقال:
ايها الأمير، انظرنى في يومي هذا أغد عليك برأي، فبات يدبر الرأي
ليلته، فلما أصبح غدا عليه، فأعلمه أنه نظر في النجوم فرأى أنه سيغلبه،
وأن العاقبة له فأقام عبد الله بموضعه، ووطن نفسه على محاربة محمد
ومناجزته
(8/404)
فلما فرغ عبد الله مما أراد إحكامه من امر
خراسان، كتب الى محمد:
لعبد الله محمد أمير المؤمنين من عبد الله بْن هارون، أما بعد، فقد وصل
إلي كتاب أمير المؤمنين، وإنما أنا عامل من عماله وعون من أعوانه،
أمرني الرشيد صلوات الله عليه بلزوم هذا الثغر، ومكايدة من كايد أهله
من عدو أمير المؤمنين، ولعمري أن مقامي به، أرد على أمير المؤمنين
وأعظم غناء عن المسلمين من الشخوص إلى أمير المؤمنين، وإن كنت مغتبطا
بقربه، مسرورا بمشاهدة نعمة الله عنده، فإن رأى أن يقرني على عملي،
ويعفيني من الشخوص إليه، فعل إن شاء الله والسلام.
ثم دعا العباس بْن موسى وعيسى بْن جعفر ومحمدا وصالحا، فدفع الكتاب
إليهم، وأحسن إليهم في جوائزهم، وحمل إلى محمد ما تهيأ له من ألطاف
خراسان، وسألهم أن يحسنوا أمره عنده، وأن يقوموا بعذره.
قَالَ سفيان بْن محمد: لما قرأ محمد كتاب عبد الله، عرف أن المأمون لا
يتابعه على القدوم عليه، فوجه عصمة بْن حماد بْن سالم صاحب حرسه، وأمره
أن يقيم مسلحة فيما بين همذان والري، وأن يمنع التجار من حمل شيء إلى
خراسان من الميرة، وأن يفتش المارة، فلا يكون معهم كتب باخباره وما
يريد، وذلك سنة أربع وتسعين ومائة ثم عزم على محاربته، فدعا على ابن
عيسى بْن ماهان، فعقد له على خمسين الف فارس ورجل من أهل بغداد، ودفع
إليه دفاتر الجند، وأمره أن ينتقي ويتخير من أراد على عينه، ويخص من
أحب ويرفع من أراد إلى الثمانين، وأمكنه من السلاح وبيوت الأموال، ثم
وجهوا إلى المأمون.
فذكر يزيد بْن الحارث، قَالَ: لما أراد علي الشخوص إلى خراسان ركب إلى
باب أم جعفر، فودعها، فقالت: يا علي، إن أمير المؤمنين وإن كان ولدي،
إليه تناهت شفقتي، وعليه تكامل حذري، فإني على عبد الله منعطفة مشفقة،
لما يحدث عليه من مكروه وأذى، وإنما ابني ملك نافس أخاه في
(8/405)
سلطانه، وغاره على ما في يده، والكريم يأكل
لحمه ويمنعه غيره، فاعرف لعبد الله حق والده وأخوته، ولا تجبهه
بالكلام، فإنك لست نظيره، ولا تقتسره اقتسار العبيد، ولا ترهقه بقيد
ولا غل، ولا تمنع منه جارية ولا خادما، ولا تعنف عليه في السير، ولا
تساوه في المسير، ولا تركب قبله، ولا تستقل على دابتك حتى تأخذ بركابه،
وإن شتمك فاحتمل منه، وإن سفه عليك فلا تراده ثم دفعت إليه قيدا من
فضة، وقالت: إن صار في يدك فقيده بهذا القيد فقال لها: سأقبل أمرك،
وأعمل في ذلك بطاعتك.
وأظهر محمد خلع المأمون، وبايع لابنيه- في جميع الآفاق إلا خراسان-
موسى وعبد الله، واعطى عند بيعتهما بني هاشم والقواد والجند الأموال
والجوائز، وسمى موسى الناطق بالحق، وسمى عبد الله القائم بالحق ثم خرج
علي بْن عيسى لسبع ليال خلون من شعبان سنة خمس وتسعين ومائة من بغداد
حتى عسكر بالنهروان، وخرج معه يشيعه محمد، وركب القواد والجنود، وحشرت
الأسواق، وأشخص معه الصناع والفعلة، فيقال: أن عسكره كان فرسخا
بفسطاطيه وأهبته وأثقاله، فذكر بعض أهل بغداد أنهم لم يروا عسكرا كان
أكثر رجالا، وأفره كراعا، وأظهر سلاحا، وأتم عدة، وأكمل هيئة، من
عسكره.
وذكر عمرو بْن سعيد أن محمدا لما جاز باب خراسان نزل على فترجل، وأقبل
يوصيه، فقال: امنع جندك من العبث بالرعية والغارة على أهل القرى وقطع
الشجر وانتهاك النساء، وول الري يحيى بْن علي، واضمم إليه جندا كثيفا،
ومره ليدفع الى جنده أرزاقهم مما يجبى من خراجها، وول كل كورة ترحل
عنها رجلا من أصحابك، ومن خرج إليك من جند أهل خراسان ووجوهها فأظهر
إكرامه وأحسن جائزته، ولا تعاقب أخا بأخيه، وضع عن أهل خراسان ربع
الخراج، ولا تؤمن أحدا رماك بسهم، أو طعن في أصحابك برمح، ولا تأذن
لعبد الله في المقام أكثر من ثلاثة من اليوم الذي تظهر فيه عليه، فإذا
اشخصته فليكن مع أوثق أصحابك عندك، فإن غره الشيطان فناصبك
(8/406)
فاحرص على أن تأسره أسرا، وإن هرب منك إلى
بعض كور خراسان، فتول إليه المسير بنفسك أفهمت كل ما أوصيك به؟ قَالَ:
نعم، أصلح الله أمير المؤمنين! قَالَ: سر على بركة الله وعونه! وذكر أن
منجمه أتاه فقال: أصلح الله الأمير! لو انتظرت بمسيرك صلاح القمر، فإن
النحوس عليه عالية، والسعود عنه ساقطة منصرفة! فقال لغلام له: يا سعيد،
قل لصاحب المقدمة يضرب بطبله ويقدم علمه، فإنا لا ندري ما فساد القمر
من صلاحه، غير أنه من نازلنا نازلناه، ومن وادعنا وادعناه وكففنا عنه،
ومن حاربنا وقاتلنا لم يكن لنا إلا ارواء السيف من دمه إنا لا نعتد
بفساد القمر، فإنا وطنا أنفسنا على صدق اللقاء ومناجزة الأعداء.
قَالَ أبو جعفر: وذكر بعضهم أنه قَالَ: كنت فيمن خرج في عسكر علي بْن
عيسى بْن ماهان، فلما جاز حلوان لقيته القوافل من خراسان، فكان يسألها
عن الأخبار، يستطلع علم أهل خراسان، فيقال له: إن طاهرا مقيم بالري
يعرض أصحابه، ويرم آلته، فيضحك ثم يقول: وما طاهر! فو الله ما هو إلا
شوكة من أغصاني، أو شرارة من ناري، وما مثل طاهر يتولى على الجيوش،
ويلقى الحروب، ثم التفت إلى أصحابه فقال: والله ما بينكم وبين أن ينقصف
انقصاف الشجر من الريح العاصف، إلا أن يبلغه عبورنا عقبة همذان، فإن
السخال لا تقوى على النطاح، والثعالب لا صبر لها على لقاء الأسد، فإن
يقم طاهر بموضعه يكن أول معرض لظباة السيوف وأسنة الرماح.
وذكر يزيد بْن الحارث أن علي بْن عيسى لما صار إلى عقبة همذان استقبل
قافلة قدمت من خراسان، فسألهم عن الخبر، فقالوا: إن طاهرا مقيم بالري،
وقد استعد للقتال، واتخذ آلة الحرب، وإن المدد يترى عليه من خراسان وما
يليها من الكور، وإنه في كل يوم يعظم أمره، ويكثر
(8/407)
أصحابه، وإنهم يرون أنه صاحب جيش خراسان
قَالَ علي: فهل شخص من أهل خراسان احد يعتد به؟ قالوا: لا، غير أن
الأمور بها مضطربة، والناس رعبون، فأمر بطي المنازل والمسير، وقال
لأصحابه: إن نهاية القوم الري، فلو قد صيرناها خلف ظهورنا فت ذلك في
أعضادهم، وانتشر نظامهم، وتفرقت جماعتهم ثم أنفذ الكتب إلى ملوك الديلم
وجبال طبرستان وما والاها من الملوك، يعدهم الصلات والجوائز وأهدى
اليهم التيجان والأسورة والسيوف المحلاة بالذهب، وأمرهم أن يقطعوا طريق
خراسان، ويمنعوا من أراد الوصول إلى طاهر من المدد، فأجابوه إلى ذلك،
وسار حتى صار في أول بلاد الري، وأتاه صاحب مقدمته، فقال: لو كنت- أبقى
الله الأمير- أذكيت العيون، وبعثت الطلائع، وارتدت موضعا تعسكر فيه،
وتتخذ خندقا لأصحابك يأمنون به، كان ذلك أبلغ في الرأي، وآنس للجند
قَالَ: لا، ليس مثل طاهر يستعد له بالمكايد والتحفظ، إن حال طاهر تؤول
إلى أحد أمرين:
إما أن يتحصن بالري فيبيته أهلها فيكفوننا مؤنته، أو يخليها ويدبر
راجعا لو قربت خيولنا وعساكرنا منه وأتاه يحيى بْن علي، فقال: اجمع
متفرق العسكر، واحذر على جندك البيات، ولا تسرح الخيل إلا ومعها كنف من
القوم، فإن العساكر لا تساس بالتواني، والحروب لا تدبر بالاغترار،
والثقة أن تحترز، ولا تقل: إن المحارب لي طاهر، فالشرارة الخفية ربما
صارت ضراما، والثلمة من السيل ربما اغتر بها وتهون فصارت بحرا عظيما،
وقد قربت عساكرنا من طاهر، فلو كان رأيه الهرب لم يتأخر إلى يومه هذا
قَالَ:
اسكت، فإن طاهرا ليس في هذا الموضع الذى ترى، وانما تتحفظ الرجال إذا
لقيت أقرانها، وتستعد إذا كان المناوئ لها أكفاءها ونظراءها وذكر عبد
الله بْن مجالد، قَالَ: أقبل علي بْن عيسى حتى نزل من الري على عشرة
فراسخ، وبها طاهر قد سد أبوابها، ووضع المسالح على طرقها، واستعد
لمحاربته، فشاور طاهر أصحابه، فأشاروا عليه أن يقيم بمدينة الري،
ويدافع القتال ما قدر عليه إلى أن يأتيه من خراسان المدد من الخيل،
وقائد
(8/408)
يتولى الأمر دونه، وقالوا: إن مقامك بمدينة
الري ارفق باصحابك، وأقدر لهم على الميرة، وأكن من البرد، وأحرى إن
دهمك قتال أن يعتصموا بالبيوت، وتقوى على المماطلة والمطاولة، إلى أن
يأتيك مدد، أو ترد عليك قوة من خلفك فقال طاهر: إن الرأي ليس ما رأيتم،
إن أهل الري لعلي هائبون، ومن معرته وسطوته متقون، ومعه من قد بلغكم من
أعراب البوادي وصعاليك الجبال ولفيف القرى، ولست آمن إن هجم علينا
مدينة الري أن يدعو أهلها خوفهم إلى الوثوب بنا، ويعينوه على قتالنا،
مع أنه لم يكن قوم قط روعبوا في ديارهم، وتورد عليهم عسكرهم إلا وهنوا
وذلوا، وذهب عزهم، واجترأ عليهم عدوهم وما الرأي إلا أن نصير مدينة
الري قفا ظهورنا، فإن أعطانا الله الظفر، وإلا عولنا عليها فقاتلنا في
سككها، وتحصنا في منعتها إلى أن يأتينا مدد أو قوة من خراسان قالوا:
الرأي ما رأيت فنادى طاهر في أصحابه فخرجوا فعسكروا على خمسة فراسخ من
الري بقرية يقال لها كلواص، وأتاه محمد بْن العلاء فقال: أيها الأمير،
إن جندك قد هابوا هذا الجيش، وامتلأت قلوبهم خوفا ورعبا منه، فلو أقمت
بمكانك، ودافعت القتال إلى أن يشامهم أصحابك، ويأنسوا بهم، ويعرفوا وجه
المأخذ في قتالهم! فقال: لا، إني لا أوتى من قلة تجربة وحزم، إن أصحابي
قليل، والقوم عظيم سوادهم كثير عددهم، فإن دافعت القتال، وأخرت
المناجزة لم آمن أن يطلعوا على قلتنا وعورتنا، وأن يستميلوا من معي
برغبة أو رهبة، فينفر عني أكثر أصحابي، ويخذلني أهل الحفاظ والصبر،
ولكن ألف الرجال بالرجال، وألحم الخيل بالخيل، واعتمد على الطاعة
والوفاء، واصبر صبر محتسب للخير، حريص على الفوز بفضل الشهاده، فان
يرزق الله الظفر والفلج فذلك الذي نريد ونرجو، وإن تكن الأخرى، فلست
بأول من قاتل فقتل، وما عند الله أجزل وأفضل.
وقال علي لأصحابه: بادروا القوم، فان عددهم قليل، ولو زحفتم إليهم لم
يكن لهم صبر على حرارة السيوف وطعن الرماح وعبا جنده ميمنة
(8/409)
وميسرة وقلبا، وصير عشر رايات، في كل راية
ألف رجل، وقدم الرايات راية راية، فصير بين كل رايه ورايه غلوة، وأمر
أمراءها: إذا قاتلت الأولى فصبرت وحمت وطال بها القتال أن تقدم التي
تليها وتؤخر التي قاتلت حتى ترجع إليها أنفسها، وتستريح وتنشط للمحاربة
والمعاودة وصير أصحاب الدروع والجواشن والخوذ أمام الرايات، ووقف في
القلب في أصحابه من أهل البأس والحفاظ والنجدة منهم وكتب طاهر بْن
الحسين كتائبه وكردس كراديسه، وسوى صفوفه، وجعل يمر بقائد قائد، وجماعة
جماعة، فيقول: يا أولياء الله واهل الوفاء والشكر، انكم لستم كهؤلاء
الذين ترون من أهل النكث والغدر، إن هؤلاء ضيعوا ما حفظتم وصغروا ما
عظمتم، ونكثوا الإيمان التي رعيتم، وإنما يطلبون الباطل ويقاتلون على
الغدر والجهل، أصحاب سلب ونهب، فلو قد غضضتم الأبصار، وأثبتم الأقدام!
قد أنجز الله وعده، وفتح عليكم أبواب عزه ونصره، فجالدوا طواغيت الفتنة
ويعاسيب النار عن دينكم، ودافعوا بحقكم باطلهم، فإنما هي ساعة واحدة
حتى يحكم الله بينكم وهو خير الحاكمين.
وقلق قلقا شديدا، وأقبل يقول: يا أهل الوفاء والصدق، الصبر الصبر
الحفاظ الحفاظ! وتزاحف الناس بعضهم الى بعض، ووثب أهل الري، فغلقوا
أبواب المدينة، ونادى طاهر: يا أولياء الله، اشتغلوا بمن أمامكم عمن
خلفكم، فإنه لا ينجيكم إلا الجد والصدق وتلاحموا واقتتلوا قتالا شديدا،
وصبر الفريقان جميعا، وعلت ميمنة علي على ميسرة طاهر ففضتها فضا منكرا،
وميسرته على ميمنته فأزالتها عن موضعها وقال طاهر: اجعلوا بأسكم وجدكم
على كراديس القلب، فإنكم لو فضضتم منها راية واحدة رجعت أوائلها على
أواخرها فصبر أصحابه صبرا صادقا، ثم حملوا على اوائل رايات القلب
فهزموهم، وأكثروا فيهم القتل، ورجعت الرايات بعضها على بعض، وانتقضت
ميمنة علي ورأى أصحاب ميمنة طاهر وميسرته ما عمل أصحابه، فرجعوا على من
كان في وجوههم، فهزموهم، وانتهت الهزيمة إلى علي
(8/410)
فجعل ينادي أصحابه: أين أصحاب الأسورة
والأكاليل! يا معشر الأبناء، إلى الكرة بعد الفرة، معاودة الحرب من
الصبر فيها ورماه رجل من أصحاب طاهر بسهم فقتله، ووضعوا فيهم السيوف
يقتلونهم ويأسرونهم، حتى حال الليل بينهم وبين الطلب، وغنموا غنيمة
كثيرة، ونادى طاهر في أصحاب علي:
من وضع سلاحه فهو آمن، فطرحوا أسلحتهم، ونزلوا عن دوابهم، ورجع طاهر
إلى مدينة الري، وبعث بالأسرى والرءوس إلى المأمون.
وذكر أن عبد الله بْن علي بْن عيسى طرح نفسه في ذلك اليوم بين القتلى،
وقد كانت به جراحات كثيرة، فلم يزل بين القتلى متشبها بهم يومه وليلته،
حتى أمن الطلب، ثم قام فانضم إلى جماعة من فل العسكر، ومضى إلى بغداد،
وكان من أكابر ولده.
وذكر سفيان بْن محمد أن عليا لما توجه إلى خراسان بعث المأمون إلى من
كان معه من القواد يعرض عليهم قتاله رجلا رجلا، فكلهم يصرح بالهيبة،
ويعتل بالعلل، ليجدوا إلى الإعفاء من لقائه ومحاربته سبيلا.
وذكر بعض أهل خراسان أن المأمون لما أتاه كتاب طاهر، بخبر علي وما أوقع
الله به، قعد للناس، فكانوا يدخلون فيهنئونه ويدعون له بالعز والنصر.
وإنه في ذلك اليوم اعلن خلع محمد، ودعى له بالخلافة في جميع كور خراسان
وما يليها، وسر أهل خراسان، وخطب بها الخطباء، وأنشدت الشعراء، وفي ذلك
يقول شاعر من اهل خراسان:
أصبحت الأمة في غبطة ... من أمر دنياها ومن دينها
إذ حفظت عهد إمام الهدى ... خير بني حواء مأمونها
على شفا كانت فلما وفت ... تخلصت من سوء تحيينها
قامت بحق الله إذ زبرت ... في ولده كتب دواوينها
ألا تراها كيف بعد الردى ... وفقها الله لتزيينها!
وهي أبيات كثيره
(8/411)
وذكر علي بْن صالح الحربي أن علي بن عيسى لما قتل، ارجف الناس ببغداد
إرجافا شديدا، وندم محمد على ما كان من نكثه وغدره، ومشى القواد بعضهم
إلى بعض، وذلك يوم الخميس للنصف من شوال سنة خمس وتسعين ومائة، فقالوا:
إن عليا قد قتل، ولسنا نشك أن محمدا يحتاج إلى الرجال واصطناع أصحاب
الصنائع، وإنما يحرك الرجال أنفسها، ويرفعها بأسها وإقدامها، فليأمر كل
رجل منكم جنده بالشغب وطلب الأرزاق والجوائز، فلعلنا أن نصيب منه في
هذه الحالة ما يصلحنا، ويصلح جندنا فاتفق على ذلك رأيهم وأصبحوا،
فتوافوا إلى باب الجسر وكبروا، فطلبوا الأرزاق والجوائز وبلغ الخبر عبد
الله بْن خازم، فركب إليهم في أصحابه وفي جماعة غيره من قواد الأعراب،
فتراموا بالنشاب والحجارة، واقتتلوا قتالا شديدا، وسمع محمد التكبير
والضجيج، فأرسل بعض مواليه أن يأتيه بالخبر، فرجع إليه فأعلمه أن الجند
قد اجتمعوا وشغبوا لطلب أرزاقهم قَالَ: فهل يطلبون شيئا غير الأرزاق؟
قَالَ: لا، قَالَ: ما أهون ما طلبوا! ارجع إلى عبد الله ابن خازم فمره
فلينصرف عنهم، ثم أمر لهم بأرزاق أربعة أشهر، ورفع من كان دون الثمانين
إلى الثمانين، وأمر للقواد والخواص بالصلات والجوائز |