تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ الطبري

ذكر الخبر عن مقتل محمد بْن يزيد المهلبي ودخول طاهر إلى الأهواز
ذكر عن يزيد بْن الحارث، قَالَ: لما نزل طاهر شلاشان، وجه الحسين ابن عمر الرستمي إلى الأهواز، وأمره أن يسير سيرا مقتصدا، ولا يسير إلا بطلائع، ولا ينزل إلا في موضع حصين يأمن فيه على أصحابه فلما توجه أتت طاهرا عيونه، فأخبروه أن محمد بْن يزيد المهلبي- وكان عاملا لمحمد على الأهواز- قد توجه في جمع عظيم يريد نزول جندي سابور- وهو حد ما بين الأهواز والجبل- ليحمي الأهواز، ويمنع من أراد دخولها من أصحاب طاهر، وإنه في عدة وقوة، فدعا طاهر عدة من أصحابه، منهم محمد بْن طالوت ومحمد بن العلاء والعباس بن بخار اخذاه والحارث بْن هشام وداود بْن موسى وهادي بْن حفص، وأمرهم أن يكمشوا السير حتى يتصل أولهم بآخر أصحاب الحسين بْن عمر الرستمي، فإن احتاج إلى إمداد أمدوه، أو لقيه جيش كانوا ظهرا له.
فوجه تلك الجيوش، فلم يلقهم أحد حتى شارفوا الأهواز.
وبلغ محمد بْن يزيد خبرهم، فعرض أصحابه، وقوى ضعفاءهم، وحمل الرجالة على البغال، وأقبل حتى نزل سوق عسكر مكرم، وصير العمران والماء وراء ظهره، وتخوف طاهر أن يعجل إلى أصحابه، فأمدهم بقريش بْن شبل، وتوجه هو بنفسه حتى كان قريبا منهم، ووجه الحسن بْن علي المأموني،

(8/432)


وأمره بمضامة قريش بْن شبل والحسين بْن عمر الرستمي، وسارت تلك العساكر حتى قاربوا محمد بْن يزيد بعسكر مكرم، فجمع أصحابه فقال: ما ترون؟
أطاول القوم القتال وأماطلهم اللقاء، أم أناجزهم كانت لي أم علي؟ فو الله ما ارى ان ارجع الى امير المؤمنين ابدا، ولا انصرف عن الاهواز، فقالوا له: الرأي ان ترجع الى الاهواز، فتتحصن بها وتغادى طاهرا القتال وتبعث الى البصره فتفرض بها الفروض، وتستجيش من قدرت عليه وتابعك من قومك فقبل ما أشاروا عليه، وتابعه قومه، فرجع حتى صار بسوق الأهواز وأمر طاهر قريش بْن شبل أن يتبعه، وأن يعاجله قبل أن يتحصن بسوق الأهواز، وأمر الحسن بْن علي المأموني والحسين بْن عمر الرستمي أن يسيرا بعقبه، فإن احتاج إلى معونتهما أعاناه ومضى قريش بْن شبل يقفو محمد بْن يزيد، كلما ارتحل محمد بْن يزيد من قرية نزلها قريش، حتى صاروا إلى سوق الأهواز.
وسبق محمد بْن يزيد إلى المدينة فدخلها، واستند إلى العمران، فصيره وراء ظهره، وعبى أصحابه، وعزم على مواقعتهم، ودعا بالأموال فصبت بين يديه، وقال لأصحابه: من أحب منكم الجائزة والمنزلة فليعرفني أثره وأقبل قريش بْن شبل حتى صار قريبا منه، وقال لأصحابه: الزموا مواضعكم ومصافكم، وليكن أكثر ما قاتلتموهم وأنتم مريحون، فقاتلوهم بنشاط وقوة، فلم يبق أحد من أصحابه إلا جمع بين يديه ما قدر عليه من الحجارة، فلم يعبر إليهم محمد بْن يزيد، حتى أوهنوهم بالحجارة، وجرحوهم جراحات كثيرة بالنشاب، وعبرت طائفة من أصحاب محمد بْن يزيد، فأمر قريش أصحابه أن ينزلوا إليهم فنزلوا إليهم، فقاتلوهم قتالا شديدا حتى رجعوا، وتراد الناس بعضهم إلى بعض.
والتفت محمد بْن يزيد إلى نفر كانوا معه من مواليه، فقال: ما رأيكم؟ قالوا:
فيما ذا؟ قَالَ: إني أرى من معي قد انهزم، ولست آمن من خذلانهم، ولا آمل رجعتهم، وقد عزمت على النزول والقتال بنفسي، حتى يقضي الله ما أحب، فمن أراد منكم الانصراف فلينصرف، فو الله لأن تبقوا أحب إلي من أن تعطبوا وتهلكوا فقالوا: والله ما أنصفناك، إذا تكون أعتقتنا من الرق

(8/433)


ورفعتنا من الضعة، ثم أغنيتنا بعد القلة، ثم نخذلك على هذه الحال، بل نتقدم أمامك ونموت تحت ركابك، فلعن الله الدنيا والعيش بعدك ثم نزلوا فعرقبوا دوابهم، وحملوا على أصحاب قريش حملة منكرة، فأكثروا فيهم القتل، وشدخوهم بالحجارة وغير ذلك، وانتهى بعض أصحاب طاهر إلى محمد بْن يزيد، فطعنه بالرمح فصرعه، وتبادروا إليه بالضرب والطعن حتى قتلوه، فقال بعض اهل البصره يرثيه، ويذكر مقتله:
من ذاق طعم الرقاد من فرح ... فإنني قد أضر بي سهري
ولى فتى الرشد فافتقدت به ... قلبي وسمعي وغرني بصري
كان غياثا لدى المحول فقد ... ولى غمام الربيع والمطر
وفي العييني للإمام ولم ... يرهبه وقع المشطب الذكر
ساور ريب المنون داهية ... لولا خضوع العباد للقدر
فامض حميدا فكل ذي أجل ... يسعى إلى ما سعيت بالأثر
وقال بعض المهالبة، وجرح في تلك الوقعة جراحات كثيرة وقطعت يده:
فما لمت نفسي غير انى لم أطق ... حراكا وأني كنت بالضرب مثخنا
ولو سلمت كفاي قاتلت دونه ... وضاربت عنه الطاهرى الملعنا
فتى لا يرى أن يخذل السيف في الوغى ... إذا ادرع الهيجاء في النقع واكتنى
وذكر عن الهيثم بْن عدي، قَالَ: لما دخل ابن أبي عيينة على طاهر فأنشده قوله:
من آنسته البلاد لم يرم ... منها ومن أوحشته لم يقم
حتى انتهى إلى قوله:
ما ساء ظني إلا لواحدة ... في الصدر محصورة عن الكلم
فتبسم طاهر، ثم قَالَ: أما والله لقد ساءني من ذلك ما ساءك، وآلمني ما آلمك، ولقد كنت كارها لما كان، غير أن الحتف واقع، والمنايا نازله،

(8/434)


ولا بد من قطع الأواصر والتنكر للأقارب في تأكيد الخلافة، والقيام بحق الطاعة، فظننا أنه يريد محمد بْن يزيد بْن حاتم.
وذكر عمر بْن أسد، قَالَ: أقام طاهر بالأهواز بعد قتله محمد بْن يزيد ابن حاتم، وأنفذ عماله في كورها، وولى على اليمامة والبحرين وعمان مما يلي الأهواز، ومما يلي عمل البصرة، ثم أخذ على طريق البر متوجها إلى واسط، وبها يومئذ السندي بن يحيى بن الحرشي والهيثم خليفة خزيمة بْن خازم، فجعلت المسالح والعمال تتقوض، مسلحة مسلحة، وعاملا عاملا، كلما قرب طاهر منهم تركوا أعمالهم وهربوا عنها، حتى قرب من واسط، فنادى السندي بْن يحيى والهيثم بْن شعبة في أصحابهما، فجمعاهم إليهما، وهما بالقتال، وأمر الهيثم بْن شعبة صاحب مراكبه أن يسرج له دوابه، فقرب إليه فرسا، فأقبل يقسم طرفه بينها، واستقبلته عدة، فرأى المراكبي التغير والفزع في وجهه فقال: إن أردت الهرب فعليك بها، فإنها أبسط في الركض، وأقوى على السفر فضحك ثم قَالَ: قرب فرس الهرب، فإنه طاهر، ولا عار علينا في الهرب منه، فتركا واسطا، وهربا عنها ودخل طاهر واسطا، وتخوف إن سبق الهيثم والسندي إلى فم الصلح فيتحصنا بها فوجه محمد بْن طالوت، وأمره أن يبادرهما إلى فم الصلح، ويمنعهما من دخولها إن أرادا ذلك، ووجه قائدا من قواده يقال له أحمد بْن المهلب نحو الكوفة، وعليها يومئذ العباس بْن موسى الهادي، فلما بلغ العباس خبر أحمد بْن المهلب خلع محمدا، وكتب بطاعته إلى طاهر وببيعته للمأمون، ونزلت خيل طاهر فم النيل، وغلب على ما بين واسط والكوفة، وكتب المنصور بْن المهدي- وكان عاملا لمحمد على البصرة- إلى طاهر بطاعته، ورحل طاهر حتى نزل طرنايا، فأقام بها يومين فلم يرها موضعا للعسكر، فأمر بجسر فعقد وخندق له، وأنفذ كتبه بالتولية إلى العمال.
وكانت بيعة المنصور بْن المهدي بالبصرة وبيعة العباس بْن موسى الهادي

(8/435)


بالكوفه، وبيعة المطلب بْن عبد الله بْن مالك بالموصل للمأمون، وخلعهم محمدا في رجب من سنة ست وتسعين ومائة.
وقيل: إن الذي كان على الكوفة حين نزل طاهر من قبل محمد الفضل بْن العباس بْن موسى بْن عيسى.
ولما كتب من ذكرت إلى طاهر ببيعتهم للمأمون وخلعهم محمدا، أقرهم طاهر على أعمالهم، وولى داود بْن عيسى بْن موسى بْن محمد بْن علي الهاشمي مكة والمدينة، ويزيد بْن جرير البجلي اليمن، ووجه الحارث بْن هشام وداود ابن موسى الى قصر ابن هبيرة
. ذكر خبر استيلاء طاهر على المدائن ونزوله بصرصر
وفي هذه السنة أخذ طاهر بْن الحسين من اصحاب محمد المدائن، ثم صار منها إلى صرصر، فعقد جسرا، ومضى إلى صرصر.
ذكر الخبر عن سبب دخوله المدائن ومصيره إلى صرصر:
ذكر أن طاهرا لما وجه إلى قصر ابن هبيرة الحارث بن هشام وداود بن موسى، وبلغ محمدا خبر عامله بالكوفة وخلعه إياه وبيعته للمأمون، وجه محمد ابن سليمان القائد ومحمد بْن حماد البربري، وأمرهما أن يبيتا الحارث وداود بالقصر، فقيل لهما: إن سلكتما الطريق الأعظم لم يخف ذلك عليهما، ولكن اختصر الطريق إلى فم الجامع، فإنه موضع سوق ومعسكر، فانزلاه وبيتاهما إن أردتما ذلك، وقد قربتما منهما، فوجها الرجال من الياسرية إلى فم الجامع.
وبلغ الحارث وداود الخبر، فركبا في خيل مجرد، وتهيأ للرجالة، فعبرا من مخاضة في سوراء إليهم، وقد نزلوا إلى جنبها، فأوقعا بهم وقعة شديدة.
ووجه طاهر محمد بْن زياد ونصير بْن الخطاب مددا للحارث وداود، فاجتمعت العساكر بالجامع، وساروا حتى لقوا محمد بْن سليمان ومحمد بن حماد فيما ما بين نهر درقيط والجامع، فاقتتلوا قتالا شديدا، وانهزم أهل بغداد، وهرب

(8/436)


محمد بْن سليمان حتى صار إلى قرية شاهي، وعبر الفرات، وأخذ على طريق البرية إلى الأنبار، ورجع محمد بْن حماد إلى بغداد، وقال ابو يعقوب الخريمى في ذلك:
هما عدوا بالنكث كي يصدعا به ... صفا الحق فانفضا بجمع مبدد
وأفلتنا ابن البربري مضمر ... من الخيل يسمو للجياد ويهتدى
وذكر يزيد بن الحارث، ان محمد بْن حماد البربري لما دخل بغداد، وجه محمد المخلوع الفضل بْن موسى بْن عيسى الهاشمي إلى الكوفة، وولاه عليها، وضم إليه أبا السلاسل وإياس الحرابي وجمهورا النجاري، وأمره بسرعة السير، فتوجه الفضل، فلما عبر نهر عيسى عثر به فرسه، فتحول منه إلى غيره وتطير، وقال: اللهم إني أسألك بركة هذا الوجه وبلغ طاهرا الخبر، فوجه محمد بْن العلاء، وكتب إلى الحارث بْن هشام وداود بْن موسى بالطاعة له، فلقي محمد بْن العلاء الفضل بقرية الأعراب، فبعث إليه الفضل: إني سامع مطيع لطاهر، وإنما كان مخرجي بالكيد مني لمحمد، فخل لي الطريق حتى أصير إليه، فقال له محمد: لست أعرف ما تقول ولا أقبله ولا أنكره، فإن أردت الأمير طاهرا فارجع وراءك، فخذ أسهل الطريق وأقصدها، فرجع وقال محمد لأصحابه: كونوا على حذر، فإني لست آمن مكر هذا، فلم يلبث أن كبر وهو يرى أن محمد بْن العلاء قد آمنه، فوجده على عدة وأهبة، واقتتلوا كأشد ما يكون من القتال، وكبا بالفضل فرسه، فقاتل عنه أبو السلاسل حتى ركب، وقال: أذكر هذا الموقف لأمير المؤمنين وحمل اصحاب محمد ابن العلاء على اصحاب الفضل فهزموه، ولم يزالوا يقتلونهم إلى كوثى، وأسر في تلك الوقعة إسماعيل بْن محمد القرشي وجمهور النجارى، وتوجه طاهر إلى المدائن، وفيها جند كثير من خيول محمد، عليهم البرمكي قد تحصن بها، والمدد يأتيه في كل يوم، والصلات والخلع من قبل محمد فلما قرب طاهر من المدائن- وكان منها على رأس فرسخين- نزل فصلى ركعتين، وسبح فأكثر التسبيح، فقال: اللهم إنا نسألك نصرا كنصرك المسلمين يوم المدائن ووجه

(8/437)


الحسن بْن علي المأموني وقريش بْن شبل، ووجه الهادي بْن حفص على مقدمته وسار فلما سمع أصحاب البرمكي صوت طبوله، أسرجوا الدواب، وأخذوا في تعبيتهم، وجعل من في أوائل الناس ينضم إلى أواخرهم، وأخذ البرمكي في تسوية الصفوف، فكلما سوى صفا انتقض واضطرب عليه أمرهم، فقال: اللهم إنا نعوذ بك من الخذلان، ثم التفت إلى صاحب ساقته، فقال:
خل سبيل الناس، فإني أرى جندا لا خير عندهم، فركب بعضهم بعضا نحو بغداد، فنزل طاهر المدائن، وقدم منها قريش بن شبل والعباس بن بخار اخذاه إلى الدرزيجان، وأحمد بْن سعيد الحرشي ونصر بْن منصور بْن نصر بْن مالك معسكران بنهر ديائى، فمنعا أصحاب البرمكي من الجواز إلى بغداد، وتقدم طاهر حتى صار إلى الدرزيجان حيال أحمد ونصر بْن منصور، فسير إليهما الرجال، فلم يجر بينهما كثير قتال حتى انهزموا، وأخذ طاهر ذات اليسار إلى نهر صرصر، فعقد بها جسرا ونزلها
. ذكر خبر خلع داود بن عيسى الامين
وفي هذه السنة خلع داود بْن عيسى عامل مكة والمدينة محمدا- وهو عامله يومئذ عليهما- وبايع للمأمون، وأخذ البيعة بهما على الناس له، وكتب بذلك إلى طاهر والمأمون، ثم خرج بنفسه إلى المأمون.
ذكر الخبر عن ذلك وكيف جرى الأمر فيه:
ذكر أن الأمين لما أفضت الخلافة إليه، بعث إلى مكة والمدينة داود بْن عيسى بْن موسى بْن محمد بْن عَلِيّ بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس، وعزل عامل الرشيد على مكة، وكان عامله عليها محمد بْن عبد الرحمن بْن محمد المخزومي، وكان إليه الصلاة بها وأحداثها والقضاء بين أهلها، فعزل محمد عن ذلك كله بداود ابن عيسى، سوى القضاء فإنه أقره على القضاء فأقام داود واليا على مكة والمدينة لمحمد، وأقام للناس أيضا الحج سنة ثلاث وأربع وخمس وتسعين ومائة، فلما دخلت سنة ست وتسعين ومائة، بلغه خلع عبد الله المأمون أخاه،

(8/438)


وما كان فعل طاهر بقواد محمد، وقد كان محمد كتب إلى داود بْن عيسى يأمره بخلع عبد الله المأمون والبيعة لابنه موسى، وبعث محمد إلى الكتابين اللذين كان الرشيد كتبهما وعلقهما في الكعبة فأخذهما، فلما فعل ذلك جمع داود حجبة الكعبة والقرشيين والفقهاء ومن كان شهد على ما في الكتابين من الشهود- وكان داود أحدهم- فقال داود: قد علمتم ما أخذ علينا وعليكم الرشيد من العهد والميثاق عند بيت الله الحرام حين بايعنا لابنيه، لنكونن مع المظلوم منهما على الظالم، ومع المبغي عليه على الباغي، ومع المغدور به على الغادر، فقد رأينا ورأيتم أن محمدا قد بدأ بالظلم والبغي والغدر على أخويه عبد الله المأمون والقاسم المؤتمن، وخلعهما وبايع لابنه الطفل، رضيع صغير لم يفطم، واستخرج الشرطين من الكعبة عاصيا ظالما، فحرقهما بالنار وقد رأيت خلعه، وإن أبايع لعبد الله المأمون بالخلافة، إذ كان مظلوما مبغيا عليه.
فقال له أهل مكة: رأينا تبع لرأيك، ونحن خالعوه معك، فوعدهم صلاة الظهيرة، وأرسل في فجاج مكة صائحا يصيح: الصلاة جامعة! فلما جاء وقت صلاة الظهر- وذلك يوم الخميس لسبع وعشرين ليلة خلت من رجب سنة ست وتسعين ومائة- خرج داود بْن عيسى، فصلى بالناس صلاة الظهر، وقد وضع له المنبر بين الركن والمقام، فصعد فجلس عليه، وأمر بوجوه الناس وأشرافهم فقربوا من المنبر، وكان داود خطيبا فصيحا جهير الصوت، فلما اجتمع الناس قام خطيبا، فقال:
الحمد لله مالك الملك، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء، بيده الخير وهو عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شريك له، قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالدين، وختم به النبيين، وجعله رحمة للعالمين، صلى الله عليه في الأولين والآخرين أما بعد يا أهل مكة، فأنتم الأصل والفرع، والعشيرة والأسرة، والشركاء في النعمة، إلى بلدكم نفذ وفد الله، وإلى قبلتكم يأتم المسلمون، وقد علمتم ما أخذ عليكم الرشيد هارون رحمه الله عليه وصلاته حين بايع لا بينه محمد وعبد الله بين أظهركم من العهد والميثاق

(8/439)


لتنصرن المظلوم منهما على الظالم، والمبغى عليه على الباغي، والمغدور به على الغادر، ألا وقد علمتم وعلمنا أن محمد بْن هارون قد بدأ بالظلم والبغي والغدر، وخالف الشروط التي أعطاها من نفسه في بطن البيت الحرام، وقد حل لنا ولكم خلعه من الخلافة وتصييرها إلى المظلوم المبغي عليه المغدور به.
ألا وإني أشهدكم أني قد خلعت محمد بْن هارون من الخلافة كما خلعت قلنسوتي هذه من رأسي- وخلع قلنسوته عن رأسه فرمى بها إلى بعض الخدم تحته، وكانت من برود حبرة مسلسلة حمراء، وأتى بقلنسوة سوداء هاشمية فلبسها- ثم قَالَ: قد بايعت لعبد الله عبد الله المأمون أمير المؤمنين بالخلافة، ألا فقوموا إلى البيعة لخليفتكم فصعد جماعة من الوجوه إليه إلى المنبر، رجل فرجل، فبايعه لعبد الله المأمون بالخلافة، وخلع محمدا، ثم نزل عن المنبر، وحانت صلاة العصر، فصلى بالناس، ثم جلس في ناحية المسجد، وجعل الناس يبايعونه جماعة بعد جماعة، يقرأ عليهم كتاب البيعة، ويصافحونه على كفه، ففعل ذلك أياما.
وكتب الى ابنه سليمان بْن داود بْن عيسى وهو خليفته على المدينة، يأمره أن يفعل بأهل المدينة مثل ما فعل هو بأهل مكة، من خلع محمد والبيعة لعبد الله المأمون فلما رجع جواب البيعة من المدينة إلى داود وهو بمكة، رحل من فوره بنفسه وجماعة من ولده يريد المأمون بمرو على طريق البصرة، ثم على فارس، ثم على كرمان، حتى صار إلى المأمون بمرو، فأعلمه ببيعته وخلعه محمدا ومسارعة أهل مكة وأهل المدينة إلى ذلك، فسر بذلك المأمون، وتيمن ببركة مكة والمدينة، إذ كانوا أول من بايعه، وكتب إليهم كتابا لينا لطيفا يعدهم فيه الخبر، ويبسط أملهم وأمر أن يكتب لداود عهد على مكة والمدينة وأعمالها من الصلاة والمعاون والجباية، وزيد له ولاية عك، وعقد له على ذلك ثلاثة ألوية، وكتب له إلى الري بمعونة خمسمائة ألف درهم، وخرج داود بْن عيسى مسرعا مغذا مبادرا لإدراك الحج، ومعه ابن أخيه العباس بن موسى ابن عيسى بْن موسى بْن محمد بْن علي بْن عبد الله بْن العباس، وقد عقد

(8/440)


المأمون للعباس بْن موسى بْن عيسى على ولاية الموسم، فسار هو وعمه داود حتى نزلا بغداد على طاهر بْن الحسين، فأكرمهما وقربهما، وأحسن معونتهما، ووجه معهما يزيد بْن جرير بْن يزيد بْن خالد بْن عبد الله القسري، وقد عقد له طاهر على ولاية اليمن، وبعث معه خيلا كثيفة، وضمن لهم يزيد بْن جرير بْن يزيد بْن خالد بْن عبد الله القسري أن يستميل قومه وعشيرته من ملوك أهل اليمن وأشرافهم، ليخلعوا محمدا ويبايعوا عبد الله المأمون.
فساروا جميعا حتى دخلوا مكة وحضر الحج، فحج باهل الموسم العباس ابن موسى بْن عيسى، فلما صدروا عن الحج انصرف العباس حتى اتى طاهر ابن الحسين- وهو على حصار محمد- وأقام داود بْن عيسى على عمله بمكة والمدينة، ومضى يزيد بْن جرير إلى اليمن، فدعا أهلها إلى خلع محمد وبيعة عبد الله على المأمون، وقرأ عليهم كتابا من طاهر بْن الحسين يعدهم العدل والإنصاف، ويرغبهم في طاعة المأمون، ويعلمهم ما بسط المأمون من العدل في رعيته، فأجاب أهل اليمن إلى بيعة المأمون، واستبشروا بذلك، وبايعوا للمأمون، وخلعوا محمد، فسار فيهم يزيد بْن جرير بْن يزيد بأحسن سيرة، وأظهر عدلا وإنصافا، وكتب بإجابتهم وبيعتهم الى المأمون والى طاهر ابن الحسين.
وفي هذه السنة عقد محمد في رجب وشعبان منها نحوا من أربعمائة لواء لقواد شتى، وأمر على جميعهم علي بْن محمد بْن عيسى بْن نهيك، وأمرهم بالمسير إلى هرثمة بْن أعين، فساروا فالتقوا بجللتا في رمضان على أميال من النهروان، فهزمهم هرثمة، وأسر علي بْن محمد بْن عيسى بْن نهيك، وبعث به هرثمة إلى المأمون، وزحف هرثمة فنزل النهروان
. ذكر خبر شغب الجند على طاهر بن الحسين
4 وفي هذه السنة استأمن إلى محمد من طاهر جماعة كثيرة، وشغب الجند

(8/441)


على طاهر، ففرق محمد فيمن صار إليه من أصحاب طاهر مالا عظيما، وقود رجالا، وغلف لحاهم بالغالية، فسموا بذلك قواد الغالية.
ذكر الخبر عن سبب ذلك وإلى ما آل إليه الأمر فيه:
ذكر عن يزيد بْن الحارث، قَالَ: أقام طاهر على نهر صرصر لما صار إليها، وشمر في محاربة محمد وأهل بغداد، فكان لا يأتيه جيش إلا هزمه، فاشتد على أصحابه ما كان محمد يعطي من الأموال والكسا، فخرج من عسكره نحو من خمسة آلاف رجل من أهل خراسان ومن التف إليهم، فسر بهم محمد، ووعدهم ومناهم، وأثبت أسماءهم في الثمانين قَالَ: فمكثوا بذلك أشهرا، وقود جماعة من الحربية وغيرهم ممن تعرض لذلك وطلبه، وعقد لهم، ووجههم إلى دسكرة الملك والنهروان، ووجه إليهم حبيب بْن جهم النمري الأعرابي في أصحابه، فلم يكن بينهم كثير قتال، وندب محمد قوادا من قواد بغداد، فوجههم الى الياسرية والكوثرية والسفينتين، وحمل إليهم الأطعمة، وقواهم بالأرزاق، وصيرهم ردءا لمن خلفهم، وفرق الجواسيس في أصحاب طاهر، ودس إلى رؤساء الجند الكتب بالأطماع والترغيب، فشغبوا على طاهر، واستأمن كثير منهم إلى محمد، ومع كل عشرة أنفس منهم طبل، فارعدوا وابرقوا واجلبوا، ودنوا حتى أشرفوا على نهر صرصر، فعبى طاهر أصحابه كراديس، ثم جعل يمر على كل كردوس منهم، فيقول: لا يغرنكم كثرة من ترون، ولا يمنعكم استئمان من استأمن منهم، فإن النصر مع الصدق والثبات، والفتح مع الصبر، ورب فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ثم أمرهم بالتقدم، فتقدموا واضطربوا بالسيوف مليا ثم إن الله ضرب أكتاف أهل بغداد فولوا منهزمين، وأخلوا موضع عسكرهم، فانتهب أصحاب طاهر كل ما كان فيه من سلاح ومال وبلغ الخبر محمدا، فأمر بالعطاء فوضع، وأخرج خزائنه وذخائره، وفرق الصلات وجمع أهل الأرباض، واعترض الناس على عينه، فكان لا يرى أحدا وسيما حسن الرواء إلا خلع عليه وقوده، وكان لا يقود أحدا إلا غلفت لحيته بالغالية، وهم الذين

(8/442)


يسمون قواد الغالية قَالَ: وفرق في قواده المحدثين لكل رجل منهم خمسمائة درهم وقارورة غالية، ولم يعط جند القواد وأصحابهم شيئا وأتت عيون طاهر وجواسيسه طاهرا بذلك، فراسلهم وكاتبهم، ووعدهم واستمالهم، وأغرى أصاغرهم بأكابرهم، فشغبوا على محمد يوم الأربعاء لست خلون من ذي الحجة سنة ست وتسعين ومائة، فقال رجل من أبناء أهل بغداد في ذلك:
قل للأمين الله في نفسه ... ما شتت الجند سوى الغالية
وطاهر نفسي تقي طاهرا ... برسله والعدة الكافية
أضحى زمام الملك في كفه ... مقاتلا للفئة الباغية
يا ناكثا أسلمه نكثه ... عيوبه من خبثه فاشية
قد جاءك الليث بشداته ... مستكلبا في أسد ضاريه
فاهرب ولا مهرب من مثله ... إلا إلى النار أو الهاويه
قَالَ: ولما شغب الجند، وصعب الأمر على محمد شاور قواده، فقيل له: تدارك القوم، فتلاف امرك، فان بهم قوام ملك، وهم بعد الله أزالوه عنك أيام الحسين، وهم ردوه عليك، وهم من قد عرفت نجدتهم وبأسهم.
فلج في أمرهم وأمر بقتالهم، فوجه إليهم التنوخي وغيره من المستأمنة والأجناد الذين كانوا معه، فعاجل القوم القتال وراسلهم طاهر وراسلوه، فأخذ رهائنهم على بذل الطاعة له، وكتب إليهم، فأعطاهم الأمان، وبذل لهم الأموال، ثم قدم فصار إلى البستان الذي على باب الأنبار يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة خلت من ذي الحجة، فنزل البستان بقواده وأجناده وأصحابه، ونزل من لحق بطاهر من المستأمنة من قواد محمد وجنده في البستان وفي الأرباض، وألحقهم جميعا بالثمانين في الأرزاق، وأضعف للقواد وأبناء القواد الخواص، وأجرى عليهم وعلى كثير من رجالهم الأموال، ونقب أهل السجون السجون وخرجوا منها، وفتن الناس، ووثب على أهل الصلاح الدعار والشطار، فعز الفاجر، وذل المؤمن، واختل الصالح، وساءت حال الناس إلا من كان في

(8/443)


عسكر طاهر لتفقده أمرهم، وأخذه على أيدي سفهائهم وفساقهم، واشتد في ذلك عليهم، وغادى القتال وراوحه، حتى تواكل الفريقان، وخربت الدار.
وحج بالناس في هذه السنة العباس بْن موسى بْن عيسى بْن موسى بْن محمد بْن علي من قبل طاهر، ودعا للمأمون بالخلافة، وهو أول موسم دعي له فيه بالخلافة بمكة والمدينة.

(8/444)