تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ الطبري

ذكر الخبر عن بعض سير المخلوع محمد بْن هارون
ذكر عن حميد بْن سعيد، قَالَ: لما ملك محمد، وكاتبه المأمون، وأعطاه بيعته، طلب الخصيان وابتاعهم، وغالى بهم، وصيرهم لخلوته في ليله ونهاره، وقوام طعامه وشرابه، وأمره ونهيه، وفرض لهم فرضا سماهم الجرادية، وفرضا من الحبشان سماهم الغرابية، ورفض النساء الحرائر والإماء حتى رمى بهن، ففي ذلك يقول بعضهم:
ألا يا مزمن المثوى بطوس ... عزيبا ما يفادى بالنفوس
لقد أبقيت للخصيان بعلا ... تحمل منهم شؤم البسوس
فأما نوفل فالشأن فيه ... وفي بدر، فيا لك من جليس!
وما العصمي بشار لديه ... إذا ذكروا بذي سهم خسيس
وما حسن الصغير أخس حالا ... لديه عند مخترق الكئوس
لهم من عمره شطر وشطر ... يعاقر فيه شرب الخندريس
وما للغانيات لديه حظ ... سوى التقطيب بالوجه العبوس
إذا كان الرئيس كذا سقيما ... فكيف صلاحنا بعد الرئيس!
فلو علم المقيم بدار طوس ... لعز على المقيم بدار طوس
قَالَ حميد: ولما ملك محمد وجه إلى جميع البلدان في طلب الملهين وضمهم إليه، وأجرى لهم الأرزاق، ونافس في ابتياع فره الدواب، وأخذ

(8/508)


الوحوش والسباع والطير وغير ذلك، واحتجب عن إخوته وأهل بيته وقواده، واستخف بهم، وقسم ما في بيوت الأموال وما بحضرته من الجوهر في خصيانه وجلسائه ومحدثيه، وحمل إليه ما كان في الرقة من الجوهر والخزائن والسلاح، وأمر ببناء مجالس لمتنزهاته ومواضع خلوته ولهوه ولعبه بقصر الخلد والخيزرانية وبستان موسى وقصر عبدويه وقصر المعلى ورقة كلواذى وباب الأنبار وبناورى والهوب، وأمر بعمل خمس حراقات في دجلة على خلقة الأسد والفيل والعقاب والحية والفرس، وأنفق في عملها مالا عظيما، فقال أبو نواس يمدحه:
سخر الله للأمين مطايا ... لم تسخر لصاحب المحراب
فإذا ما ركابه سرن برا ... سار في الماء راكبا ليث غاب
أسدا باسطا ذراعيه يهوى ... اهرت الشدق كالح الأنياب
لا يعانيه باللجام ولا السوط ... ولا غمز رجله في الركاب
عجب الناس إذ رأوك على صورة ... ليث تمر مر السحاب
سبحوا إذ رأوك سرت عليه ... كيف لو أبصروك فوق العقاب
ذات زور ومنسر وجناحين ... تشق العباب بعد العباب
تسبق الطير في السماء إذا ما ... استعجلوها بجيئة وذهاب
بارك الله للأمير وأبقاه ... وأبقى له رداء الشباب
ملك تقصر المدائح عنه ... هاشمي موفق للصواب
وذكر عن الحسين بْن الضحاك، قَالَ: ابتنى الأمير سفينة عظيمة، أنفق عليها ثلاثة آلاف ألف درهم، واتخذ أخرى على خلقة شيء يكون في البحر يقال له الدلفين، فقال في ذلك أبو نواس الحسن بن هانئ:

(8/509)


قد ركب الدلفين بدر الدجى ... مقتحما في الماء قد لججا
فأشرقت دجلة في حسنه ... واشرق الشطان واستبهجا
لم تر عيني مثله مركبا ... أحسن ان سار وان احنجا
إذا استحثثته مجاديفه ... أعنق فوق الماء أو هملجا
خص به الله الأمين الذي ... أضحى بتاج الملك قد توجا
وذكر عن أحمد بْن إسحاق بْن برصوما المغني الكوفي أنه قَالَ: كان العباس بْن عبد الله بْن جعفر بْن أبي جعفر من رجالات بني هاشم جلدا وعقلا وصنيعا، وكان يتخذ الخدم، وكان له خادم من آثر خدمه عنده يقال له منصور، فوجد الخادم عليه، فهرب إلى محمد، وأتاه وهو بقصر أم جعفر المعروف بالقرار، فقبله محمد أحسن قبول، وحظي عنده حظوة عجيبة.
قَالَ: فركب الخادم يوما في جماعة خدم كانوا لمحمد يقال لهم السيافة، فمر بباب العباس بْن عبد الله، يريد بذلك أن يري خدم العباس هيئته وحاله التي هو عليها وبلغ ذلك الخبر العباس، فخرج محضرا في قميص حاسرا، في يده عمود عليه كيمخت، فلحقه في سويقة أبي الورد، فعلق بلجامه، ونازعه أولئك الخدم، فجعل لا يضرب أحدا منهم إلا أوهنة، حتى تفرقوا عنه، وجاء به يقوده حتى أدخله داره وبلغ الخبر محمدا، فبعث إلى داره جماعه، فوقفوا حيالها، وصف العباس غلمانه ومواليه على سور داره، ومعهم الترسه والسهام، فقام أحمد بْن إسحاق: فخفنا والله النار أن تحرق منازلنا، وذلك أنهم أرادوا أن يحرقوا دار العباس قَالَ: وجاء رشيد الهاروني، فاستأذن عليه فدخل إليه، فقال: ما تصنع! أتدري ما أنت فيه وما قد جاءك! لو أذن لهم لاقتلعوا دارك بالأسنة، ألست في الطاعة! قَالَ: بلى، قَالَ: فقم فاركب قَالَ: فخرج في سواده، فلما صار على باب داره، قَالَ: يا غلام، هلم دابتي

(8/510)


فقال رشيد: لا ولا كرامة! ولكن تمضي راجلا قَالَ: فمضى، فلما صار إلى الشارع نظر، فإذا العالمون قد جاءوا، وجاءه الجلودي والإفريقي وأبو البط وأصحاب الهرش قَالَ: فجعل ينظر إليهم، وأنا أراه راجلا ورشيد راكب قَالَ: وبلغ أم جعفر الخبر، فدخلت على محمد، وجعلت تطلب إلى محمد، فقال لها: نفيت من قرابتي من رسول الله ص إن لم أقتله! وجعلت تلح عليه، فقال لها: والله إني لأظنني سأسطو بك قَالَ: فكشفت شعرها، وقالت: ومن يدخل علي وأنا حاسر! قَالَ: فبينا محمد كذلك- ولم يأت العباس بعد- إذ قدم صاعد الخادم عليه بقتل علي بْن عيسى بْن ماهان، فاشتغل بذلك، وأقام العباس في الدهليز عشرة أيام، ونسيه ثم ذكره، فقال:
يحبس في حجرة من حجر داره، ويدخل عليه ثلاثة رجال من مواليه من مشايخهم يخدمونه، ويجعل له وظيفة في كل يوم ثلاثة ألوان قَالَ: فلم يزل على هذه الحال حتى خرج حسين بْن علي بْن عيسى بْن ماهان، ودعا إلى المأمون، وحبس محمد قَالَ: فمر إسحاق بْن عيسى بْن علي ومحمد بْن محمد المعبدي بالعباس بْن عبد الله وهو في منظرة، فقالا له: ما قعودك؟ اخرج إلى هذا الرجل- يعنيان حسين بْن علي- قَالَ: فخرج فأتى حسينا، ثم وقف عند باب الجسر، فما ترك لأم جعفر شيئا من الشتم إلا قاله، وإسحاق بْن موسى يأخذ البيعة للمأمون قَالَ: ثم لم يكن إلا يسيرا حتى قتل الحسين، وهرب العباس الى نهر بين إلى هرثمة، ومضى ابنه الفضل بْن العباس إلى محمد، فسعى إليه بما كان لأبيه، ووجه محمد إلى منزله، فأخذ منه أربعة آلاف الف درهم وثلاثمائة ألف دينار، وكانت في قماقم في بئر، وأنسوا قمقمين من تلك القماقم، فقال: ما بقي من ميراث أبي سوى هذين القمقمين، وفيهما سبعون ألف دينار.
فلما انقضت الفتنة وقتل محمد رجع إلى منزله فأخذ القمقمين وجعلهما.
وحج في تلك السنه، وهي سنه ثمان وتسعين ومائة.
قَالَ أحمد بْن إسحاق: وكان العباس بْن عبد الله يحدث بعد ذلك،

(8/511)


فيقول: قَالَ لي سليمان بْن جعفر ونحن في دار المأمون: أما قتلت ابنك بعد؟
فقلت: يا عم، جعلت فداك! ومن يقتل ابنه! فقال لي: اقتله، فهو الذي سعى بك وبمالك فأفقرك.
وذكر عن أحمد بْن إسحاق بْن برصوما، قَالَ: لما حصر محمد وضغطه الأمر، قَالَ: ويحكم! ما أحد يستراح إليه! فقيل له: بلى، رجل من العرب من أهل الكوفة، يقال له وضاح بْن حبيب بْن بديل التميمي، وهو بقية من بقايا العرب، وذو رأي أصيل، قَالَ: فأرسلوا إليه، قَالَ: فقدم علينا، فلما صار إليه قَالَ له: إني قد خبرت بمذهبك ورأيك، فأشر علينا في أمرنا، قَالَ له: يا أمير المؤمنين، قد بطل الرأي اليوم وذهب، ولكن استعمل الأراجيف، فإنها من آلة الحرب، فنصب رجلا كان ينزل دجيلا يقال له بكير بْن المعتمر، فكان إذا نزلت بمحمد نازلة وحادثة هزيمة قَالَ له:
هات، فقد جاءنا نازلة، فيضع له الأخبار، فإذا مشى الناس تبينوا بطلانها.
قَالَ أحمد بْن إسحاق: كأني أنظر إلى بكير بْن المعتمر شيخ عظيم الخلق.
وذكر عن العباس بْن أحمد بْن أبان الكاتب، قَالَ: حدثنا إبراهيم بْن الجراح، قَالَ: حدثني كوثر، قَالَ: أمر محمد بن زبيدة يوما أن يفرش له على دكان في الخلد، فبسط له عليه بساط زرعي، وطرحت عليه نمارق وفرش مثله، وهيئ له من آنية الفضة والذهب والجوهر أمر عظيم، وامر قيمه جواريه ان تهيئ له مائة جارية صانعة، فتصعد إليه عشرا عشرا، بأيديهن العيدان يغنين بصوت واحد، فأصعدت إليه عشرا، فلما استوين على الدكان اندفعن فغنين:
هم قتلوه كي يكونوا مكانه ... كما غدرت يوما بكسرى مرازبه
قَالَ: فتأفف من هذا، ولعنها ولعن الجواري، فأمر بهن فأنزلن، ثم لبث هنيهة وأمرها أن تصعد عشرا، فلما استوين على الدكان اندفعن فغنين:

(8/512)


من كان مسرورا بمقتل مالك ... فليأت نسوتنا بوجه نهار
يجد النساء حواسرا يندبنه ... يلطمن قبل تبلج الأسحار
قَالَ: فضجر وفعل مثل فعلته الأولى، وأطرق طويلا، ثم قَالَ:
أصعدي عشرا، فأصعدتهن، فلما وقفن على الدكان، اندفعن يغنين بصوت واحد:
كليب لعمري كان أكثر ناصرا ... وأيسر ذنبا منك ضرج بالدم
قَالَ: فقام من مجلسه، وأمر بهدم ذلك المكان تطيرا مما كان.
وذكر عن محمد بْن عبد الرحمن الكندي، قَالَ: حدثني محمد بْن دينار، قَالَ: كان محمد المخلوع قاعدا يوما، وقد اشتد عليه الحصار، فاشتد اغتمامه، وضاق صدره، فدعا بندمائه والشراب ليتسلى به، فأتى به، وكانت له جارية يتحظاها من جواريه، فأمرها أن تغني، وتناول كأسا ليشربه، فحبس الله لسانها عن كل شيء، فغنت:
كليب لعمري كان أكثر ناصرا ... وأيسر ذنبا منك ضرج بالدم
فرماها بالكأس الذي في يده، وأمر بها فطرحت للأسد، ثم تناول كأسا أخرى، ودعا بأخرى فغنت:
هم قتلوه كي يكونوا مكانه ... كما غدرت يوما بكسرى مرازبه
فرمى وجهها بالكأس، ثم تناول كأسا أخرى ليشربها، وقال لأخرى:
غني، فغنت:
قومي هم قتلوا اميم أخي

(8/513)


قال: فرمى وجهها بالكأس، ورمى الصينية برجله، وعاد إلى ما كان فيه من همه، وقتل بعد ذلك بأيام يسيرة.
وذكر عن أبي سعيد أنه قَالَ: ماتت فطيم- وهي أم موسى بْن محمد بْن هارون المخلوع- فجزع عليها جزعا شديدا، وبلغ أم جعفر، فقالت: احملوني إلى أمير المؤمنين، قَالَ: فحملت إليه، فاستقبلها، فقال: يا سيدتي، ماتت فطيم، فقالت:
نفسي فداؤك لا يذهب بك اللهف ... ففي بقائك ممن قد مضى خلف
عوضت موسى فهانت كل مرزئة ... ما بعد موسى على مفقودة أسف
وقالت: أعظم الله أجرك، ووفر صبرك، وجعل العزاء عنها ذخرك! وذكر عن إبراهيم بْن إسماعيل بْن هانئ، ابن أخي أبي نواس، قَالَ:
حدثني أبي قَالَ: هجا عمك أبو نواس مضر في قصيدته التي يقول فيها:
أما قريش فلا افتخار لها ... إلا التجارات من مكاسبها
وأنها إن ذكرت مكرمة ... جاءت قريش تسعى بغالبها
إن قريشا إذا هي انتسبت ... كان لها الشطر من مناسبها
قَالَ: يريد أن أكرمها يغالب قَالَ: فبلغ ذلك الرشيد في حياته، فأمر بحبسه، فلم يزل محبوسا حتى ولي محمد، فقال يمدحه، وكان انقطاعه إليه أيام إمارته، فقال:
تذكر أمين الله والعهد يذكر ... مقامي وإنشاديك والناس حضر
ونثري عليك الدر يا در هاشم ... فيأمن رأى درا على الدر ينثر!
أبوك الذي لم يملك الأرض مثله ... وعمك موسى عدله المتخير
وجدك مهدي الهدى وشقيقه ... أبو أمك الأدنى أبو الفضل جعفر

(8/514)


وما مثل منصوريك: منصور هاشم ... ومنصور قحطان إذا عد مفخر
فمن ذا الذي يرمي بسهميك في العلا ... وعبد مناف والداك وحمير
قَالَ: فتغنت بهذه الأبيات جارية بين يدي محمد، فقال لها: لمن الأبيات؟ فقيل له: لأبي نواس، فقال: وما فعل؟ فقيل له: محبوس، فقال: ليس عليه بأس قَالَ: فبعث إليه إسحاق بْن فراشة وسعيد بْن جابر أخا محمد من الرضاعة، فقالا: إن أمير المؤمنين ذكرك البارحة فقال:
ليس عليه بأس، فقال أبياتا، وبعث بها إليه، وهي هذه الأبيات:
أرقت وطار عن عيني النعاس ... ونام السامرون ولم يؤاسوا
أمين الله قد ملكت ملكا ... عليك من التقى فيه لباس
ووجهك يستهل ندى فيحيا ... به في كل ناحية أناس
كأن الخلق في تمثال روح ... له جسد وأنت عليه راس
أمين الله إن السجن بأس ... وقد أرسلت: ليس عليك باس
فلما أنشده قَالَ: صدق، علي به، فجيء به في الليل، فكسرت قيوده، وأخرج حتى أدخل عليه، فأنشأ يقول:
مرحبا مرحبا بخير إمام ... صيغ من جوهر الخلافة نحتا
يا أمين الإله يكلؤك الله ... مقيما وظاعنا حيث سرتا
إنما الأرض كلها لك دار ... فلك الله صاحب حيث كنتا

(8/515)


قَالَ: فخلع عليه، وخلى سبيله، وجعله في ندمائه.
وذكر عن عبد الله بْن عمرو التميمي، قَالَ: حدثني أحمد بْن إبراهيم الفارسي، قَالَ: شرب أبو نواس الخمر، فرفع ذلك إلى محمد في أيامه، فأمر بحبسه، فحبسه الفضل بْن الربيع ثلاثة أشهر، ثم ذكره محمد، فدعا به وعنده بنو هاشم وغيرهم، ودعا له بالسيف والنطع يهدده بالقتل، فأنشده أبو نواس هذه الأبيات:
تذكر أمين الله والعهد يذكر.
الشعر الذي ذكرناه قبل، وزاد فيه:
تحسنت الدنيا بحسن خليفة ... هو البدر إلا أنه الدهر مقمر
إمام يسوس الناس سبعين حجة ... عليه له منها لباس ومئزر
يشير إليه الجود من وجناته ... وينظر من أعطافه حين ينظر
أيا خير مأمول يرجى، أنا امرؤ ... رهين أسير في سجونك مقفر
مضى أشهر لي مذ حبست ثلاثة ... كأني قد أذنبت ما ليس يغفر
فإن كنت لم أذنب ففيم تعقبي! ... وإن كنت ذا ذنب فعفوك أكثر
قَالَ: فقال له محمد: فإن شربتها؟ قَالَ: دمي لك حلال يا أمير المؤمنين، فأطلقه قَالَ: فكان أبو نواس يشمها ولا يشربها وهو قوله:
لا أذوق المدام إلا شميما
وذكر عن مسعود بْن عيسى العبدي، قَالَ: أخبرني يحيى بْن المسافر القرقسائي، قَالَ: أخبرني دحيم غلام أبي نواس، أن أبا نواس عتب عليه محمد في شرب الخمر، فطبق به- وكان للفضل بْن الربيع خال يستعرض أهل السجون ويتعاهدهم ويتفقدهم- ودخل في حبس الزنادقة، فرأى فيه أبا نواس- ولم يكن يعرفه- فقال له: يا شاب، أنت مع الزنادقة! قَالَ:
معاذ الله، قَالَ: فلعلك ممن يعبد الكبش! قَالَ: أنا آكل الكبش بصوفه،

(8/516)


قَالَ: فلعلك ممن يعبد الشمس؟ قَالَ: إني لأتجنب القعود فيها بغضا لها، قَالَ: فبأي جرم حبست؟ قَالَ: حبست بتهمة أنا منها بريء، قَالَ: ليس إلا هذا؟ قَالَ: والله لقد صدقتك قَالَ: فجاء إلى الفضل، فقال له:
يا هذا، لا تحسنون جوار نعم الله عز وجل! أيحبس الناس بالتهمة! قَالَ: وما ذاك؟ فأخبره بما ادعى من جرمه، فتبسم الفضل، ودخل على محمد، فأخبره بذلك، فدعا به، وتقدم إليه أن يجتنب الخمر والسكر، قَالَ:
نعم، قيل له: فبعهد الله! قَالَ: نعم، قَالَ: فأخرج، فبعث إليه فتيان من قريش فقال لهم: إني لا أشرب، قالوا: وإن لم تشرب فآنسنا بحديثك، فأجاب، فلما دارت الكأس بينهم، قالوا: ألم ترتح لها؟ قال: لا سبيل والله الى شربها، وأنشأ يقول:
أيها الرائحان باللوم لوما ... لا أذوق المدام إلا شميما
نالني بالملام فيها إمام ... لا أرى في خلافه مستقيما
فاصرفاها إلى سواي فإني ... لست إلا على الحديث نديما
إن حظي منها إذا هي دارت ... أن أراها وأن أشم النسيما
فكأني وما أحسن منها ... قعدي يزين التحكيما
كل عن حملة السلاح إلى الحرب ... فأوصى المطيق ألا يقيما
وذكر عن أبي الورد السبعي أنه قَالَ: كنت عند الفضل بْن سهل بخراسان، فذكر الأمين، فقال: كيف لا يستحل قتال محمد وشاعره يقول في مجلسه:
ألا سقني خمرا وقل لي هي الخمر ... ولا تسقني سرا إذا أمكن الجهر
قَالَ: فبلغت القصة محمدا، فأمر الفضل بْن الربيع فأخذ أبا نواس فحبسه

(8/517)


وذكر كامل بْن جامع عن بعض أصحاب أبي نواس ورواته، قَالَ:
كان أبو نواس قَالَ أبياتا بلغت الأمين في آخرها:
وقد زادني تيها على الناس أنني ... أراني أغناهم إذا كنت ذا عسر
ولو لم أنل فخرا لكانت صيانتي ... فمي عن جميع الناس حسبي من الفخر
ولا يطمعن في ذاك مني طامع ... ولا صاحب التاج المحجب في القصر
قَالَ: فبعث إليه الأمين- وعنده سليمان بْن أبي جعفر- فلما دخل عليه، قَالَ: يا عاض بظر أمه العاهره! يا بن اللخناء- وشتمه أقبح الشتم- أنت تكسب بشعرك أوساخ أيدي اللئام، ثم تقول:
ولا صاحب التاج المحجب في القصر.
أما والله لا نلت مني شيئا أبدا فقال له سليمان بْن أبي جعفر: والله يا أمير المؤمنين، وهو من كبار الثنوية، فقال محمد: هل يشهد عليه بذلك شاهد؟
فاستشهد سليمان جماعة، فشهد بعضهم أنه شرب في يوم مطير، ووضع قدحه تحت السماء، فوقع فيه القطر، وقال: يزعمون أنه ينزل مع كل قطرة ملك، فكم ترى أني أشرب الساعة من الملائكة! ثم شرب ما في القدح، فأمر محمد بحبسه، فقال أبو نواس في ذلك:
يا رب إن القوم قد ظلموني ... وبلا اقتراف تعطل حبسوني
وإلى الجحود بما عرفت خلافه ... مني إليه بكيدهم نسبوني
ما كان إلا الجري في ميدانهم ... في كل جري والمخافة ديني
لا العذر يقبل لي فيفرق شاهدي ... منهم ولا يرضون حلف يميني
ولكان كوثر كان أولى محبسا ... في دار منقصة ومنزل هون
أما الأمين فلست أرجو دفعه ... عني، فمن لي اليوم بالمأمون!

(8/518)


قَالَ: وبلغت المأمون أبياته، فقال: والله لئن لحقته لأغنينه غنى لا يؤمله، قَالَ: فمات قبل دخول المأمون مدينة السلام.
قَالَ: ولما طال حبس أبي نواس، قَالَ في حبسه- فيما ذكر- عن دعامة:
احمدوا الله جميعا ... يا جميع المسلمينا
ثم قولوا لا تملوا ... ربنا أبق الأمينا
صير الخصيان حتى ... صير التعنين دينا
فاقتدى الناس جميعا ... بأمير المؤمنينا
قَالَ: وبلغت هذه الأبيات أيضا المأمون وهو بخراسان، فقال: إني لأتوكفه أن يهرب إلي.
وذكر يعقوب بْن إسحاق، عمن حدثه، عن كوثر خادم المخلوع، أن محمدا أرق ذات ليلة، وهو في حربه مع طاهر، فطلب من يسامره فلم يقرب إليه أحد من حاشيته، فدعا حاجبه، فقال: ويلك! قد خطرت بقلبي خطرات فأحضرني شاعرا ظريفا أقطع به بقية ليلتي، فخرج الحاجب، فاعتمد أقرب من بحضرته، فوجد أبا نواس، فقال له: أجب أمير المؤمنين، فقال له: لعلك أردت غيري! قَالَ: لم أرد أحدا سواك فأتاه به، فقال: من أنت؟ قَالَ: خادمك الحسن بْن هانئ، وطليقك بالأمس، قَالَ: لا ترع، إنه عرضت بقلبي أمثال أحببت أن تجعلها في شعر، فإن فعلت ذلك أجزت حكمك فيما تطلب، فقال: وما هي يا أمير المؤمنين؟ قَالَ: قولهم: عفا الله عما سلف، وبئس والله ما جرى فرسي، واكسري عودا على أنفك، وتمنعي أشهى لك قَالَ: فقال أبو نواس حكمي أربع وصائف مقدودات، فأمر بإحضارهن، فقال:
فقدت طول اعتلالك ... وما أرى في مطالك
لقد اردت جفائى ... وقد اردت وصالك

(8/519)


ماذا أردت بهذا! ... تمنعي أشهى لك
وأخذ بيد وصيفة فعزلها، ثم قَالَ:
قد صحت الأيمان من حلفك ... وصحت حتى مت من خلفك
بالله يا ستي احنثي مرة ... ثم اكسري عودا على أنفك
ثم عزل الثانية، ثم قَالَ:
فديتك ماذا الصلف ... وشتمك أهل الشرف!
صلى عاشقا مدنفا ... قد أعتب مما اقترف
ولا تذكري ما مضى ... عفا الله عما سلف
ثم عزل الثالثة، وقال:
وباعثات إلي في الغلس ... أن ائتنا واحترس من العسس
حتى إذا نوم العداة ولم ... أخش رقيبا ولا سنا قبس
ركبت مهري وقد طربت إلى ... حور حسان نواعم لعس
فجئت والصبح قد نهضت له ... فبئس والله ما جرى فرسي
فقال: خذهن لا بارك الله لك فيهن! وذكر عن الموصلي، عن حسين خادم الرشيد، قَالَ: لما صارت الخلافة إلى محمد هيئ له منزل من منازله على الشط، بفرش أجود ما يكون من فرش الخلافة وأسواه، فقال: يا سيدي، لم يكن لأبيك فرش يباهي به الملوك والوفود الذين يردون عليه أحسن من هذا، فأحببت أن أفرشه لك، قَالَ: فأحببت أن يفرش لي في أول خلافتي المردراج، وقال: مزقوه، قَالَ: فرأيت والله الخدم والفراشين قد صيروه ممزقا وفرقوه.
وذكر عن محمد بْن الحسن، قَالَ: حدثني أحمد بْن محمد البرمكي أن إبراهيم بن المهدى غنى محمد بن زبيده:

(8/520)


هجرتك حتى قيل لا يعرف القلى ... وزرتك حتى قيل ليس له صبر
فطرب محمد، وقال: أوقروا زورقه ذهبا.
وذكر عن علي بْن محمد بْن إسماعيل، عن مخارق، قَالَ: انى لعند محمد بن زبيدة يوما ماطرا، وهو مصطبح، وأنا جالس بالقرب منه، وأنا أغني وليس معه أحد، وعليه جبة وشي، لا والله ما رأيت أحسن منها فأقبلت أنظر إليها، فقال: كأنك استحسنتها يا مخارق! قلت: نعم يا سيدي، عليك لأن وجهك حسن فيها، فأنا أنظر إليه وأعوذك قَالَ: يا غلام، فأجابه الخادم، قَالَ: فدعا بجبة غير تلك، فلبسها وخلع التي عليه علي، ومكثت هنيهة ثم نظرت إليه، فعاودني بمثل ذلك الكلام، وعاودته، فدعا بأخرى حتى فعل ذلك بثلاث جباب ظاهرت بينها قَالَ: فلما رآها علي ندم وتغير وجهه، وقال: يا غلام، اذهب إلى الطباخين فقل لهم: يطبخوا لنا مصليه، ويجيدوا صنعتها، وأتني بها الساعة، فما هو إلا أن ذهب الغلام حتى جاء الخوان، وهو لطيف صغير، في وسطه غضارة ضخمة ورغيفان، فوضعت بين يديه، فكسر لقمة فأهوى بها إلى الصحيفة، ثم قَالَ: كل يا مخارق، قلت: يا سيدي، أعفني من الأكل، قَالَ: لست أعفيك فكل، فكسرت لقمة، ثم تناولت شيئا، فلما وضعته في فمي، قَالَ: لعنك الله! ما أشرهك! نغصتها علي وأفسدتها، وأدخلت يدك فيها، ثم رفع الغضارة بيده، فإذا هي في حجري، وقال: قم لعنك الله! فقمت، وذاك الودك والمرق يسيل من الجباب، فخلعتها وأرسلت بها الى منزلي، ودعوت القصارين والوشاءين، فجهدت جهدي أن تعود كما كانت فما عادت.
وذكر عن البحتري أبي عبادة، عن عبيد الله بْن أبي غسان، قَالَ: كنت عند محمد في يوم شات شديد البرد، وهو في مجلس له مفرد مفروش بفرش، قلما رأيت أرفع قيمة مثله ولا أحسن، وأنا في ذلك اليوم طاو ثلاثة أيام ولياليهن إلا من النبيذ، والله لا أستطيع أن أتكلم ولا أعقل، فنهض نهضة

(8/521)


البول، فقلت لخادم من خدم الخاصة: ويلك! قد والله مت، فهل من حيلة إلى شيء تلقيه في جوفي يبرد عني ما أنا فيه! فقال: دعني حتى أحتال لك وأنظر ما أقول، وصدق مقالتي، فلما رجع محمد وجلس نظر الخادم إلي نظرة، فتبسم، فرآه محمد، فقال: مم تبسمت؟ قَالَ: لا شيء يا سيدي، فغضب قَالَ البحتري: فقال: شيء في عبيد الله بْن أبي غسان، لا يستطيع أن يشم رائحة البطيخ ولا يأكله، ويجزع منه جزعا شديدا فقال: يا عبيد الله هذا فيك؟ قَالَ: قلت: إي والله يا سيدي، ابتليت به، قَالَ: ويحك! مع طيب البطيخ وطيب ريحه! قَالَ: فقلت: أنا كذا، قَالَ: فتعجب ثم قَالَ: علي ببطيخ، فأتى منه بعدة، فلما رأيته أظهرت القشعريرة منه، وتنحيت قَالَ: خذوه، وضعوا البطيخ بين يديه، قَالَ: فأقبلت أريه الجزع والاضطراب من ذلك، وهو يضحك، ثم قَالَ: كل واحدة، قَالَ:
فقلت: يا سيدي، تقتلني وترمي بكل شيء في جوفي وتهيج علي العلل، الله الله في! قَالَ: كل بطيخة ولك فرش هذا البيت، علي عهد الله بذلك وميثاقه، قلت: ما أصنع بفرش بيت، وأنا اموت ان أكلت! قَالَ: فتأبيت، وألح علي، وجاء الخادم بالسكاكين فقطعوا بطيخة، فجعلوا يحشونها في فمي، وأنا أصرخ وأضطرب، وأنا مع ذلك أبلع، وأنا أريه أني بكره أفعل ذلك وألطم رأسي، وأصيح وهو يضحك، فلما فرغت تحول إلى بيت آخر، ودعا الفراشين، فحملوا فرش ذلك البيت إلى منزلي، ثم عاودني في فرش ذلك البيت في بطيخة أخرى، ثم فعل كفعله الأول، وأعطاني فرش البيت، حتى أعطاني فرش ثلاثة أبيات، وأطعمني ثلاث بطيخات، قَالَ: وحسنت والله حالي، واشتد ظهري.
قَالَ: وكان منصور بْن المهدي يريه أنه ينصح له، فجاء وقد قام محمد يتوضأ، وعلمت ان محمدا سيعقبنى بشر ندامة على ما خرج من يديه، فأقبل علي منصور ومحمد غائب عن المجلس، وقد بلغه الخبر، فقال: يا بن الفاعلة، تخدع أمير المؤمنين، فتأخذ متاعه! والله لقد هممت أفعل وأفعل، فقلت:
يا سيدي، قد كان ذاك، وكان السبب فيه كذا وكذا، فإن احببت ان

(8/522)


تقتلني فتأثم فشأنك، وإن تفضلت فأهل لذلك أنت، ولست أعود قَالَ:
فإني أتفضل عليك قَالَ: وجاء محمد، فقال: افرشوا لنا على تلك البركة، ففرشوا له عليها، فجلس وجلسنا وهي مملوءة ماء، فقال: يا عم، اشتهيت أن اصنع شيئا، أرمي بعبيد الله إلى البركة وتضحك منه قَالَ: يا سيدي إن فعلت هذا قتلته لشدة برد الماء وبرد يومنا هذا، ولكني أدلك على شيء خيرت به، طيب، قَالَ: ما هو؟ قَالَ: تأمر به يشد في تخت، ويطرح على باب المتوضأ، ولا يأتي باب المتوضأ أحد إلا بال على رأسه فقال: طيب والله، ثم أتى بتخت فأمر فشددت فيه، ثم أمر فحملت والقيت على باب المتوضإ، وجاء الخدم فأرخوا الرباط عني، وأقبلوا يرونه أنهم يبولون علي وأنا أصرخ، فمكث بذلك ما شاء الله وهو يضحك ثم أمر بي فحللت وأريته أني تنظفت وأبدلت ثيابي وجاوزت عليه وذكر عن عبد الله بن العباس بن الفضل بْن الربيع عن أبيه وكان حاجب المخلوع- قَالَ: كنت قائما على رأسه، فأتي بغداء فتغدى وحده، وأكل أكلا عجيبا، وكان يوما يعد للخلفاء قبله على هيئة ما كان يهيأ لكل واحد منهم يأكل من كل طعام، ثم يؤتى بطعامه قَالَ: فأكل حتى فرغ ثم رفع رأسه إلى أبي العنبر- خادم كان لأمه- فقال: اذهب إلى المطبخ، فقل لهم يهيئون لي بزماورد، ويتركونه طوالا لا يقطعونه، ويكون حشوة شحوم الدجاج والسمن والبقل والبيض والجبن والزيتون والجوز، ويكثرون منه ويعجلونه، فما مكث إلا يسيرا حتى جاءوا به في خوان مربع، وقد جعل عليه البزماورد الطوال، على هيئة القبة العبد صمدية، حتى صير أعلاها بزماوردة واحدة، فوضع بين يديه، فتناول واحدة فأكلها، ثم لم يزل كذلك حتى لم يبق على الخوان شيئا.
وذكر عن علي بْن محمد أن جابر بْن مصعب حدثه، قَالَ: حدثني مخارق، قَالَ: مرت بي ليلة ما مرت بي مثلها قط، إني لفي منزلي بعد ليل،

(8/523)


إذ أتاني رسول محمد- وهو خليفة- فركض بي ركضا، فانتهى بي إلى داره، فأدخلت فإذا إبراهيم بْن المهدي قد أرسل إليه كما أرسل إلي، فوافينا جميعا، فانتهى إلى باب مفض إلى صحن، فإذا الصحن مملوء شمعا من شمع محمد العظام، وكأن ذلك الصحن في نهار، وإذا محمد في كرج، وإذا الدار مملوءة وصائف وخدما، وإذا اللعابون يلعبون، ومحمد وسطهم في الكرج يرقص فيه، فجاءنا رسول يقول: قَالَ لكما: قوما في هذا الموضع على هذا الباب مما يلي الصحن، ثم ارفعا أصواتكما معبرا ومقصرا عن السورناي، واتبعاه في لحنة قَالَ: وإذا السورناي والجواري واللعابون في شيء واحد:
هذي دنانير تنساني واذكرها.
تتبع الزمار قال: فو الله ما زلت وإبراهيم قائمين نقولها، نشق بها حلوقنا حتى انفلق الصبح، ومحمد في الكرج ما يسأمه ولا يمله حتى أصبح يدنو منا، أحيانا نراه، وأحيانا يحول بيننا وبينه الجواري والخدم.
وذكر الحسين بْن فراس مولى بني هاشم، قَالَ: غزا الناس في زمان محمد على أن يرد عليهم الخمس، فرد عليهم، فأصاب الرجل ستة دنانير، وكان ذلك مالا عظيما.
وذكر عن ابن الإعرابي، قَالَ: كنت حاضر الفضل بْن الربيع، وأتي بالحسن بْن هانئ، فقال: رفع إلى أمير المؤمنين إنك زنديق، فجعل يبرأ من ذلك ويحلف، وجعل الفضل يكرر عليه، وسأله أن يكلم الخليفة فيه، ففعل وأطلقه، فخرج وهو يقول:
أهلي أتيتكم من القبر ... والناس محتبسون للحشر
لولا أبو العباس ما نظرت ... عيني إلى ولد ولا وفر
فالله ألبسني به نعما ... شغلت حسابتها يدي شكري
لقيتها من مفهم فهم ... فمددتها بأنامل عشر

(8/524)


وذكر عن الرياشي أن أبا حبيب الموشي حدثه، قال: كنت مع مؤنس ابن عمران، ونحن نريد الفضل بْن الربيع ببغداد، فقال لي مؤنس: لو دخلنا على أبي نواس! فدخلنا عليه السجن، فقال لمؤنس: يا أبا عمران، أين تريد؟
قَالَ: أردت أبا العباس الفضل بْن الربيع، قَالَ: فتبلغه رقعة أعطيكها؟
قَالَ: نعم، قَالَ: فأعطاه رقعة فيها:
ما من يد في الناس واحدة ... إلا أبو العباس مولاها
نام الثقات على مضاجعهم ... وسرى إلى نفسي فأحياها
قد كنت خفتك ثم أمنني ... من أن أخافك خوفك الله
فعفوت عني عفو مقتدر ... وجبت له نقم فألغاها
قَالَ: فكانت هذه الأبيات سبب خروجه من الحبس وذكر عن محمد بْن خلاد الشروي، قَالَ: حدثني أبي قَالَ: سمع محمد شعر أبي نواس وقوله:
ألا سقني خمرا وقل لي هي الخمر.
وقوله:
اسقنيها يا ذفافه ... مزة الطعم سلافه
ذل عندي من قلاها ... لرجاء أو مخافه
مثل ما ذلت وضاعت ... بعد هارون الخلافه
قَالَ: ثم أنشد له:
فجاء بها زيتية ذهبية ... فلم نستطع دون السجود لها صبرا
قَالَ: فحبسه محمد على هذا، وقال: إيه! أنت كافر، وأنت زنديق.
فكتب في ذلك إلى الفضل بْن الربيع:

(8/525)


أنت يا بن الربيع علمتني الخير ... وعودتنيه والخير عاده
فارعوى باطلي وأقصر جهلي ... وأظهرت رهبة وزهاده
لو تراني شبهت بي الحسن البصري ... في حال نسكه وقتاده
بركوع أزينه بسجود ... واصفرار مثل اصفرار الجراده
فادع بي لا عدمت تقويم مثلي ... فتأمل بعينك السجاده
لو رآها بعض المرائين يوما ... لاشتراها يعدها للشهاده.

(8/526)


خلافة المأمون عبد الله بْن هارون
وفي هذه السنة وضعت الحرب- بين محمد وعبد الله ابنى هارون الرشيد- أوزارها، واستوسق الناس بالمشرق والعراق والحجاز لعبد الله المأمون بالطاعة.
وفيها خرج الحسن بن الهرش في ذي الحجة منها يدعو إلى الرضى من آل محمد- بزعمه- في سفلة الناس، وجماعة كثيرة من الأعراب، حتى أتى النيل، فجبى الأموال، وأغار على التجار، وانتهب القرى، واستاق المواشي.
وفيها ولى المأمون كل ما كان طاهر بْن الحسين افتتحه من كور الجبال وفارس والأهواز والبصرة والكوفة والحجاز واليمن الحسن بن سهل أخا الفضل ابن سهل، وذلك بعد مقتل محمد المخلوع ودخول الناس في طاعة المأمون.
وفيها كتب المأمون إلى طاهر بْن الحسين، وهو مقيم ببغداد بتسليم جميع ما بيده من الأعمال في البلدان كلها إلى خلفاء الحسن بْن سهل، وأن يشخص عن ذلك كله إلى الرقة، وجعل إليه حرب نصر بْن شبث وولاه الموصل والجزيرة والشام والمغرب.
وفيها قدم علي بْن أبي سعيد العراق خليفة للحسن بْن سهل على خراجها، فدافع طاهر عليا بتسليم الخراج إليه، حتى وفى الجند أرزاقهم، فلما وفاهم سلم إليه العمل.
وفيها كتب المأمون إلى هرثمة يأمره بالشخوص إلى خراسان.
وحج بالناس في هذه السنة العباس بْن موسى بْن عيسى بْن موسى بْن محمد بن على

(8/527)


ثم دخلت

سنة تسع وتسعين ومائة

ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث المشهورة
فمن ذلك قدوم الحسن بْن سهل فيها بغداد من عند المأمون، وإليه الحرب والخراج، فلما قدمها فرق عماله في الكور والبلدان.
وفيها شخص طاهر إلى الرقة في جمادى الأولى، ومعه عيسى بْن محمد بْن أبي خالد وفيها شخص أيضا هرثمة إلى خراسان.
وفيها خرج أزهر بْن زهير بْن المسيب إلى الهرش، فقتله في المحرم.
وفيها خرج بالكوفة محمد بْن إبراهيم بْن إسماعيل بْن ابراهيم بن الحسن ابن الحسن بْن علي بْن أبي طالب يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الآخرة يدعو إلى الرضى من آل محمد والعمل بالكتاب والسنة، وهو الذي يقال له ابن طباطبا، وكان القيم بأمره في الحرب وتدبيرها وقيادة جيوشه ابو السرايا، واسمه السري بْن منصور، وكان يذكر أنه من ولد هانئ بْن قبيصة بْن هانئ بْن مسعود بْن عامر بْن عمرو بْن أبي ربيعة بْن ذهل بْن شيبان.

ذكر الخبر عن سبب خروج محمد بْن إبراهيم بْن طباطبا
اختلف في ذلك، فقال بعضهم: كان سبب خروجه صرف المأمون طاهر ابن الحسين عما كان إليه من أعمال البلدان التي فتحها وتوجيهه إلى ذلك الحسن بْن سهل، فلما فعل ذلك تحدث الناس بالعراق بينهم أن الفضل بْن سهل قد غلب على المأمون، وانه قد انزله قصرا حجبه فيه عن أهل بيته ووجوه قواده من الخاصة والعامة، وأنه يبرم الأمور على هواه، ويستبد بالرأي دونه.
فغضب لذلك بالعراق من كان بها من بني هاشم ووجوه الناس، وأنفوا من

(8/528)


غلبة الفضل بْن سهل على المأمون، واجترءوا على الحسن بْن سهل بذلك، وهاجت الفتن في الأمصار، فكان أول من خرج بالكوفة ابن طباطبا الذي ذكرت.
وقيل كان سبب خروجه أن أبا السرايا كان من رجال هرثمة، فمطله بأرزاقه وأخره بها، فغضب أبو السرايا من ذلك، ومضى إلى الكوفة فبايع محمد بن ابراهيم وأخذ الكوفه، واستوسق له أهلها بالطاعة، وأقام محمد بْن إبراهيم بالكوفه، وأتاه الناس من نواحي الكوفه والاعراب وغيرهم.

ذكر الوقعة بين أهل الكوفة وزهير بْن المسيب
وفيها وجه الحسن بْن سهل زهير بْن المسيب في أصحابه إلى الكوفة- وكان عامل الكوفة يومئذ حين دخلها ابن طباطبا سليمان بْن أبي جعفر المنصور- من قبل الحسن بْن سهل، وكان خليفة سليمان بْن أبي جعفر بها خالد بْن محجل الضبي- فلما بلغ الخبر الحسن بْن سهل عنف سليمان وضعفه، ووجه زهير بْن المسيب في عشرة آلاف فارس وراجل، فلما توجه إليهم وبلغهم خبر شخوصه إليهم تهيئوا للخروج إليه، فلم تكن لهم قوة على الخروج، فأقاموا حتى إذا بلغ زهير قرية شاهي خرجوا فأقاموا حتى إذا بلغوا القنطرة أتاهم زهير، فنزل عشية الثلاثاء صعنبا، ثم واقعهم من الغد فهزموه واستباحوا عسكره، وأخذوا ما كان معه من مال وسلاح ودواب وغير ذلك يوم الأربعاء.
فلما كان من غد اليوم الذي كانت فيه الوقعة بين اهل الكوفه وزهير ابن المسيب- وذلك يوم الخميس لليلة خلت من رجب سنة تسع وتسعين ومائة- مات محمد بْن إبراهيم بْن طباطبا فجاءة، فذكر أن أبا السرايا سمه، وكان السبب في ذلك- فيما ذكر- أن ابن طباطبا لما أحرز ما في عسكر زهير من المال والسلاح والدواب وغير ذلك منعه أبا السرايا، وحظره عليه، وكان الناس له مطيعين، فعلم أبو السرايا أنه لا أمر له معه فسمه، فلما مات ابن طباطبا أقام أبو السرايا مكانه غلاما أمرد حدثا يقال له محمد بْن محمد بْن زيد بْن علي بْن الحسين بْن علي بْن أبي طالب، فكان أبو السرايا هو الذي ينفذ

(8/529)


الأمور، ويولي من رأى، ويعزل من أحب، وإليه الأمور كلها، ورجع زهير من يومه الذي هزم فيه إلى قصر ابن هبيرة، فأقام به وكان الحسن بْن سهل قد وجه عبدوس بْن محمد بْن أبي خالد المروروذي إلى النيل حين وجه زهير إلى الكوفة، فخرج بعد ما هزم زهير عبدوس يريد الكوفة بأمر الحسن بْن سهل، حتى بلغ الجامع هو وأصحابه، وزهير مقيم بالقصر، فتوجه أبو السرايا إلى عبدوس، فواقعه بالجامع، يوم الأحد لثلاث عشرة بقيت من رجب فقتله، وأسر هارون بْن محمد بْن أبي خالد، واستباح عسكره وكان عبدوس- فيما ذكر- في أربعة آلاف فارس، فلم يفلت منهم أحد، كانوا بين قتيل وأسير، وانتشر الطالبيون في البلاد، وضرب أبو السرايا الدراهم بالكوفة، ونقش عليها: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ» ، ولما بلغ زهيرا قتل أبي السرايا عبدوسا وهو بالقصر، انحاز بمن معه إلى نهر الملك.
ثم إن أبا السرايا أقبل حتى نزل قصر ابن هبيرة بأصحابه، وكانت طلائعه تأتي كوثى ونهر الملك، فوجه أبو السرايا جيوشا إلى البصرة وواسط فدخلوهما، وكان بواسط ونواحيها عبد الله بْن سعيد الحرشي واليا عليها من قبل الحسن ابن سهل، فواقعه جيش أبي السرايا قريبا من واسط فهزموه، فانصرف راجعا إلى بغداد، وقد قتل من أصحابه جماعة وأسر جماعة فلما راى الحسن ابن سهل أن أبا السرايا ومن معه لا يلقون له عسكرا إلا هزموه، ولا يتوجهون إلى بلدة إلا دخلوها، ولم يجد فيمن معه من القواد من يكفيه حربه، اضطر إلى هرثمة- وكان هرثمة حين قدم عليه الحسن بْن سهل العراق واليا عليها من قبل المأمون، سلم ما كان بيده من الأعمال، وتوجه نحو خراسان مغاضبا للحسن، فسار حتى بلغ حلوان- فبعث إليه السندي وصالحا صاحب المصلى يسأله الانصراف إلى بغداد لحرب أبي السرايا، فامتنع وأبى وانصرف الرسول إلى الحسن بإبائه، فأعاد إليه السندي بكتب لطيفة، فأجاب، وانصرف إلى

(8/530)


بغداد، فقدمها في شعبان، فتهيأ للخروج إلى الكوفة، وأمر الحسن بْن سهل علي بْن أبي سعيد أن يخرج إلى ناحية المدائن وواسط والبصرة، فتهيئوا لذلك.
وبلغ الخبر أبا السرايا وهو بقصر ابن هبيرة، فوجه إلى المدائن، فدخلها أصحابه في رمضان، وتقدم هو بنفسه وبمن معه حتى نزل نهر صرصر مما يلي طريق الكوفة في شهر رمضان وكان هرثمة لما احتبس قدومه على الحسن ببغداد أمر المنصور بْن المهدي أن يخرج فيعسكر بالياسرية إلى قدوم هرثمة، فخرج فعسكر، فلما قدم هرثمة خرج فعسكر بالسفينتين بين يدي منصور، ثم مضى حتى عسكر بنهر صرصر بإزاء أبي السرايا، والنهر بينهما، وكان على ابن أبي سعيد معسكرا بكلواذى، فشخص يوم الثلاثاء بعد الفطر بيوم، ووجه مقدمته إلى المدائن، فقاتل بها أصحاب أبي السرايا غداة الخميس إلى الليل قتالا شديدا فلما كان الغد غدا وأصحابه على القتال فانكشف أصحاب أبي السرايا وأخذ ابن أبي سعيد المدائن وبلغ الخبر أبا السرايا وأخذ ابن أبي سعيد المدائن، فلما كان ليلة السبت لخمس خلون من شوال رجع أبو السرايا من نهر صرصر إلى قصر ابن هبيرة، فنزل به، وأصبح هرثمة فجد في طلبه، فوجد جماعة كثيرة من أصحابه فقتلهم، وبعث برءوسهم إلى الحسن ابن سهل، ثم صار هرثمة إلى قصر ابن هبيرة، فكانت بينه وبين أبي السرايا وقعة قتل فيها من أصحاب أبي السرايا خلق كثير، فانحاز أبو السرايا إلى الكوفة، فوثب محمد بْن محمد ومن معه من الطالبيين على دور بني العباس ودور مواليهم وأتباعهم بالكوفة، فانتهبوها وخربوها وأخرجوهم من الكوفة، وعملوا في ذلك عملا قبيحا، واستخرجوا الودائع التي كانت لهم عند الناس فأخذوها وكان هرثمة- فيما ذكر- يخبر الناس أنه يريد الحج، فكان قد حبس من يريد الحج من خراسان والجبال والجزيرة وحاج بغداد وغيرهم، فلم يدع أحدا يخرج، رجاء أن يأخذ الكوفة، ووجه أبو السرايا إلى مكة والمدينة من يأخذهما، ويقيم الحج للناس.
وكان الوالي على مكة والمدينة داود بْن عيسى بْن موسى بْن محمد بْن علي بْن عبد الله بْن العباس، وكان الذي وجهه أبو السرايا الى مكة

(8/531)


حسين بْن حسن الأفطس بْن علي بْن الحسين بْن علي بْن أبي طالب والذي وجهه إلى المدينة محمد بْن سليمان بْن داود بن الحسن بْن الحسن بْن علي بْن أبي طالب، فدخلها ولم يقاتله بها أحد، ومضى حسين بْن حسن يريد مكة فلما قرب منها وقف هنيهة لمن فيها وكان داود بْن عيسى لما بلغه توجيه أبي السرايا حسين بن حسن إلى مكة لإقامة الحج للناس جمع موالي بني العباس وعبيد حوائطهم، وكان مسرور الكبير الخادم قد حج في تلك السنة في مائتي فارس من أصحابه، فتعبأ لحرب من يريد دخول مكة وأخذها من الطالبيين، فقال لداود بْن عيسى: أقم لي شخصك أو شخص بعض ولدك، وأنا أكفيك قتالهم، فقال له داود: لا أستحل القتال في الحرم، والله لئن دخلوا من هذا الفج لأخرجن من هذا الفج الآخر، فقال له مسرور: تسلم ملكك وسلطانك إلى عدوك ومن لا يأخذه فيك لومة لائم في دينك ولا حرمك ولا مالك! قَالَ له داود: أي ملك لي! والله لقد أقمت معهم حتى شيخت فما ولوني ولاية حتى كبرت سني، وفني عمري، فولوني من الحجاز ما فيه القوت، إنما هذا الملك لك وأشباهك، فقاتل إن شئت أو دع فانحاز داود من مكة إلى ناحية المشاش، وقد شد أثقاله على الإبل، فوجه بها في طريق العراق، وافتعل كتابا من المأمون بتولية ابنه محمد بْن داود على صلاة الموسم، فقال له:
اخرج فصل بالناس الظهر والعصر بمنى، والمغرب والعشاء، وبت بمنى، وصل بالناس الصبح، ثم اركب دوابك فانزل طريق عرفه، وخذ على يسارك في شعب عمرو، حتى تأخذ طريق المشاش، حتى تلحقني ببستان ابن عامر.
ففعل ذلك، وافترق الجمع الذي كان داود بْن عيسى معهم بمكة من موالي بني العباس وعبيد الحوائط، وفت ذلك في عضد مسرور الخادم، وخشي إن قاتلهم أن يميل أكثر الناس معهم، فخرج في أثر داود راجعا إلى العراق، وبقي الناس بعرفة، فلما زالت الشمس وحضرت الصلاة، تدافعها قوم من أهل مكة، فقال أحمد بْن محمد بْن الوليد الردمي- وهو المؤذن وقاضي الجماعة والإمام بأهل المسجد الحرام: إذ لم تحضر الولاة- لقاضي مكة محمد بْن عبد الرحمن

(8/532)


المخزومي: تقدم فاخطب بالناس، وصل بهم الصلاتين، فإنك قاضي البلد.
قَالَ: فلمن أخطب وقد هرب الإمام، وأطل هؤلاء القوم على الدخول! قَالَ: لا تدع لأحد، قَالَ له محمد: بل أنت فتقدم واخطب، وصل بالناس، فأبى، حتى قدموا رجلا من عرض أهل مكة، فصلى بالناس الظهر والعصر بلا خطبة، ثم مضوا فوقفوا جميعا بالموقف من عرفة حتى غربت الشمس، فدفع الناس لأنفسهم من عرفة بغير إمام، حتى أتوا مزدلفة، فصلى بهم المغرب والعشاء رجل أيضا من عرض الناس وحسين بْن حسن يتوقف بسرف يرهب أن يدخل مكة، فيدفع عنها ويقاتل دونها، حتى خرج إليه قوم من أهل مكة ممن يميل إلى الطالبيين، ويتخوف من العباسيين، فأخبروه أن مكة ومنى وعرفة قد خلت ممن فيها من السلطان، وأنهم قد خرجوا متوجهين إلى العراق.
فدخل حسين بْن حسن مكة قبل المغرب من يوم عرفة، وجميع من معه لا يبلغون عشرة، فطافوا بالبيت وسعوا بين الصفا والمروة، ومضوا إلى عرفة في الليل، فوقفوا بها ساعة من الليل، ثم رجع إلى مزدلفة فصلى بالناس الفجر، ووقف على قزح، ودفع بالناس منه.
وأقام بمنى ايام الحج، فلم يزل مقيما حتى انقضت سنة تسع وتسعين ومائة، وأقام محمد بْن سليمان بْن داود الطالبي بالمدينة السنة أيضا، فانصرف الحاج ومن كان شهد مكة والموسم، على أن أهل الموسم قد أفاضوا من عرفة بغير إمام.
وقد كان هرثمة لما تخوف أن يفوته الحج- وقد نزل قرية شاهي- واقع أبا السرايا وأصحابه في المكان الذي واقعه فيه زهير، فكانت الهزيمة على هرثمة في أول النهار، فلما كان آخر النهار كانت الهزيمة على أصحاب أبي السرايا، فلما رأى هرثمة أنه لم يصر إلى ما أراد، أقام بقرية شاهي، ورد الحاج وغيرهم، وبعث إلى المنصور بْن المهدي فأتاه بقرية شاهي، وصار يكاتب رؤساء أهل الكوفة، وقد كان علي بْن أبي سعيد لما أخذ المدائن توجه إلى واسط فأخذها، ثم إنه توجه إلى البصرة فلم يقدر على أخذها حتى انقضت سنة تسع وتسعين ومائه.

(8/533)