تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ
الطبري
ذكر الخبر عن وثوب
الحربية ببغداد
وفي هذه السنة هاج الشغب ببغداد بين الحربية والحسن بْن سهل.
ذكر الخبر عن ذلك وكيف كان:
ذكر أن الحسن بْن سهل كان بالمدائن حين شخص هرثمة إلى خراسان، ولم يزل
مقيما بها إلى أن اتصل بأهل بغداد والحربية ما صنع به، فبعث الحسن ابن
سهل إلى علي بْن هشام- وهو والي بغداد، من قبله: إن أمطل الجند من
الحربية والبغداديين أرزاقهم، ومنهم ولا تعطهم وقد كان الحسن قبل ذلك
اتعدهم أن يعطيهم أرزاقهم، وكانت الحربية حين خرج هرثمة إلى خراسان
وثبوا وقالوا: لا نرضى حتى نطرد الحسن بْن سهل عن بغداد، وكان من عماله
بها محمد بْن أبي خالد وأسد بْن أبي الأسد، فوثبت الحربية عليهم
فطردوهم، وصيروا إسحاق بْن موسى بْن المهدي خليفة للمأمون ببغداد،
فاجتمع أهل الجانبين على ذلك، ورضوا به، فدس الحسن إليهم، وكاتب قوادهم
حتى وثبوا من جانب عسكر المهدي، وجعل يعطي الجند أرزاقهم لستة أشهر
عطاء نزرا، فحول الحربية إسحاق إليهم، وأنزلوه على دجيل.
وجاء زهير بْن المسيب فنزل في عسكر المهدي، وبعث الحسن بْن سهل علي بْن
هشام، فجاء من الجانب الآخر، حتى نزل نهر صرصر، ثم جاء هو
(8/543)
ومحمد بْن أبي خالد وقوادهم ليلا، حتى
دخلوا بغداد، فنزل علي بْن هشام دار العباس بْن جعفر بْن محمد بْن
الأشعث الخزاعي على باب المحول لثمان خلون من شعبان، وقبل ذلك ما كان
الحربية حين بلغهم أن أهل الكرخ يريدون أن يدخلوا زهيرا وعلي بْن هشام،
شدوا على باب الكرخ فاحرقوه، وانهبوا من حد قصر الوضاح إلى داخل باب
الكرخ إلى أصحاب القراطيس ليلة الثلاثاء، ودخل علي بْن هشام صبيحة تلك
الليلة، فقاتل الحربية ثلاثة أيام على قنطرة الصراة العتيقة والجديدة
والأرحاء.
ثم أنه وعد الحربية أن يعطيهم رزق ستة أشهر إذا أدركت الغلة، فسألوه أن
يعجل لهم خمسين درهما لكل رجل لينفقوها في شهر رمضان، فأجابهم إلى ذلك،
وجعل يعطي، فلم يتم لهم إعطاءهم، حتى خرج زيد بْن موسى بْن جَعْفَرِ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ بْن علي بْن أبي طالب،
الخارج بالبصرة المعروف بزيد النار، كان أفلت من الحبس عند علي بْن أبي
سعيد، فخرج في ناحية الأنبار ومعه أخو أبي السرايا في ذي القعدة سنة
مائتين، فبعثوا إليه، فأخذ، فأتى به علي بْن هشام، فلم يلبث إلا جمعة
حتى هرب من الحربية، فنزل نهر صرصر، وذلك أنه كان يكذبهم، ولم يف لهم
بإعطاء الخمسين، إلى أن جاء الأضحى، وبلغهم خبر هرثمة وما صنع به،
فشدوا على علي فطردوه.
وكان المتولي ذلك والقائم بأمر الحرب محمد بْن أبي خالد، وذلك ان على
ابن هشام لما دخل بغداد كان يستخف به، فوقع بين محمد بْن أبي خالد وبين
زهير بْن المسيب إلى أن قنعه زهير بالسوط فغضب محمد من ذلك، وتحول إلى
الحربية في ذي القعدة، ونصب لهم الحرب، واجتمع إليه الناس فلم يقو بهم
علي بْن هشام حتى أخرجوه من بغداد، ثم اتبعه حتى هزمهم من نهر صرصر.
وفي هذه السنة وجه المأمون رجاء بن أبي الضحاك وفرناس الخادم لإشخاص
علي بْن موسى بْن جعفر بْن محمد ومحمد بْن جعفر
(8/544)
وأحصي في هذه السنة ولد العباس، فبلغوا
ثلاثة وثلاثين ألفا ما بين ذكر واثنى.
وفي هذه السنة قتلت الروم ملكها ليون، فكان قد ملك عليهم سبع سنين وستة
أشهر، وملكوا عليهم ميخائيل بْن جورجس ثانية.
وفيها قتل المأمون يحيى بْن عامر بْن إسماعيل، وذلك أن يحيى أغلظ له،
فقال له: يا أمير الكافرين، فقتل بين يديه.
وأقام للناس الحج في هذه السنة أبو إسحاق بن الرشيد.
(8/545)
ثم دخلت
سنة إحدى ومائتين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)
ولايه منصور بن المهدى ببغداد
فمما كان فيها من ذلك مراودة أهل بغداد منصور بْن المهدي على الخلافة
وامتناعه عليهم، فلما امتنع من ذلك راوده على الإمرة عليهم، على أن
يدعو للمأمون بالخلافة، فأجابهم إلى ذلك.
ذكر الخبر عن سبب ذلك وكيف كان الأمر فيه:
قد ذكرنا قبل ذلك سبب إخراج أهل بغداد علي بْن هشام من بغداد.
ويذكر عن الحسن بن سهل ان الخبر عن إخراج أهل بغداد علي بْن هشام من
بغداد لما اتصل به وهو بالمدائن، انهزم حتى صار إلى واسط، وذلك في أول
سنة إحدى ومائتين.
وقد قيل إن سبب إخراج أهل بغداد علي بْن هشام من بغداد، كان أن الحسن
بْن سهل وجه محمد بْن خالد المروروذي بعد ما قتل أبو السرايا، أفسده
وولي علي بْن هشام الجانب الغربي من بغداد وزهير بْن المسيب يلي الجانب
الشرقي، وأقام هو بالخيزرانية، وضرب الحسن عبد الله بْن علي بْن عيسى
ابن ماهان حدا بالسياط، فغضب الأبناء، فشغب الناس، فهرب الى بربخا ثم
إلى باسلاما، وأمر بالأرزاق لأهل عسكر المهدي، ومنع أهل الغربي، واقتتل
أهل الجانبين، ففرق محمد بْن أبي خالد على الحربية مالا، فهزم على ابن
هشام، فانهزم الحسن بْن سهل بانهزام علي بْن هشام، فلحق بواسط، فتبعه
محمد بْن أبي خالد بْن الهندوان مخالفا له، وقد تولى القيام بأمر
الناس، وولي سعيد بْن الحسن بْن قحطبة الجانب الغربي ونصر بْن حمزة بْن
مالك الشرقي، وكنفه ببغداد منصور بْن المهدي وخزيمة بْن خازم والفضل
بْن الربيع
(8/546)
وقد قيل إن عيسى بْن محمد بْن أبي خالد قدم
في هذه السنة من الرقة، وكان عند طاهر بْن الحسين، فاجتمع هو وأبوه على
قتال الحسن، فمضيا حتى انتهيا ومن معهما من الحربية وأهل بغداد إلى
قرية أبي قريش قرب واسط، وكان كلما أتيا موضعا فيه عسكر من عساكر الحسن
فيكون بينهما فيه وقعة، تكون الهزيمة فيه على أصحاب الحسن.
ولما انتهى محمد بن خالد إلى دير العاقول، أقام به ثلاثا، وزهير بْن
المسيب حينئذ مقيم بإسكاف بني الجنيد، وهو عامل الحسن على جوخى مقيم في
عمله، فكان يكاتب قواد أهل بغداد فبعث ابنه الأزهر، فمضى حتى انتهى إلى
نهر النهروان، فلقي محمد بْن أبي خالد، فركب إليه، فأتاه بإسكاف، فأحاط
به فأعطاه الأمان، وأخذه أسيرا، فجاء به إلى عسكره بدير العاقول، وأخذ
أمواله ومتاعه وكل قليل وكثير وجد له ثم تقدم محمد بْن أبي خالد، فلما
صار إلى واسط بعث به إلى بغداد، فحبسه عند ابن له مكفوف، يقال له جعفر،
فكان الحسن مقيما بجرجرايا، فلما بلغه خبر زهير، وأنه قد صار في يد
محمد بْن أبي خالد ارتحل حتى دخل واسط، فنزل بفم الصلح، ووجه محمد من
دير العاقول ابنه هارون إلى النيل وبها سعيد بْن الساجور الكوفي، فهزمه
هارون، ثم تبعه حتى دخل الكوفة، فأخذها هارون، وولى عليها وقدم عيسى
ابن يزيد الجلودي من مكة، ومعه محمد بْن جعفر، فخرجوا جميعا حتى أتوا
واسط في طريق البر، ثم رجع هارون إلى أبيه، فاجتمعوا جميعا في قرية أبي
قريش ليدخلوا واسط، وبها الحسن بْن سهل، فتقدم الحسن بْن سهل، فنزل خلف
واسط في أطرافها.
وكان الفضل بْن الربيع مختفيا من حين قتل المخلوع، فلما راى ان محمد
ابن أبي خالد قد بلغ واسط بعث إليه يطلب الأمان منه، فأعطاه إياه وظهر.
ثم تعبأ محمد بْن أبي خالد للقتال، فتقدم هو وابنه عيسى وأصحابهما، حتى
صاروا على ميلين من واسط، فوجه إليهم الحسن أصحابه وقواده، فاقتتلوا
قتالا شديدا عند أبيات واسط فلما كان بعد العصر هبت ريح شديدة وغبرة
حتى اختلط القوم بعضهم ببعض، وكانت الهزيمة على أصحاب محمد بْن
(8/547)
أبي خالد، فثبت للقوم فأصابته جراحات شديدة
في جسده، فانهزم هو وأصحابه هزيمة شديدة قبيحة، فهزم أصحابه الحسن،
وذلك يوم الأحد لسبع بقين من شهر ربيع الأول سنة إحدى ومائتين.
فلما بلغ محمد فم الصلح خرج عليهم أصحاب الحسن فصافهم للقتال، فلما
جنهم الليل، ارتحل هو وأصحابه حتى نزلوا المبارك، فأقاموا به، فلما
أصبحوا غدا عليهم أصحاب الحسن فصافوهم، واقتتلوا.
فلما جنهم الليل ارتحلوا حتى أتوا جبل، فأقاموا بها، ووجه ابنه هارون
إلى النيل، فأقام بها، وأقام محمد بجرجرايا، فلما اشتدت به الجراحات
خلف قواده في عسكره، وحمله ابنه أبو زنبيل حتى أدخله بغداد ليلة
الاثنين لست خلون من شهر ربيع الآخر، فدخل أبو زنبيل ليلة الاثنين،
ومات محمد بْن أبي خالد من ليلته من تلك الجراحات، ودفن من ليلته في
داره سرا.
وكان زهير بْن المسيب محبوسا عند جعفر بْن محمد بْن أبي خالد، فلما قدم
أبو زنبيل أتى خزيمة بْن خازم يوم الاثنين لثمان خلون من شهر ربيع
الآخر، فأعلمه أمر أبيه، فبعث خزيمة إلى بني هاشم والقواد وأعلمهم ذلك،
وقرأ عليهم كتاب عيسى بْن محمد بْن أبي خالد، وأنه يكفيهم الحرب فرضوا
بذلك، فصار عيسى مكان أبيه على الحرب، وانصرف أبو زنبيل من عند خزيمة
حتى أتى زهير بْن المسيب، فأخرجه من حبسه، فضرب عنقه.
ويقال: إنه ذبحه ذبحا وأخذ رأسه، فبعث به إلى عيسى في عسكره، فنصبه على
رمح وأخذوا جسده، فشدوا في رجليه حبلا، ثم طافوا به في بغداد، ومروا به
على دوره ودور أهل بيته عند باب الكوفة، ثم طافوا به في الكرخ، ثم ردوه
إلى باب الشام بالعشي، فلما جنهم الليل طرحوه في دجلة، وذلك يوم
الاثنين لثمان خلون من شهر ربيع الآخر.
ثم رجع أبو زنبيل حتى انتهى إلى عيسى فوجهه عيسى إلى فم الصراة.
وبلغ الحسن بْن سهل موت محمد بْن أبي خالد، فخرج من واسط حتى
(8/548)
انتهى إلى المبارك، فأقام بها فلما كان
جمادى الآخرة وجه حميد بْن عبد الحميد الطوسى ومعه عركو الأعرابي وسعيد
بن الساجور وأبو البط ومحمد بْن إبراهيم الإفريقي، وعدة سواهم من
القواد، فلقوا أبا زنبيل بفم الصراة فهزموه، وانحاز إلى أخيه هارون
بالنيل، فالتقوا عند بيوت النيل، فاقتتلوا ساعة، فوقعت الهزيمة على
أصحاب هارون، وأبي زنبيل، فخرجوا هاربين حتى أتوا المدائن، وذلك يوم
الاثنين لخمس بقين من جمادى الآخرة ودخل حميد وأصحابه النيل فانتهبوها
ثلاثة أيام، فانتهبوا أموالهم وأمتعتهم، وانتهبوا ما كان حولهم من
القرى، وقد كان بنو هاشم والقواد حين مات محمد بْن أبي خالد تكلموا في
ذلك، وقالوا: نصير بعضنا خليفة ونخلع المأمون، فكانوا يتراضون في ذلك،
إذ بلغهم خبر هارون وأبي زنبيل وهزيمتهم، فجدوا فيما كانوا فيه،
وأرادوا منصور بْن المهدي على الخلافة، فأبى ذلك عليهم، فلم يزالوا به
حتى صيروه أميرا خليفة للمأمون ببغداد والعراق، وقالوا: لا نرضى
بالمجوسي ابن المجوسي الحسن بْن سهل، ونطرده حتى يرجع إلى خراسان.
وقد قيل: إن عيسى بْن محمد بْن أبي خالد لما اجتمع إليه أهل بغداد،
وساعدوه على حرب الحسن بْن سهل، رأى الحسن أنه لا طاقة له بعيسى، فبعث
إليه وهب بْن سعيد الكاتب، وبذل له المصاهرة ومائة ألف دينار والأمان
له ولأهل بيته ولأهل بغداد وولاية أي النواحي أحب، فطلب كتاب المأمون
بذلك بخطه، فرد الحسن بْن سهل وهبا بإجابته، فغرق وهب بين المبارك
وجبل، فكتب عيسى إلى أهل بغداد: إني مشغول بالحرب عن جباية الخراج،
فولوا رجلا من بني هاشم، فولوا منصور بْن المهدي، وعسكر منصور بْن
المهدي بكلواذى، وأرادوه على الخلافة فأبى، وقال: أنا خليفة أمير
المؤمنين حتى يقدم أو يولي من أحب، فرضي بذلك بنو هاشم والقواد والجند،
وكان القيم بهذا الأمر خزيمة بْن خازم، فوجه القواد في كل ناحية، وجاء
حميد الطوسي من فوره في طلب بني محمد حتى انتهى إلى المدائن، فأقام بها
يومه، ثم انصرف إلى النيل
(8/549)
فلما بلغ منصورا خبره خرج حتى عسكر
بكلواذى، وتقدم يحيى بْن علي بْن عيسى بْن ماهان إلى المدائن.
ثم أن منصورا وجه إسحاق بْن العباس بْن محمد الهاشمي من الجانب الآخر،
فعسكر بنهر صرصر، ووجه غسان بْن عباد بْن أبي الفرج أبا إبراهيم بْن
غسان صاحب حرس صاحب خراسان ناحية الكوفة، فتقدم حتى أتى قصر ابن هبيرة،
فأقام به فلما بلغ حميدا الخبر لم يعلم غسان إلا وحميد قد أحاط بالقصر،
فأخذ غسان أسيرا، وسلب أصحابه، وقتل منهم، وذلك يوم الاثنين لأربع خلون
من رجب.
ثم لم يزل كل قوم مقيمين في عساكرهم، إلا أن محمد بْن يقطين بْن موسى
كان مع الحسن بْن سهل، فهرب منه إلى عيسى، فوجهه عيسى إلى منصور، فوجهه
منصور إلى ناحية حميد، وكان حميد مقيما بالنيل إلا أن له خيلا بالقصر.
وخرج ابن يقطين من بغداد يوم السبت لليلتين خلتا من شعبان حتى أتى كوثى
وبلغ حميدا الخبر، فلم يعلم ابن يقطين حتى أتاه حميد وأصحابه إلى كوثى،
فقاتلوه فهزموه، وقتلوا من أصحابه، وأسروا، وغرق منهم بشر كثير، وانتهب
حميد وأصحابه ما كان حول كوثي من القرى وأخذوا البقر والغنم والحمير
وما قدروا عليه من حلى ومتاع وغير ذلك، ثم انصرف حتى النيل، وراجع ابن
يقطين، فأقام بنهر صرصر.
وفي محمد بْن أبي خالد قَالَ أبو الشداخ:
هوى خيل الأبناء بعد محمد ... وأصبح منها كاهل العز أخضعا
فلا تشمتوا يا آل سهل بموته ... فإن لكم يوما من الدهر مصرعا
وأحصى عيسى بْن محمد بْن أبي خالد ما كان في عسكره، فكانوا مائة ألف
وخمسة وعشرين ألفا بين فارس وراجل، فأعطى الفارس اربعين درهما، والراجل
عشرين درهما.
(8/550)
ذكر خبر خروج
المطوعة للنكير على الفساق
وفي هذه السنة تجردت المطوعة للنكير على الفساق ببغداد، ورئيسهم خالد
الدريوش وسهل بْن سلامة الأنصاري أبو حاتم من أهل خراسان.
ذِكْرُ الْخَبَرِ عَنِ السَّبَبِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ فعلت المطوعة
ما ذكرت:
كان السبب في ذلك أن فساق الحربية والشطار الذين كانوا ببغداد والكرخ
آذوا الناس أذى شديدا، وأظهروا الفسق وقطع الطريق وأخذ الغلمان والنساء
علانية من الطرق، فكانوا يجتمعون فيأتون الرجل، فيأخذون ابنه، فيذهبون
به فلا يقدر أن يمتنع، وكانوا يسألون الرجل أن يقرضهم أو يصلهم فلا
يقدر أن يمتنع عليهم، وكانوا يجتمعون فيأتون القرى، فيكاثرون أهلها،
ويأخذون ما قدروا عليه من متاع ومال وغير ذلك، لا سلطان يمنعهم، ولا
يقدر على ذلك منهم، لأن السلطان كان يعتز بهم، وكانوا بطانته، فلا يقدر
أن يمنعهم من فسق يركبونه، وكانوا يجبون المارة في الطرق وفي السفن
وعلى الظهر ويخفرون البساتين، ويقطعون الطرق علانية، ولا أحد يعدو
عليهم، وكان الناس منهم في بلاء عظيم، ثم كان آخر أمرهم أنهم خرجوا إلى
قطربل، فانتهبوها علانية، وأخذوا المتاع والذهب والفضة والغنم والبقر
والحمير وغير ذلك، وأدخلوها بغداد، وجعلوا يبيعونها علانية، وجاء أهلها
فاستعدوا السلطان عليهم، فلم يمكنه اعداؤهم عليهم، ولم يرد عليهم شيئا
مما كان أخذ منهم، وذلك آخر شعبان.
فلما رأى الناس ذلك وما قد أخذ منهم، وما بيع من متاع الناس في
أسواقهم، وما قد أظهروا من الفساد في الأرض والظلم والبغي وقطع الطريق،
وأن السلطان لا يغير عليهم، قام صلحاء كل ربض وكل درب، فمشى بعضهم إلى
بعض، وقالوا: إنما في الدرب الفاسق والفاسقان إلى العشرة، وقد غلبوكم
وأنتم أكثر منهم، فلو اجتمعتم حتى يكون أمركم واحدا، لقمعتم هؤلاء
(8/551)
الفساق، وصاروا لا يفعلون ما يفعلون من
إظهار الفسق بين أظهركم.
فقام رجل من ناحية طريق الأنبار يقال له خالد الدريوش، فدعا جيرانه
وأهل بيته وأهل محلته على أن يعاونوه على الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، فأجابوه إلى ذلك، وشد على من يليه من الفساق والشطار، فمنعهم
مما كانوا يصنعون، فامتنعوا عليه، وأرادوا قتاله، فقاتلهم فهزمهم وأخذ
بعضهم، فضربهم وحبسهم ورفعهم إلى السلطان، إلا أنه كان لا يرى أن يغير
على السلطان شيئا، ثم قام من بعده رجل من أهل الحربية، يقال له سهل بْن
سلامة الأنصاري من أهل خراسان، يكنى أبا حاتم، فدعا الناس إلى الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، والعمل بكتاب الله جل وعز وسنة نبيه صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلق مصحفا في عنقه، ثم بدأ بجيرانه وأهل
محلته، فأمرهم ونهاهم فقبلوا منه، ثم دعا الناس جميعا إلى ذلك، الشريف
منهم والوضيع، بني هاشم ومن دونهم، وجعل له ديوانا يثبت فيه اسم من
أتاه منهم، فبايعه على ذلك، وقتال من خالفه وخالف ما دعا إليه كائنا من
كان، فأتاه خلق كثير، فبايعوا.
ثم إنه طاف ببغداد وأسواقها وأرباضها وطرقها، ومنع كل من يخفر ويجبي
المارة والمختلفة، وقال: لا خفارة في الإسلام- والخفارة أنه كان يأتي
الرجل بعض أصحاب البساتين فيقول: بستانك في خفري، أدفع عنه من أراده
بسوء، ولي في عنقك كل شهر كذا وكذا درهما، فيعطيه ذلك شائيا وآبيا-
فقوي على ذلك إلا أن الدريوش خالفه، وقال: أنا لا أعيب على السلطان
شيئا ولا أغيره، ولا أقاتله، ولا آمره بشيء ولا أنهاه وقال سهل بْن
سلامة:
لكني أقاتل كل من خالف الكتاب والسنة كائنا من كان، سلطانا أو غيره،
والحق قائم في الناس أجمعين، فمن بايعني على هذا قبلته، ومن خالفني
قاتلته فقام في ذلك سهل يوم الخميس لأربع خلون من شهر رمضان سنة إحدى
ومائتين في مسجد طاهر بْن الحسين، الذي كان بناه في الحربية
(8/552)
وكان خالد الدريوش قام قبله بيومين أو
ثلاثة، وكان منصور بْن المهدي مقيما بعسكره بجبل، فلما كان من ظهور سهل
بْن سلامة وأصحابه ما كان، وبلغ ذلك منصورا وعيسى- وإنما كان عظم
أصحابهما الشطار، ومن لا خير فيه- كسرهما ذلك، ودخل منصور بغداد.
وقد كان عيسى يكاتب الحسن بْن سهل، فلما بلغه خبر بغداد، سأل الحسن بْن
سهل أن يعطيه الأمان له ولأهل بيته ولأصحابه، على أن يعطي الحسن أصحابه
وجنده وسائر أهل بغداد رزق ستة أشهر إذا أدركت له الغلة، فأجابه الحسن،
وارتحل عيسى من معسكره، فدخل بغداد يوم الاثنين لثلاث عشرة خلت من
شوال، وتقوضت جميع عساكرهم، فدخلوا بغداد، فأعلمهم عيسى ما دخل لهم فيه
من الصلح، فرضوا بذلك.
ثم رجع عيسى الى المدائن، وجاء يحيى بْن عبد الله، ابن عم الحسن بْن
سهل، حتى نزل دير العاقول، فولوه السواد، وأشركوا بينه وبين عيسى في
الولاية، وجعلوا لكل عدة من الطساسيج وأعمال بغداد فلما دخل عيسى فيما
دخل فيه- وكان أهل عسكر المهدي مخالفين له- وثب المطلب بْن عبد الله
بْن مالك الخزاعي يدعو إلى المأمون وإلى الفضل والحسن ابني سهل، فامتنع
عليه سهل بْن سلامة، وقال: ليس على هذا بايعتني.
وتحول منصور بْن المهدي وخزيمة بْن خازم والفضل بْن الربيع- وكانوا يوم
تحولوا بايعوا سهل بْن سلامة على ما يدعو إليه من العمل بالكتاب
والسنة- فنزلوا بالحربيه فرارا من الطلب، وجاء سهل بْن سلامة إلى
الحسن، وبعث إلى المطلب أن يأتيه، وقال: ليس على هذا بايعتني، فأبى
المطلب أن يجيئه، فقاتله سهل يومين أو ثلاثة قتالا شديدا، حتى اصطلح
عيسى والمطلب، فدس عيسى إلى سهل من اغتاله فضربه ضربة بالسيف، إلا أنها
لم تعمل فيه، فلما اغتيل سهل رجع إلى منزله، وقام عيسى بأمر الناس،
فكفوا عن القتال.
وقد كان حميد بْن عبد الحميد مقيما بالنيل، فلما بلغه هذا الخبر
(8/553)
دخل الكوفة، فأقام بها أياما ثم أنه خرج
منها حتى أتى قصر ابن هبيرة، فأقام به، واتخذ منزلا وعمل عليه سورا
وخندقا، وذلك في آخر ذي القعدة.
وأقام عيسى ببغداد يعرض الجند ويصححهم، إلى أن تدرك الغلة، وبعث إلى
سهل بْن سلامة فاعتذر إليه مما كان صنع به، وبايعه وأمره أن يعود إلى
ما كان عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنه عونه على ذلك،
فقام سهل بما كان قام به أولا من الدعاء إلى العمل بالكتاب والسنه
. ذكر خبر البيعه لعلى بن موسى بولاية
العهد
وفي هذه السنة جعل المأمون علي بْن موسى بْن جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ
بْنِ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ بْن عَلِيّ بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ ولي عهد المسلمين والخليفة من بعده، وسماه الرضى من آل محمد ص،
وأمر جنده بطرح السواد ولبس ثياب الخضرة، وكتب بذلك إلى الآفاق.
ذكر الخبر عن ذلك وعما كان سبب ذلك وما آل الأمر فيه إليه:
ذكر أن عيسى بْن محمد بْن أبي خالد، بينما هو فيما هو فيه من عرض
أصحابه بعد منصرفه من عسكره إلى بغداد، إذ ورد عليه كتاب من الحسن بْن
سهل يعلمه أن أمير المؤمنين المأمون قد جعل علي بْن موسى بْن جعفر بْن
محمد ولي عهده من بعده، وذلك أنه نظر في بني العباس وبني علي، فلم يجد
أحدا هو أفضل ولا أورع ولا أعلم منه، وأنه سماه الرضى من آل محمد،
وأمره بطرح لبس الثياب السود ولبس ثياب الخضرة، وذلك يوم الثلاثاء
لليلتين خلتا من شهر رمضان سنة إحدى ومائتين، ويأمره أن يأمر من قبله
من أصحابه والجند والقواد وبني هاشم بالبيعة له، وأن يأخذهم بلبس
الخضرة في أقبيتهم وقلانسهم وأعلامهم، ويأخذ أهل بغداد جميعا بذلك.
فلما أتى عيسى الخبر دعا أهل بغداد إلى ذلك على أن يعجل لهم رزق شهر،
والباقي إذا أدركت الغلة، فقال بعضهم: نبايع ونلبس الخضرة، وقال
(8/554)
بعضهم: لا نبايع ولا نلبس الخضرة، ولا نخرج
هذا الأمر من ولد العباس، وإنما هذا دسيس من الفضل بْن سهل، فمكثوا
بذلك أياما وغضب ولد العباس من ذلك، واجتمع بعضهم إلى بعض، وتكلموا
فيه، وقالوا: نولي بعضنا، ونخلع المأمون، وكان المتكلم في هذا والمختلف
والمتقلد له إبراهيم ومنصور ابنا المهدى.
ذكر الدعوة لمبايعه ابراهيم بن المهدى وخلع
المأمون
وفي هذه السنة بايع أهل بغداد إبراهيم بْن المهدي بالخلافة وخلعوا
المأمون.
ذكر السبب في ذلك:
قد ذكرنا سبب إنكار العباسيين ببغداد على المأمون ما أنكروا عليه،
واجتماع من اجتمع على محاربة الحسن بْن سهل منهم، حتى خرج عن بغداد
ولما كان من بيعة المأمون لعلي بْن موسى بْن جعفر- وأمره الناس بلبس
الخضرة ما كان، وورود كتاب الحسن على عيسى بْن محمد بْن أبي خالد يأمره
بذلك، وأخذ الناس به ببغداد، وذلك يوم الثلاثاء لخمس بقين من ذي الحجة-
أظهر العباسيون ببغداد أنهم قد بايعوا إبراهيم بْن المهدي بالخلافة،
ومن بعده ابن أخيه إسحاق بْن موسى بْن المهدي، وأنهم قد خلعوا المأمون،
وأنهم يعطون عشرة دنانير كل إنسان، أول يوم من المحرم أول يوم من السنة
المستقبلة.
فقبل بعض ولم يقبل بعض حتى يعطى، فلما كان يوم الجمعة وأرادوا الصلاة
أرادوا أن يجعلوا إبراهيم خليفة للمأمون مكان منصور، فأمروا رجلا يقول
حين أذن المؤذن: إنا نريد أن ندعو للمأمون ومن بعده لإبراهيم يكون
خليفة، وكانوا قد دسوا قوما، فقالوا لهم: إذا قام يقول: ندعو للمأمون،
فقوموا أنتم فقولوا:
لا نرضى إلا أن تبايعوا لإبراهيم ومن بعده لإسحاق، وتخلعوا المأمون
أصلا، ليس نريد ان تأخذوا أموالنا كما صنع منصور، ثم تجلسوا في بيوتكم
فلما قام من يتكلم أجابه هؤلاء، فلم يصل بهم تلك الجمعة صلاة الجمعة،
ولا خطب أحد، إنما صلى الناس أربع ركعات ثم انصرفوا، وذلك يوم الجمعة
لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة إحدى ومائتين
(8/555)
وفي هَذِهِ السنة افتتح عَبْد اللَّهِ بْن
خرداذ به وهو والي طبرستان اللارز والشيرز، من بلاد الديلم، وزادهما في
بلاد الإسلام، وافتتح جبال طبرستان، وأنزل شهريار بْن شروين عنها، فقال
سلام الخاسر:
إنا لنأمل فتح الروم والصين ... بمن ادال لنا من ملك شروين
فاشدد يديك بعبد الله إن له ... مع الأمانة رأي غير موهون
وأشخص مازيار بْن قارن إلى المأمون، وأسر أبا ليلى ملك الديلم بغير عهد
في هذه السنة.
وفيها مات محمد بْن محمد صاحب أبي السرايا.
وفيها تحرك بابك الخرمي في الجاويذانية أصحاب جاويذان بْن سهل، صاحب
البذ، وادعى أن روح جاويذان دخلت فيه، وأخذ في العيث والفساد.
وفيها أصاب أهل خراسان والري وأصبهان مجاعة، وعز الطعام، ووقع الموت.
وحج بالناس فيها إسحاق بْن موسى بْن عيسى بْن موسى بْن محمد بن على.
(8/556)
ثم دخلت
سنة اثنتين ومائتين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)
ذكر الخبر بيعه ابراهيم بن المهدى
فمما كان فيها من ذلك بيعة أهل بغداد لإبراهيم بْن المهدي بالخلافة،
وتسميتهم إياه المبارك وقيل إنهم بايعوه في أول يوم من المحرم
بالخلافة، وخلعوا المأمون، فلما كان يوم الجمعة صعد إبراهيم المنبر،
فكان أول من بايعه عبيد الله بْن العباس بْن محمد الهاشمي، ثم منصور
بْن المهدي، ثم سائر بني هاشم، ثم القواد وكان المتولي لأخذ البيعة
المطلب بْن عبد الله بْن مالك، وكان الذي سعى في ذلك وقام به السندي
وصالح صاحب المصلى ومنجاب ونصير الوصيف وسائر الموالي، إلا أن هؤلاء
كانوا الرؤساء والقادة غضبا منهم على المأمون حين أراد إخراج الخلافة
من ولد العباس إلى ولد علي، ولتركه لباس آبائه من السواد ولبسه الخضرة.
ولما فرغ من البيعة وعد الجند ان يعطيهم ارزاق سته الأشهر، فدافعهم
بها، فلما رأوا ذلك شغبوا عليه، فأعطاهم مائتي درهم لكل رجل، وكتب
لبعضهم الى السواد بقيمة بقية مالهم حنطة وشعيرا فخرجوا في قبضها فلم
يمروا بشيء إلا انتهبوه، فأخذوا النصيبين جميعا، نصيب أهل البلاد ونصيب
السلطان وغلب إبراهيم مع أهل بغداد على أهل الكوفة والسواد كله، وعسكر
بالمدائن وولى الجانب الشرقي من بغداد العباس بْن موسى الهادي والجانب
الغربي إسحاق بْن موسى الهادي وقال إبراهيم بْن المهدي:
ألم تعلموا يا آل فهر بأنني ... شريت بنفسي دونكم في المهالك.
(8/557)
خبر تحكيم مهدى بن
علوان الحروري
وفي هذه السنة حكم مهدي بْن علوان الحروري، وكان خروجه ببزرجسابور،
وغلب على طساسيج هنالك وعلى نهر بوق والراذانين وقد قيل: إن خروج مهدي
كان في سنة ثلاث ومائتين في شوال منها، فوجه إليه إبراهيم بْن المهدي
أبا إسحاق بن الرشيد في جماعة من القواد، منهم أبو البط وسعيد بْن
الساجور، ومع أبي إسحاق غلمان له أتراك، فذكر عن شبيل صاحب السلبة، أنه
كان معه وهو غلام، فلقوا الشراة، فطعن رجل من الأعراب أبا إسحاق، فحامى
عنه غلام له تركي، وقال له: أشناس مرا، أي اعرفني، فسماه يومئذ أشناس،
وهو أبو جعفر أشناس، وهزم مهدي إلى حولايا.
وقال بعضهم: إنما وجه إبراهيم إلى مهدى بن علوان الدهقاني الحروري
المطلب، فسار إليه، فلما قرب منه أخذ رجلا من قعد الحرورية يقال له
أقذى، فقتله، واجتمعت الأعراب فقاتلوه فهزموه حتى أدخلوه بغداد.
وفي هذه السنة وثب أخو أبي السرايا بالكوفة، فبيض، واجتمعت إليه جماعة،
فلقيه غسان بْن أبي الفرج في رجب فقتله، وبعث برأسه الى ابراهيم ابن
المهدي
. ذكر الخبر عن تبييض أخي أبي السرايا وظهوره بالكوفة
ذكر أن الحسن بْن سهل أتاه وهو مقيم بالمبارك في معسكره كتاب المأمون
يأمره بلبس الخضرة، وأن يبايع لعلي بْن موسى بْن جعفر بْن محمد بولاية
العهد من بعده، ويأمره أن يتقدم إلى بغداد حتى يحاصر أهلها، فارتحل حتى
نزل سمر، وكتب إلى حميد بْن عبد الحميد أن يتقدم إلى بغداد حتى يحاصر
أهلها من ناحية أخرى، ويأمره بلباس الخضرة، ففعل ذلك حميد وكان سعيد
بْن
(8/558)
الساجور وأبو البط وغسان بْن أبي الفرج
ومحمد بْن إبراهيم الإفريقي وعدة من قواد حميد كاتبوا إبراهيم بْن
المهدي، على أن يأخذوا له قصر ابن هبيرة.
وكان قد تباعد ما بينهم وبين حميد، فكانوا يكتبون إلى الحسن بْن سهل
يخبرونه أن حميدا يكاتب ابراهيم، وكان يكتب فيهم بمثل ذلك، وكان الحسن
يكتب إلى حميد يسأله أن يأتيه فلم يفعل، وخاف إن هو خرج إلى الحسن أن
يثب الآخرون بعسكره، فكانوا يكتبون إلى الحسن أنه ليس يمنعه من إتيانك
إلا أنه مخالف لك، وأنه قد اشترى الضياع بين الصراة وسورا والسواد فلما
ألح عليه الحسن بالكتب، خرج إليه يوم الخميس لخمس خلون من ربيع الآخر
فكتب سعيد وأصحابه إلى إبراهيم يعلمونه، ويسألون أن يبعث إليهم عيسى
بْن محمد بْن أبي خالد، حتى يدفعوا إليه القصر وعسكر حميد، وكان
إبراهيم قد خرج من بغداد يوم الثلاثاء حتى عسكر بكلواذى يريد المدائن،
فلما أتاه الكتاب وجه عيسى إليهم.
فلما بلغ أهل عسكر حميد خروج عيسى ونزوله قرية الأعراب على فرسخ من
القصر تهيئوا للهرب، وذلك ليلة الثلاثاء، وشد أصحاب سعيد وأبي البط
والفضل بْن محمد بْن الصباح الكندي الكوفي على عسكر حميد، فانتهبوا ما
فيه، وأخذوا لحميد- فيما ذكر- مائة بدرة أموالا ومتاعا، وهرب ابن لحميد
ومعاذ بْن عبد الله، فأخذ بعضهم نحو الكوفة وبعض نحو النيل، فأما ابن
حميد، فإنه انحدر بجواري أبيه إلى الكوفة، فلما أتى الكوفة اكترى بغالا
ثم أخذ الطريق، ثم لحق بأبيه بعسكر الحسن، ودخل عيسى القصر وسلمه له
سعيد وأصحابه، وصار عيسى وأخذه منهم، وذلك يوم الثلاثاء لعشر خلون من
ربيع الآخر وبلغ الحسن بْن سهل وحميد عنده، فقال له حميد:
ألم أعلمك بذلك! ولكن خدعت، وخرج من عنده حتى أتى الكوفة، فأخذ أموالا
له كانت هنالك ومتاعا وولى على الكوفة العباس بْن موسى بْن جعفر
العلوي، وامره بلباس الحضره، وأن يدعو للمأمون ومن بعده لأخيه علي بْن
موسى، وأعانه بمائة ألف درهم، وقال له: قاتل عن أخيك، فإن أهل الكوفة
يجيبونك إلى ذلك، وأنا معك
(8/559)
فلما كان الليل خرج حميد من الكوفة وتركه،
وقد كان الحسن وجه حكيما الحارثي حين بلغه الخبر إلى النيل، فلما بلغ
ذلك عيسى وهو بالقصر تهيأ هو وأصحابه، حتى خرجوا إلى النيل، فلما كان
ليلة السبت لأربع عشرة ليلة خلت من ربيع الآخر طلعت حمرة في السماء، ثم
ذهبت الحمرة، وبقي عمودان أحمران في السماء إلى آخر الليل، وخرج غداة
السبت عيسى وأصحابه من القصر إلى النيل، فواقعهم حكيم، وأتاهم عيسى
وسعيد وهم في الوقعة، فانهزم حكيم، ودخلوا النيل.
فلما صاروا بالنيل، بلغهم خبر العباس بْن موسى بْن جعفر العلوي، وما
يدعو إليه أهل الكوفة، وأنه قد أجابه قوم كثير منهم، وقال له قوم
آخرون:
إن كنت تدعو للمأمون ثم من بعده لأخيك فلا حاجة لنا في دعوتك، وإن كنت
تدعو إلى أخيك أو بعض أهل بيتك أو إلى نفسك أجبناك فقال:
أنا أدعو إلى المأمون ثم من بعده لأخي، فقعد عنه الغالية من الرافضة
وأكثر الشيعة وكان يظهر أن حميدا يأتيه فيعينه ويقويه، وأن الحسن يوجه
إليه قوما من قبله مددا، فلم يأته منهم أحد، وتوجه إليه سعيد وأبو البط
من النيل إلى الكوفة، فلما صاروا بدير الأعور، أخذوا طريقا يخرج بهم
إلى عسكر هرثمة عند قرية شاهي.
فلما التأم إليه أصحابه، خرجوا يوم الاثنين لليلتين خلتا من جمادى
الأولى.
فلما صاروا قرب القنطرة خرج عليهم علي بْن محمد بن جعفر العلوي، ابن
المبايع له بمكة، وأبو عبد الله أخو أبي السرايا ومعهم جماعة كثيرة،
وجههم مع علي بْن محمد ابن عمه صاحب الكوفة العباس بْن موسى بْن جعفر،
فقاتلوهم ساعة، فانهزم علي وأصحابه حتى دخلوا الكوفة، وجاء سعيد
وأصحابه حتى نزلوا الحيرة، فلما كان يوم الثلاثاء غدوا فقاتلوهم مما
يلي دار عيسى بْن موسى، وأجابهم العباسيون ومواليهم، فخرجوا إليهم من
الكوفة، فاقتتلوا يومهم إلى الليل، وشعارهم: يا إبراهيم يا منصور، لا
طاعة للمأمون، وعليهم السواد، وعلى العباس وأصحابه من أهل الكوفة
الخضرة.
فلما كان يوم الأربعاء اقتتلوا في ذلك الموضع، فكان كل فريق منهم إذا
(8/560)
ظهروا على شيء أحرقوه فلما رأى ذلك رؤساء
أهل الكوفة، أتوا سعيدا وأصحابه، فسألوه الأمان للعباس بْن موسى بْن
جعفر وأصحابه، على أن يخرج من الكوفة، فأجابوهم إلى ذلك، ثم أتوا
العباس فأعلموه، وقالوا: إن عامة من معك غوغاء، وقد ترى ما يلقى الناس
من الحرق والنهب والقتل، فأخرج من بين أظهرنا، فلا حاجة لنا فيك فقبل
منهم، وخاف أن يسلموه، وتحول من منزله الذي كان فيه بالكناسة، ولم يعلم
أصحابه بذلك، وانصرف سعيد وأصحابه إلى الحيرة، وشد أصحاب العباس بْن
موسى على من بقي من أصحاب سعيد وموالي عيسى بْن موسى العباسي، فهزموهم
حتى بلغوا بهم الخندق، ونهبوا ربض عيسى بْن موسى، فأحرقوا الدور،
وقتلوا من ظهروا به فبعث العباسيون ومواليهم إلى سعيد يعلمونه بذلك،
وأن العباس قد رجع عما كان طلب من الأمان فركب سعيد وأبو البط
وأصحابهما حتى أتوا الكوفة عتمة، فلم يظفروا بأحد منهم ينتهب إلا
قتلوه، ولم يظهروا على شيء مما كان في أيدي أصحاب العباس إلا أحرقوه،
حتى بلغوا الكناسة، فمكثوا بذلك عامة الليل حتى خرج إليهم رؤساء أهل
الكوفة، فأعلموهم أن هذا من عمل الغوغاء، وأن العباس لم يرجع عن شيء
فانصرفوا عنهم.
فلما كان غداة الخميس لخمس خلون من جمادى الأولى، جاء سعيد وأبو البط
حتى دخلوا الكوفة، ونادى مناديهم: أمن الأبيض والأسود، ولم يعرضوا لأحد
من الخلق إلا بسبيل خير، وولوا على الكوفة الفضل بْن محمد بْن الصباح
الكندي، من أهلها فكتب إليهم إبراهيم بْن المهدي يأمرهم بالخروج إلى
ناحية واسط، وكتب إلى سعيد أن يستعمل على الكوفة غير الكندي، لميله إلى
أهل بلده، فولاها غسان بن ابى الفرج، ثم عزله بعد ما قتل أبا عبد الله
أخا أبي السرايا، فولاها سعيد ابن أخيه الهول، فلم يزل واليا عليها حتى
قدمها حميد ابن عبد الحميد، وهرب الهول منها، وأمر إبراهيم بن المهدى
عيسى بن محمد ابن أبي خالد أن يسير إلى ناحية واسط على طريق النيل،
وأمر ابن عائشة الهاشمي ونعيم بن خازم ان يسيرا جميعا، فخرجا مما يلي
جوخى، وبذلك
(8/561)
أمرهما، وذلك في جمادى الأولى ولحق بهما
سعيد وأبو البط والإفريقي حتى عسكروا بالصيادة قرب واسط، فاجتمعوا
جميعا في مكان واحد، وعليهم عيسى بْن محمد بْن أبي خالد، فكانوا يركبون
حتى يأتوا عسكر الحسن وأصحابه بواسط في كل يوم، فلا يخرج إليهم من
أصحاب الحسن أحد، وهم متحصنون بمدينة واسط.
ثم أن الحسن أمر أصحابه بالتهيؤ للخروج للقتال، فخرجوا إليهم يوم السبت
لأربع بقين من رجب، فاقتتلوا قتالا شديدا إلى قريب الظهر ثم وقعت
الهزيمة على عيسى وأصحابه، فانهزموا حتى بلغوا طرنايا والنيل، وأخذ
أصحاب الحسن جميع ما كان في عسكرهم من سلاح ودواب وغير ذلك
. ظفر إبراهيم بْن المهدي بسهل بْن سلامة المطوعى
وفي هذه السنة ظفر إبراهيم بْن المهدي بسهل بْن سلامة المطوعي فحبسه
وعاقبه.
ذكر الخبر عن سبب ظفره به وحبسه إياه:
ذكر أن سهل بْن سلامة كان مقيما ببغداد، يدعو إلى العمل بكتاب الله
وسنه نبيه ص، فلم يزل كذلك حتى اجتمع إليه عامة أهل بغداد ونزلوا عنده،
سوى من هو مقيم في منزله، وهواه ورأيه معه، وكان إبراهيم قد هم بقتاله
قبل الوقعة، ثم أمسك عن ذلك، فلما كانت هذه الوقعة وصارت الهزيمة على
أصحاب عيسى ومن معه أقبل على سهل بْن سلامة، فدس إليه وإلى أصحابه
الذين بايعوه على العمل بالكتاب والسنة، وألا طاعة لمخلوق في معصية
الخالق، فكان كل من أجابه إلى ذلك قد عمل على باب داره برجا بجص وآجر،
ونصب عليه السلاح والمصاحف، حتى بلغوا قرب باب الشام، سوى من أجابه من
أهل الكرخ وسائر الناس، فلما رجع عيسى من الهزيمة إلى بغداد، أقبل هو
وإخوته وجماعة اصحابه نحو سهل
(8/562)
ابن سلامة، لأنه كان يذكرهم بأسوأ أعمالهم
وفعالهم، ويقول: الفساق، لم يكن لهم عنده اسم غيره، فقاتلوه أياما،
وكان الذي تولى قتاله عيسى ابن محمد بْن أبي خالد، فلما صار إلى الدروب
التي قرب سهل أعطى أهل الدروب الالف الدرهم والألفين درهما، على ان
يتنحوا له عن الدروب، فأجابوه إلى.
ذلك، فكان نصيب الرجل الدرهم والدرهمين ونحو ذلك، فلما كان يوم السبت
لخمس بقين من شعبان تهيئوا له من كل وجه، وخذله أهل الدروب حتى وصلوا
إلى مسجد طاهر بْن الحسين وإلى منزله، وهو بالقرب من المسجد، فلما
وصلوا إليه اختفى منهم، وألقى سلاحه، واختلط بالنظارة، ودخل بين النساء
فدخلوا منزله.
فلما لم يظفروا به جعلوا عليه العيون، فلما كان الليل أخذوه في بعض
الدروب التي قرب منزله، فأتوا به إسحاق بْن موسى الهادي- وهو ولي العهد
بعد عمه إبراهيم بْن المهدي وهو بمدينة السلام- فكلمه وحاجه، وجمع بينه
وبين أصحابه، وقَالَ له: حرضت علينا الناس، وعبت أمرنا! فقال له:
إنما كانت دعوتي عباسية، وإنما كنت أدعو إلى العمل بالكتاب والسنة،
وأنا على ما كنت عليه أدعوكم إليه الساعة فلم يقبلوا ذلك منه ثم قالوا
له:
اخرج إلى الناس، فقل لهم: إن ما كنت أدعوكم إليه باطل فأخرج إلى الناس
وقال: قد علمتم ما كنت أدعوكم إليه من العمل بالكتاب والسنة، وأنا
أدعوكم إليه الساعة فلما قَالَ لهم هذا وجئوا عنقه، وضربوا وجهه، فلما
صنعوا ذلك به قَالَ: المغرور من غررتموه يا أصحاب الحربية، فأخذ فأدخل
إلى إسحاق، فقيده، وذلك يوم الأحد فلما كان ليلة الاثنين خرجوا به إلى
إبراهيم بالمدائن، فلما دخل عليه كلمه بما كلم به إسحاق، فرد عليه مثل
ما رد على إسحاق وقد كانوا أخذوا رجلا من أصحابه يقال له محمد الرواعى،
فضربه إبراهيم، ونتف لحيته، وقيده وحبسه، فلما أخذ سهل ابن سلامه حبسوه
أيضا، وادعوا أنه كان دفع إلى عيسى، وأن عيسى قتله،
(8/563)
وإنما أشاعوا ذلك تخوفا من الناس أن يعلموا بمكانه فيخرجوه، فكان بين
خروجه وبين اخذه وحبسه اثنا عشر شهرا. |