تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ
الطبري
ذكر الخبر عن خروج
اهل قم على السلطان
وفي هذه السنة خلع أهل قم السلطان ومنعوا الخراج.
ذكر الخبر عن سبب خلعهم السلطان ومآل أمرهم في ذلك:
ذكر أن سبب خلعهم إياه كان أنهم كانوا استكثروا ما عليهم من الخراج،
وكان خراجهم ألفي ألف درهم، وكان المأمون قد حط عن أهل الري حين دخلها
منصرفا من خراسان إلى العراق، ما قد ذكرت قبل، فطمع أهل قم من المأمون
في الفعل بهم في الحط عنهم والتخفيف مثل الذي فعل من ذلك بأهل الري،
فرفعوا إليه يسألونه الحط، ويشكون إليه ثقله عليهم، فلم يجبهم المأمون
إلى ما سألوه، فامتنعوا من أدائه، فوجه المأمون إليهم علي بْن هشام، ثم
أمده بعجيف بْن عنبسة، وقدم قائد لحميد يقال له محمد بن يوسف الكح بعرض
من خراسان، فكتب إليه بالمصير إلى قم لحرب أهلها مع علي بْن هشام،
فحاربهم علي فظفر بهم، وقتل يحيى بْن عمران وهدم سور قم، وجباها سبعة
آلاف ألف درهم بعد ما كانوا يتظلمون من ألفي ألف درهم.
ومات في هذه السنة شهريار، وهو ابن شروين، وصار في موضعه ابنه سابور،
فنازعه مازيار بْن قارن فأسره وقتله، وصارت الجبال في يدي مازيار ابن
قارن.
وحج بالناس في هذه السنة صالح بْن العباس بْن محمد وهو يومئذ والي مكة.
(8/614)
ثم دخلت
سنة إحدى عشرة ومائتين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)
امر عبيد الله بن السرى
فمن ذلك خروج عبيد الله بْن السري إلى عبد الله بْن طاهر بالأمان،
ودخول عبد الله بْن طاهر مصر- وقيل إن ذلك في سنة عشر ومائتين- وذكر
بعضهم أن ابن السري خرج إلى عبد الله بْن طاهر يوم السبت لخمس بقين من
صفر سنة إحدى عشرة ومائتين، وأدخل بغداد لسبع بقين من رجب سنة إحدى
عشرة ومائتين، وأنزل مدينة أبي جعفر، وأقام عبد الله بْن طاهر بمصر
واليا عليها وعلى سائر الشام والجزيرة، فذكر عن طاهر بْن خالد ابن نزار
الغساني، قَالَ: كتب المأمون إلى عبد الله بْن طاهر وهو بمصر حين فتحها
في أسفل كتاب له:
أخي أنت ومولاي ... ومن أشكر نعماه
فما أحببت من أمر ... فإني الدهر أهواه
وما تكره من شيء ... فإني لست أرضاه
لك الله على ذاك ... لك الله لك الله
وذكر عن عطاء صاحب مظالم عبد الله بْن طاهر، قَالَ: قَالَ رجل من أخوة
المأمون للمأمون: يا أمير المؤمنين، إن عبد الله بْن طاهر يميل إلى ولد
أبي طالب، وكذا كان أبوه قبله قَالَ: فدفع المأمون ذلك وأنكره، ثم عاد
بمثل هذا القول، فدس إليه رجلا ثم قَالَ له: امض في هيئة القراء
والنساك إلى مصر، فادع جماعة من كبرائها إلى القاسم بْن إبراهيم بْن
طباطبا، واذكر مناقبه وعلمه وفضائله، ثم صر بعد ذلك إلى بعض بطانة عبد
الله بْن طاهر، ثم ائته فادعه ورغبه في استجابته له، وابحث عن دفين
نيته بحثا شافيا، وائتني بما تسمع منه قَالَ: ففعل الرجل ما قَالَ له،
وأمره به، حتى إذا
(8/615)
دعا جماعة من الرؤساء والأعلام، قعد يوما
بباب عبد الله بْن طاهر، وقد ركب الى عبيد الله بن السري بعد صلحه
وأمانه، فلما انصرف قام إليه الرجل، فأخرج من كمه رقعة فدفعها إليه،
فأخذها بيده، فما هو إلا أن دخل فخرج الحاجب إليه، فأدخله عليه وهو
قاعد على بساطه، ما بينه وبين الأرض غيره، وقد مد رجليه، وخفاه فيهما،
فقال له: قد فهمت ما في رقعتك من جملة كلامك، فهات ما عندك، قَالَ: ولي
أمانك وذمة الله معك؟ قَالَ: لك ذلك، قَالَ: فأظهر له ما أراد، ودعاه
إلى القاسم، وأخبره بفضائله وعلمه وزهده، فقال له عبد الله: أتنصفني؟
قَالَ: نعم، قَالَ: هل يجب شكر الله على العباد؟
قَالَ: نعم، قَالَ: فهل يجب شكر بعضهم لبعض عند الإحسان والمنة
والتفضل؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فتجيء إلي وأنا في هذه الحالة التي ترى،
لي خاتم في المشرق جائز وفي المغرب كذلك، وفيما بينهما أمري مطاع،
وقولي مقبول، ثم ما التفت يميني ولا شمالي وورائي وقد أمي إلا رأيت
نعمة لرجل أنعمها علي، ومنة ختم بها رقبتي، ويدا لائحة بيضاء ابتدأني
بها تفضلا وكرما، فتدعوني إلى الكفر بهذه النعمة وهذا الإحسان، وتقول:
اغدر بمن كان أولا لهذا وآخرا، واسع في إزالة خيط عنقه وسفك دمه! تراك
لو دعوتني إلى الجنة عيانا من حيث أعلم، أكان الله يحب أن أغدر به،
وأكفر إحسانه ومنته، وأنكث بيعته! فسكت الرجل، فقال له عبد الله: أما
إنه قد بلغني أمرك، وتالله ما أخاف عليك إلا نفسك، فارحل عن هذا البلد،
فإن السلطان الأعظم إن بلغه أمرك- وما آمن ذلك عليك- كنت الجاني على
نفسك ونفس غيرك.
فلما أيس الرجل مما عنده جاء إلى المأمون، فأخبره الخبر، فاستبشر وقال:
ذلك غرس يدي، وإلف أدبي، وترب تلقيحي، ولم يظهر من ذلك لأحد شيئا، ولا
علم به عبد الله إلا بعد موت المأمون.
وذكر عن عبد الله بْن طاهر أنه قَالَ وهو محاصر بمصر عبيد الله بن
السرى:
(8/616)
بكرت تسبل دمعا ... إن رأت وشك براحي
وتبدلت صقيلا ... يمنيا بوشاحي
وتماديت بسير ... لغدو ورواح
زعمت جهلا بأني ... تعب غير مراح
أقصري عني فإني ... سالك قصد فلاحي
أنا للمأمون عبد ... منه في ظل جناح
إن يعاف الله يوما ... فقريب مستراحي
أو يكن هلك فقولي ... بعويل وصياح:
حل في مصر قتيل ... ودعي عنك التلاحي
وذكر عن عبد الله بْن أحمد بْن يوسف أن أباه كتب إلى عبد الله بْن طاهر
عند خروج عبيد الله بْن السري إليه يهنئه بذلك الفتح:
بلغني أعز الله الأمير ما فتح الله عليك، وخروج ابن السري إليك، فالحمد
لله الناصر لدينه، المعز لدولة خليفته على عباده، المذل لمن عند عنه
وعن حقه، ورغب عن طاعته ونسأل الله أن يظاهر له النعم، ويفتح له بلدان
الشرك، والحمد لله على ما وليك به مذ ظعنت لوجهك، فإنا ومن قبلنا
نتذاكر سيرتك في حربك وسلمك، ونكثر التعجب لما وفقت له من الشدة
والليان في مواضعهما، ولا نعلم سائس جند ورعية عدل بينهم عدلك، ولا عفا
بعد القدرة عمن آسفه وأضغنه عفوك، ولقل ما رأينا ابن شرف لم يلق بيده
متكلا على ما قدمت له أبوته، ومن أوتي حظا وكفاية وسلطانا وولاية لم
يخلد إلى ما عفا حتى يخل بمساماة ما أمامه ثم لا نعلم سائسا استحق
النجح لحسن السيرة وكف معرة الاتباع استحقاقك وما يستجيز أحد ممن قبلنا
أن يقدم عليك أحدا يهوى عند الحاقة والنازلة المعضلة
(8/617)
فليهنك منة الله ومزيده، ويسوغك الله هذه
النعمة التي حواها لك بالمحافظة على ما به تمت لك، من التمسك بحبل
إمامك ومولاك ومولى جميع المسلمين، وملاك وإيانا العيش ببقائه.
وأنت تعلم أنك لم تزل عندنا وعند من قبلنا مكرما مقدما معظما، وقد زادك
الله في أعين الخاصة والعامه جلاله وبجالة، فأصبحوا يرجونك لأنفسهم،
ويعدونك لأحداثهم ونوائبهم، وأرجو أن يوفقك الله لمحابه كما وفق لك
صنعه وتوفيقه، فقد أحسنت جوار النعمة فلم تطغك، ولم تزدد إلا تذللا
وتواضعا، فالحمد لله على ما انا لك وأبلاك، وأودع فيك والسلام.
وفي هذه السنة قدم عبد الله بْن طاهر بْن الحسين مدينه السلام من
المغرب، فتلقاه العباس بن المأمون وأبو إسحاق المعتصم وسائر الناس،
وقدم معه بالمتغلبين على الشام كابن السرج وابن أبي الجمل وابن أبي
الصفر ومات موسى بْن حفص، فولي محمد بْن موسى طبرستان مكان أبيه.
وولي حاجب بْن صالح الهند فهزمه بشر بْن داود، فانحاز إلى كرمان.
وفيها أمر المأمون مناديا فنادى: برئت الذمة ممن ذكر معاوية بخير، أو
فضله على احد من اصحاب رسول الله ص.
وحج بالناس في هذه السنة صالح بْن العباس وهو والي مكة.
وفيها مات أبو العتاهية الشاعر.
(8/618)
ثم دخلت
سنة اثنتي عشرة ومائتين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك ما كان من توجيه
المأمون محمد بْن حميد الطوسي إلى بابك لمحاربته على طريق الموصل
وتقويته إياه، فأخذ محمد بْن حميد يعلى بْن مرة ونظراءه من المتغلبة
بأذربيجان، فبعث بهم إلى المأمون.
وفيها خلع أحمد بْن محمد العمري المعروف بالأحمر العين باليمن.
وفيها ولى المأمون محمد بْن عبد الحميد المعروف بأبي الرازي اليمن.
وفيها أظهر المأمون القول بخلق القرآن وتفضيل علي بْن ابى طالب ع،
وقال: هو أفضل الناس بعد رسول الله ص، وذلك في شهر ربيع الأول منها.
وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة عَبْد اللَّهِ بن عبيد الله بْن
العباس بْن محمد
(8/619)
ثم دخلت
سنة ثلاث عشرة ومائتين
ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث
فمن ذلك ما كان من خلع عبد السلام وابن جليس بمصر في القيسية واليمانيه
وو ثوبهما بها.
وفيها مات طلحة بْن طاهر بخراسان.
وفيها ولى المأمون أخاه أبا إسحاق الشام ومصر، وولى ابنه العباس بن
المأمون الجزيرة والثغور والعواصم، وأمر لكل واحد منهما ومن عبد الله
بن طاهر بخمسمائة ألف دينار.
وقيل: إنه لم يفرق في يوم من المال مثل ذلك.
ذكر الخبر عن ولايه غسان بن عباد السند
وفيها ولى غسان بْن عباد السند.
ذكر الخبر عن سبب توليته إياه السند:
وكان السبب في ذلك- فيما بلغني- أن بشر بن داود بن يزيد خالف المأمون،
وجبى الخراج فلم يحمل إلى المأمون شيئا منه، فذكر أن المأمون قَالَ
يوما لأصحابه: أخبروني عن غسان بْن عباد، فإني أريده لأمر جسيم- وكان
قد عزم على أن يوليه السند لما كان من أمر بشر بْن داود- فتكلم من حضر،
وأطنبوا في مدحه، فنظر المأمون إلى أحمد بن يوسف وهو ساكت، فقال له: ما
تقول يا أحمد؟ قَالَ: يا أمير المؤمنين ذاك رجل محاسنه أكثر من مساويه،
لا تصرف به إلى طبقة إلا انتصف منهم، فمهما تخوفت
(8/620)
عليه، فإنه لن يأتي أمرا يعتذر منه، لأنه
قسم أيامه بين أيام الفضل، فجعل لكل خلق نويه، إذا نظرت في أمره لم تدر
أي حالاته أعجب! أما هداه إليه عقله، أم أما اكتسبه بالأدب، قَالَ: لقد
مدحته على سوء رأيك فيه! قَالَ:
لأنه فيما قلت كما قَالَ الشاعر:
كفى شكرا بما أسديت أني ... مدحتك في الصديق وفي عداتي
قَالَ: فأعجب المأمون كلامه، واسترجح أدبه.
وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة عَبْد اللَّهِ بْن عبيد الله بْن
العباس بْن محمد.
(8/621)
ثم دخلت
سنة أربع عشرة ومائتين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمما كان فيها من ذلك مقتل
محمد بْن حميد الطوسي، قتله بابك بهشتادسر، يوم السبت لخمس ليال بقين
من شهر ربيع الأول، ورفض عسكره، وقتل جمعا كثيرا ممن كان معه.
وفيها قتل أبو الرازي باليمن.
وفيها قتل عمير بْن الوليد الباذغيسي عامل أبي إسحاق بن الرشيد بمصر
بالحوف في شهر ربيع الأول، فخرج أبو إسحاق إليها فافتتحها، وظفر بعبد
السلام وابن جليس، فقتلهما فضرب المأمون بن الحروري ورده إلى مصر وفيها
خرج بلال الضبابي الشاري، فشخص المأمون إلى العلث، ثم رجع إلى بغداد،
فوجه عباسا ابنه في جماعة من القواد، فيهم علي بْن هشام وعجيف وهارون
بْن محمد بْن أبي خالد، فقتل هارون بلالا.
وفيها خرج عبد الله بْن طاهر إلى الدينور، فبعث المأمون إليه إسحاق ابن
إبراهيم ويحيى بْن أكثم يخيرانه بين خراسان والجبال وأرمينية
وأذربيجان، ومحاربة بابك، فاختار خراسان، وشخص إليها.
وفيها تحرك جعفر بْن داود القمي، فظفر به عزيز مولى عبد الله بن طاهر،
وكان هرب من مصر فرد إليها.
وفيها ولي علي بْن هشام الجبل وقم وإصبهان وأذربيجان.
وحج بالناس في هذه السنة إسحاق بْن العباس بن محمد.
(8/622)
ثم دخلت
سنة خمس عشرة ومائتين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)
ذكر خبر شخوص المأمون لحرب الروم
وفي هذه السنة شخص المأمون من مدينة السلام لغزو الروم، وذلك يوم
السبت- فيما قيل- لثلاث بقين من المحرم- وقيل كان ارتحاله من الشماسية
إلى البردان يوم الخميس بعد صلاة الظهر، لست بقين من المحرم سنة خمس
عشرة ومائتين- واستخلف حين رحل عن مدينة السلام عليها إسحاق بْن
إبراهيم بْن مصعب، وولي مع ذلك السواد وحلوان وكور دجلة.
فلما صار المأمون بتكريت قدم عليه محمد بْن علي بْن موسى بْن جعفر بْن
مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ بن أبي طالب
رحمه الله، من المدينة في صفر ليلة الجمعة من هذه السنة، ولقيه بها
فأجازه، وأمره أن يدخل بابنته أم الفضل وكان زوجها منه، فأدخلت عليه في
دار أحمد بْن يوسف التي على شاطئ دجلة، فأقام بها، فلما كان أيام الحج
خرج بأهله وعياله حتى أتى مكة، ثم أتى منزله بالمدينة، فأقام بها، ثم
سلك المأمون طريق الموصل، حتى صار إلى منبج، ثم إلى دابق، ثم إلى
أنطاكية، ثم إلى المصيصة، ثم خرج منها إلى طرسوس، ثم دخل من طرسوس إلى
بلاد الروم للنصف من جمادى الأولى ورحل العباس بن المأمون من ملطية،
فأقام المأمون على حصن يقال له قرة، حتى فتحه عنوة، وأمر بهدمه، وذلك
يوم الأحد لأربع بقين من جمادى الأولى، وكان قد افتتح قبل ذلك حصنا
يقال له ماجدة، فمن على أهلها.
وقيل إن المأمون لما أناخ على قرة، فحارب أهلها طلبوا الأمان، فآمنهم
المأمون، فوجه أشناس إلى حصن سندس، فأتاه برئيسه، ووجه عجيفا وجعفرا
(8/623)
الخياط إلى صاحب حصن سنان، فسمع وأطاع.
[أخبار متفرقة]
وفي هذه السنه انصرف ابو إسحاق بن الرشيد من مصر، فلقي المأمون قبل
دخوله الموصل، ولقيه متويل وعباس ابنه برأس العين.
وفيها شخص المأمون بعد خروجه من أرض الروم إلى دمشق.
وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة عَبْد اللَّهِ بْن عبيد الله بْن
العباس بْن محمد.
(8/624)
|