تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ الطبري

ثم دخلت

سنة تسع وعشرين ومائتين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)

ذكر الخبر عن حبس الواثق الكتاب وإلزامهم الأموال
فمن ذلك ما كان من حبس الواثق بالله الكتاب وإلزامهم أموالا، فدفع أحمد بن إسرائيل إلى إسحاق بن يحيى بن معاذ صاحب الحرس، وأمر بضربه كل يوم عشرة أسواط، فضربه- فيما قيل- نحوا من ألف سوط، فأدى ثمانين ألف دينار، وأخذ من سليمان بن وهب كاتب ايتاخ أربعمائة ألف دينار، ومن الحسن بن وهب أربعة عشر الف دينار، وأخذ من أحمد بن الخصيب وكتابه ألف ألف دينار، ومن إبراهيم بن رباح وكتابه مائة ألف دينار، ومن نجاح ستين ألف دينار، ومن أبي الوزير صلحا مائة ألف وأربعين ألف دينار، وذلك سوى ما أخذ من العمال بسبب عمالاتهم ونصب محمد بن عبد الملك لابن ابى دواد وسائر أصحاب المظالم العداوة، فكشفوا وحبسوا، وأجلس إسحاق بن إبراهيم، فنظر في أمرهم وأقيموا للناس ولقوا كل جهد.

ذكر الخبر عن السبب الذي بعث الواثق على فعله ما ذكرت بالكتاب في هذه السنة:
ذكر عن عزون بن عبد العزيز الأنصاري، أنه قال: كنا ليلة في هذه السنة عند الواثق، فقال: لست أشتهي الليلة النبيذ، ولكن هلموا نتحدث الليلة، فجلس في رواقه الأوسط في الهاروني في البناء الأول الذي كان إبراهيم ابن رباح بناه، وقد كان في أحد شقي ذلك الرواق قبة مرتفعة في السماء بيضاء، كأنها بيضه الا قدر ذراع- فيما ترى العين- حولها في وسطها ساج منقوش مغشى باللازورد والذهب، وكانت تسمى قبة المنطقة، وكان ذلك الرواق يسمى رواق قبة المنطقة

(9/125)


قال: فتحدثنا عامة الليل، فقال الواثق: من منكم يعلم السبب الذي به وثب جدي الرشيد على البرامكة فأزال نعمتهم؟ قال عزون: فقلت: أنا والله أحدثك يا أمير المؤمنين، كان سبب ذلك أن الرشيد ذكرت له جارية لعون الخياط، فأرسل إليها فاعترضها، فرضي جمالها وعقلها وحسن أدبها، فقال لعون: ما تقول في ثمنها؟ قال: يا أمير المؤمنين، أمر ثمنها واضح مشهور، حلفت بعتقها وعتق رقيقي جميعا وصدقة مالي الأيمان المغلظة التي لا مخرج منها لي، وأشهدت علي بذلك العدول الا انقص ثمنها عن مائة ألف دينار، ولا أحتال في ذلك بشيء من الحيل، هذه قضيتها فقال أمير المؤمنين:
قد أخذتها منك بمائة ألف دينار، ثم أرسل إلى يحيى بن خالد يخبره بخبر الجارية، ويأمره أن يرسل إليه بمائة ألف دينار، فقال يحيى: هذا مفتاح سوء، إذا اجترأ في ثمن جارية واحدة على طلب مائة ألف دينار فهو أحرى أن يطلب المال على قدر ذلك، فأرسل يخبره أنه لا يقدر على ذلك، فغضب عليه الرشيد، وقال: ليس في بيت مالي مائة ألف دينار، فأعاد عليه: لا بد منها، فقال يحيى: اجعلوها دراهم، ليراها فيستكثرها، فلعله يردها، فأرسل بها دراهم، وقال: هذه قيمة مائة ألف دينار، وأمر أن توضع في رواقه الذي يمر فيه إذا أراد المتوضأ لصلاة الظهر قال: فخرج الرشيد في ذلك الوقت، فإذا جبل من بدر، فقال: ما هذا؟ قالوا: ثمن الجارية، لم تحضر دنانير، فأرسل قيمتها دراهم، فاستكثر الرشيد ذلك، ودعا خادما له، فقال: اضمم هذه إليك، واجعل لي بيت مال لاضم اليه ما أريده وسماه بيت مال العروس، وأمر برد الجارية إلى عون، وأخذ في التفتيش عن المال، فوجد البرامكة قد استهلكوه، فأقبل يهم بهم ويمسك، فكان يرسل إلى الصحابة وإلى قوم من أهل الأدب من غيرهم فيسامرهم، ويتعشى معهم، فكان فيمن يحضر إنسان كان معروفا بالأدب، وكان يعرف بكنيته يقال له أبو العود، فحضر ليلة فيمن حضره، فأعجبه حديثه، فأمر خادما له أن يأتي يحيى بن خالد

(9/126)


إذا أصبح، فيأمره أن يعطيه ثلاثين ألف درهم ففعل، فقال يحيى لأبي العود: أفعل، وليس بحضرتنا اليوم مال، غدا يجيء المال، ونعطيك إن شاء الله ثم دافعه حتى طالت به الأيام، قال: فأقبل أبو العود يحتال أن يجد من الرشيد وقتا يحرضه فيه على البرامكة- وقد كان شاع في الناس ما كان يهم به الرشيد في أمرهم- فدخل عليه ليلة، فتحدثوا، فلم يزل أبو العود يحتال للحديث حتى وصله بقول عمر بن أبي ربيعة:
وعدت هند وما كانت تعد ... ليت هندا أنجزتنا ما تعد
واستبدت مرة واحدة ... إنما العاجز من لا يستبد
فقال الرشيد: أجل والله، إنما العاجز من لا يستبد، حتى انقضى المجلس وكان يحيى قد اتخذ من خدم الرشيد خادما يأتيه بأخباره، وأصبح يحيى غاديا على الرشيد، فلما رآه قال: قد أردت البارحة أن أرسل إليك بشعر أنشدنيه بعض من كان عندي، ثم كرهت أن أزعجك، فأنشده البيتين، فقال:
ما أحسنهما يا أمير المؤمنين! وفطن لما أراد، فلما انصرف أرسل إلى ذلك الخادم، فسأله عن إنشاد ذلك الشعر، فقال: أبو العود أنشده، فدعا الوزير يحيى بأبي العود، فقال له: إنا كنا قد لويناك بمالك، وقد جاءنا مال، ثم قال لبعض خدمه: اذهب فأعطه ثلاثين ألف درهم من بيت مال أمير المؤمنين، وأعطه من عندي عشرين ألف درهم لمطلنا إياه، واذهب إلى الفضل وجعفر فقل لهما هذا رجل مستحق أن يبر، وقد كان أمير المؤمنين أمر له بمال فأطلت مطله، ثم حضر المال، فأمرت أن يعطى ووصلته من عندي صلة، وقد أحببت أن تصلاه، فسألا: بكم وصله قال: بعشرين ألف درهم، فوصله كل واحد منهما بعشرين ألف درهم، فانصرف بذلك المال كله إلى منزله وجد الرشيد في أمرهم حتى وثب عليهم، وأزال نعمتهم، وقتل جعفرا وصنع ما صنع

(9/127)


فقال الواثق: صدق والله جدي، إنما العاجز من لا يستبد! وأخذ في ذكر الخيانة وما يستحق أهلها.
قال عزون: أحسبه: سيوقع بكتابه، فما مضى أسبوع حتى أوقع بكتابه، وأخذ إبراهيم بن رباح وسليمان بن وهب وأبا الوزير وأحمد بن الخصيب وجماعتهم.
قال: وأمر الواثق بحبس سليمان بن وهب كاتب ايتاخ، واخذه بمائتي ألف درهم- وقيل دينار- فقيد وألبس مدرعة من مدارع الملاحين، فأدى مائة ألف درهم، وسال ان يؤخذ بالباقي عشرين شهرا، فأجابه الواثق إلى ذلك، وأمر بتخلية سبيله ورده إلى كتابة إيتاخ، وأمره بلبس السواد.
وفي هذه السنة ولي شارباميان لإيتاخ اليمن وشخص إليها في شهر ربيع الآخر.
وفيها ولي محمد بن صالح بن العباس المدينة.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن داود.

(9/128)


ثم دخلت

سنة ثلاثين ومائتين
(ذكر خبر الخبر عما كان فيها من الأحداث)

ذكر مسير بغا الى الاعراب بالمدينة
فمن ذلك ما كان من توجيه الواثق بغا الكبير إلى الأعراب الذين عاثوا بالمدينة وما حواليها.
ذكر الخبر عن ذلك: ذكر ان بدء ذلك كان أن بني سليم كانت تطاول على الناس حول المدينة بالشر، وكانوا إذا وردوا سوقا من أسواق الحجاز أخذوا سعرها كيف شاءوا، ثم ترقى بهم الأمر إلى ان أوقعوا بالحجاز بناس من بني كنانة وباهلة، فأصابوهم وقتلوا بعضهم، وذلك في جمادى الآخرة سنة ثلاثين ومائتين، وكان رأسهم عزيزة بن قطاب السلمي فوجه إليهم محمد بن صالح بن العباس الهاشمي، وهو يومئذ عامل المدينة، مدينة الرسول ص حماد بن جرير الطبري- وكان الواثق وجه حمادا مسلحة للمدينة لئلا يتطرقها الأعراب، في مائتي فارس من الشاكرية- فتوجه إليهم حماد في جماعة من الجند ومن تطوع للخروج من قريش والأنصار ومواليهم وغيرهم من أهل المدينة، فسار إليهم فلقيته طلائعهم وكانت بنو سليم كارهة للقتال، فأمر حماد بن جرير بقتالهم، وحمل عليهم بموضع يقال له الرويثة من المدينة على ثلاث مراحل، وكانت بنو سليم يومئذ وامدادها جاءوا من البادية في ستمائه وخمسين، وعامة من لقيهم من بني عوف من بنى سليم، ومعهم اشهب

(9/129)


ابن دويكل بن يحيى بن حمير العوفي وعمه سلمه بن يحيى وعزيره بن قطاب اللبيدي من بني لبيد بن سليم، فكان هؤلاء قوادهم، وكانت خيلهم مائة وخمسين فرسا، فقاتلهم حماد واصحابه، ثم أتت بنى سليم امدادها خمسمائة من موضع فيه بدوهم، وهو موضع يسمى أعلى الرويثة، بينها وبين موضع القتال أربعة أميال، فاقتتلوا قتالا شديدا، فانهزمت سودان المدينة بالناس، وثبت حماد وأصحابه وقريش والأنصار، فصلوا بالقتال حتى قتل حماد وعامة أصحابه، وقتل ممن ثبت من قريش والأنصار عدد صالح، وحازت بنو سليم الكراع والسلاح والثياب، وغلظ أمر بني سليم، فاستباحت القرى والمناهل، فيما بينها وبين مكة والمدينة، حتى لم يمكن أحدا أن يسلك ذلك الطريق، وتطرقوا من يليهم من قبائل العرب.
فوجه إليهم الواثق بغا الكبير أبا موسى التركي في الشاكرية والأتراك والمغاربة، فقدمها بغا في شعبان سنة ثلاثين ومائتين، وشخص إلى حرة بني سليم، لأيام بقين من شعبان، وعلى مقدمته طردوش التركي، فلقيهم ببعض مياه الحرة، وكانت الوقعة بشق الحرة من وراء السوارقية، وهي قريتهم التي كانوا يأوون إليها- والسوارقية حصون- وكان جل من لقيه منهم من بني عوف فيهم عزيزة بن قطاب والأشهب- وهما رأسا القواد يومئذ- فقتل بغا منهم نحوا من خمسين رجلا، وأسر مثلهم، فانهزم الباقون، وانكشف بنو سليم لذلك، ودعاهم بغا بعد الوقعة إلى الأمان على حكم أمير المؤمنين الواثق، واقام بالسوارقيه فاتوه، واجتمعوا إليه، وجمعهم من عشرة واثنين وخمسة وواحد، وأخذ من جمعت السوارقيه من غير بني سليم من أفناء الناس، وهربت خفاف بني سليم إلا أقلها، وهي التي كانت تؤذي الناس، وتطرق الطريق، وجل من صار في يده ممن ثبت من بني عوف، وكان آخر من أخذ منهم من بني حبشي من بني سليم، فاحتبس عنده من وصف بالشر

(9/130)


والفساد، وهم زهاء ألف رجل، وخلى سبيل سائرهم، ثم رحل عن السوارقية بمن صار في يده من أسارى بني سليم ومستأمنيهم إلى المدينة في ذي القعدة سنة ثلاثين ومائتين، فحبسهم فيها في الدار المعروفة بيزيد بن معاوية، ثم شخص إلى مكة حاجا في ذي الحجة، فلما انقضى الموسم انصرف إلى ذات عرق، ووجه إلى بني هلال من عرض عليهم مثل الذي عرض على بني سليم فأقبلوا، فأخذ من مردتهم وعتاتهم نحوا من ثلاثمائة رجل، وخلى سائرهم، ورجع من ذات عرق وهي على مرحلة من البستان، بينها وبين مكة مرحلتان
. ذكر الخبر عن وفاه عبد الله بن طاهر
وفي هذه السنة مات أبو العباس عبد الله بن طاهر بنيسابور يوم الاثنين لإحدى عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ بعد موت أشناس التركي بتسعة أيام.
ومات عبد الله بن طاهر وإليه الحرب والشرطة والسواد وخراسان وأعمالها والري وطبرستان وما يتصل بها وكرمان، وخراج هذه الأعمال كان يوم مات ثمانية وأربعين ألف ألف درهم، فولى الواثق أعمال عبد الله بن طاهر كلها ابنه طاهرا.
وحج في هذه السنة إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، فولى أحداث الموسم.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن داود.

(9/131)