تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ
الطبري
ثم دخلت
سنة أربع وثلاثين ومائتين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)
ذكر الخبر عن هرب محمد بن البعيث
فمن ذلك ما كان من هرب محمد بن البعيث بن حلبس، جيء به أسيرا من قبل
أذربيجان فحبس.
ذكر الخبر عن سبب هربه وما كان آل إليه أمره:
ذكر أن السبب في ذلك كان أن المتوكل كان اعتل في هذه السنة، وكان مع
ابن البعيث رجل يخدمه يسمى خليفة، فأخبره بأن المتوكل قد توفي، واعد له
دواب، فهرب هو وخليفة الذي أخبره الخبر إلى موضعه من أذربيجان، وموضعه
منها مرند- وقيل: كانت له قلعتان تدعى إحداهما شاهي والأخرى يكدر-
ويكدر خارج البحيرة، وشاهي في وسط البحيرة، والبحيرة قدر خمسين فرسخا
من حد أرمية، إلى رستاق داخرقان بلاد محمد بن الرواد، وشاهي قلعة ابن
البعيث حصينة يحيط بها ماء قائم ثم، يركب الناس من أطراف المراغة إلى
أرمية وهي بحيرة لا سمك فيها ولا خير.
وذكر أن ابن البعيث كان في حبس إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، فتكلم فيه
بغا الشرابي، وأخذ منه الكفلاء نحوا من ثلاثين كفيلا، منهم محمد بن
خالد بن يزيد بن مزيد الشيباني، فكان يتردد بسامرا، فهرب إلى مرند،
فجمع بمرند الطعام، وفيها عيون ماء، فرم ما كان وهي من سورها، وأتاه من
أراد الفتنة من كل ناحية، من ربيعة وغيرهم، فصار في نحو من ألفين
ومائتي رجل.
وكان الوالي بأذربيجان محمد بن حاتم بن هرثمة، فقصر في طلبه، فولى
(9/164)
المتوكل حمدويه بن علي بن الفضل السعدي
أذربيجان، ووجهه من سامرا على البريد، فلما صار إليهما جمع الجند
والشاكرية ومن استجاب له، فصار في عشرة آلاف، فزحف إلى ابن البعيث،
فألجأه إلى مدينة مرند- وهي مدينة استدارتها فرسخان وفي داخلها بساتين
كثيرة، ومن خارجها كما تدور شجر إلا في موضع أبوابها- وقد جمع فيها ابن
البعيث آلة الحصار، وفيها عيون ماء، فلما طالت مدته، وجه المتوكل زيرك
التركي في مائتي ألف فارس من الأتراك، فلم يصنع شيئا، فوجه إليه
المتوكل عمرو بن سيسل بن كال في تسعمائة من الشاكرية، فلم يغن شيئا،
فوجه إليه بغا الشرابي في أربعة آلاف ما بين تركي وشاكري ومغربي، وكان
حمدويه بن علي وعمر بن سيسل وزيرك زحفوا إلى مدينة مرند، وقطعوا ما
حولها من الشجر، فقطعوا نحوا من مائة ألف شجرة وغير ذلك من شجر الغياض،
ونصبوا عليها عشرين منجنيقا، وبنوا بحذاء المدينة ما يستكنون فيه، ونصب
عليهم ابن البعيث من المجانيق مثل ذلك، وكان من معه من علوج رساتيقه
يرمون بالمقاليع، فكان الرجل لا يقدر على الدنو من سور المدينة، فقتل
من أولياء السلطان في حربه في ثمانية أشهر نحو من مائه رجل، وجرح نحو
من أربعمائة، وقتل وجرح من أصحابه مثل ذلك.
وكان حمدويه وعمرو وزيرك يغادونه القتال ويراوحونه، وكان السور من قبل
المدينة ذليلا، ومن القرار نحوا من عشرين ذراعا، وكانت الجماعة من
أصحاب ابن البعيث يتدلون بالحبال معهم الرماح فيقاتلون، فإذا حمل عليهم
من أصحاب السلطان لجئوا إلى الحائط، وكانوا ربما فتحوا بابا يقال له
باب الماء، فيخرج منه العدة يقاتلون ثم يرجعون.
ولما قرب بغا الشرابي من مرند بعث- فيما ذكر- عيسى بن الشيخ بن السليل
الشيباني، ومعه أمانات لوجوه أصحاب ابن البعيث، ولابن البعيث أن ينزلوا
وينزل على حكم أمير المؤمنين، وإلا قاتلهم، فإن ظفر بهم لم يستبق منهم
أحدا، ومن نزل فله الامان، وكان عامة من مع ابن البعيث من ربيعة من قوم
عيسى بن الشيخ، فنزل منهم قوم كثير بالحبال، ونزل ختن ابن البعيث
(9/165)
على أخته أبو الأغر.
وذكر عن أبي الأغر هذا أنه قال: ثم فتحوا باب المدينة، فدخل أصحاب
حمدويه وزيرك، وخرج ابن البعيث من منزله هاربا يريد أن يخرج من وجه
آخر، فلحقه قوم من الجند، معهم منصور قهرمانه، وهو راكب دابة، يريد أن
يصير إلى نهر عليه رحا ليستخفي في الرحا، وفي عنقه السيف، فأخذوه أسيرا
وانتهب الجند منزله ومنازل أصحابه وبعض منازل أهل المدينة، ثم نودي بعد
ما انتهب الناس: برئت الذمة ممن انتهب وأخذوا له أختين وثلاث بنات
وخالته والبواقي سراري، فحصل في يد السلطان من حرمه ثلاث عشرة امرأة،
وأخذ من وجوه أصحابه المذكورين نحو من مائتي رجل، وهرب الباقون،
فوافاهم بغا الشرابي من غد، فنادى مناديه بالمنع من النهب، فكتب بغا
الشرابي بالفتح لنفسه.
وخرج المتوكل فيها إلى المدائن في جمادى الأولى
. ذكر الخبر عن حج ايتاخ وسببه
وحج في هذه السنة إيتاخ، وكان والي مكة والمدينة والموسم، ودعي له على
المنابر.
ذكر الخبر عن سبب حجه في هذه السنة:
ذكر أن إيتاخ كان غلاما خزريا لسلام الأبرش طباخا، فاشتراه منه المعتصم
في سنة تسع وتسعين ومائة، وكان لإيتاخ رجلة وبأس، فرفعه المعتصم ومن
بعده الواثق، حتى ضم إليه من أعمال السلطان أعمالا كثيرة، وولاه
المعتصم معونة سامرا مع إسحاق بن إبراهيم، وكان من قبله رجل، ومن قبل
إسحاق رجل، وكان من أراد المعتصم أو الواثق قتله فعند إيتاخ
(9/166)
يقتل، وبيده يحبس، منهم محمد بن عبد الملك
الزيات، وأولاد المأمون من سندس، وصالح بن عجيف وغيرهم، فلما ولي
المتوكل كان إيتاخ في مرتبته، إليه الجيش والمغاربة والأتراك والموالي
والبريد والحجابة ودار الخلافة، فخرج المتوكل بعد ما استوت له الخلافة
متنزها إلى ناحية القاطول، فشرب ليلة، فعربد على إيتاخ، فهم إيتاخ
بقتله، فلما أصبح المتوكل قيل له، فاعتذر إليه والتزمه، وقال له: أنت
أبي وربيتني، فلما صار المتوكل إلى سامرا دس إليه من يشير عليه
بالاستئذان للحج، ففعل وأذن له، وصيره أمير كل بلدة يدخلها، وخلع عليه،
وركب جميع القواد معه، وخرج معه من الشاكرية والقواد والغلمان سوى
غلمانه وحشمه بشر كثير، فحين خرج صيرت الحجابة إلى وصيف، وذلك يوم
السبت لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة وقد قيل إن هذه القصة من أمر
إيتاخ كانت في سنة ثلاث وثلاثين ومائتين وأن المتوكل إنما صير إلى وصيف
الحجابة لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة من سنة ثلاث وثلاثين
ومائتين.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن داود بن عيسى بن موسى.
(9/167)
ثم دخلت
سنة خمس وثلاثين ومائتين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)
ذكر الخبر عن مقتل ايتاخ
فمن ذلك مقتل إيتاخ الخزري.
ذكر الخبر عن صفة مقتله:
ذكر عن إيتاخ أنه لما انصرف من مكة راجعا إلى العراق، وجه المتوكل إليه
سعيد بن صالح الحاجب مع كسوة وألطاف، وأمره أن يلقاه بالكوفة أو ببعض
طريقه، وقد تقدم المتوكل إلى عامله على الشرطة ببغداد بأمره فيه.
فذكر عن إبراهيم بن المدبر، أنه قال: خرجت مع إسحاق بن إبراهيم حين قرب
إيتاخ من بغداد، وكان يريد أن يأخذ طريق الفرات إلى الأنبار، ثم يخرج
إلى سامرا، فكتب إليه إسحاق بن إبراهيم: أن أمير المؤمنين أطال الله
بقاءه، قد أمر أن تدخل بغداد، وأن يلقاك بنو هاشم ووجوه الناس، وأن
تقعد لهم في دار خزيمة بن خازم، فتأمر لهم بجوائز قال: فخرجنا حتى إذا
كنا بالياسرية، وقد شحن ابن إبراهيم الجسر بالجند والشاكرية، وخرج في
خاصته، وطرح له بالياسرية صفة، فجلس عليها حتى قالوا: قد قرب منك فركب
فاستقبله، فلما نظر إليه أهوى إسحاق لينزل، فحلف عليه إيتاخ ألا يفعل.
قال: وكان إيتاخ في ثلاثمائة من أصحابه وغلمانه، عليه قباء أبيض،
متقلدا سيفا بحمائل، فسارا جميعا، حتى إذا صارا عند الجسر تقدمه إسحاق
عند الجسر، وعبر حتى وقف على باب خزيمة بن خازم، وقال لإيتاخ تدخل أصلح
الله الأمير! وكان الموكلون بالجسر كلما مر بهم غلام من غلمانه قدموه،
حتى بقي في خاصة غلمانه، ودخل بين يديه قوم، وقد فرشت له دار خزيمة،
وتأخر إسحاق، وأمر ألا يدخل الدار من غلمانه الا
(9/168)
ثلاثة أو أربعة، وأخذت عليه الأبواب، وأمر
بحراسته من ناحية الشط، وكسرت كل درجة في قصر خزيمة بن خازم، فحين دخل
أغلق الباب خلفه، فنظر فإذا ليس معه إلا ثلاثة غلمان، فقال: قد فعلوها!
ولو لم يؤخذ ببغداد ما قدروا على أخذه، ولو دخل إلى سامرا، فأراد
بأصحابه قتل جميع من خالفه امكنه ذلك قال: فأتي بطعام قرب الليل، فأكل
فمكث يومين أو ثلاثة، ثم ركب إسحاق في حراقة وأعد لإيتاخ أخرى، ثم أرسل
إليه أن يصير إلى الحراقة، وأمر بأخذ سيفه، فحدروه إلى الحراقة، وصير
معه قوم في السلاح وصاعد إسحاق، حتى صار إلى منزله، وأخرج إيتاخ حين
بلغ دار إسحاق، فأدخل ناحية منها، ثم قيد فأثقل بالحديد في عنقه
ورجليه، ثم قدم بابنيه منصور ومظفر، وبكاتبيه سليمان بن وهب وقدامة بن
زياد النصراني بغداد.
وكان سليمان على أعمال السلطان، وقدامة على ضياع إيتاخ خاصة، فحبسوا
ببغداد، فأما سليمان وقدامة فضربا، فأسلم قدامة وحبس منصور ومظفر.
وذكر عن ترك مولى إسحاق أنه قال: وقفت على باب البيت الذي فيه إيتاخ
محبوس، فقال لي: يا ترك، قلت: ما تريد يا منصور؟ قال: أقرئ الأمير
السلام، وقل له: قد علمت ما كان يأمرني به المعتصم والواثق في أمرك،
فكنت أدفع عنك ما أمكنني، فلينفعني ذلك عندك، أما أنا فقد مر بي شدة
ورخاء، فما أبالي ما أكلت وما شربت، وأما هذان الغلامان، فإنهما عاشا
في نعمة ولم يعرفا البؤس، فصير لهما مرقة ولحما وشيئا يأكلان منه قال:
ترك فوقفت على باب مجلس إسحاق، قال لي: ما لك يا ترك؟ أتريد أن تتكلم
بشيء؟ قلت: نعم، قال لي ايتاخ كذا، كذا، قال: وكانت وظيفة إيتاخ رغيفا
وكوزا من ماء، ويأمر لابنيه بخوان فيه سبعة أرغفة وخمس غرف، فلم يزل
ذلك قائما حياة إسحاق، ثم لا أدري ما صنع بهما، فأما إيتاخ فقيد وصير
في عنقه ثمانون رطلا، وقيد ثقيل، فمات يوم الأربعاء لخمس خلون من جمادى
الآخرة سنة خمس وثلاثين ومائتين، وأشهد إسحاق على موته أبا الحسن إسحاق
بن ثابت بن أبي عباد وصاحب بريد بغداد والقضاة، وأراهم إياه لا ضرب به
ولا أثر
(9/169)
وحدثني بعض شيوخنا أن إيتاخ كان موته
بالعطش، وأنه أطعم فاستسقى فمنع الماء، حتى مات عطشا، وبقي ابناه في
الحبس حياة المتوكل، فلما أفضى الأمر إلى المنتصر أخرجهما، فأما مظفر
فإنه لم يعش بعد أن أخرج من السجن إلا ثلاثة أشهر حتى مات، واما منصور
فعاش بعده.
ذكر خبر اسر ابن البعيث وموته
وفي هذه السنة قدم بغا الشرابي بابن البعيث في شوال وبخليفته أبي الأغر
وبأخوي ابن البعيث صقر وخالد- وكانا نزلا بأمان- وبابن لابن البعيث،
يقال له العلاء، خرج بأمان، وقدم من الأسرى بنحو من مائة وثمانين رجلا،
ومات باقيهم قبل أن يصلوا، فلما قربوا من سامرا حملوا على الجمال
يستشرفهم الناس، فأمر المتوكل بحبسه وحبسهم، وأثقله حديدا فذكر عن علي
بن الجهم، أنه قال: أتي المتوكل بمحمد بن البعيث، فأمر بضرب عنقه، فطرح
على نطع، وجاء السيافون فلوحوا له، فقال المتوكل، وغلظ عليه: ما دعاك
يا محمد إلى ما صنعت؟ قال: الشقوة، وأنت الحبل الممدود بين الله وبين
خلقه، وإن لي فيك لظنين أسبقهما إلى قلبي أولاهما بك، وهو العفو، ثم
اندفع بلا فضل، فقال:
أبى الناس إلا أنك اليوم قاتلي ... إمام الهدى والصفح بالناس أجمل
وهل أنا إلا جبلة من خطية ... وعفوك من نور النبوه يجبل
فإنك خير السابقين الى العلا ... ولا شك أن خير الفعالين تفعل
قال علي: ثم التفت إلي المتوكل، فقال: إن معه لأدبا، وبادرت فقلت: بل
يفعل أمير المؤمنين خيرهما ويمن عليك، فقال: ارجع إلى منزلك.
وحدثني أنه أنشدني بالمراغة جماعة من أشياخها أشعارا لابن
(9/170)
البعيث بالفارسية، ويذكرون أدبه وشجاعته،
وله أخبار وأحاديث.
وحدثني بعض من ذكر أنه شهد المتوكل حين أتي بابن البعيث، وكلمه ابن
البعيث بما كلمه به، فتكلم فيه المعتز، وهو جالس مع أبيه المتوكل،
فاستوهبه فوهب له، وعفي عنه.
وكان ابن البعيث حين هرب قال:
كم قد قضيت أمورا كان أهملها ... غيري وقد أخذ الإفلاس بالكظم
لا تعذليني فيما ليس ينفعني ... إليك عني جرى المقدار بالقلم
سأتلف المال في عسر وفي يسر ... إن الجواد الذي يعطي على العدم
وكان ابن البعيث حين هرب خلف في منزله ثلاثة بنين له، يقال لهم:
البعيث وجعفر وحلبس، وجواري، فحبسوا ببغداد في قصر الذهب، فتكلم بغا
الشرابي بعد موت ابن البعيث- ومات بعد دخوله سامرا بشهر- في أبي الأغر
ختنه، فأطلق وأطلقت خالة لابن البعيث، فخرجت من السجن، فماتت فرحا من
يومها، وبقي الباقون في الحبس.
وذكر أن ابن البعيث صير في عنقه مائة رطل، فلم يزل مكبوبا على وجهه حتى
مات.
ولما أخذ ابن البعيث أخرج من الحبس من كان محبوسا بسبب كفالته به، وقد
كان بعضهم مات في الحبس، فأخرج بعد باقي عياله وصير بنوه:
حلبس والبعيث وجعفر في عداد الشاكريه مع عبيد الله بن خاقان، واجريت
عليهم الأنزال.
امر المتوكل مع النصارى
وفي هذه السنة أمر المتوكل بأخذ النصارى وأهل الذمة كلهم بلبس الطيالسة
العسلية والزنانير وركوب السروج بركب الخشب وبتصيير كرتين على مؤخر
السروج، وبتصيير زرين على قلانس من لبس منهم قلنسوة مخالفة لون
القلنسوة التي يلبسها المسلمون، وبتصيير رقعتين على ما ظهر من لباس
(9/171)
مماليكهم مخالف لونهما لون الثوب الظاهر
الذي عليه، وأن تكون إحدى الرقعتين بين يديه عند صدره، والأخرى منهما
خلف ظهره، وتكون كل واحدة من الرقعتين قدر أربع أصابع، ولونهما عسليا،
ومن لبس منهم عمامة فكذلك يكون لونها لون العسلي، ومن خرج من نسائهم
فبرزت فلا تبرز إلا في إزار عسلي، وأمر بأخذ مماليكهم بلبس الزنانير
وبمنعهم لبس المناطق، وأمر بهدم بيعهم المحدثة، وبأخذ العشر من
منازلهم، وان كان الموضع واسعا صير مسجدا، وإن كان لا يصلح أن يكون
مسجدا صير فضاء، وأمر أن يجعل على أبواب دورهم صور شياطين من خشب
مسمورة، تفريقا بين منازلهم وبين منازل المسلمين، ونهى أن يستعان بهم
في الدواوين وأعمال السلطان التي يجري أحكامهم فيها على المسلمين، ونهى
أن يتعلم أولادهم في كتاتيب المسلمين، ولا يعلمهم مسلم، ونهى أن يظهروا
في شعانينهم صليبا، وأن يشمعلوا في الطريق، وأمر بتسوية قبورهم مع
الأرض، لئلا تشبه قبور المسلمين.
وكتب إلى عماله في الآفاق:
بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فإن الله تبارك وتعالى بعزته التي لا
تحاول وقدرته على ما يريد، اصطفى الإسلام فرضيه لنفسه، وأكرم به
ملائكته، وبعث به رسله، وأيد به أولياءه، وكنفه بالبر، وحاطه بالنصر،
وحرسه من العاهة، وأظهره على الأديان، مبرأ من الشبهات، معصوما من
الآفات، محبوا بمناقب الخير، مخصوصا من الشرائع بأطهرها وأفضلها، ومن
الفرائض بأزكاها وأشرفها، ومن الأحكام بأعدلها وأقنعها، ومن الأعمال
بأحسنها وأقصدها، وأكرم أهله بما أحل لهم من حلاله، وحرم عليهم من
حرامه، وبين لهم من شرائعه وأحكامه، وحد لهم من حدوده ومناهجه، وأعد
لهم من سعة جزائه وثوابه، فقال في كتابه فيما أمر به ونهى عنه، وفيما
حض عليه فيه ووعظ:
«إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي
الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ
يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» ، وقال فيما حرم على اهله
(9/172)
مما غمط فيه اهل الأديان من رديء المطعم
والمشرب والمنكح لينزههم عنه وليظهر به دينهم، ليفضلهم عليهم تفضيلا:
«حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ
وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ» إلى آخر الآية،
ثم ختم ما حرم عليهم من ذلك في هذه الآية بحراسة دينه، ممن عند عنه
وبإتمام نعمته على أهله الذين اصطفاهم، فقال عز وجل: «الْيَوْمَ يَئِسَ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» الآية، وقال عز وجل:
«حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ» وقال:
«إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ
مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ» الآية، فحرم على المسلمين من مآكل أهل
الأديان أرجسها وأنجسها، ومن شرابهم أدعاه إلى العداوة والبغضاء، وأصده
عن ذكر الله وعن الصلاة، ومن مناكحهم أعظمها عنده وزرا، وأولاها عند
ذوي الحجى والألباب تحريما، ثم حباهم محاسن الأخلاق وفضائل الكرامات،
فجعلهم أهل الإيمان والأمانة، والفضل والتراحم واليقين والصدق، ولم
يجعل في دينهم التقاطع والتدابر، ولا الحمية ولا التكبر، ولا الخيانة
ولا الغدر، ولا التباغي ولا التظالم، بل أمر بالأولى ونهى عن الأخرى،
ووعد وأوعد عليها جنته وناره، وثوابه وعقابه، فالمسلمون بما اختصهم
الله من كرامته، وجعل لهم من الفضيلة بدينهم الذي اختاره لهم، بائنون
على الأديان بشرائعهم الزاكية، وأحكامهم المرضية الطاهرة، وبراهينهم
المنيرة، وبتطهير الله دينهم بما أحل وحرم فيه لهم وعليهم، قضاء من
الله عز وجل في إعزاز دينه، حتما ومشيئة منه في إظهار حقه ماضية،
واراده منه في اتمام نعمته على أهله نافذة «لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ
عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ» ، وليجعل الله
الفوز والعاقبة للمتقين، والخزي في الدنيا والآخرة على الكافرين.
وقد رأى أمير المؤمنين- وبالله توفيقه وإرشاده- أن يحمل أهل الذمة
جميعا
(9/173)
بحضرته وفي نواحي أعماله، أقربها وأبعدها،
وأخصهم وأخسهم على تصيير طيالستهم التي يلبسونها، من لبسها من تجارهم
وكتابهم، وكبيرهم وصغيرهم، على ألوان الثياب العسلية، لا يتجاوز ذلك
منهم متجاوز إلى غيره، ومن قصر عن هذه الطبقة من أتباعهم وأرذالهم، ومن
يقعد به حاله عن لبس الطيالسة منهم أخذ بتركيب خرقتين صبغهما ذلك الصبغ
يكون استدارة كل واحدة منهما شبرا تاما في مثله، على موضع أمام ثوبه
الذي يلبسه، تلقاء صدره، ومن وراء ظهره، وان يؤخذ الجميع منهم في
قلانسهم بتركيب أزرة عليها تخالف ألوانها ألوان القلانس، ترتفع في
أماكنها التي تقع بها، لئلا تلصق فتستر ولا ما يركب منها على حباك
فتخفى، وكذلك في سروجهم باتخاذ ركب خشب لها، ونصب أكر على قرابيسها،
تكون ناتئة عنها، وموفية عليها، لا يرخص لهم في إزالتها عن قرابيسهم،
وتأخيرها إلى جوانبها، بل يتفقد ذلك منهم، ليقع ما وقع من الذي أمر
أمير المؤمنين بحملهم عليه ظاهرا يتبينه الناظر من غير تأمل، وتأخذه
الأعين من غير طلب، وأن تؤخذ عبيدهم وإماؤهم، ومن يلبس المناطق من تلك
الطبقة بشد الزنانير والكساتيج مكان المناطق التي كانت في أوساطهم، وأن
توعز إلى عمالك فيما أمر به أمير المؤمنين في ذلك إيعازا تحدوهم به إلى
استقصاء ما تقدم إليهم فيه، وتحذرهم إدهانا وميلا، وتتقدم إليهم في
إنزال العقوبة بمن خالف ذلك من جميع أهل الذمة عن سبيل عناد وتهوين إلى
غيره، ليقتصر الجميع منهم على طبقاتهم وأصنافهم على السبيل التي أمر
أمير المؤمنين بحملهم عليها، وأخذهم بها إن شاء الله.
فاعلم ذلك من رأي أمير المؤمنين وأمره، وانفذ إلى عمالك في نواحي عملك
ما ورد عليك من كتاب أمير المؤمنين بما تعمل به إن شاء الله، وأمير
المؤمنين يسأل الله ربه ووليه أن يصلي على محمد عبده ورسوله صلى الله
عليه وملائكته، وأن يحفظه فيما استخلفه عليه من أمر دينه، ويتولى ما
ولاه مما لا يبلغ حقه فيه إلا بعونه، حفظا يحمل به ما حمله، وولاية
يقضي بها حقه منه ويوجب بها له أكمل ثوابه، وأفضل مزيده، أنه كريم
رحيم.
وكتب إبراهيم بن العباس في شوال سنة خمس وثلاثين ومائتين
(9/174)
فقال علي بن الجهم:
العسليات التي فرقت ... بين ذوي الرشدة والغي
وما على العاقل ان تكثروا ... فانه اكثر للفيء |