تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ
الطبري
نسخة كتاب المنتصر بالله إلى أبي العباس
محمد بن عبد الله
ابن طاهر مولى أمير المؤمنين في خلع أبي عبد الله المعتز وإبراهيم
المؤيد من عبد الله محمد الإمام المنتصر بالله أمير المؤمنين إلى محمد
بْن عبد الله مولى أمير المؤمنين، أما بعد، فإن الله وله الحمد على
آلائه، والشكر بجميل بلائه، جعل ولاة الأمر من خلفائه القائمين بما بعث
به رسوله ص والذابين عن دينه، والداعين إلى حقه والممضين لأحكامه، وجعل
ما اختصهم به من كرامته قواما لعباده، وصلاحا لبلاده، ورحمه غمر بها
خلقه وافترض طاعتهم، ووصلها بطاعته وطاعة رسوله محمد صلى الله عليه
وسلم، وأوجبها في محكم تنزيله، لما جمع فيها من سكون الدهماء، واتساق
الأهواء، ولم الشعث، وأمن السبل، ووقم العدو، وحفظ الحريم، وسد الثغور،
وانتظام الأمور، فقال: «أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ
وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» ، فمن الحق على خلفاء الله الذين حباهم
بعظيم نعمته، واختصهم بأعلى رتب كرامته، واستحفظهم فيما جعله وسيلة إلى
رحمته، وسببا لرضاه ومثوبته، لأن يؤثروا طاعته في كل حال تصرفت بهم،
ويقيموا حقه في أنفسهم والأقرب فالأقرب منهم، وأن يكون محلهم من
الاجتهاد في كل ما قرب من الله عز وجل حسب موقعهم من الدين وولاية أمر
المسلمين.
وأمير المؤمنين يسأل الله مسألة رغبة إليه، وتذللا لعظمته، أن يتولاه
فيما استرعاه ولاية يجمع له بها صلاح ما قلده، ويحمل عنه أعباء ما
حمله، ويعينه بتوفيقه
(9/247)
على طاعته، أنه سميع قريب.
وقد علمت ما حضرت من رفع أبي عبد الله وإبراهيم ابني أمير المؤمنين
المتوكل على الله رضي الله عنه إلى أمير المؤمنين رقعتين بخطوطهما،
يذكران فيهما ما عرفهما الله من عطف أمير المؤمنين عليهما، ورأفته
بهما، وجميل نظره لهما، وما كان أمير المؤمنين المتوكل على الله عقده
لأبي عبد الله من ولاية عهد أمير المؤمنين ولإبراهيم من ولاية العهد
بعد أبي عبد الله وإن ذلك العقد كان وأبو عبد الله طفل لم يبلغ ثلاث
سنين، ولم يفهم ما عقد له ولا وقف على ما قلده، وإبراهيم صغير لم يبلغ
الحلم، ولم يجر أحكامهما ولا جرت أحكام الإسلام عليهما، وإنه قد يجب
عليهما إذ بلغا ووقفا على عجزهما عن القيام بما عقد لهما من العهد،
وأسند إليهما من الأعمال أن ينصحا لله ولجماعة المسلمين، بأن يخرجا من
هذا الأمر الذي عقد لهما أنفسهما، ويعتزلا الأعمال التي قلداها، ويجعلا
كل من في عنقه لهما بيعة وعليه يمين في حل، إذ كانا لا يقومان بما رشحا
له، ولا يصلحان لتقلده، وأن يخرج من كان ضم إليهما ممن في نواحيهما من
قواد أمير المؤمنين ومواليه وغلمانه وجنده وشاكريته وجميع من مع أولئك
القواد بالحضرة وخراسان وسائر النواحي عن رسومهما، ويزال عنهم جميعا
ذكر الضم إليهما، وأن يكونا سوقة من سوق المسلمين وعامتهم، ويصفان ما
لم يزالا يذكران لأمير المؤمنين من ذلك، ويسألانه فيه، منذ أفضى الله
بخلافته إليه، وانهما قد خلعا أنفسهما من ولاية العهد، وخرجا منها،
وجعلا كل من لهما عليه بيعة ويمين من قواد أمير المؤمنين وجميع أوليائه
ورعيته، قريبهم وبعيدهم، وحاضرهم وغائبهم، في حل وسعة من بيعتهم
وأيمانهم، ليخلعوهما كما خلعا أنفسهما.
وجعلا لأمير المؤمنين على أنفسهما عهد الله، وأشد ما أخذ على ملائكته
وأنبيائه وعباده من عهد وميثاق، وجميع ما أكده أمير المؤمنين عليهما من
الأيمان، بإقامتهما على طاعته ومناصحته وموالاته في السر والعلانية،
ويسألان أمير المؤمنين
(9/248)
أن يظهر ما فعلاه، وينشره، ويحضر جميع
أوليائه، ليسمعوا ذلك منهما طالبين راغبين، طائعين غير مكرهين ولا
مجبرين، ويقرأ عليهم الرقعتان اللتان رفعاهما بخطوطهما، بما ذكرا من
وقوع الأمر لهما من ولاية العهد، وهما صبيان، وخلعهما أنفسهما بعد
بلوغهما، وما سألا من صرفهما عن الأعمال التي يتوليانها وإخراج من كان
بها ممن ضم إليهما في نواحيهما من قواد أمير المؤمنين وجنده وغلمانه
وشاكريته وجميع من مع أولئك القواد بالحضرة وخراسان وسائر النواحي عن
رسومهما وإزالة ذكر الضم إليهما عنهم، وأن يكتب بالكتاب بذلك إلى جميع
عمال النواحي وإن أمير المؤمنين وقف على صدقهما فيما ذكرا ورفعا، وتقدم
في إحضار جميع إخوته ومن بحضرته من أهل بيته وقواده ومواليه وشيعته
ورؤساء جنده وشاكريته وكتابه وقضاته والفقهاء وغيرهم، وسائر أوليائه
الذين كانت وقعت البيعة لهما بذلك عليهم وحضر أبو عبد الله وإبراهيم
ابنا أمير المؤمنين المتوكل على الله رضي الله عنه، وقرئت رقعتاهما
بخطوطهما بحضرتهما، إلى مجلس أمير المؤمنين عليهما وعلى جميع من حضر،
وأعادا من القول بعد قراءة الرقعتين مثل الذي كتبا به ورأى أمير
المؤمنين أن يجمع في إجابتهما إلى نشر ما فعلاه وإظهاره، وإمضائه ذلك،
قضاء حقوق ثلاثة: منها حق الله عز وجل فيما استحفظه من خلافته، وأوجب
عليه من النظر لأوليائه فيما يجمع لهم كلمتهم في يومهم وغدهم، ويؤلف
بين قلوبهم ومنها حق الرعية الذين هم ودائع الله عنده حتى يكون المتقلد
لأمورهم ممن يراعيهم آناء الليل والنهار بعنايته ونظره وتفقده وعدله
ورأفته، ومن يقوم بأحكام الله في خلقه، ومن يضطلع بثقل السياسة وصواب
التدبير ومنها حق أبي عبد الله وإبراهيم فيما يوجبه أمير المؤمنين لهما
بأخوتهما وماس رحمهما، لأنهما لو أقاما على ما خرجا منه، لم
(9/249)
يؤمن أن يؤدي ذلك إلى ما يعظم في الدين
ضرره، ويعم المسلمين مكروهه، ويرجع عليهما عظيم الوزر فيه، فخلعهما
أمير المؤمنين إذ خلفا أنفسهما من ولاية العهد، وخلعهما جميع إخوة أمير
المؤمنين ومن بحضرته، من أهل بيته، وخلعهما جميع من حضر من قواد أمير
المؤمنين ومواليه وشيعته ورؤساء جنده وشاكريته وكتابه وقضاته والفقهاء
وغيرهم من سائر أولياء أمير المؤمنين، الذين كانت أخذت لهما البيعة
عليهم وأمر أمير المؤمنين بإنشاء الكتب بذلك إلى جميع العمال، ليتقدموا
في العمل بحسب ما فيها، ويخلعوا أبا عبد الله وإبراهيم من ولاية العهد،
إذ كانا قد خلعا أنفسهما من ذلك، وحللا الخاص والعام، والحاضر والغائب،
والداني والقاصي منه، ويسقطوا ذكرهما بولاية العهد، وذكر ما نسبا إليه
من نسب ولاية العهد من المعتز بالله والمؤيد بالله من كتبهم وألفاظهم،
والدعاء لهما على المنابر، ويسقطوا كل ما ثبت في دواوينهم من رسومهما
القديمة والحديثة الواقعة على من كان مضموما إليهما، ويزيلوا ما على
الأعلام والمطارد من ذكرهما، وما وسمت به دواب الشاكرية والرابطة من
أسمائهما ومحلك من أمير المؤمنين وحالك عنده على حسب ما أخلص الله
لأمير المؤمنين من طاعتك ومناصحتك، وموالاتك ومشايعتك، ما أوجب الله لك
بسلفك ونفسك، وما عرف الله أمير المؤمنين من طاعتك ويمن نقيبتك،
واجتهادك في قضاء الحق وقد أفردك أمير المؤمنين بقيادتك، وإزالة الضم
إلى أبي عبد الله عنك وعمن في ناحيتك بالحضرة وسائر النواحي.
ولم يجعل أمير المؤمنين بينك وبينه احد يرؤسك، وخرج أمره بذلك إلى ولاة
دواوينه.
فاعلم ذلك واكتب إلى عمالك بنسخة كتاب أمير المؤمنين هذا إليك، وأوعز
إليهم في العمل على حسبه إن شاء الله، والسلام
(9/250)
وكتب أحمد بن الخصيب يوم السبت لعشر بقين
من صفر سنة ثمان وأربعين ومائتين.
ذكر الخبر عن وفاه المنتصر
وفي هذه السنة توفي المنتصر.
ذكر الخبر عن العلة التي كانت فيها وفاته والوقت الذي توفي فيه وقدر
المدة التي كانت فيها حياته:
فأما العلة التي كانت بها وفاته، فإنه اختلف فيها، فقال بعضهم:
أصابته الذبحة في حلقه يوم الخميس لخمس بقين من شهر ربيع الأول، ومات
مع صلاة العصر من يوم الأحد لخمس ليال خلون من شهر ربيع الآخر.
وقيل: توفي يوم السبت وقت العصر لأربع خلون من شهر ربيع الآخر، وإن
علته كانت من ورم في معدته، ثم تصعد إلى فؤاده فمات، وإن علته كانت
ثلاثة أيام أو نحوها.
وحدثني بعض أصحابنا انه كان وجد حرارة، فدعا بعض من كان يتطبب له،
وأمره بفصده، ففصده بمبضع مسموم، فكان فيه منيته، وإن الطبيب الذي فصده
انصرف إلى منزله، وقد وجد حرارة، فدعا تلميذا له، فأمره بفصده ووضع
مباضعه بين يديه ليتخير أجودها، وفيها المبضع المسموم الذي فصد به
المنتصر، وقد نسيه فلم يجد التلميذ في المباضع التي وضعت بين يديه
مبضعا أجود من المبضع المسموم، ففصد به أستاذه وهو لا يعلم أمره، فلما
فصده به نظر إليه صاحبه فعلم أنه هالك، فأوصى من ساعته، وهلك من يومه
(9/251)
وقد ذكر أنه وجد في رأسه علة فقطر ابن
الطيفوري في أذنه دهنا، فورم رأسه، وعوجل فمات وقد قيل: إن ابن
الطيفورى انما سمه في محاجمه.
قال ابو جعفر: ولم أزل أسمع الناس حين أفضت إليه الخلافة من لدن ولي
إلى أن مات يقولون: إنما مدة حياته ستة أشهر، مدة شيرويه ابن كسرى قاتل
أبيه، مستفيضا ذلك على ألسن العامة والخاصة.
وذكر عن يسر الخادم، وكان- فيما ذكر- يتولى بيت المال للمنتصر في أيام
إمارته، أنه قال: كان المنتصر يوما من الأيام في خلافته نائما في
إيوانه، فانتبه وهو يبكى وينتخب، قال: فهبته أن أسأله عن بكائه، ووقفت
وراء الباب، فإذا عبد الله بن عمر البازيار قد وافى فسمع نحيبه وشهيقه،
فقال لي: ما له؟ ويحك يا يسر! فأعلمته أنه كان نائما فانتبه باكيا،
فدنا منه، فقال له: ما لك يا أمير المؤمنين تبكي لا أبكى الله عينك؟!
قال:
ادن مني يا عبد الله، فدنا منه فقال له: كنت نائما، فرأيت فيما يرى
النائم كأن المتوكل قد جاءني، فقال لي: ويلك يا محمد! قتلتني وظلمتني
وغبنتنى في خلافتي، والله لا تمتعت بها بعدي إلا أياما يسيرة، ثم مصيرك
إلى النار.
فانتبهت، وما أملك عيني ولا جزعي فقال له عبد الله: هذه رؤيا، وهي تصدق
وتكذب، بل يعمرك ويسرك الله، فادع الآن بالنبيذ، وخذ في اللهو، ولا
تعبأ بالرؤيا قال: ففعل ذلك، وما زال منكسرا إلى أن توفي.
وذكر أن المنتصر كان شاور في قتل أبيه جماعة من الفقهاء، وأعلمهم
بمذاهبه، وحكي عنه أمورا قبيحة كرهت ذكرها في الكتاب، فأشاروا عليه
بقتله، فكان من أمره ما ذكرنا بعضه.
وذكر عنه أنه لما اشتدت به علته، خرجت إليه أمه فسألته عن حاله، فقال:
ذهبت والله مني الدنيا والآخرة.
قال ابراهيم بن جيش: حدثنى موسى بن عيسى الكاتب، كاتب عمى يعقوب وابن
عمى يزيد، ان المنتصر لما افضت الخلافه اليه، كان يكثر إذا سكر قتل
ابيه المتوكل، ويقول في الاتراك: هؤلاء قتله الخلفاء، ويذكر من ذلك ما
تخوفوه، فجعلوا الخادم له ثلاثين الف دينار على ان يحتال في سمه،
(9/252)
وجعلوا لعلى بن طيفور جمله، وكان المنتصر
يكثر اكل الكمثرى إذا قدمت اليه الفاكهة، فعمد ابن طيفور الى كمثراه
كبيره نضيجه، فادخل في راسها خلاله، ثم سقاها سما، فجعلها الخادم في
اعلى الكمثرى الذى قدمه اليه، فلما نظر إليها المنتصر امره ان يقشرها
ويطعمه إياها، فقشرها وقطعها، ثم اعطاه قطعه قطعه حتى اتى عليها، فلما
أكلها وجد فتره، فقال لابن طيفور: أجد حراره، فقال: يا امير المؤمنين،
احتجم تبرا من عله الدم، وقدر انه إذ خرج الدم قوى عليه السم فحجم فحم،
وغلظت علته عليه فتخوف هو والاتراك ان تطول علته، فقال له: يا امير
المؤمنين، ان الحجامة لم يكن فيها ما قدرنا في عافيتك، وتحتاج الى
الفصد، فانه انجح لما تريد، فقال: افعل، ففصده بمبضع مسموم، ودهش،
فالقاه في مباضعه- وكان أحدها وأجودها ثم ان على بن طيفور، وجد حراره،
فدعا تلميذا له ليفصده، فنظر في المباضع فلم يجد احد منه، ولا اخير
ففصده، فكانت منيته فيه.
وذكر عن ابن دهقانه أنه قال: كنا في مجلس المنتصر يوما بعد ما قتل
المتوكل، فتحدث المسدود الطنبوري بحديث، فقال المنتصر: متى كان هذا؟
فقال: ليلة لا ناه ولا زاجر، فأحفظ ذلك المنتصر.
وذكر عن سعيد بن سلمة النصراني أنه قال: خرج علينا أحمد بن الخصيب
مسرورا يذكر أن أمير المؤمنين المنتصر رأى في ليلة في المنام، أنه صعد
درجة حتى انتهى إلى خمس وعشرين مرقاة منها، فقيل له:
هذا ملكك، وبلغ الخبر ابن المنجم، فدخل عليه محمد بن موسى وعلي بن يحيى
المنجم مهنئين له بالرؤيا، فقال: لم يكن الأمر على ما ذكر لكم احمد ابن
الخصيب، ولكني حين بلغت أخر المراقي، قيل لي: قف فهذا آخر عمرك، واغتم
لذلك غما شديدا، فعاش بعد ذلك أياما تتمة سنة، ثم مات وهو ابن خمس
وعشرين سنة وقيل: توفي وهو ابن خمس وعشرين سنة.
وستة أشهر وقيل: بل كان عمره أربعا وعشرين سنة، وكانت مدة خلافته ستة
اشهر
(9/253)
في قول بعضهم ويومين.
وقيل: كانت ستة أشهر سواء.
وقيل: كانت مائة يوم وتسعة وسبعين يوما.
وكان وفاته بسامرا بالقصر المحدث، بعد أن أظهر في إخوته ما أظهر بأربع
وأربعين ليلة، وذكر أنه لما حضرته الوفاة قال:
فما فرحت نفسي بدنيا أخذتها ... ولكن إلى الرب الكريم أصير
وصلى عليه أحمد بن محمد بن المعتصم بسامرا، وبها كان مولده.
وكان أعين أقنى قصيرا جيد البضعة وكان- فيما ذكر- مهيبا.
وهو أول خليفة من بني العباس- فيما بعد- عرف قبره.
وذلك أن أمه طلبت إظهار قبره وكانت كنيته أبا جعفر واسم أمه حبشية وهي
أم ولد رومية
. ذكر بعض سيره
ذكر أن المنتصر لما ولي الخلافة كان أول شيء أحدث من الأمور عزل صالح
عن المدينة وتوليه علي بن الحسين بن إسماعيل بن العباس بن محمد إياها،
فذكر عن علي بن الحسين، أنه قال: دخلت عليه أودعه، فقال لي:
يا علي، إني أوجهك إلى لحمي ودمي- ومد جلد ساعده- وقال: إلى هذا وجهتك،
فانظر كيف تكون للقوم، وكيف تعاملهم! يعني آل أبي طالب، فقلت: أرجو أن
أمتثل رأي أمير المؤمنين أيده الله فيهم إن شاء الله، فقال: إذا تسعد
بذلك عندي وذكر عن محمد بن هارون، كاتب محمد بن علي برد الخيار وخليفته
على ديوان ضياع إبراهيم المؤيد، أنه أصيب مقتولا على فراشه، به عده
ضربات
(9/254)
بالسيف، فأحضر ولده خادما أسود كان له
ووصيفا، ذكر أن الوصيف أقر على الأسود، فأدخل على المنتصر، وأحضر جعفر
بن عبد الواحد، فسئل عن قتله مولاه، فأقر به، ووصف فعله به وسبب قتله
إياه، فقال له المنتصر: ويلك! لم قتلته؟ فقال له الأسود: لما قتلت أنت
أباك المتوكل! فسأل الفقهاء في أمره، فأشاروا بقتله، فضرب عنقه وصلبه،
عند خشبة بابك 4 وفي هذه السنة حكم محمد بن عمرو الشاري، وخرج بناحية
الموصل، فوجه إليه المنتصر إسحاق بن ثابت الفرغاني، فأخذه أسيرا مع عدة
من أصحابه، فقتلوا وصلبوا 34 وفيها تحرك يعقوب بن الليث الصفار من
سجستان، فصار إلى هراة.
وذكر عن أحمد بن عبد الله بن صالح صاحب المصلى أنه قال: كان لأبي مؤذن،
فرآه بعض أهلنا في المنام كأنه أذن أذانا لبعض الصلوات، ثم دنا من بيت
فيه المنتصر، فنادى: يا محمد، يا منتصر، إِنَّ رَبَّكَ
لَبِالْمِرْصادِ.
وذكر عن بنان المغني- وكان فيما قيل أخص الناس بالمنتصر في حياة أبيه
وبعد ما ولي الخلافة- أنه قال: سألت المنتصر أن يهب لي ثوب ديباج وهو
خليفة، فقال: او خير لك من الثوب الديباج؟ قلت: وما هو؟ قال:
تتمارض حتى أعودك، فإنه سيهدى لك أكثر من الثوب الديباج، قال: فمات في
تلك الأيام، ولم يهب لي شيئا.
وفي هذه السنة بويع بالخلافة أحمد بن محمد بن المعتصم.
(9/255)
خلافة أحمد بن محمد بن المعتصم وهو
المستعين ويكنى أبا العباس
ذكر الخبر عن سبب ولايته والوقت الذي بويع له فيه:
ذكر أن المنتصر لما توفي، وذلك يوم السبت عند العصر لأربع خَلَوْنَ
مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الآخَرِ مِنْ سَنَةِ ثمان وأربعين ومائتين، اجتمع
الموالي إلى الهاروني يوم الأحد، وفيهم بغا الصغير وبغا الكبير اوتامش
ومن معهم، فاستحلفوا قواد الأتراك والمغاربة والأشروسنية- وكان الذى
يستحلفهم على بن الحسين ابن عبد الأعلى الإسكافي كاتب بغا الكبير- على
ان يرضوا بمن يرضى به بغا الصغير وبغا الكبير اوتامش، وذلك بتدبير أحمد
بن الخصيب، فحلف القوم وتشاوروا بينهم، وكرهوا أن يتولى الخلافة أحد من
ولد المتوكل، لقتلهم أباه، وخوفهم أن يغتالهم من يتولى الخلافة منهم،
فأجمع أحمد بن الخصيب ومن حضر من الموالي على أحمد بن محمد بن المعتصم،
فقالوا: لا نخرج الخلافة من ولد مولانا المعتصم، وقد كانوا قبله ذكروا
جماعة من بني هاشم، فبايعوه وقت العشاء الآخرة من ليلة الاثنين،
لِسِتٍّ خَلَوْنَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الآخَرِ مِنْ السنة، وهو ابن
ثمان وعشرين سنة، ويكنى أبا العباس.
فاستكتب أحمد بن الخصيب، واستوزر اوتامش فلما كان يوم الاثنين لست خلون
من شهر ربيع الآخر صار إلى دار العامة من طريق العمري بين البساتين،
وقد ألبسوه الطويلة وزي الخلافة، وحمل إبراهيم بن إسحاق بين يديه
الحربة قبل طلوع الشمس، ووافى واجن الأشروسني باب العامة من طريق
الشارع على بيت المال، فصف أصحابه صفين، وقام في الصف هو وعدة من وجوه
أصحابه، وحضر الدار أصحاب المراتب من ولد المتوكل والعباسيين
والطالبيين وغيرهم ممن لهم مرتبه، فبينا هم كذلك، وقد مضى من النهار
ساعة ونصف، جاءت صيحة من ناحية الشارع والسوق، فإذا نحو من خمسين فارسا
من الشاكرية، ذكروا أنهم من أصحاب
(9/256)
أبي العباس محمد بن عبد الله، ومعهم قوم من
فرسان طبرية وأخلاط من الناس ومعهم من الغوغاء والسوقة نحو من ألف رجل،
فشهروا السلاح، وصاحوا:
يا معتز يا منصور، وشدوا على صفي الأشروسنية اللذين صفهما واجن،
فتضعضعوا، وانضم بعضهم إلى بعض، ونفر من على باب العامة من المبيضة مع
الشاكرية، فكثروا، فشد عليهم المغاربة والأشروسنية، فهزموهم حتى
أدخلوهم الدرب الكبير المعروف بزرافة وعزون وحمل قوم منهم على
المعتزية، فكشفوهم، حتى جاوزوا بهم دار أخي عزون بن إسماعيل وهم في
مضيق الطريق، فوقف المعتزية هنالك، ورمى الأشروسنية عدة منهم بالنشاب،
وضربوهم بالسيوف، ونشبت الحرب بينهم، وأقبلت المعتزية والغوغاء يكبرون،
فوقعت بينهم قتلى كثيرة، إلى أن مضى من النهار ثلاث ساعات ثم انصرف
الأتراك وقد بايعوا أحمد بن محمد بن المعتصم، وانصرفوا مما يلي العمري
والبساتين، وأخذ الموالي قبل انصرافهم البيعة على من حضر الدار من
الهاشميين وغيرهم وأصحاب المراتب وخرج المستعين من باب العامة منصرفا
إلى الهاروني، فبات هنالك ومضى الأشروسنية إلى الهاروني، وقد قتل من
الفريقين عدد كثير، ودخل قوم من الأشروسنية دورا، فظفرت بهم الغوغاء،
فأخذوا دروعهم وسلاحهم وجواشنهم ودوابهم، ودخل الغوغاء والمنتهبة دار
العامة منصرفين إلى الهاروني، فانتهبوا الخزانه التي فيها السلاح
والدروع والجواشن واللجم المغربية وأكثروا منها، وربما مر أحدهم
بالجواشن والحراب فأكثر، وانتهبوا في دار أرمش ابن أبي أيوب بحضرة
أصحاب الفقاع تراس خيزران وقنا بلا أسنة، فكثرت الرماح والتراس في أيدي
الغوغاء وأصحاب الحمامات وغلمان الباقلي، ثم جاءتهم جماعة من الأتراك
منهم بغا الصغير من درب زرافه، فاحلوهم من الخزانة، وقتلوا منهم عدة،
وأمسكوا قليلا ثم انصرف الفريقان، وقد كثرت القتلى بينهم، وأقبل
الغوغاء لا يمر أحد من الأتراك من أسافل سامرا يريد باب العامة إلا
انتهبوا سلاحه، وقتلوا جماعة منهم عند دار مبارك المغربي، وعند دار حبش
(9/257)
أخي يعقوب قوصرة في شوارع سامرا، وعامة من
انتهب- فيما ذكر- هذا السلاح أصحاب الفقاع والناطف وأصحاب الحمامات
والسقاءون وغوغاء الأسواق، فلم يزل ذلك أمرهم إلى نصف النهار، وتحرك
أهل السجن بسامرا في هذا اليوم، فهرب منهم جماعة، ثم وضع العطاء على
البيعة، وبعث بكتاب البيعة إلى محمد بن عبد الله بن طاهر في اليوم الذي
بويع له فيه، وكان وصوله إلى محمد في اليوم الثاني، ووافى به أخ لأتامش
ومحمد بن عبد الله في نزهة له، فوجه الحاجب إليه، وأعلمه مكانه، فرجع
من ساعته، وبعث إلى الهاشميين والقواد والجند، ووضع لهم الأرزاق وورد
في هذه السنة على المستعين وفاة طاهر بن عبد الله بن طاهر بخراسان في
رجب، فعقد المستعين لابنه محمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر على
خراسان، ولمحمد بن عبد الله على العراق، وجعل إليه الحرمين والشرطة
ومعاون السواد برأسه وأفرده به، وعقد في الجوسق لمحمد بن طاهر بن عبد
الله ابن طاهر على خراسان والاعمال المضمومة إليها خاصة يوم السبت
لاثنتي عشرة ليلة خلت من شعبان.
ومرض بغا الكبير في جمادى الآخرة، فعاده المستعين في النصف منها، ومات
بغا من يومه، فعقد لموسى ابنه على أعماله وعلى أعمال أبيه كلها وولي
ديوان البريد.
وفي هذه السنه وجه انوجو التركي إلى أبي العمود الثعلبي، فقتله يوم
السبت بكفرتوثى لخمس بقين من شهر ربيع الآخر.
وفيها خرج عبيد الله بن يحيى بن خاقان إلى الحج، فوجه خلفه رسول من
الشيعة اسمه شعيب بنفيه إلى برقة، ومنعه من الحج.
وفيها ابتاع المستعين من المعتز والمؤيد في جمادى الأولى منها جميع ما
كان لهما، خلا شيئا استثنى منه المعتز قيمته مائة ألف دينار، وأخذ له
ولإبراهيم غلة بثمانين ألف دينار في السنة، فلما كان يَوْمَ
الاثْنَيْنِ لاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ
(9/258)
من رمضان ابتيع من المعتز والمؤيد جميع ما
لهما من الدور والمنازل والضياع والقصور والفرش والآلة وغير ذلك بعشرين
ألف دينار، وأشهدا عليهما بذلك الشهود والعدول والقضاة وغيرهم وقيل:
ابتيع ما لهما من الضياع وترك إلى أبي عبد الله ما يكون غلته من العين
في السنة عشرين ألف دينار، ولإبراهيم ما تبلغ قيمة غلته في السنة خمسة
آلاف دينار، فكان ما ابتيع من أبي عبد الله بعشرة آلاف ألف دينار وعشر
حبات لؤلؤ، ومن إبراهيم بثلاثة آلاف ألف درهم وثلاث حبات لؤلؤ، وأشهدا
عليهما بذلك الفقهاء والقضاة وكان الشراء باسم الحسن بن مخلد للمستعين،
وذلك في شهر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين ومائتين وحبسا في حجرة
الجوسق، ووكل بهما، وجعل أمرهما إلى بغا الصغير، وكان الأتراك قد
أرادوا حين شغب الغوغاء والشاكرية قتلهما، فمنعهم من ذلك أحمد بن
الخصيب، وقال: ليس لهما ذنب ولا المشغبة من أصحابهما، وإنما المشغبة من
أصحاب ابن طاهر، ولكن احبسوهما فحبسا.
وفيها غضب الموالي على أحمد بن الخصيب، وذلك في جمادى الأولى منها،
واستصفي ماله ومال ولده، ونفي إلى أقريطش.
وفيها صرف علي بن يحيى عن الثغور الشامية، وعقد له على أرمينية
وأذربيجان في شهر رمضان من هذه السنة.
وفيها شغب أهل حمص على كيدر بن عبيد الله عامل المستعين عليها فأخرجوه
منها، فوجه إليهم الفضل بن قارن، فمكر بهم حتى أخذهم، وقتل منهم خلقا
كثيرا، وحمل منهم مائة رجل من عيونهم إلى سامرا، وهدم سورهم.
وفيها غزا الصائفة وصيف، وكان مقيما بالثغر الشامي حتى ورد عليه موت
(9/259)
المنتصر، ثم دخل بلاد الروم، فافتتح حصنا
يقال له فروريه، وعقد المستعين فيها لاوتامش على مصر والمغرب واتخذه
وزيرا.
وفيها عقد لبغا الشرابي على حلوان وماسبذان ومهرجانقذق، وصير المستعين
شاهك الخادم على داره وكراعه وحرمه وخزائنه وخاص أموره، وقدمه اوتامش
على جميع الناس.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن سليمان الزينبي.
(9/260)
|