خلاصة الوفا بأخبار دار المصطفى
" الفصل الثامن " في
خصائصها
وهي كثيرة تزيد على المائة إلا أن مكة شاركتها في بعض ذلك كالمذكور في
الفصل قبله من تحريم وقطع الرطب من شجرها وحشيشها وصيدها واصطياده
وتنفيره وحمل السلاح للقتال بها وأمر لقطتها ونقل التراب ونحوه منها أو
إليها ونبش الكافر إذا دفن بها. وامتازت بتحريمها على لسان أشرف
الأنبياء بدعوته صلى الله عليه وسلم كون المتعرض لصيدها وشجرها يسلب
كقتيل الكفار وهو أبلغ في الزجر مما جاء في مكة وعلي القول بعدمه وهو
أدل على عظيم حرمتها حيث لم يشرع له جابر ويجوز نقل ترابها للتداوي
واشتمالها على أفضل البقاع ودفن أفضل الخلق به وأفضل هذه الأمة وكذا
أكثر الصحابة والسلف الذين هم خير القرون وخلقهم من تربتها وبعث أشرف
هذه الأمة يوم القيامة منها على ما نقله في المدارك عن مالك قال وهو لا
يقوله من عند نفسه وكونها محفوفة بالشهداء كما قاله مالك أيضا بها
(1/239)
أفضل الشهداء الذين بذلوا أنفسهم في ذات
الله تعالى بين يدي نبيه صلى الله عليه وسلم فكان شهيدا عليهم واختيار
الله تعالى لها قرار الأفضل خلقه وأحبهم إليه واختيار أهلها للنصرة
والإيواء وافتتاحها بالقرآن وسائر البلاد بالسيف والسنان وافتتاح سائر
بلاد الإسلام منها وجعلها مظهر الدين وجوب الهجرة إليها قبل فتح مكة
والسكنى بها لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم ومواساته بالأنفس على ما
قال عياض أنه متفق عليه قال ومن هاجر قبل الفتح فالجمهور على منعه من
الإقامة بمكة بعد الفتح ورخص له في ثلاثة أيام بعد قضاء نسكه والحث على
سكناها وعلى اتخاذ الأصل بها وعلى الموت فيها والوعد على ذلك بالشفاعة
أو الشهادة أو هما واستجاب الدعاء بالموت بها وحرصه صلى الله عليه وسلم
على موته بها وشفاعته أو شهادته لمن صبر على لأوائها أو شدتها وطلبه
لزيادة البركة بها على مكة بما سبق بيانه ودعائه بحبها وأن يجعل الله
تعالى بها قرارا ورزقا حسنا وتحريكه الدابة عند
(1/240)
قدومها من حبها وطرحه الرداء عن منكبيه إذا
قاربها وتسميته لها بطيبة وغيرها مما سبق ومن خصائصها طيب ريحها وللعطر
فيها رائحة لا يوجد في غيرها قاله ياقوت وطيب العيش بها وكثرة أسمائها
وكتابتها في التوراة مؤمنة وتسميتها فيها بالمحبوبة والمرحومة وغيره
مما سبق وإضافتها إلى الله في قوله تعالى ألم تكن أرض الله واسعة
فتهاجروا فيها وإلى الرسول بلفظ البيت في قوله تعالى كما أخرجك ربك من
بيت الحق وأقسم الله تعالى (لا أقسم بهذا البلد) والبداء فيها في قوله
تعالى (رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق) مع أن المخرج مقدّم على
المدخل
(1/241)
وكثرة دعائه صلى الله عليه وسلم لها خصوصا
بالبركة ولثمارها ومكيالها ولسوقها وأهلها وقوله أنها تنفي خبثها وأنها
تنفي الذنوب وأنه لا يدعها أحد رغبة عنها إلا أبدل الله تعالى فيها من
هو خير منه ومن أرادها وأهلها بسوء إذا به الله تعالى الحديث فرتب
الوعيد فيه على الإرادة كما قال تعالى في حرم مكة ومن يرد فيه بالحاد
بظالم الآية والوعيد الشديد لمن أحدث بها حدثا أو آوى محدثا
(1/242)
والحدث الإثم فيشمل الصغيرة فهي بها كبيرة
أي يعظم جزاؤها لدلالتها على جراءة مرتكبها بحرم سيد المرسلين وحضرته
الشريفة والوعيد الشديد لمن ظلم أهلها أو أخافهم ووعيد من لم يكرم
أهلها وأن إكرامهم وحفظهم حق على الأمة وأنه صلى الله عليه وسلم شفيع
أو شهيد لمن حفظهم فيه وقوله ومن أخاف أهل المدينة فقد أخاف ما بين
جنبي واختصاصها بملك الإيمان والحياء وبكون الإيمان يأرز إليها
واشتباكها بالملائكة وحراستهم لها وأنها دار إسلام أبد الحديث أن
الشياطين قد
(1/243)
يئست أن تعبد ببلدي هذا وأنها آخر قرى
الإسلام خرابا رواه الترمذي وحسنه وعصمتها من الطاعون ومن الدجال مع
خروج الرجل الذي هو خير الناس أو من خير الناس منها إليه ونقل وبائها
وحماها والاستشفاء بترابها وبثمرها وقوله في حديث الطبراني وحق على كل
مسلم زيارتها وسماعه صلى الله عليه وسلم لمن صلى أو سلم عليه عند قبره
ووجوب شفاعته لمن زاره بها وغير ذلك مما سيأتي في فضل الزيارة
(1/244)
وكونها أول أرض أتخذ بها مسجد لعامة
المسلمين في هذه الأمة وتأسيس مسجدها على يد صلى الله عليه وسلم وعمله
فيه بنفسه ومعه خير الأمة وأن الله تعالى أنزل في بنائه لمسجد أسس على
التقوى الآية وكونه آخر مساجد الأنبياء والمساجد التي تشد إليها الرحال
وكونه أحق
المساجد أن يراد
(1/245)
وما به من المضاعفة الآتية وأن من صلى فيه
أربعين صلاة كتبت له براءة من النار وبراءة من العذاب وبريء من النفاق
(1/251)
وأن من خرج على طهر لا يريد إلا الصلاة فيه
كان بمنزلة حجة وما ثبت من أن إتيان مسجد قباء والصلاة فيه تعدل عمرة
وغير ذلك مما سيأتي في فصلها وأن ما بين بيته صلى الله عليه وسلم
ومنبره روضة من رياض الجنة مع ذهاب بعضهم إلى أن ذلك يعم مسجده صلى
الله عليه وسلم وأنه المسجد الذي لا يعرف بقعة في الأرض من الجنة غيره
وأن منبره الشريف على ترعة من ترع الجنة وأن قوائمه ثوابت في الجنة
وأنه على حوضه صلى الله عليه وسلم وما جاء في أن ما بين منبره الشريف
والمصلى روضة من رياض الجنة وسيأتي ما يقتضي أن المراد مصلى العيد وهذا
جانب كبير من هذه البلدة وقوله في أحد جبل يحبنا ونحبه وأنه على ترعة
من ترع الجنة وفي واديها بطعان أنه على ترعة من ترع الجن
(1/252)
ووصفه لواديها العقيق وبالوادي المبارك
وأنه يحبنا ونحبه وقوله في ثمارها أن العجوة من الجن وسيأتي في بئر غرس
أن صلى الله عليه وسلم رأى أنه أصبح على بئر نن آبار الجنة فأصبح عليها
ورؤيا الأنبياء حق واختصاص مسجدها بمزيد الأدب وخفض الصوت وتأكد التعلم
والتعليم به وأنه لا يسمع النداء فيه ثم يخرج منه إلا لحاجة ثم لا يرجع
إليه إلا منافق واختصاصه عند بعضهم بمنع أكل الثوم من دخوله لاختصاصه
بملائكة الوحي والوعيد الشديد لمن حلف يمين فاجرة عند منبرها ومضاعفة
سائر الأعمال بها كما صرح به الغزالي وغيره
(1/253)
وسيأتي حديث صيام شهر رمضان في المدينة
كصيام ألف شهر فيما سواها وكون أهلها أول من يشفع لهم صلى الله عليه
وسلم واختصاصهم بمزيد الشفاعة والإكرام وجاء بعث الميت بها من الآمنين
وأنه يبعث من بقيعها سبعون ألفا على صورة القمر يدخلون الجنة بغير حساب
(1/254)
ومثله مقبرة بني سلمة وتوكل ملائكة بمقبرة
بقيعها كلما امتلأت أخذوا بأطرافها فكفؤها في الجنة وبعثه صلى الله
عليه وسلم منها وبعث أهلها من قبورهم قبل سائر الناس
(1/255)
واستحباب الدعاء بها في الأماكن التي دعا
بها صلى الله عليه وسلم وسيأتي بيانها ويقال انه مستجاب عند الأسطوان
المخلق وعند المنبر وبزاوية دار عقيل وبمسجد الفتح على ما سيأتي وكثرة
المساجد والمشاهد والمتبركات بها كما يتضح لك واستحقاق من عاب تربتها
للتعزيز أفتى مالك فيمن قال تربتها رديئة بأن يضرب ثلاثين درّة وأمر
بسجنه وكان له قدر وقال ما أحوجه غلى ضرب عنقه تربة دفن فيها النبي صلى
الله عليه وسلم يزعم أنها غير طيبة واستجاب الدخول لها من طريق والرجوع
من أخرى والاغتسال لدخولها وتخصيص أهلها بأبعد المواقيت
(1/256)
وذهب بعض السلف غلى تفضيل البداءة بها قبل
مكة وأن نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يبدؤون
بالمدينة إذا حجوا يقولون نبدأ من حيث أحرم رسول الله صلى الله عليه
وسلم وعن علقمة والأسود وعمرو بن ميون أنهم بدءوا بالمدينة وعن العبدي
من المالكية المشي إلى المدينة لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم
افضل من الكعبة
(1/257)
وسيأتي أن من نذر زيارة قبر النبي صلى الله
عليه وسلم لزمه الوفاء قولا واحدا وفي وجوب الوفاء بزيارة قبر غيره
وجهان ويكتفي بزيارته لمن نذر إتيان
(1/262)
مسجده كما قاله الشيخ أبو علي تفريعا على
القول بلزوم الإتيان كما في البويطي وعلى أنه لا بد من ضم قربه إلى
الإتيان كما هو الأصح والصحيح عدم لزوم الإتيان وجاء في سوقها أن
الجالب إليه كالمجاهد في سبيل الله وأن المحتكر فيه كالمخلد في كتاب
الله واختصت بظهور نار الحجاز المنذر بها من أرضها مع انطفائها عند
حرمها كما سيأتي
(1/264)
وبما تضمنه حديث الحاكم وغيره وصححه يوشك
الناس أن يضربوا كباد الإبل فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة وكان
ابن عيينة يقول نراه مالك بن انس وقيل ذلك وبما نقل عن مالك من أن
إجماع أهلها مقدم على خبر الواحد لسكناهم مهبط الوحي ومعرفتهم بالناسخ
والمنسوخ واختصاص أهلها في قيام رمضان بستة وثلاثين ركعة سوى الوتر على
المشهور عند الشافعية
(1/265)
قال الشافعي رأيت أهل المدينة يقومون بتسع
وثلاثين ركعة منها ثلاث الوتر ونقل الروياني
(1/267)
وغيره من الشافعي أن سببه إرادة أهل
المدينة مساواة أهل مكة فيما كانوا يأتون به من الطواف وركعتيه بعد
الترويحات فجعلوا مكان كل أسبوع ترويحة قال الشافعي ولا يجوز لغير
أهل المدينة أن يماروا أهل مكة ولا ينافسوهم لأن الله تعالى فضلهم على
سائر البلاد وقد بسطنا المسألة في كتابنا مصابيح القيام في شهر الصيام
وأهل المدينة اليوم يقومون بعشرين ركعة أول الليل وبستة عشر آخره ولم
أتحقق ابتداء وقت التفريق ويجعلون لكل من الصلاتين إماما ما غير الآخر
ويقتصرون على إقامة الوتر جماعة أول الليل فتفوت من عزم على القيام آخر
الليل وآخر وتره هذه السنة فذكرت لهم ذلك فصار إمام آخر الليل يوتر
بفرقته وأن اتحد الإمام قدم غيره فيه فيوتر بهم ثم غلبت الحظوظ النفسية
فتركوا ذلك بعد سنين ولا يخفى أن مكة تشارك المدينة في بعض ما سبق ومما
اشتركا فيه أن كلا منهما يقوم مقام المسجد الأقصى لمن نذر الصلاة أو
الاعتكاف فيه ولو نذرهما بمسجد المدينة لم يجزه الأقصى وأجزأ المسجد
الحرام بناء على زيادة المضاعفة به وإذا نذر المشي إليها قال ابن
المنذر يلزمه الوفاء وأن نذر المشي إلى بيت المقدس يخير بين الشي إليه
أو إلى أحدهما والذي رجحوه ما اقتضاه كلام البغوي من عدم لزوم المشي في
غير المسجد الحرام وإذا نذر تطيب مسجد المدينة والأقصى فتردّد فيه أمام
الحرمين واقتضى كلام الغزالي تخصيص التردّد بهما فإن نظر غلى التعظيم
ألحقناهما بالكعبة أو إلى امتياز الكعبة فلا " قلت " فينبغي الجزم بذلك
في نذر تطييب القبر الشريف والله أعلم. دينة أن يماروا أهل مكة ولا
ينافسوهم لأن الله تعالى فضلهم على سائر البلاد وقد بسطنا المسألة في
كتابنا مصابيح القيام في شهر الصيام وأهل المدينة اليوم يقومون بعشرين
ركعة أول الليل وبستة عشر آخره ولم أتحقق ابتداء وقت التفريق ويجعلون
لكل من الصلاتين إماما ما غير الآخر ويقتصرون على إقامة الوتر جماعة
أول الليل فتفوت من عزم على القيام آخر الليل وآخر وتره هذه السنة
فذكرت لهم ذلك فصار إمام آخر الليل يوتر بفرقته وأن اتحد الإمام قدم
غيره فيه فيوتر بهم ثم غلبت الحظوظ النفسية فتركوا ذلك بعد سنين ولا
يخفى أن مكة تشارك المدينة في بعض ما سبق
(1/268)
ومما اشتركا فيه أن كلا منهما يقوم مقام
المسجد الأقصى لمن نذر الصلاة أو الاعتكاف فيه ولو نذرهما بمسجد
المدينة لم يجزه الأقصى وأجزأ المسجد الحرام بناء على زيادة المضاعفة
به وإذا نذر المشي إليها قال ابن المنذر يلزمه الوفاء وأن نذر المشي
إلى بيت المقدس يخير بين الشي إليه أو إلى أحدهما والذي رجحوه ما
اقتضاه كلام البغوي من عدم لزوم المشي في غير المسجد الحرام وإذا نذر
تطيب مسجد المدينة والأقصى فتردّد فيه أمام الحرمين واقتضى كلام
الغزالي تخصيص التردّد بهما فإن نظر غلى التعظيم ألحقناهما بالكعبة أو
إلى امتياز الكعبة فلا " قلت " فينبغي الجزم بذلك في نذر تطييب القبر
الشريف والله أعلم.
(1/269)
|