زبدة الحلب في تاريخ حلب
القسم الثاني
حلب في صدر الإسلام
قنسرين
فلما افتتح المسلمون أجناد الشمام، وكانت وقعة اليرموك، وقتل
المسلمون فيها معظم الروم، وأمير المسلمين عليهم أبو عبيدة بن الجراح
رضي الله عنه انتقل هرقل من أنطاكية، وعبر الفرات إلى الرها، وجعل
بقنسرين ميناس الملك، وكان أكبر ملوك الروم بعد هرقل.
فسار أبو عبيدة بعد فراغه من اليرموك إلى حمص ففتحها، ثم بعث خالد بن
الوليد على مقدمته إلى قنسرين، فلما نزل بالحاضر زحف لهم الروم،
وثار أهل الحاضر بخالد بن الوليد، وعليهم " ميناس " وهو رأس الروم
وأعظمهم فيهم بعد هرقل فالتقوا بالحاضرة فقتل ميناس ومن معه مقتلة لم
يقتلوا مثلهما. ومات الروم على دمه حتى لم يبق منهم أحد.
وأما أهل الحاضر فكانوا من تنوخ، منذ أول ما تنخوا بالشام، ونزلوه وهم
(1/15)
في بيوت الشعر، ثم ابتنوا المنازل، فأرسلوا
إلى خالد: أنهم عرب، وأنهم لم يكن من رأيهم حربه، فقتل منهم، وترك
الباقين.
فدعاهم أبو عييدة بعد ذلك إلى الإسلام فأسلم بعضهم، وبقي البعض على
النصرانية، فصالحهم على الجزية. وكان أكثر من أقام على النصرانية بنو
سليح بن حلوان بن عمران ين الحاف بن قضاعة.
ويقال: إن جماعة من أهل ذلك الحاضر أسلموا في خلافة المهدي، فكتب على
أيديهم بالخضرة: قنسرين.
ثم إن خالداً سار فنزل على قنسرين، فقاتله أهل قنسرين، ثم لجؤوا إلى
حصنهم، فتحصنوا فيه، فقال: " إنكم لو كنتم في السحاب لحملنا الله عليكم
أو لأنزلكم إلينا " ثم إنهم نظروا في أمرهم، وذكروا ما لقي أهل حمص
فطلبوا منه الصلح، فصالحوه على حمص، فأبى إلا على إخراب المدينة
فأخربها.
وكان صلح حمص على دينار وطعام على كل جريب أيسروا أو أعسروا. وغلب
المسلمون على جميع أرضها وقراها، وذلك في سنة ست عشرة للهجرة.
حلب
ثم إن خالداً رضي الله عنه سار إلى حلب، فتحصن منه أهل حلب. وجاء أبو
عبيدة رضي الله عنه حتى نزل عليهم، فطلبوا إلى المسلمين الصلح والأمان،
فقبل منهم أبو عبيدة وصالحهم، وكتب لهم أماناً.
ودخل المسلمون حلب من " باب أنطاكية وحفوا حولهم بالتراس داخل الباب،
فبني ذلك المكان مسجداً، وهو المسجد المعروف بالغضائري، داخل باب
أنطاكية، ويعرف الآن بمسجد شعيب.
ولما توجه أبو عبيدة إلى حلب بلغه أن أهل قتسرين قد نقضوا فرد
إليهم السمط بن الأسود الكندي، فحصرهم ثم فتحها، فوجد فيها بقراً
وغنماً، فقسم بعضها فيمن حضر، وجعل الباقي في المغنم.
(1/16)
وكان حاضر قنسرين قديماً نزلوه بعد حرب
الفساد التي كانت بينهم حين نزل الجبلين من تزل منهم، فلما ورد أبو
عبيدة عليهم أسلم بعضهم، وصولح كثير منهم على الجزية، ثم أسلموا بعد
ذلك بيسير إلامن شذ منهم.
وكان بقرب مدينة حلب حاضر حلب يجمع أصنافاً من العرب من تنوخ وغيرهم،
فصالحهم أبو عبيدة على الجزية، ثم إنهم أسلموا بعد ذلك، وجرت بينهم
وبين أهل حلب حرب أجلاهم فيها أهل حلب، فانتقلوا إلى قنسرين.
وكانت قتسرين وحلب إذ ذاك مضافتين إلى حمص فأفردهما يزيد بن معاوية في
أيامه. وقيل: أفردهما معاوية أبوه.
خالد بن الوليد
ولما بلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما فعل خالد في فتح قنسرين وحلب،
قال: أمر خالد نفسه، يرحم الله أبا بكر، هو كان أعلم بالرجال مني. يعني
أن خالداً كان أمير المسلمين من جهة أبي بكر رضي الله عنه على الشام،
فلما ولي عمر عزله وولى أبا عبيدة.
ثم ولاه عمر رضي الله عنه على قنسرين فأدرب خالد وعياض بن غنم أول
مدربة كانت في الإسلام، سنة ست عشرة.
إمارة خالد
ورجع خالد، فأتته الامارة من عمر رضي الله عنه على قنسرين، فأقام خالد
أمير، تحت يد أبي عبيدة عليها، إلى أن أغزى هرقل أهل مصر في البحرة
وخرج على أبي عبيدة في عساكر الروم، وأبو عبيدة بحمص بعد رجوعه من فتح
حلب. فاستمد أبو عبيدة خالداً فأمده بمن معه، ولم يخلف أحداً، فكفر أهل
قنسرين بعده، وبايعوا هرقل وكان أكفر من هناك تنوخ.
واشتور المسلمون فأجمعوا على الخندقة والكتاب إلى عمر رضي الله عنه
بذلك. وأشار خالد بالمناجزة فخالفوه، وخندقوا. وكتبوا إلى عمر رضي الله
عنه واستصرخوه.
(1/17)
وجاء الروم بمددهم، فنزلوا على المسلمين،
وحصروهم. وبلغت أمداد الجزيرة ثلاثين ألفاً، سوى أمداد قنسرين، من تنوخ
وغيرهم، فنالوا من المسلمين كل منال. وكتب عمر رضي الله عنه إلى سعد بن
أبي وقاص يخبره بذلك، ويأمره أن يبث المسلمين في الجزيرة، ليشغلهم عن
أهل حمص. وأمده عمر
رضي الله عنه بالقعقاع ابن عمرو، فتوغلوا في الجزيرة، فبلغ الروم،
فتقوضوا عن حمص إلى مدائنهم.
وندم أهل قنسرين وراسلوا خالداً، فأرسل إليهم: " لو أن الأمر إلي ما
باليت بكم، كثرتم أم قللتم، لكني في سلطان غيري، فإن كنتم صادقين،
فانفشوا كما نفش أهل الجزيرة ". فساموا سائر تنوخ ذلك، فأجابوا،
وأرسلوا إلى خالد: " إن ذلك إليك، فإن شئت فعلنا وإن شئت أن تخرج علينا
فننهزم بالروم ". فقال: " بل أقيموا، فإذا خرجنا، فانهزموا بهم ".
فما علم أبو عبيدة، والمسلمون بذلك قالوا: " اخرج بنا " وخالد ساكت،
فقال أبو عبيدة: " مالك يا خالد، لا تتكلم " فقال: " قد عرفت الذي عليه
رأي، فلم تسمع من كلامي ". قال: لا فتكلم فإني أسمع منك، وأطيع. فأشار
بلقائهم.
فخرج المسلمون والتقوهم، فانهزم أهل قنسرين، والروم معهم. فاحتوى
المسلمون على الروم، فلم يفلت منهم أحد.
وما زال خالد على إمارة قنسرين حتى أعرب خالد وعياض، سنة سبع عشرة، بعد
رجوعهما من الجابية، مرجع عمر إلى المدينة، فأصابا أموالاً عظيمة.
وقفل خالد سالماً، غانماً، وبلغ الناس ما أصابوا تلك الصائفة، وقسم
خالد فيها ما أصاب لنفسه، فانتجعه رجال من أهل الآفاق، وكان الأشعث بن
قيس من انتجع خالداً بقنسرين، فأجازه بعشرة آلاف درهم.
عمر وخالد بن الوليد
وكان عمر لا يخفى عليه شيء في عمله، فكتب إليه من العراف بخروج من خرج
منها، ومن الشام بجائزة من أجيز فيها. فدعا البريد، وكتب معه إلى أبي
عبيدة: أن
(1/18)
يقيم خالداً، ويعقله بعمامته، وينزع عنه
قلنسوته. حتى يعلمكم من أين أجاز الأشعث، أمن ماله، أم من إصابة
أصابها. فإن زعم أنها من إصابة أصابها فقد أقر بخيانة، وإن زعم أنها من
ماله، فقد أسرف. واعزله على كل حال، واضمم إليك عمله.
فكتب أبو عبيدة إلى خالد فقدم عليه، ثم جمع الناس، وجلس لهم على
المنبر، فقام البريد فقال: " يا خالد، أمن مالك أجزت بعشرة آلاف، أم من
إصابة "؟ فلم يتكلم حتى أكثر عليه، وأبو عبيدة ساكت لا يقول شيئاً.
فقام بلال إليه فقال: " إن أمير المؤمنين أمر فيك بكذا وكذا ". ثم
تناول عمامته، فنقضها، لا يمنعه سمعاً وطاعة. ووضع قلنسوته، ثم أقامه
فعقله بعمامته، ثم قال: ما تقول، أمن مالك أم من إصابة ". قال: " لا بل
من مالي " فأطلقه، وأعاد قلنسوته، ثم عممه بيده. ثم قال: " نسمع ونطيع
لولاتنا، ونفخم ونحترم موالينا ".
وأقام خالد متحيراً، لا يدري أمعزول أم غير معزول. وجعل أبو عبيدة
يكرمه ويزيده تفخيماً ولا يخبره، حتى إذا طال على عمر أن يقدم ظن الذي
قد كان. فكتب إليه بالوصول.
فأتى خالد أبا عبيدة فقال: " رحمك الله ما أردت إلى ما صنعت، كتمتني
سراً كنت أحب أن أعلمه قبل اليوم لما. فقال أبو عبيدة: " إني والله ما
كنت لأروعك ما وجدت من ذلك بداً، وقد علمت أن ذلك يروعك ".
قال: فرجع خالد إلى قنسرين، فخطب أهل عمله، وودعهم. وقال خالد: " إن
عمر ولاني الشام حتى إذا ألقى بوانيه وصار بثنية وعسلاً عزلني، واستعمل
غيري ".
وتحمل وأقبل إلى حمص فخطبهم، وودعهم. وسار إلى المدينة حتى قدم على عمر
فشكاه، وقال: " لقد شكوتك إلى المسلمين وبالله إنك في أمري غير مجمل يا
عمر ". فقال عمر: " من أين هذا الثراء. فقال: " من الأنفال والسهمان ".
فقال: " ما زاد على الستين ألفاً فلك ". فشاطره على ما في يده وقوم
عروضه، فخرجت عليه عشرون ألفاً، فأدخلها بيت المال، ثم قال: يا خالد،
والله إنك لعلي
(1/19)
الكريم، وإنك إلي الحبيب، ولن تعاتبني بعد
اليوم على شيء. ثم إنه عوضه بعد ذلك عما أخذه منه.
ولاية حبيب بن مسلمة
واستعمل أبو عبيدة على قنسرين حبيب بن مسلمة بن مالك.
وأما هرقل فإنه تأخر من الرها إلى سميساط، وفصل عنها إلى القسطنطينية،
فلما فصل علا على شرف، والتفت، ونظر نحو سورية، وقال: " عليك السلام يا
سورية سلام لا اجتماع بعده، ولا يعود إليك رومي أبداً إلا خائفاً، حتى
يولد المولود المشئوم، ويا ليته لا يولد، ما أحلى فعله وأمر عاقبته على
الروم ".
وطعن أبو عبيدة رضي الله عنه سنة ثماني عشرة، فاستخلف على عمله عياض بن
غنم، وهو ابن عمه وخاله، وكان جواداً مشهوراً بالجودة فقال عمر: " إني
لم أكن مغيراً أمراً قضاه أبو عبيدة ".
ومات عياض سنة عشرين، فأمر عمر رضي الله عنه على حمص وقنسرين سعيد بن
عامر حذيم الجمحي ومات سنة عشرين. فأمر عمر مكانه عمير بن سعد بن عبيد
الأنصاري، على حمص وقنسرين.
ومات عمر رضي الله عنه مقتولاً في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، وعمير بن
سعد على حمص وقنسرين، ومعاوية على دمشق والسواحل وأنطاكية. فمرض عمير
في إمارة عثمان مرضاً طال به، فاستعفى عثمان، واستأذنه في الرجوع إلى
أهله، فأذن له.
(1/20)
وضم حمص وقنسرين إلى معاوية سنة ست وعشرين،
فاجتمع ولاية الشام جميعه على معاوية لسنتين من خلافة عثمان، فولى
معاوية حبيب بن مسلمة بن مالك الفهري على قنسرين وكان يسمى حبيب الروم
لكثرة غزوه لهم.
ومات عثمان رضي الله عنه مقتولاً في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين، والشام
مع معاوية، وحبيب على قنسرين، من تحت يده.
موقعة صفين
فجرى بين علي عليه السلام وبين معاوية اختلاف إلى أن سار كل منهما إلى
صاحبه، والتقيا بصفين، وذلك بعد سنة وشهر من خلافة علي، في سنة سبع
وثلاثين.
وكان علي في تسعين ألفاً ومعاوية في مائة ألف وعشرين ألفا، وقتل بها من
أصحاب علي خمسة وعشرون ألفاً، ومن أصحاب معاوية خمسة وأربعون ألفاً.
وكان مقامهما بصفين مائة يوم وعشرة أيام. وكانت الوقائع تسعين وقعة، ثم
اتفقا على التحكيم، والتقى الحكمان أبو موسى وعمرو بن العاص بأذرح في
شهر رمضان سنة ثمان وثلاثين.
(1/21)
|