زبدة الحلب في تاريخ حلب

القسم الرابع
حلب في العصر العباسي
خلافة أبي العباس
وبويع أبو العباس السفاح، في شهر ربيع الآخر من سنة اثنتين وثلاثين ومائة، بالكوفة. فسير عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس، في جمع عظيم، للقاء مروان بن محمد، وكان مروان في جيوش كثيفة، فالتقيا بالزاب من أرض الموصل، في جمادى الآخرة من سنة اثنتين وثلاثين ومائة. فهزم مروان واستولى على عسكره، وسار مروان منهزماً حتى عبر الفرات من جسر منبج فأحرقه.
فلما مر على قنسرين وثبت به طيء وتنوخ، واقتطعوا مؤخر عسكره ونهبوه، وقد كان تعصب عليهم، وجفاهم أيام دولته، وقتل منهم جماعة.
وتبعه عبد الله بن علي، وسار خلفه، حتى أتى منبج، فنزلها. وبعث إليه أهل حلب بالبيعة مع أبي أمية التغلبي.
وقدم عليه أخوه عبد الصمد بن علي، فقلده حلب وقنسرين. وسار عبد الله وعبد الصمد أخوه معه إليها، فبايعه أبو الورد مجزاة، بن الكوثر بن زفر الحارث الكلابي وكان من أصحاب مروان ودخل فيما دخل فيه الناس من الطاعة.
وسار عبد الله إلى دمشق، ثم بلغ خلفه إلى نهر أبي فطرس، وأتبعه بأخيه

(1/31)


صالح، حتى بلغ إلى الديار المصرية، خلف مروان بن محمد، فأدركه ببوصير فقتله، ثم عاد إلى دمشق بعده.
وذكر ابن الكلبي: وقدم بالس قائد من قواد عبد الله بن علي، في مائة وخمسين فارساً وتقدم إلى الناعورة فعبث بولد مسلمة بن عبد الملك ونسائهم وكانوا مجاورين أبا الورد بحصن مسلمة بالناعورة وببالس فشكا بعضهم ذلك إلى أبي الورد الكلابي، فخرج من مزرعته خساف في عدة من أهل بيته، وخالف وبيض، وجاء إلى الناعورة، والقائد المذكور نازل بحصن مسلمة بها، فقاتله حتى قتله ومن معه، وأظهر الخلع والتبييض، ودعا أهل حلب وقتسرين إلى ذلك فأجابوه. فبلغ ذلك عبد الله بن علي، وهو بدمشق، فوجه أخاه عبد الصمد بن علي، في زهاء عشرة آلاف فارس، ومعه ذؤيب بن الأشعث على حرسه،
والمخارق بن عفان على شرطه، فسار أبو الورد إليه، وجعل مقدم جيشه وصاحبه أبا محمد بن عبد الله بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، وأبو الورد مدبر الجيش، ولقيهم فهزم عبد الصمد ومن معه.
فلما قدم عبد الصمد على أخيه عبد الله أقبل عبد الله بن علي بعسكره لقتال أبي محمد وأبي الورد، ومعه حميد بن قحطبة، فالتقوا في سنة اثنتين وثلاثين ومائة، في آخر يوم من السنة، واقتتلوا بمرج الأجم، وثبت لهم عبد الله وحميد فهزموهم. وقتل أبو الورد. وأمن عبد الله بن علي أهل حلب وقتسرين وسودوا وبايعوا. ثم انصرف راجعاً إلى دمشق فأقام بها شهراً.
فبلغه أن العباس بن محمد بن عبد الله بن يزيد بن معاوبة بن أبي سفيان السفياني قد لبس الحمرة، وخالف، وأظهر المعصية بحلب، فارتحل نحوه حتى

(1/32)


وصل إلى حمص، فبلغه أن أبا جعفر المنصور وكان يومئذ يلي الجزيره، وأرمينية، وأذربيجان وجه مقاتل بن حكيم العكي من الرقة، في خيل عظيمة لقتال السفياني، وأن العكي قد نزل منبج، فسار عبد الله مسرعاً حتى نزل مرج الأجم، فبلغه أن العكي واقع السفياني وهزمه، واستباح عسكره، وافتتح حلب عنوة، وجمع الغنائم، وسار بها إلى أبي جعفر وهو بحران.
فارتحل عبد الله إلى دابق، وشتا بها، ثم نزل سميساط، وحصر فيها اسحاق ابن مسلم العقيلي، حتى سلمها ودخل في الطاعة.
ثم قدم أبان بن معاوية بن هشام بن عبد الملك، في أربعة آلاف من نخبة من كان مع إسحاق بن مسلم. فسير إليه حميد بن قحطبة، فهزم أباناً، ودخل سميساط، فسار إليها عبد الله، ونازلها حتى افتتحها عنوة.
وكتب إليه أبو العباس يأمره بالمسير إلى الناعورة، وأن يترك القتال، ويرفع السيف عن الناس، وذلك في النصف من رمضان سنة ثلاث وثلاثين ومائة.
وهرب أبو محمد ومن معه من الكلبية إلى تدمر ثم خرج إلى الحجاز، فظفر به وقتل، وكتب إليه السفاح أن يغزو بلاد الروم، فأتى دابق، فعسكر بها، وجمع، وتوجه إلى بلاد الروم.

خلافة أبي جعفر المنصور
فلما وصل دلوك يريد الإدراب، كتب إليه عامله بحلب يخبره بوفاة
السفاح وبيعة المنصور فرجع من دلوك، وأتى حران، ودعا إلى نفسه، وزعم أن السفاح جعله ولي عهده.
وغلب على حلب، وقنسرين، وديار ربيعة ومضر، وسائر الشام. ولم يبايع

(1/33)


المنصور. وبايعه حميد بن قحطبة وقواده الذين كانوا معه. وولى على حلب زفر بن عاصم بن عبد الله بن يزيد الهلالي أبا عبد الله، في سنة سبع وثلاثين مائة.
فسير المنصور أبا مسلم الخراساني صاحب الدعوة لقتال عبد الله بن علي، فسير عبد الله حميد بن قحطبة، وكتب له كتاباً إلى زفر بن عاصم إلى حلب، وفيه: " إذا ورد عليك حميد فاضرب عنقه ". فعلم حميد بذلك، فهرب إلى أبي مسلم الخراساني، خوفاً من عبد الله.
ثم سار أبو مسلم إلى عبد الله بن علي، فالتقيا، وانهزم عبد الله وعبد الصمد أخوه معه، فسار أبو مسلم خلفه فوصل إلى الرقة وأخذ منها أموال عبد الله، وتبعه رصافة هشام فانهزم عبد الله إلى البصرة، وتوارى عند أخيه سليمان بن علي، فأخذ له أماناً من المنصور، وسيره إليه، فحبسه إلى أن سقط عليه الحبس، فمات.
وقبض أبو مسلم على عبد الصمد بن علي، بالرصافة، وأخذ أمواله، وسيره إلى المنصور، فأمنه وأطلقه.
وورد كتاب المنصور على أبي مسلم بولاية الشام جميعه، وحلب وقنسرين، وأمر أن يقيم له في بلاده نواباً، ففعل أبو مسلم ذلك.
وسار إلى المنصور، فالتقاه في الطريق يقطين بن موسى، وقد بعثه المنصور إليه لإحصاء جميع ما وجدوا في عسكر عبد الله بن علي. فغضب أبو مسلم وقال: أنكون أمناء في الدماء وخونة في الأموال؟. ثم أقبل وهو مجمع على خلاف المنصور. فاستوحش المنصور منه، وقتله في سنة تسع وثلاثين ومائة.
ولما عاد أبو مسلم من الشام ولي المنصور حلب وقنسرين وحمص صالح بن علي بن عبد الله بن العباس سنة سبع وثلاثين ومائة، فنزل حلب، وابتنى بها خارج المدينة قصراً بقرية يقال لها بطياس بالقرب من النيرب،
وآثاره باقية إلى الآن. ومعظم أولاده ولدوا ببطياس. وقد ذكرها البختري وغيره في أشعارهم.
وأغزى الصائفة مع ابنه الفضل في سنة تسع وثلاثين ومائة بأهل الشام، وهي أول صائفة غزيت في خلافة بني العباس. وكانت انقطعت الصوائف في أيام بني أمية قبل ذلك بسنين.

(1/34)


وظهر في سنة إحدى وأربعين ومائة قوم يقال لهم الراوندية، خرجوا بحلب وحران. وكانوا يقولون قولاً عظيماً. وزعموا أنهم بمنزلة الملائكة. وصعدوا تلا بحلب، فيما قالوا ولبسوا ثياباً من حرير وطاروا منه فتكدوا وهلكوا. ودام صالح في ولاية حلب إلى أن مات في سنة اثنتين وخمسين ومائة.
ورأيت فلوساً عتيقة، فتتبعت ما عليها مكتوب فإذا أحد الجانبين مكتوب عليه: ضرب هذا الفلس بمدينة حلب سنة ست وأربعين ومائة. وعلى الجانب الآخر: " مما أمر به الأمير صالح بن علي أكرمه الله ".
ولما مات صالح بن علي تولى حلب وقنسرين بعده ولده الفضل بن صالح، واختار له العقبة بحلب، فسكنها وأقام بحلب والياً مدة. ثم ولى المنصور بعد موسى بن سليمان الخراساني. ومات المنصور سنة ثمان وخمسين،
وموسى على قنسرين وحلب. ورأيت فلوساً عتيقة فقرأت عليها: " ضرب هذا الفلس بقنسرين سنة سبع وخمسين ومائة ". وعلى الجانب الآخر: " مما أمر به الأمير موسى مولى أمير المومنين ".

خلافة المهدي
ولما ولي المهدي خرج عبد السلام بن هاشم الخارجي بالجزيرة، وكثر أتباعه فلقيه جماعة من قواد المهدي، فهزمهم، فبعث المهدي إليه جنوداً كثيرة، فهرب منهم إلى قنسرين، فلحقوه فقتلوه بها في سنة اثنتين وستين ومائة، وكان مقدم الجيش شبيباً.
وعزم المهدي على الغزو فخرج حتى وافى حلب سنة ثلاث وستين ومائة، والتقاه العباس بن محمد إلى الجزيرة، وأقام له النزل في عمله، واجتاز معه على

(1/35)


حصن مسلمة بالناعورة، فقال له العباس: " يا أمير المؤمنين، إن لمسلمة في أعناقنا مئة ". كان محمد بن علي مر به فأعطاه أربعة آلاف دينار، وقال له: " يا ابن عم، هذه ألفان لدينك وألفان لمعونتك، فإذا نفذت فلا تحتشمنا. فقال المهدي: " أحضروا من ههنا من ولد مسلمة ومواليه فأمر لهم بعشرين آلف دينار وأمر أن تجري عليهم الأرزاق.
ثم قال: " يا أبا الفضل كافينا مسلمة وقضينا حقه! قال العباس: نعم، وزدت ونزل المهدي بقصر بطياس ظاهر حلب. وولي المهدي حين قدم
قنسرين وحلب والجزيرة علي بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس حرباً وخراجاً وصلاة.
ثم إن المهدي عرض العسكر بحلب وأغزى ابنه هارون بلاد الروم وسير محتسب حلب عبد الجبار فأحضر له جماعة من الزنادقة فقتلهم بحلب. وولي حلب والشام جميعه ابنه هارون. وأمر كاتبه يحيى بن خالد أن يتولى ذلك كله بتدبيره، وكانت توليته في سنة ثلاث وستين ومائة.
ولما بويع الهادي أقر أخاه ويحي على حالهما.

خلافه هارون الرشيد
فلما أفضى الأمر إلى الرشيد ولي حلب وقنسرين عبد الملك بن صالح بن علي ابن عبد الله، فأقام بمنبج، وابتنى بها قصراً لنفسه وبستاناً إلى جانبه، ويعرف البستان يومنا هذا ببستان القصر، وكانت ولايته سنة خمس وسبعين، ثم صرفه لأمر عتب عليه فيه.
ثم ولاها الرشيد موسى بن عيسى سنة ست وسبعين ومائة. ومر الرشيد على

(1/36)


عبد الملك بمنبج فأدخله منزله بها. فقال له الرشيد: " هذا منزتك. قال هو لك ولي بك. قال: فكيف هو؟ قال: دون منازل أهلي وفوق منازل الناس. قال: " فكيف طيب منبج؟ قال: " عذبة الماء، عذبة الهواء، قليلة الأدواء ". قال: فكيف ليله؟ قال: سحر كله وهاجت الفتنة بالشام بين النزارية واليمانية، فولى الرشيد موسى بن يحيى ابن خالد في هذه السنة الشام جميعه، فأقام به حتى أصلح بينهم.
ثم ولاها الرشيد جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك سنة ثمان وسبعين،
وتوجه إليها سنة ثمانين، واستخلف عليها عيسى بن العكي.
ثم إن الرشيد ولى حلب وقنسرين إسماعيل بن صالح بن علي لما عزله عن مصر سنة اثنتين وثمانين ومائة، وأقطعه ما كان له بحلب في سوقها وهي الحوانيت التي بين باب أنطاكية إلى رأس الدلبه وعزله وولاه دمشق.
ثم ولى الرشيد بعده عبد الملك بن علي ثانية، فسعى به ابنه عبد الرحمن إلى الرشيد، وأوهمه أنه يطمع في الخلافة فاستشعر منه، وقبض عليه في سنة سبع وثمانين ومائة.
وولى على حلب وقنسرين ابنه القاسم بن هارون، وأغزاه الروم ووهبه لله تعالى في سنة سبع وثمانين ومائة.
ورابط القاسم بدابق هذه السنة والتي بعدها. وقيل: إن الرشيد لما غضب على عبد الملك بن صالح ولى أخاه عبد الله بن صالح ثم عزله سنة ثمان وثمانين وولى القاسم بن هارون ابنه. وقيل: إن أحمد بن إسحاق بن إسماعيل بن علي بن عبد الله ابن العباس ولي قنسرين للرشيد، وقد كان ولي له مصر، وعزله عنها سنة تسع وثمانين، فلا أتحقق ولايته في أي سنة كانت.
وقد ذكر بعضهم: أن عبد الله بن صالح توفي ببغداد في أيام المنصور.

(1/37)


وقال بعضهم: إنه توفي بسلمية في سنة ست وثمانين. فعلى هذا يكون الذي ولاه الرشيد ابن ابنه عبد الله بن صالح بن عبد الله بن صالح، والله أعلم.
ثم إن الرشيد ولى حلب وقنسرين خزيمة بن خازم بن خزيمة، من قبل ابنه القاسم بن الرشيد، في سنة ثلاث وتسعين ومائة. ولم يزل القاسم بن الرشيد في ولاية حلب وقنسرين حتى مات أبوه الرشيد في سنة ثلاث وتسعين ومائة في جمادى الآخرة فأقره أخوه الأمين عليها وجعل معه قمامة بن أبي زيد وولي خزيمة بن خازم الجزيرة.

خلافة الأمين
ثم إن محمداً الأمين عزل أخاه القاسم بن الرشيد عن حلب وقنسرين والعواصم وسائر الأعمال التي ولاه أبوه سنة أربع وتسعين ومائة، وولاها خزيمة ابن خازم في هذه السنة.
ثم ولى الأمين حلب وقنسرين والجزيرة عبد الملك بن صالح بن علي، فخرج إليها، واجتمعت إليه العرب في سنة ست وتسعين ومائة. وهذه الولاية الثالثة لعبد الملك. وكان الأمين قد أخرجه من حبس أبيه حين مات سنة ثلاث وتسعين ومائة في ذي القعدة.
واستمر عبد الملك في هذه الولاية إلى أن مات في سنة ست وتسعين ومائة بالرقة، ودفن في في دار من دور الإمارة. وكان يرى الأمين ما فعله به. فلما خلع الأمين حلف عبد الملك إن مات الأمين لا يعطي المأمون طاعة، فمات قبل الأمين فبقيت في نفس المأمون إلى أن خرج إلى الغزاة، ووجد قبر عبد
الملك في دار الإمارة فأرسل إلى ابن عبد الملك: حول أباك من داري فنبشت عظامه وحول.

(1/38)


ثم ولي خزيمة بن خزيمة حلب وقنسرين في سنة سبع وتسعين ومائة. وقيل إن الوليد بن طريف ولي حلب وقنسرين بعد عبد الملك بن صالح، وبعده ورقاء عبد عبد الملك ثم بعده يزيد بن مزيد، ثم استأمن إلى طاهر بن الحسين.

خلافة المأمون
فلما قتل الأمين وبويع المأمون ولي حلب والشام جميعه طاهر بن الحسين، وجعل إليه حرب نصر بن شبث فتحصن بكيسوم فقصده طاهر فلم يظفر به ولقيه، فكسر طاهر وعاد مفلولاً وذلك في سنة ثمان وتسعين ومائة. ثم أضاف إليه ولاية مصر وإفريقية في سنة أربعة ومائتين. ثم ولاه خراسان سنة ست. وولي ابنه عبد الله مصر والشام جميعه، وأمره بمحاربة نصر بن شبث في سنة ست ومائتين.
وتوفي طاهر بخراسان سنة سبع ومائتين، فأضاف المأمون ولايته إلى ابنه عبد الله مع الشام. فسار عبد الله بن طاهر إلى الشام من الرقة واحتوى على الشام جميعه. وهدم سور معرة النعمان. وهدم معظم الحصون الصغار مثل
حصن الكفر وحصن حناك وغير ذلك. ونزل بكيسوم وبها نصر بن شبث فحصره إلى أن ظفر

(1/39)


به، وخرج إليه بأمان. وخرب حصن كيسوم بعد وقائع كثيرة جرت بينه وبين نصر ابن شبث، وسار إلى مصر، وذلك كله في سنة تسع ومائتين.
ولما فتح مصر فى سنة إحدى عشرة ومائتين كتب المأمون إليه:
أخي أنت ومولاي ... ومن أشكر نعماه
فما أحببت من أمر ... فإني الدهر أهواه
وماتكره من شيء ... فاني لست أرضاه
لك الله على ذاك ... لك الله لك الله
ودامت ولاية عبد الله بن طاهر إلى سنة ثلاث عشرة ومائتين، ووجهه المأمون إلى خراسان، وعزله عن الشام، وولى ابنه العباس بن المأمون حلب وقنسرين والعواصم والثغور، وأمر له بخمسمائة آلف دينار في سنة ثلاث عشرة ومائتين ثم ولاها المأمون إسحاق بن إبراهيم بن مصعب بن زريق وعزل ابن العباس في سنة أربع عشرة ومائتين. ثم إن المأمون عزل إسحاق بن إبراهيم في هذه السنة وولاه مصر وأعاد ابنه العباس إليها ثانية.
ثم ولى المأمون حلب وقنسرين ورقة الطريفي وأظنه مع العباس
وكانت لورقة حركة أيام الفتنة.
فلما قدم المأمون حلب للغزاة ونزل بدابق، في سنة خمس عشرة ومائتين، لقيه عيسى بن علي بن صالح الهاشمي فقال له: يا أمير المؤمنين أيلينا أعداؤنا في أيام الفتنة وفي أيامك. فقال: " لا ولا كرامة. فصرف ورقة.
وولي عيسى بن علي بن صالح نيابة عن ولده العباس فيما أرى، فوجد عنده

(1/40)


من الكفاية والضبط وحسن السيرة ما أراد فقدمه وكبر عنده وأحبه. وكان المأمون كلما غزا الصائفة لقيه عيسى بن علي بالرقة ولا يزال معه حتى يدخل الثغور ثم يرد عيسى إلى عمله.
وولى المأمون في سنة خمس عشرة ومائتين قضاء حلب عبيد بن جناد بن أعين مولى بني كلاب، فامتنع من ذلك، فهدده على الامتناع فأجاب.
ثم ولى المأمون عبيد الله بن عبد العزيز بن الفضل بن صالح لما غزا الصائفة في سنة ثمان عشرة ومائتين العواصم. وفيها مات المأمون وإنما وليها عبيد الله عن العباس بن المأمون في غالب ظني فإن العباس ولي حلب وقنسرين والجزيرة من سنة أربع عشرة ومائتين إلى أن توفي أبوه المأمون بالبدندون من أرض طرسوس.

خلافة المعتصم
وبويع أبو إسحاق المعتصم فأقر العباس بن المأمون على ولايته وكان الجند قد شغبوا وطلبوا العباس ونادوه باسم الخلافة، فأرسل المعتصم إليه، وأحضره فبايعه، وخرج إلى الناس وقال لهم: ما هذا الحدث البادر قد بايعت عمي فسكنوا. وسار المعتصم إلى بغداد والعباس معه، فلما توجه المعتصم إلى الغزاة ومر بحلب، في سنة ثلاث وعشرين ومائتين، ودخل إلى بلاد الروم اجتمع به بعض الجند ووبخه على ما فعل من إعطاء المعتصم الخلافة، وحسن له تدارك الأمر، فاستمال جماعة من القواد وعزموا أن يقبضوا على المعتصم وهو داخل إلى الغزاة فلم يمكنهم العباس. وقال: " لا أفسد على الناس غزاتهم.
فنمى الخبر إلى المعتصم فقبض على العباس، وعلى من ساعده على ذلك،

(1/41)


وهو عائد من الغزاة، فلما وصل إلى منبج سأل العباس الطعام وكان جائعاً فقدم إليه طعام كثير فأكل. فلما طلب الماء منع وأدرج في مسح فمات بمنبج في ذي القعدة، من سنة ثلاث وعشرين ومائتين، وصلى عليه بعض إخوته ودفن بمنبج. وولى المعتصم حلب وقنسرين حربها وخراجها وضياعها عبيد الله بن عبد العزيز بن الفضل بن صالح بن علي الهاشمي، ثم إنه ولى أشناس التركي الشام جميعه والجزيرة ومصر، وتوجه وألبسه وشاحين بالجوهر في سنة خمس وعشرين ومائتين.
ونظر في صلات المعتصم لأشناس فوجد مبلغها أربعين ألف ألف درهم. وأظن أنه بقي في ولايته إلى أن مات سنة ثلاثين ومائتين في أيام الواثق.

خلافة الواثق
وولى الواثق عبيد الله بن عبد العزيز بن الفضل بن صالح الهاشمي حلب وقنسرين حربها وخراجها وضياعها، وأظنه كان متولياً في أيام المعتصم من جهة أشناس، فأقره الواثق على ولايته.
وولى الواثق قنسرين وحلب والعواصم، بعد عبيد الله، محمد بن صالح بن عبد الله بن صالح فكانت سيرته غير محمودة. وكان أحمر أشقر، فلقب: سماقة لشدة حمرته. ويقال: إنه أول من أظهر البرطيل بالشام، وأوقع عليه هذا الاسم، وكان لا يعرف قبل ذلك إلا الرشوة على غير إكراه. وكان أكثر الناس سكوتاً وأطولهم صمتاً لا يكاد يسمع له كلام إلا في أمر يأمر به، أو قول يجيب عنه.
وكان قاضي حلب في أيامه أبا سعيد عبيد بن جناد الحلبي توقي سنة إحدي وثلاثين ومائتين، وكان المأمون ولاه قضاء حلب. وله يقول عمرو بن هوبر الكلبي في قصيدة يغض منه، أولها:
لا در در زمانك المتنكس ... الجاعل الأذناب فوق الأرؤس

(1/42)


ما أنت إلا نقمة في نغمة ... أو أصل شوك في حديقة نرجس
يا قبلة ذهبت ضياعاً في يد ... ضرب الآله بنانها بالنقرس
من سر أبطح مكة آباؤه ... وجدوده وكأنه من قبرس
وهذا عمرو بن هوبر كان من معراثا البريدية من ضياع معرة النعمان وولي في أيام المتوكل معرة مضرين وقتل بها.
وكان الواثق قد ولى الثغور والعواصم دون حلب وأعمالها أحمد بن سعيد بن سلم بن قتيبة، وأمره بحضور الفداء مع خاقان وصاحب الروم ميخائيل، فأمضى الفداء سنة إحدى وثلاثين ومائتين.
ثم إنه غزا شاتياً فأصاب الناس شدة فوجد الواثق عليه بسبب ذلك، وعزله وولاها نصر بن حمزة الخزاعي.

خلافة المتوكل
وولي الشارباميان، في أول أيام المتوكل على حلب وقنسرين والعواصم، واليين أنا ذاكرهما. وكان الشارباميان أحد قواد المتوكل وكان خصيصاً عنده. فإما أن يكون المتوكل ولاه جند قنسرين والعواصم أو أنه كان السلطان في أيام المتوكل فكان أمر الولاية إليه. فإنني قرأت في كتاب نسب بني صالح بن علي قال: وولى الشارباميان جند قنسرين والعواصم علي بن إسماعيل بن صالح بن علي أبا طالب،

(1/43)


وإنما أراد أن يتزين به عتد المتوكل فامتنع من قبول ولايته، فأعلمه إن لم يفعل كتب فيه إلى الخليفة فقبلها وأقام على ولاية جند قنسرين والعواصم، حتى مات. فكانت أيامه أحسن أيام وسيرته أجمل سيرة، وكان علي بن إسماعيل إذا خرج إلى العواصم استخلف ابنه محمد بن علي على قنسرين وحلب فلا يفقد الناس من أبيه
شيئاً. قال: وولى الشارباميان جند قنسرين والعواصم عيسى بن عبيد الله بن الفضل بن صالح بن علي الهاشمي.
قال: وولى المتوكل طاهر بن محمد بن إسماعيل بن صالح على المظالم بجند قنسرين والعواصم، والنظر في أمور العمال، وجاءته الولاية منه فألفاه الرسول في مرضه الذي مات فيه. وجعل المتوكل ولاية عهده إلى ابنه محمد المنتصر وولاه قنسرين، والعواصم، والثغور وديار مضر، وديار ربيعة، والموصل، وغير ذلك في سنة خمس وثلاثين ومائتين، فاستمر في الولاية إلى أن قتل أباه وكانت الولاة من قبله.

خلافة المنتصر
وفي أيام ولايته حلب في سنة اثنتين وأربعين ومائتين وقع طائر أبيض دون الرحمة وفوق الغراب على دلبة بحلب لسبع مضين من رمضان، فصاح: يا معشر الناس، الله الله حتى صاح أربعين صوتاً. ثم طارة وجاء من الغد فصاح أربعين صوتاً. وكتب صاحب البريد بذلك وأشهد خمسمائة انسان سمعوه. ولا يبعد عندي أن تكون الدلبة التي ينسب إليها رأس الدلبة.
وسمع في هذه السنة أصوات هائلة من السماء، وزلزلت نيسابور،
وتقلعت جبال من أصولها، ونبع الماء من تحتها، ووصلت الزلزلة إلى الشام والثغور.
وأظن أن نائب المنتصر في جند قنسرين في حياة المتوكل كان بغا الكبير فلما قتل المتوكل قدم بغا عليه. وسير المنتصر وصيفاً إلى الثغر الشامي فأقام به إلى أن مات.

(1/44)


خلافة المستعين
وولى المستعين في سنة خمسين ومائتين قنسرين وحلب وحمص موسى بن بغا، وتوجه إليها حين عاث أهل حمص على الفضل بن قارن. ثم ولي حلب والعواصم أبو تمام ميمون بن سليمان حدقة بن عبد الملك بن صالح في أيام المستعين، وكانت له حركة وبأس في فتنة المستعين.
وعصى أهل حلب وأقاموا على الوفاء للمستعين ببيعتهم، فقدم عليهم أحمد المولد محاصراً لهم فلم يجيبوه إلى ما أراد من البيعة للمعتز. وكان السفير بينه ويينهم الحسين بن محمد صالح بن عبد الله بن صالح أبا عبيد الله الهاشمي.

خلافة المعتز
فلما بايعوا بعد ذلك للمعتز وانقضى أمر المستعين ولاه أحمد المولد جند قنسرين وحلب، في سنة اثنتين وخمسين ومائتين، فأقام مدة يسيرة، ثم انصرف إلى سلمية أعني الحسين بن محمد.
وولي حلب وقنسرين والعواصم صالح بن عبيد الله بن عبد العزيز بن الفضل ابن صالح، في فتنة المستعين، وكان له سعي وتقدم ورئاسة.
ثم ولي بعده، فيما أرى، أبو ميمون بن سليمان بن عبد الملك بن صالح.
وهذه ولاية ثانية له، ومات بالرقة. ثم ولي بعده ثانية صالح بن عبيد الله بن عبد العزيز بن الفضل بن صالح الهاشمي وانقضت ولاية بني صالح الهاشميين.
ثم ولي حلب وقتسرين في أيام المعتز أبو الساج ديوداذ في شهر ربيع

(1/45)


الأول، سنة أربع وخمسين ومائتين، وبقي والياً إلى أن تغلب أحمد بن عيسى بن شيخ على الشامات في أيام المهتدي.

خلافة المعتمد
فلما مات، وولي المعتمد سير إلى ابن شيخ بولاية أرمينية، على أن ينصرف عن الشام آمناً فأجاب إلى ذلك، ورحل عنها في سنة ست وخمسين ومائتين.
ووليها أحمد بن طولون، مع أنطاكية وطرسوس وغيرها من البلاد وكان أحمد ابن طولون شهماً شجاعاً عاقلاً، وكان على مربطه أربعة آلاف حصان، وكانت نفقته في كل يوم آلف دينار.
فعقد المعتمد لأخيه أبي أحمد الملقب بالموفق على حلب وقنسرين والعواصم، في شهر ربيع الأول سنة ثمان وخمسين ومائتين. ثم ولاه بغداد، واليمن، وخراسان، وولى الشام لابنه جعفر وجعل له ولاية العهد، وهو صبي، وجعل الأمر بعده لأخيه أبي أحمد.
فولى أبو أحمد الموفق سيما الطويل أحد قواد بني العباس ومواليهم حلب والعواصم. فابتنى بظاهر مدينة حلب داراً حسنة، وعمل لها بستاناً. وهو الذي يعرف الآن ببستان الدار ظاهر باب أنطاكية. وبهذه الدار سميت المحلة التي بباب أنطاكية الدارين، إحدى الدارين هذه، والدار الأخرى
بناها قبله محمد بن عبد الملك بن صالح، فعرفت المحلة بالدارين لذلك. وإحدى الدارين تعرف

(1/46)


بالسليمانية على حافة نهر قويق، وحاضر السليمانية بها يعرف وهو حاضر حلب. وجدد سيما الطويل الجسر الذي على نهر قويق قريباً من داره. وركب عليه باباً أخذه من قصور بعض الهاشميين بحلب يقال له: قصر البنات. وأظن أن درب البنات بحلب يعرف به، وأظن القصر يعرف بأم ولد كانت لعبد الرحمن بن عبد الملك بن صالح اسمها بنات وهي أم ولده داود.
وسمى سيما الباب باب السلامة وهو الباب الذي ذكره الواساني في قصيدته الميمية التي أولها:
يا ساكني حلب العوا ... صم جادها صوب الغمامه
وفي سيما الطويل يقول البختري:
فردت إلى سيما الطويل أمورنا ... وسيما الرضا في كل أمر يحاوله
فعصى أحمد بن طولون على أبي أحمد الموفق، وأظهر خلعه ونزل إلى الشام، فانحاز سيما الطويل إلى أنطاكية فحصره أحمد بن طولون بها فألقت
عليه امرأة حجراً وقيل قوقاً فقتلته. وقيل بل قتله عسكر ابن طولون، وكان ذلك في سنة أربع وستين أو سنة خمس وستين ومائتين واستولى أحمد بن طولون على حلب والشام جميعه منابذاً لأبي أحمد الموفق، وكان قاضي حلب في أيامه عبيد الله بن محمد بن عبد العزيز بن عبد الله أبو بكر القاضي العمري. ودام على قضائها إلى أن مات أحمد.
وكان سيما حين صارت له حلب قد قصد جماعة من الأشراف من بني صالح ابن علي بالأذى، واستولى على أملاكهم، وأودع بعضهم السجن. فلما ولي أحمد بن طولون قال صالح بن محمد بن اسماعيل بن صالح بن علي الهاشمي الحلبي، يمدحه ويشكره، ويذكر ظفره بسيما بقصيدة يقول فيها:

(1/47)


وقد لبستنا من قذا الجور ذلة ... ودار بنا كيد الأعادي فأحدقا
وحكم فينا عاند فجرت له ... أفاعيل غر تترك اللب أخلقا
إلى أن أتيحت بابن طولون رحمة ... أشار إلى معصوصب فتفرقا
فدتك بنو العباس من ناصر لها ... أنار به قصد السبيل فأشرقا
بنيت لهم مجداً تليداً بناؤه ... فلم نر بنياناً أعز وأوثقا
منحتهم صفو الوداد ولم يكن ... سواك ليعطي الود صفواً مزوقا
تجوز منك العبد لما قصدته ... وأسكن أشراف الأقاوم مطبقا
بلا ترة أسدوا إليه وإنما ... يجازي الفتى يوماً على ما تحققا
وهيهات ما ينجيه لو أن دونه ... ثمانين سوراً في ثمانين خندقا
ثم إن أحمد بن طولون توجه إلى مصر، وولى مملوكه لؤلؤ حلب في سنة ست وستين، فخرج بكار الصالحي من ولد عبد الملك بن صالح، بنواحي حلب بينها وبين سلمية، ودعا إلى أبي أحمد الموفق في سنة ثمان وستين، فحاربه ابن العباس الكلابي فهزم الكلابي ووجه إليه لؤلؤ قائداً يقال له أبو ذر، فرجع وليس معه كبير أحد. ثم إن لؤلؤ ظفر به فقبض عليه.
ثم إن لؤلؤ الطولوني خالف مولاه أحمد بحلب، وعصى عليه في سنة تسع وستين، وكاتب أبا أحمد الموفق في المسير إليه فأجابه إلى ذلك. وقطع لؤلؤ الدعاء لمولاه أحمد مدنه جميعها: حلب، وقنسرين، وحمص، وديار مضر، وترك أهل الثغور الدعاء لابن طولون، وأخرجوا نائبه منها وهموا بقبضه، فهرب. فنزل أحمد بن طولون من مصر في مائة آلف فقبض على حرم لؤلؤ وباع ولده وأخذ ما قدر عليه مما كان له، وهرب لؤلؤ منه ولحق بأبي أحمد طلحة بن المتوكل وهو على محاربة العلوي البصري عميد الزنج.

(1/48)


ولؤلؤ هو الذي قتل علوي البصرة في سنة تسع وستين ومائتين. وبقي لؤلؤ ببغداد إلى أن قبض عليه الموفق، وقيده في سنة ثلاث وسبعين ومائتين، فوجد له أربعمائة ألف دينار. فذكر لؤلؤ الطولوني أنه لا يعرف لنفسه ذنبا إلا كثرة ماله وأثاثه.
ولما انحدر لؤلؤ من الرقة كان معه من السفن والخزائن زهاء ثلاثمائة خزانة.
ولما هرب لؤلؤ من مولاه إلى العراق في جمادى الأولى من السنة، اجتاز ببالس، وبها محمد بن العباس بن سعيد الكلابي أبو موسى، وأخوه سعيد فأسرهما. ثم إن ابن طولون وصل إلى الثغور، فأغلقوها في وجهه، فعاد إلى أنطاكية ومرض. فولى على حلب عبد الله بن الفتح، وصعد إلى مصر مريضاً، فمات سنة سبعين ومائتين.
وولي ابنه أبو الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون، فولى في حلب أبا موسى محمد بن العباس بن سعيد الكلابي، في سنة إحدى وسبعين ومائتين. ونزل أبو الجيش من مصر إلى حلب، وكاتب أبا أحمد بن المتوكل بأن يولى حلب ومصر وسائر البلاد التي في يده، ويدعى له على منابرها، فلم يجبه إلى ذلك، فاستوحش من الموفق.
وولى في حلب القائد أحمد بن ذو غباش، وصعد إلى مصر فوصل إلى حلب إسحاق بن كنداج، وكان يلي ديار ربيعة، ومحمد بن أبي الساج، وكان يلي ديار مضر، فولاه الموفق حلب وأعمالها، وكتبا إلى العراق يطلبان نجدة تصل إليهما، فإن ابن جيعويه وغيره من قواد ابن طولون بشيزر.
فسير الموفق ابنه أبا العباس أحمد بن طلحة، وكان قد جعل إليه ولاية عهده، فوصل إلى حلب في ربيع الآخر من سنة إحدى وسبعين
ومائتين، وكان فيها محمد ابن ديوداذ بن أبي الساج، المعروف بالأفشين حينئذ والياً، وسار إلى قنسرين، وهي

(1/49)


يومئذ لأخي الفصيص التنوخي وهي عامرة وحاضر طيء لطيء وعليها أيضاً سور، وقلعتها عامرة.
وسار إلى شيزر، فكسر العسكر المقيم، وسار إلى أن تواقع المعتضد وخمارويه على الطواحين، بقرب الرملة، وكانت الغلبة أولاً لأبي العباس المعتضد، فهرب خمارويه بمن خف معه إلى مصر، ونزل أبو العباس بخيمة خمارويه، وهو لا يشك في الظفر، فخرج كمين لخمارويه، فشدوا عليهم وقاتلوهم، فانهزموا، وتفرق القوم.
ورجع الأمير أبو العباس إلى أن انتهى إلى أنطاكية، وكان محمد بن ديوداذ المعروف بالأفشين بن أبي الساج قد فارق أبا العباس لكلام أغلظ له فيه أبو العباس، فجاء قبل وقعة الطواحين، واستولى على حلب، ومعه إسحاق بن كنداج.
وسار أبو العباس من أنطاكية إلى طرسوس فأغلقها أهلها دونه، ومنعوه من دخولها فسار إلى مرعش، ثم إلى كيسوم، ثم إلى سميساط، وعبر الفرات، ونكب عن حلب لاستيلاء الأقشين عليها وكان قد جرت بينهما وحشة.
ونزل خمارويه إلى حلب، فصالحه الأفشين وصار في جملته، ودعا له
على منابر أعماله، وحمل إليه خمارويه مائتي آلف دينار ونيفاً وعشرين آلف دينار لوجوه أصحابه، وعشرين ألف دينار لكاتبه، وذلك في سنة ثلاث وسبعين ومائتين. وأعطاه ابن أبي الساج ولده رهينة على الوفاء بعهده، فراسل خمارويه أبا أحمد الموفق، وسأله الصلح فأجابه إلى ذلك، وولاه مصر، وأجناد الشام، وقنسرين، وحلب، والعواصم، والثغور.
وصعد أبو الجيش إلى مضر، وكان أبو الجيش قد أعطى ابن أبي الساج يوم دفع ولده إليه ما مبلغه ثلاثون ألف دينار، فقال ابن أبا: خدعكم محمد بن ديوداذ، إذ أعطاكم بولة يبول مثلها في كل ليلة مرات، وأخذ منكم ثلاثين ألف دينار.
ثم إن ابن أبي الساج نكث عهده مع أبي الجيش، وعاث في نواحي الأعمال

(1/50)


التي له، في ذي القعدة من سنة أربع وسنعين ومائتين، فخرج إليه أبو الجيش. والتقيا بالثنية، من أعمال دمشق فانهزم ابن أبي الساج واستبيح عسكره قتلاً وأسراً، ففي ذلك يقول البحتري:
وقد تدلت جيوش النصر منزلة ... على جيوش أبي الجيش بن طولونا
يوم الثنية إذ ثنى بكرته ... خمسين ألفاً رجالاً أو يزيدونا
وكتب إلى ابن الساج يوبخه، ويقول له: كان يجب يا قليل المروءة والأمانة أن نصنع برهنك ما أوجبه غدرك! معاذ الله أن تزر وازرة وزر أخرى.
ورجع أبو الجيش إلى مصر في سنة خمس وسبعين ومائتين. فعاد محمد بن ديوداذ، وعاث عليه في أطراف بلاده، فقصده فانهزم بين يديه، فوصل ابن طولون خلفه إلى الفرات. وهرب ابن أبي الساج، ولحق بأبي أحمد الموفق، فانضم إليه فخلع عليه، وأخرجه معه إلى الجبل، وذلك في سنة ست وسبعين ومائتين فولى أبو الجيش على حلب غلام أبيه ظغج بن جف والد الإخشيد أبي برك محمد بن طغج.
ودعا يازمار، والي الثغور لخمارويه بطرسوس والثغور، وحمل إليه خماروية خمسين ألف دينار، وحمل إليه قبل الدعاء له ثلاثين آلف دينار ليتفقها في سبيل الله ومائة وخمسين ثوباً ومائة وخمسين دابة وسلاحاً كثيراً وذلك في سنة سبع وسبعين ومائتين.

(1/51)


خلافة المعتضد
ورجع أبو الجيش إلى مصر، ومات المعتمد بعد ذلك في سنة تسع وسبعين فولي الخلافة أبو العباس أحمد بن طلحة المعتضد، فبايعه أبو
الجيش بن طولون وخطب له في عمله. وسير إليه هدية ستية مع الحسين بن الجصاص. وطلب منه أن يزوج ابنته من علي بن المعتضد، فقال المعتضد بل أنا أتزوجها فتزوجها المعتضد وهي قطر الندى.
وقيل: إنه دخل معها مائة هاون ذهب فى جهازها، وإن المعتضد دخل خزانتها، وفيها من المنائر والأباريق، والطاسات، وغير ذلك من الآنية الذهب. فقال: يا أهل مصر، ما أكثر صفركم. فقال له بعض القوم: يا أمير المؤمنين، إنما هو ذهب.
وزفت إلى المعتضد مع صاحب أبيها الحسين بن عبد الله بن الجصاص. فقال المعتضد لأصحابه: أكرموها بشمع العنبر فوجد في خزانة الخليفة أربع شمعات من عنبر، في أربعة أتوار فضة.
فلما كان وقت العشاء، جاءت إليه وقدامها أربعمائة وصيفة، في يد كل واحدة منهن تور ذهب وفضة، وفيه شمعة عنبر. فقال المعتضد لأصحابه: أطفئوا شمعنا واسترونا.
وكانت إذا جاءت إليه أكرمها بأن يطرح لها مخدة: فجاءت إليه، يوماً فلم يفعل ما كان يفعله بها. فقالت: أعظم الله أجر أمير المؤمنين. قال:
فيمن؟. قالت: في عبده خمارويه تعني أباها فقال لها: " أو قد سمعت بموته؟ قالت: لا ولكني لما رأيتك قد تركت إكرامي علمت أته قد مات أبي. وكان خبره قد وصل إلى المعتضد، فكتمه عنها. فعاد إلى إكرامه لها بطرح المخدة في كل الأوقات.
وقتل خمارويه بدمشق في سنة ثمانين ومائتين، وحلب في ولاية طغج بن جف من قبله وأظن أن قاضي حلب بعد أيام أحمد بن طولون حفص بن عمر قاضي

(1/52)


حلب. وولي مكان خمارويه ولده جيش بن خمارويه، وطغج في حلب على حاله. وعزل القواد جيش بن خمارويه، وولوا أخاه هارون بن خمارويه، فولى طغج بن جف حلب على حاله، وسير إلى المعتضد رسولاً يطلب منه إجراءه على عادة أبيه في البلاد التي كانت في ولايته، فلم يفعل.
وسير رسولاً إلى هارون، فاستنزله عن حلب وقنسرين، والعواصم، وسلم لهارون مصر وبقية الشام، واتفق الصلح مع المعتضد وهارون على ذلك، في جمادى الأولى من سنة ست وثمانين ومائتين.
وكان هارون قد ولى قضاء حلب وقنسرين أبا زرعة محمد بن عثمان الدمشقي، فقلد المعتضد حلب وقنسرين ولده أبا محمد علي بن أحمد في هذه السنة.
وولى بحلب من قبل ابنه الحسن بن علي المعروف بكوره الخراساني، وإليه تنسب دار كوره، التي داخل باب الجنان بحلب، والحمام المجاورة لها. وقد خربت الآن ولم يبق لها أثر.
وكان كاتب علي بن المعتضد يومئذ الحسين بن عمرو النصراني، فقلده النظر في هذه النواحي
وسار المعتضد، في سنة سبع وثمانين ومائتين، خلف وصيف خادم ابن أبي الساج إلى الثغور إل أن لحقه. فضم عمل الثغور أيضاً إلى كوره، وعاد إلى أنطاكية، ووصيف معه.
ثم رحل إلى حلب، فأقام بها يومين، ووجد لوصيف بعد أسره في بستان بحلب مال كان دفنه وهو بها مع مولاه مبلغه ستة وخمسون آلف دينار فحمل إلى المعتضد ثم رحل إلى بغداد، فمات في شهر ربيع الآخر سنة تسع وثمانين ومائتين.

(1/53)


خلافة المكتفي
وتولى الخلافة ولده أبو محمد، ولقب بالمكتفي، فصرف الحسن بن علي
كوره عن ولايته، وولى حلب أحمد بن سهل النوشجاني، في جمادى الآخرة سنة تسع وثمانين ومائتين. ثم صرفه عنها سنة تسعين ومائتين.
وولى حلب في هذه السنة أبا الأغر خليفة بن المبارك السلمي، ووجهه إليها لمحاربة القرمطي صاحب الخال لعنه الله، فإنه كان قد عاث في البلاد وغلب على حمص، وحماة، ومعرة النعمان، وسلمية. وقتل أهلها وسبى النساء والأطفال.
فقدم أبو الأغر حلب في عشرة آلاف فارس، فأنفذ القرمطي سرية إلى حلب، فخرج أبو الأغر إلى وادي بطنان، فلما استقر وافاه جيش القرمطي، يقدمه المطوق غلامه وكبسهم، وقتل عامة أصحابه وخادماً جليلاً يقال له بدر القدامي.
وسلم أبو الأغر في ألف رجل، فصار إلى قرية من قرى حلب، وخرج إليه ابنه في جماعه من الرجالة والأولياء، فدخل إلى حلب وأقام القرامطة على مدينة حلب على سبيل المحاصرة.
فلما كان يوم الجمعة، سلخ شهر رمضان من سنة تسعين ومائتين، تسرع أهل مدينة حلب إلى الخروج للقاء القرامطة فمنعوا من ذلك، فكسروا قفل الباب، وخرجوا إلى القرامطة، فوقعت الحرب بين الفئتين، ورزق الله الحلبيين النصر عليهم. وخرج أبو الأغر فأعانهم، فقتل من القرامطة خلق كثير.
وخرج أبو الأغر يوم السبت يوم عيد الفطر إلى المصلى، وعيد بأهل حلب، وخطب الخطيب، وعادت الرعية على حال سلامة، وأشرف أبو الأغر على القرامطة، فلم يخرج منهم أحد إليه، ثم أنهم رحلوا إلى صاحبهم، في سنة ثلاثمائة.
ثم إن المكتفي ولى حلب الحسين بن حمدان بن حمدون عم سيف الدولة،

(1/54)


فعاثت عليه العرب من كلب واليمن وأسد وغيرهم فاجتمعوا بنواحي حلب، فخرج للقائهم، في شهر رمضان من سنة أربع وتسعين ومائتين، فهزموه حتى بلغوا به باب حلب، وجرى بينه وبين القرامطة، في هذه السنة وقعة كسرهم فيها واستأصلهم.
ثم إنه عزل عن حلب، وولي عيسى غلام النوشري، وكان المكتفي قد صار إلى الرقة في سنة إحدى وتسعين ومائتين، وكان وجه بمحمد بن
سليمان صاحب الجيش إلى حلب والشام في عشرين ألف فارس وراجل، لمحاربة الطولونية والقرامطة، وفتح مصر. فقدم محمد بن سليمان حلب في أواخر سنة تسعين، والوالي بها على الحرب عيسى غلام النوشري، فدخلها محمد في أحسن تعبئة وزي. وأقام بها أياماً وطالب عمال الخراج بحمل المال، وقصده رؤساء بني تميم وبني كلاب.
فأمر عيسى والي حلب أن يستخلف على عمله ويشخص معه إلى مصر فامتثل أمره، واستخلف على حلب ولده، وأتفق في جنده، ورحل في آخر شوال معه. فلما وافى معرة النعمان خلع عليه، وحمله، وولاه بلده إلى حدود حماة، ولقيهم القرامطة بين تل منس وكفر طاب، في عشرة آلاف فارس، فنصره الله عليهم، وانهزموا وقتل الرجالة، وأسر أكثر الخيالة.
وصار محمد بن سليمان إلى مصر، وافتتحها من يد الطولونية، عند قتل هارون بن خمارويه، واستولى على أموالها. ثم ضم إلى طغج بن جف الطولوني أربعة آلاف رجل، وولاه حلب، وأخرجه عن مصر.
فلما صار إلى حلب وجد بها ابن الواثقي، وقد أنفذه السلطان إلى حلب لعرض جيوش الواردين من مصر، وذلك في سنة اثنتين وتسعين
ومائتين. فعرض ابن الواثقي جيشه لما وصل إلى حلب، وأمره بالنفوذ إلى بغداد، فرحل حتى وافى مدينة السلام.

(1/55)


وكذلك ورد حلب جماعة من القواد الطولونية، فعرضهم وتوجهوا إلى بغداد.
ووافى وصيف البكتمري وابن عيسى النوشري صاحب حلب بغداد، يوم الاثنين لثلاث عشرة ليلة بقيت من شعبان سنة اثنتين وتسعين ومائتين، ومعهما طغج، وأخوه، وابن لطغج، فخلع عليهم وطوق منهم البكتمري وابن عيسى النوشري.
ثم شخص عيسى النوشري عن مصر إلى حلب، لأنه كان واليها. فلما كان بعد شخوصه إليها بأيام، ورد كتاب العباس بن الحسن الوزير بتولية عيسى النوشري مدينة مصر، ويؤمر محمد بن سليمان بالشخوص إلى طرسوس للغزو. فوجه محمد ابن سليمان من لحق عيسى بالرملة فرده، وورد إلى عيسى كتاب من السلطان بذلك فعاد والياً على مصر.
وولى المكتفي في هذه السنة أبا الحسن ذكا بن عبد الله الأعور، حلب، ودام بها إلى سنة اثنتين وثلاثمائة. وكان كريماً يهب ويعطي وإليه تنسب دار ذكا التي هي الآن دار الزكاة. وإلى جانبها دار حاجبه فيروز فانهدمت وصارت تلا يعرف بتل فيروز فنسفه السلطان الملك الظاهر رحمه الله في أيامه، وظهر فيه بقايا من الذخائر مثل الزئبق وغيره وهو موضع سوق الصاغة الآن. ولأبي بكر الصنوبري الشاعر فيه مدائح كثيرة.
وعاد محمد بن سليمان إلى حلب، ووافاه مبارك القمي بكتب يؤمر فيها
بتسليم الأموال، وركب إليه ذكا الأعور صاحب حلب، وأبو الأغر وغيرهما. فاختلط بهم وسار معهم إلى المدينة، فأدخلوه إلى الدار المعروفة بكوره، بباب الجنان، ووكلوا به في الدار.
وشخص ذكا عن حلب لمحاربة ابن الخلنج مع أبي الأغر إلى مصر ووجه بمحمد بن سليمان مقبوضاً إلى بغداد.

خلافة المقتدر
وتوفي المكتفي سنة خمس وتسعين ومائتين، وولي أخوه أبو الفضل المقتدر.
وعاثت بنو تميم في بلد، حلب، وأفسدت فساداً عظيماً، وحاصروا ذكا

(1/56)


بحلب فكتب المقتدر إلى الحسين بن حمدان في إنجاد ذكا بحلب، فأسري من الرحبة حتى أناخ عليهم بخناصرة، وأسر منهم جماعة، وانصرف ولم يجتمع بذكا. ففي ذلك يقول شاعر من أهل الشام:
أصلح ما بين تميم وذكا
أبلج يشكي بالرماح من شكا
يدل بالجيش إذا ما سلكا
كأنه سليكة بن السلكا
وكان وزير ذكا وكاتبه أبا الحسن محمد بن عمر بن يحيى النفري
الكاتب، وإليه ينسب حمام النفري، وهي الآن داثرة. وداره هي المدرسة النورية، ومدحه الصنوبري.
ثم إن المقتدر عزل ذكا عن حلب، وولاه دمشق ثم مصر إلى أن مات. وقيل إن المقتدر ولى حلب مولاه تكين الخادم أبا منصور ثم عزله عنها. والصحيح أنه ولى الشام ومصر مؤنس المظفر الخادم نيابة عن ابنه أبي العباس، فقدم إلى حلب وصعد إلى مصر.
وولى مؤنس ذكا الأعور دمشق ومصر، وعزله عن حلب، وولى الأمير أبا العباس أحمد بن كيغلغ حلب سنة اثنتين وثلاثمائة وكان على قضاء حلب سنة تسعين محمد بن محمد الجدوعي.
ثم ولي القضاء بحلب وقنسرين محمد بن أبي موسى عيسى الضرير الفقيه، في سنة سبع وتسعين ومائتين. وشخص إلى عمله لأربع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر.
ثم صرف محمد بن عيسى عن قضاء حلب وقنسرين، في سنة ثلاثمائة بأبي حفيص عمر بن الحسن بن نضر الحلبي القاضي. وكانت داره بسوق السراجين. وعزل أبو حفيص عن القضاء في حلب سنة اثنتين وثلاثمائة. ووليها أبو عبد الله محمد بن عبده بن حرب.
وتوفي عمر بن الحسن القاضي سنة سبع وثلاثمائة، وكان محمد بن عبده بن حرب قاضياً بها سنة خمس وثلاثمائة.

(1/57)


ثم تولى قضاء حلب وحمص إبراهيم بن جعفر بن جابر أبو إسحاق الفقيه، في سنة ست وثلاثمائة. وولي الخراج من قبل المكتفي بحلب الحسن بن الحسن بن رجاء بن أبي الضحاك. وتوفي بحلب في جمادى الأولى سنة إحدى وثلاثمائة فجأة. وولي الخراج بعده علي بن أحمد بن بسطام والانفاق عبد الله بن محمد بن سهل، ثم توفي سنة اثنتين وثلاثمائة، وتولى مكانه محمد بن الحسن بن علي الناظري.
وكان أبو العباس بن كيغلغ أديباً شاعراً، جواداً، وهو الذي مدحه المتنبي بقوله:
كم قتيل كما قتلت شهيد
ومن شعر الأمير أحمد بن كيغلغ قوله:
قلت له، والجفون قرحى، ... قد أقرح الدمع ما يليها
مالي في لوعتي شبيه ... قال: وأبصرت لي شبيهاً
ثم ولى مؤنس المظفر حلب أبا قابوس محمود بن حبك الخراساني، وكان جباراً، قاسياً، منحرفاً عن أهل البيت. وقيل: هو محمود بن حمل، فدام والياً بها إلى سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة.
وكان مؤنس المظفر بالشام، فاستدعي إلى بغداد لقتال القرمطي، فسار
إليها وولى حلب وصيف البكتمري الخادم سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة. ثم عزله عنها سنة ست عشرة وثلاثمائة.
ووليها في هذه السنة هلال بن بدر أبو الفتح، غلام المعتضد وكان أمير دمشق قبل ذلك، ثم عزل عن حلب، وولى قطربل وسامرا في سنة سبع عشرة، فوليها في هذه السنة وصيف البكتمري ثانية.
ومات بحلب على ولايته يوم الثلاثاء لثمان خلون من ذي الحجة من سنة سبع عشرة وثلاثمائة.
وكان كاتبه عبد الله والد أبي العباس أحمد بن عبد الله الشاعر المعروف بابن

(1/58)


كاتب البكتمري، فوليها الأمير أحمد بن كيغلغ ثانية إلى سنة ثماني عشرة وثلاثمائة. ثم ولى مؤنس المظفر غلامه طريف بن عبد الله السبكري الخادم، في سنة تسع عشرة وثلاثمائة، وكان ظريفاً شهماً شجاعاً، وحاصر بني الفصيص في حصونهم باللاذقية وغيرها، فحاربوه حرباً شديداً حتى نفد جميع ما كان عندهم من القوت والماء، فنزلوا على الأمان فوفى لهم، وأكرمهم، ودخلوا معه حلب مكرميم معظمين، فأضيفت إليه حمص مع حلب.

خلافة القاهر بالله
ثم إن القاهر قبض على مولاه مؤنس المظفر، وتولى طريف قبضه، وأحضره إلى القاهر في سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، فرأى له ذلك. وولى القاهر بشرى الخادم دمشق وحلب، وسار إلى حلب ثم إلى حمص، فكسره ابن طغج وأسره، وخنقه. ووصل أبو العباس بن كيغلغ إلى حلب فاتفق مع محمد بن طغج وحالفه.

خلافة الراضي
وولي الخلافة الراضي بعد القاهر. وكان الراضي قد خاف على بدر الخرشني من الحجرية أن يفتكوا به، فقلده حلب وأعمالها، وهي بيد طريف سنة أربع وعشرين، وأمره بالمسير من يومه. فسار وبلغ طريف، فأنفذ صاحباً له إلى ابن مقلة، وبذل له عشرين آلف دينار ليجدد له العهد، وأن لا يصرف من حلب ووصل الخرشني فدافعه طريف، رجاء أن يقضي ابن مقلة وطره، فزحف بدر

(1/59)


الخرشني، والتقى طريف في أرض حلب، فانهزم طريف من بين يديه.
وتسلم بدر حلب، وأقام بها مدة يسيرة ثم كوتب من الحضرة بالإنصراف فرجع إلى الحضرة، وقفد طريف حلب مرة ثالثة، فقلد طريف السبكري من جهته حلب والعواصم فأقام بها إلى سنة أربع وعشرين وثلاثمائة، وكان قاضي حلب عبيد الله بن عبد الرحمن ابن أخي الإمام.
ثم ولي حلب أبو العباس أحمد بن سعيد بن العباس الكلابي، ومدحه أبو بكر الصنوبري، وكان بها نائباً عن أبي بكر الإخشيذ محمد بن طغج بن جف في غالب طني فإن الإخشيذ استولى على الشام إلى سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة. وفي ولاية أبي العباس الكلابي، وردت بنو كلاب إلى الشام من أرض نجد، وأغارت على معرة النعمان، فخرج إليهم والي المعرة معاذ بن سعيد بجنده، وتبعهم إلى البراغيثي، فعطفوا عليه، وأسروه وأكثر جنده. وأقام فيهم مدة يعذبونه، فخرج إليهم أبو العباس أحمد بن سعيد الكلابي والي حلب، فخلصه منهم. وكان ورودهم في سنة خمس وعشرين وثلاثمائة.
ثم إن الراضي قدم الموصل، وكان أبو بكر محمد بن رائق ببغداد، وبينه وبين بجكم وحشة، فأنفذ الراضي أبا الحسين عمر بن محمد القاضي إلى أبي

(1/60)


بكر محمد بن رائق يخيره في أحد البلدين واسط أو حلب وأعمالها، فاختار حلب، وأراد بذلك البعد عن بجكم. فأجابه الراضي إلى ذلك، وخلع عليه أبو جعفر وأبو الفضل ابنا الراضي وعقدا له.
وجعل بجكم يحث الراضي على الوصول إلى بغداد، ويتأسف على خروج ابن رائق منها ليشفي غيظه، فقال له الراضي: هذا لا يصلح، وهذا رجل أمنته، وقلدته ناحية من النواحي، فسمع وأطاع وما أمكنك منه.
فخرج أبو بكر بن رائق في شهر ربيع الآخر من سنة سبع وعشرين وثلاثمائة. وقيل: دخل حلب في سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة. وسار عنها إلى قتال الإخشيذ محمد بن طغج بن جف الفرغاني، وولى في حلب نيابة عنه خاصة محمد بن يزداذ.

خلافة المتقي
وجرت بين أبي بكر بن رائق والإخشيد وقعة انهزم فيها الإخشيذ، وسلم دمشق إلى ابن رائق، واقتصر على الرملة ومصر.
ثم وقع بينهما وقعة أخرى في الجفار، أسر فيها أبو الفتح مزاحم بن محمد ابن رائق، فرجع في عدة يسيرة حتى يخلص ابنه، فقتل أبو نصر بن طغج، فكفنه ابن رائق، وجعله في تابوت، وأنفذه إلى أخيه الإخشيذ مع ابنه مزاحم، وقال: ما أردت قتل أخيك، وهذا ولدي قد أنقذته إليك لتقيده به. فخلع الإخشيذ عليه، وأعطاه مالاً كثيراً، ورده. وذلك في سنة تسع وعشرين وثلاثمائة.
ثم أن أبا بكر محمد بن طغج الإخشيذ سير كافوراً الخادم من مصر، ومعه عسكر وفي مقدمته أبو المظفر مساور بن محمد الرومي، أحد قواد الإخشيذ فوصل

(1/61)


إلى حلب، فالتقى كافور ومحمد بن يزداذ الوالي بحلب
من قبل ابن رائق، فكسره كافور، وأسره، وأخذ منه حلب، وولى بها مساور بن محمد الرومي، وعاد كافور إلى مصر.
وهذا أبو المظفر مساور بن محمد الرومي مدحه المتنبي بقوله:
أمساور أم قرن شمس هذا ... أم ليث غاب يقدم الأستاذا
يريد الأستاذ: كافوراً الخادم. وذكر فيها كسره بن يزداذ فقال:
هبك ابن يزداذ حطمت وصحبه ... أترى الورى أضحوا بني يزداذا
ومساور هو صاحب الدار المعروفة بدار ابن الرومي بالزجاجين بحلب، وتعرف أيضاً بدار ابن مستفاد، وهي شرقي المدرسة العمادية التي جددها سليمان بن عبد الجبار بن أرتق بحلب، وهي المنسوبة إلى بني العجمي.
وأظن أن قاضي حلب في هذا التاريخ كان أبا طاهر محمد بن محمد بن سفيان الدباس أو قبل هذا التاريخ.
ثم اتفق الإخشيذ ومحمد بن رائق على أن يخلي له الإخشيذ حمص وحلب ويحمل إليه مالاً، وزوج الإخشيذ ابنته بمزاحم بن أبي بكر بن رائق.
وقتل ناصر الدولة أبو محمد الحسن بن عبد الله بن حمدان أبا بكر بن رائق في رجب سنة ثلاثين وثلاثمائة بين يدي المتقي يوم الإثنين لتسع بقين منه.
وكان ابن رائق شهماً مقداماً سخياً جواداً، لكنه كان عظيم الكبر، مستبداً برأيه، منزوعاً من التوفيق والعصمة والتسديد.
وكان أحمد بن علي بن مقاتل بحلب من جهة أبي بكر بن رائق ومعه ابنه مزاحم بن محمد بن رائق. فقلد ناصر الدولة علي بن خلف ديار مضر والشام، وأنفذ معه عسكراً وكاتب يأنس المؤنسي أن يعاضده.

(1/62)


وكان يأنس يلي ديار مضر من قبل ناصر الدولة فسار إلى جسر منبج وسار أحمد بن مقاتل ومزاحم إلى منبج، فالتقوا على شاطىء الفرات.
وسير يأنس كاتبه ونذيراً غلامه برسالة إلى ابن مقاتل، فاعتقلهما ووقعت الحرب بين الفئتين، ولحق يأنس جراح كادت تتلفه فعدل به إلى قلعة نجم ليشده. ونظر نذير غلامه وهو معتقل في عسكر ابن مقاتل، على بغل إلى شاكري ليأنس معه جنيبة مق خيله، فأخذ سيف الشاكري، وركب الجنيبة، وصار إلى ابن مقاتل فقتله وانهزم عسكره.
وأفاق يأنس المؤنسي، فسار وعلي بن خلف متوجهين إلى حلب. وتلاوم قواد ابن مقاتل على هزيمتهم، فعادوا إلى القتال في وادي بطنان، فانهزموا ثانية، وملك علي بن خلف ويأنس المؤنسي حلب في سنة ثلاثين وثلاثمائة.
ثم إن علي بن خلف سار منها إلى الإخشيذ محمد بن طغج، فاستوزره وعلا أمره معه، إلى أن رآه يوماً، وقد ركب في أكثر الجيش بالمطارد والزي،
ومحمد جالس في متنزه له، فأمر بالقبض عليه، فلم يزل محبوساً إلى أن مات محمد بن طغج. فأطلق وبقي يأنس المؤنسي والياً على حلب في سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة.
وكان يأنس هذا مولى مؤنس المظفر الخادم، وتولى الموصل في أيام القاهر.
وكان يلي ديار مضر من قبل ناصر الدولة إلى أن كان من أمره ما ذكرناه. فاستأمن، إلى الإخشيذ، ودعا له على المنابر بعمله.
واتفق ناصر الدولة بن حمدان وتوزون، في سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة، على أن تكون الأعمال من مدينة الموصل إلى آخر أعمال الشام لناصر الدولة، وأعمال السن إلى البصرة لتوزون وما يفتحه من وراء ذلك، وأن لا يعرض أحد منهما لعمل الآخر.
فولى ناصر الدولة حلب وديار مضر والعواصم أبا بكر محمد بن علي بن مقاتل صاحب ابن رائق في شهر ربيع الأول من سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة، ووافق

(1/63)


ناصر الدولة أبا محمد بن حمدان على أن يؤدي إليه إذا دخل حلب خمسين ألف دينار.
فتوجه أبو بكر من الموصل ومعه جماعة من القواد، ولم يصل إليها فوقع بين الأمير سيف الدولة بن حمدان وبين ابن عمه أبي عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان كلام بالموصل وأراد القبض عليه.
فقلد ناصر الدولة أبا عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان، أخا الأمير أبي فراس، حلب وأعمالها، وديار مضر، والعواصم، وكلما يفتحه من الشام، فتوجه في أول شهر رجب سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة، ودخل الرقة بالسيف لأن أهلها حاربوه مع أميرها محمد بن حبيب البلزمي، فأسره وسمله، وأحرق قطعة من البلد وقبض على رؤساء أهله، وصادرهم.
وتوجه إلى حلب ومعه أبو بكر محمد بن علي بن مقاتل، وبحلب يأنس المؤنسي وأحمد بن العباس الكلابي، فهربا من بين يديه من حلب، وتبعهما إلى معرة النعمان ثم إلى حمص.
وهرب أمير حمص إسحاق بن كيغلغ بين يديه، وملك هذه البلاد ودانت له العرب، ثم عاد إلى حلب، وأقام بها إلى أن وافى الإخشيذ أبو بكر محمد بن طغج ابن جف الفرغاني.
وإنما لفب بالإخشيذ لأن ملك فزغانه يتسمى بذلك، وكان أبوه من أهل فرغانه.
وقدمها الإخشيذ في ذي الحجة من سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة. ولما دنا الإخشيد من حلب انصرف الحسين بن حمدان عنها لضعفه عن محاربته إلى الرقة. وكان ابن مقاتل مع ابن حمدان بحلب، فلما أحس بقرب الإخشيذ منها وتعويل ابن حمدان على الإنصراف استتر في منارة المسجد الجامع إلى أن انصرف ابن حمدان.
ودخل الإخشيذ فظهر له ابن مقاتل، واستأمن إليه، وقلده الإخشيذ أعمال الخراج والضياع بمصر.

(1/64)


وأما الحسين بن سعيد، فإنه لما وصل إلى الرقة وجد المتقي لله بها هارباً من توزون التركي وقد تغلب على بغداد، وسيف الدولة أبو الحسن علي بن عبد الله ابن حمدان مع المتقي بالرقة، وقد فارق أخاه ناصر الدولة لكلام جرى بينهما. فلم يأذن المتقي لأبي عبد الله الحسين في دخول الرقة، وأغلقت أبوابها دونه، ووقعت المباينة بينه وبين ابن عمه سيف الدولة، وسفر بينهما في الصلح، فتم ومضى إلى حران ومنها إلى الموصل.
وقذم الإخشيذ عند حصوله بحلب مقدمته إلى بالس، وسار بعدها بعد أن سير المتقي أبا الحسن أحمد بن عبد الله بن إسحاق الخرقي يسأل الإخشيذ أن يسير إليه ليجتمع معه بالرقة، ويحدد العهد به، ويستعين به على نصرته، ويقتبس من رأيه. فلما وصل أبو الحسن إلى حلب تلقاه الإخشيذ، وأكرمه، وأظهر السرور والثقة بقرب المتقي، وأنفذ من وقته مالاً مع أحمد بن سعيد الكلابي إلى المتقي، وسار خلفه حتى نزل وبينه وبين المتقي الفرات، فراسله المتقي بالخرقي، وبوزيره أبي الحسين بن مقلة، فعبر إليه يوم الخمسين لثلاث عشرة ليلة خلت من المحرم سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة.
ووقف بين يدي المتقي لله، ثم ركب المتقي لله فمشى بين يديه، وأمره أن يركب فلم يفعل، وحمل إليه هدايا ومالاً كثيراً، وحمل إلى الوزير أبي الحسين بن مقلة عشرين آلف دينار ولم يدع أحداً من أصحاب المتقي وحواشيه وكتابه إلا بره ووصله.

خلافة المستكفي
واجتهد بالمتقي لله أن يسير معه إلى الشام ومصر، فأبى فأشار عليه بالمقام مكانه، وضمن له أن يمده بالأموال فلم يفعل، إلى أن كاتبه توزون، وخدعه، وقبض عليه وبايع المستكفي.

(1/65)


وكتب المتقي عهداً للإخشيذ بالشامات ومصر على أن الولاية له ولأبي القاسم أنوجور ابنه إلى ثلاثين سنة.
وكتب الإخشيذ في هذه السفرة إلى عبده كافور الخادم إلى مصر وقال له: ومما يجب أن تقف عليه أطال الله بقاءك أني لقيت أمير المؤمنين بشاطىء الفرات فأكرمني، وحباني، وقال: كيف أنت يا أبا بكر أعزك الله، فرحاً بأته كناه، والخليفة لا يكني أحداً.

(1/66)