طبقات صلحاء اليمن تاريخ البريهي
القَوْل فِي ذكر من تحققنا حَاله من أهل
لحج وعدن وَمن توفّي هُنَاكَ مِمَّن وَفد إِلَيْهَا
فَمنهمْ القَاضِي الْأَجَل الإِمَام الْعَلامَة جمال الدّين مُحَمَّد
بن عبد الرَّحْمَن العواجي الْمَالِكِي وصل جده الْفَقِيه مُحَمَّد بن
أبي الْقَاسِم من عواجه إِلَى قَرْيَة بِنَا أبه الَّتِي تسميها
الْعَامَّة منيبة أَيَّام السُّلْطَان الْمُجَاهِد فولد لَهُ بهَا عبد
الرَّحْمَن وَعبد الله فَمن أَوْلَاد عبد الرَّحْمَن الإِمَام جمالد
الدّين مُحَمَّد الْمَذْكُور كَانَ فَقِيها عَالما فَاضلا لَهُ فِي علم
الْأَدَب الْيَد الطُّولى وَمن الفصاحة وَالْقُدْرَة عل جزالة القَوْل
وبراعة النّظم مَا إِلَيْهِ النِّهَايَة فَكَانَ مَسْكَنه بناأبه يدرس
ويفتي فانتهت إِلَيْهِ الرِّئَاسَة هُنَالك وَلما اشتهرت القصيدة
الَّتِي أَنْشَأَهَا الشَّيْخ شهَاب الدّين أَحْمد بن مُحَمَّد بن
خمرطاش الْمَشْهُورَة الَّتِي أَولهَا
فَقَالَ فِيهَا
(تأوب الْقلب تباريح الجوى ... وعاده عَائِد شوق قد نوى)
يمدح بهَا قحطان ويعرب والأوس والخزرج من الْأَنْصَار وذم قُريْشًا
وَهِي نَحْو
(1/320)
ثلاثمئة بَيت وَعشْرين بَيْتا فَانْتدبَ
للجواب عَلَيْهَا جمَاعَة جود فِيهَا وَطول ثمَّ أَن القَاضِي جمال
الدّين مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن العواجي الْمَذْكُور أَولا رد على
ابْن خمرطاش كَلَامه بمقصورة سَمَّاهَا النفحة الروحانية والدرة
العدنانية وَفِي ضمنهَا مدح قُرَيْش وَذكر جودهم وهجا فِيهَا غَسَّان
وَمن انْتَمَى إِلَيْهِم من قحطان ويعرب وَغَيرهم وَهِي نَحْو ستمئة
بَيت ونيف وَسبعين بَيْتا فَانْتدبَ للجواب عَلَيْهِ الشَّيْخ عَليّ بن
حسن الخزرجي المؤرخ بقصيدة سَمَّاهَا الروحة اليعربية والنفحة الخزرجية
مدح بهَا غَسَّان وَكَانَت لَهُ المكانة الْعَالِيَة عِنْد السُّلْطَان
الْأَشْرَف مُوَافقَة لَهُ من تَعْظِيم نِسْبَة كَمَا هُوَ ينتسب إِلَى
غَسَّان
وَقد أَتَى فِي الْجَواب قبل النّظم بِخطْبَة بليغة نثرا فَلم يقدر
العواجي يرد عَلَيْهِ جَوَابا من السُّلْطَان وَقد انتدب للجواب
جمَاعَة مِنْهُم الإِمَام جمال الدّين مُحَمَّد بن عَليّ الرَّاعِي
البَجلِيّ شَاعِر الدولة الْأَفْضَلِيَّة بقصيدة قَالَ فِي أَولهَا
(إِنْكَار فضل رجال الْفضل نُقْصَان ... لَا يمتري فِيهِ إنسي وَلَا
جَان)
وَقد صوب الْعلمَاء كَلَام من رد على ابْن خمرطاش والخزرجي وضعفوا
كَلَام من انتصر لَهما هَذَا كُله وَالْإِمَام جمال الدّين العواجي فِي
رِبَاط هقرة خَائِف من السُّلْطَان وَكَانَ ينشر الْعلم فِي التدريس
وَالْفَتْوَى فَنقل الثِّقَة عَنهُ أَنه قَالَ رَأَيْت النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فتفل فِي فِي قَالُوا فازداد بلاغة تعبرات حَسَنَة
لَا يقدر عَلَيْهَا غَيره ثمَّ إِن صَاحب هقرة شفع للْقَاضِي
الْمَذْكُور فَقبل شَفَاعَته وَلم يُعَاقب القَاضِي جمال الدّين
بِشَيْء مِمَّا ذمّ بِهِ غَسَّان وَإِنَّمَا قَالَ لَهُ عِنْد وُصُوله
إِلَيْهِ يَا قَاضِي جمال الدّين قطعت الشَّجَرَة من أَصْلهَا
فَاعْتَذر إِلَيْهِ القَاضِي جمال الدّين ثمَّ أَقَامَ حجَّة قبلهَا
مِنْهُ السُّلْطَان وَعَفا عَنهُ وولاه الخطابة ببناأبه مَعَ ولَايَة
الْقَضَاء هُنَالك وبعدن إِلَى أَن توفّي سنة
(1/321)
ثَمَانِينَ وثمانمئة ببناأبه رَحمَه الله
تَعَالَى
ثمَّ لما توفّي الإِمَام العواجي خَلفه بمنصبه وَلَده الْفَقِيه شهَاب
الدّين أَحْمد فَقَامَ قيَاما تَاما وَكَانَ لَهُ الجاه العريض
وَالْكَرم المستفيض فغايره بعض أهل الْأَمر وحبسه فِي عدن وصادره بِأخذ
شَيْء كَبِير من المَال سلمه ثمَّ خرج من الْحَبْس مبطونا فَمَاتَ
رَحمَه الله فِي آخر الشَّهْر الَّذِي خرج فِيهِ من الْحَبْس وقبر فِي
مَقْبرَة بناأبه رَحمَه الله ونفع بِهِ
وَمِنْهُم القَاضِي الْأَجَل جمال الدّين مُحَمَّد بن عَليّ وَقد سمي
بطال بن مياس كَانَ فَقِيها عَالما مدرسا مفتيا تولى الْقَضَاء فِي لحج
وَحمد فِي أَحْكَامه وَحسن سيرته وَتُوفِّي بِشَهْر رَجَب سنة سبع
عشرَة وثمانمئة وَنَشَأ لَهُ ولدان نجيبان أَحدهمَا اسْمه أَحْمد
قَرَأَ على وَالِده وعَلى غَيره من فُقَهَاء وقته فَنَشَأَ أحسن نشوء
كتب إِلَيّ بعض البلغاء ديمته فِي الْعلم غزيرة وعومته فِيهِ عميقة
وَكَانَ وَالِده دونه وَانْفَرَدَ هَذَا الْوَلَد بِزِيَادَة على
البلاغة بفن الْأَدَب والإنشاء فَطَلَبه السُّلْطَان النَّاصِر لذَلِك
فضرع وَالِده إِلَى السُّلْطَان أَن يعذرهُ عَن ذَلِك فأعفاه وَتُوفِّي
قبل وَالِده بِنصْف سنة قبل سنة سِتّ عشرَة وثمانمئة
وَأما الْوَلَد الثَّانِي فَسَماهُ عبد الْقَادِر كَانَ ذكيا حاذقا
فطنا لبيبا وَكَانَ خَطِيبًا بقرية بناأبه ثمَّ توفّي إِلَى رَحْمَة
الله تَعَالَى سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وثمانمئة
وَمِمَّنْ تولى الخطابة مِنْهُم ببنا أبه بعد الَّذِي تقدّمت وفاتهم
القَاضِي وجيه الدّين عبد الرَّحْمَن بن مياس كَانَ صيتًا وَإِذا خطب
خشع فيخشع النَّاس بخشوعه دَامَ على الْخطْبَة وأسن ثمَّ توفّي بعد سنة
عشْرين وثمانمئة
وَله ولد يُسمى عبد الْقَادِر هُوَ الْآن خطيب الرعارع وَهُوَ حسن
الصَّوْت طيب النغمة يحفظ من الْخطب البليغة شَيْئا كثيرا فيزينها
بِلَفْظِهِ الدُّرِّي فتؤجل
(1/322)
الْقُلُوب ويسكب من سَمعهَا لرقتها
الْقُلُوب طَال عمره حَتَّى أسن وَهُوَ مجلل مُحْتَرم عِنْد الْوُلَاة
وَعَامة النَّاس فَإِذا خطب بكاء وأبكى فَهُوَ شَاب حدث تُسنم الْمجد
وارتقى الْمَكَان الصعب كَأَنَّهُ من أبنا الصباري لَهُ فصاحة وَهُوَ
من طلبة الْعلم الشريف الَّذِي ظَهرت فِيهِ النجابة
وَمن أهل لحج الْفَقِيه جمال الدّين مُحَمَّد بن المندحي قَرَأَ
الْفِقْه على الْفَقِيه عَليّ بن عفيف الْحَضْرَمِيّ فَلَمَّا
اسْتَفَادَ أضيف ولَايَة القضا بالجهات سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وثمانمئة
وَكَانَ أَبوهُ مولى لبَعض أهل مندحة الْقرْيَة الْمَعْرُوفَة هُنَالك
وَلم يزل هَذَا الْفَقِيه جمال الدّين يُفْتِي ويدرس وَيحكم إِلَى أَن
توفّي سنة سبع ووثمانمئة
وَمن الْقُضَاة بلحج القَاضِي عفيف الدّين عبد الله بن عَليّ
النَّاشِرِيّ انْتقل من بَلْدَة زبيد إِلَى لحج سنة خمسين وثمانمئة
وَله الْيَد الطُّولى فِي علم الْفُرُوع وَعَلِيهِ السكينَة وَالْوَقار
وَقد ذكره المقرىء عفيف الدّين عمر النَّاشِرِيّ فِي كِتَابه الَّذِي
جمعه فِي تَارِيخ أَهله الناشرين
وَمن أهل لحج الْفَقِيه شهَاب الدّين أَحْمد بن عَليّ بن رَاجِح قَرَأَ
على القَاضِي جمال الدّين أَبُو شكيل فِي الْفِقْه وَغَيره فَفتح
عَلَيْهِ وَأَجَازَ لَهُ فدرس وَأفْتى فِي قَرْيَة بناأبه وَهُوَ ورع
حَرِيص على دينه لَهُ الْعِفَّة وَشرف النَّفس مَشْهُور فِي الذكاء
ودام على الْحَال المرضي
وَمن أهل اللخبة القَاضِي رَضِي الدّين أَبُو بكر بن أَحْمد بن دربين
قَرَأَ على
(1/323)
جمَاعَة من أَئِمَّة وقته ورتب خَطِيبًا
فِي اللخبة وأضيف إِلَيْهِ ولَايَة القضا بجهاتها وَقد أثنوا عَلَيْهِ
ثَنَاء مرضيا وَحكي عَنهُ حسن حَاله وَلم يزل على ذَلِك حَتَّى توفّي
سنة 825
وَمن أهل لحج الْفَقِيه الْعَلامَة جمال الدّين مُحَمَّد بن إِدْرِيس
الْعلوِي كَانَ فَقِيها مدْركا عَالما عَاملا كَانَ ووالده فقيهين
عَالمين واشتهر هَذَا الْفَقِيه جمال الدّين مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن
إِدْرِيس بفن الْأَدَب والبلاغة والفصاحة فِي الشّعْر يفد على الأكابر
فيجيزونه الجوائز السّنيَّة وَكتب إِلَى السُّلْطَان الْملك الظَّاهِر
بديعية عَجِيبَة حذا بهَا حَذْو الصفي الْحلِيّ وَشَرحهَا شرحا عجيبا
وَضمن الشَّرْح وَالْقَصِيدَة أنواعا من البديع مِنْهَا فِي الاقتباس
قَوْله
مَاذَا أَقُول وَفِي {مَا ضل صَاحبكُم وَمَا غوى} مدح أزرت بمدح فمي
والصفي الْحلِيّ قَالَ فِي مثل ذَلِك
(هذي عصاتي الَّتِي فِيهَا مآرب لي ... وَقد أهش بهَا طورا على غنمي)
أَشَارَ بذلك إِلَى قَوْله تَعَالَى فِيمَا قصه عَن مُوسَى عَلَيْهِ
السَّلَام حَيْثُ قَالَ {قَالَ هِيَ عصاي أتوكأ عَلَيْهَا وأهش بهَا
على غنمي} والصفي الْحلِيّ تخَلّل فِي نظمه شَيْء أَجْنَبِي غير
الْآيَة الشَّرِيفَة فَقَالَ الْعلوِي أَنا أتيت بِآيَة كَامِلَة فِي
بَيت وَاحِد وَلم يَتَخَلَّل بَينهمَا كَلَام أَجْنَبِي فأحال لَهُ
السطان على الْمُتَوَلِي بحصن تعز بخمسمئة دِينَار فمطله بهَا فهجاه
الْعلوِي فَشَكَاهُ إِلَى السُّلْطَان فَأذن لَهُ السُّلْطَان بتأديبه
فَأَرَادَ قَتله فشفع لَهُ الإِمَام الْأَكْبَر جمال الدّين الْأَكْبَر
بن الْخياط فَقبل شَفَاعَته فِيهِ على شَرط أَن لَا يُوجد فِي الْبَلَد
وَأطْلقهُ فطلع بلد الْجبَال ووفد على الأكابر ثمَّ على الشريف عَليّ
بن
(1/324)
صَلَاح ومدحه بغرر من القصائد فَأحْسن
إِلَيْهِ ثمَّ رَجَعَ إِلَى بَلَده ونظم أرجوزة سَمَّاهَا تذكرة الغبي
فِي عدَّة أَزوَاج النَّبِي وَله فِي الرَّد على الأبيات الَّتِي نسبت
إِلَى ابْن دَقِيق الْعِيد وَهِي وَمَا فِيهَا مَشْهُورَة مَذْكُورَة
فِي الأَصْل وأولها
(أهل المناصب فِي الدُّنْيَا ورفعتها ... أهل الْفَضَائِل مرذولين
بَينهم)
فَقَالَ القَاضِي جمال الدّين مناقضا لَهُ
(خير الْمَرَاتِب فِي الدُّنْيَا لكل فَتى ... فِي الْعلم وَالْعَمَل
المرضي لَهُ قدم)
(فَذَاك أَجْدَر فِي الدُّنْيَا وآخرة ... بِكُل مرتبَة لم يعلها قدم)
(وَلَيْسَ للجاهل الْمَغْرُور مرتبَة ... وَإِن يكن عِنْده اللَّذَّات
وَالنعَم)
(وَأي قدر لأهل الْجَهْل قاطبة ... الْقدر للْعُلَمَاء وَالْحكم
وَالْحكم)
(يسوقهم بضياء الْعلم سوق هدى ... كَمَا يساق إِلَى مرعائها الْغنم)
ثمَّ إِن هَذَا الْفَقِيه سَافر إِلَى مَكَّة المشرفة فحج وزار قبر
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ سَافر إِلَى مصر فَأَقَامَ بهَا
معززا مكرما إِلَى أَن توفّي بهَا سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وثمانمئة
وَمن المتوفين بلحج من الوافدين إِلَيْهَا الْفَقِيه الْعَلامَة شهَاب
الدّين أَحْمد بن مُحَمَّد الْحرَازِي قَرَأَ الْفِقْه على الْفَقِيه
جمال الدّين العوادي وعَلى غَيره وَأَجَازَ لَهُ الإِمَام نَفِيس
الدّين الْعلوِي وَالشَّيْخ مجد الدّين الشِّيرَازِيّ فَأفْتى ودرس
بِالزِّيَادَةِ الفرحانية بِمَدِينَة تعز مُدَّة طَوِيلَة ثمَّ تولى
الْقَضَاء بلحج فانتقل إِلَيْهَا وَحكم وَأفْتى ودرس بهَا
(1/325)
وَبَقِي على الْحَال المرضي إِلَى أَن
توفّي بعد سنة خمسين وثمانمئة
وَمِنْهُم الإِمَام الْعَلامَة ذُو الْفُنُون العديدة والعلوم المفيدة
حسام الدّين عبد الْوَهَّاب بن عبد الله السراف النهام قَرَأَ على
الإِمَام الْقُدسِي الْمَذْكُور بَين أهل زبيد بفن الْأَدَب وَقَرَأَ
على غَيرهمَا بِسَائِر الْعُلُوم فَكَانَ إِمَامًا فِي اللُّغَة والنحو
وَالْأُصُول والمعاني وَالْبَيَان مشاركا بغَيْرهَا من سَائِر
الْعُلُوم وَكَانَت لَهُ وجاهة عِنْد الْمُلُوك وَهُوَ مُؤذن
الْأَشْرَف بن الظَّاهِر فَلَمَّا تولى الْأَشْرَف السلطنة كَانَ يحسن
إِلَيْهِ وقربه لَدَيْهِ وأضاف إِلَيْهِ من الْأَسْبَاب شَيْئا كثيرا
فدرس فِي علم الْأَدَب وَفضل على شَيْخه الْمَقْدِسِي وَغَيره وانتفع
عَلَيْهِ جمَاعَة بِعلم النَّحْو كالمقرىء شمس الدّين يُوسُف بن يُونُس
الجبائي وَغَيره ثمَّ إِن السُّلْطَان الْملك الْأَشْرَف أرْسلهُ إِلَى
عدن لبَعض مقاصده فَأَقَامَ بهَا اياما ثمَّ رَجَعَ قَافِلًا فَلَمَّا
وصل اللخبة من قرى لحج مرض وَتُوفِّي هُنَالك بِشَهْر رَجَب سنة أَربع
وَأَرْبَعين وثمانمئة وَمن شعره مَا كتبه إِلَى بعض أصدقائه يطْلب
مِنْهُ قَضَاء حَاجَة فَقَالَ
(سَلام يحاكي الْمسك طيب ذكائه ... وَيُشبه ضوء الشَّمْس وسط سمائها)
(عَلَيْك جمال الدّين مَا لَاحَ بارق ... وَمَا هملت سحب السَّمَاء
بِمَائِهَا)
(وَقد عرضت لي يَا فَتى الْجُود حَاجَة ... فحقق رجائي باعتناء
قَضَائهَا)
وَله غير ذَلِك من الشّعْر وَله فِي مسَائِل من النَّحْو تدقيق يدل على
غزارة علمه وحرزه
(1/326)
وَأما ثغر عدن فقد قَالَ بعض أَهله من
الْعلمَاء والفضلاء بِأَنَّهُ قديم الْهِجْرَة أزلي حُصَيْن لم تزل
الْبركَة فِيهِ ظَاهِرَة وساكنة مَرْحُوم ملاطف وَالْغَالِب على سكنته
الْخُشُوع وسلامة الصَّدْر وَلم يزَالُوا مثابين مَأْجُورِينَ لَا
تكالهم على الله بمكثهم فِي جَزِيرَة لَا نَبَات بهَا وَلَا كلأ وَكم
تديرها من الْعلمَاء الصَّالِحين والعباد والناسكين والأبدال والأعوان
والأقطاب أُمَم يجلون عَن الْحصْر على تداول الْأَزْمَان وَاخْتِلَاف
الأحيان
قلت وسأذكر مِنْهُم من كَانَ فِي المئة الثَّامِنَة على الْقَاعِدَة
الَّتِي ذكرتها
فَمنهمْ الإِمَام الْأَجَل الأوحد الأورع الْأَكْمَل الْعَالم
الْعَامِل ركن الدّين أَحْمد بن حسن بن شينا بالشين الْمُعْجَمَة
وَالْيَاء وَالنُّون المعجمتين أَيْضا وَالْألف هُوَ من أهل عدن مولده
سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وسبعمئة وَكَانَ وَالِده دلالا فِي سوق الْبَز
فنجب لَهُ هَذَا الْوَلَد فَكَانَ علم الْأَبْرَار الْمُتَّقِينَ
ونبراس البلغاء المبرزين نَشأ فِي طلب الْعلم الشريف وجد فِي طلب
السَّعَادَة حَتَّى كشف لَهُ الْحجاب وَلم يزل يترقى وَيَأْخُذ فِي
النمو وَالزِّيَادَة حَتَّى صَار وحيد عصره وفريد دهره وَهُوَ شيخ
الْإِسْلَام وواسطة النظام كثير الصَّوْم وَالْعِبَادَة عَظِيم
الْبركَة فِي الإفادة قَرَأَ على أَئِمَّة من الْمُتَقَدِّمين فِي
جَمِيع الْعُلُوم وَأخذ عَنهُ طَائِفَة من فحول الطلاب ثمَّ لما طعن
فِي السن أكمه نظره فِي سنة عشر وثمانمئة وَتُوفِّي فِي الْيَوْم
الْخَامِس وَالْعِشْرين من شهر جماد الثَّانِي سنة سِتّ عشرَة وثمانمئة
وَقد صَار شَيخا كَبِيرا من كَثْرَة الرياضة
كتب إِلَيّ الْفَقِيه جمال الدّين المغربي الشماع مَا مِثَاله قَالَ
كنت أَدخل على
(1/327)
الشَّيْخ شهَاب الدّين أَحْمد بن حسن بن
شينا الْمَسْجِد وَهُوَ أكمه وَكنت أسمع تدريسه فَكَانَ مِمَّا يحار
فِيهِ الأديب وبأتي بِمَا لم يَأْتِ بِهِ المبصرون مَعَ الاسترياء
وجودة التَّنْقِيح قَالَ الشَّيْخ جمال الدّين الْمَذْكُور حضر وَالِدي
نَزعه فَسَمعهُ يَقُول عِنْد الْمَوْت مرْحَبًا مرْحَبًا ثمَّ إِنَّه
تَبَسم وَتمكن بِالشَّهَادَةِ وَتُوفِّي رَحمَه الله وَذكر لَهُ من
الكرامات الَّتِي شَاهدهَا شَيْء كثير ذكرته فِي الأَصْل وقبر فِي مجنة
الشَّيْخ جَوْهَر وعمره نَحْو ثَلَاث وَثَمَانِينَ سنة
وَمن فُقَهَاء عدن المقيمين بهَا الْفَقِيه الصَّالح الْعَلامَة رَضِي
الدّين أَبُو بكر بن عَليّ بن قسْمَة اليافعي الحريري كَانَ إِمَامًا
فَاضلا بارعا فِي الْعُلُوم كَانَ فِي الْوَرع وَالْعِبَادَة على جَانب
عَظِيم أَهله القَاضِي جمال الدّين مُحَمَّد بن عِيسَى اليافعي بابنته
فَكَانَ تَارَة يقف فِي ثغر عدن يدرس ويفتي وَتارَة يكون فِي مَكَان من
بلد يافع يُسمى ذِي عسل توفّي سنة إِحْدَى عشرَة وثمانمئة رَحمَه الله
ونفع بِهِ
وَمِنْهُم الشَّيْخ الْفَقِيه الْعَلامَة شهَاب الدّين أَحْمد بن عمر
بن خَالِد الأصبحي من أصابح قَرْيَة الْحَمْرَاء وَهِي قَرْيَة قريبَة
من الرعارع ولد سنة سبعين وسبعمئة وَكَانَ وَالِده وليا وجده خَالِد من
أهل الخطوة تدير الْفِقْه شهَاب الدّين الثغر بعدن أَخذ الْعلم من
مَشَايِخ من بلدان شَتَّى فاستمر خَطِيبًا فِي جَامع الثغر ثمَّ
انْفَصل عَنْهَا وَكَانَ فَقِيها عَالما عَاملا خَطِيبًا مصقعا فصيحا
نجيبا متطلعا على كتب التواريخ حَافِظًا للسير مجللا مُحْتَرما وَإِذا
قَرَأَ أَو حدث عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تخال الدّرّ
يَتَنَاثَر من فِيهِ وَله فِي نقادة الْعلم الْيَد الْعَالِيَة وَكَانَ
لَهُ اطلَاع على تركيب علم الْحُرُوف
(1/328)
وتكسير الأوفاق الْمُخْتَلفَة وَكَانَت
لَهُ الهيبة وَهُوَ فَقير مَا يملك مَا يقوم بكفايته ووهبه الله حسن
الْخلق بِمَا لَا يماثله فِيهِ أحد من عصره فَلَمَّا مَاتَ كَانَ لَهُ
ولد ينوبه فِي الْخطْبَة فِي صِحَّته وَفِي حَال مَرضه وَبَقِي مكرما
بعد وَفَاة أَبِيه ثمَّ توفّي سنة أَربع وَسِتِّينَ وثمانمئة
وَمِنْهُم الْفَقِيه الْعَلامَة البليغ رَضِي الدّين أَبُو بكر بن
يُوسُف بن إِسْحَاق الْمَشْهُور بِابْن المستأذن كَانَ إِمَامًا فَاضلا
خالط الْعلمَاء وَأخذ عَنْهُم فحسنت سيرته وكمل تهذيبه وَحفظ كثيرا من
الْأَحَادِيث وبرع فِي فن الْأَدَب ثمَّ اشْتهر بالوعظ فرتب خَطِيبًا
فِي جَامع عدن فَكَانَ خَطِيبًا مصقعا حسن الصَّوْت سريع الْعبْرَة ترق
لَهُ الْقُلُوب وتخشع لَهُ الأفئدة وَكَانَ يبكي من خشيَة الله وَعمر
حَتَّى بلغ عمره سبعين سنة من مولده وَتُوفِّي آخر شهر ذِي الْحجَّة
سنة خمس عشرَة وثمانمئة وخطب بعده وَلَده عبد الرَّحْمَن ثمَّ أُعِيدَت
الخطابة إِلَى ابْن خَالِد الْمُقدم ذكره فَلَمَّا توفّي ابْن خَالِد
رَجَعَ الْفَقِيه رَضِي الدّين وَهُوَ عبد الرَّحْمَن مستمرا بالخطابة
وَبَقِي بهَا إِلَى أَن توفّي بالفناء الْأَكْبَر سنة تسع وَثَلَاثِينَ
وثمانمئة
وَمِنْهُم الشَّيْخ الصَّالح سراج الدّين عبد اللَّطِيف بن أَحْمد
الْعِرَاقِيّ كَانَ عابدا زاهدا فَاضلا صَالحا مَفْتُوحًا عَلَيْهِ
بالمعارف لَهُ كرامات عديدة مَشْهُورَة بَين الْخَاصَّة والعامة
مَكَانَهُ مُحْتَرم وجاره لَا يهتضم مأوى لكل غارق قَالَ بعض من يعرفهُ
لما رقت شمائله وعذبت كَلمته انجذبت الْقُلُوب إِلَى حبه وَحسن ظن
النَّاس فِيهِ
(1/329)
وَظَهَرت لَهُ كرامات وَتُوفِّي سنة تسع
وثمانمئة وَدفن فِي رباطه بثغر عدن رَحمَه الله ونفع بِهِ
واشتهر من أَوْلَاده الشَّيْخ الصَّالح عفيف الدّين عبد الله تخلق
بِخلق أَبِيه وتأسى بِسَائِر طباعه وسجاياه فِي جَمِيع حالاته عَاشَ
مبارك الْحَال اشْتهر ذكره وَعلا صيته وَظَهَرت لَهُ الكرامات وَقيل
أَنه نَالَ دَرَجَة القطبية وَالله أعلم بذلك وَتُوفِّي سنة إِحْدَى
وَسِتِّينَ وثمانمئة وَدفن تَحت حصن التعكر مِمَّا يَلِي الْبر
وَلِلنَّاسِ فِيهِ اعْتِقَاد كَبِير رَحمَه الله ونفع بِهِ
وَمِنْهُم الْمَشَايِخ بَنو اليافعي فَذكر بعض المؤرخين الْمُتَقَدّم
مِنْهُم واشتهر بوقتنا القَاضِي الْعَلامَة جمال الدّين مُحَمَّد بن
عَليّ بن مُحَمَّد بن عِيسَى درس وَأفْتى وأثنوا عَلَيْهِ بِحسن
السِّيرَة وَالصَّلَاح وَتُوفِّي سنة ثَلَاث وَعشْرين وثمانمئة رَحمَه
الله تَعَالَى
وَمِنْهُم القَاضِي غياث الدّين عِيسَى بن عمر كَانَ إِمَامًا مدرسا
مفتيا توفّي سنة خمس وَثَلَاثِينَ وثمانمئة
وَمِنْهُم القَاضِي رَضِي الدّين أَبُو بكر أَبُو سهل والفقيه شهَاب
الدّين أَحْمد أَبُو عقبَة والفقيه تَقِيّ الدّين عمر بن عبد
الرَّحْمَن الوَاسِطِيّ والفقيه عَليّ الزبيدِيّ فَهَؤُلَاءِ كلهم
قرؤوا على الْفَقِيه أبي عفيف الْحَضْرَمِيّ وتوفوا إِلَى رَحْمَة الله
تَعَالَى أول من توفّي مِنْهُم بعد سنة ثَلَاثِينَ وثمانمئة رَحِمهم
الله تَعَالَى
(1/330)
وَمِنْهُم الْفَقِيه شمس الدّين أَبُو عفيف
الْحَضْرَمِيّ هُوَ أحد تلامذة القَاضِي عمر اليافعي وَكَانَ فَقِيها
مُبَارَكًا مجودا فِي الْفِقْه مشاركا بِغَيْرِهِ درس بحياة شَيْخه
ثمَّ بعد وَفَاته وَكَانَ رَفِيقه فِي الْقِرَاءَة الْفَقِيه عفيف
الدّين عِيسَى بن عمر اليافعي الْمُتَوَلِي للْقَضَاء بعدن فِي سنة
ثَلَاث وَعشْرين وثمانمئة ثمَّ توفّي بعد ذَلِك قبل سنة ثَلَاثِينَ
وثمانمئة رَحِمهم الله
وَمِنْهُم الإِمَام الْعَلامَة القَاضِي الْأَجَل جمال الدّين مُحَمَّد
بن سعيد بن عَليّ بن كبن قيل إِنَّه سمع قَوْله بِأَن الْمُحب
الطَّبَرِيّ شَارِح التَّنْبِيه جده وَقد ثَبت اتِّصَال نسبه إِلَى
قُرَيْش وَكَانَ هَذَا القَاضِي شيخ الْإِسْلَام وَأحد الْأَئِمَّة
الْأَعْلَام جَامع أشتات الْفَضَائِل والمضاهي بِحسن سيرته الجلة من
الْأَوَائِل أول اشْتِغَاله فِي الْعلم على القَاضِي رَضِي الدّين أبي
بكر الحبيشي قَاضِي عدن فِي الدولة الأشرفية وَله مِنْهُ الإجازات
الْكَثِيرَة وَمن شُيُوخه الْعَلامَة برهَان الدّين إِبْرَاهِيم بن
الصّديق الرسام وَالشَّيْخ الْعَالم رَضِي الدّين ابو بكر بن
الْحُسَيْن المراغي الدِّمَشْقِي وَله شُيُوخ غَيرهم تغرب إِلَى الشحر
وَإِلَى التهايم وَإِلَى الْجبَال وَالْتمس من الْعلم مَا تأهل بِهِ
للتدريس وَالْفَتْوَى ثمَّ تولى الْقَضَاء بثغر عدن بعد وَفَاة
القَاضِي الحبيشي فَكَانَ أول ولَايَته سنة سبع وثمانمئة وَحصل فِي
خزانته من الْكتب الَّتِي حصلها بِيَدِهِ وشراها نَحْو ألف كتاب
واستوثق لَهُ الْأَمر واستفحلت شوكته وخالق النَّاس بِخلق حسن وَكَانَ
لَهُ فِي التدريس الْيَد الْعَالِيَة والبراعة بالعبارة الجيدة واللطف
والسياسة وشارك بِعلم الطِّبّ
(1/331)
مَعَ سَائِر الْعُلُوم وَاتفقَ فِي زَمَنه
الْقَضِيَّة الْمَشْهُورَة فِي أَمر الْيَهُودِيّ مَعَ المقعد الَّذِي
اسْتَغَاثَ بقوله يَا مُحَمَّد يَا مُحَمَّد وَقد طلب الْمُسلم المقعد
من الْيَهُودِيّ أَن يُعينهُ على بعض أُمُوره فَقَالَ لَهُ
الْيَهُودِيّ اترك مُحَمَّدًا ينفعك ويقيمك وَلم يلْتَفت عَلَيْهِ
فَسَمعهُ الْمُسلمُونَ يستهزىء بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَرفعُوا أمره إِلَى القَاضِي جمال الدّين الْمَذْكُور ووصلوا بِهِ
إِلَيْهِ وَقد اجْتمع عَلَيْهِ الجم الْغَفِير بِقصد قتل الْيَهُودِيّ
فَأَشَارَ إِلَيْهِم القَاضِي وَقَالَ الْحَبْس الْحَبْس فَلم يسمعوا
مَا قَالَه القَاضِي بل توهم الْأَكْثَر أَنه قَالَ لَهُم اقْتُلُوهُ
لِكَثْرَة اللَّغط فَرمى رجل مصري بِحجر فِي رَأسه حَتَّى طَرحه على
الأَرْض فسطا عَلَيْهِ النَّاس يرجمونه بِالْحِجَارَةِ مثل الوابل
حَتَّى مَاتَ وَقد كَانَت الْيَهُود بذلت على سَلامَة هَذَا
الْيَهُودِيّ ألف مِثْقَال فَلم يقبل مِنْهُم السُّلْطَان ذَلِك فعزل
السُّلْطَان القَاضِي بِسَبَب ذَلِك من ولَايَة الْقَضَاء على أَن
السُّلْطَان رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمَنَام
وَأمره برد القَاضِي على ولَايَته
وللقاضي جمال الدّين الْمَذْكُور مصنفات نافعة جليلة مِنْهَا كتاب
الْمِفْتَاح على كتاب الْحَاوِي الصَّغِير وَقد اشْتهر وانتشر
وَاعْتَمدهُ النَّاس واجتهدوا بتحصيله وتلقوه بِالْقبُولِ وَمِنْهَا
كتاب الدّرّ النظيم فِي فضل بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَلما رسخ
القَاضِي الْمَذْكُور فِي الْعلم ونال الجاه الْكَبِير كَادَت
الْأُمُور تطوى لَهُ بالتسخيرات وتتهيأ لَهُ من غير كد وَلَا إزعاج
ووهب الله لَهُ الْمحبَّة فِي قُلُوب النَّاس واكتسب الثَّنَاء بحلمه
وَكَرمه فَكَانَ حسن الْأَخْلَاق شهي المذاق كثير الْخُشُوع فِي
الدُّعَاء وَله فَوَائِد ومناسك وَحَدَائِق وترسلات وَتَعْلِيق بِشَيْء
كثير لَا ينْحَصر وَله شعر حسن رائق فِي التغزل وَفِي مدح النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم مِمَّا قد أثبت بنصه فِي
(1/332)
الأَصْل توفّي بِشَهْر رَمَضَان سنة
اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وثمانمئة وقبر بتربة الشَّيْخ جَوْهَر وعمره
يَوْمئِذٍ أَربع وَسِتُّونَ سنة رَحمَه الله
وَأَخْبرنِي المقرىء شمس الدّين يُوسُف بن يُونُس الجبائي قَالَ كَانَ
وَالِد القَاضِي جمال الدّين مُحَمَّد بن سعيد بن كبن من ذَوي
الْأَمْوَال عطارا فَرَأى فِي الْمَنَام أَن النَّاس مجتمعون إِلَى
مَكَان وهم كثير وَأَنَّهُمْ عِنْد بِئْر فِيهَا مَاء وَأَن تِلْكَ
الْبِئْر الَّتِي فِيهَا المَاء مغطاة بِحجر وَلم يقدر أحد من
الْحَاضِرين يرفعهُ من فَم الْبِئْر وَقَالَ صَاحب الرُّؤْيَا فَرفعت
ذَلِك الْحجر الَّذِي على فَم الْبِئْر وحدي وَورد النَّاس يستقون من
تِلْكَ الْبِئْر وَلَا سَأَلت أحدا من المعبرين عَنْهَا قَالَ وَقد
كَانَ حدث لي وَلَدي مُحَمَّد قَالَ فَلَمَّا قَارب الْبلُوغ جَاءَنَا
رجل من الصَّالِحين فضيفته وأكرمته وَجئْت بولدي مُحَمَّد إِلَيْهِ
وَقلت لَهُ النَّاس مِنْهُ عِنْد أَن رفعت الْحجر عَن الْبِئْر فِي
الْمَنَام وسيكون عَالما ينْتَفع بِهِ النَّاس
وَمِنْهُم الشَّيْخ الْمُحدث جمال الدّين مُحَمَّد بن حريز بِالْحَاء
وَالرَّاء الْمُهْمَلَتَيْنِ وَالْيَاء وَالزَّاي المعجمتين نَشأ
مُنْفَردا وَكَانَ أَكثر جُلُوسه فِي الْمقَام وَكَانَ لَا يتتبع
لكَلَام يبْدَأ بِهِ وَلَا يُقَابل بخطاب يُخَاطب ويخبر عَن المغيبات
توفّي سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وثمانمئة وَدفن فِي مجنة البزازين وقبره
مَعْرُوف هُنَاكَ يزار ويتبرك بِهِ نفع الله بِهِ
وَمن المتوفين بعدن الْفَقِيه شمس الدّين عَليّ بن مُحَمَّد
الْحَضْرَمِيّ أصل بَلَده حَضرمَوْت قدم إِلَى الْيمن وسافر إِلَى
مَكَّة المشرفة فحج وزار قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ
سَافر إِلَى مصر فَقَرَأَ على فقهائها طرفا من الْعُلُوم وأجازوا لَهُ
ثمَّ وَفد إِلَى مَدِينَة زبيد فَقَرَأَ على القَاضِي جمال الدّين
الطّيب النَّاشِرِيّ واجتهد بتحصيل الْعُلُوم حَتَّى تأهل
(1/333)
للتدريس وَالْفَتْوَى وَاخْتصرَ شرح
الْمِنْهَاج للْأَذْرَعِيّ فَجعله فِي مجلدين ووفد إِلَى مَدِينَة إب
ثمَّ إِلَى بلد شنين فَلم يصف لَهُ بهَا مشرب ثمَّ أَقَامَ بالشوافي
وَتَوَلَّى الْقَضَاء هُنَالك أَيَّامًا ثمَّ انْتقل إِلَى دمت فَأحْسن
إِلَيْهِ السَّادة بَنو طَاهِر وَأقَام مَعَهم مُدَّة ثمَّ أَقَامَ
بلحج وَجعل لَهُ بهَا شَيْء من الْأَسْبَاب ثمَّ انْتقل إِلَى عدن
فَتوفي بهَا بِشَهْر ذِي الْقعدَة سنة سِتّ وَسِتِّينَ وثمانمئة رَحمَه
الله ونفع بن آمين
وَمِنْهُم القَاضِي الْأَجَل جمال الدّين مُحَمَّد بن أَحْمد أَبُو
حميش أصل بَلَده حَضرمَوْت من قَرْيَة يُقَال لَهَا بور وَكَانَ من
الصَّالِحين وَفد من بَلَده على طَرِيق الشحر ثمَّ دخل عدن سنة سِتّ
عشرَة وثمانمئة وَنزل حافة البصال عِنْد القَاضِي تَقِيّ الدّين عمر بن
مُحَمَّد اليافعي فَقَرَأَ عَلَيْهِ وعَلى الْفَقِيه موفق الدّين عَليّ
بن عفيف الْحَضْرَمِيّ القَاضِي حَتَّى انْتفع وأجازوا لَهُ فَأفْتى
ودرس وَجمع الْكتب واشتهر بِالْخَيرِ وَالصَّلَاح وَلم يخالط النَّاس
وَتَوَلَّى الْقَضَاء بالثغر بعد انْفِصَال القَاضِي جمال الدّين
مُحَمَّد بن عمر الحريزي عَنهُ سنة خمس وَأَرْبَعين وثمانمئة فَسَار
بهم سيرة مرضية قدر سنتَيْن ثمَّ انْفَصل عَن الْقَضَاء واستقام فِيهِ
القَاضِي جمال الدّين بن شكيل إِلَى أَن تولى السَّادة بَنو طَاهِر على
ثغر عدن فأضافوا الْقَضَاء الْأَكْبَر إِلَى القَاضِي أبي حميش سنة
ثَمَان وَخمسين وثمانمئة فَكَانَ قد يحصل المضادة بَينهمَا بِبَعْض
الحكومات فيتولد من ذَلِك مشاجرة بَينهمَا لكَون قَاضِي الْبَلَد أبي
شكيل وَالْقَضَاء الْأَكْبَر لأبي حميش وداما على ذَلِك إِلَى أَن
توفّي القَاضِي جمال الدّين أَبُو حميش بِشَهْر رَمَضَان سنة
اثْنَتَيْنِ
(1/334)
وَسِتِّينَ وثمانمئة وَدفن بتربة شَيْخه
الْفَقِيه عَليّ أبي عفيف الْحَضْرَمِيّ رَحمَه الله تَعَالَى ونفع
بهما
وَمن الوافدين إِلَى عدن المتوفين بهَا الْفَقِيه الْعَلامَة شهَاب
الدّين أَحْمد بن أبي الْقَاسِم الضراسي قَرَأَ على وَالِده
الْمَذْكُور بِشَيْء من الْعُلُوم ثمَّ بالفرائض على أَخِيه الْفَقِيه
جمال الدّين ثمَّ حفظ بهجة الْحَاوِي فقرأها على الْفَقِيه شمس الدّين
عَليّ بن مُحَمَّد السعيدي وعَلى القَاضِي جمال الدّين العوادي وعَلى
الْفَقِيه شرف الدّين الدمتي وَسمع وَقَرَأَ الحَدِيث النَّبَوِيّ
وَالتَّفْسِير على الشَّيْخ مجد الدّين الشِّيرَازِيّ والأمام نَفِيس
الدّين الْعلوِي وَغَيرهم فأجازوا لَهُ فدرس وافتى وَكَانَ لَهُ ذكاء
وحدة يستنبط الْمسَائِل ويبنيها على الْأُصُول الصَّحِيحَة
بِالْقِيَاسِ الْجَلِيّ مستحضرا للنصوص وَكَانَ السُّلْطَان الظَّاهِر
يُحِبهُ لصلاحه ومعرفته وينعم عَلَيْهِ بالعطاء الْكَبِير فَلَمَّا
توفّي السُّلْطَان الظَّاهِر وَولده الْأَشْرَف وتغيرت الْبِلَاد وَرفع
أَيدي الْفُقَهَاء من مُعظم الْأَسْبَاب من الْوَقْف سَافر الْفَقِيه
شهَاب الدّين الضراسي بأولاده إِلَى مَكَّة المشرفة فحج وزار قبر
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ووقف هُنَالك نَحْو سنتَيْن يدرس
ويفتي بِالْحرم الشريف ثمَّ رَجَعَ إِلَى الْيمن وسلطانه حِينَئِذٍ
السُّلْطَان المسعود فَلم يحسن إِلَيْهِ فَتقدم إِلَى بلد السيدين
عَليّ وعامر ابْني الطَّاهِر فأحسنا إِلَيْهِ ثمَّ أَقَامَ بقرية ضراس
وَهِي بَلَده فَلم يصف لَهُ مشرب ثمَّ ارتحل إِلَى ثغر عدن وَكَانَ
بهَا السُّلْطَان المسعود فَتوفي الْفَقِيه شهَاب الدّين هُنَالك وقبر
بِبَعْض مَقَابِر عدن وَذَلِكَ سنة سِتّ وَخمسين وثمانمئة رَحمَه الله
ونفع بِهِ
وَمِنْهُم الْفَقِيه بدر الدّين سعيد بن أَحْمد الذبحاني هُوَ إِمَام
فَاضل مجود مُجْتَهد بِطَلَب الْعُلُوم يتعاطى الْفَتْوَى وَقد طعن فِي
السن وَنَشَأ لَهُ ولد يُسمى مُحَمَّد نجب فأعجب حَتَّى قيل إِنَّه
أدْرك من نخب الْعُلُوم مَا لم يُدْرِكهُ أَبوهُ لجودة فهمه وعلو همته
وَهُوَ مُنْقَطع فِي طلب الْعلم والتدريس وَله فِيهِ دربة يعجب مِنْهَا
السَّامع وَهُوَ
(1/335)
فِي أول عشر الثَّلَاثِينَ وَقد يتَكَلَّم
فِي علم الْحَقِيقَة وَلكنه قد يَأْتِي بدعوات من التَّمَكُّن مَا لَا
يصادق عَلَيْهِ وهما فِي قيد الْحَيَاة عِنْد جمع هَذَا الْمَجْمُوع
وَمِنْهُم القَاضِي الْأَجَل الْعَلامَة مُحَمَّد بن مَسْعُود بن سعد
بن شكيل كَانَ وَالِده من أهل الشحر فوصل هَذَا القَاضِي جمال الدّين
مِنْهَا إِلَى ثغر عدن سنة أَربع وَعشْرين وثمانمئة فَتَلقاهُ القَاضِي
جمال الدّين مُحَمَّد بن سعيد بن كبن أحسن ملقى وأقرأه وأنزله فِي
مَسْجده وأمده بالمؤونة الَّتِي يحْتَاج إِلَيْهَا لتَحْصِيل الْكتب
وَغير ذَلِك فَلم يزل يَأْخُذ مِنْهُ الْعلم حَتَّى توفّي القَاضِي
جمال الدّين مُحَمَّد بن سعيد بن كبن وَقد اسْتَفَادَ وبرع فَأفْتى
ودرس وَكَانَ ذكيا فطنا لبيبا لَهُ معارف جليلة وإفادات جزيلة فاشتهر
بالثغر المحروس بِقِرَاءَة الْفِقْه وَولي الْقَضَاء ثمَّ انْفَصل
عَنهُ بِالْقَاضِي أبي حميش على مَا تقدم ذكره وَقد جمع من الْكتب
شَيْئا كثيرا وَنسبه يتَّصل إِلَى الإِمَام أبي شكيل مُصَنف شرح
الْوَسِيط ثمَّ أُعِيد إِلَيْهِ ولَايَة الْقَضَاء بالثغر بآخر أَيَّام
السُّلْطَان المسعود الغساني وَلما صَار الْأَمر بالثغر للسادة بني
طَاهِر ألقوه على ولَايَة الْقَضَاء هُنَالك وَقد جمع من الْأَمْوَال
شَيْئا كثيرا وَكَانَ محبته عمَارَة الدّور وَالْبيع وَالشِّرَاء مَعَ
مَا هُوَ عَلَيْهِ من الِاشْتِغَال بالتدريس وَالْفَتْوَى
وَالْأَحْكَام وَكَانَ ذَا جاه عريض ثمَّ امتحن بأمراض مُخْتَلفَة ثمَّ
عزل عَن ولَايَة الْقَضَاء وَتُوفِّي رَحمَه الله تَعَالَى سنة تسع
وَثَلَاثِينَ وثمانمئة رَحمَه الله تَعَالَى
وَمِنْهُم الإِمَام الْفَقِيه الْعَلامَة جمال الدّين مُحَمَّد بن
أَحْمد أَبُو فضل بن أَحْمد بن فضل الْحَضْرَمِيّ هُوَ إِمَام جليل
نَشأ فِي طلب الْعلم وَأخذ عَن القَاضِي
(1/336)
جمال الدّين أبي حميش وَقد حقق الْفَتَاوَى
وتصدر للتدريس وَهُوَ مطمئن الجأش على النزاع وسنه قريبَة من
الثَّلَاثِينَ حِينَئِذٍ وَقد غلب عَلَيْهِ الْوَرع وشمله القنوع
وَهُوَ كثير الذّكر وَالصَّوْم وَالْعِبَادَة شَدِيد الْجهد فِي طلب
الإفادة فَقِيها مجودا محققا متثبتا غير نَاظر إِلَى الْوَظَائِف كثير
الْخلْوَة والاحتجاب قريب الْجَانِب للطلاب لَا يَنْفَكّ عَن مُرَاجعَة
الشُّرُوح وَلَا يتْرك النّظر فِي تدقيق الْمسَائِل وتحبيرها
بالاستعداد الْمُعَلق مَعَ نور الْقلب بمشكاة الْفَتْوَى وَقد اعْترض
على الغزولي فِي جَوَاب مسَائِل ذكرتها فِي الأَصْل وَلم يزل هَذَا
الْفَقِيه أَبُو فضل على الْحَال المرضي آخِذا بدرجات الْمجد إِلَى أَن
توفّي بِشَهْر شَوَّال سنة ثَلَاث وتسعمئة رَحمَه الله تَعَالَى
وَسَائِر الْمُسلمين آمين
وَقد أجمع النَّاس على فضل هذَيْن الْإِمَامَيْنِ أبي فضل وَأبي مخرمَة
الْآتِي ذكره وأنهما جمعا الْعلم وَالْعَمَل وأنهما وحيدا عصرهما فِي
قطرهما فقد فاقا أهل زمانهما وَلم يكن فِي الْبَلَد من يدانيهما فِي
الْفَتْوَى والتدريس وَفعل الْخَيْر مَعَ ملازمتهما للزهد والورع
وَمِنْهُم الْفَقِيه عفيف الدّين عبد الله بن أَحْمد بن عَليّ أَبُو
مخرمَة قَالَ فِيهِ الشَّيْخ جمال الدّين المغربي هُوَ رجل فَاضل نجيب
كيس عذب المذاق حسن الْأَخْلَاق شَدِيد الِاجْتِهَاد فِي الْعِبَادَة
بَرِيء من الأحقاد وَفَسَاد الْفَهم أذا أفتى أَفَادَ فأجاد وَهُوَ
مجود فِي الْأَلْفَاظ المفيدة لَهُ فِي كل يَوْم إفادات جَدِيدَة لَا
يساوره قرن فِي فنه مُحَقّق فِي الحَدِيث وَالسّنة وَالْفُرُوع
وَالْأُصُول وَهُوَ فِي قيد الْحَيَاة من سنة
(1/337)
خمس وَسبعين وَهُوَ يترقى فِي الْعلم
دَرَجَة بِدَرَجَة وَالظَّاهِر من حَاله بُلُوغ النِّهَايَة
وَمن أهل عدن الشَّيْخ الْفَاضِل جمال الدّين مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم
المغربي الأندلسي الشهير بالشماع هَذَا الشَّيْخ لَهُ الباع الأطول
المديد وَالثنَاء الَّذِي لَا فَوْقه مزِيد والمعرفة الَّتِي يشْهد
لَهَا الْقَرِيب والبعيد وَذَلِكَ بفن الْأَدَب والرسائل وَكِتَابَة
الْإِنْشَاء والمسائل سهل الْأَلْفَاظ عذب الْكَلَام أوحد البلغاء
وَأشهر الفصحاء أخبر أَنه وَفد جده تَاجِرًا فسكن مَدِينَة عدن
أَيَّامًا ثمَّ سَافر إِلَى المليبار فَتوفي هُنَالك وَبَقِي وَلَده
إِبْرَاهِيم بعدن مجالسا للْعُلَمَاء وَكَانَ يجمع الْكتب ويحضر عِنْد
حفاظ الحَدِيث فَنَشَأَ لَهُ هَذَا الشَّيْخ جمال الدّين فَتخرج
بِجَمِيعِ الْعُلُوم على الإِمَام جمال الدّين أَحْمد بن عمر بن خَالِد
خطيب الثغر المحروس وَقَرَأَ على غَيره كَالْإِمَامِ جمال الدّين
مُحَمَّد بن سعيد بن كبن فغلب عَلَيْهِ علم الْأَدَب وَهُوَ مَعَ ذَلِك
يشْتَغل الشمع وَيتَعَلَّق بِالْبيعِ وَالشِّرَاء لَا يقطعهُ ذَلِك عَن
الِاشْتِغَال بفن الْأَدَب وَجمع كتابا يحتوي على فُصُول فِيمَا
يَحْتَاجهُ الْإِنْسَان من العقائد الدِّينِيَّة وَالْقَوَاعِد
الإسلامية وَفِي أدعية وعزائم مجربة مَشْهُورَة وَفِي أَحَادِيث عَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومواعظ من أَقْوَال الْعلمَاء
والحكماء وَفِي حكايات وأخبار عَن السّلف وَفِي أشعار ومكاتبات ورسائل
وَغير ذَلِك وَله شعر جمعه فِي ديوَان فِي مدح النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم ومكاتبات وأشعار بَينه وَبَين أقرانه من أهل الْأَدَب
وَذكرت بعض ذَلِك فِي الأَصْل وَقد حدث على هَذَا الْفَقِيه جمال
الدّين مرض الفالج فَصَارَ كالمقعد فِي بَيته وخالط عقله بعض خلل فِيهِ
وَكتب هَذَا الْمَجْمُوع وَهُوَ فِي قيد الْحَيَاة على الْحَال
الْمَذْكُور
(1/338)
|