البحر الرائق شرح كنز الدقائق ط احياء التراث

ج / 1 ص -21-         كتاب الطهارة
_________________
و أما استمداده فمن الأصول الأربعة الكتاب والسنة والإجماع والقياس والمستنبط من هذه الثلاثة وأما شريعة من قبلنا فتابعة للكتاب، وأما أقوال الصحابة فتابعة للسنة، وأما تعامل الناس فتابع للإجماع وأما التحري واستصحاب الحال فتابعان للقياس.
وأما غايته فالفوز بسعادة الدارين والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
" كتاب الطهارة "
اعلم أن مدار أمور الدين متعلق بالاعتقادات والعبادات والمعاملات والمزاجر والآداب فالاعتقادات خمسة أنواع: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والعبادات خمسة: الصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد، والمعاملات خمسة: المعاوضات المالية والمناكحات والمخاصمات والأمانات والتركات والمزاجر خمسة: مزجرة قتل النفس، ومزجرة أخذ المال، ومزجرة هتك الستر، ومزجرة هتك العرض، ومزجرة قطع البيضة، والآداب أربعة: الأخلاق، والشيم الحسنة، والسياسات والمعاشرات.
 فالعبادات، والمعاملات، والمزاجر من قبيل ما نحن بصدده دون القسمين الآخرين وقدم في سائر كتب الفقه العبادات على المعاملات والمزاجر؛ لكونها أهم من غيرها ثم الصلاة قدمت على غيرها؛ لأنها تالية الإيمان وثابتة بالنص والخبر كقوله تعالى
{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ}[البقرة:3] وكحديث  "بني الإسلام على خمس" ثم قدمت الطهارة هنا على الصلاة؛ لأنها شرطها والشرط مقدم على المشروط طبعا فيقدم وضعا وخصها بالبداءة دون سائر الشروط؛ لأنها أهم من غيرها؛ لأنها لا تسقط بعذر من الأعذار كذا في المستصفى وغيره وتعليلهم للأهمية بعدم السقوط أصلا لا يخصها؛ لأن النية كذلك كما صرح به الزيلعي في آخر نكاح الرقيق فالأولى أن يزاد بأنها من الشرائط اللازمة للصلاة في كل أوقاتها، وهي من خصائص الصلاة فتخرج النية؛ لأنه لا يشترط استصحابها لكل ركن من أركانها، وليست من خصائصها

 

ج / 1 ص -22-         ...............................
_________________
بل من خصائص العبادات كلها ثم كتاب الطهارة مركب إضافي لا بد من معرفة جزأيه، ولو من وجه.
فالكتاب لغة مصدر كتب كتابة وكتبة وكتابا بمعنى الكتب، وهو جمع الحروف وسمي به المفعول للمبالغة تقول كتبت البلغة إذا جمعت بين رحمها بحلقة أو سير وكتبت القربة إذا خرزتها كتبا والكتبة بالضم الخزرة والجمع كتب بفتح التاء والكتيبة الجيش المجتمع، وتكتبت الخيل أي تجمعت.
وسميت الكتابة كتابة؛ لأنها جمع الحروف والكلمات وجمعه كتب بضمتين وكتب بسكون التاء ومدار التركيب على الجمع قال في المغرب وقولهم سمي هذا العقد مكاتبة؛ لأنه ضم حرية اليد إلى حرية الرقبة؛ أو لأنه جمع بين نجمين فصاعدا ضعيف جدا، وإنما الصحيح أن كلا منهما كتب على نفسه أمرا: هذا الوفاء، وهذا الأداء انتهى.
وإنما كان التعليل بالجمع بين النجمين ضعيفا؛ لأنه ليس بلازم فيها لجوازها حالة وضعف الوجه الأول ظاهر؛ لأنه بالكتابة قبل الأداء لم تحصل حرية الرقبة فلم يصح الجمع بهذا المعنى.
و في الاصطلاح جمع المسائل المستقلة فخرج جمع الحروف والكلمات التي ليست بمسائل وخرج الباب والفصل لعدم استقلالهما لدخولهما تحت كتاب.
وشمل ما كان نوعا واحدا من المسائل ككتاب اللقطة أو أنواعا ككتاب البيوع ولا حاجة إلى أن يقال اعتبرت مستقلة ليدخل ما كان تبعا لغيره، ولم يكن مستقلا بل اعتبر مستقلا ككتاب الطهارة كما في العناية؛ لأن المراد بالاستقلال عدم توقف تصور المسائل على شيء قبلها ولا شيء بعدها وكتاب الطهارة كذلك لا الأصالة وعدم التبعية والتقييد بالمسائل الفقهية كما في العناية لخصوص المقام لا أنه قيد احترازي وما في السراج الوهاج من أنه في الشرع للشمل والإحاطة فغير صحيح إذ ليس هو هنا وضعا شرعيا، وإنما هو وضع عرفي إلا أن يراد أنه في عرف أهل الشرع، وهو بعيد ويبعده أيضا أن ظاهره أنه لا يكون كتابا إلا إذا أحاط بمسائل ما أضيف إليه وشملها والواقع خلافه فالظاهر ما ذكرناه.

 

ج / 1 ص -23-         ...............................
_________________
والطهارة بفتح الطاء الفعل لغة، وهي النظافة وبكسرها الآلة وبضمها فضل ما يتطهر به.
واصطلاحا زوال الحدث أو الخبث و الحدث مانعية شرعية قائمة بالأعضاء إلى غاية استعمال المزيل وهو طبعي كالماء وشرعي كالتراب.
والخبث عين مستقذرة شرعا وكلمة أو في الحد ليست لمنع الجمع فلا يفسد بها الحد وقول بعضهم إنها إزالة الحدث أو الخبث غير جامع لخروج الزوال بدون الإزالة كما إذا وقع المطر على أعضاء الوضوء من غير قصد، فإنه طهارة وليس بإزالة لعدم الصنع منه ولا يرد الوضوء على الوضوء، فإنه طهارة وبدون الزوال المذكور باعتبار إزالة الآثار الحاصلة؛ لأن تسميته طهارة مجاز والتعريف للحقيقة.
وعرفها في السراج الوهاج بما يدخله فقال إيصال مطهر إلى محل يجب تطهيره أو يندب، ولو عبر بالوصول لكان أولى لما ذكرنا في الإزالة مع ما فيه من لزوم الدور، وهو توقف مطهر على الطهارة، وهي عليه؛ لأنه بعض التعريف.
وفي البدائع ما يفيد أن تعريفها بالزوال المذكور توسع ومجاز فقال الطهارة لغة وشرعا هي النظافة والتطهير التنظيف، وهو إثبات النظافة في المحل، فإنها صفة تحدث ساعة فساعة، وإنما يمتنع حدوثها بوجود ضدها، وهو القذر فإذا أزال القذر أي امتنع حدوثه بإزالة العين القذرة تحدث النظافة فكان زوال القذر من باب زوال المانع من حدوث الطهارة لا أن يكون طهارة، وإنما سمي طهارة توسعا لحدوث الطهارة عند زواله ا هـ .
وأما سبب وجوبها فقيل الحدث والخبث ونسبه الأصوليون إلى أهل الطرد قالوا للدوران وجودا وعدما وعزاه في السراج الوهاج إليهم.
وفي الخلاصة أنه أخذ به الإمام السرخسي في الأصل ويبعد صحته عنه؛ لأنه

 

ج / 1 ص -24-         ...............................
_________________
مردود بأن الدوران وجودا غير موجود؛ لأنه قد يوجد الحدث ولا يجب الوضوء قبل دخول الوقت كذا في غاية البيان وقد يدفع بأنه يجب به الوضوء وجوبا موسعا إلى القيام إلى الصلاة لما نقله السراج الوهاج من أنه لا يأثم بالتأخير عن الحدث بالإجماع وهكذا في الغسل على ما نبينه فيه أن شاء الله تعالى فحينئذ لم يتخلف الدوران ورد أيضا بإنهما ينقضانها فكيف يوجبانها ودفعه في فتح القدير وغيره بأنهما ينقضان ما كان ويوجبان ما سيكون فلا منافاة.
وأجاب عنه العلامة السيرامي بأن الحدث مفض إلى الوجوب والوجوب إلى الوجود والمفضي إلى المفضي إلى الشيء مفض إلى ذلك الشيء، فالحدث مفض إلى وجود الطهارة ووجودها مفض إلى زوال الحدث، فالحدث مفض إلى زوال نفسه ا هـ.
وفي فتح القدير والأولى أن يقال السببية إنما تثبت بدليل الجعل لا بمجرد التجويز، وهو مفقود ا هـ. وقد يدفع بأنه موجود لما رواه في الكشف الكبير عنه عليه الصلاة والسلام "لا وضوء إلا عن حدث" وحرف عن يدل على السببية كقوله "أدوا عمن

 

ج / 1 ص -25-         ...............................
_________________
تمونون" ولذا كان الرأس بوصف المؤنة والولاية سببا لوجوب صدقة الفطر، ويمكن أن يجاب عنه بأن الدليل لما دل على عدم صلاحية الحدث للسببية كان دخول عن على الحدث باعتبار أنه شبيه بالسبب بالنظر إلى التوقف والتكرر دليل السببية عند الصلاحية، وهي منتفية، فلا تدل وقيل سببها إقامة الصلاة فهو، وإن صححه في الخلاصة فقد نسبه في العناية إلى أهل الظاهر، وصرح في غاية البيان بفساده لصحة الاكتفاء بوضوء واحد لصلوات ما دام متطهرا وقد يدفع بأن الإقامة سبب بشرط الحدث، فلا يلزم ما ذكر خصوصا أنه ظاهر الآية.
وقيل سببها إرادة الصلاة، وهو وإن صححه في الكشف وغيره مردود بأن مقتضاه أنه إذا أراد الصلاة، ولم يتوضأ أثم، ولو لم يصل والواقع خلافه؛ لأنه لم يقل به أحد كما أشار إليه في فتح القدير.
وقد يدفع بما ذكره الزيلعي في باب الظهار بأنه إذا أراد الصلاة وجبت عليه الطهارة فإذا رجع وترك التنفل سقطت الطهارة؛ لأن وجوبها لأجلها وفي العناية سببها وجوب الصلاة لا وجودها؛ لأن وجودها مشروط بها فكان متأخرا عنها والمتأخر لا يكون سببا للمتقدم ا هـ.
يعني: الأصل أن يكون وجودها هو السبب بدليل الإضافة نحو طهارة الصلاة، وهي عندهم من أمارة السببية لكن منع مانع من ذلك، وظاهره أنه بدخول الوقت تجب الطهارة لكنه وجوب موسع كوجوب الصلاة فإذا ضاق الوقت صار الوجوب فيهما مضيقا وحينئذ فلا حاجة إلى جعل سببها وجوب أداء الصلاة كما في فتح القدير لما علمت أن أصل الوجوب كاف للسببية إلا أنه مشكل لعدم شموله سبب الطهارة للصلاة النافلة إذ لا وجوب هنا ليكون سببا للطهارة، فليس فيه إلا الإرادة.
فالظاهر أن السبب هو الإرادة في الفرض والنفل ويسقط وجوبها بترك إرادة الصلاة أو هو الإرادة المستلحقة للشروع فلا يرد ما ذكر عليها .

 

ج / 1 ص -26-         ...............................
_________________
وأركانها في الحدث الأصغر غسل الأعضاء الثلاثة ومسح ربع الرأس، وفي الأكبر غسل جميع البدن، وفي النجاسة الحقيقية المرئية إزالة عينها وفي غير المرئية غسل محلها ثلاثا والعصر في كل مرة إن كان مما ينعصر والتجفيف في كل ما لا ينعصر.
وحكمها استباحة ما لا يحل إلا بها ولم يذكروا أن من حكمها الثواب؛ لأنه ليس بلازم فيها لتوقفه على النية، وهي ليست شرطا فيها وآلتها الماء والتراب والملحق بهما وأنواعها كثيرة ستأتي مفصلة ومحاسنها شهيرة .
وأما شرائطها فذكر العلامة الحلبي في شرح منية المصلي أنه لم يطلع عليها صريحة في كلام الأصحاب، وإنما تؤخذ من كلامهم، وهي تنقسم إلى شروط وجوب وشروط صحة.
فالأولى تسعة: الإسلام والعقل والبلوغ ووجود الحدث ووجود الماء المطلق الطهور الكافي والقدرة على استعماله وعدم الحيض، وعدم النفاس وتنجيز خطاب المكلف كضيق الوقت.
والثانية أربعة: مباشرة الماء المطلق الطهور لجميع الأعضاء وانقطاع الحيض وانقطاع النفاس وعدم التلبس في حالة التطهير بما ينقضه في حق غير المعذور بذلك ا هـ.
والإضافة فيه بمعنى اللام كما لا يخفى وجعلها بمعنى من بعيد؛ لأن ضابطها كما في التسهيل صحة تقديرها مع صحة الإخبار عن الأول بالثاني كخاتم فضة، وهو مفقود هنا إذ لا يصح أن يقال الكتاب طهارة.

 

ج / 1 ص -27-         فرض الوضوء غسل وجهه
_________________
" قوله: فرض الوضوء غسل وجهه " قدمه على الغسل؛ لأن الحاجة إليه أكثر؛ ولأن محله جزء من محل الغسل أو لتقديمه عليه في القرآن أو في تعليم جبريل للنبي عليه الصلاة والسلام.
واختلف في الفرض لغة ففي الصحاح الفرض الحز في الشيء والفرض جنس من التمر والفرض ما أوجبه الله سمي بذلك؛ لأن له معالم وحدودا ا هـ. وفي التلويح المشهور أنه حقيقة في القطع والإيجاب وذهب الأصوليون إلى أنه حقيقة في التقدير مجاز في غيره؛ لأن اللفظ إذا دار بين الاشتراك والمجاز فالمجاز أولى يقال فرض القاضي النفقة إذا قدرها ا هـ.
وأما في الاصطلاح ففي التحرير الفرض ما قطع بلزومه من فرض قطع. ا هـ.
وهو بمعنى قولهم ما لزم فعله بدليل قطعي وعرفه في الكافي بما يفوت الجواز بفوته، وهو يشمل كل فرض بخلاف الأول إذ يخرج عنه المقدار في مسح الرأس، فإنه فرض مع أنه ثبت بظني لكنه تعريف بالحكم موجب للدور.
وفي العناية أن المفروض في مسح الرأس قطعي؛ لأن خبر الواحد إذا لحق بيانا للمجمل كان الحكم بعده مضافا إلى المجمل دون البيان والمجمل من الكتاب والكتاب دليل قطعي. ا هـ. وهو ينبني على أن الآية مجملة وسيأتي تضعيفه.
والظاهر من كلامهم في الأصول والفروع أن المفروض على نوعين قطعي وظني، وهو في قوة القطعي في العمل بحيث يفوت الجواز بفوته فالمقدر في مسح الرأس من قبيل الثاني، وعند الإطلاق ينصرف إلى الأول لكماله، والفارق بين الظني القوي المثبت للفرض، وبين الظني المثبت للواجب اصطلاحا خصوص المقام وليس إكفار جاحد الفرض لازما له، وإنما هو حكم الفرض القطعي المعلوم من الدين بالضرورة.
وذكر في العناية لا نسلم انتفاء اللازم في مقدار المسح؛ لأن الجاحد من لا يكون مؤولا وموجب الأقل أو الاستيعاب مؤول يعتمد شبهة قوية وقوة الشبهة تمنع التكفير من

 

ج / 1 ص -28-         ...............................
_________________
الجانبين ألا ترى أن أهل البدع لم يكفروا بما منعوا مما دل عليه الدليل القطعي في نظر أهل السنة لتأويلهم ا هـ.
وأما غسل المرافق والكعبين ففرضيته بالإجماع كما سنحققه وكذا العقدة الأخيرة لا بفعله في الأول وخبر الواحد في الثاني ولا بما قيل في الغاية كما قد يتوهم وذكر في النهاية أنه يجوز أن يكون الفرض في مقدار المسح بمعنى الواجب لالتقائهما في معنى اللزوم وتعقب بأنه مخالف لما اتفق عليه الأصحاب إذ لا واجب في الوضوء وقد يدفع بأن الذي وقع الاتفاق عليه هو الواجب الذي لا يفوت الجواز بفوته فلا مخالفة بل يحصل بتركه النقصان والكلام هنا في الواجب الذي يفوت الجواز بفوته فلا مخالفة والفروض بمعنى المفروض والإضافة فيه بيانية إذ الفرض قد يكون من غيره.
والوضوء مأخوذ من الوضاءة، وهي النظافة والحسن وقد وضؤ يوضؤ وضاءة فهو وضيء كذا في طلبة الطلبة وفي المغرب أنه بالضم المصدر وبالفتح الماء الذي يتوضأ به ا هـ.
وفي الاصطلاح الشرعي غسل الأعضاء الثلاثة ومسح ربع الرأس.
والغسل بفتح الغين إزالة الوسخ عن الشيء ونحوه بإجراء الماء عليه لغة وبالضم اسم من الاغتسال، وهو تمام غسل الجسد واسم للماء الذي يغتسل به وبالكسر ما يغسل به الرأس من خطمي وغيره واختلف في معناه الشرعي فقال أبو حنيفة ومحمد، هو الإسالة مع التقاطر,

 

ج / 1 ص -29-         وهو من قصاص الشعر إلى أسفل الذقن وإلى شحمتي الأذن
_________________
ولو قطرة حتى لو لم يسل الماء بأن استعمله استعمال الدهن لم يجز في ظاهر الرواية وكذا لو توضأ بالثلج ولم يقطر منه شيء لم يجز وعن خلف بن أيوب قال ينبغي للمتوضئ في الشتاء أن يبل أعضاءه بالماء شبه الدهن ثم يسيل الماء عليها؛ لأن الماء يتجافى عن الأعضاء في الشتاء كذا في البدائع وعن أبي يوسف هو مجرد بل المحل بالماء سال أو لم يسل ثم على القولين الدلك ليس من مفهومه، وإنما هو مندوب وذكر في الخلاصة أنه سنة، وحده إمرار اليد على الأعضاء المغسولة والضمير في وجهه عائد إلى المتوضئ المستفاد من الوضوء.
" قوله، وهو من قصاص الشعر إلى أسفل الذقن وإلى شحمتي الأذن " أي الوجه وقصاص الشعر مقطعه ومنتهى منبته من مقدم الرأس أو حواليه، وهو مثلث القاف والضم أعلاها وفي الصحاح ذقن الإنسان مجتمع لحييه. ا هـ. واللحي منبت اللحية من الإنسان وغيره والنسبة إليه لحوي، وهما لحيان وثلاثة ألح على أفعل إلا إنهم كسروا الحاء لتسلم الياء والكثير لحي على فعول وفي المغرب اللحي العظم الذي عليه الأسنان. ا هـ. وهذا الحد للوجه مروي في غير رواية الأصول، ولم يذكر حده في ظاهر الرواية قال في البدائع: وهذا تحديد صحيح؛ لأنه تحديد الشيء بما ينبئ عنه اللفظ لغة؛ لأن الوجه اسم لما يواجه به الإنسان أو ما يواجه إليه في العادة والمواجهة تقع بهذا المحدود فوجب غسله قبل نبات الشعر، فإذا نبت الشعر يسقط غسل ما تحته عند عامة العلماء كثيفا كان الشعر أو خفيفا؛ لأن ما تحته خرج أن يكون وجها؛ لأنه لا يواجه إليه، وكذلك لا يجب إيصال الماء إلى ما تحت شعر الحاجبين والشارب ا هـ .
والمراد بالخفيفة التي لا ترى بشرتها أما التي ترى بشرتها، فإنه يجب إيصال الماء إلى ما

 

ج / 1 ص -30-         ...............................
_________________
تحتها كذا في فتح القدير وعلى هذا ينبغي أن يحمل قول من قال إنه يجب إيصال الماء إلى ما تحت شعر الشارب على ما إذا كان بحيث يبدو منابت الشعر، وقد جعله في التجنيس من الآداب وصرح الولوالجي في باب الكراهية على أن المفتي به أنه لا يجب إيصال الماء إلى ما تحته كالحاجبين، وأما الشفة فقيل تبع للفم وقال أبو جعفر: ما انكتم عند انضمامه فهو تبع له وما ظهر فللوجه وصححه في الخلاصة وذكر في المجتبى لا تغسل العين بالماء ولا بأس بغسل الوجه مغمضا عينيه وقال الفقيه أحمد بن إبراهيم: إن غمض عينيه شديدا لا يجوز، ولو رمدت عينه فرمصت يجب إيصال الماء تحت الرمص إن بقي خارجا بتغميض العين، وإلا فلا.
وفي المغرب الرمص ما جمد من الوسخ في الموق والموق مؤخر العين والماق مقدمها ا هـ.
وفي المجتبى ولا يدخل في حد الوجه النزعتان، وهو ما انحسر من الشعر من جانبي الجبهة إلى الرأس؛ لأنه من الرأس ا هـ. والنزعة بالفتح.
وأفاد المصنف أن البياض الذي بين العذار والأذن من الوجه فيجب غسله، وهو ظاهر المذهب كما ذكره الحلواني، وهو الصحيح وعليه أكثر مشايخنا كما ذكره الطحاوي، وهو الصحيح من المذهب كما ذكره السرخسي وعن أبي يوسف عدمه كذا في البدائع.
وظاهره أن مذهبه بخلافه وفي تبيين الحقائق أن قوله من قصاص الشعر خرج

 

ج / 1 ص -31-         ويديه بمرفقيه
_________________
مخرج الغالب، وإلا فحد الوجه في الطول من مبدأ سطح الجبهة إلى منتهى اللحيين كان عليه شعر أو لم يكن. ا هـ. لأنه يرد عليه الأغم والأصلع؛ لأن الأغم الذي على جبهته شعر لا يكفي غسله من قصاص شعره والأصلع الذي انحسر شعره إلى وسط رأسه لا يجب عليه أن يغسله من قصاص شعره على الأصح كما في الخلاصة، وصرح في المجتبى بالخلاف فيه، فقيل إن قل فمن الوجه وإن كثر فمن الرأس والصحيح أنه من الرأس حتى جاز المسح عليه.
وفي المغرب عذار اللحية جانباها، وشحمه الأذن ما لان منها.
" قوله: ويديه بمرفقيه " أي مع مرفقيه فالباء للمصاحبة بمعنى مع نحو
{اهْبِطْ بِسَلامٍ}[هود:48] أي معه والفرق بين استعمالها بمعنى مع وبين الباء أن مع لابتداء المصاحبة والباء لاستدامتها كذا ذكره ابن الملك في بحث القياس.
والمرفق بكسر الميم وفتح الفاء، وفيه العكس اسم لملتقى العظمات: عظم العضد وعظم الذارع.
وأشار المصنف إلى أن إلى في الآية بمعنى مع، وهو مردود؛ لأنهم قالوا إن اليد من رءوس الأصابع للمنكب، فإذا كانت إلى بمعنى مع وجب الغسل إلى المنكب؛ لأنه كاغسل القميص وكمه.
وغايته أنه كإفراد فرد من العام إذ هو تنصيص على بعض متعلق الحكم بتعليق عين ذلك الحكم، وذلك لا يخرج غيره، ولو أخرج كان بمفهوم اللقب، وهو ليس بحجة وما في المحيط من أنه لما كان المرفق ملتقى العظمين ولا يمكن التمييز بينهما فلما وجب غسل الذارع ولا يمكن تحديده وجب غسل المرفق احتياطا مردود؛ لأنه لم يتعلق الأمر بغسل الذراع ليجب غسل ما لازمه، وإنما تعلق الأمر بغسل اليد إلى المرفق وما بعد إلى لما لم يدخل جزآهما الملتقيان.
وما في البدائع من أنه لما احتمل الدخول واحتمل الخروج صار مجملا وفعله عليه

 

ج / 1 ص -32-         ...............................
_________________
السلام بيان للمجمل مردود بأن عدم دلالة اللفظ لا يوجب الإجمال والأصل براءة الذمة، وإنما يوجب الدلالة المتشبهة فبقي مجرد فعله دليل السنة.
وما في غاية البيان من أنها قد تدخل، وقد لا تدخل فتدخل احتياطا مردود؛ لأن الحكم إذا توقف على الدليل لا يجب مع عدمه والاحتياط العمل بأقوى الدليلين، وهو فرع تجاذبهما، وهو منتف.
وما في الهداية وغيرها من أنه غاية لمقدر تقديره اغسلوا أيديكم مسقطين إلى المرافق مردود؛ لأن الظاهر تعلقه باغسلوا وتعلقه بمقدر خلاف الظاهر بلا ملجئ مع أن المقصود منه الإسقاط، وهو لا يوجبه عما فوق المرفق بل عمل قبله باللفظ إذ يحتمل أسقطوا من المنكب إلى المرفق أو من رءوس الأصابع إلى المرفق فلم يتعين الأول كما لا يخفى.
وفرقهم بين غاية الإسقاط وبين غاية المد بأن صدر الكلام إن كان متناولا لما بعد إلى، فهي للإسقاط كمسألتنا، وإلا فهي للمد نحو
{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}[البقرة:187] ليس بمطرد لانتقاضه بالغاية في اليمين، فإن ظاهر الرواية عدم الدخول كما إذا حلف لا يكلمه إلى عشرة أيام لا يدخل العاشر مع تناول الصدر له كما في جامع الفصولين، وكذلك رأس السمكة في قوله والله لا آكل السمكة إلى رأسها، فإنها لا تدخل مع التناول المذكور.
وما ذكره المحققون ومنهم الزمخشري والتفتازاني من أن إلى تفيد معنى الغاية مطلقا، فأما دخولها في الحكم وخروجها عنه فأمر يدور مع الدليل فما فيه دليل الخروج قوله تعالى
{فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}[البقرة:280] ومما فيه دليل الدخول آية الإسراء للعلم بأنه لا

 

ج / 1 ص -33-         ...............................
_________________
يسرى به إلى المسجد الأقصى من غير أن يدخله وما نحن فيه لا دليل فيه على أحد الأمرين فقالوا بدخولهما احتياطا إذ لم يرو عنه قط صلى الله عليه وسلم ترك غسلهما فلا يفيد الافتراض؛ لأن الفعل لا يفيده وتقدم منع الاحتياط.
والحق أن شيئا مما ذكروه لا يدل على الافتراض، فالأولى الاستدلال بالإجماع على فرضيتهما.
قال الإمام الشافعي رضي الله عنه في الأم: لا نعلم مخالفا في إيجاب دخول المرفقين في الوضوء، وهذا منه حكاية للإجماع قال في فتح الباري: بعد نقله عنه فعلى هذا فزفر محجوج بالإجماع قبله وكذا من قال ذلك من أهل الظاهر بعده ولم يثبت ذلك عن مالك صريحا، وإنما حكى عنه أشهب كلاما محتملا.

 

ج / 1 ص -34-         ورجله بكعبيه
_________________
وحكم الكعبين كالمرفقين، وإذا كان في أظفاره درن أو طين أو عجين أو المرأة تضع الحناء جاز في القروي والمدني، وهو صحيح وعليه الفتوى، ولو لصق بأصل ظفره طين يابس وبقي قدر رأس إبرة من موضع الغسل لم يجز، وإذا كان في أصبعه خاتم إن كان ضيقا فالمختار أنه يجب نزعه أو تحريكه بحيث يصل الماء إلى ما تحته.
ولو قطعت يده أو رجله فلم يبق من المرفق والكعب شيء سقط الغسل، ولو بقي وجب، ولو طالت أظفاره حتى خرجت عن رءوس الأصابع وجب غسلها بلا خلاف.
ولو خلق له يدان على المنكب فالتامة هي الأصلية يجب غسلها، والأخرى زائد فما حاذى منها محل الفرض وجب غسله وما لا فلا يجب بل يندب غسله وكذا يجب غسل ما كان مركبا على اليد من الأصبع الزائدة والكف الزائدة والسلعة وكذا يجب إيصال الماء إلى ما بين الأصابع إذا لم تكن ملتحمة.
 قوله: "ورجليه بكعبيه" أي مع كعبيه كما تقدم والكعبان هما العظمان الناشزان من جانبي القدم أي المرتفعان كذا في المغرب وصححه في الهداية وغيرها.
وروى هشام عن محمد أنه في ظهر القدم عند مقعد الشراك قالوا هو سهو من هشام؛ لأن محمدا إنما قال ذلك في المحرم إذا لم يجد النعلين حيث يقطع خفيه أسفل من الكعبين وأشار محمد بيده إلى موضع القطع فنقله هشام إلى الطهارة.
ويرد على هشام من جهة المعنى أيضا بأن ما يوجد من خلق الإنسان، فإن تثنيته بعبارة الجمع كقوله تعالى
{فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}[التحريم:4] أي قلباكما وما كان اثنين من خلقه فتثنيته بلفظها، ولو كان كما زعمه هشام لقيل الكعاب كالمرافق كذا في المبسوط وغيره وقد يقال: إنه غير متعين لجواز أن يعتبر الكعبان بالنسبة إلى ما للمرء من جنس الرجل، وهو اثنان لا بالنظر

 

ج / 1 ص -35-         ...............................
_________________
إلى كل رجل وحدها فالأولى الرد عليه من اللغة والسنة.
أما اللغة فقد صرح في الصحاح بأنه العظم الناشز كما ذكرناه قال وأنكر الأصمعي قول الناس إنه في ظهر القدم ا هـ. قالوا الكعب في كلام العرب مأخوذ من العلو ومنه سميت الكعبة لارتفاعها.
وأما السنة فما رواه أبو داود مرفوعا"الله لتقيمن صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم" قال فرأيت الرجل يلزق منكبه بمنكب صاحبه وركبته بركبة صاحبه وكعبه بكعبه.
وما وقع في الشروح من أنه كان ينبغي غسل يد واحدة ورجل واحدة؛ لأن مقابلة الجمع بالجمع تقتضي انقسام الآحاد على الآحاد.
والجواب بأن وجوب واحدة بالعبارة والأخرى بالدلالة لا طائل تحته بعد انعقاد الإجماع القطعي على افتراضهما بحيث صار معلوما من الدين بالضرورة، ومن البحث في إلى وفي القراءتين في الأرجل، فإن الإجماع انعقد على غسلهما ولا اعتبار بخلاف الروافض فلذا تركنا ما قرروه هنا والزائد على الرجلين كالزائد على اليدين كما صرح به في المجتبى، ولو قال ورجليه بكعبيه أو مسح على خفيه لكان أولى.

 

ج / 1 ص -36-         ومسح ربع رأسه
_________________
" قوله: ومسح ربع رأسه" هو في اللغة إمرار اليد على الشيء.
واصطلاحا إصابة اليد المبتلة العضو، ولو ببلل باق بعد غسل لا بعد مسح والآلة لم تقصد إلا للإيصال إلى المحل فإذا أصابه من المطر قدر الفرض أجزأه، ولو مسح ببلل في يده أخذه من عضو آخر لم يجز مطلقا.
وفي مقدار الفرض روايات أصحها رواية ودراية ما في المختصر أما الأول فلاتفاق المتون عليها، ولنقل المتقدمين لها كأبي الحسن الكرخي وأبي جعفر الطحاوي ورواية الناصية غيرها؛ لأن الناصية أقل من ربع الرأس.
وأما الدراية فاختلف في توجيهها ففي الهداية أن الكتاب مجمل، وأن حديث المغيرة من مسحه عليه السلام بناصيته التحق بيانا له، وهو مردود بأوجه:
الوجه الأول: أنه لا إجمال فيها؛ لأنه إن لم يكن في مثله عرف يصحح إرادة البعض أفاد مسح مسماه, وهو الكل أو كان أفاد بعضا مطلقا ويحصل في ضمن الاستيعاب وغيره فلا إجمال كذا في التحرير وما في البدائع من تقدير الإجمال بأنها احتملت الباء للصلة والإلصاق والتبعيض ولا دليل على تعيين بعضها مدفوع بأن معناها عند المحققين الإلصاق؛ لأنه المعنى المجمع عليه بخلاف غيره، فإنه لم يثبته المحققون فإن التبعيض ليس معنى أصليا بل يحصل في ضمن الإلصاق كذا في فتح القدير وقال في التحرير واعلم أن طائفة من

 

ج / 1 ص -37-         ...............................
_________________
المتأخرين ادعوا التبعيض في نحو شربن بماء البحر وابن جني يقول في سر الصناعة لا نعرفه لأصحابنا.
والحاصل أنه ضعيف للخلاف القوي؛ ولأن الإلصاق الجمع عليه لها ممكن فيثبت التبعيض اتفاقيا لعدم استيعاب الملصق لا مدلولا ا هـ.
الثاني: أن الباء المتنازع فيها موجودة في حديث المغيرة فهي مجملة على ما ادعوه فكيف تبين المجمل فيعود النزاع في الحديث أيضا.
الثالث أن جعل حديث المغيرة مبينا للآية موقوف على إثبات أن هذا الوضوء أول وضوئه عليه السلام بعد نزول الآية؛ لأنه لو لم يكن كذلك لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، وهو غير جائز اتفاقا، ولم يثبت ذلك إذ لو ثبت لنقل، ولئن كان كذلك فلا ينتفي التأخير بالنسبة إلى الذين لم يحضروا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ الظاهر أن جميع المسلمين لم يكونوا حضورا في تلك السباطة وإلا لنقل؛ لأنها حادثة تعم بها البلوى فعلم به أنه لا إجمال في الآية.
الرابع: أن الناصية ليست قدر الربع بدليل أن صاحب البدائع وغيره نقلوا عن أبي حنيفة روايتين في رواية المفروض مقدار الناصية، وفي رواية الربع وذكر الإسبيجابي رواية مقدار الناصية ثم قال هذا إذا كانت الناصية تبلغ ربع الرأس، وإذا كانت الناصية لا تبلغ الربع لا يجوز فدل على تغايرهما.

 

ج / 1 ص -38-         ...............................
_________________
وفي ضياء الحلوم الناصية مقدم الرأس، وفي شرح الإرشاد الناصية ما بين النزعتين من الشعر، وهي دون الربع واختار المحققون كصدر الشريعة وابن الساعاتي وفي البديع وابن الهمام أن الباء للإلصاق والفعل الذي هو المسح قد تعدى إلى الآلة، وهي اليد؛ لأن الباء إذا دخلت في الآلة تعدى الفعل إلى كل الممسوح كمسحت رأس اليتيم بيدي أو على المحل تعدى الفعل إلى الآلة والتقدير وامسحوا أيديكم برءوسكم فيقتضي استيعاب اليد دون الرأس واستيعابها ملصقة بالرأس لا تستغرق غالبا سوى ربعه فتعين مرادا من الآية وهو المطلوب والاستيعاب في التيمم لم يكن بالآية بل بالسنة كما صرح به في البدائع وغيره.
وأما رواية ثلاث أصابع فقد ذكر في البدائع أنها رواية الأصول وفي غاية البيان أنها ظاهر الرواية وفي معراج الدراية أنها ظاهر المذهب واختيار عامة المحققين من أصحابنا.
وصححها في شرح القدوري وقال في الظهيرية وعليها الفتوى ووجهوها بأن الواجب إلصاق اليد والأصابع أصلها والثلاث أكثرها وللأكثر حكم الكل ومع ذلك، فهي غير المنصور رواية ودارية أما الأول فلنقل المتقدمين رواية الربع كما ذكرناه، وأما الثاني؛ فلأن المقدمة الأخيرة في حيز المنع؛ لأنها من قبيل المقدر الشرعي بواسطة تعدي الفعل إلى تمام اليد، فإنه به يتقدر قدرها من الرأس وفيه يعتبر عين قدره كذا في فتح القدير وعزاها في النهاية إلى

 

ج / 1 ص -39-         ...............................
_________________
محمد وعزا رواية الربع إليهما، وهو الحق.
ولو وضع ثلاث أصابع، ولم يمدها جاز على رواية الثلاث لا الربع، ولو مسح بثلاث أصابع منصوبة غير موضوعة لم يجز وينبغي أن يكون اتفاقا، ولو مدها حتى بلغ القدر المفروض لم يجز عند أصحابنا خلافا لزفر، وكذا بأصبع أو أصبعين، ولو مسح بأصبع واحدة ثلاث مرات وأعادها إلى الماء في كل مرة جاز في رواية محمد أما عندهما فلا يجوز، ولو مسح بأطراف أصابعه والماء متقاطر جاز، وإن لم يكن متقاطرا لا يجوز؛ لأن الماء إذا كان متقاطرا فالماء ينزل من أصابعه إلى أطرافها، فإذا مده صار كأنه أخذ ماء جديدا كذا في المحيط.
وذكر في الخلاصة، ولو مسح بأطراف أصابعه يجوز سواء كان الماء متقاطرا أو لا و هو الصحيح، وفي البدائع، ولو مسح بأصبع واحدة ببطنها وبظهرها وبجانبها لم يذكر في ظاهر الرواية واختلف المشايخ قال بعضهم: لا يجوز وقال بعضهم: يجوز، وهو الصحيح؛ لأن ذلك في معنى المسح بثلاث أصابع ا هـ. ولا يخفى أنه لا يجوز على المذهب من اعتبار الربع، وأما ما في شرح المجمع لابن الملك من أنه لا يجوز اتفاقا في الأصح ففيه نظر نعم صرح بالتصحيح من غير ذكر الاتفاق شمس الأئمة السرخسي ثم صاحب الخلاصة ومنية المفتي.
ولو أدخل رأسه الإناء أو خفه أو جبيرته، وهو محدث قال أبو يوسف: يجزئه المسح ولا يصير الماء مستعملا سواء نوى أو لم ينو وقال محمد: إن لم ينو يجزئه، ولا يصير مستعملا، وإن نوى المسح اختلف المشايخ على قوله قال بعضهم: لا يجزئه ويصير الماء مستعملا والصحيح أنه يجوز ولا يصير الماء مستعملا كذا في البدائع.
فعلم بهذا أن ما في المجمع من الخلاف في هذه المسألة على غير الصحيح بل الصحيح أن لا خلاف، وعلم أيضا أنه لا فرق بين الرأس والخف والجبيرة خلافا لما ذكره ابن

 

ج / 1 ص -40-         ولحيته
_________________
الملك ومحل المسح على الشعر الذي فوق الأذنين لا ما تحتهما كذا في الخلاصة والمسح على شعر الرأس ليس بدلا عن المسح على البشرة؛ لأنه يجوز مع القدرة على المسح على البشرة، ولو كان بدلا لم يجز ا هـ.
" قوله: ولحيته" بالجر عطف على رأسه يعني وربع لحيته، وإنما عيناه لما صرح به المصنف في الكافي، وإن جاز فيه وجه آخر، وهو العطف على الربع ليفيد مسح الجميع، وهنا روايات في المفروض في اللحية مع الاتفاق على عدم وجوب إيصال الماء إلى ما تحت اللحية من بشرة الوجه فروي مسح ربعها واختاره المصنف وعبر عنه في الكافي بقوله ولنا وروي مسح كلها وروي مسح ما يلاقي البشرة وصححه قاضي خان في شرح الجامع الصغير وتبعه في المجمع وروي مسح الثلث وروي عدم وجوب شيء والصحيح وجوب غسلها بمعنى افتراضه كما صرح به في السراج الوهاج وعليه الفتوى كما في الظهيرية وفي البدائع أن ما عدا هذه الرواية مرجوع عنه.
والعجب من أصحاب المتون في ذكر المرجوع عنه وترك المرجوع إليه المصحح المفتى به مع دخولها في حد الوجه المتقدم كما ذكره في فتح القدير.
وهذا كله في الكثة أما الخفيفة التي ترى بشرتها فيجب إيصال الماء إلى ما تحتها، وهذا كله في غير المسترسل وأما المسترسل فلا يجب غسله ولا مسحه لكن ذكر في منية المصلي أنه سنة، ولو أمر الماء على شعر الذقن ثم حلقه لا يجب عليه غسل الذقن كالرأس.
وظاهر كلامهم أن المراد باللحية الشعر النابت على الخدين من عذار وعارض والذقن وفي شرح الإرشاد اللحية الشعر النابت بمجتمع اللحيين والعارض ما بينهما وبين العذار وهو القدر المحاذي للأذن يتصل من الأعلى بالصدغ ومن الأسفل بالعارض .
ولما فرغ المصنف من فرائض الوضوء شرع في بيان سننه إشارة إلى أن الوضوء لا واجب فيه لما أن ثبوت الحكم بقدر دليله والدليل المثبت له هو ما كان ظني الثبوت قطعي الدلالة وما كان بمنزلته كأخبار الآحاد التي مفهومها قطعي الدلالة، ولم يوجد في الوضوء ولا ينافيه ما في الخلاصة من أن الوضوء ثلاثة أنواع:

 

ج / 1 ص -41-         وسنته
_________________
فرض، وهو الوضوء لصلاة الفريضة وصلاة الجنازة وسجدة التلاوة وواجب، وهو الوضوء للطواف بالبيت.
ومندوب، وهو الوضوء للنوم وعن الغيبة والكذب، وإنشاد الشعر ومن القهقهة والوضوء على الوضوء والوضوء لغسل الميت ا هـ. لأن هذا حكم على نفس الوضوء بأنه واجب لا أن فيه واجبا، وظاهر تقييده بصلاة الفريضة أن الوضوء للنافلة ليس بفرض، وإن كان شرطا.
والظاهر أنه فرض عند إرادتها الجازمة كما سبق تقريره في بيان السبب ومراده من الوضوء للنوم الوضوء عند إرادة النوم، فإنه مستحب، وأما الوضوء من النوم الناقض ففرض.
" قوله: وسنته " أي الوضوء هي لغة الطريقة المعتادة، ولو سيئة.
واصطلاحا الطريقة المسلوكة في الدين كذا في العناية، وفيه نظر لشموله الفرض والواجب فزاد في الكشف من غير افتراض ولا وجوب وفيه نظر لشموله المستحب والمندوب فالأولى أن يقال هي الطريقة المسلوكة في الدين من غير لزوم على سبيل المواظبة ليخرج غير المحدود، وما في غاية البيان من أنها ما في فعله ثواب وفي تركه عتاب لا عقاب فهو تعريف بالحكم وما في شرح النقاية من أنها ما ثبت بقوله أو فعله وليس بواجب ولا مستحب ففيه نظر لشموله المباح.
وما في فتح القدير وغيره من أنها ما واظب النبي صلى الله عليه وسلم عليه ومع الترك أحيانا فمنتقض بالفرض، فإن القيام في الصلاة مثلا حصلت المواظبة عليه مع الترك أحيانا لعذر المرض؛ فلذا زاد في التحرير أن يكون الترك أحيانا بلا عذر ليلزم كونه بلا وجوب.
وظاهره: أن المواظبة بلا ترك أصلا لا تفيد السنية بل الوجوب وظاهر الهداية يخالفه، فإنه في الاستدلال على سنية المضمضة والاستنشاق قال؛ لأنه عليه السلام فعلهما على المواظبة، وكذا استدلالهم على سنية الاعتكاف في العشرة الأخير من رمضان بأنه عليه السلام واظب على الاعتكاف في العشرة الأخير من رمضان حتى توفاه الله تعالى كما في الصحيحين يفيد أنها

 

ج / 1 ص -42-         غسل يديه إلى رسغيه ابتداء
_________________
تفيد السنية مطلقا؛ ولذا في فتح القدير فهذه المواظبة المقرونة بعدم الترك مرة لما اقترنت بعدم الإنكار على من لم يفعله من الصحابة كانت دليل السنية، وإلا كانت تكون دليل الوجوب اهـ.
والذي ظهر للعبد الضعيف أن السنة ما واظب النبي صلى الله عليه وسلم عليه لكن إن كانت لا مع الترك فهي دليل السنة المؤكدة، وإن كانت مع الترك أحيانا فهي دليل غير المؤكدة، وإن اقترنت بالإنكار على من لم يفعله فهي دليل الوجوب فافهم هذا فإن به يحصل التوفيق.
وفي بعض النسخ وسننه بالجمع ونكتة جمعها وإفراد الفرض الإشارة إلى أن الفروض وإن كثرت في حكم شيء واحد بدليل فساد البعض بترك البعض بخلاف السنن إذ لا يبطل بعضها بترك بعضها.
والإضافة هنا بمعنى اللام كما لا يخفى وجعلها المصنف في المستصفى من إضافة الشيء إلى محله؛ لأن الطهارة محل لهذه السنن وفي النهاية أنها بمعنى من وفيه ما تقدم في كتاب الطهارة.
" قوله: غسل يديه إلى رسغيه ابتداء " يعني: غسل اليدين ثلاثا إلى رسغيه في ابتداء الوضوء سنة.
والرسغ منتهى الكف عند المفصل وفي ضياء الحلوم الرسغ بالغين المعجمة موصل الكف في الذراع والقدم في الساق. اعلم أن في غسل اليدين ابتداء ثلاثة أقوال:
قيل إنه فرض وتقديمه سنة واختاره في فتح القدير والمعراج والخبازية وإليه يشير قول محمد في الأصل بعد غسل الوجه ثم يغسل ذراعيه ولم يقل يديه فلا يجب غسلهما ثانيا.
وقيل إنه سنة تنوب عن الفرض كالفاتحة، فإنها واجبة تنوب عن الفرض واختاره في الكافي.
وقال السرخسي: إنه سنة لا ينوب عن الفرض فيعيد غسلهما ظاهرهما وباطنهما قال: وهو الأصح عندي واستشكله في الذخيرة بأن المقصود هو التطهير فبأي طريق حصل حصل المقصود وظاهر كلام المشايخ أن المذهب الأول.
واختلف في أن غسلهما قبل الاستنجاء أو بعده فقيل سنة قبله فقط وقيل بعده فقط.

 

ج / 1 ص -43-         ...............................
_________________
وقيل قبله وبعده وإليه ذهب الأكثر كما صرح به في المجتبى وصححه قاضي خان في الفتاوى وفي النهاية ويستدل له بأن جميع من حكى وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم غسل اليدين، وأما سنيته قبله فيما رواه الجماعة من حديث ميمونة في صفة غسله وفيه أنها حكت غسل اليدين قبل الاستنجاء وحكمته قبله المبالغة في إزالة رائحة ما يصيبهما.
وأورد أن المصاب اليد اليسرى فينبغي الاقتصار عليها وتخصيصه بما إذا تغوط. وأجيب بما في الأصول من أن الحكمة تراعى في الجنس ولا يلزم وجودها في كل فرد.
ثم اعلم أن الابتداء بغسل اليدين واجب إذا كانت النجاسة محققة فيهما وسنة عند ابتداء الوضوء كما ذكرنا وسنة مؤكدة عند توهم النجاسة كما إذا استيقظ من النوم.
فعلم بهذا أن قيد الاستيقاظ الواقع في الهداية وغيرها اتفاقي؛ لأن من حكى وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم كحمران مولى عثمان بن عفان وغيره قدم فيه البداءة بغسل اليدين من غير تقييد بكونه عن نوم وعلل له في الهداية بأن اليدين آلة التطهير فيبدأ بتنظيفهما.
وأورد عليه بأن هذا يقتضي الوجوب؛ لأن ما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب. وأجيب بأن هنا مانعا من القول بالوجوب، وهو طهارتهما حقيقة وحكما، فكأن الغسل إلى الرسغين؛ لأنه يكفي في حصول المقصود، وهو تنظيف الآلة.

 

ج / 1 ص -44-         ...............................
_________________
وعلم بما قررناه أيضا أن ما في شرح المجمع من أن السنة في غسل اليدين للمستيقظ مقيدة بأن يكون نام غير مستنج أو كان على بدنه نجاسة حتى لو لم يكن كذلك لا يسن في حقه ضعيف أو المراد نفي السنة المؤكدة لا أصلها.
وكيفية غسلهما كما ذكر في الشروح أنه إن كان الإناء صغيرا بحيث يمكن رفعه لا يدخل يده فيه بل يرفعه بشماله ويصبه على كفه اليمنى ويغسلها ثلاثا ثم يأخذ الإناء بيمينه ويصبه على كفه اليسرى ويغسلها ثلاثا.
وإن كان الإناء كبيرا لا يمكن رفعه، فإن كان معه إناء صغير يفعل كما ذكرنا، وإن لم يكن يدخل أصابع يده اليسرى مضمومة في الإناء يصب على كفه اليمنى ثم يدخل اليمنى في الإناء ويغسل اليسرى.
وعلله في المحيط بأن الجمع بين اليدين في كل مرة غير مسنون وتعقبه العلامة الحلبي بأن الجمع سنة كما تفيده الأحاديث.
والظاهر أن تقديم اليمنى على اليسري لأجل التيامن لا لما في المحيط كما لا يخفى قالوا ولا يدخل الكف حتى لو أدخله صار الماء مستعملا كما صرح به في المبتغى.
ومعناه صار الماء الملاقي للكف مستعملا إذا انفصل لا جميع ماء الإناء كما سنحققه في بحث المستعمل.
وقالوا يكره إدخال اليد في الإناء قبل الغسل للحديث، وهي كراهة تتزيه؛ لأن النهي فيه مصروف عن التحريم بقوله "فإنه لا يدري أين باتت يده" فالنهي محمول على الإناء الصغير

 

ج / 1 ص -45-         كالتسمية
_________________
أو الكبير إذا كان معه إناء صغير فلا يدخل اليد فيه أصلا، وفي الكبير على إدخال الكف كذا في المستصفى وغيره مع أن المنقول في الخانية أن المحدث أو الجنب إذا أدخل يده في الإناء للاغتراف، وليس عليها نجاسة لا يفسد الماء وكذا إذا وقع الكوز في الجب فأدخل يده إلى المرفق لا يصير الماء مستعملا.
وفي شرح الأقطع يكره الوضوء بالماء الذي أدخل المستيقظ يده فيه لاحتمال النجاسة كما يكره الوضوء بالماء الذي أدخل الصبي يده فيه.
وفي المضمرات إذا لم يكن معه ما يغترف به ويداه نجستان، فإنه يأمر غيره أن يغترف بيديه ليصب على يديه ليغسلهما، وإن لم يجد يرسل في الماء منديلا ويأخذ طرفه بيده ثم يخرج من البئر فيغسل اليد بقطراته ثم يغسل اليد الأخرى أو يأخذ الثوب بإسنانه فيغسل يديه بالماء الذي يتقاطر ثلاثا، فإن لم يجد يرفع الماء بفمه فيغسل يديه، فإن لم يقدر، فإنه يتيمم ويصلي ولا إعادة عليه ا هـ. وفي مسألة رفع الماء بفيه اختلاف والصحيح أنه يصير مستعملا، وهو مزيل للخبث.
 " قوله: كالتسمية " أي كما أن التسمية سنة في الابتداء مطلقا كذلك غسل اليدين سنة في الابتداء مطلقا أعني: سواء كان الوضوء عن نوم أو غيره لفظها المنقول عن السلف كما في النهاية أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الخبازية بسم الله العظيم والحمد لله على دين الإسلام وعن

 

ج / 1 ص -46-         ...............................
_________________
الوبري يتعوذ ثم يبسمل وذكر الزاهدي أنه إن جمع بين ما تقدم والبسملة فحسن وفي المحيط السنة مطلق الذكر كالحمد لله أو لا إله إلا الله وما ذكره المصنف من أنها سنة مختار القدوري وفي الهداية الأصح أنها مستحبة قيل، وهو ظاهر الرواية ويسمي قبل الاستنجاء وبعده هو الصحيح إلا مع الانكشاف، وفي موضع النجاسة كذا في الخانية.
وقد استدل لوجوب التسمية بحديث أبي داود "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه"، وهو، وإن ضعف ارتقى إلى الحسن بكثرة طرقه. وأجاب عنه الطحاوي في شرح الآثار بمعارضته لما في الصحيحين أنه عليه السلام لم يرد السلام حين سلم عليه رجل حتى أقبل على الجدار فتيمم ثم رد السلام ولما رواه أبو داود وغيره من حديث المهاجر بن قنفذ لما

 

ج / 1 ص -47-         ...............................
_________________
سلم على النبي عليه السلام، وهو يتوضأ فلم يرد عليه فلما فرغ قال "إنه لم يمنعني أن أرد عليك إلا أني كنت على غير وضوء" فهذه تفيد عدم ذكره عليه السلام اسمه تعالى على غير طهارة ومقتضاه انتفاؤه في أول الوضوء فيحمل الأول على نفي الفضيلة جمعا بين الأحاديث.
وتعقبه في معراج الدراية وشرح المجمع بأنه يلزم منه أن لا تكون التسمية أفضل في ابتداء الوضوء وأن يكون وضوءه عليه السلام خاليا عن التسمية ولا يجوز نسبة ترك الأفضل له عليه السلام.
وقد يدفع بأنه يجوز ترك الأفضل له تعليما للجواز كوضوئه مرة مرة تعليما لجوازه، وهو واجب عليه، وهو أعلى من المستحب لكن يمكن الجمع بين الأحاديث بأن التسمية من لوازم إكماله فكان ذكرها من تمامه والذاكر لها قبل الوضوء مضطر إلى ذكرها لإقامة هذه السنة المكملة للفرض فخصت من عموم الذكر ومطلق الذكر ليس من ضروريات الوضوء والمستحب أن لا يطلق اللسان به إلا على طهارة ويدخل في التخصيص الأذكار المنقولة على أعضاء الوضوء لكونها من مكملاته كذا في معراج الدراية.
وهو مبني على أن المراد به نفي الفضيلة، وهو ظاهر في نفي الجواز لكنه خبر واحد لا يزاد به على الكتاب فمقتضاه الوجوب إلا لصارف فذكر بعضهم أن الصارف قوله عليه السلام "من توضأ وسمى الله تعالى كان طهورا لجميع أعضائه ومن توضأ ولم يسم الله كان طهورا لأعضاء وضوئه" فإنه يقتضي وجود الوضوء بلا تسمية، وهو مردود من ثلاثة أوجه:

 

ج / 1 ص -48-         ...............................
_________________
الأول: ضعف الحديث كما بينه في فتح القدير. الثاني: أن ترك الواجب لا ينفي الوجود، وإنما يوجب النقصان فقط الثالث أنه يقتضي تجزؤ الطهارة، وهي غير متجزئة عندنا كذا في المعراج.
ورده الأكمل في تقديره بأن من توضأ وغسل بعض أعضاء وضوئه كانت الطهارة مقتصرة على ما غسل، نعم بدن الإنسان باعتبار ما يخرج منه غير متجزئ وقيل الصارف عدم حكاية عثمان وعلي لها لما حكيا وضوءه عليه السلام.
ورده في فتح القدير بأن عدم النقل لا ينفي الوجود فكيف بعد الثبوت بوجه آخر ألا ترى أنهما لم ينقلا التخليل والسواك ولا شك أنهما سنتان وذكر في المبسوط أن الصارف هو عدم تعليمها للأعرابي لما علمه الوضوء ورده في فتح القدير بأن حديث الأعرابي، وإن حسنه الترمذي ضعفه ابن القطان قال فأدى النظر إلى وجوبها غير أن صحة الوضوء لا تتوقف عليها؛ لأن الركن إنما يثبت بالقاطع ولا يلزم الزيادة على الكتاب بخبر الواحد إلا لو قلنا بالافتراض.

 

ج / 1 ص -49-         ...............................
_________________
وقد أجاب عن قولهم لا واجب في الوضوء بما حاصله أن هذا الحديث لما كان ظني الثبوت قطعي الدلالة، ولم يصرفه صارف أفاد الوجوب ولا مانع منه، وقول من قال إنه ظني الدلالة ممنوع بأنه إن أريد بظنيتها مشتركها فما نحن فيه ليس منه، فإن الظاهر أن النفي متسلط على الوضوء والحكم الذي هو الصحة ونفي الكمال احتمال، وإن أريد بظنيتها ما فيه احتمال، ولو مرجوحا فلا نسلم أنه لا يثبت به الوجوب؛ لأن الظن واجب الاتباع، وإن كان فيه احتمال.
ولقائل أن يقول إن قوله عدم النقل لا ينفي الوجود إلى آخره لا يتم في الواجب إذا لا يجوز في التعليم ترك شيء من الواجبات فلو كانت التسمية واجبة لذكراها للحاجة إلى بيانها بخلاف السنن فكان هذا صارفا سالما عن الرد ومرادهم من ظني الدلالة مشتركها كما صرح به الأصوليون ولا شك أنه مشترك شرعي أطلق تارة وأريد به نفي الحقيقة نحو "لا صلاة لحائض إلا بخمار" "ولا نكاح إلا بشهود" وأطلق تارة مرادا به نفي الكمال نحو "لا صلاة للعبد الآبق" و "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" فتعين نفي الحقيقة في الأول بالإجماع،

 

ج / 1 ص -50-         والسواك
_________________
وفي الثاني؛ لأنه مشهور تلقته الأمة بالقبول فتجوز الزيادة بمثله على النصوص المطلقة، فكانت الشهادة شرطا فعند عدم المرجح لأحد المعنيين كان الحديث ظنيا، وبه تثبت السنة ومنه حديث التسمية.
والعجب من الكمال بن الهمام أنه في هذا الموضع نفى ظنية الدلالة عن حديث التسمية بمعنى مشتركها وأثبتها له في باب شروط الصلاة بأبلغ وجوه الإثبات بأن قال ولا شك في ذلك؛ لأن احتمال نفي الكمال قائم فالحق ما عليه علماؤنا من أنها مستحبة كيف وقد قال الإمام أحمد: لا أعلم فيها حديثا ثابتا والله تعالى أعلم.
ولو نسي التسمية في ابتداء الوضوء ثم ذكرها في خلاله فسمى لا تحصل السنة بخلاف نحوه في الأكل كذا في التبيين معللا بأن الوضوء عمل واحد بخلاف الأكل، فإن كل لقمة فعل مبتدأ ا هـ. ولهذا ذكر في الخانية لو قال كلما أكلت اللحم فلله علي أن أتصدق بدرهم فعليه بكل لقمة درهم؛ لأن كل لقمة أكل لكن قال المحقق ابن الهمام هو إنما يستلزم في الأكل تحصيل السنة في الباقي لا استدراك ما فات ا هـ.
وظاهره مع ما قبله أنه إذا نسي التسمية فإتيانه بها وعدمه سواء مع أن ظاهر ما في السراج الوهاج أن الإتيان بها مطلوب ولفظه، فإن نسي التسمية في أول الطهارة أتى بها إذا ذكرها قبل الفراغ حتى لا يخلو الوضوء منها .
" قوله: والسواك " أي استعماله؛ لأنه اسم للخشبة كذا في الشروح ولا حاجة إليه؛ لأن

 

ج / 1 ص -51-         ...............................
_________________
السواك يأتي بمعنى المصدر أيضا كما ذكره ابن فارس في كتابه المسمى بمقاييس اللغة؛ ولهذا قال في فتح القدير أي الاستياك والجميع سوك ككتاب وكتب ويجوز رفعه وجره، وهو الأظهر ليفيد أن الابتداء به سنة أيضا.
واستدل في الكافي للسنية بأنه عليه السلام واظب عليه مع الترك وتعقبه في فتح القدير بأنه لم تعلم المواظبة منه على الوضوء، وأما ما ورد من أفضلية الصلاة بسواك على غيرها فيدل على الاستحباب، وهو الحق؛ ولذا صحح الشارح وغيره الاستحباب.
واختلف في وقته ففي النهاية وفتح القدير أنه عند المضمضة وفي البدائع والمجتبى قبل الوضوء الأكثر على الأول، وهو الأولى؛ لأنه الأكمل في الإنقاء ليس هو من خصائص الوضوء بل يستحب في مواضع: لاصفرار السن وتغير الرائحة والقيام من النوم والقيام إلى الصلاة وأول ما يدخل البيت وعند اجتماع الناس وعند قراءة القرآن كذا في فتح القدير وغيره لكن قولهم يستحب عند القيام إلى الصلاة ينافي ما نقلوه من أنه عندنا للوضوء لا للصلاة خلافا للشافعي.
وعلله السراج الهندي في شرح الهداية بأنه إذا استاك للصلاة ربما يخرج منه دم، وهو نجس بالإجماع، وإن لم يكن ناقضا عند الشافعي وقالوا فائدة الخلاف تظهر فيمن صلى بوضوء واحد صلوات يكفيه السواك للوضوء عندنا، وعند الشافعي يستاك لكل صلاة.

 

ج / 1 ص -52-         وغسل فمه وأنفه
_________________
وكيفيته أن يستاك أعالي الأسنان وأسافلها والحنك ويبتدئ من الجانب الأيمن وأقله ثلاث في الأعالي وثلاث في الأسافل بثلاث مياه واستحب أن يكون لينا من غير عقد في غلظ الأصبع، وطول شبر من الأشجار المرة المعروفة ويستاك عرضا لا طولا؛ لأنه يخرج لحم الأسنان.
وقال الغزنوي يستاك طولا وعرضا والأكثر على الأول ويستحب إمساكه باليد اليمنى.
والسنة في كيفية أخذه أن تجعل الخنصر من يمينك أسفل السواك تحته والبنصر والوسطى والسبابة فوقه واجعل الإبهام أسفل رأسه تحته كما رواه ابن مسعود ولا يقبض القبضة على السواك، فإن ذلك يورث الباسور ويبدأ بالأسنان العليا من الجانب الأيمن ثم الأيسر ثم السفلى كذلك كذا في شرح منية المصلي.
وتقوم الأصبع أو الخرقة الخشنة مقامه عند فقده أو عدم أسنانه في تحصيل الثواب لا عند وجوده.
والأفضل أن يبدأ بالسبابة اليسرى ثم باليمنى والعلك يقوم مقامه للمرأة لكون المواظبة عليه تضعف أسنانها فيستحب لها فعله.
ومنافعه كثيرة منها أنه يرضي الرب ويسخط الشيطان ومن خشي من السواك القيء تركه ويكره أن يستاك مضطجعا، فإنه يورث كبر الطحال كذا في السراج الوهاج.
" قوله: وغسل فمه وأنفه " عدل عن المضمضة والاستنشاق المذكورين في أصله الوافي للاختصار وما في الشرح من أن الغسل يشعر بالاستيعاب فكان أولى، فيه نظر فإن المضمضة كذلك، فإنها اصطلاحا استيعاب الماء جميع الفم كما في الخلاصة وفي اللغة التحريك، والاستنشاق لغة من النشق: وهو جذب الماء ونحوه بريح الأنف إلى داخله.

 

ج / 1 ص -53-         ...............................
_________________
واصطلاحا: إيصال الماء إلى مارن الأنف كذا في الخلاصة والمارن ما لان من الأنف والمبالغة سنة فيهما أيضا كذا في الوافي لحديث أصحاب السنن الأربعة "بالغ في المضمضة والاستنشاق إلا أن تكون صائما"، وهي في المضمضة بالغرغرة وفي الاستنشاق بالاستنثار كذا في الكافي والاستنثار دفع الماء ونحوه للخروج من الأنف وقد وافقه في فتح القدير على الأول وقال في الثاني: كما في الخلاصة إلى ما اشتد من الأنف.
وفي الخلاصة هي في المضمضة أن يصل إلى رأس الحلق وقال شمس الأئمة: هي في المضمضة أن يدير الماء في فيه من جانب إلى جانب والأولى ما في فتح القدير ذكره بعضهم، ولو تمضمض وابتلع الماء ولم يمجه أجزأه؛ لأن المج ليس من حقيقتها والأفضل أن يلقيه؛ لأنه ماء مستعمل وفي الظهيرية وإذا أخذ الماء بكفه فمضمض ببعضه واستنشق بالباقي جاز وبخلاف ذلك لا يجوز وفي المجتبى لو رفع الماء من كف واحدة للمضمضة جاز وللاستنشاق لا يجوز لصيرورة الماء مستعملا.
ولا يخفى أن نفي الجواز في المسألتين بمعنى نفي الإجزاء في تحصيل السنة لا بمعنى الحرمة لما أن أصلهما سنة أو تحمل على المضمضة والاستنشاق في الغسل الواجب.
وقالوا المضمضة والاستنشاق سنتان مشتملتان على سنن منها تقديم المضمضة على الاستنشاق بالإجماع ومنها التثليث في حق كل واحد بالإجماع وأخذ ماء جديد في التثليث سنة عندنا وعند الشافعي بماء واحد وأخذ ماء جديد لكل واحد منهما سنة عندنا وعند الشافعي لهما ماء واحد وإزالة المخاط باليد اليسرى كذا في المعراج وفي البدائع والمبسوط وفعلهما باليمين سنة وفي المنية أنه يستنشق باليسرى وفي المعراج ترك التكرار لا يكره مع الإمكان.

 

ج / 1 ص -54-         ...............................
_________________
قال أستاذنا يتبين من هذا أن من عنده ماء يكفي للغسل مرة مع المضمضة والاستنشاق أو ثلاثا بدونهما يغسل مرة معهما وفي السراج أنهما سنتان مؤكدتان، فإن ترك المضمضة والاستنشاق أثم على الصحيح ا هـ. ولا يخفى أن الإثم منوط بترك الواجب ويمكن الجواب مما قالوه من أن السنة المؤكدة في قوة الواجب ودليل سنيتهما المواظبة كما في الهداية وفي غاية البيان يعني مع الترك أحيانا، وإلا كانتا واجبتين وقد علمت مما قدمناه أن المواظبة من غير ترك لا تفيد الوجوب وجميع من حكى وضوءه عليه السلام اثنان وعشرون صحابيا كلهم ذكروهما فيه كما في فتح القدير وفي نسخة شرح عليها مسكين غسل فمه وأنفه بمياه وقال قوله بمياه متعلق بكل واحد والذي في الوافي غسل فمه بمياه وأنفه بمياه، وهو أولى مما في الكنز ليدل على تجديد الماء في كل منهما وقد جاء مصرحا به في حديث الطبراني من قوله فمضمض ثلاثا واستنشق ثلاثا يأخذ لكل مرة ماء جديدا و رواه أبو داود وسكت فكان حجة.
وما ورد مما ظاهره المخالفة فمحمول على الموافقة كما في فتح القدير وفي السراج الوهاج ولو تمضمض ثلاثا من غرفة واحدة لم يصر آتيا بالسنة وذكر الصيرفي أنه يصير

 

ج / 1 ص -55-         وتخليل لحيته وأصابعه
_________________
آتيا بالسنة ا هـ. ولا يخفى أنه يكون آتيا بسنة المضمضة لا بسنة كونها ثلاثا بمياه فالنفي والإثبات في القولين بالاعتبارين فلا اختلاف.
" قوله: وتخليل لحيته وأصابعه " أما تخليل اللحية، وهو تفريق الشعر من جهة الأسفل إلى فوق لغير المحرم فسنة على الأصح وقيده في السراج الوهاج بأن يكون بماء متقاطر في تخليل الأصابع ولم يقيده في تخليل اللحية وهل هو قول أبي يوسف وحده أو معه محمد قولان ذكرهما في المعراج وصحح في خير مطلوب أن محمدا مع أبي يوسف وعند أبي حنيفة مستحب لعدم ثبوت المواظبة؛ ولأن السنة إكمال الفرض في محله وداخل اللحية ليس بمحل الفرض لعدم وجوب إيصال الماء إلى باطن الشعر وجه الأصح ما رواه أبو داود عن أنس كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا توضأ أخذ كفا من ماء تحت حنكه فخلل به لحيته وقال بهذا أمرني ربي وسكت عنه وكذا المنذري بعده، وهو مغن عن نقل صريح المواظبة؛ لأن أمره حامل عليها.
وقولهم داخل اللحية ليس بمحل الفرض ممنوع بعد ثبوت الحديث الصحيح بخلافه وما أورد عليه من أن المضمضة والاستنشاق سنتان مع أنهما ليستا في محل الفرض أجيب عنه بأنهما في الوجه، وهو محل الفرض إذ لهما حكم الخارج من وجه؛ ولأن الكلام في سنة تكون تبعا للفرض بقرينة المقام، وإلا يخرج عنه بعض السنن كالنية والتسمية كما لا يخفى.
وإنما لم يكن التخليل واجبا بالأمر في "أمرني ربي وخللوا أصابعكم" الآتي لوجود

 

ج / 1 ص -56-         ...............................
_________________
الصارف، وهو تعليم الأعرابي والأخبار التي حكي فيها وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن التخليل لم يذكر فيها وما في النهاية من أنا لو قلنا بالوجوب لزم الزيادة على النص بخبر الواحد فيه كلام إذ لا يلزم إلا لو قلنا بالافتراض وما في الكافي من أنا لو قلنا بالوجوب في الوضوء لساوى التبع الأصل ضعيف؛ لأنه مانع منه إذا اقتضاه الدليل لأن ثبوت الحكم بقدر دليله؛ ولأنه قد ظهر عدم المساواة في حكم آخر، وهو كونه لا يلزم بالنذر بخلاف الصلاة.
وأما قوله: تخليل الأصابع، فهو إدخال بعضها في بعض بماء متقاطر ويقوم مقامه الإدخال في الماء، ولو لم يكن جاريا فسنة اتفاقا أعني أصابع اليدين والرجلين لما في السنن الأربعة من حديث لقيط بن صبرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
"إذا توضأت فأسبغ الوضوء وخلل بين الأصابع" قال الترمذي: حديث حسن صحيح وتقدم الصارف له عن الوجوب وكذا ما رواه الدارقطني "خللوا أصابعكم لا يتخللها الله بالنار يوم القيامة"؛ لأنه ليس فيه الوعيد على الترك حتى يفيد الوجوب؛ لأن منطوقه أن تخليل الأصابع في الوضوء يراد لعدم تخللها نار جهنم، وهو لا يستلزم أن عدم التخليل في الوضوء يستلزم تخلل النار إلا لو كان تخليل الأصابع

 

ج / 1 ص -57-         وتثليث الغسل
_________________
في الوضوء علة مساوية لعدم تخليلها بالنار وهو منتف بأنه قد يوجد التخليل بالنار مع تخليل الأصابع فحينئذ لا حاجة إلى ما ذكر في شروح الهداية من أن الوعيد مصروف إلى ما إذا لم يصل إلى ما بين الأصابع إذا قد علمت أنه لا وعيد في الحديث.
هذا مع أن ما قالوه لا يتم؛ لأنه إذا لم يصل يكون الغسل فرضا وليس التخليل غسلا كما لا يخفى هذا مع أن حديث الدارقطني ضعيف كما في فتح القدير وفي الظهيرية والتخليل إنما يكون بعد التثليث؛ لأنه سنة التثليث ثم قيل الأولى في أصابع اليدين أن يكون تخليلها بالتشبيك وصفته في الرجلين أن يخلل بخنصر يده اليسرى خنصر رجله اليمنى ويختم بخنصر رجله اليسرى كذلك ورد الخبر كذا في معراج الدراية وغيره وتعقبه في فتح القدير بقوله والله أعلم به ومثله فيما يظهر أمر اتفاقي لا سنة مقصودة ا هـ.
لكن ورد بعض هذه الكيفية فيما رواه ابن ماجه عن المستورد بن شداد قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ فخلل أصابع رجليه بخنصره وأما كونه بخنصر يده اليسرى وبكونه من أسفل فالله أعلم به.
ويشكل كونه بخنصر اليسرى أن هذا من الطهارة المستحب في فعلها أن تكون باليمين ولعل الحكمة في كونها بالخنصر كونها أدق الأصابع فهي بالتخليل أنسب كذا في شرح المنية.
وقولهم من أسفل إلى فوق يحتمل شيئين أحدهما أنه يبدأ من أسفل الأصابع إلى فوق من ظهر القدم ثانيهما أن يكون المراد من أسفل الأصبع من باطن القدم كما جزم به في السراج الوهاج والأول أقرب، وفي المعراج عن شيخه العلامة في قوله عليه السلام "خللوا" الحديث دليل على أن وظيفة الرجل الغسل لا المسح فكان حجة على الروافض ا هـ .
" قوله: وتثليث الغسل " أي تكراره ثلاثا سنة لكن الأولى فرض والثنتان سنتان مؤكدتان على الصحيح كذا في السراج واختاره في المبسوط.

 

ج / 1 ص -58-         ...............................
_________________
الأولى أن يقال إنهما سنة مؤكدة لا توصف الثانية وحدها أو الثالثة وحدها بالسنية إلا مع ملاحظة الأخرى والسنة تكرار الغسلات المستوعيات لا الغرفات، وإن اكتفى بالمرة الواحدة قيل يأثم؛ لأنه ترك السنة المشهورة، وقيل لا يأثم؛ لأنه قد أتى بما أمره به ربه كذا في الظهيرية ولا يخفى ترجيح الثاني لقولهم والوعيد في الحديث لعدم رؤيته الثلاث سنة فلو كان الإثم يحصل بالترك لما احتيج إلى حمل الحديث على ما ذكروا، وقيل إن اعتاد يكره، وإلا فلا واختاره في الخلاصة وقد ذكروا دليل السنة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة وقال هذا وضوء من لا يقبل الله الصلاة إلا به وتوضأ مرتين مرتين وقال هذا وضوء من يضاعف الله له الأجر مرتين وتوضأ ثلاثا ثلاثا وقال : "هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي فمن زاد على هذا أو نقص فقد تعدى وظلم" فأما صدره إلى قوله "فمن زاد" فرواه الدارقطني وأما عجزه من قوله "فمن زاد" إلى آخره فرواه ابن ماجه والنسائي.
وقوله "توضأ مرة" أي غسل كل عضو مرة والمراد بالقبول الجواز بمعنى الصحة وإنما قلنا هذا لما عرف أن القبول لا يلازم الصحة لأن الصحة تعتمد وجود الشرائط والأركان والقبول يعتمد صدق العزيمة وخلوصها، وله شرائط كثيرة لقوله تعالى
{إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}[المائدة:27].
واختلف في معنى قوله "فمن زاد على هذا" على أقوال فقيل على الحد المحدود، وهو مردود بقوله عليه الصلاة والسلام "من استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل" والحديث في

 

ج / 1 ص -59-         ...............................
_________________
المصابيح وإطالة الغرة تكون بالزيادة على الحد المحدود، وقيل على أعضاء الوضوء وقيل الزيادة على العدد والنقص عنه.
والصحيح أنه محمول على الاعتقاد دون نفس الفعل حتى لو زاد أو نقص واعتمد أن الثلاث سنة لا يلحقه الوعيد كذا في البدائع واقتصر عليه في الهداية وعلى الأقوال كلها لو زاد لطمأنينة القلب عند الشك أو بنية وضوء آخر بعد الفراغ من الأول فلا بأس به؛ لأنه نور على نور وكذا إن نقص لحاجة لا بأس به كذا في المبسوط وأكثر شروح الهداية، وفيه كلام؛ لأنهم قد صرحوا بأن تكرار الوضوء في مجلس واحد لا يستحب بل يكره لما فيه من الإسراف في الماء كما في السراج الوهاج فكيف يدعي الاتفاق كما في الخلاصة على عدم الكراهة لو نوى وضوءا آخر حين فرغ من الأول اللهم إلا أن يحمل على ما إذا اختلف المجلس، وهو بعيد كما لا يخفى وفي الحديث لف ونشر؛ لأن التعدي يرجع إلى الزيادة والظلم إلى النقصان كذا في غاية البيان.

 

ج / 1 ص -60-         ونبيه
_________________
وقيد المصنف بالغسل احتراز عن المسح، فإنه لا يسن تثليثه كذا في فتح القدير وإذا كان غير مسنون فهل يكره فالمذكور في المحيط والبدائع أنه يكره وفي الخلاصة أنه بدعة، وقيل لا بأس به، وفي فتاوى قاضي خان وعندنا لو مسح ثلاث مرات بثلاث مياه لا يكره ولكن لا يكون سنة ولا أدبا. ا هـ. وهو الأولى كما لا يخفى إذ لا دليل على الكراهة وسيأتي تمامه.
" قوله: ونيته " أي ونية المتوضئ رفع الحدث أو إقامة الصلاة هذا هو مراد المصنف كما أفصح عنه في الكافي فلا حاجة حينئذ إلى ما ذكره الزيلعي كما لا يخفى.
واستفيد منه أن نية الطهارة لا تكفي في تحصيل السنة كأنه والله أعلم لأنها متنوعة إلى إزالة الحدث أو الخبث فلم ينو خصوص الطهارة الصغرى، فعلى هذا لو نوى الوضوء، فإنه يكون محصلا لها؛ لأن الوضوء ورفع الحدث سواء؛ لأن حقيقة الوضوء رفع الحدث كما حققناه أولا.
وعلى هذا فيصح عود الضمير إلى الوضوء وسقط به كلام الزيلعي أيضا كما لا يخفى مع أن الوضوء أخص من رفع الحدث؛ لأنه يشمل الغسل فعلى هذا نية الوضوء أولى قالوا المعتبر قصد رفع الحدث أو إقامة الصلاة كما ذكر أو استباحتها أو امتثال الأمر كما في المعراج ولا يتأتى الأخير قبل دخول الوقت إذ ليس مأمورا به إلا أن يقال إن الوضوء لا يكون نفلا؛ لأنه شرط للصلاة وشرطها فرض ولا يخفى ما فيه.
وهي لغة عزم القلب على الشيء واصطلاحا كما في التلويح قصد الطاعة والتقرب إلى الله تعالى في إيجاد الفعل واعترض عليه بأن هذا إنما يستقيم في العبادات المترتب عليها الثواب دون المنهيات المترتب عليها العقاب.
فالصواب أن تفسر النية بتوجه القلب نحو إيجاد الفعل وتركه موافقا لغرض من جلب نفع أو دفع ضر حالا أو مآلا ا هـ وقد يقال إن هذا الاعتراض مبني على أن المكلف به في النهي ليس هو الكف الذي هو الانتهاء، وهو قول البعض والراجح في الأصول أنه لا تكليف إلا بفعل فهو في النهي كفه النفس فحينئذ دخل في إيجاد الفعل.

 

ج / 1 ص -61-         ...............................
_________________
وفي الصحاح العزم إرادة الفعل والقطع عليه والقصد إتيان الشيء وذكر اليمني في شرح الشهاب ثم النية معنى وراء العلم فهي نوع إرادة كالقصد والعزيمة والهم والحب والود فالكل اسم للإرادة الحادثة لكن العزم اسم للمتقدم على الفعل والقصد اسم للمقترن بالفعل والنية اسم للمقترن بالفعل مع دخوله تحت العلم بالمنوي، وهذا؛ لأن الفعل لا يوجد بدون الإرادة، فإذا قام الرجل من قعوده لا بد وأن يكون مريدا للقيام، وإن لم تعمل إرادته القيام وقد يركع الرجل ويسجد ذاهلا عن معرفة إرادة الركوع والسجود ويستحيل وجودهما بدون الإرادة بالكلية لأن الإرادة صنو القدرة وإنما المفقود العلم لا غير؛ ولذا قلنا للمكره إرادة، وإن كانت فاسدة بمقابلة إرادة المكره لكن قد تذكر النية مقام العزيمة كما في قولنا ونوى الصوم بالليل أي عزم عليه، وأطال فيه فليراجع لاشتماله على فوائد كثيرة.
ثم اعلم أن النية في غير التوضؤ بسؤر الحمام وبنبيذ التمر سنة مؤكدة على الصحيح وليست بشرط في كون الوضوء مفتاحا للصلاة ووقتها عند غسل الوجه ومحلها القلب والتلفظ بها مستحب كذا في السراج الوهاج.
وأما النية في التوضؤ بسؤر الحمام أو بنبيذ التمر فشرط كذا في شرح المجمع والنقاية معزيين إلى الكفاية قيدنا بقولنا في كونه مفتاحا؛ لأنها شرط في كونه سببا للثواب على الأصح وقيل يثاب بغير نية.
ثم استدل الشافعي على اشتراطها فيه بالحديث المشهور المتفق على صحته "إنما الأعمال بالنية" ووجهه أن المراد بالأعمال العبادات لأن كثيرا من الأعمال تعتبر شرعا بلا نية فيكون

 

ج / 1 ص -62-         ...............................
_________________
المراد إنما صحة العبادات بالنية والوضوء عبادة لأنها فعل ما يرضي الرب، وهو كذلك فصار كالتيمم.
ولنا على ما ذكره الأصوليون أن حقيقة هذا التركيب متروكة بدلالة محل الكلام؛ لأن كلمة إنما للحصر، وقد دخلت على المعرف فاللام الاستغراق، وذلك يقتضي أن لا يوجد عمل بلا نية ولا يمكن حمله على العموم؛ لأن كثيرا من الأعمال يوجد بلا نية، فصار مجازا عن حكمه فالتقدير حكم الأعمال بالنيات من إطلاق اسم السبب على المسبب أو من حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه.
والحكم نوعان: مختلفان أحدهما: أخروي، وهو الثواب والإثم، وهو بناء على صدق العزيمة وعدمه والثاني دنيوي، وهو الجواز والفساد هو بناء على وجود الأركان والشرائط وعدمها ولما اختلف الحكمان صار الاسم بعد كونه مجازا مشتركا ويكفي في تصحيحه ما هو المتفق عليه، وهو الحكم الأخروي ولا دليل على ما اختلف فيه فلا يصلح تقديره حجة علينا فاندفع بهذا التقرير ما أورده في الكشف وشرح المغني وشرح المنار من أن قولهم إن الحكم مشترك ولا عموم له ممنوع بل هذا في المشترك اللفظي أما

 

ج / 1 ص -63-         ...............................
_________________
المشترك المعنوي فله عموم كالشيء والحكم منه فيتناول الكل باعتبار المعنى الأعم إذ تفسير الحكم الأثر الثابت بالشيء ا هـ.
مع أن الأكمل في تقريره أجاب عنه بأن هذا إنما يستقيم أن لو كان الحكم مقولا عليهما بالتواطؤ، وهو ممنوع؛ لأن الجواز والفساد وإن كانا أثرين ثابتين بالأعمال موجبين لها لكن الثواب والعقاب ليسا كذلك على المذهب الصحيح ا هـ. يعني: لتخلفهما في الأول بعدم القبول مع الصحة وفي الثاني بالعفو من الله تعالى.
والمراد بالأعمال ما يشمل عمل القلب فيدخل فيه كف النفس بالنهي، فإنه عمل ولا ترد النية؛ لأنها خارجة لمعنى يخصها، وهو لزوم التسلسل لكن اعتبار النية للتروك إنما هو لحصول الثواب لا للخروج عن عهدة النهي؛ لأن مناط الوعيد بالعقاب في النهي هو فعل المنهي فمجرد تركه كاف في انتفاء الوعيد ومناط الثواب في المنهي كف النفس عنه، وهو عمل مندرج في الحديث.
وعلى هذا ففرق الشافعية بين الوضوء وإزالة النجاسة بأن الوضوء فعل فيفتقر إلى النية وطهارة النجاسة من باب التروك فلا تفتقر إلى النية كترك الزنا ضعيف، فإن التكليف أبدا لا يقع إلا بالفعل الذي هو مقدور المكلف لا بعدم الفعل الذي هو غير مقدور وجوده قبل التكليف كما عرف في مقتضى النهي أنه كف النفس عن الفعل لا عدم الفعل والترك ليس بفعل؛ ولهذا لا يثاب المكلف على الترك إلا إذا ترك قاصدا فلا يثاب على ترك الزنا إلا إذا كف نفسه عنه قصدا لا إذا اشتغل عنه بفعل آخر كالنوم والعبادة وتركه بلا قصد فلا فرق بين الفعل والترك الموجبين للثواب والعقاب.
وقوله إن الوضوء عبادة والعبادة لا تصح إلا بالنية سلمناه لأنه لا يقع عبادة بدونها عندنا، وليس الكلام في هذا بل في أنه إذا لم ينو حتى لم يقع عبادة سببا للثواب فهل يقع الشرط المعتبر للصلاة حتى تصح به أو لا؟ ليس في الحديث دلالة على نفيه ولا إثباته فقلنا نعم؛ لأن الشرط مقصود التحصيل لغيره لا لذاته فكيف حصل تحصيل المقصود، وصار كستر العورة وباقي شروط الصلاة لا يفتقر اعتبارها إلى أن تنوى فمن ادعى أن الشرط وضوء هو عبادة فعليه البيان بخلاف التيمم؛ لأن التراب لم يعتبر شرعا مطهرا إلا للصلاة وتوابعها لا في نفسه فكان التطهير به تعبدا محضا، وفيه يحتاج إلى النية وقياس الوضوء على التيمم ضعيف؛ لأن شرط صحة القياس أن لا يكون الأصل متأخرا والتيمم شرع بعد الهجرة والوضوء قبلها إلا إن قصد به الاستدلال بمعنى لما شرع التيمم بشرط النية ظهر وجوبها في الوضوء فهو بمعنى لا فارق، فليس

 

ج / 1 ص -64-         ...............................
_________________
الجواب إلا بإثبات الفارق المتقدم وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم الأعرابي الوضوء، ولم يبين له النية، فلو كانت شرطا لبينها له، وقد علم مما قدمناه أن الوضوء يقع عبادة فقول بعضهم إنه ليس بعبادة محمول على ما إذا لم ينو أو مراده نفي العبادة كما صرح به في الكافي وغيره وبهذا اندفع ما ذكره النووي من الرد على من نفى العبادة عن الوضوء متمسكا بحديث مسلم "الطهور شطر الإيمان".
واعلم أن المذكور في الأصول أن الغسل والمسح في آية الوضوء خاصان وهو لا يحتمل البيان فاشتراط النية في الوضوء زيادة على النص بخبر الواحد لو دل عليها، وهو لا يجوز فأورد العقدة الأخيرة، فإنها فرض بخبر الواحد.
فأجيب بأن الصلاة مجملة في حق ما تتم به إذ لم يعرف بأن إتمامها بأي شيء يقع فاحتاج إلى البيان وقد بين بالحديث فالفرض ثبت بالكتاب والحديث والتحق به بيانا لمجمله فأورد أنه ينبغي أن يلتحق خبر الفاتحة كذلك فأجيب بأنه لا إجمال في أمر القراءة بل هو خاص.
وأورد أيضا أنه ينبغي عدم اشتراط النية في العبادات لما ذكر أجيب بأنها فرض فيها لا بالحديث المذكور بل بقوله تعالى
{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}[البينة:5]، فإنه جعل الإخلاص الذي هو عبارة عن النية حالا للعابدين والأحوال شروط.
ومن هنا نشأ إشكال على من استدل به على اشتراطها في العبادات كصاحب الهداية مع

 

ج / 1 ص -65-         ومسح كل رأسه مرة، وأذنيه بمائه
_________________
قولهم في الأصول إن حديث "إنما الأعمال بالنيات" من قبيل ظني الثبوت والدلالة يفيد السنية والاستحباب وسيأتي تمامه في محله إن شاء الله تعالى .
" قوله: ومسح كل رأسه مرة " أي مرة مستوعبة لما روى الترمذي في جامعه أن عليا رضي الله تعالى عنه توضأ وغسل أعضاءه ثلاثا ومسح رأسه مرة وقال هذا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الهداية والذي يروى عنه من التثليث فمحمول عليه بماء واحد، وهو مشروع على ما روى الحسن عن أبي حنيفة ا هـ. ولأن التكرار في الغسل لأجل المبالغة في التنظيف ولا يحصل ذلك بالمسح فلا يفيد التكرار فصار كمسح الخف والجبيرة والتيمم.
وما قلناه أولى؛ لأنه قياس الممسوح على الممسوح وما قال الشافعي قياس الممسوح على المغسول وفي العناية، فإن قيل قد صار البلل مستعملا بالمرة الأولى فكيف يسن إمراره ثانيا وثالثا.
أجيب بأنه يأخذ حكم الاستعمال لإقامة فرض آخر لا لإقامة السنة؛ لأنها تبع للفرض ألا ترى أن الاستيعاب يسن بماء واحد.
وقال الزيلعي تكلموا في كيفية المسح والأظهر أن يضع كفيه وأصابعه على مقدم رأسه ويمدهما إلى القفا على وجه يستوعب جميع الرأس ثم يمسح أذنيه بأصبعيه ولا يكون الماء مستعملا بهذا؛ لأن الاستيعاب بماء واحد لا يكون إلا بهذا الطريق وما قاله بعضهم من أنه يجافي كفيه تحرزا عن الاستعمال لا يفيد؛ لأنه لا بد من الوضع والمد، فإن كان مستعملا بالموضوع الأول فكذا بالثاني فلا يفيد تأخيره. ا هـ .
" قوله وأذنيه بمائه " أي بماء الرأس وفي المجتبى يمسحهما بالسبابتين داخلهما،

 

ج / 1 ص -66-         والترتيب المنصوص
_________________
وبالإبهامين خارجهما، وهو المختار كذا في المعراج وعن الحلواني وشيخ الإسلام يدخل الخنصر في أذنيه ويحركهما واستدل المشايخ بالحديث "الأذنان من الرأس" أي يمسحان بما يمسح به الرأس وتمام تقريره في غاية البيان.
واستدل في فتح القدير بفعله عليه الصلاة والسلام أنه أخذ غرفة فمسح بها رأسه وأذنيه على ما رواه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، وأما ما روي أنه عليه السلام أخذ لأذنيه ماء جديدا فيجب حمله على أنه لفناء البلة قبل الاستيعاب توفيقا بينهما مع أنه لو أخذ ماء جديدا من غير فناء البلة كان حسنا كذا في شرح مسكين.
فاستفيد منه أن الخلاف بيننا وبين الشافعي في أنه إذا لم يأخذ ماء جديدا ومسح بالبلة الباقية هل يكون مقيما للسنة فعندنا وعنده لا أما لو أخذ ماء جديدا مع بقاء البلة، فإنه يكون مقيما للسنة اتفاقا.
" قوله: والترتيب المنصوص " أي كما ذكر في النص في أصله الوافي، وهو سنة مؤكدة عندنا على الصحيح ويكون مسيئا بتركه وعند الشافعي فرض ومنهم من بنى الخلاف

 

ج / 1 ص -67-         ...............................
_________________
على الاختلاف في معنى الواو وليس بصحيح، فإن الصحيح عندنا وعنده كما هو قول الأكثر أن الواو لمطلق الجمع ولا تفيد الترتيب ومن زعم من أئمتنا بأنها له لمسائل استدل بها فقد أجيب عنها في الأصول ومن زعم من الشافعية أنها له فقد ضعفه النووي في شرح المهذب فلم يوجد دليل بالافتراض فنفاه أئمتنا وقد علم من فعله عليه الصلاة والسلام فقالوا بسنيته.
وأما ما استدل به النووي بأن الله تعالى ذكر ممسوحا بين مغسولات والأصل جمع المتجانسة على نسق واحد ثم عطف غيرها لا يخرج عن ذلك إلا لفائدة، وهي هنا وجوب الترتيب فقد أجيب عنه بأن الفائدة التنبيه على وجوب الاقتصاد في صب الماء على الأرجل لما أنها مظنة الإسراف كما في الكشاف وغيره وقد روى البخاري كما في التوشيح وأبو داود كما في السراج الوهاج أنه عليه الصلاة والسلام تيمم فبدأ بذراعيه قبل وجهه فلما ثبت عدم الترتيب في التيمم ثبت في الوضوء؛ لأن الخلاف فيهما واحد.
وأما ما استدل به الشارحون للشافعي من أن الله تعالى عقب القيام بغسل الوجه بالفاء، وهي للترتيب بلا خلاف، ومتى وجب تقديم الوجه تعين الترتيب إذ لا قائل بالترتيب في البعض وما أجابوا به من أن الفاء إنما تفيد ترتيب غسل الأعضاء على القيام إلى الصلاة لا ترتيب بعضها على

 

ج / 1 ص -68-         الولاء
_________________
بعض فقد قال النووي: إنه استدلال باطل عن الشافعي وكأن قائله حصل له ذهول واشتباه فاخترعه.
وأما ما استدل به الزيلعي عن الشافعي من الحديث "لا يقبل الله صلاة امرئ حتى يضع الطهور مواضعه فيغسل يديه ثم يغسل وجهه ثم يغسل ذراعيه" فقد اعترف النووي بضعفه فلا حاجة إلى الاشتغال بجوابه.
وأما ما استدل به في المعراج وغيره من أنه صلى الله عليه وسلم نسي مسح رأسه ثم تذكر فمسحها ولم يعد غسل رجليه فقد قال النووي إنه ضعيف لا يعرف. والحاصل أنه لا حاجة إلى إقامة الدليل على عدم الافتراض؛ لأنه الأصل ومدعيه مطالب به.
" قوله: والولاء " بكسر الواو، وهو التتابع في الأفعال من غير أن يتخللها جفاف عضو مع اعتدال الهواء كذا في تقرير الأكمل وغيره وفي السراج مع اعتدال الهواء والبدن بغير عذر، وأما إذا كان لعذر بأن فرغ ماء الوضوء أو انقلب الإناء فذهب لطلب الماء وما أشبهه فلا بأس بالتفريق على الصحيح وكذا إذا فرق في الغسل والتيمم. ا هـ. وظاهر الأول أن العضو الأول إذا جف بعدما غسل الثاني، فإنه ليس بولاء وذكر الزيلعي وغيره أن الولاء غسل العضو الثاني قبل جفاف الأول، وهو يقتضي أنه ولاء، وهو الأولى.
وفي المعراج عن الحلواني تجفيف الأعضاء قبل غسل القدمين بالمنديل لا يفعل؛ لأن فيه ترك الولاء ولا بأس بأن يمسح بالمنديل واستدل في المعراج على عدم فرضية الولاء بأن

 

ج / 1 ص -69-         ومستحبه التيامن
_________________
ابن عمر رضي الله عنهما توضأ في السوق فغسل وجهه ويديه ومسح برأسه ثم دعي إلى جنازة فدخل المسجد ثم مسح على خفيه ا هـ.
قال النووي في شرح المهذب، وهو أثر صحيح رواه مالك عن نافع عن ابن عمر والاستدلال به حسن، فإن ابن عمر فعله بحضرة حاضري الجنازة ولم ينكر عليه .
" قوله: ومستحبه التيامن " أي مستحب الوضوء البداءة باليمين في غسل الأعضاء، وهو في اللغة الشيء المحبوب ضد المكروه وعند الفقهاء هو ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مرة وتركه أخرى.
والمندوب ما فعله مرة أو مرتين وتركه تعليما للجواز كذا في شرح النقاية ويرد عليه ما رغب فيه ولم يفعله وما جعله تعريفا للمستحب جعله في المحيط تعريفا للمندوب، فالأولى ما عليه الأصوليون من عدم الفرق بين المستحب والمندوب، وأن ما واظب صلى الله عليه وسلم عليه مع ترك ما بلا عذر سنة وما لم يواظب عليه مندوب ومستحب، وإن لم يفعله بعد ما رغب فيه كذا في التحرير.
وحكمه الثواب على الفعل وعدم اللوم على الترك، وإنما كان التيامن مستحبا لما في الكتب الستة عن عائشة رضي الله عنها كان صلى الله عليه وسلم يحب التيامن في كل شيء حتى في طهوره وتنعله وترجله وشأنه كله والمحبوبية لا تستلزم المواظبة؛ لأن جميع المستحبات محبوبة له ومعلوم أنه لم يواظب على كلها وإلا لم تكن مستحبة بل مسنونة لكن أخرج أبو داود وابن

 

ج / 1 ص -70-         ومسح رقبته
_________________
ماجه عنه صلى الله عليه وسلم
"إذا توضأتم فابدءوا بميامنكم" وغير واحد من حكى وضوءه صلى الله عليه وسلم صرحوا بتقديم اليمنى على اليسرى وذلك يفيد المواظبة؛ لأنهم إنما يحكون وضوءه الذي هو عادته فيكون سنة وبمثله تثبت سنية الاستيعاب؛ لأنهم كذلك حكوا المسح كذا في فتح القدير لكن المواظبة لا تفيد السنية إلا إذا كانت على سبيل العبادة، وأما إذا كانت على سبيل العادة فتفيد الاستحباب والندب لا السنية كلبس الثوب والأكل باليمين ومواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على التيامن كانت من قبيل الثاني فلا تفيد السنية كذا في شرح الوقاية وكذا قال في السراج الوهاج إن البداءة باليمنى فضيلة على الأصح.
وقيدنا بقولنا في غسل الأعضاء تبعا لصدر الشريعة وغيره احترازا عن الممسوح، فإنه لا يستحب تقديم اليمنى فيه كمسح الأذنين؛ لأن مسحهما معا أسهل كالحدين، وليس في أعضاء الوضوء عضوان لا يتسحب تقديم الأيمن منهما إلا الأذنين، فإن كان الرجل أقطع لا يمكنه مسحهما معا فإنه يبتدئ باليمنى وبالحد الأيمن كذا في السراج الوهاج .
" قوله: ومسح رقبته " يعني بظهر اليدين لعدم استعمال بلتهما، وقد اختلف فيه فقيل بدعة وقيل سنة، وهو قول الفقيه أبي جعفر وبه أخذ كثير من العلماء كذا في شرح مسكين، وفي الخلاصة الصحيح أنه أدب، وهو بمعنى المستحب كما قدمناه، وأما مسح الحلقوم فبدعة.
واستدل في فتح القدير على استحباب مسح الرقبة أنه عليه السلام مسح ظاهر رقبته مع مسح الرأس فاندفع به قول من زعم أنه بدعة، وليس مراده حصر مستحبه فيما ذكر؛ لأن له

 

ج / 1 ص -71-         ...............................
_________________
مستحبات كثيرة وعبر عنها بعضهم بمندوباته، وقدمنا عدم الفرق بينهما.
فالذي في فتح القدير أن المندوبات نيف وعشرون ترك الإسراف والتقتير وكلام الناس والاستعانة وعن الوبري لا بأس بصب الخادم كان صلى الله عليه وسلم يصب الماء عليه والتمسح بخرقة يمسح بها موضع الاستنجاء ونزع خاتم عليه اسمه تعالى أو اسم نبيه حال الاستنجاء وكون آنيته من خزف وأن يغسل عروة الإبريق ثلاثا ووضعه على يساره، وإن كان إناء يغترف منه فعن يمينه ووضع يده حالة الغسل على عروته لا رأسه والتأهيل بالوضوء قبل الوقت وذكر الشهادتين عند كل عضو واستقبال القبلة في الوضوء واستصحاب النية في جميع أفعاله وتعاهد موقيه وما تحت الخاتم والذكر المحفوظ عند كل عضو وأن لا يلطم وجهه بالماء وإمرار اليد على الأعضاء المغسولة والتأني والدلك خصوصا في الشتاء وتجاوز حدود الوجه واليدين والرجلين ليستيقن غسلهما وقول سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم اجعلني من التوابين إلخ وأن يشرب فضل وضوئه مستقبلا قائما قيل، وإن شاء قاعدا وصلاة ركعتين عقيبه وملء آنيته استعدادا وحفظ ثيابه من التقاطر والامتخاط بالشمال عند الاستنشاق ويكره باليمين وكذا إلقاء البزاق في الماء والزيادة على ثلاث في غسل الأعضاء وبالماء المشمس ا هـ.
وهنا تنبيهات:
الأول: أن الإسراف هو الاستعمال فوق الحاجة الشرعية، وإن كان على شط نهر وقد ذكر قاضي خان تركه منا السنن ولعله الأوجه فعلى كونه مندوبا لا يكون الإسراف مكروها وعلى كونه سنة يكون مكروها تنزيها وصرح الزيلعي بكراهته وفي المبتغى أنه من المنهيات فتكون تحريمية وقد ذكر المحقق آخرا أن الزيادة على ثلاث مكروهة، وهي من الإسراف، وهذا إذا كان ماء نهر أو مملوكا له، فإن كان ماء موقوفا على من يتطهر أو يتوضأ حرمت الزيادة والسرف بلا خلاف وماء المدارس من هذا القبيل؛ لأنه إنما يوقف ويساق لمن يتوضأ الوضوء الشرعي

 

ج / 1 ص -72-         ...............................
_________________
كذا في شرح منية المصلي، وقد علمت فيما قدمناه أن الزيادة على الثلاث لطمأنينة القلب أو بنية وضوء آخر لا بأس به فينبغي تقييد ما أطلقوه هنا.
الثاني أن ترك كلام الناس لا يكون أدبا إلا إذا لم يكن لحاجة، فإن دعت إليه حاجة يخاف فوتها بتركه لم يكن في الكلام ترك الأدب كما في شرح المنية.
الثالث أن التأهب بالوضوء قبل الوقت مقيد بغير صاحب العذر وفي شرح المنية وعندي أنه من آداب الصلاة لا الوضوء؛ لأنه مقصود لفعل الصلاة.
الرابع أن الزيلعي صرح بأن لطم الوجه بالماء مكروه فيكون تركه سنة لا أدبا.
الخامس أن ذكره الدلك بعد ذكره إمرار اليد على الأعضاء تكرار؛ لأن الدلك كما في شرح المنية إمرار اليد على الأعضاء المغسولة ينبغي أن يزاد مع الاتكاء.
السادس أنه ذكر الدلك من المندوبات، وفي الخلاصة أنه سنة عندنا.
السابع أنه ذكر منها ملء آنيته استعدادا، وينبغي تقييده بما إذا لم يكن الوضوء من النهر أو الحوض؛ لأن الوضوء منه أيسر من الوضوء من الإناء.
الثامن: أن الأدعية المذكورة في كتب الفقه قال النووي لا أصل لها، والذي ثبت الشهادة بعد الفراغ من الوضوء وأقره عليه السراج الهندي في التوشيح التاسع: أن منها غسل ما تحت الحاجبين والشارب لعدم الحرج، العاشر: إن صلاة الركعتين بعد الوضوء إنما تندب إذا لم يكن وقت كراهة الحادي عشر: أن منها الجمع بين نية القلب وفعل اللسان كما في المعراج الثاني عشر: أن لا يتوضأ في المواضع النجسة؛ لأن لماء الوضوء حرمة كذا في المضمرات.
الثالث عشر: منها أن يبدأ في غسل الوجه من أعلاه وفي مسح الرأس بمقدمه، وفي اليد والرجل بأطراف الأصابع كما في المعراج الرابع عشر: منها إدخال خنصريه في صماخ أذنيه.
الخامس عشر: أن منها الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في كل عضو كما في التبيين .

 

ج / 1 ص -73-         وينقضه خروج نجس منه
_________________
" قوله: وينقضه خروج نجس منه " أي وينقض الوضوء خروج نجس من المتوضئ والنجس بفتحتين اصطلاحا عين النجاسة وبكسر الجيم ما لا يكون طاهرا وفي اللغة لا فرق بينهما كما في شرح الوقاية وظاهره أنه بالكسر أعم فيصح ضبطه في المختصر بالكسر والفتح كما لا يخفى.
والنقض في الجسم فك تأليفه وفي غيره إخراجه عن إفادة ما هو المقصود منه كاستباحة الصلاة في الوضوء.
وأفاد بقوله خروج نجس أن الناقض خروجه لا عينه وعلل له في الكافي بأن الخروج علة الانتقاض وهي عبارة عن المعنى وعلل شراح الهداية بأنها لو كانت نفسها ناقضة لما حصلت طهارة لشخص أصلا؛ لأن تحت كل جلدة دما لكن قال في فتح القدير الظاهر أن الناقض النجس الخارج وبينه بما حاصله أن الناقض هو المؤثر للنقض والضد هو المؤثر في رفع ضده وصفة النجاسة الرافعة للطهارة إنما هي قائمة بالخارج، فالعلة للنقض هي النجاسة بشرط الخروج.
وتأيد هذا بظاهر الحديث ما الحدث قال: "ما يخرج من السبيلين" فالعلة النجاسة، والخروج علة العلة، وإضافة الحكم إلى العلة أولى من إضافته إلى علة العلة فاندفع بهذا ما قالوا من لزوم عدم حصول طهارة لشخص على تقدير إضافة النقض إلى النجاسة إذ لا يلزم إلا لو قلنا بأن الخروج ليس شرطا في عمل العلة، ولا علة العلة وشمل كلامه جميع النواقض الحقيقية، وهو مجمل، وهو قسمان:
خارج من السبيلين وخارج من غيرهما فالأول ناقض مطلقا فتنقض الدودة الخارجة من الدبر والذكر والفرج كذا في الخانية، وفي السراج أنه بالإجماع فما في التبيين من أن الدودة الخارجة من فرجها على الخلاف ففيه نظر.
وعلل في البدائع يكون الدودة ناقضة أنها نجسة لتولدها من النجاسة وذكر الإسبيجابي أن فيها طريقتين إحداهما ما ذكرناه. والثانية أن الناقض ما عليها واختاره الزيلعي، وهو في الحصاة مسلم.
ولا يرد على المصنف الريح الخارجة من الذكر وفرج المرأة، فإنها لا تنقض الوضوء على

 

ج / 1 ص -74-         ...............................
_________________
الصحيح؛ لأن الخارج منهما اختلاج، وليس بريح خارجة، ولو سلم فليست بمنبعثة عن محل النجاسة والريح لا ينقض إلا لذلك لا؛ لأن عينها نجسة؛ لأن الصحيح أن عينها طاهرة حتى لو لبس سراويل مبتلة أو ابتل من أليتيه الموضع الذي يمر به الريح فخرج الريح لا يتنجس، وهو قول العامة.
وما نقل عن الحلواني من أنه كان لا يصلي بسراويله فورع منه كذا قالوا فاندفع بهذا ما ذكره مسكين في شرحه من أن كلام المصنف ليس على عمومه كما لا يخفى ودخل أيضا ما لو أدخل إصبعه في دبره و لم يغيبها، فإنه يعتبر فيه البلة والرائحة، وهو الصحيح؛ لأنه ليس بداخل من كل وجه كذا في شرح قاضي خان واستفيد منه أنه إذا غيبه نقض مطلقا.
وكذا الذباب إذا طار ودخل في الدبر وخرج من غير بلة لا ينقض وكذا المحقنة إذا أدخلها ثم أخرجها إن لم يكن عليها بلة لا تنقض والأحوط أن يتوضأ كذا في منية المصلي.
وفي الخانية، وإذا أقطر في إحليله دهنا ثم عاد فلا وضوء عليه بخلاف ما إذا احتقن بدهن ثم عاد ا هـ. والفرق بينهما أن في الثاني اختلط الدهن بالنجاسة بخلاف الإحليل للحائل عند أبي حنيفة كذا في فتح القدير فعلى هذا فعدم النقض قوله فقط، وقد صرح به في المحيط فقال لا ينقض عند أبي حنيفة خلافا لأبي يوسف.
والإحليل بكسر الهمزة مجرى البول من الذكر، وفي الولوالجية وكل شيء إذا غيبه ثم أخرجه أو خرج فعليه الوضوء، وقضاء الصوم؛ لأنه كان داخلا مطلقا فترتب عليه الخروج وكل شيء إذا أدخل بعضه وطرفه خارج لا ينقض الوضوء، وليس عليه قضاء الصوم؛ لأنه غير داخل مطلقا فلا يترتب عليه الخروج ا هـ.
والكلية الثانية مقيدة بعدم البلة كما في المحيط وفي البدائع لو احتشت في الفرج الداخل ونفذت البلة إلى الجانب الآخر فإن كانت القطنة عالية أو محاذية لحرف الفرج كان حدثا لوجود الخروج، وإن كانت القطنة متسلفة عنه لا ينقض لعدم الخروج، وفي منية المصلي، وإن كانت احتشت في الفرج الخارج فابتل داخل الحشو انتقض نفذ ولم ينفذ في التبيين، وإن حشى إحليله بقطنة فخرجه بابتلال خارجه.

 

ج / 1 ص -75-         ...............................
_________________
وفي الخانية المجبوب إذا خرج منه ما يشبه البول إن كان قادرا على إمساكه إن شاء أمسكه، وإن شاء أرسله، فهو بول ينقض الوضوء وإن كان لا يقدر على إمساكه لا ينقض ما لم يسل.
وفي فتح القدير والخنثى إذا تبين أنه امرأة فذكره كالجرح أو رجل ففرجه كالجرح وينقض في الآخر بالظهور لكن قال في التبيين: وأكثرهم على إيجاب الوضوء عليه فحاصله أن الخنثى ينتقض وضوءه بخروج البول من فرجيه جميعا سال أو لا تبين حالة أو لا وفي التوشيح يؤخذ في الخنثى المشكل بالأحوط، وهو النقض.
وأما المفضاة، وهي التي صار مسلك البول والغائط منها واحدا أو التي صار مسلك بولها ووطئها واحدا فيستحب لها الوضوء من الريح ولا يجب؛ لأن اليقين لا يزول بالشك وعن محمد وجوبه، وبه أخذ أبو حفص للاحتياط ورجحه في فتح القدير بأن الغالب في الريح كونها من الدبر بل لا نسبة لكونها من القبل به، فيفيد غلبة ظن تقرب من اليقين، وهو خصوصا في موضع الاحتياط له حكم اليقين، فترجح الوجوب ا هـ. لكن ينبغي ترجيحه فيها بالمعنى الأول أما بالمعنى الثاني فلا؛ لأن الصحيح عدم النقض بالريح الخارجة من الفرج، وقوله في الهداية لاحتمال خروجه من الدبر يشير إلى المعنى الأول.
ولها حكمان آخران:
الأول لو طلقت ثلاثا وتزوجت بآخر لا تحل للأول ما لم تحبل لاحتمال الوطء في الدبر.
الثاني و يحرم على زوجها جماعها إلا أن يمكنه إتيانها في قبلها من غير تعد كذا في فتح القدير وينبغي أن يختصا بها بالمعنى الأول وأما بالمعنى الثاني فلا كما يفيده التعليل المذكور.
وإن كان بذكره شق له رأسان إحداهما يخرج منه ماء يسيل في مجرى الذكر والآخرى في

 

ج / 1 ص -76-         ...............................
_________________
غيره ففي الأول ينقض بالظهور وفي الثاني بالسيلان.
وفي التوشيح باسور خرج من دبره، فإن عالجه بيده أو بخرقة حتى أدخله تنقض طهارته؛ لأنه يلتزق بيده شيء من النجاسة إلا إن عطس فدخل بنفسه وذكر الحلواني إن تيقن خروج الدبر تنتقض طهارته بخروج النجاسة من الباطن إلى الظاهر ويخرج على هذا لو خرج بعض الدودة فدخلت ا هـ.
ثم الخروج في السبيلين يتحقق بالظهور، فلو نزل البول إلى قصبة الذكر لا ينقض، وإلى القلفة فيه خلاف، والصحيح النقض واستشكله الزيلعي هنا بأنهم قالوا لا يجب على الجنب إيصال الماء إليه؛ لأنه خلقه كقصبة الذكر. وأجاب في الغسل بأن الصحيح وجوب الإيصال على الجنب فلا إشكال لكن في فتح القدير الصحيح المعتمد عدم وجوب الإيصال في الغسل للحرج لا؛ لأنه خلقة، فلا يرد الإشكال.
واستدلوا لكون الخارج من السبيلين ناقضا مطلقا بقوله تعالى
{أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ}[النساء:43] لأنه اسم للموضع المطمئن من الأرض يقصد للحاجة فالمجيء منه يكون لازما لقضاء الحاجة فأطلق اللازم، وهو المجيء منه وأريد الملزوم، وهو الحدث كناية كذا في غاية البيان والعناية.
وظاهر ما في فتح القدير أن اللازم خروج النجاسة والملزوم المجيء من الغائط، وإذا كان كناية عن اللازم فالحمل على أعم اللوازم أولى أخذا بالاحتياط في باب العبادات فكان جميع ما يخرج من بدن الإنسان من النجاسة ناقضا معتادا كان أو غير معتاد، فكان حجة على مالك.
وتعقبه في فتح القدير بأنه إنما يصح على إرادة أعم اللوازم للمجيء والخارج النجس مطلقا ليس منه للعلم بأن الغائط لا يقصد قط للريح فضلا عن جرح إبرة ونحوه فالأولى كونه فيما يحله.
ويستدل على الريح بالإجماع وعلى غيره بالخبر وهو ما رواه الدارقطني "الوضوء مما

 

ج / 1 ص -77-         ...............................
_________________
خرج وليس مما دخل" لكنه ضعيف قوله صلى الله عليه وسلم: "للمستحاضة توضئي لوقت كل صلاة" ا هـ.
ولا يخفى أن المشايخ إنما استدلوا بالآية على مالك في نفيه ناقضية غير المعتاد من السبيلين، ولم يستدلوا بها على الخارج من غيرهما.
والقياس أيضا حجة على مالك، فالأصل الخارج النجس من السبيلين على وجه الاعتياد والفرع ما خرج منهما إلا على وجه الاعتياد.
وأما الخارج من غير السبيلين، فناقض بشرط أن يصل إلى موضع يلحقه حكم التطهير كذا قالوا ومرادهم أن يتجاوز إلى موضع تجب طهارته أو تندب من بدن وثوب ومكان، وإنما فسرنا الحكم بالأعم من الواجب والمندوب؛ لأن ما اشتد من الأنف لا تجب طهارته أصلا بل تندب لما أن المبالغة في الاستنشاق لغير الصائم مسنونة وأن حدها أن يأخذ الماء بمنخريه يصعد إلى ما اشتد من الأنف.
وقد صرح في معراج الدراية وغيره بأنه إذا نزل الدم إلى قصبة الأنف نقض وفي البدائع إذا نزل الدم إلى صماخ الأذن يكون حدثا وفي الصحاح صماخ الأذن خرقها، وليس ذلك إلا لكونه يندب تطهيره في الغسل ونحوه وكذا إذا افتصد وخرج دم كثير وسال بحيث لم يتلطخ رأس الجرح، فإنه ينقض الوضوء لكونه وصل إلى ثوب أو مكان يلحقهما حكم التطهير فتنبه لهذا فإنه يدفع كلام كثير من الشارحين؛ ولذا قال في فتح القدير لو خرج من جرح في العين دم فسال إلى الجانب الآخر منها لا ينقض؛ لأنه لا يلحقه حكم هو وجوب التطهير أو ندبه.

 

ج / 1 ص -78-         ...............................
_________________
فقول بعضهم المراد أن يصل إلى موضع تجب طهارته محمول على أن المراد بالوجوب الثبوت.
وقول الحدادي إذا نزل الدم إلى قصبة الأنف لا ينقض محمول على أنه لم يصل إلى ما يسن إيصال الماء إليه في الاستنشاق فهو في حكم الباطن حينئذ توفيقا بين العبارات.
وقول من قال إذا نزل الدم إلى ما لان من الأنف نقض لا يقتضي عدم النقض إذا وصل إلى ما اشتد منه لا بالمفهوم، والصريح بخلافه، وقد أوضحه في غاية البيان والعناية والمراد بالوصول المذكور سيلانه واختلف في حده ففي المحيط حده أن يعلو وينحدر عن أبي يوسف وعن محمد إذا انتفخ على رأس الجرح، وصار أكبر من رأسه نقض والصحيح الأول وفي الدراية جعل قول محمد أصح واختاره السرخسي.
وفي فتح القدير أنه الأولى، وفي مبسوط شيخ الإسلام تورم رأس الجرح فظهر به قيح ونحوه لا ينقض ما لم يجاوز الورم؛ لأنه لا يجب غسل موضع الورم فلم يتجاوزه إلى موضع يلحقه التطهير.
ثم الجرح والنفطة وماء السرة والثدي والأذن والعين إذا كان لعلة سواء على الأصح وعن الحسن أن ماء النفطة لا ينقض قال الحلواني وفيه توسعة لمن به جرب أو جدري كذا في المعراج.
وفي التبيين والقيح الخارج من الأذن أو الصديد إن كان بدون الوجع لا ينقض، ومع الوجع ينقض؛ لأنه دليل الجرح روي ذلك عن الحلواني ا هـ.

 

ج / 1 ص -79-         ...............................
_________________
وفيه نظر بل الظاهر إذا كان الخارج قيحا أو صديدا ينقض سواء كان مع وجع أو بدونه؛ لأنهما لا يخرجان إلا عن علة نعم هذا التفصيل حسن فيما إذا كان الخارج ماء ليس غير وفيه أيضا، ولو كان في عينيه رمد أو عمش يسيل منهما الدموع قالوا يؤمر بالوضوء لوقت كل صلاة لاحتمال أن يكون صديدا أو قيحا ا هـ.
وهذا التعليل يقتضي أنه أمر استحباب، فإن الشك والاحتمال في كونه ناقضا لا يوجب الحكم بالنقض إذ اليقين لا يزول بالشك نعم إذا علم من طريق غلبة الظن بإخبار الأطباء أو بعلامات تغلب على ظن المبتلى يجب، ولو كان الدم في الجرح فأخذه بخرقة أو أكله الذباب فازداد في مكانه، فإن كان بحيث يزيد ويسيل لو لم يأخذه بنفسه بطل وضوءه، وإلا فلا وكذلك إذا ألقي عليه تراب أو رماد ثم ظهر ثانيا وتربه ثم وثم فهو كذلك يجمع كله.
قال في الذخيرة قالوا، وإنما يجمع إذا كان في مجلس واحد مرة بعد أخرى أما إذا كان في مجالس مختلفة لا يجمع، ولو ربط الجرح فنفذت البلة إلى ضاق لا إلى الخارج نقض.
قال في فتح القدير ويجب أن يكون معناه إذا كان بحيث لولا الرباط سال؛ لأن القميص لو تردد على الجرح فابتل لا ينجس ما لم يكن كذلك؛ لأنه ليس بحدث وفي المحيط مص القراد فامتلأ إن كان صغيرا لا ينقض كما لو مص الذباب وإن كان كبيرا نقض كمص العلقة ا هـ. وعللوه بأن الدم في الكبير يكون سائلا قالوا ولا ينقض ما ظهر من موضعه ولم يرتق كالنفطة إذا قشرت ولا ما ارتقى عن موضعه ولم يسل كالدم المرتقي من مغرز الإبرة. والحاصل في الخلال من الأسنان، وفي الخبز من العض وفي الإصبع من إدخاله في الأنف.
وفي منية المصلي، ولو استنثر فسقطت من أنفه كتلة دم لم تنقض وضوءه، وإن قطرت قطرة دم انتقض ا هـ. وأما ما سال بعصر، وكان بحيث لو لم يعصر لم يسل قالوا لا ينقض؛ لأنه ليس بخارج، وإنما هو مخرج، وهو مختار صاحب الهداية.
وقال شمس الأئمة ينقض، وهو حدث عمد عنده، وهو الأصح كذا في فتح القدير معزيا إلى الكافي؛ لأنه لا تأثير يظهر للإخراج وعدمه في هذا الحكم بل لكونه خارجا نجسا وذلك يتحقق مع الإخراج كما يتحقق مع عدمه، فصار كالفصد كيف وجميع الأدلة الموردة من السنة والقياس يفيد تعليق النقض بالخارج النجس، وهو ثابت في المخرج ا هـ.
وضعفه في العناية بأن الإخراج ليس بمنصوص عليه، وإن كان يستلزمه فكان ثبوته غير

 

ج / 1 ص -80-         ...............................
_________________
قصدي ولا معتبر به ا هـ. وهذا كله مذهبنا واستدلوا له بأحاديث ضعفها في فتح القدير وأحسن ما يستدل به حديث فاطمة والقياس.
وأما الأول فما رواه البخاري عن عائشة جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إني امرأة استحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة قال "لا إنما ذلك عرق وليست بالحيضة فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم" قال هشام بن عروة قال أبي ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت وما قيل إنه من كلام عروة دفع بأنه خلاف الظاهر؛ لأنه لما كان على مشاكلة الأول لزم كونه من قائل الأول فكان حجة لنا؛ لأنه علل وجوب الوضوء بأنه دم عرق وكل الدماء كذلك.
وأما القياس فبيانه أن خروج النجاسة مؤثر في زوال الطهارة شرعا، وقد عقل في الأصل، وهو الخارج من السبيلين أن زوال الطهارة عنده، وهو الحكم إنما هو بسبب أنه نجس خارج من البدن إذا لم يظهر لكونه من خصوص السبيلين تأثير، وقد وجد في الخارج من غيرهما وفيه المناط فيتعدى الحكم إليه. فالأصل الخارج من السبيلين وحكمه زوال الطهارة وعلته خروج النجاسة من البدن وخصوص المحل ملغى.
والفرع الخارج النجس من غيرهما، وفيه المناط فيتعدى إليه زوال الطهارة التي موجبها الوضوء.
فثبت أن موجب هذا القياس ثبوت زوال طهارة الوضوء، وإذا صار زائل الطهارة فعند إرادة الصلاة يتوجه عليه خطاب الوضوء، وهو تطهير الأعضاء الأربعة.
وإذا صار خروج النجاسة من غير السبيلين كخروجها من السبيلين يرد أن يقال لما اشترطتم في الفرع السيلان أو ملء الفم في القيء مع عدم اشتراطه في الأصل.

 

ج / 1 ص -81-         وقيء ملأ فاه، ولو مرة أو علقا أو طعاما أو ماء
_________________
فأجيب بأن النقض بالخروج وحقيقته من الباطن إلى الظاهر وذلك بالظهور في السبيلين يتحقق وفي غيرهما بالسيلان إلى موضع يلحقه التطهير؛ لأن بزوال القشرة تظهر النجاسة في محلها، فتكون بادية لا خارجة والفم ظاهر من وجه باطن من وجه فاعتبر ظاهرا في ملء الفم باطنا فيما دونه .
" قوله: وقيء ملأ فاه " أي وينقضه قيء ملأ فم المتوضئ أفرده بالذكر، وإن كان داخلا في الأول لمخالفته في حد الخروج كذا في التبيين، وإنما لم يفرد الخارج من غير السبيلين مع مخالفته للخارج منهما كما في الوافي لما أن السيلان مستفاد من الخروج كما قدمناه.
بخلاف ملء الفم وقد تقدم الدليل لمذهبنا، وهو مذهب العشرة المبشرين بالجنة ومن تابعهم.
واختلف في حد ملء الفم فصحح في المعراج وغيره أنه ما لا يمكن إمساكه إلا بكلفة وصحح في الينابيع أنه ما لا يقدر على إمساكه.
ووجهه أن النجس حينئذ يخرج ظاهرا؛ لأن هذا القيء ليس إلا من قعر المعدة فالظاهر أنه مستصحب للجنس بخلاف القليل، فإنه من أعلى المعدة فلا يستصحبه؛ ولأن للفم بطونا معتبرا شرعا حتى لو ابتلع الصائم ريقه لا يفسد صومه كما لو انتقلت النجاسة من محل إلى آخر في الجوف وظهورا حتى لا يفسد الصوم بإدخال الماء فيه فراعينا الشبهين فلا ينقض القليل ملاحظة للبطون، وينقض الكثير للآخر الخروج النجس ظاهرا.
" قوله :، ولو مرة أو علقا أو طعاما أو ماء " بيان لعدم الفرق بين أنواع القيء، والعلق ما اشتدت حمرته وجمد أطلق في الطعام والماء.
قال الحسن إذا تناول طعاما أو ماء ثم قاء من ساعته لا ينقض؛ لأنه طاهر حيث لم يستحل وإنما اتصل به قليل القيء فلا يكون حدثا فلا يكون نجسا وكذا الصبي إذا ارتضع وقاء من ساعته وصححه في المعراج وغيره ومحل الاختلاف ما إذا وصل إلى معدته ولم

 

ج / 1 ص -82-         لا بلغما
_________________
يستقر أما لو قاء قبل الوصول إليها، وهو في المريء، فإنه لا ينقض اتفاقا كما ذكره الزاهدي وفي فتح القدير لو قاء دودا كثيرا أو حية ملأت فاه لا ينقض؛ لأن ما يتصل به قليل، وهو غير ناقض ا هـ. وقد يقال ينبغي على قول من حكم بنجاسة الدود أن ينقض إذا ملأ الفم.
" قوله: لا بلغما " عطف على مرة أي لا ينقضه بلغم أطلقه فشمل ما إذا كان من الرأس أو من الجوف ملأ الفم أو لا مخلوطا بطعام أو لا إلا إذا كان الطعام ملء الفم.
وعند أبي يوسف ينقض المرتقي من الجوف إن ملأ الفم كسائر أنواع القيء؛ لأنه يتنجس في المعدة بالمجاورة بخلاف النازل من الرأس، فإنها ليست محل النجاسة ولهما أنه لزج صقيل لا يتداخله أجزاء النجاسة، فصار كالبزاق، وما يتصل به من القيء قليل.
ولا يرد ما إذا وقع البلغم في النجاسة، فإنه يحكم بنجاسته؛ لأن كلامنا فيما إذا كان في الباطن وأما إذا انفصل قلت ثخانته وازدادت رقته فقبلها هكذا في كثير من الكتب، وهو ظاهر في أن البلغم ليس نجسا اتفاقا، وإنما نجسه أبو يوسف للمجاورة، وهما حكما بطهارته، وأن الخلاف في الصاعد من المعدة فاندفع به قول من قال إن البلغم نجس عند أبي يوسف؛ لأنه إحدى الطبائع الأربع حتى قال في الخلاصة إن من صلى ومعه خرقة المخاط لا تجوز صلاته عند أبي يوسف إن كان كثيرا فاحشا إذ لو كان كذلك لاستوى النازل من الرأس والمرتقي من الجوف.
وقد قالوا لا خلاف في طهارة الأول واندفع به ما في البدائع أنه لا خلاف في المسألة في الحقيقة بأن جواب أبي يوسف في الصاعد من المعدة، وأنه حدث بالإجماع؛ لأنه نجس.
وجوابهما في الصاعد من حواشي الخلق وأطراف الرئة وأنه ليس بحدث إجماعا لأنه ظاهر.
فينظر إن كان صافيا غير مخلوط بالطعام تبين أنه لم يصعد من المعدة فلا يكون حدثا، وإن كان مخلوطا بشيء من ذلك تبين أنه صعد منها، فيكون حدثا وهذا هو الأصح ا هـ.
ويدل على ضعفه أن المنقول في الكتب المعتمدة أن البلغم إذا كان مخلوطا بالطعام لا ينقض إلا إذا كان الطعام غالبا بحيث لو انفرد ملأ الفم أما إذا كان الطعام مغلوبا فلا ينقض مع تحقق كونه من المعدة قال في الخلاصة: فإن استويا لا ينقض وفي صلاة المحسن قال العبرة

 

ج / 1 ص -83-         أو دما غلب عليه البصاق
_________________
للغالب، ولو استويا يعتبر كل على حدة.
قال في فتح القدير وعجز هذا أولى من عجز ما في الخلاصة.
وفي شرح الجامع الصغير لقاضي خان الخلاف في البلغم، وهو ما كان منعقدا متجمدا أما البزاق، وهو ما لا يكون متجمدا فلا ينقض بالإجماع وذكر العلامة يعقوب باشا أن في قولهما إن ما يتصل بالبلغم من القيء قليل، وهو غير ناقض إشارة إلى أنه ينبغي أن ينتقض الوضوء بقيء البلغم إذا تكرر جدا مع اتحاد المجلس أو السبب ويبلغ بالجمع حد الكثرة ا هـ.
وقد يقال الظاهر عدم اعتباره؛ لأنه إنما يجمع إذا كان غير مستهلك أما إذا كان مغلوبا مستهلكا فلا وصرحوا في باب الأنجاس أن نجاسة القيء مغلظة وفي معراج الدراية وعن أبي حنيفة قاء طعاما أو ماء فأصاب إنسانا شبرا في شبر لا يمنع، وفي المجتبى الأصح أنه لا يمنع ما لم يفحش. ا هـ. وهو صريح في أن نجاسته مخففة وحمله في فتح القدير على ما إذا قاء من ساعته، وهو غير صحيح؛ لأنه حينئذ طاهر كما قدمنا أنه غير ناقض وألحقوا بالقيء ماء فم النائم إذا صعد من الجوف بأن كان أصفر أو منتنا، وهو مختار أبي نصر وصحح في الخلاصة طهارته وعند أبي يوسف نجس، ولو نزل من الرأس فظاهر اتفاقا وفي التجنيس أنه طاهر كيفما كان وعليه الفتوى .
" قوله: أو دما غلب عليه البصاق " معطوفا على البلغم أي لا ينتقض الدم الخارج من الفم المغلوب بالبصاق؛ لأن الحكم للغالب فصار كأنه كله بزاق قيد بغلبة البزاق؛ لأنه لو كان مغلوبا والدم غالب نقض؛ لأنه سال بقوة نفسه، وإن استويا نقض أيضا لاحتمال سيلانه بنفسه أو أساله غيره فوجد الحدث من وجه فرجحنا جانب الوجود احتياطا بخلاف ما إذا شك في الحدث؛ لأنه لم يوجد إلا مجرد الشك ولا عبرة له مع اليقين كذا في المحيط.
قالوا علامة كون الدم غالبا أو مساويا أن يكون أحمر وعلامة كونه مغلوبا أن يكون أصفر وقيدنا بكونه خارجا من الفم إلخ؛ لأنه لو كان صاعدا من الجوف مائعا غير مخلوط بشيء فعند محمد ينقض إن ملأ الفم كسائر أنواع القيء وعندهما إن سال بقوة نفسه نقض الوضوء، وإن كان

 

ج / 1 ص -84-         ...............................
_________________
قليلا؛ لأن المعدة ليست بمحل الدم فيكون من قرحة في الجوف كذا في الهداية واختلف التصحيح فصحح في البدائع قولهما قال وبه أخذ عامة المشايخ وقال الزيلعي: إنه المختار وصحح في المحيط محمد وكذا في السراج معزيا إلى الوجيز.
ولو كان مائعا نازلا من الرأس نقض قل أو كثر بإجماع أصحابنا، ولو كان علقا متجمدا يعتبر فيه ملء الفم بالاتفاق؛ لأنه سوداء محترقة.
وأما الصاعد من الجوف المختلط بالبزاق فحكمه ما بيناه في الخارج من الفم المختلط بالبزاق لا فرق في المخلوط بالبزاق بين كونه من الفم أو الجوف، وهو ظاهر إطلاق الشارحين كصاحب المعراج وغاية البيان وجامع قاضي خان والكافي والينابيع والمضمرات وصرح بعدم الفرق في شرح مسكين.
ونقل ابن الملك في شرحه على الجمع أن الدم الصاعد من الجوف إذا غلبه البزاق لا ينقض اتفاقا وظاهر كلام الزيلعي أن الدم الصاعد من الجوف المختلط بالبزاق ينقض قليله وكثيره على المختار ولا يخفى عدم صحته لمخالفته المنقول مع عدم تعقل فرق بين الخارج من الفم والخارج من الجوف المختلطين بالبزاق.
وقد استفيد مما ذكروا هنا أن ما خرج من المعدة لا ينقض ما لم يملأ الفم وما لم يخرج منها كالدم ينقض قليله وكثيره إذا وصل إلى موضع يلحقه حكم التطهير.
وإنما كان كذلك؛ لأن الفم له تعلق بالمعدة من حيث إن وصول الطعام إليها منه فكان منها لاتصاله بها فيجوز أن يلحق بها في حق ما يخرج منها إذا كان قليلا بخلاف الدم؛ لأن المعدة ليست بموضعه ولا ضرورة في حكم الدم فيكون له حكم الطاهر من كل وجه كذا في معراج الدراية وفي شرح النقاية، ولو كان في البزاق عروق الدم فهو عفو.
وفي السراج الوهاج وإن استعط فخرج السعوط إلى الفم إن ملأ الفم نقض وإن خرج من الأذنين لا ينقض وفيه تأمل وحمله بعضهم على أنه وصل إلى الجوف في المسألة الأولى ثم خرج، وإلا فهو لم يصل إلى موضع النجاسة لكن في البدائع خلاف في النقض في

 

ج / 1 ص -85-         والسبب يجمع متفرقة
_________________
المسألة الأولى ووجهه القول بالنقض بما ذكرنا.
وقال السراج الهندي: علامة كونه وصل إلى الجوف أن يتغير والتغير أن يستحيل إلى نتن وفساد فحينئذ يكون نجسا والبزاق بالزاي والسين والصاد لغات كما في شرح المنية. واعلم أن حكم الصوم كحكم الوضوء هنا حتى إذا ابتلع البصاق وفيه دم إن كان الدم غالبا أو كانا سواء أفطر، وإلا فلا.
" قوله: والسبب يجمع متفرقه " أي متفرق القيء وصورته لو قاء مرارا كل مرة دون ملء الفم، ولو جمع ملأ الفم يجمع وينقض الوضوء إن اتحد السبب، وهو الغثيان، وهو مصدر غثت نفسه إذا جاشت، وإن اختلف السبب لا يجمع وتفسير اتحاده أن يقيء ثانيا قبل سكون النفس من الغثيان وإن قاء ثانيا بعد سكون النفس كان مختلفا، وهذا عند محمد وقال أبو يوسف: يجمع إن اتحد المجلس يعني اتحاد ما يحتوي عليه المجلس كما ذكره الحدادي؛ لأن للمجلس أثرا في جمع المتفرقات؛ ولهذا تتحد الأقوال المتفرقة في النكاح والبيع وسائر العقود باتحاد المجلس وكذلك التلاوات المتعددة لآية السجدة تتحد باتحاد المجلس.
ولمحمد رحمه الله أن الحكم يثبت على حسب ثبوت السبب من الصحة والفساد فيتحد باتحاده ألا ترى أنه إذا جرح جراحات ومات منها قبل البرء يتحد الموجب، وإن تخلل البرء اختلف.
قال المصنف في الكافي: والأصح قول محمد؛ لأن الأصل إضافة الأحكام إلى الأسباب، وإنما ترك في بعض الصور للضروة كما في سجدة التلاوة إذ لو اعتبر السبب لانتفى التداخل؛ لأن كل تلاوة سبب وفي الأقارير اعتبر المجلس للعرف وفي الإيجاب والقبول لدفع الضرر ا هـ.
ثم هذه المسألة على أربعة أوجه: إما أن يتحد السبب والمجلس أو يتعدد أو يتحد الأول دون الثاني أو على العكس ففي الأول يجمع اتفاقا وفي الثاني لا يجمع اتفاقا وفي الثالث يجمع عند محمد وفي الرابع يجمع عند أبي يوسف.
وقد نقلوا في كتاب الغصب مسألة اعتبر فيها محمد المجلس وأبو يوسف اعتبر السبب، وهي رجل نزع خاتما من إصبع نائم ثم أعادها إن أعادها في ذلك النوم يبرأ من الضمان إجماعا وإن استيقظ قبل أن يعيدها ثم نام في موضعه ولم يقم منه فأعادها في النومة الثانية لا يبرأ من الضمان عند أبي يوسف؛ لأنه لما انتبه وجب ردها إليه فلما لم يردها إليه حتى نام لم يبرأ بالرد إليه، وهو نائم.

 

ج / 1 ص -86-         ونو مضطجع ومتورك
_________________
بخلاف الأولى؛ لأن هناك وجب الرد إلى نائم وهنا لما استيقظ وجب الرد إلى مستيقظ فلا يبرأ بالرد إلى النائم وعند محمد يبرأ؛ لأنه ما دام في مجلسه ذلك لا ضمان عليه وإن تكرر نومه ويقظته، فإن قام عن مجلسه ذلك ولم يردها إليه ثم نام في موضع آخر فردها إليه لم يبرأ من الضمان إجماعا لاختلاف المجلس والسبب كذا في السراج الوهاج معزيا إلى الواقعات ولم يذكر لأبي حنيفة فيها قولا.
وقال قاضي خان في فتاويه: من الغصب ولم يذكر في هذه المسائل قول أبي حنيفة، فإن الصحيح من مذهبه أنه لا يضمن إلا بالتحويل ا هـ. والذي يظهر أن الخلاف في مسألة الغصب ليس بناء على اتحاد السبب أو المجلس، فإن النوم ليس سببا في براءته بل السبب فيها إنما هو رده إلى صاحبه.
لكن أبو يوسف نظر إلى أنه لما أخذه، وهو نائم ثم استيقظ وجب الرد إليه، وهو مستيقظ فلما لم يرده حتى نام ثانيا يبرأ ومحمد نظر إلى أنه ما دام في مجلسه لم يضمن.
وقد تكرر لفظ المعدة فلا بأس بضبطها، وهي بفتح الميم وكسر العين وبكسر الميم وإسكان العين كذا في شرح المهذب .
" قوله: ونوم مضطجع ومتورك " بيان للنواقض الحكمية بعد الحقيقية والنوم فترة طبيعية تحدث في الإنسان بلا اختيار منه وتمنع الحواس الظاهرة والباطنة عن العمل مع سلامتها واستعمال العقل مع قيامه فيعجز العبد عن أداء الحقوق.
وللعلماء في النوم طريقتان ذكرهما في المبسوط وتبعه شراح الهداية.
إحداهما أن النوم ليس بناقض إنما الناقض ما لا يخلو عنه النائم فأقيم السبب الظاهر مقامه كما في السفر وكما إذا دخل الكنيف وشك في وضوئه، فإنه ينتقض وضوءه لجريان العادة عند الدخول في الخلاء بالتبرز. الثانية: أن عينه ناقض.
وصحح في السراج الوهاج الأول فاختاره الزيلعي مقتصرا عليه؛ لأنه لو كان ناقضا لاستوى وجوده في الصلاة وخارجها.
فما في التوشيح من أن عينه ليس بناقض اتفاقا فيه نظر، ولما كان النوم مظنة الحدث أدير الحكم على ما يتحقق معه الاسترخاء على الكمال، وهو في المضطجع.
والاضطجاع وضع الجنب على الأرض يقال ضجع الرجل إذا وضع جنبه بالأرض

 

ج / 1 ص -87-         ...............................
_________________
واضطجع مثله كذا في الصحاح ويلحق به المستلقي على قفاه والنائم المستلقي على وجهه وأما من نام واضعا أليتيه على عقبيه وصار شبه المنكب على وجهه واضعا بطنه على فخذيه لا ينتقض وضوءه كذا في النهاية والمعراج وعزاه في فتح القدير إلى الذخيرة ثم قال: وفي غيرها لو نام متربعا ورأسه على فخذيه نقض، وهذا يخالف ما في الذخيرة ا هـ.
وفي المحيط لو نام قاعدا واضعا أليتيه على عقبيه شبه المنكب قال محمد عليه الوضوء وقال أبو يوسف: لا وضوء عليه، وهو الأصح ا هـ. فأفاد أن في المسألة اختلافا بين الصاحبين وأن ما في النهاية وغيرها هو الأصح.
أطلق في المضطجع فشمل المريض إذا نام في صلاته مضطجعا وفيه خلاف والصحيح النقض وقيل لا؛ لأن نومه قاعدا كنوم الصحيح قائما.
وأما التورك فلفظ مشترك، فإن كان بمعنى أن جلسته تكشف عن المخرج كما إذا نام على أحد وركيه أو معتمدا على أحد مرفقيه فهذا ناقض، وهو مراد المصنف بدليل ما علل به في الكافي وإن كان بمعنى أن يبسط قدميه من جانب ويلصق أليتيه بالأرض فهذا غير ناقض كما في الخلاصة.
ولم يذكر المصنف الاستناد إلى شيء لو أزيل عنه لسقط؛ لأنه لا ينقض في ظاهر المذهب عن أبي حنيفة إذا لم تكن مقعدته زائلة عن الأرض كما في الخلاصة وبه أخذ عامة المشايخ، وهو الأصح كما في البدائع، وإن كان مختار القدوري النقض.
وأما إذا كانت مقعدته زائلة، فإنه ينقض اتفاقا، وهو بمعنى التورك فلذا تركه وفي الخلاصة، ولو نام على رأس التنور وهو جالس قد أدلى رجليه كان حدثا وفي المبتغى، ولو نام محتبيا ورأسه على ركبتيه لا ينقض.
وفي المحيط لو نام على دابة، وهي عريانة قالوا إن كان في حالة الصعود والاستواء لا يكون حدثا، وإن كان في حالة الهبوط يكون حدثا؛ لأن مقعدته متجافية عن ظهر الدابة ا هـ.
وفي هذه المواضع التي يكون فيها حدثا فهو بمعنى التورك فلم يخرج عن كلام المصنف وقيد المصنف بنوم المضطجع والمتورك؛ لأنه لا ينقض نوم القائم ولا القاعد، ولو في السراج أو المحمل كما في الخلاصة ولا الراكع ولا الساجد مطلقا إن كان في الصلاة وإن كان

 

ج / 1 ص -88-         ...............................
_________________
خارجها فكذلك إلا في السجود، فإنه يشترط أن يكون على الهيئة المسنونة له بأن يكون رافعا بطنه عن فخذيه مجافيا عضديه عن جنبيه.
وإن سجد على غير هذه الهيئة انتقض وضوءه؛ لأن في الوجه الأول الاستمساك باق والاستطلاق منعدم بخلافه في الوجه الثاني، وهذا هو القياس في الصلاة إلا أنا تركناه فيها بالنص كذا في البدائع.
وصرح الزيلعي بأنه الأصح.
وسجدة التلاوة وفي هذا كالصلبية وكذا سجدة الشكر عند محمد خلافا لأبي حنيفة كذا في فتح القدير وكذا في سجدتي السهو كذا في الخلاصة.
وأطلق في الهداية الصلاة فشمل ما كان عن تعمد وما كان عن غلبة وعن أبي يوسف إذا تعمد النوم في الصلاة نقض والمختار الأول.
وفي فصل ما يفسد الصلاة من فتاوى قاضي خان لو نام في ركوعه أو سجوده إن لم يتعمد لا تفسد، وإن تعمد فسدت في السجود دون الركوع ا هـ.
كأنه مبني على قيام المسكة حينئذ في الركوع دون السجود.
ومقتضى النظر أن يفصل في ذلك السجود إن كان متجافيا لا تفسد، وإلا تفسد كذا في فتح القدير وقد يقال مقتضى الأصح المتقدم أن لا ينتقض بالنوم في السجود مطلقا وينبغي حمل ما في الخانية على رواية أبي يوسف.
وفي جامع الفقه أن النوم في الركوع والسجود لا ينقض الوضوء، ولو تعمده ولكن تفسد صلاته كذا في شرح منظومة ابن وهبان وفي الخلاصة لو نام قاعدا فسقط على الأرض عن أبي حنيفة أنه إن انتبه قبل أن يصيب جنبه الأرض أو عند إصابة جنبه الأرض بلا فصل لم ينتقض وضوءه وعن أبي يوسف أنه ينتقض وعن محمد أنه إن انتبه قبل أن تزايل مقعدته الأرض لم تنقض وضوءه، وإن زايل مقعدته الأرض قبل أن ينتبه انتقض والفتوى على رواية أبي حنيفة قال شمس الأئمة الحلواني: ظاهر المذهب عن أبي حنيفة كما روي عن

 

ج / 1 ص -89-         ...............................
_________________
محمد قيل هو المعتمد وسواء سقط أو لم يسقط وإن نام جالسا، وهو يتمايل ربما تزول مقعدته عن الأرض وربما لا تزول قال شمس الأئمة الحلواني: ظاهر المذهب أنه لا يكون حدثا.
ولو وضع يده على الأرض فاستيقظ لا ينتقض الوضوء سواء وضع بطن الكف أو ظهر الكف ما لم يضع جنبه على الأرض قبل التيقظ ا هـ. وقيدنا بالنوم؛ لأن النعاس مضطجعا لا ذكر له في المذهب والظاهر أنه ليس بحدث.
وقال أبو علي الدقاق وأبو علي الرازي: إن كان لا يفهم عامة ما قيل عنده كان حدثا كذا في شروح الهداية.
وبهذا تبين أن ما في التبيين على قول الشيخين لا على الظاهر وعليه يحمل ما في سنن البزار بإسناد صحيح كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرون الصلاة فيضعون جنوبهم فمنهم من ينام ثم يقوم إلى الصلاة، فإن النوم مضطجعا ناقض إلا في حق النبي صلى الله عليه وسلم.
صرح في القنية بأنه من خصوصياته؛ ولهذا ورد في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم نام حتى نفخ ثم قام إلى الصلاة ولم يتوضأ لما ورد في حديث آخر "إن عيني تنامان ولا ينام

 

ج / 1 ص -90-         وإغماء وجنون
_________________
قلبي" ولا يشكل عليه ما ورد في الصحيح من أنه نام ليلة التعريس حتى طلعت الشمس؛ لأن القلب يقظان يحس بالحدث وغيره مما يتعلق بالبدن ويشعر به القلب، وليس طلوع الفجر والشمس من ذلك ولا هو مما يدرك بالقلب وإنما يدرك بالعين، وهي نائمة.
وهذا هو المشهور في كتب المحدثين والفقهاء كذا في شرح المهذب .
" قوله: وإغماء وجنون " أي وينقضه إغماء وجنون أما الإغماء فهو ضرب من المرض يضعف القوى ولا يزيل الحجا أي العقل بل يستره بخلاف الجنون، فإنه يزيله.
ولذا لم يعصم النبي صلى الله عليه وسلم من الإغماء كالأمراض وعصم من الجنون، وهو كالنوم في فوت الاختيار وفوت استعمال القدرة حتى بطلت عباراته بل أشد منه؛ لأن النوم فترة أصلية، وإذا نبه انتبه والإغماء عارض لا يتنبه صاحبه إذا نبه فكان حدثا بكل حال.
ولذا أطلقه في المختصر بخلاف النوم، فإنه لا يكون حدثا إلا إذا استرخت مفاصله غاية الاسترخاء فغلب الخروج حينئذ فأقيم السبب مقامه بخلافه في غير هذه الحالة، فإن الغالب فيها عدمه فلا يقام السبب مقامه فكان عدم النقض على أصل القياس الذي يقتضي أن غير الخارج لا ينقض، وبهذا اندفع ما وقع في كثير من الكتب من أن القياس أن يكون النوم حدثا في الأحوال كلها وقد نقل النووي في شرح المهذب الإجماع على ناقضيه: الإغماء والجنون.

 

ج / 1 ص -91-         ...............................
_________________
يقال أغمي عليه، وهو مغمى عليه وغمي عليه فهو مغمي عليه ورجل غمى أي: مغمى عليه وكذا الاثنان والجمع والمؤنث وقد ثناه بعضهم وجمعه فقال رجلان أغميان ورجال أغماء.
وأما الجنون فهو زوال العقل ونقضه ظاهر باعتبار عدم مبالاته وتمييز الحدث من غيره وعلله بعض المشايخ بغلبة الاسترخاء ورد بأن المجنون قد يكون أقوى من الصحيح فالأولى ما قلناه كذا في العناية، وأما العته فلم أر من ذكره من النواقض ولا بد من بيان حقيقته وحكمه.
أما الأول فهو آفة توجب الاختلال بالعقل بحيث يصير مختلط الكلام فاسد التدبير؛ لأنه لا يضرب ولا يشتم.
وأما الثاني فقد اختلف فيه على ثلاثة أقوال: ففي أصول فخر الإسلام وشمس الأئمة والمنار والمغني والتوضيح أنه كالصبي مع العقل في كل الأحكام فيوضع عنه الخطاب وفي التقويم لأبي زيد الدبوسي أن حكمه حكم الصبي مع العقل إلا

 

ج / 1 ص -92-         وسكر
_________________
في العبادات فإنا لم نسقط عنه الوجوب به احتياطا في وقت الخطاب ورده صدر الإسلام أبو اليسر بأنه نوع جنون فمنع الوجوب؛ لأنه لا يقف على العواقب.
وفي أصول البستي أن المعتوه ليس بمكلف بأداء العبادات كالصبي العاقل إلا أنه إذا زال العته توجه عليه الخطاب بالأداء حالا وبقضاء ما مضى إذا لم يكن فيه حرج كالقليل فقد صرح بأنه يقضي القليل دون الكثير وإن لم يكن مخاطبا فيما قبل كالنائم والمغمى عليه دون الصبي إذا بلغ.
وهو أقرب إلى التحقيق كذا في شرح المغني للهندي وظاهر كلام الكل الاتفاق على صحة أدائه العبادات.
أما من جعله مكلفا بها فظاهر، وكذا من لم يجعله مكلفا؛ لأنه جعله كالصبي العاقل، وقد صرحوا بصحة عباداته فيفهم منه أن العته لا ينقض الوضوء والله سبحانه الموفق .
" قوله: وسكر " أي وينقضه سكر وهو سرور يغلب على العقل بمباشرة بعض الأسباب الموجبة له فيمتنع الإنسان عن العمل بموجب عقله من غير أن يزيله؛ ولذا بقي أهلا للخطاب وقيل إنه يزيله وتكليفه مع زوال عقله بطريق الزجر عليه والتحقيق الأول لما ذكره الحكيم الترمذي في نوادره العقل في الرأس وشعاعه في الصدر والقلب فالقلب يهتدي بنوره

 

ج / 1 ص -93-         وقهقهة مصل بالغ
_________________
لتدبير الأمور وتمييز الحسن من القبيح.
فإذا شرب الخمر خلص أثرها إلى الصدر فحال بينه وبين نور العقل فيبقى الصدر مظلما فلم ينتفع القلب بنور العقل فسمي ذلك سكرا؛ لأنه سكر حاجز بينه وبين العقل.
وقد اختلف في حده هنا ففي الخلاصة والولوالجية والينابيع ونقله في المضمرات والتبيين عن صدر الإسلام وعزاه مسكين إلى شرح المبسوط أن حده هو حده في وجوب الحد، وهو من لا يعرف الرجل من المرأة وقال شمس الأئمة الحلواني: هو من حصل في مشيته اختلال.
وصححه في المجتبى وشرح الوقاية والمضمرات وشرح مسكين قالوا: وكذا الجواب في الحنث إذا حلف أنه ليس بسكران، وكان على الصفة التي قلنا يحنث في يمينه، وإن لم يكن بحال لا يعرف الرجل من المرأة.
وقد ذكر ابن وهبان في منظومته أن السكر يبطل الوضوء والصلاة، وهو محمول على أنه شرب المسكر فقام إلى الصلاة قبل أن يصير إلى هذه الحالة ثم صار في أثنائها إلى حالة لو مشى فيها يتحرك .
" قوله: وقهقهة مصل بالغ " أي وينقضه قهقهة، وهي في اللغة معروفة، وهو أن يقول قه قه.
وقهقة بمعنى.
واصطلاحا ما يكون مسموعا له ولجيرانه بدت أسنانه أولا وظاهر كلام المصنف وجماعة أن القهقهة من الأحداث.
وقال بعضهم: إنها ليست حدثا، فإنما يجب الوضوء بها عقوبة وزجرا، وهو ظاهر كلام

 

ج / 1 ص -94-         ...............................
_________________
جماعة منهم القاضي أبو زيد الدبوسي في الأسرار، وهو موافق للقياس؛ لأنها ليست خارجا نجسا بل هي صوت كالبكاء والكلام.
وفائدة الخلاف أن من جعلها حدثا منع جواز مس المصحف معها كسائر الأحداث ومن أوجب الوضوء عقوبة جوز مس المصحف معها هكذا نقل الخلاف وفائدته في معراج الدراية.
وينبغي ترجيح الثاني لموافقته القياس وسلامته مما يقال من أنها ليست نجاسة ولا سببها وموافقة الأحاديث، فإنها على ما رووا ليس فيها إلا الأمر بإعادة الوضوء والصلاة ولا يلزم منه كونها من الأحداث؛ ولذا وقع الاختلاف في قهقهة النائم في الصلاة.
وصححوا في الأصول والفروع أنها لا تنقض الوضوء ولا تبطل الصلاة بناء على أنها إنما أوجبت إعادة الوضوء بطريق الزجر والعقوبة والنائم ليس من أهلها، وهذا يرجح ما ذكرناه لكن سوى فخر الإسلام بين كلام النائم وقهقهته في أن كلا منهما لا يبطل الصلاة.
والمذهب أن الكلام مفسد للصلاة كما صرح به في النوازل بأنه المختار فحينئذ تكون القهقهة من النائم مفسدة للصلاة لا الوضوء.
وهو مختار ابن الهمام في تحريره؛ لأن جعلها حدثا للجناية ولا جناية من النائم فتبقى

 

ج / 1 ص -95-         ...............................
_________________
كلاما بلا قصد فيفسد كالساهي به ا هـ. وفي النصاب وعليه الفتوى وفي الولوالجية، وهو المختار وفي المبتغى تكلم النائم في الصلاة مفسد في الأصح بخلاف القهقهة ا هـ. ولا يخفى ما فيه، فإن القهقهة كلام على ما صرحوا به وفي المعراج أن قهقهة النائم تبطلهما وبه أخذ عامة المتأخرين احتياطا وكذا وقع الاختلاف في الناسي كونه في الصلاة فجزم الزيلعي بأنه لا فرق بين الناسي والعامد وذكر في المعراج أن في الساهي والناسي روايتين.
ولعل وجه الرواية القائلة بعدم النقض أنه كالنائم إذا لا جناية إلا بالقصد.
ولا يخفى ترجيح الرواية القائلة بالنقض لما أن للصلاة حالة مذكرة لا يعذر بالنسيان فيها ألا ترى أن الكلام ناسيا مفسد لها بخلاف النوم ولا فرق بين كونه متوضئا أو متيمما واتفقوا على أنها لا تبطل الغسل واختلفوا هل تنقض الوضوء الذي في ضمن الغسل فعلى قول عامة المشايخ لا تنقض.
وصحح المتأخرون كقاضي خان النقض عقوبة له مع اتفاقهم على بطلان صلاته كما نبه عليه في المضمرات.
وفي قهقهة الباني في الطريق بعد الوضوء روايتان كذا في المعراج وجزم الزيلعي بالنقض قيل، وهو الأحوط ولا نزاع في بطلان صلاته.
قيد بقوله مصل احترازا عن غيره وأطلقها فانصرفت إلى ما لها ركوع وسجود أو ما يقوم مقامهما من الإيماء لعذر أو راكبا يومئ بالنفل أو بالفرض حيث يجوز فلا تنقض القهقهة في صلاة الجنازة وسجدة التلاوة لكن يبطلان.
قيدنا بقولنا حيث يجوز؛ لأنه لو كان راكبا يومئ بالتطوع في المصر أو القرية قهقهة لا ينتقض وضوءه لعدم جواز صلاته عند أبي حنيفة وقال أبو يوسف: ينتقض لصحة صلاته عنده، ولو نسي الباني المسح فقهقه قبل القيام إلى الصلاة نقض وبعده لا ينقض لبطلان الصلاة بالقيام إليها، وهو من مسائل الامتحان كذا في المعراج وأفاد إطلاقه أنها تنقض بعد القعود قدر التشهد خلافا لزفر، ولو عند السلام كذا في المبتغى أو في سجود السهو كذا في المحيط.
ولو ضحك القوم بعدما أحدث الإمام متعمدا لا وضوء عليهم، وكذا بعدما تكلم الإمام وكذا بعد سلام الإمام هو الأصح كذا في الخلاصة، وقيل إذا قهقهوا بعد سلامه بطل وضوءهم، والخلاف مبني على أنه بعد سلام الإمام هل هو في الصلاة إلى أن يسلم بنفسه أو لا

 

ج / 1 ص -96-         ...............................
_________________
وفي البدائع إن قهقه الإمام والقوم معا أو قهقه القوم ثم الإمام بطلت طهارة الكل، وإن قهقه الإمام أولا ثم القوم انتقض وضوءه دونهم.
وفي فتح القدير، ولو قهقه بعد كلام الإمام متعمدا فسدت طهارته على الأصح على خلاف ما في الخلاصة بخلافه بعد حدثه عمدا ا هـ. ولم يبين الفرق بين كلام الإمام عمدا وحدثه عمدا.
والفرق بينهما أن الكلام قاطع للصلاة لا مفسد لها إذ لم يفوت شرط الصلاة، وهو الطهارة فلم يفسد به شيء من صلاة المأمومين، ولو مسبوقا فينقض وضوءهم بقهقهتهم بخلاف حدثه عمدا لتفويته الطهارة فأفسدت جزءا يلاقيه فيفسد من صلاة المأموم كذلك فقهقهتهم بعد ذلك تكون بعد الخروج من الصلاة فلا تنقض وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الحدث تحقيق الفرق بأبسط من هذا.
ولو أن محدثا غسل بعض أعضاء الوضوء ففني الماء فتيمم وشرع في الصلاة فقهقه ثم وجد الماء.
عند أبي يوسف يغسل باقي الأعضاء ويصلي وعندهما يغسل جميعها بناء على أن القهقهة هل تبطل ما غسل من أعضاء الوضوء؟ عنده لا، وعندهما نعم كذا في الخلاصة وإذا كان شرع في صلاة فرض وبطل الوصف ثم قهقه من قال ببطلان الأصل لا تنتقض طهارته بالقهقهة ومن قال بعدمه انتقضت.
كما إذا تذكر فائتة والترتيب فرض أو دخل وقت العصر في الجمعة أو طلعت الشمس في الفجر، ومن اقتدى بإمام لا يصح اقتداؤه به ثم قهقه لا ينتقض وضوءه اتفاقا، وكذا من قهقه بعد بطلان صلاته، وكذا إذا قهقه بعد خروجه كما إذا سلم قبل الإمام بعد القعود ثم قهقه كذا في الخانية.
وقيد بالبلوغ؛ لأن قهقهة الصبي لا تنقض وضوءه لكن تبطل صلاته كذا في كثير من الكتب.
ونقل في السراج الوهاج الإجماع على عدم نقض وضوئه وفيه نظر فقد ذكر في معراج الدراية أن في المسألة ثلاثة أقوال: الأول: ما ذكرناه.

 

ج / 1 ص -97-         ...............................
_________________
الثاني عن نجم الأئمة البخاري عن سلمة بن شداد أنها تنقض الوضوء دون الصلاة الثالث عن أبي القاسم أنها تبطلهما إلا أن يقال لما كان القولان الأخيران ضعيفين كانا كالعدم.
ووجه الأول أنها إنما أوجبت إعادة الوضوء عقوبة وزجرا والصبي ليس من أهلها والأثر ورد في صلاة كاملة فيقتصر عليها فلا تتعدى إلى صلاة الجنازة وسجدة التلاوة وصلاة الصبي وصلاة الباني بعد الوضوء على إحدى الروايتين وصلاة النائم على أحد القولين، وهذا كله مذهبنا.
وقالت الأئمة الثلاثة لا تنقض أصلا قياسا على عدم نقضها خارج الصلاة.
ولنا أن القياس ذلك لكن تركناه فيما إذا كانت القهقهة في ذات ركوع وسجود بما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرسلا ومسندا بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس إذ دخل رجل فتردى في حفرة، وكان في بصره ضرر فضحك كثير من القوم وهو في الصلاة فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من ضحك أن يعيد الوضوء والصلاة وتمامه في فتح القدير وما قيل بأنه لا يظن الضحك بالصحابة خلفه قهقهة.

 

ج / 1 ص -98-         ...............................
_________________
أجيب عنه بأنه كان يصلي خلفه الصحابيون والمنافقون والأعراب الجهال.
فالضاحك لعله كان بعض الأحداث أو المنافقين أو بعض الأعراب لغلبة الجهل عليهم كما بال أعرابي في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وهو نظير قوله تعالى
{وَتَرَكُوكَ قَائِماً}[الجمعة:11]، فإنه لم يتركه كبار الصحابة باللهو.
قال في العناية، وهذا من باب حسن الظن بهم رضي الله عنهم، وإلا فليس الضحك كبيرة وهم ليسوا من الصغائر بمعصومين ولا عن الكبائر على تقدير كونه كبيرة ا هـ. والمنقول في الأصول أن الصحابة عدول فهم محفوظون من المعاصي.
وقيد بالقهقهة؛ لأن الضحك بفتح الضاد وكسر الحاء هذا أصله ويجوز إسكان الحاء مع فتح الضاد وكسرها فهي أربعة أوجه: كذا في شرح المهذب، وهو في اللغة أعم من القهقهة، وهي من أفراده وفي الاصطلاح ما كان مسموعا له فقط وحكمه أنه لا ينقض الوضوء بل يبطل الصلاة.
وأما التبسم، وهو ما لا صوت فيه أصلا بأن تبدو أسنانه فقط فحكمه أنه لا يبطلهما؛ لأنه صلى الله عليه وسلم تبسم في الصلاة حين أتاه جبريل عليه السلام وأخبره أن من صلى عليك مرة صلى الله عليه بها عشرا كما في البدائع.
وقال جابر بن عبد الله: ما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تبسم، ولو في الصلاة كما في النهاية والعناية وظاهر كلامهم أن التبسم في الصلاة غير مكروه؛ ولذا قال في الاختيار ولا حكم للتبسم.

 

ج / 1 ص -99-         ومباشرة فاحشة
_________________
وقد رأيت في كلام بعضهم أنه لو أتى بحرفين من القهقهة انتقض وضوءه عملا بعدم تبعيض الحدث؛ لأنه إذا وقع بعضه وقع كله قياسا لوقوعه على ارتفاعه بجامع أن كلا منهما لا يتبعض ا هـ.
وقد يقال إن الحكم، وهو النقض معلق بالقهقهة فإذا وجد بعضها لا يوجد الحكم ولا بعضه لما عرف في الأصول أن المشروط لا يتوزع على أجزاء الشرط.
فقوله؛ لأنه إذا وقع بعضه ممنوع كما لا يخفى .
" قوله: ومباشرة فاحشة " يعني أن من النواقض الحكمية المباشرة الفاحشة، وهي أن يباشر امرأته متجردين ولاقى فرجه فرجها مع انتشار الآلة ولم ير بللا ولم يشترط بعضهم ملاقاة الفرج والظاهر الأول كذا ذكر الزيلعي لكن المنقول في البدائع أن في ظاهر الرواية عن أبي حنيفة وأبي يوسف لم يشترط مماستهما وشرط ذلك في النوادر وذكره الكرخي أيضا ا هـ. فعلم أن ظاهر الرواية عدم الاشتراط، وكذا ذكر في الينابيع وقال وروى الحسن أنه يشترط، وهو أظهر ا هـ. فقول من قال الظاهر الاشتراط أراد من جهة الدراية لا الرواية وصحح الإسبيجابي اشتراطه بعد أن ذكر أن ظاهر الرواية عدمه.
والقياس أن لا يكون حدثا، وهو قول محمد؛ لأن السبب إنما يقام مقام المسبب في موضع لا يمكن الوقوف على المسبب من غير حرج.
والوقف على المسبب هنا ممكن بلا حرج؛ لأن الحال حال يقظة فلا حاجة إلى الإقامة وجه الاستحسان، وهو قولهما ما روي أن أبا اليسر بائع العسل سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال إني أصبت من امرأتي كل شيء إلا الجماع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"توضأ وصل ركعتين" كذا في البدائع والله أعلم بصحة هذا الحديث؛ ولأنه يندر عدم مذي مع هذه الحالة والغالب كالمتحقق في مقام وجوب الاحتياط.

 

ج / 1 ص -100-       ...............................
_________________
والأصل أن السبب الظاهر يقوم مقام الأمر الباطن وذلك بطريق قيام هذه المباشرة مقام خروج النجس كذا في المصفى.
وفي الحقائق شرح المنظومة معزيا إلى فتاوى العتابي روي عن أصحابنا أنه لا ينقض ما لم يظهر شيء هو الصحيح ولا يعتمد على هذا التصحيح فقد صرح في التحفة كما نقله شارح المنية أن الصحيح قولهما وهو المذكور في المتون وفي فتح القدير معزيا إلى القنية وكذا المباشرة بين الرجل والغلام، وكذا بين الرجلين توجب الوضوء عليهما.
وفي شرح منية المصلي معزيا إليها أيضا أن الوضوء يجب على المرأة من المباشرة أيضا.
قال ولم أقف عليه إلا في القنية، وفيه تأمل، فإنهم لم يذكروا في مباشرة الرجل للمرأة على قولهما إلا على الرجل ا هـ. وقد يقال لا حاجة إلى التنصيص على الحكم في المرأة، فإن من المعلوم أن كل حكم ثبت للرجال ثبت للنساء؛ لأنهن شقائق الرجال إلا ما نص عليه.
قال في المستصفى الأصل في النساء أن لا يذكرن؛ لأن مبنى حالهن على الستر؛ ولهذا لم يذكرن في القرآن حتى شكون فنزل قوله تعالى
{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ}[الأحزاب:35] إلا إذا كان الحكم مخصوصا بهن كمسألة الصغيرة الآتية في الغسل. ا هـ. ولأنه قد وقع في كثير من عبارات علمائنا أن المباشرة الفاحشة تنقض الوضوء ولم يقيدوا بوضوء الرجل فكان وضوءها داخلا فيه كما لا يخفى .

 

 

ج / 1 ص -101-       لا خروج دودة من جرح، ومس ذكر
_________________
" قوله: لا خروج دودة من جرح " بالرفع عطف على خروج نجس أي لا ينقض الوضوء خروج دودة من جرح قيد به؛ لأن الدودة الخارجة من أحد السبيلين تنقض الوضوء والفرق بينهما من ثلاثة أوجه: الأول: أن الدودة لا تخلو عن قليل بلة تكون معها وتستصحبها وتلك البلة قليل نجاسة وقليل النجاسة إذا خرجت من أحد السبيلين انتقض الوضوء ومن غيرهما غير ناقضة.
الثاني: أن الدودة حيوان، وهو طاهر في الأصل والشيء الطاهر إذا خرج من السبيلين نقض الوضوء كالريح بخلاف غير السبيلين كالدمع والعرق.
الثالث: أن الدودة في الجرح متولدة من اللحم فصار كما لو انفصل قطعة من اللحم، فإنه لا ينقض، وأما في السبيلين تتولد من النجاسة فتكون في الخروج كالنجاسة الخارجة من أحدهما والخارج من السبيلين ناقض وقد قدمنا أنه لا فرق بين الدودة الخارجة من الدبر والقبل والذكر.
وبه يندفع ما ذكره صدر الشريعة أن الدودة من الإحليل لا تنقض وأن الدودة من القبل فيها اختلاف المشايخ وفي شرح مسكين معزيا إلى الذخيرة إن كان الماء يسيل من الجرح ينقض الوضوء.
ولا ينافيه ما في السراج الوهاج أنه لو دخل الماء في الجرح ثم خرج لا ينقض كما لا يخفى بأدنى تأمل .
" قوله: ومس ذكر " بالرفع عطف على المنفي أي لا ينقض الوضوء مس الذكر وكذا مس الدبر والفرج مطلقا خلافا للشافعي، فإن المس لواحد من الثلاثة ناقض للوضوء إذا كان بباطن الأصابع. واستدل النووي له في شرح المهذب بما روت بسرة بنت صفوان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

 

ج / 1 ص -102-       ...............................
_________________
"إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ"، وهو حديث حسن رواه مالك في الموطإ وأبو داود والترمذي وابن ماجه بأسانيد صحيحة.
ولنا ما رواه الجماعة أصحاب السنن إلا ابن ماجه عن ملازم بن عمرو عن عبد الله بن بدر عن قيس بن طلق بن علي عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الرجل يمس ذكره في الصلاة فقال: "هل هو إلا بضعة منك" وقد رواه ابن حبان في صحيحه قال الترمذي: هذا الحديث أحسن شيء يروى في هذا الباب وأصح ورواه الطحاوي أيضا وقال هذا حديث مستقيم الإسناد غير مضطرب في إسناده ومتنه.
فهذا حديث صحيح معارض لحديث بسرة بنت صفوان ويرجح حديث طلق على حديث بسرة بأن حديث الرجال أقوى؛ لأنهم أحفظ للعلم وأضبط؛ ولهذا جعلت شهادة امرأتين بشهادة رجل.
وقد أسند الطحاوي إلى ابن المديني أنه قال حديث ملازم بن عمرو أحسن من حديث بسرة.
وعن عمرو بن علي الفلاس أنه قال حديث طلق عندنا أثبت من حديث بسرة بنت صفوان.

 

ج / 1 ص -103-       ...............................
_________________
وقول النووي في شرح المهذب إن حديث طلق اتفق الحفاظ على ضعفه لا يخفى ما فيه إذ قد علمت ما قاله الترمذي وغيره إن حديث بسرة ضعفه جماعة حتى قال يحيى بن معين ثلاثة أحاديث لم تصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منها حديث مس الذكر.
وقول النووي أيضا ترجيحا لحديث بسرة بأن حديث طلق منسوخ؛ لأن قدومه على النبي صلى الله عليه وسلم كان في السنة الأولى من الهجرة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبني مسجده وراوي حديث بسرة أبو هريرة.
وإنما قدم أبو هريرة على النبي صلى الله عليه وسلم سنة سبع من الهجرة فغير لازم؛ لأن ورود طلق إذ ذاك ثم رجوعه لا ينفي عوده بعد ذلك وهم قد رووا عنه حديثا ضعيفا من مس ذكره فليتوضأ وقالوا سمع من النبي صلى الله عليه وسلم الناسخ والمنسوخ؛ ولأن حديث طلق غير قابل للنسخ؛ لأنه صدر على سبيل التعليل فإنه عليه الصلاة والسلام ذكر أن الذكر قطعة لحم فلا تأثير لمسه في الانتقاض، وهذا المعنى لا يقبل النسخ كذا في معراج الدراية.
وقول النووي أيضا إن حديث طلق محمول على المس فوق حائل؛ لأنه قال سألته عن مس الذكر في الصلاة والظاهر أن الإنسان لا يمس ذكره في الصلاة بلا حائل مردود بأن تعليله صلى الله عليه وسلم بقوله "هل هو إلا بضعة منك" يأبى الحمل والبضعة بفتح الموحدة القطعة من اللحم، وفي شرح الآثار للطحاوي لا نعلم أحدا من الصحابة أفتى بالوضوء من مس الذكر إلا ابن عمر وقد خالفه في ذلك أكثرهم وأسند عن ابن عيينة أنه عد جماعة لم يكونوا يعرفون الحديث يعني حديث بسرة ومن رأيناه يحدث عنهم سخرنا منه ومما يدل على انقطاع حديث بسرة باطنا أن أمر النواقض مما يحتاج الخاص والعام إليه.

 

ج / 1 ص -104-       ...............................
_________________
وقد ثبت عن علي وعمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وحذيفة بن اليمان وعمران بن الحصين وأبي الدرداء وسعد بن أبي وقاص أنهم لا يرون النقض، وإن روي عن غيرهم خلافه وفي السنن للدارقطني حدثنا محمد بن الحسن النقاش أخبرنا عبد الله بن يحيى القاضي السرخسي أخبرنا رجاء بن مرجى الحافظ قال اجتمعنا في مسجد الحنيف أنا وأحمد بن حنبل وعلي بن المديني ويحيى بن معين فتناظرنا في مس الذكر فقال يحيى بن معين يتوضأ منه.
وقال علي بن المديني بقول الكوفيين وتقلد قولهم واحتج يحيى بن معين بحديث بسرة بنت صفوان واحتج علي بن المديني بحديث قيس بن طلق وقال ليحيى كيف تتقلد إسناد بسرة ومروان أرسل شرطيا حتى رد جوابها إليه.
وقال يحيى وقد أكثر الناس في قيس بن طلق ولا يحتج بحديثه فقال ابن حنبل كلا الأمرين على ما قلتما فقال يحيى حدثنا مالك عن نافع عن ابن عمر أنه توضأ من مس الذكر فقال ابن المديني كان ابن مسعود يقول لا يتوضأ منه، وإنما هو بضعة من جسدك فقال يحيى عمن قال عن سفيان عن أبي قيس عن هذيل عن عبد الله، وإذا اجتمع ابن مسعود وابن عمر فابن مسعود أولى أن يتبع فقال ابن حنبل نعم ولكن أبو قيس لا يحتج بحديثه فقال حدثني أبو نعيم أخبرنا مسعر عن عمير بن سعيد عن عمار بن ياسر قال ما أبالي مسسته أو أنفي فقال ابن حنبل عمار وابن عمر استويا فمن شاء أخذ بهذا ومن شاء أخذ بهذا ا هـ.
وإن سلكنا طريق الجمع جعل مس الذكر كناية عما يخرج منه، وهو من أسرار البلاغة يسكتون عن ذكر الشيء ويرمزون عليه بذكر ما هو من روادفه.
فلما كان مس الذكر غالبا يرادف خروج الحدث منه ويلازمه عبر به عنه كما عبر الله تعالى بالمجيء من الغائط عما يقصد لأجله ويحل فيه فيتطابق طريقا الكتاب والسنة في التعبير فيصار إلى هذا لدفع التعارض والله الموفق للصواب.
ويستحب لمن مس ذكره أن يغسل يده صرح به صاحب المبسوط، وهذا أحد ما حمل به حديث بسرة.

 

ج / 1 ص -105-       وامرأة
_________________
فقال أو المراد بالوضوء غسل اليد استحبابا كما في قوله الوضوء قبل الطعام ينفي الفقر وبعده ينفي اللمم لكن في البدائع ما يفيد تقييد الاستحباب بما إذا كان الاستنجاء بالأحجار دون الماء، وهو حسن كما لا يخفى .
" قوله: وامرأة " بالجر عطف على ذكر أي مس بشرة المرأة لا ينقض الوضوء مطلقا سواء كان بشهوة أو لا وقال الشافعي: ينتقض وضوء اللامس مطلقا كان بشهوة وقصد أو لا وله في الملموس قولان أصحهما النقض إلا إذا لمس ذات رحم محرم أو صغيرة لا تشتهى فإنه لا ينقض على الأصح بخلاف العجوز فالصحيح النقض وهذه المسألة قد وقع الاختلاف فيها في الصدر الأول، وهو اختلاف معتبر حتى قال بعض مشايخنا ينبغي لمن يؤم أن يحتاط فيه فمذهب عمر وابن مسعود وعبد الله بن عمر وجماعة من التابعين كمذهب الشافعي ومذهب علي وابن عباس وجماعة من التابعين كمذهبنا.
استدل الشافعي بقوله تعالى
{أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ}[النساء:43]، فإن اللمس يطلق على الجس باليد قال تعالى {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ}[الأنعام:7] وبقول أهل اللغة اللمس يكون باليد وبغيرها وقد يكون بالجماع فنعمل بمقتضى اللمس مطلقا فمتى التقت البشرتان انتقض سواء كان بيد أو جماع.
ولأئمتنا في الجواب عن هذا أوجه أحدها ما ذكره الأصوليون كفخر الإسلام البزدوي أن حقيقة اللمس يكون باليد وأن الجماع مجاز فيه.
لكن المجاز مراد بالإجماع حتى حل للجنب التيمم بالآية فبطلت الحقيقة؛ لأنه يستحيل اجتماعهما مرادين بلفظ واحد ثانيهما، وهو المذكور في بعض كتب الفقه أن اللمس إذا قرن بالمرأة كان حقيقة في الجماع يؤيده أن الملامسة مفاعلة من اللمس وذلك يكون بين اثنين

 

ج / 1 ص -106-       ...............................
_________________
فصاعدا وعندهم لا يشترط اللمس من الطرفين.
ثالثها أن اللمس مشترك بين اللمس باليد وبين الجماع.
ورجحنا الحمل على الجماع بالمعنى، وذلك أنه سبحانه وتعالى أفاض في بيان حكم الحدثين الأصغر والأكبر عند القدرة على الماء بقوله
{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ}[المائدة:6] إلى قوله {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا}[المائدة:6] فبين أنه الغسل ثم شرع في بيان الحال عند عدم القدرة عليه بقوله {وإن كنتم مرضى أو على سفر } إلى قوله {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً}[النساء:43] إلخ فإذا حملت الآية على الجماع كان بيانا لحكم الحدثين الأصغر والأكبر عند عدم الماء كما بين حكمهما عند وجوده فيتم الغرض؛ لأن بالناس حاجة إلى بيانهما خلاف ما ذهبوا إليه من كونه باليد، فإنه يكون تكرارا محضا؛ لأنه قد علم الحدث الأصغر بقوله {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ}[النساء:43] ويدل عليه من السنة حديث عائشة الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه في كتاب الصلاة قالت فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الفراش فالتمسته فوقعت يدي على بطن قدميه، وهو في المسجد وهما منصوبتان، وهو يقول اللهم إني أعود برضاك من سخطك إلى آخر الدعاء.
وفي رواية للبيهقي بإسناد صحيح فالتمست بيدي فوقعت يدي على بطن قدميه وهما منصوبتان، وهو ساجد وحديث عائشة أيضا في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي، وهي معترضة بينه وبين القبلة فإذ أراد أن يسجد غمز رجلها فتقبضها وفي رواية النسائي بإسناد

 

ج / 1 ص -107-       وفرض الغسل غسل فمه وأنفه وبدنه
_________________
صحيح فإذا أراد أن يوتر مسني برجله وقول النووي في شرح المهذب أنه يحتمل كونه فوق حائل بعيد كما لا يخفى والله أعلم بالصواب .
" قوله: وفرض الغسل غسل فمه وأنفه وبدنه " قد تقدم وجه تقديم الوضوء على الغسل والواو في قوله وفرض إما للاستئناف أو للعطف على قوله فرض الوضوء والفرض مصدر بمعنى المفروض لأن المصدر يذكر ويراد به الزمان والمكان والفاعل والمفعول كذا في الكشاف وقوله الغسل يعني غسل الجنابة والحيض والنفاس كذا في السراج الوهاج.
وظاهره أن المضمضة والاستنشاق ليستا شرطين في الغسل المسنون حتى يصح بدونهما.
ثم اعلم أن الكلام في الغسل في مواضع في تفسيره لغة وشرعا وفي سببه وركنه وشرائطه وسننه وآدابه وصفته وحكمه.
أما تفسيره لغة فهو بالضم اسم من الاغتسال وهو تمام غسل الجسد واسم للماء الذي يغتسل به أيضا ومنه في حديث ميمونة فوضعت له غسلا كذا في المغرب.
وقال النووي أنه بفتح الغين وضمها لغتان والفتح أفصح وأشهر عند أهل اللغة والضم هو الذي تستعمله الفقهاء أو أكثرهم.
واصطلاحا هو المعنى الأول اللغوي وهو غسل البدن وقد تقدم تفسير الغسل بالفتح لغة وشرعا.
وأما ركنه فهو إسالة الماء على جميع ما يمكن إسالته عليه من البدن من غير حرج مرة واحدة حتى لو بقيت لمعة لم يصبها الماء لم يجز الغسل، وإن كانت يسيرة لقوله تعالى
{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا}[المائدة:6] أمر الله سبحانه وتعالى بالأطهر بضم الهاء؛ لأن أصله تطهر فأدغمت التاء في الطاء لقرب المخرج فجيء بحرف الوصل ليتوصل بها إلى النطق فصار اطهروا وبعض من لا خبرة له ولا دراية يقرأ بالاطهار وما ذاك إلا لحرمانه من العربية كذا في غاية البيان، وهو تطهير جميع البدن.

 

ج / 1 ص -108-       ...............................
_________________
واسم البدن يقع على الظاهر والباطن إلا أن ما يتعذر إيصال الماء إليه خارج عن قضية النص، وكذا ما يتعسر؛ لأن المتعسر منفي كالمتعذر كداخل العينين، فإن في غسلهما من الحرج ما لا يخفى فإن العين شحم لا تقبل الماء وقد كف بصر من تكلف له من الصحابة كابن عمر وابن عباس؛ ولهذا لا تغسل العين إذا اكتحل بكحل نجس؛ ولهذا وجبت المضمضة والاستنشاق في الغسل؛ لأنه لا حرج في غسلهما فشملهما نص الكتاب من غير معارض كما شملهما قوله صلى الله عليه وسلم "تحت كل شعرة جنابة فبلوا الشعر وانقوا البشرة" رواه الترمذي من غير معارض.
والبشرة ظاهر الجلد بخلافهما في الوضوء؛ لأن الواجب فيه غسل الوجه ولا تقع المواجهة بداخلهما وأما قوله صلى الله عليه وسلم
"عشر من الفطرة" وذكر منها المضمضة والاستنشاق لا يعارضه إذ كونهما من الفطرة لا ينفي الوجوب؛ لأنها الدين، وهو أعم منه.
قال صلى الله عليه وسلم
"كل مولود يولد على الفطرة" والمراد أعلى الواجبات على ما هو أعلى الأقوال، وهو على هذا فلا حاجة إلى حمل المروي على حالة الحدث بدليل قوله صلى الله عليه وسلم "إنهما فرضان في الجنابة سنتان في الوضوء" كأنه يعني ما عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم جعل المضمضة والاستنشاق للجنب ثلاثا فريضة لكن انعقد الإجماع على خروج اثنين منها، وهو ضعيف كذا

 

ج / 1 ص -109-       ...............................
_________________
في فتح القدير والمراد بأعلى الواجبات الإسلام.
لكن قال أبو نصر الدبوسي كما نقله عنه الحاوي الحصري لا يصح أن يقال إن المولود يولد على الإسلام؛ لأن من حكم بإسلامه مرة لم ينقل أبدا إلى غيره ولا يقر عليه بل معناه أنه يولد على الخلقة القابلة للإسلام بحيث إنه لو نظر إلى خلقته وتفكر فيها على حسب ما يجب لدلته على ربوبيته تعالى ووحدانيته، ولو شرب الماء عبا أجزأه عن المضمضة لا مصا وعن أبي يوسف لا إلا أن يمجه.
وفي الواقعات لا يخرج بالشرب على وجه السنة أو غيره ما لم يمجه، وهو أحوط كذا في الخلاصة وقد يقال إن الأحوط الخروج ووجه كونه أحوط أنه قيل إن المج من شرط المضمضة والصحيح أنها ليست بشرط فكان الاحتياط الخروج عن الجنابة؛ لأن الاحتياط العمل بأقوى الدليلين وأقواهما هنا الخروج بناء على الصحيح كما لا يخفى.
ولو كان سنه مجوفا أو بين أسنانه طعام أو درن رطب يجزيه؛ لأن الماء لطيف يصل إلى كل موضع غالبا كذا في التجنيس ثم قال ذكر الصدر الشهيد حسام الدين في موضع آخر إذا كان في أسنانه كوات يبقى فيها الطعام لا يجزيه ما لم يخرجه ويجري الماء عليها، وفي فتاوى الفضلي والفقيه أبي الليث خلاف هذا فالاحتياط أن يفعل ا هـ.
وفي معراج الدراية الأصح أنه يجزيه والدرن اليابس في الأنف كالخبز الممضوغ

 

ج / 1 ص -110-       ...............................
_________________
والعجين يمنع تمام الاغتسال، وكذا جلد السمك والوسخ والدرن لا يمنع والتراب والطين في الظفر لا يمنع؛ لأن الماء ينفد فيه وما على ظفر الصباغ يمنع وقيل لا يمنع للضرورة قال في المضمرات: وعليه الفتوى والصحيح أنه لا فرق بين القروي والمدني ا هـ. ولو بقي على جسده خرء برغوث أو ونيم ذباب أي ذرقه لم يصل الماء تحته جازت طهارته ويجب تحريك القرط والخاتم الضيقين، ولو لم يكن قرط فدخل الماء الثقب عند مروره أجزأه كالسرة، وإلا أدخله كذا في فتح القدير ولا يتكلف في إدخال شيء سوى الماء من خشب ونحوه كذا في شرح الوقاية ويدخل القلفة استحبابا على ما نبينه.
وتغسل فرجها الخارج وجوبا في الغسل وسنة في الوضوء كذا في المحيط؛ لأنه كالفم ولا تدخل أصابعها في قبلها وبه يفتى.
ولو كان في الإنسان قرحة فبرأت وارتفع قشرها وأطراف القرحة متصلة بالجلد إلا الطرف الذي كان يخرج منه القيح، فإنه يرتفع ولا يصل الماء إلى ما تحت القشرة أجزأه وضوءه، وفي معناه الغسل كذا في النوازل لأبي الليث ونقله الهندي أيضا.
ويجوز للجنب أن يذكر اسم الله تعالى، ويأكل ويشرب إذا تمضمض هكذا قيد في فتح القدير وظاهره أنه لا يجوز له قبل المضمضة.
لكن ذكر في البزازية ما يفيد أن هذا على رواية نجاسة الماء المستعمل ولفظها ويحل للجنب شرب الماء قبل المضمضة على وجه السنة، وأن لا على وجهها لا؛ لأنه شارب الماء المستعمل، وأنه نجس ا هـ. فينبغي على الرواية المختارة المصححة المفتى بها من طهارة الماء المستعمل أن يباح الشرب مطلقا ويستفاد منه أن انفصال الماء عن العضو أعم من أن يكون إلى الباطن أو إلى الظاهر.
والمنقول في فتاوى قاضي خان الجنب إذا أراد أن يأكل أو يشرب فالمستحب له أن يغسل يديه وفاه، وإن ترك لا بأس واختلفوا في الحائض قال بعضهم: هي والجنب سواء وقال بعضهم: لا يستحب هاهنا؛ لأن بالغسل لا تزول نجاسة الحيض عن الفم واليد بخلاف الجنابة ا هـ. فاحفظه وللجنب أن يعاود أهله قبل أن يغتسل إلا إذا احتلم، فإنه لا يأتي أهله ما لم يغتسل كذا في المبتغى وأقره عليه في فتح القدير.
وتعقبه في شرح منية المصلي بأن ظاهر الأحاديث فيه يفيد الاستحباب لا نفي الجواز

 

ج / 1 ص -111-       ...............................
_________________
المفاد من ظاهر كلامه، ويجوز نقل البلة في الغسل من عضو إلى عضو، إذا كان متقاطرا بخلاف الوضوء، ولا يضر ما انتضح من غسله في إنائه بخلاف ما لو قطر كله في الإناء وسيأتي تمامه في بحث الماء المستعمل إن شاء الله تعالى.
وأما شرائطه فما تقدم من شرائط الوضوء، وأما حكمه فاستباحة ما لا يحل إلا به، وأما سننه وآدابه وصفته وسببه فستأتي مفصلة إن شاء الله تعالى.
ولا بأس بإيراد حديث مسلم بتمامه والتكلم على بعض معانيه.
روى مسلم بإسناده عن عائشة قالت قال رسول الله: صلى الله عليه وسلم "عشر من الفطرة قص الشارب وإعفاء اللحية والسواك واستنشاق الماء وقص الأظفار وغسل البراجم ونتف الإبط وحلق العانة وانتقاص الماء" قال مصعب أحد رواته ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة.
وانتقاص الماء بالقاف والصاد المهملة الاستنجاء وقيل انتقاص البول بسبب استعمال الماء في غسل مذاكيره وقال الجمهور الانتضاح، وهو نضح الفرج بماء قليل لينفي عنه الوسواس فإذا أراه الشيطان ذلك أحاله على الماء.
وقد صرح بذلك مشايخنا في كتبهم لكن قالوا إن هذه الحيلة إنما تنفعه إذا كان العهد قريبا بحيث لم يجف البلل.
أما إذا كان بعيدا و جف البلل ثم رأى بللا يعيد الوضوء.
والاستحداد حلق العانة سمي استحدادا لاستعمال الحديدة، وهي الموسى، وهو سنة والمراد بالعانة الشعر فوق ذكر الرجل وحواليه إلى السرة.
وإعفاء اللحية توفيرها.
والبراجم بفتح الباء والجيم جمع برجمة بضم الباء والجيم، وهي عقد الأصابع ومفاصلها كلها.
قال بعض العلماء: ويلتحق بالبراجم ما يجتمع من الوسخ في معاطف الأذن وقعر الصماخ فيزيله بالمسح وكذلك جميع الأوساخ.

 

ج / 1 ص -112-       لا دلكه
_________________
وأما الفطرة فقد تقدم من المحقق الكمال أنها الدين، وهو قول البعض وذهب أكثر العلماء إلى أنها السنة، وهي في الأصل الخلقة وفي بعض هذه الخصال ما هو واجب عند بعض العلماء.
ولا يمتنع قرن الواجب بغيره كما قال الله تعالى:
{كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}[الأنعام:141]، فإن الإيتاء واجب والأكل ليس بواجب كذا ذكر النووي ولا يخفى ما فيه.
فإن العطف في الآية ليس نظير ما في الحديث، فإن الفطرة إذا فسرت بالسنة يقتضي أن جميع المعدود من السنة، فإنه إذا قيل جاء عشر من الرجال لا يجوز أن يكون فيهم من ليس منهم، فالأولى في الفطرة تفسيرها بالدين وقد تقدم معنى المضمضة والاستنشاق وأن المبالغة فيهما سنة في الوضوء، وكذلك في الغسل لقوله صلى الله عليه وسلم
"بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما" وهو حديث صحيح ذكره النووي.
والصارف له عن الوجوب الاتفاق على عدمه كما نقله السراج الهندي.
واعلم أن الحديث الذي ذكره في فتح القدير، وهو "تحت كل شعرة جنابة" إلخ وإن رواه أبو داود والترمذي كما ذكره الهندي فقد ضعفه النووي ونقل ضعفه عن الشافعي ويحيى بن معين والبخاري وأبي داود وغيرهم والله أعلم.
" قوله: لا دلكه " أي لا يفترض دلك بدنه في الغسل، وقد تقدم أنه إمرار اليد على الأعضاء المغسولة، فلو أفاض الماء فوصل إلى جميع بدنه، ولم يمسه بيده أجزأه غسله وكذا وضوءه.
قال النووي وبه قال العلماء كافة إلا مالكا والمزني فإنهما شرطاه في صحة الغسل والوضوء واحتجا بأن الغسل هو إمرار اليد ولا يقال لواقف في المطر اغتسل ونقل في فتح

 

ج / 1 ص -113-       ...............................
_________________
القدير أنه رواية عن أبي يوسف أيضا قال وكأن وجهه خصوص صيغة اطهروا، فإن فعل للتكثير إما في الفعل نحو حولت وطوفت أو في الفاعل نحو موت الإبل أو في المفعول نحو
{وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ}[يوسف:23] والثاني يستدعي كثرة الفاعل فلا يقال في شاة واحدة موت والثالث كثرة المفعول فلا يقال في باب واحد غلقته. وإن غلقه مرارا كما قيل فتعين كثرة الفعل، وهو بالدلك ا هـ. ولم يجب عنه والذي ذكره الشارحون هنا أن المأمور به في النص هو التطهير، ولا يتوقف ذلك على الدلك فمن شرطه فقد زاد في النص، وهو نسخ.
وذكر النووي أنه يحتج بقوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه
"فإذا وجدت الماء فأمسه جلدك" ولم يأمره بزيادة، وهو حديث صحيح وقولهم لا تسمى الإفاضة غسلا ممنوع ا هـ.
وأما قوله في فتح القدير إن فعل للتكثير إلى قوله فتعين كثرة الفعل قد يقال إن صيغة اطهروا يجوز أن تكون من قبيل التكثير في المفعول وقوله إن التكثير في المفعول يستدعي كثرة المفعول مسلم فيما إذا كان الفعل لا تكثير فيه كموت الإبل.
أما إذا كان في الفعل تكثير فيجوز أن يكون فعل للتكثير في المفعول، وإن كان الفاعل والمفعول واحدا كقطعت الثوب، فإن التكثير فيه للتكثير في الفعل، وإن كان المفعول واحدا وطهر من هذا القبيل؛ لأنك تقول طهرت البدن.
يشهد لهذا ما ذكره المحقق العلامة أحمد الجاربردي في شرح الشافية للمحقق ابن

 

ج / 1 ص -114-       وإدخال الماء داخل الجلدة للأقلف
_________________
الحاجب في التصريف بما لفظه قوله وفعل للتكثير، وهو إما في الفعل نحو حولت وطوفت أو في الفاعل نحو موت الإبل أو في المفعول نحو غلقت الأبواب.
فإن فقد ذلك لم يسغ استعماله فلذلك كان موت الشاة لشاة واحدة خطأ؛ لأن هذا الفعل لا يستقيم تكثيره بالنسبة إلى الشاة إذ لا يستقيم تكثيرها وهي واحدة وليس ثم مفعول ليكون التكثير له.
وينبغي أن يعلم أن هذا بخلاف قولك قطعت الثوب، فإن ذلك سائغ، وإن كان الفاعل واحدا ذكره المصنف في شرح المفصل ثم قال فيه إن قوله في المفصل ولا يقال للواحد لم يرد به إلا ما لم يستقم فيه تكثير الفعل ا هـ .
" قوله: وإدخال الماء داخل الجلدة للأقلف " أي لا يجب على الذي لم يختتن أن يدخل الماء داخل الجلدة في غسله من الجنابة وغيرها للحرج الحاصل لو قلنا بالوجوب لا لكونه خلقة كقصبة الذكر وهذا هو الصحيح المعتمد.
وبه يندفع ما ذكره الزيلعي من أنه مشكل؛ لأنه إذا وصل البول إلى القلفة انتقض وضوءه فجعلوه كالخارج في هذا الحكم، وفي حق الغسل كالداخل حتى لا يجب إيصال الماء إليه.
وقال الكردي: يجب إيصال الماء إليه عند بعض المشايخ، وهو الصحيح فعلى هذا لا إشكال فيه. ا هـ. فإن هذا الإشكال إنما نشأ من تعليله لعدم الوجوب بأنه خلقة كقصبة الذكر، وأما على ما عللنا به تبعا لفتح القدير فلا إشكال فيه أصلا لكن في البدائع أنه لا حرج في إيصال الماء إلى داخل القلفة وصحح أنه لا بد من الإدخال.
واختاره صاحب الهداية في مختارات النوازل وقد تقدم أن إدخال الماء داخلها مستحب كما أن الدلك مستحب.

 

ج / 1 ص -115-       وسننه أن يغسل يديه وفرجه ونجاسة لو كانت على بدنه، ثم يتوضأ ثم يفيض الماء على بدنه ثلاثا
_________________
لكن قيده في منية المصلي بكونه في المرة الأولى، ولعله لكونها سابقة في الوجود على ما بعدها فهي بالدلك أولى؛ لأن السبق من أسباب الترجيح .
" قوله: وسننه أن يغسل يديه وفرجه ونجاسة لو كانت على بدنه ثم يتوضأ ثم يفيض الماء على بدنه ثلاثا " لما روى الجماعة عن ميمونة قالت وضعت للنبي صلى الله عليه وسلم ماء يغتسل به فأفرغ على يديه فغسلهما مرتين أو ثلاثا ثم أفرغ بيمينه على شماله فغسل مذاكيره ثم دلك يده بالأرض ثم تمضمض واستنشق ثم غسل وجهه ويديه ثم غسل رأسه ثلاثا ثم أفرغ على جسده ثم تنحى عن مقامه فغسل قدميه فهذا الحديث مشتمل على بيان السنة والفريضة فاستفيد منه استحباب تقديم غسل اليدين وعللوا بأنهما آلة التطهير فيبتدأ بتنظيفهما واستحباب تقديم غسل الفرج قبلا أو دبرا سواء كان عليه نجاسة أو لا كتقديم الوضوء على غسل الباقي سواء كان محدثا أو لا وبه يندفع ما ذكره الزيلعي بأنه كان يغنيه أن يقول ونجاسة عن قوله وفرجه لأن الفرج إنما يغسل لأجل النجاسة. ا هـ. ولأن تقديم غسل الفرج لم ينحصر كونه للنجاسة بل لها أو؛ لأنه لو غسله في أثناء غسله ربما تنتقض طهارته عند من يرى ذلك كما أشار إليه القاضي عياض والخروج من الخلاف مستحب عندنا.
واتفق العلماء على عدم وجوب الوضوء في الغسل إلا داود الظاهري فقال بالوجوب في غسل الجنابة وإذا توضأ أولا لا يأتي به ثانيا بعد الغسل فقد اتفق العلماء على أنه لا يستحب وضوءان ذكره النووي في شرح مسلم يعني لا يستحب وضوءان للغسل.

 

ج / 1 ص -116-       ...............................
_________________
أما إذا توضأ بعد الغسل واختلف المجلس على مذهبنا أو فصل بينهما بصلاة كما هو مذهب الشافعي فيستحب، وفي الحديث أيضا استحباب أن يدلك المستنجي بالماء يده بالتراب أو بالحائط ليذهب الاستقذار منها، وفيه استحباب تقديم غسل الرأس في الصب، وقد اختلف فيه فقال الحلواني يفيض الماء على منكبه الأيمن ثلاثا ثم الأيسر ثلاثا ثم على سائر جسده.
وقيل يبدأ بالأيمن ثم بالأيسر ثم بالرأس.
وقيل يبدأ بالرأس، وهو ظاهر لفظ الهداية وظاهر حديث ميمونة المتقدم، وبه يضعف ما صححه صاحب الدرر والغرر من أنه يؤخر الرأس وكذا صححه في المجتبى، وفي قوله ثم يتوضأ إشارات الأولى: أنه يمسح رأسه في هذا الوضوء، وهو الصحيح؛ لأنه روي في بعض الروايات أنه صلى الله عليه وسلم توضأ وضوءه للصلاة، وهو اسم للغسل والمسح وفي البدائع أنه ظاهر الرواية.
الثانية أنه لا يؤخر غسل قدميه، وفيه خلاف.
ففي المبسوط والهداية أنه يؤخر غسل قدميه إذا كان في مستنقع الماء أي مجتمعه ولا يقدم وعند بعض مشايخنا، وهو الأصح من مذهب الشافعي أنه لا يؤخر مطلقا.
 وأكثر مشايخنا على أنه يؤخر مطلقا.
وأصل الاختلاف ما وقع من روايتي عائشة وميمونة ففي رواية عائشة أنه توضأ وضوءه للصلاة، ولم يذكر فيها تأخير القدمين.
فالظاهر تقديم غسلهما، فأخذ بهذه الشافعي وبعض مشايخنا لطول الصحبة والضبط في الحديث، وفي رواية ميمونة صريحا تأخير غسلهما فأخذ به أكثر مشايخنا لشهرتها، وفي المجتبى الأصح التفصيل، وهو المذكور في الهداية.

 

ج / 1 ص -117-       ...............................
_________________
ووجه التوفيق بين الروايتين بحمل ما روت عائشة على ما إذا لم يكن في مجتمع الماء وحمل ما روت ميمونة على ما إذا كان في مجتمع الماء والظاهر أن الاختلاف في الأولوية لا في الجواز.
فقول المشايخ القائلين بالتأخير أنه لا فائدة في تقديم غسلهما ؛ لأنهما يتلوثان بالغسلات بعد فيحتاج إلى غسلهما ثانيا معناه أنه لا تحصل الفائدة الكاملة في تقديم غسلهما، وإنما قلنا هذا؛ لأنه لو قدم غسلهما ولم يغسلهما ثانيا خرج عن الجنابة وجازت صلاته على ما هو المفتى به؛ لأن الماء الذي أصابهما من الأرض المجتمع فيها الغسلات مستعمل والماء المستعمل طاهر على المفتى به.
وليس الذي أصاب قدميه من صبه على بقية بدنه غير ما اجتمع في الأرض مستعملا أما على رواية عدم التجزي فظاهر، وأما على رواية التجزي فلا يوصف هذا الماء بالاستعمال إلا بعد انفصاله عن جميع البدن.
فالماء الذي أصاب القدمين غير مستعمل؛ لأن البدن كله في الغسل كعضو واحد حتى يجوز نقل البلة فيه من عضو إلى آخر فحينئذ لا حاجة إلى غسلهما ثانيا إلا على سبيل التنزه والأفضلية لا اللزوم؛ لأن الماء المستعمل الذي أصابه من مجتمع الغسلات وإن كان طاهرا فقد انتقل إليه الحدث حتى تعافه الطباع السليمة.
وقد صرح به الهندي فقال: وهذا إنما يتأتى على رواية نجاسة الماء المستعمل أيضا.
ويدل على هذا ما ذكره في المحيط بقوله، وإنما لا يغسل رجليه؛ لأن غسلهما لا يفيد؛ لأنهما يتنجسان ثانيا باجتماع الغسلات فعلم منه أنه على رواية نجاسة الماء المستعمل.
وعليها فمعنى قولهم لا يفيد أنه لا يفيد فائدة تامة، وإلا فقد أفاد التقديم فائدة، وهي حل القرآن ومس المصحف وإن كانت قدماه متنجستين بالماء المستعمل، وبهذا ظهر فساد ما ذكره ابن الملك في شرح المجمع من أن عدم الفائدة على رواية عدم التجزي.
أما على رواية التجزي فغسلهما مفيد؛ لأن الجنابة تزول عن رجليه إذا غسلهما في الوضوء.
ويكون طاهرا في مجتمع الماء بعد غسل سائر جسده، فإنه فهم من رواية عدم التجزي أنه لو غسل رجليه أولا ثم غسل باقي بدنه يجب عليه إعادة غسل رجليه لأجل عدم ارتفاع الجنابة عنهما.

 

ج / 1 ص -118-       ...............................
_________________
ووجه التوفيق بين الروايتين بحمل ما روت عائشة على ما إذا لم يكن في مجتمع الماء وحمل ما روت ميمونة على ما إذا كان في مجتمع الماء والظاهر أن الاختلاف في الأولوية لا في الجواز.
فقول المشايخ القائلين بالتأخير أنه لا فائدة في تقديم غسلهما ؛ لأنهما يتلوثان بالغسلات بعد فيحتاج إلى غسلهما ثانيا معناه أنه لا تحصل الفائدة الكاملة في تقديم غسلهما، وإنما قلنا هذا؛ لأنه لو قدم غسلهما ولم يغسلهما ثانيا خرج عن الجنابة وجازت صلاته على ما هو المفتى به؛ لأن الماء الذي أصابهما من الأرض المجتمع فيها الغسلات مستعمل والماء المستعمل طاهر على المفتى به.
وليس الذي أصاب قدميه من صبه على بقية بدنه غير ما اجتمع في الأرض مستعملا أما على رواية عدم التجزي فظاهر، وأما على رواية التجزي فلا يوصف هذا الماء بالاستعمال إلا بعد انفصاله عن جميع البدن.
فالماء الذي أصاب القدمين غير مستعمل؛ لأن البدن كله في الغسل كعضو واحد حتى يجوز نقل البلة فيه من عضو إلى آخر فحينئذ لا حاجة إلى غسلهما ثانيا إلا على سبيل التنزه والأفضلية لا اللزوم؛ لأن الماء المستعمل الذي أصابه من مجتمع الغسلات وإن كان طاهرا فقد انتقل إليه الحدث حتى تعافه الطباع السليمة.
وقد صرح به الهندي فقال: وهذا إنما يتأتى على رواية نجاسة الماء المستعمل أيضا.
ويدل على هذا ما ذكره في المحيط بقوله، وإنما لا يغسل رجليه؛ لأن غسلهما لا يفيد؛ لأنهما يتنجسان ثانيا باجتماع الغسلات فعلم منه أنه على رواية نجاسة الماء المستعمل.
وعليها فمعنى قولهم لا يفيد أنه لا يفيد فائدة تامة، وإلا فقد أفاد التقديم فائدة، وهي حل القرآن ومس المصحف وإن كانت قدماه متنجستين بالماء المستعمل، وبهذا ظهر فساد ما ذكره ابن الملك في شرح المجمع من أن عدم الفائدة على رواية عدم التجزي.
أما على رواية التجزي فغسلهما مفيد؛ لأن الجنابة تزول عن رجليه إذا غسلهما في الوضوء.
ويكون طاهرا في مجتمع الماء بعد غسل سائر جسده، فإنه فهم من رواية عدم التجزي أنه لو غسل رجليه أولا ثم غسل باقي بدنه يجب عليه إعادة غسل رجليه لأجل عدم ارتفاع الجنابة عنهما.

 

ج / 1 ص -119-       ...............................
_________________
عن العيون خاض الرجل في ماء الحمام بعد ما غسل قدميه فإن لم يعلم أن في الحمام جنبا أجزأه أن لا يغسل قدميه، وإن علم أن في الحمام جنبا قد اغتسل يلزمه أن يغسل قدميه إذا خرج.
قال رحمه الله في واقعاته وعلى ما اخترناه في الماء المستعمل ينبغي أن لا يلزمه غسل القدمين لكن استثنى الجنب في الكتاب، فإنه موضع الاستثناء وغيره.
قال إنما استثنى الجنب؛ لأن الجنب يكون على بدنه قذر ظاهرا وغالبا حتى لو لم يكن كان الماء المستعمل للمحدث والجنب سواء ويكون طاهرا على رواية محمد ولا يلزمه غسل الرجلين، وهو الظاهر ا هـ. وفي بقية حديث ميمونة ثم أتيته بالمنديل فرده قال النووي: فيه استحباب ترك تنشيف الأعضاء وقال الإمام لا خلاف في أنه لا يحرم تنشيف الماء عن الأعضاء ولا يستحب ولكن هل يكره فيه خلاف بين الصحابة.
وقال القاضي: يحتمل رده للمنديل لشيء رآه أو لاستعجاله في الصلاة أو تواضعا أو خلافا لعادة أهل الترفه ويكون الحديث الآخر في أنه كانت له خرقة يتنشف بها عند الضرورة وشدة البرد ليزيل برد الماء عن أعضائه ا هـ.
والمنقول في معراج الدراية وغيرها أنه لا بأس بالتمسح بالمنديل للمتوضئ والمغتسل إلا أنه ينبغي أن لا يبالغ ويستقصي فيبقى أثر الوضوء على أعضائه.
ولم أر من صرح باستحبابه إلا صاحب منية المصلي فقال ويستحب أن يمسح بمنديل

 

ج / 1 ص -120-       ولا تنقض ضفيرة إن بل أصلها
_________________
بعد الغسل الإشارة الثالثة أن جميع السنن والمندوبات في الوضوء ثابتة في هذا الوضوء والغسل فتسن النية ويندب التلفظ بها .
قال في البدائع، وأما آداب الغسل فهي آداب الوضوء لكن يستثنى منه أن من آداب الوضوء استقبال القبلة بخلاف الغسل؛ لأنه يكون غالبا مع كشف العورة بخلاف الوضوء كذا في شرح منية المصلي. ومن مكروهاته الإسراف وتقدم تفسيره؛ ولهذا قدر محمد رحمه الله في ظاهر الرواية الصاع للغسل، والمد للوضوء، وهو تقدير أدنى الكفاية عادة وليس بتقدير لازم حتى إن من أسبغ بدون ذلك أجزأه، وإن لم يكفه زاد عليه؛ لأن طباع الناس وأحوالهم تختلف كذا في البدائع ونقل النووي الإجماع على عدم لزوم التقدير.
وفي الخلاصة، والأفضل أن لا يقتصر على الصاع في الغسل بل يغتسل بأزيد منه بعد أن لا يؤدي إلى الوسواس، فإن أدى لا يستعمل إلا قدر الحاجة ا هـ. ولا يخفى ما فيه، فإن ظاهره أنه يزيد على الصاع، وإن لم يكن به حاجة مع أن الثابت في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بالصاع ويتوضأ بالمد وفي البخاري اغتساله صلى الله عليه وسلم بالصاع من رواية جابر وعائشة كما نقله النووي في شرح المهذب فكان الاقتصار على ما فعله صلى الله عليه وسلم أفضل إذا اكتفى به. وقد قالوا إن مكث في الماء الجاري قدر الوضوء والغسل فقد أكمل السنة، وإلا فلا. ا هـ.
ويقاس على ما لو توضأ في الحوض الكبير أو وقف في المطر كما لا يخفى .
" قوله: ولا تنقض ضفيرة إن بل أصلها " أي ولا يجب على المرأة أن تنقض ضفيرتها إن بلت في الاغتسال أصل شعرها.
والضفيرة بالضاد المعجمة الذؤابة من الضفر، وهو فتل الشعر وإدخال بعضه في بعض ولا يقال بالظاء.

 

ج / 1 ص -121-       ...............................
_________________
والأصل فيه ما رواه مسلم وغيره عن أم سلمة قالت: قلت: يا رسول الله إني امرأة أشد ضفر رأسي أفأنقضه لغسل الجنابة فقال:
"لا إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين" وفي رواية أفأنقضه للحيض والجنابة وفي حديث عائشة بنحو معناه قال في فتح القدير: ومقتضى هذا الحديث عدم وجوب الإيصال إلى الأصول.
لكن قال في المبسوط، وإنما شرط تبليغ الماء أصول الشعر لحديث حذيفة، فإنه كان يجلس إلى جنب امرأته إذا اغتسلت ويقول يا هذه أبلغي الماء أصول شعرك وشؤون رأسك وهو مجمع عظام الرأس ذكره القاضي عياض وأورد صاحب المعراج أن حديث أم سلمة معارض للكتاب. وأجاب تارة بالمنع.
فإن مؤدى الكتاب غسل البدن والشعر ليس منه بل متصل به نظرا إلى أصوله فعلمنا بمقتضى الاتصال في حق الرجال حتى قلنا يجب النقض على الأتراك والعلويين على الصحيح.
ويجب عليها الإيصال إلى أثناء شعرها إذا كان منقوضا لعدم الحرج وبمقتضى الانفصال في حق النساء دفعا للحرج إذ لا يمكنهن حلقه وتارة بأنه خص من الآية مواضع الضرورة كداخل العينين فيخص بالحديث بعده.
وأما أمر عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما بنقض النساء رءوسهن إذا اغتسلن فيحتمل أنه أراد إيجاب ذلك عليهن في شعور لا يصل الماء إليها أو يكون مذهبا له أنه يجب النقض بكل حال كما هو مذهب النخعي أو لا يكون بلغه حديث أم سلمة وعائشة ويحتمل أنه كان يأمرهن بذلك على الاستحباب والاحتياط لا على الوجوب كذا ذكره النووي في شرح مسلم وفي الهداية، وليس عليها بل ذوائبها و هو الصحيح وقال بعضهم: يجب بلها ثلاثا مع كل بلة عصرة.

 

ج / 1 ص -122-       ...............................
_________________
وفي صلاة البقالي الصحيح أنه يجب غسل الذوائب، وإن جاوزت القدمين والمختار عدم الوجوب كما صرح به في الجامع الحسامي كما نقله عنه في المضمرات للحصر المذكور في الحديث.
والحاصل أن في المسألة ثلاثة أقوال: الأول: الاكتفاء بالوصول إلى الأصول منقوضا كان أو معقوصا، وهو ظاهر المذهب كما هو ظاهر الذخيرة.
ويدل عليه الأحاديث الواردة في هذا الباب.
الثاني الاكتفاء بالوصول إلى الأصول إذا كان مضفورا ووجوب الإيصال إلى أثنائه إذا كان منقوضا. ومشى عليه جماعة منهم صاحب المحيط والبدائع والكافي.
الثالث وجوب بل الذوائب مع العصر وصحح كما قدمناه.
ولو ألزقت المرأة رأسها بالصيب بحيث لا يصل الماء إلى أصول الشعر وجب عليها إزالته.
وثمن ماء غسل المرأة ووضوئها على الزوج، وإن كانت غنية كذا في فتح القدير فصار

 

ج / 1 ص -123-       وفرض عند مني ذي دفق وشهوة عند انفصاله
_________________
كماء الشرب؛ لأن هذا مما لا بد منه وظاهره أنه لا فرق بين غسل الجنابة وغيره من الواجب.
وذكر في السراج الوهاج تفصيلا في غسل الحيض فقال: إذا انقطع لأقل من عشرة فعلى الزوج لاحتياجه إلى وطئها بعد الغسل، وإن انقطع لعشرة فعليها؛ لأنها هي المحتاجة إليه للصلاة.
وقد يقال إن ما تحتاج إليه المرأة مما لا بد لها منه واجب عليه سواء كان هو محتاجا إليه أو لا فالأوجه إطلاق ما قدمناه .
" قوله: وفرض عند مني ذي دفق وشهوة عند انفصاله " أي وفرض الغسل واختلف المشايخ في سبب وجوبه فظاهر ما في الهداية أن إنزال المني ونحوه سبب له، فإنه قال المعاني الموجبة للغسل إنزال المني إلى آخره وتعقبه في النهاية بأن هذه معان موجبة للجنابة لا للغسل على المذهب الصحيح من علمائنا، فإنها تنقضه فكيف توجبه ورده في غاية البيان بأن المراد أن الغسل يجب بهذه المعاني على طريق البدل، وإنما يتوجه ما اعترض به إذا كانت هذه المعاني موجبة لوجود الغسل لا لوجوبه ورد أيضا بأنها تنقض ما كان وتوجب ما سيكون فلا منافاة.
وأجاب في المستصفى أيضا بأن هذه المعاني شروط في الوجوب لا أسباب فأضيف الوجوب إلى الشرط مجازا كقولهم صدقة الفطر؛ لأن السبب يتعلق به الوجود والوجوب والشرط يضاف إليه الوجود فشارك الشرط السبب في الوجود.
وقال في الكافي، وإنما قال عند مني ولم يقل بمني؛ لأن سبب وجوب الغسل الصلاة أو إرادة ما لا يحل مع الجنابة والإنزال والالتقاء وفي مبسوط شيخ الإسلام سبب وجوب الغسل إرادة ما لا يحل فعله عند عامة المشايخ.
وتعقبه في غاية البيان بأن الغسل يجب إذا وجد أحد هذه المعاني وجدت الإرادة أولا فكيف يكون سببا وقيل السبب الجنابة ورد أيضا لوجوده في الحيض والنفاس.
واختار في غاية البيان أن السبب الجنابة أو ما في معناه ليدخل الحيض والنفاس.
ويرد بما قدمناه في أول الكتاب من أنه يوجد الحدث والجنابة ولا يجب الوضوء

 

ج / 1 ص -124-       ...............................
_________________
والغسل كما إذا كان قبل الوقت، فالأولى أن يقال سببه وجوب ما لا يحل مع الجنابة، وهذا هو الذي اختاره في فتح القدير. اعلم أن الأمة مجمعة الآن على وجوب الغسل بالجماع، وإن لم يكن معه إنزال وعلى وجوبه بالإنزال.
وكانت جماعة من الصحابة على أنه لا يجب إلا بالإنزال ثم رجع بعضهم، وانعقد الإجماع بعد الآخرين وفي الباب حديث "إنما الماء من الماء" مع حديث أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في
"الرجل يأتي أهله ثم لا ينزل قال يغسل ذكره ويتوضأ" وفيه الحديث الآخر "إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل، وإن لم ينزل" قال العلماء العمل على هذا الحديث.
وأما حديث "الماء من الماء" فالجمهور من الصحابة ومن بعدهم قالوا إنه منسوخ ويعنون بالنسخ أن الغسل من الجماع بغير إنزال كان ساقطا ثم صار واجبا وذهب ابن عباس وغيره إلى أنه ليس منسوخا بل المراد به نفي وجوب الغسل بالرؤية في النوم إذا لم ينزل، وهذا الحكم باق بلا شك.
وأما حديث أبي بن كعب ففيه جوابان أحدهما أنه منسوخ. والثاني: أنه محمول على ما إذا باشرها فيما سوى الفرج كذا ذكر النووي في شرح مسلم.
لكن عندنا يشترط في وجوب الغسل بالإنزال أن يكون انفصال المني عن شهوة، وهو

 

ج / 1 ص -125-       ...............................
_________________
ما ذكره بقوله عند مني ذي دفق وشهوة يقال دفق الماء دفقا صبه صبا فيه دفع وشدة كذا في المغرب وفي ضياء الحلوم دفق الماء دفقا صبه، ودفق الماء دفوقا يتعدى، ولا يتعدى وعبر عنه في الهداية بقوله إنزال المني على وجه الدفق والشهوة.
والأولى أن يقال نزول المني دون الإنزال؛ لأنه يلزم من النزول الإنزال دون العكس وهو قول محمد وزفر كما نقله في معراج الدراية، وفي الذخيرة وهو مختار بعض المشايخ.
فإن من احتلم أو وجد على فخذه يجب عليه الغسل بلا قصد الإنزال ذكره الهندي.
فعلى هذا التقدير يكون ذكر الدفق اشتراطا للخروج من رأس الذكر، فإنه يقال دفق الماء دفوقا بمعنى خرج من محله بخلاف دفق دفقا، فإنه بمعنى صبه صبا لكن هذا إنما يستقيم على قول أبي يوسف أما عندهما لا يستقيم؛ لأنهما لم يجعلا الدفق شرطا بل تكفي الشهوة حتى قالا بوجوبه إذا زايل المني من مكانه بشهوة وإن خرج بلا دفق كذا في النهاية ومعراج الدراية وغيرهما.
وأجاب عنه في العناية وغاية البيان بأنه لا حصر في كلامه فلكي يستقيم غايته يلزم ترك بعض موجباته عندهما في موضع بيانها ا هـ. ولا يخفى ما فيه.
ويمكن أن يقال إن المراد بكون الإنزال على وجه الشهوة أن يكون للشهوة دخل في الإنزال سواء كانت مقارنة أو سابقة عليه مقارنة للانفصال.
هذا، وعبارة المصنف أشد إشكالا؛ لأنه يرد عليها ما ورد على عبارة القدوري من أنها لا تشمل مني المرأة؛ لأن ماءها لا يكون دافقا كماء الرجل، وإنما ينزل من صدرها إلى فرجها كما ذكره الولوالجي في فتاويه ويرد على عبارة المختصر خاصة التناقض في التركيب؛ لأن اشتراط الدفق يفيد اشتراط خروج المني بشهوة من رأس الذكر وقوله عند انفصاله ينفيه.
فلو حذف الدفق لكان أولى.
 وقد يقال إن الدفق بمعنى الدفوق مصدر اللازم.
وقال الشافعي: إن إنزاله موجب للغسل كان عن شهوة أو لا.
واستدلوا له بقوله صلى الله عليه وسلم "إنما الماء من الماء" أي الاغتسال من الإنزال، وهو قول محمد

 

ج / 1 ص -126-       ...............................
_________________
وزفر كما نقله في معراج الدراية وفي الذخيرة، وهو مختار بعض المشايخ.
واستدل في الهداية لنا بقوله تعالى
{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا}[المائدة:6]، وهو في اللغة اسم لمن قضى شهوته فكان وجوب الاغتسال معلقا بالجنابة لا بخروج المني.
وأورد على هذا أن ظاهره الاستدلال بمفهوم الشرط، ولم يجب عنه.
وقد يقال ليس هذا استدلالا بمفهوم الشرط بل لما كان الحكم معلقا بشرط ولم يوجد كان الحكم معدوما بالعدم الأصلي لا أن عدم الشرط أوجب عدم الحكم.
وهذا لا يخفى على من اشتغل بأصول أصحابنا.
قال في التنقيح وعندنا العدم لا يثبت بالتعليق بل يبقى الحكم على العدم الأصلي.
وأجاب في الهداية عن الحديث بأنه محمول على الخروج عن شهوة.
قال الشارحون: وإنما حمل على هذا؛ لأن العام إذا لم يمكن إجراؤه على العموم يراد أخص الخصوص لتيقنه، وهنا يمتنع إجراؤه على العموم؛ لأنه لا يجب الغسل بإنزال المذي والودي والبول بالإجماع والإنزال عن شهوة مراد بالإجماع فلا يكون غيره، وهو إنزال المني لا عن شهوة مرادا.
ولا يخفى أن هذا المسلك لو صح لكان أوفق بقول أبي يوسف؛ لأن أخص الخصوص الذي أريد بالإجماع ما يكون عن شهوة عند الخروج والانفصال جميعا.
فالأولى ما قدمناه من أنه منسوخ أو محمول على صورة الاحتلام.
ولما كان ما ذكرناه واردا عدل والله أعلم عن طريقة الشارحين في فتح القدير فقال والحديث محمول على الخروج عن شهوة؛ لأن اللام للعهد الذهني أي الماء المعهود والذي به عهدهم هو الخارج عن شهوة كيف وربما يأتي على أكثر الناس جميع عمره ولا يرى هذا الماء مجردا عنها على أن كون المني يكون عن غير شهوة ممنوع. فإن عائشة أخذت في

 

ج / 1 ص -127-       ...............................
_________________
تفسيرها إياه الشهوة على ما روى ابن المنذر أن المني هو الماء الأعظم الذي منه الشهوة، وفيه الغسل وكذا عن قتادة وعكرمة.
فلا يتصور مني إلا من خروجه عن شهوة، وإلا يفسد الضابط ثم اتفق أصحاب المذهب أنه لا يجب الغسل إذا انفصل عن مقره من الصلب بشهوة إلا إذا خرج على رأس الذكر، وإنما الخلاف في أنه هل يشترط مقارنة الشهوة الخروج فعند أبي يوسف نعم وعندهما لا.
وقد أشار إلى اختيار قولهما بقوله عند انفصاله أي فرض الغسل عند خروج مني موصوف بالدفق والشهوة عند الانفصال عن محله عندهما وجه قول أبي يوسف إن وجوب الغسل متعلق بانفصال المني وخروجه وقد شرطت الشهوة عند انفصاله فتشترط عند خروجه.
أولهما أن الجنابة قضاء الشهوة بالإنزال فإذا وجدت مع الانفصال صدق اسمها، وكان مقتضى هذا ثبوت حكمها، وإن لم يخرج لكن لا خلاف في عدم ثبوت الحكم إلا بالخروج فيثبت بذلك الانفصال من وجه، وهو أقوى مما بقي واحتياط واجب، وهو العمل بالأقوى من الوجهين، فوجب.
وأورد في النهاية الريح الخارجة من المفضاة؛ لأنها إن خرجت من القبل لا يجب الوضوء وإن خرجت من الدبر وجب فينبغي ترجيح جانب الوجوب احتياطا كما قالا هنا.
وأجاب بأن الشك هناك جاء من الأصل فتعارض الدليل الموجب وغير الموجب لتساويهما في القوة فتساقطا فعملنا بالأصل الثابت بيقين، وهو الطهارة أما هنا جاء دليل عدم الوجوب من الوصف، وهو الدفق.
ودليل الوجوب من الأصل، وهو نفس وجود الماء مع الشهوة، فكان في إيجاب الاغتسال ترجيح لجانب الأصل على جانب الوصف، وهو صحيح.
لأن دليل الوجوب قد سبق هنا، وهو مزايلة المني عن مكانه على سبيل الشهوة وخروجه

 

ج / 1 ص -128-       ...............................
_________________
من العضو لا على سبيل الدفق بقاء ذلك والسبق من أسباب الترجيح فترجح جانب الوجوب لذلك.
وأما هناك فاقترن الدليلان على سبيل المدافعة فلا يثبت الحكم الحادث لتدافعهما بل يبقى ما كان على ما كان.
وفي المصفى وثمرة الاختلاف تظهر في ثلاث فصول أحدها أن من احتلم فأمسك ذكره حتى سكنت شهوته ثم خرج المني يجب الغسل عندهما خلافا له.
والثاني: إذا نظر إلى امرأة بشهوة فزال المني عن مكانه بشهوة فأمسك ذكره حتى انكسرت شهوته ثم سال بعد ذلك لا عن دفق فعلى هذا الخلاف.
والثالث أن المجامع إذا اغتسل قبل أن يبول أو ينام ثم سال منه بقية المني من غير شهوة يعيد الاغتسال عندهما خلافا له.
فلو خرج بقية المني بعد البول أو النوم أو المشي لا يجب الغسل إجماعا؛ لأنه مذي وليس بمني؛ لأن البول والنوم والمشي يقطع مادة الشهوة ا هـ.
وفي فتح القدير وكذا لا يعيد الصلاة التي صلاها بعد الغسل الأول قبل خروج ما تأخر من المني اتفاقا وقيد المشي بالكثير في المجتبى وأطلقه كثير والتقييد أوجه؛ لأن الخطوة والخطوتين لا يكون منهما ذلك كما لا يخفى.
وفي المبتغى بخلاف المرأة يعني تعيد تلك الصلاة إذا كانت مكتوبة إذا اغتسلت ثانيا بخروج بقية منيها وفيه نظر ظاهر والذي يظهر أنها كالرجل.
وفي المستصفى يعمل بقول أبي يوسف إذا كان في بيت إنسان واحتلم مثلا ويستحيي من أهل البيت أو خاف أن يقع في قلبهم ريبة بأن طاف حول أهل بيتهم ا هـ.
وفي السراج الوهاج والفتوى على قول أبي يوسف في الضيف وعلى قولهما في غيره ا هـ.
ولو خرج مني بعد البول وذكره منتشر وجب الغسل وإن لم يكن ذكره منتشرا لا يجب الغسل كذا في فتاوى قاضي خان وغيره.
ومحله إذا وجد الشهوة يدل عليه تعليله في التجنيس بأن في حالة الانتشار وجد الخروج والانفصال جميعا على وجه الدفق والشهوة، وهذا يفيد إطلاق ما قدمنا من أن المني الخارج بعد

 

ج / 1 ص -129-       ...............................
_________________
البول لا يوجب الغسل إجماعا قيل وعلى الخلاف المتقدم مستيقظ وجد بثوبه أو فخذه بللا ولم يتذكر احتلاما وشك في أنه مذي أو مني يجب عندهما لاحتمال انفصاله عن شهوة ثم نسي ورق هو بالهواء خلافا له وفيه نظر فإن هذا الاحتمال ثابت في الخروج كذلك كما هو ثابت في الانفصال كذلك.
فالحق أنها ليست بناء على الخلاف بل هو يقول لا يثبت وجوب الغسل بالشك في وجود الموجب وهما احتاطا لقيام ذلك الاحتمال.
وقياسا على ما لو تذكر الاحتلام، ورأى ماء رقيقا حيث يجب اتفاقا حملا للرقة على ما ذكرنا، وقوله أقيس وأخذ به خلف بن أيوب وأبو الليث كذا في فتح القدير.
واعلم أن هذه المسألة على اثني عشر وجها؛ لأنه إما أن يتيقن أنه مني أو مذي أو ودي أو شك في الأول والثاني أو في الأول والثالث أو في الثاني والثالث.
وكل من هذه الستة إما أن تكون مع تذكر الاحتلام أو لا فيجب الغسل اتفاقا فيما إذا تيقن أنه مني وتذكر الاحتلام أو لا وفيما إذا تيقن أنه مذي وتذكر الاحتلام أو شك أنه مني أو مذي أو مني أو ودي. أو مذي أو ودي وتذكر الاحتلام في الكل.
ولا يجب الغسل اتفاقا فيما إذا تيقن أنه ودي تذكر الاحتلام أو لا أو شك أنه مذي أو ودي ولم يتذكر الاحتلام أو تيقن أنه مذي ولم يتذكر الاحتلام، ويجب الغسل عندهما لا عند أبي يوسف فيما إذا شك أنه مني أو مذي أو مني أو ودي ولم يتذكر الاحتلام فيهما، وهذا التقسيم، وإن لم أجده فيما رأيت لكنه مقتضى عبارتهم لكن قال في فتح القدير التيقن متعذر مع النوم.
وفي الخلاصة ولسنا نوجب الغسل بالمذي لكن المني يرق بإطالة المدة فتصير صورته صورة المذي لا حقيقة المذي ا هـ. وهذا كله في النائم إذا استيقظ فوجد بللا.
أما إذا غشي عليه فأفاق فوجد مذيا أو كان سكران فأفاق فوجد مذيا لا غسل عليه اتفاقا كذا في الخلاصة وغيرها.
والفرق بأن المني والمذي لا بد له من سبب وقد ظهر في النوم تذكر أو لا؛ لأن النوم مظنة الاحتلام فيحال عليه ثم يحتمل أنه مني رق بالهواء أو للغذاء فاعتبرناه منيا احتياطا ولا كذلك السكران والمغمى عليه؛ لأنه لم يظهر فيهما هذا السبب ولو وجد الزوجان بينهما ماء دون تذكر ولا مميز بأن لم يظهر غلظه ورقته ولا بياضه وصفرته يجب عليهما الغسل صححه في

 

ج / 1 ص -130-       الظهيرية ولم يذكروا القيد فقالوا يجب عليهما.
وقيل إذا كان غليظا أبيض فعليه أو رقيقا أصفر فعليها فيقيدونه بصورة نقل الخلاف.
والذي يظهر تقييد الوجوب عليهما بما ذكرنا فلا خلاف إذن كذا في فتح القدير.
وينبغي أن يقيد أيضا بما إذا لم يظهر كونه وقع طولا أو عرضا، فإن بعضهم قال إن وقع طولا فمن الرجل وإن وقع عرضا فمن المرأة، ولعله لضعف هذا النوع من التمييز عنده أعرض عنه، وليس ببعيد فيما يظهر.
والقياس أنه لا يجب الغسل على واحد منهما لوقوع الشك، وإذا لم يجب عليهما لا يجوز لها أن تقتدي به، والوجه فيه ظاهر ولا يخفى أن هذا كله فيما إذا لم يكن الفراش قد نام عليه غيرهما قبلهما.
وأما إذا كان قد نام عليه غيرهما، وكان المني المرئي يابسا فالظاهر أنه لا يجب الغسل على واحد منهما، ولو احتلمت المرأة، ولم يخرج الماء إلى ظاهر فرجها عن محمد يجب.
وفي ظاهر الرواية لا يجب؛ لأن خروج منيها إلى فرجها الخارج شرط لوجوب الغسل عليها، وعليه الفتوى كذا في معراج الدراية.
والذي حرره في فتح القدير وقال إنه الحق الاتفاق على تعلق وجوب الغسل بوجود المني في احتلامهما والقائل بوجوبه في هذه الخلافية إنما يوجبه على وجوده، وإن لم تره.
فالمراد بعدم الخروج في قولهم ولم يخرج منها لم تره خرج فعلى هذا الأوجه وجوب الغسل في الخلافية.
والمراد بالرؤية في جواب النبي صلى الله عليه وسلم أم سليم لما سألته هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت قال "نعم إذا رأت الماء" العلم مطلقا، فإنها لو تيقنت الإنزال بأن استيقظت في فور

 

ج / 1 ص -131-       ...............................
_________________
الاحتلام فأحست بيدها البلل ثم نامت فاستيقظت حتى جف فلم تر بعينها شيئا لا يسع القول بأن لا غسل عليها مع أنه لا رؤية بصر بل رؤية علم ورأى تستعمل حقيقة في علم باتفاق أهل اللغة قال: رأيت الله أكبر كل شيء ا هـ.
ولو جومعت فيما دون الفرج فسبق الماء إلى فرجها أو جومعت البكر لا غسل عليها إلا إذا ظهر الحبل؛ لأنها لا تحبل إلا إذا أنزلت وتعيد ما صلت إن لم تكن اغتسلت؛ لأنه ظهر أنها صلت بلا طهارة.
ولو جومعت فاغتسلت ثم خرج منها مني الرجل لا غسل عليها.
ولو قالت معي جني يأتيني في النوم مرارا وأجد ما أجد إذا جامعني زوجي لا غسل عليها.
وفي فتح القدير ولا يخفى أنه مقيد بما إذا لم تر الماء، فإن رأته صريحا وجب كأنه احتلام وقد يقال ينبغي وجوب الغسل من غير إنزال لوجود الإيلاج؛ لأنها تعرف أنه يجامعها كما لا يخفى.
ولا يظهر هذا الاشتراط إلا إذا لم يظهر لها في صورة الآدمي.
وفي فتاوى قاضي خان إذا استيقظ فوجد بللا في إحليله وشك في أنه مني أو مذي فعليه الغسل إلا إذا كان ذكره منتشرا قبل النوم فلا يلزمه الغسل إلا أن يكون أكبر رأيه أنه مني فيلزمه الغسل.
وهذه المسألة يكثر وقوعها والناس عنها غافلون وهذه تقيد الخلاف المتقدم بين أبي يوسف وصاحبيه بما إذا لم يكن ذكره منتشرا.
ثم إن أبا حنيفة في هذه المسألة ومسألة المباشرة الفاحشة ومسألة الفأرة المنتفخة أخذ بالاحتياط.
وأبا يوسف وافقه في الاحتياط في مسألة المباشرة الفاحشة لوجود فعل هو سبب خروج المذي وخالفه في الفصلين الأخيرين لانعدام الفعل منه ومحمدا وافقه في الاحتياط في مسألة النائم؛ لأنه غافل عن نفسه فكان عنده موضع الاحتياط بخلاف الفصلين الأخيرين، فإن المباشر

 

ج / 1 ص -132-       وتواري حشفه ي قبل أو دبر عليهما
_________________
ليس بغافل عن نفسه فيحس بما يخرج منه كذا في المبسوط.
وفي المحيط ولو أن رجلا عزبا به فرط شهوة له أن يستمني بعلاج لتسكن شهوته ولا يكون مأجورا عليه ليته ينجو رأسا برأس هكذا روي عن أبي حنيفة.
وفي الخلاصة معزيا إلى الأصل المراهق لا يجب عليه الغسل لكن يمنع من الصلاة حتى يغتسل وكذا لو أراد الصلاة بدون الوضوء وكذا المراهقة ا هـ.
وفي القنية لو أنزل الصبي مع الدفق، وكان سبب بلوغه فالظاهر أنه لا يلزمه الغسل ا هـ. قال بعض المتأخرين ولا يخفى أنه على هذا لا بد من توجيه المتون ولم يذكر توجيها.
وقد يقال إن غير المكلف مخصوص من إطلاق عباراتهم فقولهم وموجبه إنزال مني معناه أن إنزال المني موجب للغسل على المكلف لا على غيره وسيأتي خلاف هذا في آخر بحث الغسل إن شاء الله تعالى .
واعلم أنه كما ينتقض الوضوء بنزول البول إلى القلفة يجب الغسل بوصول المني إليها ذكره في البدائع.
" قوله: وتواري حشفة في قبل أو دبر عليهما " أي وفرض الغسل عند غيبوبة ما فوق الختان، وكذلك غيبوبة مقدار الحشفة من مقطوعها في قبل امرأة يجامع مثلها أو دبر على الفاعل والمفعول به، وإن لم ينزل.
والتعبير بغيبوبة الحشفة أولى من التعبير بالتفاء الختانين لتناوله الإيلاج في الدبر.
ولأن الثابت في الفرج محاذاتهما لا التقاؤهما؛ لأن ختان الرجل هو موضع القطع، وهو ما دون مؤخرة الحشفة وختان المرأة موضع قطع جلدة منها كعرف الديك فوق الفرج وذلك؛ لأن مدخل الذكر هو مخرج المني والولد والحيض وفوق مدخل الذكر مخرج البول كإحليل الرجل وبينهما جلدة رقيقة يقطع منها في الختان فحصل أن ختان المرأة متسفل تحت مخرج البول وتحت مخرج البول مدخل الذكر فإذا غابت الحشفة في الفرج فقد حاذى ختانه ختانها.

 

ج / 1 ص -133-       ...............................
_________________
ولكن يقال لموضع ختان المرأة الخفاض فذكر الختانين بطريق التغليب قيد بالتواري؛ لأن مجرد التلاقي لا يوجب الغسل ولكن ينقض الوضوء على الخلاف المتقدم.
وقيدنا بكونه في قبل امرأة؛ لأن التواري في فرج البهيمة لا يوجب الغسل إلا بالإنزال.
وقيدنا بكونها يجامع مثلها؛ لأن التواري في الميتة والصغيرة لا يوجب الغسل إلا بالإنزال.
وقد تقدم الدليل من السنة والإجماع على وجوب الغسل بالإيلاج وإن لم يكن معه إنزال، وهو بعمومه يشمل الصغيرة والبهيمة.
وإليه ذهب الشافعي لكن أصحابنا رضي الله عنهم منعوه إلا أن ينزل؛ لأن وصف الجنابة متوقف على خروج المني ظاهرا أو حكما عند كمال سببه مع خفاء خروجه لقلته وتكسله في المجرى لضعف الدفق بعدم بلوغ الشهوة منتهاها كما يجده المجامع في أثناء الجماع من اللذة بمقاربة المزايلة فيجب حينئذ إقامة السبب مقامه، وهذا علة كون الإيلاج فيه الغسل فتعدى الحكم إلى الإيلاج في الدبر وعلى الملاط به إذ ربما يتلذذ فينزل ويخفى لما قلنا وأخرجوا ما ذكرنا لكنه يستلزم تخصيص النص بالمعنى ابتداء كذا في فتح القدير.
وحاصله أن الموجب إنزال المني حقيقة أو تقديرا عند كمال سببه، وفيما ذكرناه لم يوجد حقيقة ولا تقديرا لنقصان سببه لكن هذا يستلزم تخصيص النص بالمعنى ابتداء والعام لا يخصص بالمعنى ابتداء عندنا فيحتاج أئمتنا إلى الجواب عن هذا ويحتاجون أيضا إلى الجواب عما ذكره النووي في شرح المهذب بأنه ينتقض بوطء العجوز الشوهاء المتناهية في القبح العمياء البرصاء المقطعة الأطراف.
فإنه يوجب الغسل بالاتفاق مع أنه لا يقصد به لذة في العادة ولم أجد عن هذين الإيرادين جوابا.
وقد ظهر لي في الجواب عن الأول أن هذا ليس تخصيصا للنص بالمعنى ابتداء وبيانه يحتاج إلى مزيد كشف.
فأقول: وبالله التوفيق إنه قد ورد حديثان ظاهرهما التعارض الأول الماء من الماء ومقتضاه أن الغسل لا يجب بالتقاء الختانين من غير إنزال، فإن الماء اسم جنس محلى بلام

 

ج / 1 ص -134-       ...............................
_________________
الاستغراق فمعناه جميع الاغتسال من المني فيما يتعلق بعين الماء لا مطلقا لوجوبه بالحيض والنفاس. والثاني: حديث "إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل، وإن لم ينزل".
ومقتضاه عموم وجوب الغسل بغيبوبة الحشفة من غير إنزال فيشمل الصغيرة والبهيمة والميتة.
فيعارض الأول وإذا أمكن العمل بهما وجب.
فقال علماؤنا إن الموجب للغسل هو إنزال المني كما أفاده الحديث الأول لكن المني تارة يوجد حقيقة وتارة يوجد حكما عند كمال سببه وهو غيبوبة الحشفة في محل يشتهى عادة مع خفاء خروجه ولو كان في الدبر لكمال السببية فيه؛ لأنه سبب لخروج المني غالبا كالإيلاج في القبل لاشتراكهما لينا وحرارة وشهوة حتى إن الفسقة اللواطة رجحوا قضاء الشهوة من الدبر على قضائها من القبل ومنه خبرا عن قوم لوط
{لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ}[هود:79].
وفي الصغيرة ونحوها لم يكن الإيلاج سببا كاملا لإنزال المني لعدم الداعية إليه فلم يوجد إنزال المني حقيقة ولا تقديرا فلو قلنا بالوجوب من غير إنزال لكان فيه ترك العمل بالحديث أصلا، وهو لا يجوز.
فكان هذا منا قولا بموجب العلة لا تخصيصا للنص بالقياس ابتداء وكون إنزال المني هو الموجب، وهو إما حقيقة أو تقديرا هو الذي ذكره مشايخنا في أصولهم في بحث المفاهيم قاطعين النظر عن كون الماء من الماء منسوخا كما لا يخفى.
وجواب آخر أنه يجوز تخصيص النص العام بالمعنى ابتداء عند جمهور الفقهاء منهم الشيخ أبو منصور ومن تابعه من مشايخ سمرقند؛ لأن موجبه عندهم ليس بقطعي وأكثر أصحابنا يمنعونه لكونه عندهم قطعيا والقياس ظني أما إذا كان العام ظنيا جاز تخصيصه بالقياس ابتداء وما نحن فيه من هذا القبيل؛ لأنه ظني الثبوت، وإن كان قطعي الدلالة.

 

ج / 1 ص -135-       ...............................
_________________
وأما الجواب عن الثاني فلا نسلم أن المحل لا يشتهى ولئن سلم فاجتماع هذه الأوصاف الشنيعة في امرأة نادر ولا اعتبار به.
هذا، وقد ذكر في المبتغى خلافا فيمن غابت الحشفة في فرجه فقال وقيل لا غسل عليه كالبهيمة والمراد بالفرج الدبر.
ونقله في فتح القدير ولم يتعقبه وقد يقال إنه غير صحيح فقد قال في غاية البيان واتفقوا على وجوب الغسل من الإيلاج في الدبر على الفاعل والمفعول به ا هـ. وجعل الدبر كالبهيمة بعيد جدا كما لا يخفى.
وفي فتح القدير أن في إدخال الإصبع الدبر خلافا في إيجاب الغسل فليعلم ذلك ا هـ. وقد أخذه من التجنيس ولفظه رجل أدخل إصبعه في دبره، وهو صائم اختلفوا في وجوب الغسل والقضاء والمختار أنه لا يجب الغسل ولا القضاء؛ لأن الإصبع ليس آلة للجماع فصار بمنزلة الخشبة ذكره في الصوم وقد حكى عن السراج الوهاج خلافا في وطء الصغيرة التي لا تشتهى فمنهم من قال يجب مطلقا ومنهم من قال لا يجب مطلقا والصحيح أنه إذا أمكن الإيلاج في محل الجماع من الصغيرة ولم يفضها فهي ممن تجامع فيجب الغسل وعزاه للصيرفي في الإيضاح وقد يقال إن بقاء البكارة دليل على عدم الإيلاج فلا يجب الغسل كما اختاره في النهاية معزيا إلى المحيط.
ولو لف على ذكره خرقة وأولج ولم ينزل قال بعضهم يجب الغسل؛ لأنه يسمى مولجا وقال بعضهم لا يجب والأصح إن كانت الخرقة رقيقة بحيث يجد حرارة الفرج واللذة وجب الغسل وإلا فلا والأحوط وجوب الغسل في الوجهين.
وإن أولج الخنثى المشكل ذكره في فرج امرأة أو دبرها فلا غسل عليهما لجواز أن يكون امرأة، وهذا الذكر منه زائد فيصير كمن أولج إصبعه.
وكذا في دبر رجل أو فرج خنثى لجواز أن يكونا رجلين والفرجان زائدان منهما وكذا في فرج خنثى مثله لجواز أن يكون الخنثى المولج فيه رجلا والفرج زائد منه، وإن أولج رجل في فرج خنثى مشكل لم يجب الغسل عليه لجواز أن يكون الخنثى رجلا والفرج منه بمنزلة الجرح.

 

ج / 1 ص -136-       وحيض ونفاس
_________________
وهذا كله إذا كان من غير إنزال أما إذا أنزل وجب الغسل بالإنزال كذا في السراج الوهاج.
وهذا لا يرد على المصنف؛ لأن كلامه في حشفة وقبل محققين والله أعلم بالصواب .
" قوله: وحيض ونفاس " أي وفرض الغسل عند حيض ونفاس.
وقد اختلف رأي المصنف في كتبه هل الموجب الحيض أو انقطاعه فاختار في المستصفى أن الموجب رؤية الدم أو خروجه وعلل بأن الدم إذا حصل نقض الطهارة الكبرى ولم يجب الغسل مع سيلان الدم؛ لأنه ينافيه، فإذا انقطع أمكن الغسل فوجب لأجل ذلك الحدث السابق، فأما الانقطاع فهو طهارة فلا يوجب الطهارة.
واختار في الكافي أن الموجب انقطاع الدم لا خروجه؛ لأن عنده لا يجب، وإنما يجب عند الانقطاع ونقل نظيره في المستصفى عن أستاذه وعلل له بأن الخروج منه مستلزم للحيض فقد وجد الاتصال بينهما فصحت الاستعارة.
وفي غاية البيان هذا والله من عجائب الدنيا؛ لأنه إذا كان الخروج ملزوما والحيض لازما يلزم أن يوجد الحيض عند وجود الخروج لاستحالة انفكاك اللازم عن الملزوم ووجود الحيض عند وجوده محال بمرة ا هـ.
أقول: ليس في هذا شيء من العجب وما العجب إلا فهم الكلام على وجه يتوجه عليه الاعتراض ولو فهم أن الخروج من الحيض مستلزم لتقدم الحيض لا لنفس الحيض لاستغنى عن هذا الاعتراض.
واستبعد الزيلعي كون الانقطاع سببا؛ لأنه ليس فيه إلا الطهارة، ومن المحال أن توجب الطهارة الطهارة، وإنما توجبها النجاسة.
ويدفع هذا الاستبعاد بأن الانقطاع نفسه ليس بطهر إنما الطهر الحالة المستمرة عقيبه ولو سلم فلما كان الانقطاع لا بد منه في وجوب الغسل إذ لا فائدة في الغسل بدونه نسبت السببية إليه، وإن كان السبب في الحقيقة خروج الدم.

 

ج / 1 ص -137-       ...............................
_________________
والحاصل أنهم اختلفوا هل الغسل يجب بخروج الدم بشرط الانقطاع أو يجب بنفس الانقطاع ورجح بعضهم الثاني بأن الحيض اسم لدم مخصوص والجوهر لا يكون سببا للمعنى.
والحق غير القولين بل إنما يجب بوجوب الصلاة كما قدمناه في الوضوء والغسل وقد نقل الشيخ سراج الدين الهندي الإجماع على أنه لا يجب الوضوء على المحدث والغسل على الجنب والحائض والنفساء قبل وجوب الصلاة أو إرادة ما لا يحل إلا به.
فحينئذ لا فائدة لهذا الخلاف من جهة الإثم، فإنهم اتفقوا على عدم الإثم قبل وجوب الصلاة.
فظهر بهذا ضعف ما نقله في السراج الوهاج من أنه جعل فائدة الخلاف تظهر فيما إذا انقطع الدم بعد طلوع الشمس وأخرت الغسل إلى وقت الظهر فعند الكرخي وعامة العراقيين تأثم وعند البخاريين لا تأثم وعلى هذا الخلاف وجوب الوضوء فعند العراقيين يجب الوضوء للحدث وعند البخاريين للصلاة ا هـ. وقد يقال إن فائدته تظهر في التعاليق كأن يقول إن وجب عليك غسل فأنت طالق.
وقد ظهر لي فائدة أخرى، وهي ما إذا استشهدت قبل انقطاع الدم فمن قال السبب نفس الحيض قال إنها تغسل؛ لأن الشهادة لا ترفع ما وجب قبل الموت كالجنابة ومن قال إن السبب انقطاعه قال لا تغسل لعدم وجوب الغسل قبل الموت وقد صحح في الهداية في باب الشهيد أنها تغسل فكان تصحيحا لكون السبب الحيض كما لا يخفى.
وأما دليل وجوب الغسل من الحيض والنفاس فالإجماع نقله صاحب البدائع من أئمتنا والنووي في شرح المهذب عن ابن المنذر وابن جرير الطبري.
واستدل بعضهم للحيض بقوله تعالى
{وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ}[البقرة:222] ووجه الدلالة أنه يلزمها تمكين الزوج من الوطء ولا يجوز ذلك إلا بالغسل وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

 

ج / 1 ص -138-       ...............................
_________________
وإذا ثبت هذا فيما دون العشرة ثبت في العشرة بدلالة النص؛ لأن وجوب الاغتسال لأجل خروج الدم وقد وجد في العشرة.
فإن قيل إنما وجب الاغتسال فيما دون العشرة لتتأكد به صفة الطهارة عن الحيض وزوال الأذى ليثبت الحل للزوج ولهذا يثبت الحل بمضي وقت صلاة عليها، وإن لم تغتسل لوجود التأكد بصيرورة الصلاة دينا عليها.
وفي العشرة قد تأكد صفة الطهارة بنفس الانقطاع، فانعدم المعنى الموجب فلا يمكن الإلحاق بطريق الدلالة كما لا يمكن إثبات الحد باللواطة بمعنى الحرمة لانعدام المعنى الموجب للحد بعد الحرمة، وهو كثرة الوقوع.
قلنا ليس كذلك بل المعنى الموجب موجود؛ لأنه إما الحدث أو إرادة الصلاة على الخلاف، وكلاهما ثابت هنا فأما الفرق الذي يدعيه، فإنما يثبت إذا كان وجوب الاغتسال لثبوت الحل، وليس كذلك ألا ترى أنها لو لم تكن ذات زوج وجب عليها الاغتسال مع انعدام المعنى الذي يدعيه ولكنه وإن وجب بسبب آخر جعل غاية للحرمة فيما دون العشرة، فإن الحيض به ينتهي فتنتهي الحرمة المبنية عليه.
فعرفنا بعبارة النص في قراءة التشديد حرمان القربان مغيا إلى الاغتسال فيما دون العشرة وبإشارته وجوب الاغتسال وبدلالته وجوبه في العشرة كذا في معراج الدراية معزيا إلى شيخه العلامة.
ويدل عليه أيضا حديث فاطمة بنت أبي حبيش أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها
"إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي" رواه البخاري ومسلم عن عائشة وفي بعض الروايات "فاغسلي عنك الدم وصلي" وفي البدائع ولا نص في النفاس وإنما عرف بالإجماع ثم إجماعهم يجوز أن يكون على خبر في الباب لكنهم تركوا نقله اكتفاء بالإجماع ويجوز أن يكون بالقياس على دم الحيض لكون كل منهما دما خارجا من الرحم ا هـ. والمذكور في الأصول أن الإجماع في كل حادثة لا يتوقف على نص على الأصح وفي الكافي للحاكم الشهيد، وإذا أجنبت المرأة ثم أدركها الحيض، فإن شاءت اغتسلت، وإن شاءت أخرت حتى

 

ج / 1 ص -139-       لا مذي وودي واحتلام بلا بلل
_________________
تطهر وعند مالك عليها أن تغتسل بناء على أصله أن الحائض لها أن تقرأ القرآن ففي اغتسالها من الجنابة هذه الفائدة .
" قوله: لا مذي وودي واحتلام بلا بلل " بالجر عطف على مني أي لا يفترض الغسل عند هذه الأشياء.
أما المذي ففيه ثلاث لغات المذي بإسكان الذال وتخفيف الياء والمذي بكسر الذال وتشديد الياء وهاتان مشهورتان. قال الأزهري وغيره التخفيف أفصح وأكثر والثالثة المذي بكسر الذال وإسكان الياء حكاها أبو عمر الزاهد في شرح الفصيح عن ابن الأعرابي ويقال مذى بالتخفيف وأمذى ومذى بالتشديد. والأول أفصح، وهو ماء أبيض رقيق يخرج عند شهوة لا بشهوة ولا دفق ولا يعقبه فتور وربما لا يحس بخروجه، وهو أغلب في النساء من الرجال.
وفي بعض الشروح أن ما يخرج من المرأة عند الشهوة يسمى القذى بمفتوحتين والودي بإسكان الدال المهملة وتخفيف الياء ولا يجوز عند جمهور أهل اللغة غير هذا.
وحكى الجوهري في الصحاح عن الأموي أنه قال بتشديد الياء وحكى صاحب

 

ج / 1 ص -140-       ...............................
_________________
مطالع الأنوار لغة أنه بالذال المعجمة، وهذان شاذان.
يقال ودى بتخفيف الدال وأودى وودى بالتشديد.
والأول أفصح، وهو ماء أبيض كدر ثخين يشبه المني في الثخانة ويخالفه في الكدورة ولا رائحة له ويخرج عقيب البول إذا كانت الطبيعة مستمسكة وعند حمل شيء ثقيل ويخرج قطرة أو قطرتين ونحوهما.
وأجمع العلماء أنه لا يجب الغسل بخروج المذي والودي كذا في شرح المهذب. وإذا لم يجب بهما الغسل وجب بهما الوضوء.
وفي المذي حديث علي المشهور الصحيح الثابت في البخاري ومسلم وغيرهما فإن قيل ما فائدة إيجاب الوضوء بالودي وقد وجب بالبول السابق عليه قلنا عن ذلك أجوبة أحدها فائدته فيمن به سلس البول، فإن الودي ينقض وضوءه دون البول.
ثانيها فيمن توضأ عقب البول قبل خروج الودي ثم خرج الودي فيجب به الوضوء.
ثالثها يجب الوضوء لو تصور الانتقاض به كما فرع أبو حنيفة مسائل المزارعة لو كان يقول بجوازها قال في الغاية وفيه ضعف.
ورابعها الودي ما يخرج بعد الاغتسال من الجماع وبعد البول، وهو شيء لزج كذا فسره في الخزانة والتبيين فالإشكال إنما يرد على من اقتصر في تفسيره على ما يخرج بعد البول.

 

ج / 1 ص -141-       ...............................
_________________
خامسها أن وجوب الوضوء بالبول لا ينافي الوجوب بالودي بعده ويقع الوضوء عنهما حتى لو حلف لا يتوضأ من رعاف فرعف ثم بال أو عكسه فتوضأ فالوضوء منهما فيحنث وكذا لو حلفت لا تغتسل من جنابة أو حيض فجامعها زوجها وحاضت فاغتسلت فهو منهما وتحنث، وهذا ظاهر الرواية وقال الجرجاني الطهارة من الأولى دون الثاني مطلقا.
وقال الهندواني إن اتحد الجنس كأن بال ثم بال فالوضوء من الأول وإن اختلف كأن بال ثم رعف فالوضوء منهما ذكره في الذخيرة.
وقد رجح المحقق في فتح القدير تبعا للآمدي قول الجرجاني؛ لأن الناقض يثبت الحدث ثم تجب إزالته عند وجود شروطه، وهو أمر واحد لا تعدد في أسبابه.
فالثابت بكل سبب هو الثابت بالآخر إذ لا دليل يوجب خلاف ذلك فالناقض الأول لما أثبت الحدث لم يعمل الثاني شيئا لاستحالة تحصيل الحاصل نعم لو وقعت الأسباب دفعة أضيف ثبوته إلى كلها ولا ينفي ذلك كون كل علة مستقلة لأن معنى الاستقلال كون الوصف بحيث لو انفرد أثر وهذه الحيثية ثابتة لكل في حال الاجتماع، وهذا أمر معقول يجب قبوله والحق أحق أن يتبع ويجب حمله على الحكم بتعدد الحكم هنا، ولا يستلزم أن يقال به في كل موضع؛ لأنه يرفع وقوع تعدد العلل بحكم واحد وهم في الأصول يثبتونه.
وأما الاحتلام فهو افتعال من الحلم بضم الحاء وإسكان اللام، وهو ما يراه النائم من المنامات.
يقال: حلم في منامه بفتح الحاء واللام واحتلم وحلمت كذا وحلمت بكذا هذا أصله ثم

 

ج / 1 ص -142-       وسن للجمعة والعيدين والإحرام وعرفة
_________________
جعل اسما لما يراه النائم من الجماع فيحدث معه إنزال المني غالبا.
فغلب لفظ الاحتلام في هذا دون غيره من أنواع المنام لكثرة الاستعمال.
وحكمه عدم وجوب الغسل إذا لم ينزل لما روى البخاري ومسلم عن أم سلمة رضي الله عنها قالت جاءت أم سليم امرأة أبي طلحة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن الله لا يستحيي من الحق هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت قال: "نعم إذا رأت الماء".
ونقل النووي في شرح المهذب عن ابن المنذر الإجماع عليه.
وأما ما استدل به في بعض الشرح ومن حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يجد البلل ولا يذكر الاحتلام قال يغتسل وعن الرجل يرى أنه احتلم ولا يجد البلل قال: "لا غسل عليه".
فهو وإن كان مشهورا رواه الدارمي وأبو داود والترمذي وغيرهم لكنه من رواية عبد الله بن عمر العمري وهو ضعيف عند أهل العلم لا يحتج بروايته.
ويغني عنه حديث أم سليم المتقدم، , فإنه يدل على جميع ما يدل عليه هذا هكذا في شرح المهذب ولا يقال إن الاستدلال بحديث أم سليم صحيح على مذهب من يقول بمفهوم الشرط وأنتم لا تقولون به؛ لأنا نقول إن الحكم معلق بالشرط، فإذا عدم الشرط انعدم الحكم بالعدم الأصلي لا بأن عدم الشرط أثر في عدم الحكم كما تقدم .
" قوله وسن للجمعة والعيدين والإحرام وعرفة " أي وسن الغسل لأجل هذه الأشياء.
أما الجمعة فلما روى الترمذي وأبو داود والنسائي وأحمد في مسنده

 

ج / 1 ص -143-       ...............................
_________________
والبيهقي في سننه وابن أبي شيبة في مصنفه وابن عبد البر في الاستذكار عن قتادة عن الحسن عن سمرة قال قال رسول الله: صلى الله عليه وسلم
"من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل".

 

ج / 1 ص -144-       قال الترمذي حديث حسن صحيح أي فبالسنة أخذ ونعمت هذه الخصلة وقيل فبالرخصة أخذ ونعمت الخصلة هذه.
والأول أولى فإنه قال: وإذا اغتسل فالغسل أفضل فتبين أن الوضوء سنة لا رخصة كذا في الطلبة والضمير في فبها يعود إلى غير المذكور، وهو جائز إذا كان مشهورا.
وهذا مذهب جمهور العلماء وفقهاء الأمصار، وهو المعروف من مذهب مالك وأصحابه وما وقع في الهداية من أنه واجب عند مالك فقال بعض الشارحين: إنه غير صحيح، فإنه لم يقل أحد بالوجوب إلا أهل الظاهر وتمسكوا بما رواه البخاري ومسلم من حديث عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من جاء منكم الجمعة فليغتسل" والأمر للوجوب.
وروى البخاري ومسلم من حديث الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم" وقد أجاب الجمهور عنه بثلاثة أجوبة أحدها أن الوجوب قد كان ونسخ ودفع بأن الناسخ، وإن صححه الترمذي لا يقوى قوة حديث الوجوب وليس فيه تاريخ أيضا فعند التعارض يقدم الموجب.
ثانيها أنه من قبيل انتهاء الحكم بانتهاء علته كما يفيده ما أخرجه أبو داود عن عكرمة أن ناسا من أهل العراق جاءوا فقالوا يا ابن عباس: أترى الغسل يوم الجمعة واجبا فقال: لا ولكنه طهور وخير لمن اغتسل ومن لم يغتسل فلا شيء عليه بواجب وسأخبركم كيف بدأ

 

ج / 1 ص -145-       ...............................
_________________
الغسل كان الناس مجهودين يلبسون الصوف ويعملون على ظهورهم، وكان مسجدهم ضيقا مقارب السقف إنما هو عريش فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم حار وعرق الناس في ذلك الصوف حتى ثارت منه رياح حتى أذى بعضهم بعضا فلما وجد عليه السلام تلك الرياح قال يا أيها الناس إذا كان هذا اليوم فاغتسلوا وليمس أحدكم أمثل ما يجد من دهنه وطيبه قال ابن عباس ثم جاء الله بالخير ولبسوا غير الصوف وكفوا العمل ووسع مسجدهم وذهب بعض الذي كان يؤذي بعضهم بعضا من العرق.
وثالثها أن المراد بالأمر النسب وبالوجوب الثبوت شرعا على وجه الندب كأنه قال: واجب في الأخلاق الكريمة وحسن السنة بقرينة متصلة ومنفصلة.
أما المتصلة، فهي أنه قرنه بما لا يجب اتفاقا كما رواه مسلم من حديث الخدري أنه عليه السلام قال "غسل الجمعة على كل محتلم، والسواك والطيب ما يقدر عليه" ومعلوم أن الطيب والسواك ليسا بواجبين، فكذلك الغسل.
وأما قول أبي هريرة كغسل الجنابة، فإنما أراد التشبيه في الهيئة والكيفية لا في كونه فرضا يدل عليه ما رواه الترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فدنا واستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام ومن مس الحصى فقد لغا"، وهذا نص في الاكتفاء بالوضوء.

 

ج / 1 ص -146-       ...............................
_________________
وأما القرينة المنفصلة فهي قوله "ومن اغتسل فالغسل أفضل"، وأما كون الغسل سنة للعيدين وعرفة فيما رواه ابن ماجه في سننه عن الفاكه بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل يوم الفطر ويوم النحر ويوم عرفة ورواه الطبراني في معجمه والبزار في مسنده وزاد فيه يوم الجمعة ورواه أحمد في مسنده أيضا وروى ابن ماجه عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل يوم العيدين.
وأما كونه سنة للإحرام فبما أخرجه الترمذي في الحج وحسنه عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه زيد بن ثابت أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم تجرد لإهلاله واغتسل وذهب بعض مشايخنا إلى أن هذه الأغسال الأربعة مستحبة أخذا من قول محمد في الأصل إن غسل الجمعة حسن.
قال في فتح القدير: وهو النظر؛ لأنا إن قلنا بأن الوجوب انتسخ لا يبقى حكم آخر

 

ج / 1 ص -147-       ...............................
_________________
بخصوصه إلا بدليل والدليل المذكور يفيد الاستحباب، وكذا إن قلنا بأنه من قبيل انتهاء الحكم بانتهاء علته وإن حملنا الأمر على الندب فدليل الندب يفيد الاستحباب إذ لا سنة دون مواظبته صلى الله عليه وسلم وليس ذلك لازم الندب ثم يقاس عليه باقي الأغسال، وإنما يتعدى إلى الفرع حكم الأصل، وهو الاستحباب.
وأما ما رواه ابن ماجه في العيدين وعرفة من حديثي الفاكه وابن عباس المتقدم ذكرهما فضعيفان قاله النووي وغيره، وأما ما رواه الترمذي في الإهلال فواقعة حال لا تستلزم المواظبة فاللازم الاستحباب إلا أن يقال إهلاله اسم جنس فيعم لفظا كل إهلال صدر منه فثبتت سنية هذا الغسل ا هـ.
لكن قال تلميذه ابن أمير حاج والذي يظهر استنان غسل الجمعة لما عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل من أربع من الجنابة ويوم الجمعة وغسل الميت ومن الحجامة رواه أبو داود وصححه ابن خزيمة والحاكم وقال على شرط الشيخين وقال البيهقي: رواته كلهم ثقات مع ما تقدم.

 

ج / 1 ص -148-       ...............................
_________________
فإن هذا الحديث ظاهره يفيد المواظبة وما تقدم يفيد جواز الترك من غير لوم.
وبهذا القدر تثبت السنة ثم اختلفوا فعند أبي يوسف الغسل في الجمعة والعيدين سنة للصلاة لا لليوم؛ لأنها أفضل من الوقت، وعند الحسن لليوم إظهارا لفضيلته هكذا في كثير من الكتب، وفي بعض الكتب كما نقله في المعراج ذكر محمد مكان الحسن وقالوا الصحيح قول أبي يوسف.
وتظهر ثمرة الاختلاف فيمن لا جمعة عليه هل يسن له الغسل أو لا وفيمن اغتسل ثم أحدث وتوضأ وصلى به الجمعة لا يكون له فضل غسل الجمعة عند أبي يوسف خلافا للحسن.
وفيمن اغتسل بعد الصلاة قبل الغروب فعند أبي يوسف لا وعند الحسن نعم كذا ذكر الشارحون. والمنقول في فتاوى قاضي خان في باب صلاة الجمعة أنه لو اغتسل بعد الصلاة لا يعتبر بالإجماع، وهو الأولى فيما يظهر لي؛ لأن سبب مشروعية هذا الغسل لأجل إزالة الأوساخ في بدن الإنسان اللازم منها حصول الأذى عند الاجتماع، وهذا المعنى لا يحصل بالغسل بعد الصلاة والحسن رحمه الله وإن كان يقول هو لليوم لا للصلاة لكن بشرط أن يتقدم على الصلاة ولا يضر تخلل الحدث بين الغسل والصلاة عنده وعند أبي يوسف يضر.
وفي الكافي للمصنف وخلاصة الفتاوى تظهر فائدة الخلاف فيما لو اغتسل قبل الصبح وصلى به الجمعة نال فضل الغسل عند أبي يوسف وعند الحسن لا.
وتعقب الزيلعي الحسن بأنه مشكل جدا؛ لأنه لا يشترط وجود الاغتسال بما سن الاغتسال لأجله، وإنما يشترط أن يكون متطهرا بطهارة الاغتسال.
ألا ترى أن أبا يوسف لا يشترط الاغتسال في الصلاة، وإنما يشترط أن يصليها بطهارة الاغتسال، فكذا ينبغي أن يكون هنا متطهرا بطهارته في ساعة من اليوم عند الحسن لا أن ينشئ الغسل فيه ا هـ.
وأقره عليه في فتح القدير، وقد يقال إن ما استشهد به بقوله ألا ترى إلى آخره لا يصلح للاستشهاد؛ لأن ما سن الاغتسال لأجله عند الحسن، وهو اليوم يمكن إنشاء الغسل فيه فلو قيل باشتراطه أمكن بخلاف ما سن الاغتسال لأجله عند أبي يوسف، وهو الصلاة لا يمكن

 

ج / 1 ص -149-       ...............................
_________________
إنشاء الغسل فيها فافترقا لكن المنقول في فتاوى قاضي خان من باب صلاة الجمعة أنه إن اغتسل قبل الصبح وصلى بذلك الغسل كانت صلاة بغسل عند الحسن.
وفي معراج الدراية لو اغتسل يوم الخميس أو ليلة الجمعة استن بالسنة لحصول المقصود، وهو قطع الرائحة ا هـ. ولم ينقل خلافا وينبغي أن لا تحصل السنة عند أبي يوسف لاشتراطه أن لا يتخلل بين الغسل والصلاة حدث والغالب في مثل هذا القدر من الزمان حصول حدث بينهما.
ولا تحصل السنة أيضا عند الحسن على ما في الكافي وغيره أما على ما في الكافي فظاهر وأما على ما في غيره؛ فلأنه يشترط أن يكون متطهرا بطهارة الاغتسال في اليوم لا قبله، ولو اتفق يوم الجمعة ويوم العيد أو عرفة وجامع ثم اغتسل ينوب عن الكل كذا في معراج الدراية.
ثم في البدائع يجوز أن يكون غسل عرفة على هذا الاختلاف أيضا يعني أن يكون للوقوف أو لليوم كما في الجمعة قال ابن أمير حاج والظاهر أنه للوقوف، وما أظن أحدا ذهب إلى استنانه ليوم عرفة من غير حضور عرفات.
وفي المنبع شرح المجمع، فإن قلت هل يتأتى هذا الاختلاف في غسل العيد أيضا قلت يحتمل ذلك ولكني ما ظفرت به ا هـ.
قلت والظاهر أنه للصلاة أيضا، ويشهد له ما صح في موطإ مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يغتسل يوم الفطر قبل أن يغدو ا هـ. وعبارة المجمع أولى من عبارة المصنف حيث قال: وفي عرفة ليبين أنه لا ينال السنة إلا إذا اغتسل في نفس الجبل بخلاف عبارة المصنف، فإنها صادقة بما إذا اغتسل خارجه لأجله ثم دخله .

 

ج / 1 ص -150-       ووجب للميت، ولمن أسلم جنبا، وإلا ندب
_________________
" قوله: ووجب للميت " أي الغسل فرض على المسلمين على الكفاية لأجل الميت، وهذا هو مراد المصنف من الوجوب كما صرح به في الوافي في الجنائز.
وفي فتح القدير أنه بالإجماع إلا أن يكون الميت خنثى مشكلا، فإنه مختلف فيه قيل ييمم، وقيل يغسل في ثيابه، والأول أولى وسيأتي في الجنائز إن شاء الله تعالى دليله.
وهل يشترط لهذا الغسل النية الظاهر أنه يشترط لإسقاط وجوبه عن المكلف لا لتحصيل طهارته، وهو وشرط صحة الصلاة عليه كذا في فتح القدير ولنا فيه نظر نذكره إن شاء الله تعالى في الجنائز.
وما نقله مسكين من قوله، وقيل غسل الميت سنة مؤكدة ففيه نظر بعد نقل الإجماع اللهم إلا أن يكون قولا غير معتد به فلا يقدح في انعقاد الإجماع .
" قوله: ولمن أسلم جنبا، وإلا ندب " أي افترض الغسل على من أسلم حال كونه جنبا فاللام بمعنى على بقرينة قوله، وإلا ندب إذ لو كانت اللام على حقيقتها لاستوت الحالتان كما لا يخفى، وعبارة أصله الوافي أحسن ولفظه وندب لمن أسلم ولم يكن جنبا وإلا لزم وقد اختلف المشايخ في الكافر إذا أسلم، وهو جنب.
فقيل لا يجب؛ لأنهم غير مخاطبين بالفروع ولم يوجد بعد الإسلام جنابة، وهو رواية.
وفي رواية يجب، وهو الأصح لبقاء صفة الجنابة السابقة بعد الإسلام فلا يمكنه أداء المشروط بزوالها إلا به فيفترض.
ولو حاضت الكافرة فطهرت ثم أسلمت قال شمس الأئمة لا غسل عليها بخلاف الجنب.
والفرق أن صفة الجنابة باقية بعد الإسلام، فكأنه أجنب بعده، والانقطاع في الحيض هو السبب، ولم يتحقق بعد؛ فلذلك لو أسلمت حائضا ثم طهرت وجب عليها الغسل.
ولو بلغ الصبي بالاحتلام أو هي بالحيض قيل يجب عليها لا عليه فهذه أربعة فصول قال قاضي خان: والأحوط وجوب الغسل في الفصول كلها ا هـ.
وفي فتح القدير ولا نعلم خلافا في وجوب الوضوء للصلاة إذا أسلم محدثا ولا معنى

 

ج / 1 ص -151-       ...............................
_________________
للفرق بين هاتين، فإنه إن اعتبر حال البلوغ أو إن انعقاد أهلية التكليف، فهو كحال انعقاد العلة لا يجب عليهما، وإن اعتبر أو إن توجه الخطاب حتى اتحد زمانهما وجب عليهما والحيض إما حدث أو يوجب حدثا في رتبة حدث الجنابة كما سنحققه في بابه فوجب أن يتحد حكمه بالذي أسلم جنبا.
وجوابه أن السبب في الحيض الانقطاع، وثبوته بعد البلوغ لتحقق البلوغ بابتداء الحيض كي لا يثبت الانقطاع إلا وهي بالغة. ا هـ.
وهذا الجواب بعد تسليمه يصلح جوابا عما يرد على الفرق بين المرأة إذا بلغت بالحيض والصبي إذا بلغ بالاحتلام ولقائل أن يمنعه لما تقدم أن المختار أن السبب في وجوب الغسل على الحائض ليس الحيض ولا انقطاعه، وإنما هو وجوب الصلاة فحينئذ لا فرق بينهما.
والجواب الصحيح أن الصحيح وجوب الاغتسال على الصبي إذا بلغ بالاحتلام ذكره في معراج الدراية معزيا إلى أمالي قاضي خان.
وأما ما يرد على الفرق بين المرأة الحائض إذا أسلمت بعد الانقطاع وبين المسلم إذا كان جنبا فلم يحصل الجواب عنه من المحقق فالأولى القول بالوجوب عليهما كما ذكره قاضي خان وإلى هنا تمت أنواع الاغتسال، وهي فرض وسنة ومندوب.
فالفرض ستة أنواع من إنزال المني بشهوة وتواري حشفة ولو كان كافرا ثم أسلم ومن انقطاع حيض أو نفاس ولو كانت كافرة ثم أسلمت والخامس غسل الميت والسادس الغسل عند إصابة جميع بدنه نجاسة أو بعضه وخفي مكانها وكثير من المشايخ قسموا أنواعه إلى فرض وواجب وسنة ومندوب وجعلوا الواجب غسل الميت وغسل الكافر إذا أسلم جنبا ولا يخفى ما فيه، فإن هذا الذي سموه واجبا يفوت الجواز بفوته والمنقول في باب الجنائز أن غسل الميت فرض فالأولى عدم إطلاق الواجب عليه؛ لأنه ربما يتوهم أنه غير الفرض بناء على اصطلاحنا المشهور.
والمسنون أربعة كما تقدم والمندوب غسل الكافر إذا أسلم غير جنب ولدخول مكة

 

ج / 1 ص -152-       ويتوضأ بماء السماء والعين والبحر
_________________
والوقوف بمزدلفة ودخول مدينة النبي صلى الله عليه وسلم وللمجنون إذا أفاق والصبي إذا بلغ بالسن ومن غسل الميت وللحجامة لشبهة الخلاف وليلة القدر إذا رآها وللتائب من الذنب وللقادم من السفر ولمن يراد قتله وللمستحاضة إذا انقطع دمها ذكر هذه الأربعة في شرح منية المصلي معزيا لخزانة الأكمل.
وفي شرح المهذب من الغسل المسنون غسل الكسوفين وغسل الاستسقاء ومنه ثلاثة أغسال رمي الجمار ومن المستحب الغسل لمن أراد حضور مجمع الناس ولم أجده لأئمتنا فيما عندي والله الموفق للصواب.
" قوله: ويتوضأ بماء السماء والعين والبحر " يعني الطهارة جائزة بماء السماء كما صرح به القدوري وغيره والمشايخ تارة يطلقون الجواز بمعنى الحل وتارة بمعنى الصحة، وهي لازمة للأول من غير عكس والغالب إرادة الأول في الأفعال والثاني في العقود، والمراد هنا الأول، ومن قال بعموم المشترك استعمل الجواز هنا بالمعنيين.
والماء هو الجسم اللطيف السيال الذي به حياة كل نام وأصله موه بالتحريك، وهو أصل مرفوض فيما أبدل من الهاء إبدالا لازما، فإن الهمزة فيه مبدلة عن الهاء في موضع اللام ويجمع على مياه جمع كثرة وجمع قلة على أمواه.
والعين لفظ مشترك بين الشمس والينبوع والذهب والدينار والمال والنقد والجاسوس والمطر وولد البقر الوحشي وخيار الشيء ونفس الشيء والناس القليل وحرف من حروف المعجم وما عن يمين قبلة العراق وعين في الجلد وغير ذلك، والمراد به هنا الينبوع بقرينة السياق.
وفي قوله والبحر عطفا على السماء أي وبماء البحر إشارة إلى رد قول من قال إن ماء

 

ج / 1 ص -153-       ...............................
_________________
البحر ليس بماء حتى حكي عن ابن عمر أنه قال في ماء البحر التيمم أحب إلي منه كما نقله عنه في السراج الوهاج وقسم هذه المياه باعتبار ما يشاهد عادة، وإلا فالكل من السماء لقوله تعالى
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ}[الزمر:21] وقيل ليس في الآية أن جميع المياه تنزل من السماء؛ لأن ما نكرة في الإثبات ومعلوم أنها لا تعم قلنا بل تعم بقرينة الامتنان به، فإن الله ذكره في معرض الامتنان به فلو لم تدل على العموم لفات المطلوب والنكرة في الإثبات تفيد العموم بقرينة تدل عليه كما في قوله تعالى {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ}[التكوير:14] أي كل نفس.
واعلم أن الماء نوعان: مطلق، ومقيد.
فالمطلق هو ما يسبق إلى الأفهام بمطلق قولنا ماء، ولم يقم به خبث ولا معنى يمنع جواز الصلاة فخرج الماء المقيد والماء المتنجس والماء المستعمل والمطلق في الأصول هو المتعرض للذات دون الصفات لا بالنفي ولا بالإثبات كماء السماء والعين والبحر والإضافة فيه للتعريف بخلاف الماء المقيد، فإن القيد لازم له لا يجوز إطلاق الماء عليه بدون القيد كماء الورد، وقد أجمعوا على جواز الطهارة بماء السماء واستدلوا به بقوله تعالى
{وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ}[الأنفال:11] وقد استدل جماعة بقوله تعالى {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً}[الفرقان:48] وبالحديث الصحيح الذي رواه مالك في الموطإ وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم عن أبي هريرة قال سأل سائل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا أفنتوضأ بماء البحر فقال رسول الله: صلى الله عليه وسلم "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" قال البخاري: في غير صحيحه هو

 

ج / 1 ص -154-       ...............................
_________________
حديث صحيح وقال الترمذي: حديث حسن صحيح وأورد أن التمسك بالآية والحديث لا يصح إلا إذا كان الطهور بمعنى المطهر كما هو مذهب الشافعي ومالك، وأما إذا كان بمعنى الطاهر كما هو مذهبنا فلا يمكن الاستدلال.
والدليل على أنه بمعنى الطاهر قوله تعالى
{وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً}[الانسان:21] وصفه بأنه طهور، وإن لم يكن هناك ما يتطهر به وقال جرير عذاب الثنايا ريقهن طهور ومعناه طاهر وأهل العربية على أن الطهور فعول من طهر، وهو لازم والفعل إذا لم يكن متعديا لم يكن الفعول منه متعديا كقولهم نئوم من نام وضحوك من ضحك، وإذا كان متعديا فالفعول منه كذلك كقولهم قتول من قتل وضروب من ضرب.
قلنا إنما تفيد هذه الصيغة التطهير من طريق المعنى، وهو أن هذه الصيغة للمبالغة، فإن في الشكور والغفور من المبالغة ما ليس في الغافر والشاكر فلا بد أن يكون في الطهور معنى زائد ليس في الطاهر ولا تكون تلك المبالغة في طهارة الماء إلا باعتبار التطهير؛ لأن في نفس الطهارة كلتا الصفتين سواء فتكون صفة التطهير له بهذا الطريق لا أن الطهور بمعنى المطهر، وإليه أشار في الكشاف والمغرب قال وما حكي عن ثعلب أن الطهور ما كان طاهرا في نفسه مطهرا لغيره إن كان هذا زيادة بيان لبلاغته في الطهارة كان سديدا و يعضده قوله تعالى
{وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ}[لأنفال:11] وإلا فليس فعول من التفعيل في شيء وقياسه على ما هو مشتق من الأفعال المتعدية كقطوع ومنوع غير سديد.
والطهور يجيء صفة نحو: ماء طهورا واسما لما يتطهر به كالوضوء اسم لما يتوضأ به ومصدرا نحو تطهرت طهورا حسنا ومنه قوله "لا صلاة إلا بطهور" أي طهارة فإذا كان

 

ج / 1 ص -155-       وإن غير طاهر أحد أوصافه
_________________
بمعنى ما يتطهر به صح الاستدلال ولا يحتاج أن يجعل بمعنى المطهر حيث يلزم جعل اللازم متعديا كذا قرره بعض الشارحين.
وفيه بحث من وجوه: الأول: أن الله تعالى وصف شراب أهل الجنة بأعلى الصفات، وهو التطهير.
الثاني أن جريرا قصد تفضيلهن على سائر النساء فوصف ريقهن بأنه مطهر يتطهر به لكمالهن وطيب ريقهن وامتيازه على غيره ولا يحمل على طاهر؛ لأنه لا مزية لهن في ذلك، فإن كل النساء ريقهن طاهر بل كل حيوان طاهر اللحم كذلك كالإبل والبقر.
الثالث أن قوله ولا تكون تلك المبالغة في طهارة الماء إلا باعتبار التطهير قد يمنع بأن المبالغة فيه باعتبار كثرته وجودته في نفسه لا باعتبار التطهير والمراد بماء السماء ماء المطر والندى والثلج والبرد إذا كان متقاطرا.
وعن أبي يوسف يجوز، وإن لم يكن متقاطرا والصحيح قولهما وقد استدل على جواز الطهارة بماء الثلج والبرد بما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسكت بين تكبيرة الإحرام والقراءة سكتة يقول فيها أشياء منها
"اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد وفي رواية بماء الثلج والبرد" ولا يجوز بماء الملح، وهو يجمد في الصيف، ويذوب في الشتاء عكس الماء.
" قوله: وإن غير طاهر أحد أوصافه " أي يجوز الوضوء بالماء ولو خالطه شيء طاهر فغير أحد أوصافه التي هي الطعم واللون والريح، وهذا عندنا.
وقال الشافعي إن كان المخالط الطاهر مما لا يمكن حفظ الماء عنه كالطحلب وما يجري

 

ج / 1 ص -156-       ...............................
_________________
عليه الماء من الملح والنورة جاز الوضوء به، وإن كان ترابا طرح فيه قصدا لم يؤثر، وإن كان شيئا سوى ذلك كالزعفران والدقيق والملح الجبلي والطحلب المدقوق بما يستغني الماء عنه لم يجز الوضوء به كذا في المهذب.
وأصل الخلاف أن هذا الماء الذي اختلط به طاهر هل صار به مقيدا أم لا فقال الشافعي ومن وافقه يقيد؛ لأنه يقال ماء الزعفران ونحن لا ننكر أنه يقال ذلك ولكن لا يمتنع ما دام المخالط مغلوبا أن يقول القائل فيه هذا ماء من غير زيادة، وقد رأيناه يقال في ماء المد والنيل حال غلبة لون الطين عليهما وتقع الأوراق في الحياض زمن الخريف فيمر الرفيقان ويقول أحدهما للآخر هنا ماء تعال نشرب نتوضأ فيطلقه مع تغير أوصافه فظهر لنا من اللسان أن المخالط المغلوب لا يسلب الإطلاق فوجب ترتيب حكم المطلق على الماء الذي هو كذلك، ويدل عليه من السنة قوله صلى الله عليه وسلم "اغسلوه بماء وسدر" قاله لمحرم وقصته ناقته فمات رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس وقال صلى الله عليه وسلم حين توفيت ابنته "اغسلنها بماء وسدر" رواه مالك في الموطإ من حديث أم عطية والميت لا يغسل إلا بماء يجوز للحي أن يتطهر به والغسل بالماء والسدر لا يتصور إلا بخلط السدر بالماء أو بوضعه على الجسد وصب الماء عليه.
وكيفما كان فلا بد من الاختلاط والتغيير. وقد اغتسل صلى الله عليه وسلم يوم الفتح في قصعة فيها أثر العجين.

 

ج / 1 ص -157-       أو أنتن بالمكث، لا بما تغير بكثرة الأوراق
_________________
رواه النسائي والماء بذلك يتغير ولم يعتبر للمغلوبية وأمر عليه السلام قيس بن عاصم حين أسلم أن يغتسل بماء وسدر فلولا أنه طهور لما أمر أن يغتسل به.
فإن قيل المطلق يتناول الكامل دون الناقص وفي الماء المختلط بطاهر غيره قصور فالجواب أن المطلق يتناول الكامل ذاتا لا وصفا والماء المتغير بطاهر كامل ذاتا فيتناوله مطلق الاسم.
فإن قيل لو حلف لا يشرب ماء فشرب هذا الماء المتغير لم يحنث ولو استعمل المحرم الماء المختلط بالزعفران لزمته الفدية ولو وكل وكيلا بأن يشتري له ماء فاشترى هذا الماء لا يجوز فعلم بهذا أن الماء المتغير ليس بماء مطلق قلنا لا نسلم ذلك هكذا ذكر السراج الهندي.
أقول: ولئن سلمنا فالجواب: أما في مسألة اليمين والوكالة فالعبرة فيهما للعرف وفي العرف أن هذا الماء لا يشرب، وأما في مسألة المحرم فإنما لزمته الفدية لكونه استعمل عين الطيب، وإن كان مغلوبا.
" قوله: أو أنتن بالمكث " أي يجوز الوضوء بما أنتن بالمكث، وهو الإقامة والدوام ويجوز فتح الميم وضمها كما يجوز في عين فعله الماضي، وهي بالضم في المضارع على كل حال وفي بعض الشروح أنه يجوز فيه الكسر قيد بقوله بالمكث؛ لأنه لو علم أنه أنتن للنجاسة لا يجوز به الوضوء، وأما لو شك فيه، فإنه يجوز ولا يلزمه السؤال عنه .
" قوله: لا بما تغير بكثرة الأوراق " عطف على بماء السماء يعني لا يتوضأ بما تغير

 

ج / 1 ص -158-       أو بالطبخ
_________________
بوقوع الأوراق الكثيرة فيه، وهذا محمول على ما إذا زال عنه اسم الماء بأن صار ثخينا كما سيأتي بيانه قريبا إن شاء الله تعالى.
قال في النهاية المنقول عن الأساتذة أن أوراق الأشجار وقت الخريف تقع في الحياض فيتغير ماؤها من حيث اللون والطعم والرائحة ثم إنهم يتوضئون منها من غير نكير.
وروي عن محمد بن إبراهيم الميداني أن الماء المتغير بكثرة الأوراق إن ظهر لونها في الكف لا يتوضأ بها لكن يشرب .
" قوله: أو بالطبخ " أي لا يتوضأ بما تغير بسبب الطبخ مما لا يقصد به المبالغة في التنظيف كماء المرق والباقلاء؛ لأنه حينئذ ليس بماء مطلق لعدم تبادره عند إطلاق اسم الماء ولا نعني بالمطلق إلا ما يتبادر عند إطلاقه.
أما لو كانت النظافة تقصد به كالسدر والصابون والأشنان يطبخ بالماء، فإنه يتوضأ به إلا إذا خرج الماء عن طبعه من الرقة والسيلان.
وبما تقرر علم أن ما ذكره صاحب الهداية في التجنيس وصاحب الينابيع أن الباقلاء أو الحمص إذا طبخ إن كان إذا برد ثخن لا يجوز الوضوء به، وإن كان لا يثخن ورقة الماء باقية جاز ليس هو المختار بل هو قول الناطفي من مشايخنا رحمهم الله يدل عليه ما ذكره قاضي خان في فتاويه بما لفظه، ولو طبخ الحمص والباقلاء في الماء وريح الباقلاء توجد فيه لا يجوز التوضؤ به.

 

ج / 1 ص -159-       أو اعتصر من شجر أو ثمر
_________________
وذكر الناطفي رحمه الله إذا لم تذهب عنه رقة الماء، ولم يسلب عنه اسم الماء جاز الوضوء به. ا هـ.
بما قررناه أيضا علم أن الماء المطبوخ بشيء لا يقصد به المبالغة في التنظيف يصير مقيدا سواء تغير شيء من أوصافه أو لم يتغير فحينئذ لا ينبغي عطفه في المختصر على ما تغير بكثرة الأوراق إلا أن يقال أنه لما صار مقيدا فقد تغير بالطبخ .
" قوله: أو اعتصر من شجر أو ثمر " عطف على قوله تغير أي لا يتوضأ بما اعتصر من شجر كالريباس أو ثمر كالعنب لأن هذا ماء مقيد، وليس بمطلق، فلا يجوز الوضوء به؛ لأن الحكم منقول إلى التيمم عند فقد الماء المطلق بلا واسطة بينهما، وفي ذكر العصر إشارة إلى أن ما يخرج من الشجر بلا عصر كماء يسيل من الكرم يجوز به الوضوء وبه صرح صاحب الهداية لكن المصرح به في كثير من الكتب أنه لا يجوز الوضوء به، واقتصر عليه قاضي خان في الفتاوى وصاحب المحيط وصدر به في الكافي وذكر الجواز بصيغة قبل. وفي شرح منية المصلي الأوجه عدم الجواز، فكان هو الأولى لما أنه كمل امتزاجه كما صرح به في الكافي.
فما وقع في شرح الزيلعي من أنه لم يكمل امتزاجه ففيه نظر وقد علمت أن العلماء اتفقوا على جواز الوضوء بالماء المطلق وعلى عدم جوازه بالماء المقيد ثم الماء إذا اختلط به شيء طاهر لا يخرج عن صفة الإطلاق إلا إذا غلب عليه غيره.
بقي الكلام هنا في تحقيق الغلبة بماذا تكون فعبارة القدوري، وهي قوله: وتجوز الطهارة بماء خالطه شيء طاهر فغير أحد أوصافه كعبارة الكنز والمختار تفيد أن المتغير لو كان وصفين لا يجوز به الوضوء.
وعبارة المجمع، وهي قوله ونجيزه بغالب على طاهر كزعفران تغير به بعض أوصافه

 

ج / 1 ص -160-       ...............................
_________________
تفيد أن المتغير لو كان وصفين يجوز أو كلها لا يجوز.
وفي تتمة الفتاوى الماء المتغير أحد أوصافه لا يجوز به الوضوء، وفي الهداية والغلبة بالأجزاء لا بتغير اللون هو الصحيح.
وقد حكي خلاف بين أبي يوسف ومحمد ففي المجمع والخانية وغيرهما أن أبا يوسف يعتبر الغلبة بالأجزاء ومحمد باللون، وفي المحيط عكسه، والأصح من الخلاف الأول كما صرحوا به.
وذكر القاضي الإسبيجابي أن الغلبة تعتبر أولا من حيث اللون ثم من حيث الطعم ثم من حيث الأجزاء.
وفي الينابيع لو نقع الحمص والباقلاء وتغير لونه وطعمه وريحه يجوز الوضوء به.
وعن أبي يوسف ماء الصابون إذا كان ثخينا قد غلب على الماء لا يتوضأ به، وإن كان رقيقا يجوز وكذا ماء الأشنان ذكره في الغاية وفيه إذا كان الطين غالبا عليه لا يجوز الوضوء به، وإن كان رقيقا يجوز الوضوء به.
وصرح في التجنيس بأن من التفريع على اعتبار الغلبة بالأجزاء قول الجرجاني إذا طرح الزاج أو العفص في الماء جاز الوضوء به، وإن كان لا ينقش إذا كتب به، فإن نقش لا يجوز، والماء هو المغلوب، وهكذا جاء الاختلاف ظاهرا في عباراتهم فلا بد من التوفيق.
فنقول إن التقييد المخرج عن الإطلاق بأحد أمرين: الأول: كمال الامتزاج، وهو بالطبخ مع طاهر لا يقصد به المبالغة في التنظيف أو بتشرب النبات سواء خرج بعلاج أو لا.
الثاني غلبة المخالط، فإن كان جامدا فبانتفاء رقة الماء وجريانه على الأعضاء وعليه

 

ج / 1 ص -161-       ...............................
_________________
يحمل ما عن أبي يوسف وما في الينابيع ويوافقه ما في الفتاوى الظهيرية إذا طرح الزاج في الماء حتى اسود جاز الوضوء به.
وإن كان مائعا موافقا للماء في الأوصاف الثلاثة كالماء الذي يؤخذ بالتقطير من لسان الثور وماء الورد الذي انقطعت رائحته والماء المستعمل على القول المفتى به من طهارته إذا اختلط بالمطلق فالعبرة للأجزاء فإن كان الماء المطلق أكثر جاز الوضوء بالكل، وإن كان مغلوبا لا يجوز، وإن استويا لم يذكر في ظاهر الرواية.
وفي البدائع قالوا حكمه حكم الماء المغلوب احتياطا وعليه، وعلى الأول يحمل قول من قال العبرة بالأجزاء، وهو قول أبي يوسف الذي اختاره في الهداية.
فإن كان المخالط جامدا فغلبة الأجزاء فيه بثخونته فإن كان مائعا موافقا للماء، فغلبة الأجزاء فيه بالقدر وذكر الحدادي أن غلبة الأجزاء في الجامد تكون بالثلث، وفي المائع بالنصف.
فإن كان مخالفا للماء في الأوصاف كلها، فإن غيرها أو أكثرها لا يجوز الوضوء به، وإلا جاز، وعليه يحمل قول من قال إن غير أحد أوصافه جاز الوضوء به، وإن خالفه في وصف واحد أو وصفين فالعبرة لغلبة ما به الخلاف كاللبن يخالفه في الطعم، فإن كان لون اللبن أو طعمه هو الغالب فيه لم يجز الوضوء به وإلا جاز.
وكذا ماء البطيخ يخالفه في الطعم فتعتبر الغلبة فيه بالطعم وعليه يحمل قول من قال إذا غير أحد أوصافه لا يجوز وقول من قال العبرة للون وأما قول من قال العبرة للون ثم الطعم ثم الأجزاء فمراده أن المخالط المائع للماء إن كان لونه مخالفا للون الماء فالغلبة تعتبر من حيث اللون، وإن كان لونه لون الماء فالعبرة للطعم إن غلب طعمه على الماء لا يجوز، وإن كان لا يخالفه في اللون والطعم والريح فالعبرة للأجزاء. وأما ما يفهم من عبارة المجمع فلا يمكن حمله على شيء كما لا يخفى.
والذي يظهر أن مراده من البعض البعض الأقل، وهو الواحد كما هي عبارة القدوري تصحيحا لكلامه، ويدل عليه قوله في شرحه فغير بعض أوصافه من طعم أو ريح أو لون ذكره بأو التي هي لأحد الأشياء بعد من التي أوقعها بيانا للبعض ولا يظهر لتغيير عبارة القدوري فائدة.
وهاهنا تنبيهات مهمة لا بأس بإيرادها.

 

ج / 1 ص -162-       ...............................
_________________
الأول أن مقتضى ما قالوه هنا من أن المخالط الجامد لا يقيد الماء إلا إذا سلبه وصف الرقة والسيلان جواز التوضؤ بنبيذ التمر والزبيب ولو غير الأوصاف الثلاثة وقد صرحوا قبيل باب التيمم بأن الصحيح خلافه وأن تلك رواية مرجوع عنها وقد يقال إن ذلك مشروط بما إذا لم يزل عنه اسم الماء وفي مسألة نبيذ التمر زال عنه اسم الماء، فلا مخالفة كما لا يخفى.
الثاني أنه يقتضي أيضا أن الزعفران إذا اختلط بالماء يجوز الوضوء به ما دام رقيقا سيالا ولو غير الأوصاف كلها؛ لأنه من قبيل الجامدات والمصرح به في معراج الدراية معزيا إلى القنية أن الزعفران إذا وقع في الماء إن أمكن الصبغ فيه، فليس بماء مطلق من غير نظر إلى الثخونة ويجاب عنه بما تقدم من أنه زال عنه اسم الماء.
الثالث: أنهم قد صرحوا بأن الماء المستعمل على القول بطهارته إذا اختلط بالماء الطهور لا يخرجه عن الطهورية إلا إذا غلبه أو ساواه.
إما إذا كان مغلوبا فلا يخرجه عن الطهورية فيجوز الوضوء بالكل، وهو بإطلاقه يشمل ما إذا استعمل الماء خارجا ثم ألقى الماء المستعمل واختلط بالطهور أو انغمس في الماء الطهور لا فرق بينهما.
يدل عليه ما في البدائع في الكلام على حديث
"لا يبولن أحدكم في الماء الدائم".
لا يقال إنه نهي لما فيه من إخراج الماء من أن يكون مطهرا من غير ضرورة وذلك حرام؛ لأنا نقول الماء القليل إنما يخرج عن كونه مطهرا باختلاط غير المطهر به إذا كان غير المطهر غالبا كماء الورد واللبن.
فأما إذا كان مغلوبا فلا وهاهنا الماء المستعمل ما يلاقي البدن ولا شك أن ذلك أقل من غير المستعمل فكيف يخرج به من أن يكون مطهرا ا هـ.
وقال في موضع آخر فيمن وقع في البئر، فإن كان على بدنه نجاسة حكمية بأن كان محدثا أو جنبا أو حائضا أو نفساء فعلى قول من لم يجعل هذا الماء مستعملا لا ينزح شيء وكذا على قول من جعله مستعملا وجعل المستعمل طاهرا؛ لأن غير المستعمل أكثر فلا يخرج

 

ج / 1 ص -163-       ...............................
_________________
عن كونه طهورا ما لم يكن المستعمل غالبا عليه كما لو صب اللبن في البئر بالإجماع أو بالت شاة فيها عند محمد ا هـ.
وقال: في موضع آخر، ولو اختلط الماء المستعمل بالماء القليل قال بعضهم لا يجوز التوضؤ به، وإن قل، وهذا فاسد أما عند محمد؛ فلأنه طاهر لم يغلب على الماء المطلق فلا يغيره عن صفة الطهور كاللبن، وأما عندهما؛ فلأن القليل لا يمكن التحرز عنه ثم الكثير عند محمد ما يغلب على الماء المطلق وعندهما أن يستبين مواضع القطرة في الإناء ا هـ.
وفي الخلاصة جنب اغتسل فانتضح من غسله شيء في إنائه لم يفسد عليه الماء أما إذا كان يسيل فيه سيلانا أفسده وكذا حوض الحمام على هذا وعلى قول محمد لا يفسده ما لم يغلب عليه يعني لا يخرجه من الطهورية ا هـ. بلفظه.
فإذا عرفت هذا لم تتأخر عن الحكم بصحة الوضوء من الفساقي الموضوعة في المدارس عند عدم غلبة الظن بغلبة الماء المستعمل أو وقوع نجاسة في الصغار منها.
فإن قلت قد صرح قاضي خان في فتاويه أنه لو صب ماء الوضوء في البئر عند أبي حنيفة ينزح كل الماء وعند صاحبيه إن كان استنجى بذلك الماء فكذلك، وإن لم يكن استنجى به على قول محمد لا يكون نجسا لكن ينزح منها عشرون دلوا ليصير الماء طاهرا ا هـ.
فهذا ظاهر في استعمال الماء بوقوع قليل من المستعمل فيه على قول محمد.
وكذا صرحوا بأن الجنب إذا نزل في البئر بقصد الاغتسال يفسد الماء عند الكل صرح به الأكمل وصاحب معراج الدراية وغيرهما.
وفي بعض الكتب ينزح عشرون دلوا عند محمد ولولا أن الكل صار مستعملا لما نزح منها، وفي فتاوى قاضي خان لو أدخل يده أو رجله في الإناء للتبرد يصير الماء مستعملا لانعدام الضرورة وكذا صرحوا بأن الماء يفسد إذا أدخل الكف فيه.

 

ج / 1 ص -164-       ...............................
_________________
وممن صرح به صاحب المبتغى بالغين المعجمة، وهو يقتضي استعمال الكل. وقال القاضي الإسبيجابي في شرح مختصر الطحاوي والولوالجي في فتاويه جنب اغتسل في بئر ثم في بئر إلى العشرة على قصد الاغتسال قال أبو يوسف: تنجس الآبار كلها وقال محمد: يخرج من الثالثة طاهرا ثم ينظر إن كان على بدنه عين نجاسة تنجست المياه كلها، وإن لم يكن عين نجاسة صارت المياه كلها مستعملا إلى آخر الفروع.
وهذا صريح في استعمال جميع الماء عند محمد بالاغتسال فيه.
وقال الإمام القاضي أبو زيد الدبوسي في الأسرار: في الكلام على حديث
"لا يبولن أحدكم في الماء" إلى آخره قال من قال إن الماء المستعمل طاهر طهور لا يجعل الاغتسال فيه حراما، وكذلك من قال طاهر غير طهور؛ لأن المذهب عنده أن الماء المستعمل إذا وقع في ماء آخر لم يفسده حتى يغلب عليه بمنزلة اللبن يقع فيه وقدر ما يلاقي بدن المستعمل يصير مستعملا، وذلك القدر من جملة ما يغتسل فيه عادة يكون أقل مما فضل عن ملاقاة بدنه فلا يفسد ويبقى طهورا لذلك ولا يحرم فيه الاغتسال إلا أن يحكم بنجاسة الغسالة فيفسد الكل، وإن كان أكثر من الغسالة كقطرة خمر تقع في حب إلا أن محمدا يقول لما اغتسل في الماء القليل صار الكل مستعملا حكما ا هـ.
فهذه العبارة كشفت اللبس وأوضحت كل تخمين وحدس، فإنها أفادت أن مقتضى مذهب محمد أن الماء لا يصير مستعملا باختلاط القليل من الماء المستعمل إلا أن محمدا حكم بأن الكل صار مستعملا حكما لا حقيقة فما في البدائع محمول على أن مقتضى مذهب محمد عدم الاستعمال إلا أنه يقول بخلافه.
وفي الخلاصة رجل توضأ في طست ثم صب ذلك الماء في بئر ينزح منه الأكثر من عشرين دلوا ومما صب فيه عند محمد وعند أبي حنيفة وأبي يوسف ينزح ماء البئر كله؛ لأنه نجس عندهما. ا هـ.

 

ج / 1 ص -165-       ...............................
_________________
وهذا يفيد صيرورة ماء البئر مستعملا بصب الماء القليل المستعمل عليه فبالأولى إذا توضأ فيها أو اغتسل قلت قد وقع في جواز الوضوء من الفساقي الصغار الموضوعة في المدارس كلام كثير بين الحنفية من الطلبة والأفاضل في عصرنا وقبله وقد ألف الشيخ العلامة قاسم فيها رسالة وسماها رفع الاشتباه عن مسألة المياه.
واستدل فيها بما ذكرناه عن البدائع ووافقه على ذلك بعض أهل عصره وأفتى به وتعقبه البعض الآخر وألف فيها رسالة وسماها زهر الروض في مسألة الحوض ونبه عليها في شرح منظومة ابن وهبان. وقال لا تغتر بما ذكره شيخنا العلامة قاسم واستند إلى ما ذكرناه عن الأسرار وفتاوى قاضي خان.
والعبد الضعيف إن شاء الله تعالى يكشف لك عن حقيقة الحال بقدر الوسع والإمكان وجهد المقل دموعه فأقول: وبالله التوفيق إن ما ذكره في البدائع صريح في عدم صيرورة الماء القليل مستعملا باختلاط المستعمل الأقل منه به، وكذا ما ذكره الشارحون كالزيلعي والمحقق الكمال والسراج الهندي في بحث الماء المقيد كما نقلناه صريح في ذلك.
وأما ما ذكره الدبوسي في الأسرار وما ذكره في الخلاصة وغيرها من نزح عشرين دلوا وما ذكره الأكمل وشراح الهداية من كونه يفسد عند الكل وما ذكره القاضي الإسبيجابي والولوالجي عن محمد فكله مبني على رواية ضعيفة عن محمد لا على الصحيح من مذهب محمد وسيظهر لك صدق هذه الدعوى الصادقة بالبينة العادلة.
قال في المحيط وإذا وقع الماء المستعمل في البئر يفسد الماء وينزح كله عند أبي يوسف؛ لأنه نجس وعند محمد لا يفسد ويجوز التوضؤ به ما لم يغلب على الماء، وهو

 

ج / 1 ص -166-       ...............................
_________________
الصحيح؛ لأن الماء المستعمل طاهر غير طهور فصار كالماء المقيد إذا اختلط بالماء المطلق ا هـ. بلفظه.
وقال الشيخ العلامة المحقق سراج الدين الهندي في شرح الهداية: إذا وقع الماء المستعمل في البئر لا يفسد عند محمد ويجوز الوضوء به ما لم يغلب على الماء، وهو الصحيح كالماء المقيد إذا اختلط بالماء المطلق.
وفي التحفة يجوز الوضوء به ما لم يغلب على الماء على المذهب المختار، وإذا وقع الماء المستعمل في الماء المطلق القليل قال بعضهم: لا يجوز الوضوء به بخلاف بول الشاة مع أن كلا منهما طاهر عند محمد.
والفرق له أن الماء المستعمل من جنس ماء البئر فلا يستهلك فيه والبول ليس من جنسه فيعتبر الغالب فيه. وفي فتاوى قاضي خان لو صب الماء المستعمل في بئر ينزح منها عشرون دلوا؛ لأنه طاهر عنده، وكان دون الفأرة، وهذا على القول الذي لا يجوز استعمال ماء البئر ا هـ. كلام العلامة السراج.
فقد استفيد من هذا فوائد منها أن المشايخ اختلفوا في الماء القليل المستعمل إذا اختلط بالماء المطلق الأكثر منه القليل في نفسه فمنهم من قال يصير الكل مستعملا عند محمد فيحتاج إلى الفرق بينه وبين بول الشاة.
فأفاد الفرق بقوله، والفرق له إلى آخره، وهي الفائدة الثانية ومنهم من قال لا يصير مستعملا ما لم يغلب على المطلق وصححه صاحب المحيط والعلامة كما رأيت ونقل العلامة عن التحفة أنه المختار.
ومنها حمل ما نقله قاضي خان وغيره من نزح عشرين دلوا على القول الضعيف أما على القول الصحيح فلا ينزح شيء فإذا علمت هذا تعين عليك حمل قول من نقل عدم الجواز على القول الضعيف لا الصحيح كما فعله العلامة.
وأما ما في كثير من الكتب من أن الجنب إذا أدخل يده أو رجله في الماء فسد الماء، فهذا محمول على الرواية القائلة بنجاسة الماء المستعمل لا على المختارة للفتوى؛ لأن ملاقاة النجس للماء القليل تقتضي نجاسته لا ملاقاة الطاهر له.

 

ج / 1 ص -167-       وقد كشف عن هذا ختام المحققين العلامة كمال الدين بن الهمام في شرح الهداية حجاب الأستار فقال حوضان صغيران يخرج الماء من أحدهما، ويدخل في الآخر فتوضأ في خلال ذلك جاز؛ لأنه جار، وكذا إذا قطع الجاري من فوق وقد بقي جري الماء كان جائزا أن يتوضأ بما يجري في النهر.
وذكر في فتاوى قاضي خان في المسألة الأولى قال: والماء الذي اجتمع في الحفيرة الثانية فاسد، وهذا مطلقا إنما هو بناء على كون المستعمل نجسا وكذا كثير من أشباه هذا، فأما على المختار من رواية أنه طاهر غير طهور فلا فلتحفظ ليفرع عليها ولا يفتى بمثل هذه الفروع ا هـ كلام المحقق.
ومن هنا يعلم أن فهم المسائل على وجه التحقيق يحتاج إلى معرفة أصلين أحدهما أن إطلاقات الفقهاء في الغالب مقيدة بقيود يعرفها صاحب الفهم المستقيم الممارس للأصول والفروع، وإنما يسكتون عنها اعتمادا على صحة فهم الطالب.
والثاني: أن هذه المسائل اجتهادية معقولة المعنى لا يعرف الحكم فيها على الوجه التام إلا بمعرفة وجه الحكم الذي بني عليه وتفرع عنه، وإلا فتشتبه المسائل على الطالب ويحار ذهنه فيها لعدم معرفة الوجه والمبنى ومن أهمل ما ذكرناه حار في الخطأ والغلط، وإذا عرفت هذا ظهر لك ضعف من يقول في عصرنا إن الماء المستعمل إذا صب على الماء المطلق وكان الماء المطلق غالبا يجوز الوضوء بالكل.
وإذا توضأ في فسقية صار الكل مستعملا إذ لا معنى للفرق بين المسألتين، وما قد يتوهم في الفرق من أن في الوضوء يشيع الاستعمال في الجميع بخلافه في الصب مدفوع بأن الشيوع والاختلاط في الصورتين سواء بل لقائل أن يقول إلقاء الغسالة من خارج أقوى تأثيرا من غيره لتعين المستعمل فيه بالمعاينة والتشخيص وتشخص الانفصال وبالجملة فلا يعقل فرق بين الصورتين من جهة الحكم.
فالحاصل أنه يجوز الوضوء من الفساقي الصغار ما لم يغلب على ظنه أن الماء المستعمل أكثر أو مساو ولم يغلب على ظنه وقوع نجاسة.

 

ج / 1 ص -168-       ...............................
_________________
قال العلامة قاسم: في رسالته، فإن قلت إدا تكرر الاستعمال قد يجمع ويمنع قلت الظاهر عدم اعتبار هذا المعنى في النجس فكيف بالطاهر.
قال في المبتغى يعني بالغين المعجمة قوم يتوضئون صفا على شط النهر جاز فكذا في الحوض؛ لأن حكم ماء الحوض في حكم ماء جار ا هـ بلفظه.
قال العبد الضعيف: الظاهر أنه يجمع ويمنع. وأما ما استشهد به من عبارة المبتغى فلا يمس محل النزاع؛ لأن كلامنا في الحوض الصغير الذي لا يكون في حكم الجاري، وما في المبتغى مصور في الحوض الكبير بدليل قوله؛ لأن حكم ماء الحوض في حكم ماء جار.
وقد نقل المحقق العلامة كمال الدين بن الهمام عبارة المبتغى ثم قال: وإنما أراد الحوض الكبير بالضرورة وأيضا ما في المبتغى مفرع على القول بنجاسة الماء المستعمل لا على القول بطهارته بدليل أن الحدادي في شرح القدوري ذكر ما في المبتغى تفريعا على القول بنجاسة الماء المستعمل.
وكلامنا هنا على القول بطهارته ثم رأيت العلامة ابن أمير حاج في شرحه على منية المصلي قال في قول صاحب المنية. وعن الفقيه أبي جعفر لو توضأ في أجمة القصب، فإن كان لا يخلص بعضه إلى بعض جاز قال ما نصه، وإنما قيد الجواز بالشرط المذكور؛ لأنه لو كان يخلص بعضه إلى بعض لا يجوز كما هو المفهوم المخالف لجواب المسألة لكن على القول بنجاسة الماء المستعمل.
أما على طهارته فلا بل يجوز ما لم يغلب على ظنه أن القدر الذي يغترفه منه لإسقاط فرض من مسح أو غسل ماء مستعمل أو ماء اختلط بماء مستعمل مساو له أو غالب عليه ا هـ.
والأجمة محركة الشجر الكثير الملتف ثم قال أيضا واتصال الزرع بالزرع لا يمنع اتصال الماء بالماء وإن كان مما يخلص فيجوز على الرواية المختارة في طهارة المستعمل بالشرط الذي سلف ولا يجوز على القول بنجاسته ا هـ.

 

ج / 1 ص -169-       أو بماء دائم فيه نجس إن لم يكن عشرا في عشر
_________________
ثم ذكر أيضا مسائل على هذا المنوال، وهو صريح فيما قدمناه من جواز الوضوء بالماء الذي اختلط به ماء مستعمل قليل.
ويدل عليه أيضا ما ذكره الشيخ سراج الدين قارئ الهداية في فتاويه التي جمعها تلميذه ختام المحققين الكمال بن الهمام بما لفظه سئل عن فسقية صغيرة يتوضأ فيه الناس وينزل فيها الماء المستعمل وفي كل يوم ينزل فيها ماء جديد هل يجوز الوضوء فيها أجاب إذا لم يقع فيها غير الماء المذكور لا يضر ا هـ يعني: إذا وقعت فيها نجاسة تنجست لصغرها.
" قوله: أو بماء دائم فيه نجس إن لم يكن عشرا في عشر " أي لا يتوضأ بماء ساكن وقعت فيه نجاسة مطلقا سواء تغير أحد أوصافه أو لا ولم يبلغ الماء عشرة أذرع في عشرة.
اعلم أن العلماء أجمعوا على أن الماء إذا تغير أحد أوصافه بالنجاسة لا تجوز الطهارة به قليلا كان الماء أو كثيرا جاريا كان أو غير جار هكذا نقل الإجماع في كتبنا، وممن نقله أيضا النووي في شرح المهذب عن جماعات من العلماء، وإن لم يتغير بها.
فاتفق عامة العلماء على أن القليل ينجس بها دون الكثير لكن اختلفوا في الحد الفاصل بين القليل والكثير فقال مالك إن تغير أحد أوصافه بها، فهو قليل لا يجوز الوضوء به، وإلا فهو كثير وحينئذ يختلف الحال بحسب اختلاف النجاسة في الكم.
وقال الشافعي: إذا بلغ الماء قلتين فهو كثير فيجوز الوضوء به، وإلا فهو قليل لا يجوز الوضوء به. وقال أبو حنيفة: في ظاهر الرواية عنه يعتبر فيه أكبر رأي المبتلى به إن غلب على ظنه أنه بحيث تصل النجاسة إلى الجانب الآخر لا يجوز الوضوء وإلا جاز وممن نص على أنه ظاهر المذهب شمس الأئمة السرخسي في المبسوط وقال إنه الأصح.
وقال الإمام الرازي في أحكام القرآن في سورة الفرقان: إن مذهب أصحابنا أن كل ما تيقنا فيه جزءا من النجاسة أو غلب على الظن ذلك لا يجوز الوضوء به سواء كان جاريا أو لا. ا هـ .

 

ج / 1 ص -170-       ...............................
_________________
وقال الإمام أبو الحسن الكرخي في مختصره وما كان من المياه في الغدران أو في مستنقع من الأرض وقعت فيه نجاسة نظر المستعمل في ذلك، فإن كان في غالب رأيه أن النجاسة لم تختلط بجميعه لكثرته توضأ من الجانب الذي هو طاهر عنده في غالب رأيه في إصابة الطاهر منه وما كان قليلا يحيط العلم أن النجاسة قد خلصت إلى جميعه أو كان ذلك في غالب رأيه لم يتوضأ منه ا هـ.
وقال ركن الإسلام أبو الفضل عبد الرحمن الكرماني في شرح الإيضاح واختلفت الروايات في تحديد الكثير: والظاهر عن محمد أنه عشر في عشر والصحيح عن أبي حنيفة أنه لم يوقت في ذلك بشيء، وإنما هو موكول إلى غلبة الظن في خلوص النجاسة ا هـ.
وقال الحاكم الشهيد في الكافي: الذي هو جمع كلام محمد قال أبو عصمة: كان محمد بن الحسن يوقت عشرة في عشرة ثم رجع إلى قول أبي حنيفة وقال لا أوقت فيه شيئا ا هـ.
وقال الإمام الإسبيجابي في شرح مختصر الطحاوي: ثم الحد الفاصل بين القليل والكثير عند أصحابنا هو الخلوص، وهو أن يخلص بعضه من جانب إلى جانب ولم يفسر الخلوص في رواية الأصول. وسئل محمد عن حد الحوض فقال مقدار مسجدي فذرعوه فوجدوه ثمانية في ثمانية وبه أخذ محمد بن سلمة وقال بعضهم: مسحوا مسجد محمد فكان داخله ثمانيا في

 

ج / 1 ص -171-       ...............................
_________________
ثمان وخارجه عشرا في عشر ثم رجع محمد إلى قول أبي حنيفة وقال لا أوقت فيه شيئا ا هـ.
وفي معراج الدراية الصحيح عن أبي حنيفة أنه لم يقدر في ذلك شيئا، وإنما قال هو موكول إلى غلبة الظن في خلوص النجاسة من طرف إلى طرف.
وهذا أقرب إلى التحقيق؛ لأن المعتبر عدم وصول النجاسة وغلبة الظن في ذلك تجري مجرى اليقين في وجوب العمل كما إذا أخبر واحد بنجاسة الماء وجب العمل بقوله، وذلك يختلف بحسب اجتهاد الرائي وظنه ا هـ. وكذا في شرح المجمع والمجتبى وفي الغاية ظاهر الرواية عن أبي حنيفة اعتباره بغلبة الظن، وهو الأصح ا هـ. وفي الينابيع قال أبو حنيفة: الغدير العظيم هو الذي لا يخلص بعضه إلى بعض ولم يفسره في ظاهر الرواية وفوضه إلى رأي المبتلى به، وهو الصحيح وبه أخذ الكرخي ا هـ. وهكذا في أكثر كتب أئمتنا فثبت بهذه النقول المعتبرة عن مشايخنا المتقدمين مذهب إمامنا الأعظم أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رضي الله عنهم أجمعين فتعين المصير إليه.
وأما ما اختاره كثير من مشايخنا المتأخرين بل عامتهم كما نقله في معراج الدراية من اعتبار العشر في العشر فقد علمت أنه ليس مذهب أصحابنا، وأن محمدا، وإن كان قدر به رجع عنه كما نقله الأئمة الثقات الذين هم أعلم بمذهب أصحابنا.
فإن قلت إن في الهداية وكثير من الكتب أن الفتوى على اعتبار العشر في العشر واختاره أصحاب المتون فكيف ساغ لهم ترجيح غير المذهب قلت لما كان مذهب أبي حنيفة التفويض إلى رأي المبتلى به، وكان الرأي يختلف بل من الناس من لا رأي له اعتبر المشايخ العشر في العشر توسعة وتيسيرا على الناس، فإن قلت: هل يعمل بما صح من المذهب أو بفتوى المشايخ قلت يعمل بما صح من المذهب.
فقد قال الإمام أبو الليث في نوازله سئل أبو نصر عن مسألة وردت عليه ما تقل رحمك الله وقعت عندك كتب أربعة كتاب إبراهيم بن رستم وأدب القاضي

 

ج / 1 ص -172-       ...............................
_________________
عن الخصاف وكتاب المجرد وكتاب النوادر من جهة هشام فهل يجوز لنا أن نفتي منها أو لا وهذه الكتب محمودة عندك فقال ما صح عن أصحابنا فذلك علم محبوب مرغوب فيه مرضي به.
وأما الفتيا، فإني لا أرى لأحد أن يفتي بشيء لا يفهمه ولا يتحمل أثقال الناس، فإن كانت مسائل قد اشتهرت وظهرت وانجلت عن أصحابنا رجوت أن يسع الاعتماد عليها في النوازل اهـ.
وعلى تقدير عدم رجوع محمد عن هذا التقدير فما قدر به لا يستلزم تقديره به إلا في نظره، وهو لا يلزم غيره، وهذا؛ لأنه لما وجب كونه ما استكثره المبتلى فاستكثار واحد لا يلزم غيره بل يختلف باختلاف ما يقع في قلب كل إنسان، وليس هذا من قبيل الأمور التي يجب فيها على العامي تقليد المجتهد إليه أشار في فتح القدير ويؤيده ما في شرح الزاهدي عن الحسن.
وأصح حده ما لا يخلص بعض الماء إلى بعض بظن المبتلى به واجتهاده ولا يناظر المجتهد فيه ا هـ. فعلم من هذا أن التقدير بعشر في عشر لا يرجع إلى أصل شرعي يعتمد عليه كما قاله محيي السنة.
فإن قلت قال في شرح الوقاية، وإنما قدر به بناء على قوله صلى الله عليه وسلم
"من حفر بئرا فله حولها

 

ج / 1 ص -173-       ...............................
_________________
أربعون ذراعا" فيكون له حريمها من كل جانب عشرة ففهم من هذا أنه إذا أراد آخر أن يحفر في حريمها بئرا يمنع؛ لأنه ينجذب الماء إليها وينقص الماء في البئر الأولى، وإذا أراد أن يحفر بئر بالوعة يمنع أيضا السراية النجاسة إلى البئر الأولى وينجس ماؤها.
ولا يمنع فيما وراء الحريم وهو عشر في عشر فعلم أن الشرع اعتبر العشر في العشر في عدم سراية النجاسة حتى لو كانت النجاسة تسري يحكم بالمنع قلت هو مردود من ثلاثة أوجه:
الأول: أن كون حريم البئر عشرة أذرع من كل جانب قول البعض والصحيح أنه أربعون من كل جانب كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
الثاني: أن قوام الأرض أضعاف قوام الماء فقياسه عليها في مقدار عدم السراية غير مستقيم.
الثالث: أن المختار المعتمد في البعد بين البالوعة والبئر نفوذ الرائحة إن تغير لونه أو ريحه أو طعمه تنجس، وإلا فلا هكذا في الخلاصة وفتاوى قاضي خان وغيرهما.
وصرح في التتارخانية أن اعتبار العشر في العشر على اعتبار حال أراضيهم والجواب يختلف باختلاف صلابة الأرض ورخاوتها وحيث اختار في المتن اعتبار العشر لا بأس بإيراد تفاريعه والتكلم عليها، فنقول: اختلف المشايخ في الذراع على ثلاثة أقوال.
ففي التجنيس المختار ذراع الكرباس واختلف فيه ففي كثير من الكتب أنه ست قبضات ليس فوق كل قبضة إصبع قائمة فهو أربعة وعشرون إصبعا بعدد حروف لا إله إلا الله محمد رسول الله والمراد بالإصبع القائمة ارتفاع الإبهام كما في غاية البيان وفي فتاوى الولوالجي أن ذراع الكرباس سبع قبضات ليس فوق كل قبضة إصبع قائمة وفي فتاوى

 

ج / 1 ص -174-       ...............................
_________________
قاضي خان وغيرها الأصح ذراع المساحة، وهو سبع قبضات فوق كل قبضة إصبع قائمة وفي المحيط والكافي الأصح أنه يعتبر في كل زمان ومكان ذراعهم من غير تعرض للمساحة والكرباس والأقوال الكل في المربع.
فإن كان الحوض مدورا ففي. الظهيرية يعتبر ستة وثلاثون، وهو الصحيح، وهو مبرهن عند الحساب وفي غيرها المختار المفتى به ستة وأربعون كيلا لعسر رعاية الكسر وفي المحيط الأحوط اعتبار ثمانية وأربعين وفي فتح القدير والكل تحكمات غير لازمة إنما الصحيح ما قدمناه من عدم التحكم بتقدير معين.
وفي الخلاصة وصورة الحوض الكبير المقدر بعشرة في عشرة أن يكون من كل جانب من جوانب الحوض عشرة وحول الماء أربعون ذراعا ووجه الماء مائة ذراع هذا مقدار الطول والعرض. ا هـ.
وأما العمق ففي الهداية والمعتبر في العمق أن يكون بحال لا ينحسر بالاغتراف و هو الصحيح أي لا ينكشف حتى لو انكشف ثم اتصل بعد ذلك لا يتوضأ منه، وعليه الفتوى كذا في معراج الدراية، وفي البدائع إذا أخذ الماء وجه الأرض يكفي ولا تقدير فيه في ظاهر الرواية، وهو الصحيح ا هـ. وهو الأوجه لما عرف من أصل أبي حنيفة.
وفي الفتاوى غدير كبير لا يكون فيه الماء في الصيف وتروث فيه الدواب والناس ثم يملأ في الشتاء ويرفع منه الجمدان كان الماء الذي يدخله يدخل على مكان نجس فالماء والجمد نجس، وإن كان كثيرا بعد ذلك، وإن كان دخل في مكان طاهر واستقر فيه حتى صار عشرا في عشر ثم انتهى إلى النجاسة، فالماء والجمد طاهران ا هـ.
وهذا بناء على ما ذكروا من الماء النجس إذا دخل على ماء الحوض الكبير لا ينجسه، وإن كان الماء النجس غالبا على الحوض؛ لأن كل ما يتصل بالحوض الكبير يصير منه فيحكم بطهارته وعلى هذا فماء بركة الفيل بالقاهرة طاهر إذا كان ممره طاهرا أو أكثر ممره على ما عرف في ماء السطح؛ لأنها لا تجف كلها بل لا يزال بها غدير عظيم فلو أن الداخل اجتمع قبل أن يصل إلى ذلك الماء الكثير بها في مكان نجس حتى صار عشرا في عشر ثم اتصل بذلك الماء الكثير كان الكل طاهرا هذا إذا كان الغدير الباقي محكوما بطهارته كذا في فتح القدير.

 

ج / 1 ص -175-       ...............................
_________________
وفي التجنيس، وإذا كان الماء له طول وعمق وليس له عرض ولو قدر يصير عشرا في عشر فلا بأس بالوضوء فيه تيسيرا على المسلمين ثم العبرة لحالة الوقوع، فإن نقص بعده لا ينجس وعلى العكس لا يطهر؛ ولذا صحح في الاختيار وغيره ما في التجنيس.
قال في فتح القدير، وهذا تفريع على التقدير بعشر ولو فرعنا على الأصح ينبغي أن يعتبر أكبر الرأي لو ضم ومثله لو كان له عمق بلا سعة ولو بسط بلغ عشرا في عشر اختلف فيه ومنهم من صحح جعله كثيرا.
والأوجه خلافه؛ لأن مدار الكثرة عند أبي حنيفة على تحكيم الرأي في عدم خلوص النجاسة إلى الجانب الآخر، وعند تقارب الجوانب لا شك في غلبة الخلوص إليه والاستعمال إنما هو من السطح لا من العمق.
وبهذا يظهر ضعف ما اختاره في الاختيار؛ لأنه إذا لم يكن له عرض فأقرب الأمور الحكم بوصول النجاسة إلى الجانب الآخر من عرضه وبه خالف حكم الكثير إذ ليس حكم الكثير تنجس الجانب الآخر بسقوطها في مقابله بدون تغير وأنت إذا حققت الأصل الذي بيناه قبلت ما وافقه وتركت ما خالفه ا هـ.
وقد يقال إن هذا، وإن كان الأوجه إلا أن المشايخ وسعوا الأمر على الناس وقالوا بالضم كما أشار إليه في التجنيس بقوله تيسيرا على المسلمين.
وفي التجنيس الحوض إذا كان أعلاه عشرا في عشر وأسفله أقل من ذلك، وهو ممتلئ يجوز التوضؤ فيه والاغتسال فيه، وإن نقص الماء حتى صار أقل من عشرة في عشرة لا يتوضأ فيه ولكن يغترف منه ويتوضأ .
وفي الخلاصة ولو كان أعلاه أقل من عشر في عشر وأسفله عشر في عشر ووقعت قطرة خمر أو توضأ منه رجل ثم انتقص الماء وصار عشرا في عشر اختلف المتأخرون فيه.
وينبغي أن يكون الجواب على التفصيل إن كان الماء الذي تنجس في أعلى الحوض أكثر من الماء الذي في أسفله ووقع الماء النجس في الأسفل جملة كان الماء نجسا، ويصير النجس غالبا على الطاهر في وقت واحد.
وإن وقع الماء النجس في أسفل الحوض على التدريج كان طاهرا وقال بعضهم: لا يطهر كالماء القليل إذا وقعت فيه نجاسة ثم انبسط ا هـ. وذكر السراج الهندي أن الأشبه الجواز.

 

ج / 1 ص -176-       ...............................
_________________
وفي التجنيس حوض عشر في عشر إلا أن له مشارع فتوضأ رجل من مشرعة أو اغتسل والماء متصل بألواح المشرعة لا يضطرب لا يجوز التوضؤ به، وإن كان أسفل من الألواح فإنه يجوز وعلله في فتح القدير بأنه في الأول كالحوض الصغير، وفي الثاني حوض كبير مسقف.
وعلى هذا الحوض الكبير إذا جمد ماؤه فنقب فيه إنسان نقبا فتوضأ من ذلك الموضع، فإن كان الماء منفصلا عن الجمد لا بأس به؛ لأنه يصير كالحوض المسقف، وإن كان متصلا لا لأنه صار كالقصعة كذا في التجنيس وغيره.
وفي فتح القدير واتصال القصب بالقصب لا يمنع اتصال الماء ولا يخرجه عن كونه غديرا عظيما، فيجوز لهذا التوضؤ في الأجمة ونحوها ا هـ.
وفي المغرب الأجمة الشجر الملتف والجمع أجم وآجام وقد قدمنا في الكلام في الفساقي مسألة الأجمة فارجع إليه .
ولو تنجس الحوض الصغير ثم دخل فيه ماء آخر وخرج حال دخوله طهر، وإن قل وقيل لا حتى يخرج قدر ما فيه وقيل حتى يخرج ثلاثة أمثاله وصحح الأول في المحيط وغيره قال السراج الهندي وكذا البئر .
واعلم أن عبارة كثير منهم في هذه المسألة تفيد أن الحكم بطهارة الحوض إنما هو إذا كان الخروج حالة الدخول، وهو كذلك فيما يظهر؛ لأنه حينئذ يكون في المعنى جاريا لكن إياك وظن أنه لو كان الحوض غير ملآن فلم يخرج منه شيء في أول الأمر ثم لما امتلأ خرج منه بعضه لاتصال الماء الجاري به أنه لا يكون طاهرا حينئذ إذ غايته أنه عند امتلائه قبل خروج الماء منه نجس فيطهر بخروج القدر المتعلق به الطهارة إذا اتصل به الماء الجاري الطهور كما لو كان ممتلئا ابتداء ماء نجسا ثم خرج منه ذلك القدر لاتصال الماء الجاري به ثم كلامهم يشير إلى أن الخارج منه نجس قبل الحكم على الحوض بالطهارة، وهو كذلك كما هو ظاهر كذا في شرح منية المصلي.
وفي شرح الوقاية، وإذا كان حوض صغير يدخل فيه الماء من جانب ويخرج من جانب يجوز الوضوء في جميع جوانبه وعليه الفتوى من غير تفصيل بين أن يكون أربعا في أربع أو أقل فيجوز أو أكثر فلا يجوز وفي معراج الدراية يفتى بالجواز مطلقا واعتمده في فتاوى قاضي خان وفي فتح القدير أن الخلاف مبني على نجاسة الماء المستعمل.

 

ج / 1 ص -177-       فقولهم في هذه المسألة أنه لا يجوز الوضوء إلا في موضع خروج الماء إنما هو بناء على نجاسة الماء المستعمل.
وأما على المختار من طهارة الماء المستعمل فالجواب في هذه المسألة كما تقدم في نظائرها أنه يجوز الوضوء فيها ما لم يغلب على ظن المتوضئ أن ما يغترفه لإسقاط فرض ماء مستعمل أو ما يخالطه منه مقدار نصفه فصاعدا فكن على هذا معتمدا كذا في شرح منية المصلي للعلامة ابن أمير حاج رحمه الله تعالى.
واعلم أن أكثر التفاريع المذكورة في الكتب مبنية على اعتبار العشر في العشر فأما على المختار من اعتبار غلبة الظن فيوضع مكان لفظ عشر في كل مسألة لفظ كثير أو كبير ثم تجري التفاريع ا هـ.
وسائر المائعات كالماء في القلة والكثرة يعني كل مقدار لو كان ماء تنجس فإذا كان غيره ينجس .
وحيث انتهينا من التفاريع المذكورة في الكتب نرجع إلى بيان الدلائل للأئمة فنقول استدل الإمام مالك رضي الله عنه بقوله صلى الله عليه وسلم الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو لونه أو ريحه.
واستدل الإمام الشافعي رضي الله عنه بقوله صلى الله عليه وسلم إذا بلغ الماء قلتين لا يحمل خبثا.

 

ج / 1 ص -178-       ...............................
_________________
واستدل أبو حنيفة على ما ذكره الرازي في أحكام القرآن بقوله تعالى
{وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ}[لأعراف:157] والنجاسات لا محالة من الخبائث فحرمها الله تحريما مبهما ولم يفرق بين حال اختلاطها وانفرادها بالماء فوجب تحريم استعمال كل ما تيقنا به جزءا من النجاسة، وتكون جهة الحظر من طريق النجاسة أولى من جهة الإباحة؛ لأن الأصل أنه إذا اجتمع المحرم والمبيح قدم المحرم وأيضا لا نعلم بين الفقهاء في سائر المائعات إذا خالطه اليسير من النجاسة كاللبن والأدهان أن حكم اليسير في ذلك كحكم الكثير وأنه محظور عليه أكل ذلك وشربه فكذا الماء بجامع لزوم اجتناب النجاسات.
ويدل عليه من السنة قوله صلى الله عليه وسلم
"لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه من الجنابة" وفي لفظ آخر "ولا يغتسلن فيه من جنابة" ومعلوم أن البول القليل في الماء الكثير لا يغير لونه ولا طعمه ولا رائحته وقد منع منه النبي صلى الله عليه وسلم ويدل عليه أيضا قوله صلى الله عليه وسلم "إذا استيقظ أحدكم من منامه فليغسل يده ثلاثا قبل أن يدخلها الإناء، فإنه لا يدري أين باتت يده" فأمر بغسل اليد احتياطا من نجاسة أصابته من موضع الاستنجاء ومعلوم أنها لا تغير الماء ولولا أنها مفسدة عند التحقيق لما كان للأمر بالاحتياط معنى وحكم النبي صلى الله عليه وسلم بنجاسة ولوغ الكلب بقوله "طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسل سبعا"، وهو لا يغير ا هـ.

 

ج / 1 ص -179-       ...............................
_________________
فالحاصل أنه حيث غلب على الظن وجود نجاسة في الماء لا يجوز استعماله أصلا بهذه الدلائل لا فرق بين أن يكون قلتين أو أكثر أو أقل تغير أو لا.
وهذا مذهب أبي حنيفة والتقدير بشيء دون شيء لا بد فيه من نص ولم يوجد وفي بعض هذا الاستدلال كلام نذكره إن شاء الله تعالى، وأما ما استدل به مالك رضي الله عنه فهو مع الاستثناء ضعيف برشدين بن سعد صرح بضعفه جماعة منهم النووي في شرح المهذب، وأما بدون الاستثناء فقد ورد من رواية أبي داود والترمذي من حديث الخدري قيل يا رسول الله أنتوضأ من بئر بضاعة، وهي بئر يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن فقال صلى الله عليه وسلم
"الماء طهور لا ينجسه شيء" وحسنه الترمذي وقال الإمام أحمد هو حديث صحيح ورواه البيهقي عن أبي يحيى قال دخلت على سهل بن سعد في نسوة فقال لو أني أسقيتكم من بئر بضاعة لكرهتم ذلك وقد والله سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي منها قلنا هذا ورد في بئر بضاعة بكسر الباء وضمها كذا في الصحاح وفي المغرب بالكسر لا غير وماؤها كان جاريا في البساتين على ما أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار بسنده إلى الواقدي قال البيهقي الواقدي لا يحتج بما يسنده فضلا عما يرسله قلنا قد أثنى عليه الدراوردي وأبو بكر بن

 

ج / 1 ص -180-       ...............................
_________________
العربي وابن الجوزي وجماعة.
والدليل على أنه كان جاريا أن الماء الراكد إذا وقع فيه عذرة الناس والجيف والمحائض والنتن تغير طعمه وريحه ولونه ويتنجس بذلك إجماعا وليس في الحديث استثناء فدل ذلك على جريان مائها.
فإن قيل نقل النووي في شرح المهذب عن أبي داود أنه قال مددت ردائي على بئر بضاعة ثم ذرعتها فإذا عرضها ستة أذرع وسألت الذي فتح لي باب البستان هل غير بناؤها عما كان عليه فقال لا قال رأيت فيها ماء متغيرا.
قلنا ما ذكره الطحاوي إثبات وما نقل أبو داود عن البستاني نفي والإثبات مقدم على النفي والبستاني الذي فتح الباب مجهول الشخص والحال عنده فكيف يحتج بقوله؛ ولأن أبا داود توفي بالبصرة في النصف من شوال سنة خمس وسبعين ومائتين فبينه وبين زمن النبي صلى الله عليه وسلم مدة كثيرة ودليل التغير غالب، وهو مضي السنين المتطاولة.

 

ج / 1 ص -181-       ...............................
_________________
قال النووي: في شرح المهذب وهذه صفتها في زمن أبي داود ولا يلزم أن تكون كانت هكذا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الخطابي: قد توهم بعضهم أن إلقاء العذرة والجيف وخروق الحيض في بئر بضاعة كان عادة وتعمدا، وهذا لا يظن بذمي ولا وثني فضلا عن مسلم فلم يزل من عادة الناس قديما وحديثا مسلمهم وكافرهم تنزيه الماء وصونه عن النجاسات فكيف يظن بأهل ذلك الزمان وهم أعلى طبقات أهل الدين وأفضل جماعات المسلمين والماء ببلادهم أعز والحاجة إليه أمس من أن يكون هذا صنيعهم بالماء وامتهانهم له وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من تغوط في موارد الماء ومشارعه فكيف من اتخذ عيون الماء ومنابعه مطرح الأنجاس، وإنما كان ذلك من أجل أن هذه البئر موضعها في حدور من الأرض وكانت السيول تمسح هذه الأقذار من الطرق والأفنية وتحملها فتلقيها فيه، وكان الماء لكثرته وغزارته لا يؤثر فيه، وكان جوابه عليه السلام لهم إن الماء الكثير الذي صفته هذه في الكثرة والغزارة لا تؤثر فيه النجاسة؛ لأن السؤال إنما وقع عن ذلك، والجواب إنما يقع عنه ا هـ.
وقال الإمام أبو نصر البغدادي المعروف بالأقطع لا يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يتوضأ من بئر هذه صفتها مع نزاهته وإيثاره الرائحة الطيبة ونهيه عن الامتخاط في الماء، فدل أن ذلك كان يفعل في الجاهلية فشك المسلمون في أمرها فبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا أثر لذلك مع كثرة النزح ا هـ .

 

ج / 1 ص -182-       ...............................
_________________
وقال الطحاوي: إن معنى قوله الماء لا ينجسه شيء والله أعلم. أنه لا يبقى نجسا بعد إخراج النجاسة منه بالنزح، وليس هو على حال كون النجاسة فيها، وإنما سألوا عنه؛ لأنه موضع مشكل؛ لأن حيطان البئر لم تغسل وطينها لم يخرج فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك يعفى للضرورة مثل قوله: صلى الله عليه وسلم
"المؤمن لا ينجس" ليس معناه أنه لا يتنجس، وإن أصابته النجاسة.
فإن قيل العبرة لعموم اللفظ وهو لا ينجسه شيء لا لخصوص السبب، وهو بئر بضاعة فكيف خص هذا العموم بوروده في بئر بضاعة قلنا إنما لا يخص عموم اللفظ بسببه إذا لم يكن المخصص مثله في القوة، وهاهنا قد ورد ما يخصصه، وهو يساويه في القوة، وهو حديث المستيقظ، وحديث
"لا يبولن أحدكم"، وإنما خصصناه بهذين الحديثين دفعا للتناقض فكان من باب الحمل لدفع التناقض لا من باب التخصيص بالسبب؛ ولأنا ما خصصناه ببئر بضاعة بل عدينا حكمه منها إلى ما هو في معناها من الماء الجاري، وترك عموم ظاهر الحديث لدفع التناقض واجب كذا ذكره السراج الهندي وصاحب المعراج.
وتعقبه في فتح القدير بأنه لا تعارض؛ لأن حاصل النهي عن البول في الماء الدائم تنجس الماء الدائم في الجملة لا كل ماء إذ ليست اللام فيه للاستغراق للإجماع على أن الكثير لا ينجس إلا بتغيره بالنجاسة، وحاصله أن الماء طهور لا ينجسه شيء و عدم تنجس الماء إلا بالتغير بحسب ما هو المراد المجمع عليه، وإلا تعارض بين مفهومي هاتين القضيتين.
وأما حديث المستيقظ من منامه، فليس فيه تصريح بتنجس الماء بتقدير كون اليد نجسة بل ذلك تعليل منا للنهي المذكور، وهو غير لازم أعني تعليله بتنجس الماء عينا بتقدير نجاستهما لجواز كونه أعم من النجاسة والكراهة فنقول: نهي لتنجيس الماء بتقدير كونها متنجسة بما يغير أو للكراهة بتقدير كونها بما لا يغير وأين هو من ذلك الصريح الصحيح لكن يمكن إثبات

 

ج / 1 ص -183-       ...............................
_________________
المعارض بقوله صلى الله عليه وسلم
"طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب" الحديث.
فإنه يقتضي نجاسة الماء ولا يغير بالولوغ فتعين ذلك الحمل والله سبحانه وتعالى أعلم. ا هـ.
وقد يقال: إن اللام في حديث "لا يبولن أحدكم في الماء" للعموم حتى حرم البول في الماء القليل والكثير جميعا.
فاختصت القضية الثانية بالقليل بدليل يوجب تخصيصها حتى لم يحرم الاغتسال في الماء الدائم الكثير مثل الغدير العظيم هكذا ذكر في معراج الدراية معزيا إلى شيخه العلامة فعلى هذا حاصل النهي عن البول في الماء تنجس كل ماء راكد فعارض قوله لا ينجسه شيء وكون الإجماع أن الكثير لا يتنجس إلا بالتغير أمر آخر خارج عن مفهوم الحديث، وإثبات التعارض إنما هو باعتبار المفهومين.
وممن صرح بأن ماء بئر بضاعة كان كثيرا الشافعي رضي الله عنه.
وأما ما استدل به الشافعي فرواه أصحاب السنن الأربعة عن ابن عمر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسأل عن الماء يكون في الفلاة وما ينوبه من السباع والدواب فقال: "إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث". وأخرجه ابن خزيمة والحاكم في صحيحيهما.
قلنا هذا الحديث ضعيف، وممن ضعفه الحافظ ابن عبد البر والقاضي إسماعيل بن إسحاق وأبو بكر بن العربي المالكيون، ونقل ضعفه في البدائع عن ابن المديني وقال أبو داود: ولا يكاد يصح لواحد من الفريقين حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في تقدير الماء ويلزم منه تضعيف حديث القلتين. وإن كان رواه في كتابه وسكت عنه وكذا ضعفه الغزالي في

 

ج / 1 ص -184-       ...............................
_________________
الإحياء والروياني في البحر والحلية.
قال في البحر هو اختياري واختيار جماعة رأيتهم بخراسان والعراق ذكره النووي كما نقله عنه السراج الهندي. وقال الزيلعي: المخرج، وقد جمع الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد في كتاب الإمام طرق هذا الحديث ورواياته واختلاف ألفاظه وأطال في ذلك إطالة لخص منها تضعيفه له فلذلك أضرب عن ذكره في كتاب الإلمام مع شدة الاحتياج إليه.
ووجهه أن الاضطراب وقع في سنده ومتنه ومعناه أما الأول، فإنه اختلف على أبي أسامة فمرة يقول عن الوليد بن كثير عن محمد بن عباد بن جعفر ومرة عنه عن محمد بن جعفر بن الزبير ومرة يروى عن عبد الله بن عبد الله بن عمر ومرة يروى عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر.

 

ج / 1 ص -185-       ...............................
_________________
وقد أجاب النووي عن هذا بأنه ليس اضطرابا؛ لأن الوليد رواه عن كل من المحمدين فحدث مرة عن أحدهما، ومرة عن الآخر، ورواه أيضا عبد الله وعبيد الله ابنا عبد الله بن عمر عن أبيهما وهما أيضا ثبتان.
وأما الاضطراب في متنه ففي رواية الوليد عن محمد بن جعفر بن الزبيرلم ينجسه شيء. ورواية محمد بن إسحاق بسنده سئل عن الماء يكون في الفلاة فترده السباع والكلاب فقال: إذا كان الماء قلتين لا يحمل الخبث قال البيهقي: وهو غريب. وقال إسماعيل بن عياش عن محمد بن إسحاق الكلاب والدواب ورواه يزيد بن هارون عن حماد بن سلمة فقال الحسن بن الصباح: عنه عن حماد عن عاصم هو ابن المنذر قال دخلت مع عبيد الله بن عبد الله بن عمر بستانا فيه مقر ماء فيه جلد بعير ميت، فتوضأ منه فقلت: أتتوضأ منه وفيه جلد بعير ميت فحدثني عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إذا بلغ الماء قلتين أو ثلاثا لم ينجسه شيء". وروى الدارقطني وابن عدي والعقيلي في كتابه عن القاسم بإسناده إلى النبي صلى الله عليه وسلم إذا بلغ الماء أربعين قلة, فإنه لا يحمل الخبث وضعفه الدارقطني بالقاسم. وروي بإسناد صحيح من جهة روح بن القاسم عن ابن المنكدر عن ابن عمر قال إذا بلغ الماء أربعين قلة لم ينجس وأخرج عن أبي هريرة من جهة بشر بن السري عن ابن لهيعة قال إذا كان الماء قدر أربعين قلة

 

ج / 1 ص -186-       ...............................
_________________
لم يحمل خبثا قال الدارقطني: كذا قال وخالفه غير واحد رووه عن أبي هريرة فقالوا أربعين غربا ومنهم من قال أربعين دلوا وهذا الاضطراب يوجب الضعف، وإن وثقت الرجال. وأجاب النووي عن هذا الاضطراب.
أما عن الشك في قوله قلتين أو ثلاثا، فهي رواية شاذة غير ثابتة، فهي متروكة، فوجودها كعدمها لكن الطحاوي أثبتها بإسناده في شرح معاني الآثار.
وأما ما روي من أربعين قلة أو أربعين غربا فغير صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما نقل أربعين قلة عن عبد الله بن عمرو بن العاص وأربعين غربا أي دلوا عن أبي هريرة وحديث النبي صلى الله عليه وسلم مقدم على غيره.
قال النووي: وهذا ما نعتمده في الجواب. وأما الاضطراب في معناه فذكر شمس السرخسي وتبعه في الهداية أن معنى قوله لم يحمل خبثا أنه يضعف عن النجاسة فيتنجس كما يقال هو لا يحمل الكل أي لا يطيقه.
وهذا مردود من وجهين ذكرهما النووي في شرح المهذب.
الأول أنه ثبت في رواية صحيحة لأبي داود "إذا بلغ الماء قلتين لم ينجس" فتحمل الرواية الأخرى عليها فمعنى لم يحمل خبثا لم ينجس، وقد قال العلماء أحسن تفسير غريب الحديث أن يفسر بما جاء في رواية أخرى لذلك الحديث.
الثاني أنه صلى الله عليه وسلم جعل القلتين حدا فلو كان كما زعم هذا القائل لكان التقييد بذلك باطلا فإن ما دون القلتين يساوي القلتين في هذا زاد عليه في فتح القدير وقال هذا إن اعتبر مفهوم شرطه وأما إن لم يعتبر مفهوم شرطه فيلزم عدم إتمام الجواب، فإنه حينئذ لا يفيد حكمه إذا زاد على القلتين والسؤال عن ذلك الماء كيفما كان.
والنووي إنما اقتصر على ما ذكره؛ لأنه يقول بأن مفهوم الشرط حجة لكن قال الخبازي: ومعنى قوله إذا بلغ الماء قلتين يعني انتقاصا لا ازديادا، فإن قيل فما فوق القلتين ما لم يبلغ عشرا في عشر، فهو أيضا يضعف عن احتمال النجاسة فما الفائدة في تخصيصه

 

ج / 1 ص -187-       ...............................
_________________
بالقلتين قيل له من الجائز أنه كان يوحي إليه بأن مجتهدا سيجيء ويقول بأن الماء إذا بلغ قلتين لا يحتمل النجاسة فقال النبي صلى الله عليه وسلم ردا لذلك القول ا هـ. وهو كما ترى في غاية البعد.
قال المحقق في فتح القدير: فالمعول عليه الاضطراب في معنى القلة، فإنه مشترك يقال على الجرة والقربة ورأس الجبل.
وما فسر به الشافعي منقطع للجهالة، فإنه قال في مسنده: أخبرني مسلم بن خالد الزنجي عن ابن جريج بإسناد لا يحضرني أنه صلى الله عليه وسلم قال
"إذا كان الماء قلتين لم يحمل خبثا" وقال في الحديث بقلال هجر قال ابن جريج رأيت قلال هجر فالقلة تسع قربتين أو قربتين وشيئا قال الشافعي: رحمه الله تعالى فالاحتياط أن تجعل قربتين ونصفا فإذا كان خمس قرب كبار كقرب الحجاز لم ينجس إلا أن يتغير وهجر بفتح الهاء والجيم قرية بقرب المدينة.
فثبت بهذا أن حديث القلتين ضعيف، فإن قلت: قد صححه ابن ماجه وابن خزيمة والحاكم وجماعة من أهل الحديث قلت من صححه اعتمد بعض طرقه ولم ينظر إلى ألفاظه ومفهومها إذ ليس هذا وظيفة المحدث والنظر في ذلك من وظيفة الفقيه إذ غرضه بعد صحة الثبوت الفتوى والعمل بالمدلول، وقد بالغ الحافظ عالم العرب أبو العباس بن تيمية في تضعيفه وقال يشبه أن يكون الوليد بن كثير غلط في رفع الحديث وعزوه إلى ابن عمر، فإنه

 

ج / 1 ص -188-       ...............................
_________________
دائما يفتي الناس ويحدثهم عن النبي صلى الله عليه وسلم والذي رواه معروف عند أهل المدينة وغيرهم لا سيما عند سالم ابنه ونافع مولاه، وهذا لم يروه عنه لا سالم ولا نافع ولا عمل به أحد من علماء المدينة وذكر عن التابعين ما يخالف هذا الحديث.
ثم قال فكيف تكون هذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عموم البلوى فيها، ولا ينقلها أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان إلا رواية مختلفة مضطربة عن ابن عمر لم يعمل بها أحد من أهل المدينة ولا أهل البصرة ولا أهل الشام ولا أهل الكوفة وأطال رحمه الله تعالى الكلام بما لا يحتمله هذا الموضع ولا يضر الحافظ ما أخرجه الدارقطني عن سالم عن أبيه لضعفه.
وقول النووي بأن حدها هو ما حده رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أوجب الله طاعته وحرم مخالفته.
وحدهم يعني الحنفية مخالف حده صلى الله عليه وسلم مع أنه حد بما لا أصل له ولا ضبط فيه مدفوع بأن ما استدللتم به ضعيف كما تقدم، وما صرنا إليه يشهد له الشرع والعقل.
أما الشرع فقد قدمنا الأحاديث الواردة في ذلك وأما العقل، فإنا نتيقن بعدم وصول النجاسة إلى الجانب الآخر أو يغلب على ظننا والظن كاليقين.
فقد استعملنا الماء الذي ليس فيه نجاسة يقينا وأبو حنيفة لم يقدر ذلك بشيء بل اعتبر غلبة ظن المكلف، فهذا دليل عقلي مؤيد بالأحاديث الصحيحة المتقدمة، فكان العمل به متعينا.
ولأن دليلنا، وهو حديث النهي عن البول في الماء الراكد ثابت في الصحيحين من رواية أبي هريرة وإسلامه متأخر وحديث القلتين حديث ابن عمر وإسلامه متقدم والمتأخر ينسخ المتقدم لو ثبت.

 

ج / 1 ص -189-       وإلا فهو كالجاري
_________________
وقال الشافعي: وأحمد لو زال تغير القلتين بنفسه طهر الماء مع بقاء البول والعذرة وغيرهما من النجاسات، فيكون حينئذ نجاسة البول والعذرة والخمر باعتبار الرائحة واللون والطعم لا لذاتها.
وهذا لا يعقل ولا تشهد له أصول الشرع ولو أضيفت قلة نجسة إلى قلة نجسة عادتا طاهرتين عندهم وهذا يؤدي إلى تنجس الماء الطاهر بقليل النجاسة دون كثيرها؛ لأنهم نجسوا القلة الطاهرة برطل ماء نجس، ولم ينجسوها بقلة نجسة من الماء بل طهروها بها، ويؤدي أيضا إلى تولد طاهر باجتماع نجسين، وهذا مما تحيله العقول .
" قوله: وإلا فهو كالجاري " أي، وإن يكن عشرا في عشر فهو كالجاري فلا يتنجس إلا إذا تغير أحد أوصافه ثم في قوله كالجاري إشارة إلى أنه لا يتنجس موضع الوقوع.
وهو مروي عن أبي يوسف وبه أخذ مشايخ بخارى، وهو المختار عندهم كذا في التبيين.
وقال في فتح القدير: وهو الذي ينبغي تصحيحه فينبغي عدم الفرق بين المرئية وغيرها؛ لأن الدليل إنما يقتضي عند كثرة الماء عدم التنجس إلا بالتغير من غير فصل، وهو أيضا الحكم المجمع عليه، وفي النصاب وعليه الفتوى كذا في شرح منية المصلي وصحح في المبسوط والمفيد أنه يتنجس موضع الوقوع وإليه أشار في القدوري بقوله جاز الوضوء من الجانب الآخر.
وذكر أبو الحسن الكرخي أن كل ما خالطه النجس لا يجوز الوضوء به، ولو كان جاريا، وهو

 

ج / 1 ص -190-       ...............................
_________________
الصحيح قال الزيلعي: فعلى هذا إن ما ذكره المصنف لا يدل على أن موضع الوقوع لا يتنجس؛ لأنه لم يجعله إلا كالجاري فإذا تنجس موضع الوقوع من الجاري فمنه أولى أن يتنجس.
وفي البدائع ظاهر الرواية أنه لا يتوضأ من الجانب الذي وقعت فيه النجاسة، ولكن يتوضأ من الجانب الآخر ومعناه أنه يترك من موضع النجاسة قدر الحوض الصغير ثم يتوضأ كذا فسره في الإملاء عن أبي حنيفة؛ لأنا تيقنا بالنجاسة في ذلك الجانب، وشككنا فيما وراءه.
وعلى هذا قالوا فيمن استنجى في موضع من حوض لا يجزيه أن يتوضأ من ذلك الموضع قبل تحريك الماء.
ولو وقعت الجيفة في وسط الحوض على قياس ظاهر الرواية إن كان بين الجيفة وبين كل جانب من الحوض مقدار ما لا يخلص بعضه إلى بعض يجوز التوضؤ فيه وإلا فلا، وإن كانت غير مرئية بأن بال إنسان أو اغتسل جنب اختلف المشايخ فيه.
قال مشايخ العراق: إن حكمه حكم المرئية حتى لا يتوضأ من ذلك الجانب بخلاف الجاري.
ومشايخنا مما وراء النهر فصلوا بينهما في غير المرئية أنه يتوضأ من أي جانب كان كما قالوا جميعا في الماء الجاري، وهو الأصح؛ لأن غير المرئية لا تستقر في مكان واحد بل ينتقل لكونه مائعا سيالا بطبعه فلم يستيقن بالنجاسة في الجانب الذي يتوضأ منه بخلاف المرئية ا هـ.
وهكذا مشى قاضي خان أنه يترك من موضع النجاسة قدر الحوض الصغير وقدر الحوض الصغير في الكفاية وشرح الهداية بأربع أذرع في أربع وفي الذخيرة عن بعضهم يحرك الماء بيده مقدار ما يحتاج إليه عند الوضوء، فإن تحركت النجاسة لم يستعمل من ذلك الموضع وقال بعضهم: يتحرى في ذلك إن وقع تحريه أن النجاسة لم تخلص إلى هذا الموضع توضأ وشرب منه قال في شرح منية المصلي، وهو الأصح.
وفي معراج الدراية معزيا إلى المجتبى أن الفتوى على جواز الوضوء من موضع الوقوع واختاره مشايخ بخارى لعموم البلوى حتى قالوا يجوز الوضوء من موضع الاستنجاء قبل التحريك.

 

ج / 1 ص -191-       وهو ما يذهب بتبنة، فيتوضأ منه، وإن لم ير اثره، وهو طعم أو لون أو ريح
_________________
" قوله وهو ما يذهب بتبنة " أي الماء الجاري ما يذهب بتبنة وقد توهم بعض المشتغلين أن هذا الحد فاسد؛ لأنه يرد عليه الجمل والسفينة، فإنهما يذهبان بتبن كثير ومنشأ التوهم أن ما موصولة في كلامه وقد وقع مثلها في عبارة ابن الحاجب، فإنه قال الكلام ما يتضمن كلمتين بالإسناد فقيل يرد عليه الورقة والحجر المكتوب عليه كلمتان فأكثر؛ لأن ما موصولة بمعنى الذي لكن الجواب عنهما أن ما ليست موصولة، وإنما هي نكرة موصوفة فالمعنى الجاري ماء بالمد يذهب بتبنة والكلام لفظ يتضمن كلمتين.
وقد اختلف في حد الجاري على أقوال منها ما ذكره المصنف وأصحها أنه ما يعده الناس جاريا كما ذكره في البدائع والتبيين وكثير من الكتب.
" قوله: فيتوضأ منه " أي من الماء الجاري قال الزيلعي ويجوز أن يعود إلى الماء الراكد الذي بلغ عشرا في عشر؛ لأنه يجوز الوضوء به في موضع الوقوع ما لم يتغير في رواية، وهو المختار عندهم.
" قوله: إن لم ير أثره " أي إن لم يعلم أثر النجس فيه ورأى تستعمل بمعنى علم قال الشاعر رأيت الله أكبر كل شيء، وإنما قلنا هذا؛ لأن الطعم والرائحة لا تعلق للبصر بهما، وإنما الطعم للذوق والرائحة للشم .
" قوله: وهو طعم أو لون أو ريح " أي الأثر ما ذكر وحاصله أن الماء الجاري وما هو في حكمه إذا وقعت فيه نجاسة إن ظهر أثرها لا يجوز الوضوء به، وإلا جاز؛ لأن وجود الأثر دليل وجود النجاسة، فكل ما تيقنا فيه نجاسة أو غلب على ظننا ذلك لا يجوز الوضوء به جاريا كان أو غيره؛ لأن الماء الجاري لا يتنجس بوقوع النجاسة فيه كما قد يتوهم.
وظاهر ما في المتون أن الجاري إذا وقعت فيه نجاسة يجوز الوضوء به إن لم ير أثرها سواء كان النجس جيفة مرئية أو غيرها، فإذا بال إنسان فيه فتوضأ آخر من أسفله جاز ما لم يظهر في الجرية أثره.

 

ج / 1 ص -192-       ...............................
_________________
قال محمد في كتاب الأشربة: ولو كسرت خابية خمر في الفرات ورجل يتوضأ أسفل منه فما لم يجد في الماء طعم الخمر أو ريحه أو لونه يجوز الوضوء به وكذا لو استقرت المرئية فيه بأن كانت جيفة إن ظهر أثر النجاسة لا يجوز، وإلا جاز سواء أخذت الجيفة الجرية أو نصفها إنما العبرة لظهور الأثر ويوافقه ما في الينابيع قال أبو يوسف في ساقية صغيرة فيها كلب ميت سد عرضها فيجري الماء فوقه وتحته أنه لا بأس بالوضوء أسفل منه إذا لم يتغير طعمه فيها أو لونه أو ريحه وقيل ينبغي أن يكون هذا قول أبي يوسف خاصة أما عند أبي حنيفة ومحمد لا يجوز الوضوء أسفل من الكلب ا هـ. ما في الينابيع.
لكن المذكور في الفتاوى كفتاوى قاضي خان والتجنيس والولوالجي والخلاصة وفي البدائع وكثير من كتب أئمتنا أن الأثر إنما يعتبر في غير الجيفة أما في الجيفة، فإنه ينظر إن كان كله أو أكثره يجري عليها لا يجوز الوضوء به، وإن كان الأقل يجوز الوضوء، وإن كان النصف فالقياس الجواز والاستحسان أنه لا يجوز، وهو الأحوط.
ونظير هذا ماء المطر إذا جرى في ميزاب من السطح، وكان على السطح عذرة فالماء طاهر؛ لأن الذي يجري على غير العذرة أكثر، وإن كانت العذرة عند الميزاب، فإن كان الماء كله أو أكثره أو نصفه يلاقي العذرة فهو نجس، وإن كان أكثره لا يلاقي العذرة فهو طاهر وكذا أيضا ماء المطر إذا جرى على عذرات واستنقع في موضع كان الجواب كذلك.
ورجح في فتح القدير أن العبرة لظهور الأثر مطلقا؛ لأن الحديث، وهو قوله
"الماء طهور لا ينجسه شيء" لما حمل على الجاري كان مقتضاه جواز التوضؤ من أسفله، وإن أخذت الجيفة أكثر الماء ولم يتغير فقولهم إذا أخذت الجيفة أكثر الماء أو نصفه لا يجوز يحتاج إلى مخصص.

 

ج / 1 ص -193-       ...............................
_________________
قال ويوافقه ما عن أبي يوسف وقد نقلناه عن الينابيع وقال تلميذه العلامة قاسم في رسالته المختار اعتبار ما عن أبي يوسف ا هـ.
لكن لقائل أن يقول الأوجه ما في أكثر الكتب وقد صححه في التجنيس لصاحب الهداية؛ لأن العلماء رضي الله عنهم إنما قالوا بأن الماء الجاري إذا وقعت فيه نجاسة يجوز الوضوء به إذا لم ير أثرها؛ لأن النجاسة لا تستقر مع جريان الماء فلما لم يظهر أثرها علم أن الماء ذهب بعينها ولم تبق عينها موجودة فجاز استعمال الماء.
أما إذا كانت النجاسة جيفة، وكان الماء يجري على أكثرها أو نصفها تيقنا بوجود النجاسة فيه، وقد تقدم أن كل ما تيقنا وجود النجاسة فيه أو غلب على ظننا وجودها فيه لا يجوز استعماله.
فكان هذا مأخوذا من دلالة الإجماع؛ لأن الحديث لما حمل بالإجماع على الماء الذي لم يتغير لأجل أنه عند التغير تيقن بوجود النجاسة كان التغير دليل وجود النجاسة فيما يمكن فيه ذلك.
أما في الجيفة فقد تيقنا بوجودها فلا يجوز استعمال الماء التي هي فيه أو أكثرها أو نصفها من غير اعتبار التغير؛ لأن التغير لما كان علامة على وجود النجاسة لا يلزم من انتفائه انتفاؤه فكان الإجماع مخصصا للحديث وما قلناه مأخوذ من دلالة الإجماع.
هذا ما ظهر للعبد الضعيف لكن ينبغي أن تعلم أن هذا أعني قولهم إذا أخذت الجيفة أقله يجوز الوضوء إذا لم يظهر أثر النجاسة، وأن قولهم إذا أخذت الجيفة الأكثر أو النصف لا يجوز يعنون، وإن لم يظهر أثر النجاسة وأما التوضؤ في عين والماء يخرج منها، فإن كان في موضع خروجه جاز وإن كان في غيره فكذلك إن كان قدره أربعا في أربع فأقل وإن كان خمسا في خمس اختلف فيه واختار السعدي جوازه والخلاف مبني على أنه هل يخرج الماء المستعمل قبل تكرر الاستعمال إذا كان بهذه المساحة أو لا وهذه مبنية على نجاسة الماء المستعمل كذا في فتح القدير.

 

ج / 1 ص -194-       ...............................
_________________
وقد قدمنا أن الفتوى على الجواز مطلقا، وكذا صرح في الفتاوى الصغرى وألحقوا بها بالجاري حوض الحمام إذا كان الماء ينزل من أعلاه حتى لو أدخلت القصعة النجسة واليد النجسة فيه لا تتنجس وهل يشترط ومع ذلك تدارك اغتراف الناس منه فيه خلاف ذكره في المنية.
وفي المجتبى الأصح أنه إن كان يدخل الماء من الأنبوب والغرف متدارك فهو من كالجاري وتفسير الغرف أن لا يسكن وجه الماء فيما بين الغرفتين قال في فتح القدير: ثم لا بد من كون جريانه لمدد له كما في العين والنهر، وهو المختار ا هـ. وفي السراج الوهاج ولا يشترط في الماء الجاري المدد وهو الصحيح ا هـ.
وفي التجنيس والمعراج وغيرهما الماء الجاري إذا سد من فوق فتوضأ إنسان بما يجري في النهر وقد بقي جري الماء كان جائزا؛ لأن هذا ماء جار ا هـ فهذا يشهد لما في السراج وذكر السراج الهندي عن الإمام الزاهد أن من حفر نهرا من حوض صغير وأجرى الماء في النهر وتوضأ بذلك الماء في حال جريانه فاجتمع ذلك الماء في مكان واستقر فيه فحفر رجل آخر نهرا من ذلك المكان وأجرى الماء فيه وتوضأ به في حال جريانه فاجتمع ذلك الماء في مكان آخر أيضا ففعل رجل ثالث كذلك جاز وضوء الكل؛ لأن كل واحد منهم إنما توضأ بالماء حال جريانه والماء الجاري لا يحتمل النجاسة ما لم يتغير.
وعن الحسن بن زياد ما يدل على جواز وضوء الثاني والثالث، فإنه قال في حفرتين يخرج الماء من أحدهما ويدخل في الأخرى فتوضأ فيما بينهما جاز والحفيرة التي يدخل فيها الماء تفسد.
وإذا كان معه كميزاب واسع ومعه إداوة من ماء يحتاج إليه، وهو على طمع من وجود

 

ج / 1 ص -195-       ...............................
_________________
الماء ولكن لا يتيقن ذلك ماذا يصنع حكى عن الشيخ الزاهد أبي الحسن الرستغفني أنه كان يقول يأمر أحد رفقائه أن يصب الماء في طرف من الميزاب، وهو يتوضأ فيه وعند الطرف الآخر من الميزاب إناء يجتمع فيه الماء فالمجتمع طاهر وطهور لأن استعماله حصل في حال جريانه والماء الجاري لا يصير مستعملا باستعماله ومن المشايخ من أنكر هذا القول وقال في الماء الجاري إنما يصير مستعملا إذا كان له مدد كالعين والنهر أما إذا لم يكن له مدد يصير مستعملا.
والصحيح القول بدليل مسألة واقعات الناطفي أن النهر إذا سد من فوق فتوضأ إنسان بما جرى، فإنه يجوز، فإن هناك لم يبق للماء مدد ومع هذا يجوز التوضؤ به ا هـ. ما ذكره السراج الهندي.
واعلم أنه قد تقدم عن فتح القدير أن قولهم ما اجتمع في الحفيرة الثانية فاسد، وكذا كثير من أشباه ذلك إنما هو بناء على نجاسة الماء المستعمل فأما على المختار من طهارته فلا فلتحفظ ليفرع عليها ولا يفتى بمثل هذه الفروع .
" فروع " في الخلاصة معزيا إلى الأصل يتوضأ من الحوض الذي يخاف فيه قذرا ولا يتيقنه ولا يجب أن يسأل إلى للحاجة إليه عند عدم الدليل والأصل دليل يطلق الاستعمال وقال عمر رضي الله عنه حين سأل عمرو بن العاص صاحب الحوض أترده السباع يا صاحب الحوض لا تخبرنا ذكره في الموطإ وكذا إذا وجده متغير اللون والريح ما لم يعلم أنه من نجاسة؛ لأن التغير قد يكون بظاهر وقد ينتن الماء للمكث وكذا البئر الذي

 

ج / 1 ص -196-       ...............................
_________________
يدلي فيها الدلاء والجرار الدنسة يحملها الصغار والعبيد ولا يعلمون الأحكام ويمسها الرستاقيون بالأيدي الدنسة ما لم تعلم يقينا النجاسة، ولو ظن الماء نجسا فتوضأ ثم ظهر أنه طاهر جاز وذكر السراج الهندي عن الفقيه أبي الليث أن عدم وجوب السؤال من طريق الحكم، وإن سأل كان أحوط لدينه وعلى هذا الضيف إذا قدم إليه طعام ليس له أن يسأل عنه.
وفي فوائد الرستغفني التوضؤ بماء الحوض أفضل من النهر؛ لأن المعتزلة لا يجيزونه، من الحياض فنرغمهم بالوضوء منها ا هـ. وهذا إنما يفيد الأفضلية لهذا العارض ففي مكان لا يتحقق النهر أفضل كذا في فتح القدير.
وفي معراج الدراية قيل مسألة الحوض بناء على الجزء الذي لا يتجزأ فإنه عند أهل السنة موجود في الخارج فتتصل أجزاء النجاسة إلى جزء لا يمكن تجزئته فيكون باقي الحوض طاهرا أو عند المعتزلة والفلاسفة هو معدوم، فيكون كل الماء مجاورا للنجاسة، فيكون الحوض نجسا عندهم وقيل في هذا التقرير نظر ا هـ.
قالوا ولا بأس بالتوضؤ من حب يوضع كوزه في نواحي الدار ويشرب منه ما لم يعلم به قذر ويكره للرجل أن يستخلص لنفسه إناء يتوضأ منه ولا يتوضأ منه غيره.
وفي فتاوى قاضي خان واختلفوا في كراهية البول في الماء الجاري والأصح هو الكراهة.
وأما البول في الماء الراكد فقد نقل الشيخ جلال الدين الخبازي في حاشية الهداية عن أبي الليث أنه ليس بحرام إجماعا بل مكروه.
ونقل غيره أنه حرام ويحمل على كراهة التحريم؛ لأنه غاية ما يفيده الحديث كراهة التحريم فينبغي هذا أن يكون البول في الماء الجاري مكروها كراهة تنزيه فرقا بينه وبين البول في الماء الراكد.
وفي فتاوى قاضي خان إذا ورد الرجل ماء فأخبره مسلم أنه نجس لا يجوز له أن يتوضأ بذلك الماء قالوا هذا إذا كان عدلا، فإن كان فاسقا لا يصدق وفي المستور روايتان ا هـ.
وفي المبتغى بالغين المعجمة وبرؤية أثر أقدام الوحوش عند الماء القليل لا يتوضأ به.

 

ج / 1 ص -197-       وموت ما لا دم له فيه كالبق والذباب، والزنبور، والعقرب، والسمك، والضفدع، والسرطان لا ينجسه
_________________
سبع مر بالركية وغلب على ظنه شربه منها تنجس وإلا فلا ا هـ.
وينبغي أن يحمل الأول على ما إذا غلب على ظنه أن الوحوش شربت منه بدليل الفرع الثاني، وإلا فمجرد الشك لا يمنع الوضوء به بدليل ما قدمنا نقله عن الأصل أنه يتوضأ من الحوض الذي يخاف فيه قذرا ولا يتيقنه وينبغي أن يحمل التيقن المذكور في الأصل من قوله ولا يتيقنه على غلبة الظن والخوف على الشك أو الوهم كما لا يخفى.
وفي التجنيس من دخل الحمام واغتسل وخرج من غير نعل لم يكن به بأس لما فيه من الضرورة والبلوى ا هـ. وسيأتي بقية هذا إن شاء الله تعالى في بحث المستعمل
" قوله: وموت ما لا دم فيه كالبق والذباب والزنبور والعقرب والسمك والضفدع والسرطان لا ينجسه " أي موت حيوان ليس له دم سائل في الماء القليل لا ينجسه وقد جعل في الهداية هذه المسألة مسألتين فقال أولا موت ما ليس له نفس سائلة في الماء لا ينجسه كالبق والذباب والزنابير والعقرب ونحوها ثم قال وموت ما يعيش في الماء لا يفسده كالسمك والضفدع والسرطان.
وقد جمعهما قول المصنف وموت ما لا دم له؛ لأن مائي المولد لا دم له فكان الأنسب ما ذكره المصنف من حيث الاختصار إلا أنه يرد عليه ما كان مائي المولد والمعاش وله دم سائل، فإنه سيأتي أنه لا ينجس في ظاهر الرواية مع أن عبارة المصنف بخلافه فلذا فرق في الهداية بينهما ونقل في الهداية خلاف الشافعي في المسألة الأولى وكذا في الثانية إلا في السمك وما ذكره من خلاف الشافعي في الأولى ضعيف والصحيح من مذهبه أنه كقولنا كما صرح به النووي في شرح المهذب.
وفي غاية البيان قال أبو الحسن الكرخي في شرح الجامع الصغير: لا أعلم أن فيه خلافا بين الفقهاء ممن تقدم الشافعي، وإذا حصل الإجماع في الصدر الأول صار حجة على ما بعده ا هـ.

 

ج / 1 ص -198-       ...............................
_________________
وقد علمت أنه موافق لغيره وعلى تقدير مخالفته لا يكون خارقا للإجماع فقد قال بقوله القديم يحيى بن أبي كثير التابعي الجليل كما نقله الخطابي ومحمد بن المنكدر الإمام التابعي كما نقله النووي.
والدليل على أصل المسألة ما رواه البخاري في صحيحه بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال قال رسول الله: صلى الله عليه وسلم
"إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه ثم لينزعه فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء" وفي رواية النسائي وابن ماجه من حديث أبي سعيد الخدري "فإذا وقع في الطعام فامقلوه فيه فإنه يقدم السم ويؤخر الشفاء" ومعنى امقلوه اغمسوه.
وجه الاستدلال به أن الطعام قد يكون حارا فيموت بالغمس فيه فلو كان يفسده لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بغمسه ليكون شفاء لنا إذا أكلناه، وإذا ثبت الحكم في الذباب ثبت في غيره مما هو بمعناه كالبق والزنابير والعقرب والبعوض والجراد والخنفساء والنحل والنمل

 

ج / 1 ص -199-       ...............................
_________________
والصرصر والجعلان وبنات وردان والبرغوث والقمل إما بدلالة النص أو بالإجماع كذا في المعراج.
قال الإمام الخطابي: وقد تكلم على هذا الحديث من لا خلاق له وقال كيف يجتمع الدواء والشفاء في جناحي الذبابة وكيف تعلم ذلك حتى تقدم جناح الداء قال: وهذا سؤال جاهل أو متجاهل.
والذي يجد نفسه ونفوس عامة الحيوان قد جمع فيها الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، وهي أشياء متضادة إذا تلاقت تفاسدت ثم يرى الله عز وجل قد ألف بينها وجعلها سببا لبقاء الحيوان وصلاحه لجدير أن لا ينكر اجتماع الداء والدواء في جزأين من حيوان واحد وأن الذي ألهم النحلة اتخاذ بيت عجيب الصنعة وتعسل فيه وألهم النملة كسب قوتها وادخاره لأوان حاجتها إليه هو الذي خلق الذبابة وجعل لها الهداية إلى أن تقدم جناحا وتؤخر آخر لما أراد الله من الابتلاء الذي هو مدرجة التعبد والامتحان الذي هو مضمار التكليف وله في كل شيء حكمة وعلم وما يذكر إلا أولو الألباب ا هـ .
وقال بعضهم المراد به داء الكبر والترفع عن استباحة ما أباحته الشريعة المطهرة وأحلته السنة المعظمة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بمقله دفعا للتكبر والترفع.
وهذا ضعيف؛ لأنه حينئذ يخرج الجناحين والشفاء عن الفائدة كذا ذكره السراج الهندي.
واستدل مشايخنا أيضا على أصل المسألة بما عن سلمان رضي الله عنه عنه عليه السلام قال يا سلمان كل طعام وشراب وقعت فيه دابة ليس لها دم فماتت فيه فهو حلال أكله وشربه ووضوءه قال الزيلعي رحمه الله تعالى المخرج رواه الدارقطني وقال لم يروه إلا بقية

 

ج / 1 ص -200-       ...............................
_________________
عن سعيد بن أبي سعيد الزبيدي، وهو ضعيف ورواه ابن عدي في الكامل وأعله بسعيد هذا وقال هو شيخ مجهول وحديث غير محفوظ ا هـ.
قال العلامة: في فتح القدير ودفعا بأن بقية هذا هو ابن الوليد روى عنه الأئمة مثل الحمادين وابن المبارك ويزيد بن هارون وابن عيينة ووكيع والأوزاعي وإسحاق بن راهويه

 

 

ج / 1 ص -201-       ...............................
_________________
وشعبة وناهيك بشعبة واحتياطه قال يحيى كان شعبة مبجلا لبقية حيث قدم بغداد وقد روى له الجماعة إلا البخاري، وأما سعيد بن أبي سعيد هذا فذكره الخطيب وقال اسم أبيه عبد الجبار، وكان ثقة فانتفت الجهالة والحديث مع هذا لا ينزل عن الحسن ا هـ.
قال في الهداية :؛ ولأن المنجس اختلاط الدم المسفوح بأجزائه عند الموت حتى حل المذكى لانعدام الدم فيه ولا دم فيها والحرمة ليست من ضرورتها النجاسة كالطين وأورد عليه ذبيحة النجاسة ومتروك التسمية عامدا، فإنها نجسة مع زوال الدم المسفوح وذبيحة المسلم إذا لم يسل منها الدم العارض بأن أكلت ورق العناب، فإنها حلال مع أن الدم لم يسل.
وأجاب الأكمل وغيره عن الأول بأن القياس الطهارة كالمسلم إلا أن صاحب الشرع أخرجه عن أهلية الذبح فذبحه كلا ذبح وعن الثاني أن الشارع أقام الأهلية واستعمال آلة الذبح مقام الإسالة لإتيانه بما هو داخل تحت قدرته ولا يعتبر بالعوارض؛ لأنها لا تدخل تحت القواعد الأصلية. وأجاب في معراج الدراية بأن ذبيحة المجوسي والوثني وتارك التسمية عمدا طاهرا على الأصح، وإن لم تؤكل لعدم أهلية الذابح وعزاه إلى المجتبى.
ثم قال: فإن قيل لو كان المنجس هو الدم يلزم أن يكون الدموي من الحيوان نجسا سواء كان قبل الحياة أو بعدها؛ لأنه يشتمل على الدم في كلتا الحالتين قلنا الدم حال الحياة في معدنه والدم في معدنه لا يكون نجسا بخلاف الذي بعد الموت؛ لأن الدماء بعد الموت تنصب عن مجاريها فلا تبقى في معادنها فيتنجس اللحم بتشربه إياها ولهذا لو قطعت العروق بعد الموت لا يسيل الدم منها.

 

ج / 1 ص -202-       ...............................
_________________
وفي صلاة البقالي لو مص البق الدم لم ينجس عند أبي يوسف؛ لأنه مستعار وعند محمد ينجسه وفي جمع الخلاف على العكس والأصح في العلق إذا مص الدم أنه يفسد الماء.
قال صاحب المجتبى: ومن هذا يعرف حكم القراد والحلم ا هـ .، وأما ما ذكره في الهداية من خلاف الشافعي في الثانية فصحيح.
قال النووي في شرح المهذب ما يعيش في البحر مما له نفس سائلة إن كان مأكولا فميتته طاهرة ولا شك أنه لا ينجس الماء وما لا يؤكل كالضفدع وكذا غيره إن قلنا لا يؤكل، فإذا مات في ماء قليل أو مائع قليل أو كثير نجسه لا خلاف فيه عندنا ا هـ.
استدل للمذهب في الهداية بقوله، ولنا أنه مات في معدته فلا يعطى له حكم النجاسة كبيضة حال محها دما لأنه لا دم فيها إذ الدموي لا يسكن الماء والدم هو المنجس، وفي غير الماء قيل غير السمك يفسده لانعدام المعدن، وقيل لا يفسده لعدم الدم هو الأصح ا هـ. كقوله كبيضة حال محها بالحاء المهملة فيهما أي تغير صفرتها دما حتى لو صلى، وفي كمه تلك البيضة تجوز صلاته بخلاف ما لو صلى وفي كمه قارورة دم حيث لا تجوز؛ لأن النجاسة في غير معدنها وعموم قوله مات في معدنه يقتضي أن لا يعطي للوحوش والطيور حكم النجاسة إذا ماتت في معدنها؛ لأن معدنها البر ولهذا جعل شمس الأئمة تعليل قوله لا دم فيها أصح قال ليس لهذه الحيوانات دم سائل، فإن ما فيها يبيض بالشمس والدم إذا شمس يسود، وكذا في معراج الدراية.
وتعقبه في فتح القدير بأن كون البرية معدنا للسبع محل تأمل في معنى معدن الشيء والذي يفهم منه ما يتولد منه الشيء، وعلى التعليل الأول فرع ما لو وقعت البيضة من الدجاجة في الماء رطبة أو يبست لا يتنجس الماء؛ لأنها كانت في معدنها وكذا السخلة إذا سقطت من أمها رطبة أو يبست لا تنجس الماء؛ لأنها كانت في معدنها ثم لا فرق بين أن يموت في الماء أو خارجه ثم ينتقل إليه في الصحيح.
وروى عن محمد إذا تفتت الضفدع في الماء كرهت شربه لا للنجاسة بل لحرمة لحمه،

 

ج / 1 ص -203-       ...............................
_________________
وقد صارت أجزاؤه في الماء، وهذا تصريح بأن كراهة شربه تحريمية وبه صرح في التنجيس فقال: يحرم شربه. وفي فتاوى قاضي خان، فإن كانت الحية أو الضفدع عظيمة لها دم سائل تفسد الماء وكذا الوزغة الكبيرة في رواية عن أبي يوسف، وفي السراج الوهاج الذي يعيش في الماء هو الذي يكون توالده ومأواه فيه سواء كانت لها نفس سائلة أو لم تكن في ظاهر الرواية. وروي عن أبي يوسف أنه إذا كان لها دم سائل أوجب التنجيس ا هـ. وكذا ذكر الإسبيجابي فما في الفتاوى على غير ظاهر الرواية واختلف في طير الماء ففي السراج الوهاج أنه ينجس؛ لأنه يتعيش في الماء ولا يعيش فيه.
وفي شرح الجامع الصغير قاضي خان وطير الماء إذا مات في الماء القليل يفسده هو الصحيح من الرواية عن أبي حنيفة، وإن مات في غير الماء يفسده باتفاق الروايات؛ لأن له دما سائلا، وهو بري الأصل مائي المعاش والمائي ما كان توالده ومعاشه في الماء ا هـ. وطير الماء كالبط والإوز.
وفي المجتبى الصحيح عن أبي حنيفة في موت طير الماء فيه أنه لا ينجسه وقيل إن كان يفرح في الماء لا يفسده، وإلا فيفسد ا هـ. فقد اختلف التصحيح في طير الماء كما ترى والأوجه ما في شرح الجامع الصغير كما لا يخفى.
وفي الكلب المائي اختلاف المشايخ كذا في معراج الدراية من غير ترجيح لكن قال في الخلاصة الكلب المائي والخنزير المائي إذا مات في الماء أجمعوا أنه لا يفسد الماء ا هـ.
فكأنه لم يعتبر القول الضعيف كما لا يخفى وقد وقع لصاحب الهداية هنا وفي بحث الماء المستعمل التعليل بالعدم.
ووجه تصحيحه أن العلة متحدة، وهي الدم، وهو في مثله يجوز كقول محمد في ولد المغصوب لم يضمن؛ لأنه لم يغصب كذا في الكافي.
وتوضيحه أن عدم العلة لا يوجب عدم الحكم لجواز أن يكون الحكم معلولا بعلل شتى إلا أن العلة إذا كانت متعينة يلزم من عدمها عدم المعلول لتوقفه على وجودها وهنا كذلك؛ لأن النجس هو الدم المفسوح لا غير ولا دم لهذه الأشياء بدليل أن الحرارة لازمة الدم والبرودة لازمة الماء، وهما نقيضان فلو كان لها دم لماتت بدوام السكون في الماء كذا في غاية البيان وفي الهداية والضفدع البري والبحري سواء وقيل البري يفسد لوجود الدم وعدم المعدن وقيل لا يفسده قال الشارحون: الضفدع البحري هو ما يكون بين أصابعه سترة بخلاف البري.

 

ج / 1 ص -204-       والماء المستعمل لقربة أو رفع حدث إذا استقر في مكان طاهر لا مطهر
_________________
وصحح في السراج الوهاج عدم الفرق بينهما لكن محله ما إذا لم يكن للبري دم أما إذا كان له دم سائل فإنه يفسده على الصحيح كذا في شرح منية المصلي.
والضفدع بكسر الدال والأنثى ضفدعة وناس يقولون ضفدع بفتح الدال، وهو لغة ضعيفة وكسر الدال أفصح.
والبق كبار البعوض واحده بقة وقد يسمى به الفسفس في بعض الجهات وهو حيوان كالقراد شديد النتن كذا في شرح منية المصلي والزنبور بالضم وسمي الذباب ذبابا؛ لأنه كلما ذب آب أي كلما طرد رجع.
وفي النهاية وأشار الطحاوي إلى أن الطافي من السمك في الماء يفسده، وهو غلط منه فليس في الطافي أكثر فسادا من أنه غير مأكول فهو كالضفدع ا هـ.
واعلم أن كل ما لا يفسد الماء لا يفسد غير الماء، وهو الأصح كذا في المحيط والتحفة والأشبه بالفقه كذا في البدائع لكن يحرم أكل هذه الحيوانات المذكورة ما عدا السمك الغير الطافي لفساد الغذاء وخبثه متفسخا أو غيره وقد قدمناه عن التجنيس .
" قوله: والماء المستعمل لقربة أو رفع حدث إذا استقر في مكان طاهر لا مطهر " اعلم أن الكلام في الماء المستعمل يقع في أربعة مواضع: الأول في سببه وقد أشار إليه بقوله لقربة أو رفع حدث الثاني في وقت ثبوته وقد أشار إليه بقوله إذا استقر في مكان الثالث في صفته وقد بينها بقوله طاهر الرابع في حكمه وقد بينه بقوله لا مطهر والزيلعي رحمه الله أدرج الحكم في الصفة وجعل قوله طاهر لا مطهر بيانا لصفته والأولى ما أسمعتك تبعا لما في فتح القدير.
أما الأول فقد ذكر أبو عبد الله الجرجاني أنه يصير مستعملا بإقامة القربة بأن ينوي الوضوء على الوضوء حتى يصير عبادة أو برفع الحدث بأن توضأ المحدث للتبرد أو للتعليم بلا خلاف بين أصحابنا الثلاثة وذكر أبو بكر الرازي خلافا. وقال: إنه يصير مستعملا بإقامة القربة أو رفع الحدث عندهما، وعند محمد بإقامة القربة لا غير استدلالا بمسألة الجنب إذا انغمس في البئر لطلب الدلو.
فقال محمد الماء طاهر طهور لعدم إقامة القربة فلو توضأ محدثا بنية القربة صار الماء مستعملا بالإجماع، ولو توضأ أو متوضئ للتبرد لا يصير مستعملا بالإجماع، ولو توضأ المحدث للتبرد صار مستعملا عندهما خلافا لمحمد، ولو توضأ المتوضئ بنية القربة صار مستعملا عند

 

ج / 1 ص -205-       ...............................
_________________
الثلاثة قال شمس الأئمة السرخسي التعليل لمحمد بعدم إقامة القربة ليس بقوي؛ لأنه غير مروي عنه.
والصحيح عنده أن إزالة الحدث بالماء مفسدة له إلا عند الضرورة كالجنب يدخل البئر لطلب الدلو ومن شرط نية القربة عند محمد استدل بمسألة البئر.
وجوابه أنه إنما لم يصر مستعملا للضرورة لا؛ لأن الماء لا يصير مستعملا بإزالة الحدث، فصار كما لو أدخل الجنب أو الحائض أو المحدث يده في الماء لا يصير مستعملا للضرورة والقياس أن يصيره مستعملا عندهم لإزالة الحدث ولكن سقط للحاجة ا هـ. وأقره عليه العلامة كمال الدين بن الهمام والإمام الزيلعي.
وصرح في البدائع أن الخلاف لم ينقل عنهم نصا، وإنما مسائلهم تدل عليه وكذا في المحيط لكن قال: وهذا الخلاف صحيح عند محمد؛ لأن تغير الماء عند محمد باعتبار إقامة القربة به لا باعتبار تحول نجاسة حكمية إلى الماء وعندهما تغير الماء باعتبار أنه تحول إليه نجاسة حكمية، وفي الحالين تحول إلى الماء نجاسة حكمية فأوجب تغيره ا هـ.
والذي يدل على صحة الخلاف ما نقله في المحيط والخلاصة وكثير من الكتب وعزاه الهندي إلى صلاة الأثر لمحمد أن الرجل إذا أخذ الماء بفمه، وهو جنب ولا يريد المضمضة فغسل يده به أجزأه عن غسل اليد ولا يصير مستعملا عند محمد لعدم قصد القربة، وإن زال الحدث عن الفم لكن يقال من جهة شمس الأئمة السرخسي إن محمدا إنما لم يقل بالاستعمال للضرورة؛ لأن إزالة الحدث لا توجب الاستعمال، وقد علل به في المحيط فقال لم يحكم باستعمال الماء للضرورة، ويؤيده ما في فتح القدير أن الذي نعقله أن كلا من التقرب الماحي للسيئات والإسقاط مؤثر في التغير ألا ترى أنه انفرد وصف التقرب في صدقة التطوع، وأثر التغير حتى حرم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم رأينا الأثر عند ثبوت وصف الإسقاط معه غير ذلك، وهو أشد فحرم على قرابته الناصرة له فعرفنا أن للأثر تغيرا شرعيا وبهذا يبعد قول محمد إنه التقرب فقط إلا أن يمنع كون هذا مذهبه كما قال شمس الأئمة. ا هـ.
ولو غسل يده للطعام أو منه صار الماء مستعملا؛ لأنه أقام به قربة؛ لأنه سنة، ولو غسل يده من الوسخ لا يصير مستعملا لعدم إزالة الحدث وإقامة القربة كذا في المحيط، وهذا التعليل يفيد أنه كان متوضئا ولا بد منه كما لا يخفى.

 

ج / 1 ص -206-       ...............................
_________________
وقوله فيما قبله؛ لأنه أقام قربة يفيد أنه قصد إقامة السنة فلو لم يقصدها لا يصير مستعملا، وفيه لو وصلت شعر آدمي إلى ذؤابتها فغسلت ذلك الشعر الواصل لم يصر الماء مستعملا.
ولو غسل رأس إنسان مقتول قد بان منه صار الماء مستعملا؛ لأن الرأس إذا وجد مع البدن ضم إلى البدن وصلي عليه فيكون بمنزلة البدن والشعر لا يضم مع البدن فبالانفصال لم يبق له حكم البدن فلا تكون غسالته مستعملة.
قال الولوالجي في فتاويه: وهذا الفرق يأتي على الرواية المختارة إن شعر الآدمي ليس بنجس.
أما على الرواية الأخرى لا يتأتى، فإنه نجس ينجس الماء ا هـ. وفي المبتغى وغيره وبتعليم الوضوء للناس لا يصير مستعملا إذا لم يرد به الصلاة بل أراد تعليمه ا هـ.
ولا يخفى أن التعليم قربة فإذا قصد إقامة القربة ينبغي أن يصير الماء مستعملا كغسل اليدين للطعام، فإنه لم يرد به الصلاة بل إقامة القربة كما لا يخفى ويؤيده ما في شرح النقلية أولا أن القربة ما تعلق به حكم شرعي، وهو استحقاق الثواب.
ولا شك أن في التعليم المقصود ثوابا، وقد يجاب عنه بأن هذا الماء لم يستعمل لقربة؛ لأن القربة فيه ليست بسبب استعماله إنما هي بسبب تعليمه.
ولذا لو علمه بالقول استغني عن هذا الفعل بخلاف غسل اليدين من الطعام، فإن القربة فيه لا تحصل إلا باستعماله فافترقا. وفي الفتاوى الظهيرية وغسالة الميت نجسة كذا أطلق محمد في الأصل.
والأصح أنه إذا لم يكن على بدنه نجاسة يصير الماء مستعملا ولا يكون نجسا إلا أن محمدا إنما أطلق نجاسة الماء؛ لأن غسالته لا تخلو عن النجاسة غالبا.
وفي الخلاصة أما إذا توضأ الصبي في طست هل يصير الماء مستعملا والمختار أنه يصير مستعملا إذا كان الصبي عاقلا. ا هـ.
وقد قدمنا حكم ما إذا أدخل يده في الإناء فلتراجع. وفي الخلاصة، ولو أخذ الماء

 

ج / 1 ص -207-       ...............................
_________________
بفمه لا يريد به المضمضة لا يصير مستعملا عند محمد وكذا لو أخذ بفيه وغسل أعضاءه بذلك وقال أبو يوسف لا يبقى طهورا وهو الصحيح ا هـ. واعلم أن هذا وأمثاله كقولهم فيمن أدخل يديه إلى المرفقين أو إحدى رجليه في إجانة يصير الماء مستعملا يفيد أن الماء يصير مستعملا بواحد من ثلاثة إما بإزالة الحدث كان معه تقرب أو لا أو إقامة القربة كان معه رفع حدث أو لا أو إسقاط الفرض، فإن في هذه المسائل لم يزل الحدث ولا الجنابة عن العضو المغسول لما عرف أن الحدث والجنابة لا يتجزآن زوالا كما لا يتجزآن ثبوتا قالوا، وهذا هو الصحيح.
وكذا لم توجد نية القربة، وإنما سقط الفرض عن العضو المغسول فكان الأولى ذكر هذا السبب الثالث ولا تلازم بين سقوط الفرض وارتفاع الحدث فسقوط الفرض عن اليد مثلا يقتضي أن لا يجب إعادة غسلها مع بقية الأعضاء ويكون ارتفاع الحدث موقوفا على غسل الباقي وسقوط الفرض هو الأصل في الاستعمال إلا أن يقال إن الحدث زال عن العضو زوالا موقوفا.
لكن المعلل به في كتاب الحسن عن أبي حنيفة كما نقله في فتح القدير إسقاط الفرض في مسألة إدخال اليد الإناء لغير ضرورة لا إزالة الحدث.
وفي الخلاصة لو غسل المحدث عضوا آخر سوى أعضاء الوضوء كالفخذ الأصح أنه لا يصير مستعملا بخلاف أعضاء الوضوء ا هـ. وفي المبتغى بالغين المعجمة وبغسله ثوبا أو دابة تؤكل لا يصير مستعملا ووضوء الحائض مستعمل؛ لأن وضوءها مستحب ا هـ. ولا يخفى أنه لا يصير مستعملا إلا إذا قصدت الإتيان بالمستحب.
وفي البدائع لو زاد على الثلاث فإن أراد بالزيادة ابتداء الوضوء صار الماء مستعملا، وإن أراد الزيادة على الوضوء الأول اختلف المشايخ فيه ا هـ. وفيه كلام قدمناه في بحث تثليث الغسل في السنن فليراجع فإنه يقتضي أن الوضوء على الوضوء لا يكون قربة إلا إذا اختلف المجلس فحينئذ يكون الماء مستعملا أما إذا اتحد المجلس فلا يكون قربة بل مكروه فيكون الماء غير مستعمل.

 

ج / 1 ص -208-       ...............................
_________________
وفي معراج الدراية، فإن قيل المتوضئ ليس على أعضائه نجاسة لا حقيقية ولا حكمية فكيف يصير الماء مستعملا بنية القربة قلنا لما نوى القربة فقد ازداد طهارة على طهارة ولن تكون طهارة جديدة إلا بإزالة النجاسة الحكمية حكما، فصارت الطهارة على الطهارة وعلى الحدث سواء ا هـ .
وأما الثاني أعني وقت ثبوت الاستعمال فقال بعض مشايخنا الماء المستعمل ما زايل البدن واستقر في مكان من أرض أو إناء، وهو مذهب سفيان الثوري واستدل بمسائل زعم أنها تدل له منها إذا توضأ أو اغتسل وبقي على يده لمعة فأخذ البلل منها في الوضوء أو من أي عضو كان في الغسل وغسل اللمعة يجوز، ومنها نقل البلة من مغسول إلى ممسوح جائز، وإن وجد الانفصال ومنها أن الخرقة التي يتمسح بها تجوز الصلاة معها، وإن كان ما أصابها من البلل كثيرا فاحشا وكذا إذا أصاب ثوبه الماء المستعمل لا يضره، وإن كان كثيرا وإن وجد الانفصال.
فأما عندنا فما دام على العضو لا يصير مستعملا، وإذا زايله صار مستعملا، وإن لم يستقر في مكان، فإنه ذكر في الأصل أنه إذا مسح رأسه ببلل أخذه من لحيته لم يجز، وإن لم يستقر في مكان، وكذا لو مسح رأسه ببلل باق بعد مسح الخفين لا يجزئه وعلل بأنه ماء قد مسح به مرة أشار به إلى ما قلنا وقالوا لا يجوز نقل البلة من عضو مغسول إلى مثله فدل على أن المذهب ما قلناه.
ووجهه أن القياس صيرورته مستعملا بنفس الملاقاة لوجود السبب فكان ينبغي أن يؤخذ لكل جزء من العضو جزء من الماء إلا أن فيه حرجا فسقط اعتبار حالة الاستعمال في عضو واحد حقيقة أو في عضو واحد حكما كما في الجنابة فإذا زايل العضو زالت الضرورة، فظهر حكم الاستعمال بقضية القياس وقد حصل الجواب عن المسألة الأولى التي استدل بها سفيان.
وأما عن الثانية فقد ذكر الحاكم الجليل أنها على التفصيل إن لم يكن استعمله في شيء من أعضائه يجوز أما إذا كان استعمله لا يجوز.
والصحيح أنه يجوز، وإن استعمله في المغسولات؛ لأن فرض الغسل إنما تأدى بما جرى

 

ج / 1 ص -209-       ...............................
_________________
على عضوه لا بالبلة الباقية فلم تكن هذه البلة مستعملة بخلاف ما إذا استعمله في المسح على الخف ثم مسح به رأسه حيث لا يجوز؛ لأن فرض المسح يتأدى بالبلة وتفصيل الحاكم محمول على هذا.
وأما ما مسح بالمنديل أو تقاطر على الثوب، فهو مستعمل إلا أنه لا يمنع جواز الصلاة؛ لأن الماء المستعمل طاهر عند محمد، وهو المختار وعندهما، وإن كان نجسا لكن سقوط اعتبار نجاسته هاهنا لمكان الضرورة هذا ما قرره صاحب البدائع رحمه الله.
وذكر في المحيط أن القائل باشتراط الاستقرار سفيان فقط دون أهل المذهب وصحح في الهداية وكثير من الكتب أن المذهب صيرورته مستعملا بمجرد الانفصال، وإن لم يستقر وصدر به في الكافي وذكر ما في الكنز بصيغة قيل وما ذكره في الكنز هو مذهب سفيان الثوري وإبراهيم النخعي وبعض مشايخ بلخ وأبي حفص الكبير وظهير الدين المرغيناني.
قال في الخلاصة والمختار أنه لا يصير مستعملا ما لم يستقر في مكان ويسكن عن التحرك ا هـ. وفي غاية البيان أن مختار فخر الإسلام البزدوي وغيره في شروح الجامع الصغير اجتماعه في مكان بعد المزايلة.
وفيما اختاره صاحب الهداية حرج عظيم على المسلمين ا هـ. وفي معراج الدراية عن شيخه أن ما في الهداية في حق من لا ضرورة فيه كثياب غير المتوضئ، وقيل في حق المغتسل؛ لأنه قليل الوقوع لا في حق المتوضئ ا هـ.
والحاصل أن المذهب ما في الهداية وما في الكنز اختيار بعض المشايخ ومبنى اختيار ما في الكنز توهم أن ما ذكر في الهداية فيه حرج عظيم كما توهمه في غاية البيان;

 

ج / 1 ص -210-       ...............................
_________________
لأن الماء الذي يقطر من الأعضاء يصيب ثوب المتوضئ فلو قلنا باستعماله بالانفصال فقط لتنجس ثوبه على القول بنجاسته حتى احتاج بعضهم إلى حمله على ثياب غير المتوضئ وبعضهم إلى حمله على الغسل كما رأيت، وليس ما توهموه من الحرج موجودا، فقد قدمنا عن البدائع أن ما يصيب ثوب المتوضئ معفو عنه بالاتفاق، وكذا ذكر في غيره، وأما في ثياب غير المتوضئ فلا حرج.
وفائدة الخلاف تظهر فيما إذا انفصل، ولم يستقر بل هو في الهواء فسقط على عضو إنسان وجرى فيه من غير أن يأخذه بكفه فعلى قول العامة لا يصح وضوءه وعلى قول البعض يصح .
الثالث أعني صفة الماء المستعمل لم تذكر في ظاهر الرواية؛ ولهذا ذكر في الكافي الذي هو جمع كلام محمد أن الماء المستعمل لا يجوز التوضؤ به ولم يبين صفته من الطهارة أو النجاسة؛ فلهذا لم تثبت مشايخ العراق خلافا بين أصحابنا في صفته فقالوا: طاهر غير طهور عند أصحابنا، وغيرهم أثبت الخلاف فقالوا إن عن أبي حنيفة روايتين في رواية محمد عنه أنه طاهر غير طهور وبها أخذ وكذا رواها فروعا عامر عن أبي حنيفة كما ذكره قاضي خان في شرحه وفي رواية أبي يوسف والحسن بن زياد أنه نجس غير أن الحسن روي عنه التغليظ وأبا يوسف روي عنه التخفيف وكل أخذ لما روى وروي عن أبي يوسف أن المستعمل إن كان محدثا أو جنبا فالماء نجس، وإن كان طاهرا فالماء طاهر.
وعند زفر إن كان المستعمل محدثا أو جنبا فهو طاهر غير طهور، وإن كان متوضئا فهو طاهر طهور.
وقد صحح المشايخ رواية محمد حتى قال في المجتبى وقد صحت الروايات عن الكل أنه طاهر غير طهور إلا الحسن.
وقال فخر الإسلام في شرح الجامع الصغير هو المختار عندنا، وهو المذكور في عامة كتب محمد عن أصحابنا فاختاره المحققون من مشايخ ما وراء النهر وفي المحيط أنه

 

ج / 1 ص -211-       ...............................
_________________
المشهور عن أبي حنيفة وفي كثير من الكتب وعليها الفتوى من غير تفصيل بين المحدث والجنب المذكور في فتاوى الولوالجي والتجنيس في مواضع أن الفتوى على رواية محمد لعموم البلوى إلا في الجنب.
وقد ذكر النووي أن الصحيح من مذهب الشافعي أنه طاهر غير طهور وبه قال أحمد، وهو رواية عن مالك ولم يذكر ابن المنذر عنه غيرها، وهو قول جمهور السلف والخلف ا هـ.
وجه رواية النجاسة قوله صلى الله عليه وسلم "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسلن فيه من الجنابة" كذا في الهداية وكثير من الكتب.
قال في البدائع: وجه الاستدلال به حرمة الاغتسال في الماء القليل لإجماعنا على أن الاغتسال في الماء الكثير ليس بحرام فلولا أن القليل من الماء ينجس بالاغتسال بنجاسة الغسالة لم يكن للنهي معنى؛ لأن إلقاء الطاهر في الطاهر ليس بحرام أما تنجيس الطاهر فحرام فكان هذا نهيا عن تنجيس الماء الطاهر بالاغتسال وذا يقتضي التنجس به.
ولا يقال يحتمل أنه نهي لما فيه من إخراج الماء من أن يكون مطهرا نم غير ضرورة، وذلك حرام؛ لأنا نقول الماء القليل إنما يخرج عن كونه مطهرا باختلاط غير المطهر به إذا كان الغير غالبا عليه كماء الورد واللبن فأما إذا كان مغلوبا فلا.
وهاهنا الماء المستعمل ما يلاقي البدن ولا شك أن ذلك أقل من غير المستعمل فكيف يخرج به من أن يكون مطهرا. فأما ملاقاة النجس الطاهر توجب تنجيس الطاهر، وإن لم يغلب على الطاهر لاختلاطه بالطاهر على وجه لا يمكن التمييز بينهما فيحكم بنجاسة الكل فثبت أن النهي لما قلنا ولا يقال يحتمل أنه نهي لأن أعضاء الجنب لا تخلو عن النجاسة الحقيقية وذا يوجب تنجيس الماء القليل؛ لأنا نقول الحديث مطلق فيجب العمل بإطلاقه؛ ولأن النهي عن الاغتسال ينصرف إلى الاغتسال المسنون؛ لأنه هو المتعارف بين المسلمين.
والمسنون منه إزالة النجاسة قبل الاغتسال على أن النهي عن إزالة النجاسة الحقيقية التي على البدن استفيد بالنهي عن البول فيه فيوجب حمل النهي على الاغتسال فيه لما ذكرنا صيانة لكلام صاحب الشرع عن الإعادة الخالية عن الإفادة ا هـ. وقد حصل من الجواب الأول دفع ما ذكره في فتح القدير تبعا للنووي، ومن الجواب الثاني دفع ما في السراج الوهاج كما لا يخفى على من يراجعهما.

 

ج / 1 ص -212-       ...............................
_________________
وفي معراج الدراية، فإن قيل القران في النظم لا يوجب القران في الحكم فلا يلزم تنجس الماء بالاغتسال قلنا قد بينا أن مطلق النهي للتحريم خصوصا إذا كان مؤكدا بنون التوكيد لا باعتبار القران ا هـ. ويستدل لأبي حنيفة وأبي يوسف أيضا بالقياس.
وأصله الماء المستعمل في النجاسة الحقيقية والفرع المستعمل في الحكمية بجامع الاستعمال في النجاسة بناء على إلغاء وصف الحقيقي في ثبوت النجاسة، وذلك لأن معنى الحقيقية ليس إلا كون النجاسة موصوفا بها جسم محسوس مستقل بنفسه عن المكلف لا أن وصف النجاسة حقيقة لا يقوم إلا بجسم كذلك، وفي غيره مجاز بل معناه الحقيقي واحد في ذلك الجسم. وفي الحدث وهذا؛ لأنه ليس المتحقق لنا من معناها سوى أنها اعتبار شرعي منع الشارع من قربان الصلاة والسجود حال قيامه لمن قام به إلى غاية استعمال الماء فيه، فإذا استعمله قطع ذلك الاعتبار كل ذلك ابتلاء للطاعة.
فأما أن هناك وصفا حقيقيا عقليا أو محسوسا فلا ومن ادعاه لا يقدر في إثباته على غير الدعوى، ويدل على أنه اعتبار اختلافه باختلاف الشرائع ألا ترى أن الخمر محكوم بنجاسته في شريعتنا، وبطهارته في غيرها فعلم أنها ليست سوى اعتبار شرعي ألزم معه كذا إلى غاية كذا ابتلاء.
وفي هذا لا تفاوت بين الدم والحدث، فإنه أيضا ليس إلا ذلك الاعتبار فظهر أن المؤثر نفس وصف النجاسة، وهو مشترك في الأصل والفرع فيثبت مثل حكم الأصل، وهو نجاسة الماء المستعمل فيه في الفرع، وهو المستعمل في الحدث، فيكون نجسا إلا أن هذا إنما ينتهض على من يسلم كون حكم الأصل ذلك كمالك وأكثر العلماء.
وأما من يشترط في نجاسته خروجه من الثوب متغيرا بلون النجاسة كالشافعي فلا فعنده الماء الذي يستعمل في الحقيقية التي لا لون لها يغاير لون الماء كالبول طاهر يجوز شربه وغسل الثوب به دون إزالة الحدث؛ لأنه عنده مستعمل، وهو لا يقصر وصف الاستعمال على رافع الحدث، فإنما ينتهض عليه بعد الكلام معه في نفس هذا التفصيل، وهو سهل غير أنا لسنا إلا بصدد توجيه رواية نجاسة المستعمل عن أبي حنيفة على أصولنا، فإن قيل لو تم ما ذكرت كان للبلوى تأثير في إسقاط حكمه.
فالجواب الضرورة لا يعدو حكمها محلها والبلوى فيه إنما هي في الثياب فيسقط اعتبار نجاسة ثوب المتوضئ وتبقى حرمة شربه والطبخ به وغسل الثوب منه ونجاسة من

 

ج / 1 ص -213-       ...............................
_________________
يصيبه كذا قرر، وجه القياس العلامة المحقق كمال الدين بن همام الدين رحمه الله على النجاسة.
واستدل في الكفاية للشيخ جلال الدين الخبازي بإشارة قوله تعالى عقب الأمر بالوضوء والتيمم
{وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ}[المائدة:6] فدل إطلاق التطهير على ثبوت النجاسة في أعضاء الوضوء ودل الحكم بزوالها بعد التوضؤ على انتقالها إلى الماء، فيجب الحكم بالنجاسة ثم إن أبا يوسف جعل نجاسته خفيفة لعموم البلوى فيه لتعذر صيانة الثياب عنه ولكونه محل اجتهاد فأوجب ذلك خفة في حكمه.
والحسن يجعل نجاسته غليظة؛ لأنها نجاسة حكمية، وأنها أغلظ من الحقيقية ألا ترى أنه عفا عن القليل من الحقيقية دون الحكمية. ووجه رواية محمد ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث جابر قال مرضت فأتاني النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يعودانني فوجداني قد أغمي علي فتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم ثم صب وضوءه علي فأفقت وفي البخاري أيضا أن الناس كانوا يتمسحون بوضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه أنه إذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه فكذا استدل مشايخنا لرواية الطهارة منهم البيهقي في الشامل وكذا استدل به النووي في شرح المهذب

 

ج / 1 ص -214-       ...............................
_________________
ولكن لقائل أن يقول إن هذا لا يصلح دليلا للمدعي لأن هذا الذي تمسحوا به ليس هو المتساقط من أعضائه عليه الصلاة والسلام، فإنه يجوز أن يكون هو ما فضل من وضوئه، فإن في بعض رواياته الصحيحة فجعل الناس يأخذون من فضل وضوئه فيتمسحون به وفي لفظ النسائي في هذا الحديث وأخرج بلال فضل وضوئه فابتدره الناس وليس المراد به المتساقط من وضوئه عليه السلام.
وكذا حديث جابر فصب عليه من وضوئه، فإن جعل الوضوء اسما لمطلق الماء فلا دلالة فيه على طهارة الماء المستعمل، وإن أريد بوضوئه فضل مائه الذي توضأ ببعضه لا استعمله في أعضائه فلا دلالة فيه أيضا، وإن جعل اسما للماء المعد للوضوء فلا دلالة فيه أيضا فحينئذ لا يدل مع هذه الاحتمالات كذا ذكره العلامة الهندي.
ولهذا والله أعلم لم يستدل المحقق ابن الهمام بهذه الدلائل لرواية الطهارة وإنما استدل بالقياس فقال المعلوم من جهة الشارع أن الآلة التي تسقط الفرض وتقام بها القربة تتدنس وأما الحكم بنجاسة العين شرعا فلا وذلك؛ لأنه أصله مال الزكاة تدنس بإسقاط الفرض به حتى جعل من الأوساخ في لفظه عليه السلام فحرم على من شرف بقرابته الناصرة له ولم يصل مع هذا إلى النجاسة حتى لو صلى حامل دراهم الزكاة صحت فكذا يجب في الماء أن يتغير على وجه لا يصل إلى التنجس، وهو سلب الطهورية إلا أن يقوم فيه دليل يخصه غير هذا القياس ا هـ. لكن قد علمت الدليل الذي ذكرناه لأبي حنيفة آنفا فاندفع به هذا القياس.
وبهذا يترجح القول بالنجاسة ولهذا والله أعلم ذكر صاحب الهداية في التجنيس أن الفتوى على رواية محمد لعموم البلوى إلا في الجنب كما نقلناه عنه وعن الولوالجي آنفا.
فإنه لما كان دليل النجاسة قويا كان هو المختار إلا أن البلوى عمت في الماء المستعمل في الحدث الأصغر فأفتى المشايخ بالطهارة بخلاف المستعمل في الأكبر لم يوجد فيه عموم البلوى فكان على المختار من النجاسة.
ويؤيده ما ذكره شمس الأئمة السرخسي في المبسوط أن قوله في الأصل إذا اغتسل الطاهر في البئر أفسده دليل على أن الصحيح من قول أبي حنيفة إن الماء المستعمل نجس؛ لأن

 

ج / 1 ص -215-       ...............................
_________________
الفاسد من الماء هو النجس ا هـ. لكن رجح في موضع آخر رواية أبي يوسف القائلة بالتخفيف. واستبعد رواية الحسن القائلة بالتغليظ فقال ما رواه الحسن بعيد، فإن للبلوى تأثيرا في تخفيف النجاسة ومعنى البلوى في الماء المستعمل الطاهر، فإن صون الثياب عنه غير ممكن، وهو مختلف في نجاسته فلذلك خف حكمه ا هـ. وفي فتاوى قاضي خان المشهور عن أبي حنيفة وأبي يوسف نجاسة الماء المستعمل.
لكن قال في الذخيرة الظاهر أن الماء المستعمل طاهر للجنب والمحدث وقد قدمناه في الغسل فليراجع. ثم اعلم أن الماء المستعمل على قول القائلين بنجاسته نجاسة عينية عند البعض حتى لا يجوز الانتفاع به بوجه ما وعند البعض نجاسته بالمجاورة حتى يجوز الانتفاع به بسائر الوجوه سوى الشرب؛ لأن هذا ماء أزيلت به النجاسة الحكمية فصار كما أزيل به النجاسة الحقيقية.
ووجه الأول أن المجاورة إنما تكون بانتقال شيء من عين إلى عين، ولم يوجد حقيقة إلا أنه يتنجس الماء بالاستعمال شرعا فيكون نجسا عينا فيكون كذا ذكره الإمام صاحب الهداية في التجنيس ولم يرجح لكن تأخيره وجه الأول يفيد ترجيحه كما هي عادته في الهداية وفي الخلاصة ويكره شرب الماء المستعمل، وأما الماء إذا وقعت فيه نجاسة فإن تغير وصف الماء لم يجز الانتفاع به بحال، وإن لم يتغير الماء جاز الانتفاع به كبل الطين وسقي الدواب ا هـ. ولا يخفى أن الكراهة على رواية الطهارة أما على رواية النجاسة، فحرام لقوله تعالى
{وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ}[لأعراف:157] والنجس منها
وفي البدائع ويكره التوضؤ في المسجد عند أبي حنيفة وأبي يوسف وقال محمد: لا بأس به عنده طاهر، وأما أبو يوسف؛ فلأنه يقول بنجاسته وكذا ما روي عن أبي حنيفة، وأما على رواية الطهارة عنه؛ فلأنه مستقذر طبعا فيجب تنزيه المسجد كما يجب تنزيهه عن المخاط والبلغم ا هـ.
وفي فتاوى قاضي خان، وإن توضأ في إناء في المسجد جاز عندهم .
الرابع: في حكمه.
قال قاضي خان في فتاويه اتفق أصحابنا في الروايات الظاهرة أن الماء المستعمل في البدن لا يبقى طهورا ا هـ. وقال في الهداية: أنه لا يزيل الأحداث.
قال الشارحون: إن هذا حكمه وقالوا: قيد بالأحداث لما أنه يزيل الأنجاس على ما روى

 

ج / 1 ص -216-       ...............................
_________________
محمد عن أبي حنيفة أن الماء المستعمل طاهر غير طهور؛ لأن إزالة النجاسة الحقيقية تجوز بالمائعات عند أبي حنيفة صرح به القوام الأتقاني والكاكي في المعراج وصاحب النهاية وغيرهم.
هذا، وإن كان الماء المستعمل طاهرا عند محمد لكن لا تجوز به إزالة النجاسة الحقيقية عنده؛ لأن عنده لا يجوز إزالتها إلا بالماء المطلق وقد قدمنا أن الماء المستعمل ليس بمطلق وبهذا يندفع ما توهمه بعض الطلبة في عصرنا أن الماء المستعمل يزيل الأنجاس عند محمد لما أنه يقول بطهارته، فهو حفظ شيئا وغابت عنه أشياء واندفع أيضا ما توهمه بعض المشتغلين أن الماء المستعمل لا يزيل الأنجاس اتفاقا لما أنه عند أبي حنيفة وأبي يوسف نجس فلا يزيل ومحمد، وإن كان يقول بطهارته فعنده لا يزيل إلا الماء المطلق كما قدمناه؛ لأنه حفظ رواية النجاسة عن أبي حنيفة ونسي رواية الطهارة عنه التي اختارها المحققون وأفتوا بها. وذكر في المجتبى عن القدوري وشرح الإرشاد وصلاة الجلالي أنه يجوز إزالة النجاسة بالماء المستعمل على الرواية الظاهرة. وما ذكرنا من حكمه عندنا، فهو مذهب الشافعي وأحمد ورواية عن مالك، وذهب الزهري ومالك والأوزاعي في أشهر الروايتين عنهما وأبو

 

ج / 1 ص -217-       ومسألة البئر جحط
_________________
ثور إلى أنه مطهر واختاره ابن المنذر واحتجوا بقوله تعالى
{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً}[الفرقان:48]؛ لأن الطهور ما يطهر غيره مرة بعد أخرى، ويحتج لأصحابنا ومن تبعهم أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم احتاجوا في مواطن من أسفارهم الكثيرة إلى الماء ولم يجمعوا المستعمل لاستعماله مرة أخرى.
فإن قيل تركوا الجمع؛ لأنه لا يجتمع منه شيء، فالجواب أن هذا لا يسلم، وإن سلم في الوضوء لا يسلم في الغسل.
فإن قيل لا يلزم من عدم جمعه منع الطهارة به؛ ولهذا لم يجمعوه للشرب والطبخ والعجن والتبرد ونحوها فالجواب أن ترك جمعه للشرب ونحوه للاستقذار، فإن النفوس تعافه للعادة، وإن كان طاهرا كما استقذر النبي صلى الله عليه وسلم الضب وتركه فقيل أحرام هو قال "لا ولكني أعافه"، وأما الطهارة مرة ثانية، فليس فيه استقذار فتركه يدل على امتناعه.
وأما الجواب عن احتجاجهم فيعلم مما قدمناه في أول بحث المياه من أن الطهور ليس هو المطهر لغيره فضلا عن التكرار، وبما ذكرناه اندفع ما ذكره صدر الشريعة بقوله، ونحن نقول لو كان طاهرا لجاز في السفر الوضوء به ثم الشرب، ولم يقل أحد بذلك ا هـ. لما علمت أن عدم شربه للاستقذار مع طهارته لا لعدمها.
" قوله ومسألة البئر حجط " أي ضابط حكم مسألة البئر حجط وصورتها جنب انغمس في البئر للدلو أو للتبرد ولا نجاسة على بدنه فعند أبي حنيفة الرجل والماء نجسان وعند

 

ج / 1 ص -218-       ...............................
_________________
أبي يوسف الرجل جنب على حاله والماء مطهر على حاله. وعند محمد الرجل طاهر والماء طاهر طهور فالجيم من النجس علامة نجاستهما والحاء من الحال أي كلاهما بحاله، والطاء من الطاهر فرتب حروفه على ترتيب الأئمة فالحرف الأول للإمام الأعظم والثاني للثاني والثالث للثالث.
وجه قول أبي حنيفة إن الفرض قد سقط عن بعض الأعضاء بأول الملاقاة؛ لأن النية ليست بشرط لسقوط الفرض، فإذا سقط الفرض صار الماء مستعملا عنده فيتنجس الماء والرجل باق على جنابته لبقاء الحدث في بقية الأعضاء، وقيل عنده نجاسة الرجل بنجاسة الماء المستعمل وصحح في شروح الهداية أنه نجس بالجنابة عنده وفائدة الخلاف تظهر في تلاوة القرآن ودخول المسجد إذا تمضمض واستنشق وفي فتاوى قاضي خان أن الأظهر أنه يخرج من الجنابة ثم يتنجس بالماء النجس حتى لو تمضمض واستنشق حل له قراءة القرآن ا هـ.
ووجه قول أبي يوسف إن الصب سطر لإسقاط الفرض عنده في غير الماء الجاري، وما هو في حكمه، ولو يوجد، فكان الرجل جنبا بحاله، فإذا لم يسقط الفرض، ولم يوجد رفع الحدث، ولا نية القربة لا يصير الماء مستعملا، فكان بحاله.
ووجه قول محمد على ما هو الصحيح عنه إن الصب ليس بشرط عنده، فكان الرجل طاهرا ولا يصير الماء مستعملا، وإن أزيل به حدث للضرورة.
وأما على ما خرجه أبو بكر الرازي، فإنه لا يصير الماء مستعملا عنده لفقد نية القربة، وهي شرط عنده في صيرورته مستعملا وهذه المسألة أخذ منها أبو بكر الرازي الاختلاف في سبب استعمال الماء بين الأصحاب، وقد تقدم أن أخذه منها غير لازم كما ذكره شمس الأئمة.
وقال الخبازي في حاشية الهداية قال القدوري: رحمه الله كان شيخنا أبو عبد الله الجرجاني يقول الصحيح عندي من مذهب أصحابنا أن إزالة الحدث توجب استعمال الماء ولا معنى؛ لهذا الخلاف إذ لا نص فيه، وإنما لم يأخذ الماء حكم الاستعمال في مسألة طلب الدلو لمكان الضرورة إذ الحاجة إلى الانغماس في البئر لطلب الدلو مما يتكرر فلو احتاجوا إلى الغسل عند نزح ماء البئر كل مرة لحرجوا حرجا عظيما وصار كالمحدث إذا اغترف الماء بكفه لا يصير مستعملا بلا خلاف، وإن وجد إسقاط الفرض لمكان الضرورة بخلاف ما إذا أدخل غير اليد فيه صار الماء مستعملا. ا هـ.
وعن أبي حنيفة أن الرجل طاهر؛ لأن الماء لا يعطي له حكم الاستعمال قبل الانفصال من

 

ج / 1 ص -219-       ...............................
_________________
العضو وقال الزيلعي والهندي وغيرهما تبعا لصاحب الهداية وهذه الرواية أوفق الروايات أي للقياس وفي فتح القدير وشرح المجمع أنه الرواية المصححة ا هـ. وتعليلهم هذا يفيد أنه لو تمضمض واستنشق داخل البئر قبل انفصاله لا يخرج عن الجنابة لصيرورة الماء مستعملا قبل الانفصال.
وقد صرح به في السراج الوهاج فعلم بما قررناه أن المذهب المختار في هذه المسألة أن الرجل طاهر، والماء طاهر غير طهور أما كون الرجل طاهرا على الصحيح فقد علمته وأما كون الماء مستعملا كذلك على الصحيح فقد علمته أيضا مما قدمناه.
قيدنا أصل المسألة بالجنب؛ لأن الطاهر إذا انغمس لطلب الدلو ولم يكن على أعضائه نجاسة لا يصير الماء مستعملا اتفاقا لعدم إزالة الحدث وإقامة القربة.
وإن انغمس للاغتسال صار مستعملا اتفاقا لوجود إقامة القربة وحكم الحدث حكم الجنابة ذكره في البدائع، وكذا حكم الحائض والنفساء إذا نزلا بعد الانقطاع أما قبل الانقطاع، وليس على أعضائهما نجاسة، فإنهما كالطاهر إذا انغمس للتبرد ؛ لأنها لا تخرج من الحيض بهذا الوقوع فلا يصير الماء مستعملا كذا في فتاوى قاضي خان والخلاصة.
وقيدنا بكونه انغمس لطلب الدلو أو للتبرد لأنه لو انغمس بقصد الاغتسال للصلاة قالوا صار الماء مستعملا اتفاقا لوجود إزالة الحدث ونية القربة لكن ينبغي أن لا يزول حدثه عند أبي يوسف لما نقلوه عنه أن الصب شرط عنده في غير الماء الجاري، وما هو في حكمه لإسقاط الفرض.
ولم أر من صرح بهذا وقد علمت فيما قدمناه في الكلام على ماء الفساقي أن قولهم بأن ماء البئر يصير مستعملا عند الكل مبني على قول ضعيف عن محمد.
والصحيح من مذهب محمد أن ماء البئر لا يصير مستعملا مطلقا؛ لأن المستعمل هو ما تساقط عن الأعضاء، وهو مغلوب بالنسبة إلى الماء الذي يستعمله فاحفظ هذا وكن على ذكر منه ينفعك إن شاء الله تعالى ثم رأيت بعد هذا العلامة ابن أمير حاج في شرح منية المصلي صرح بما ذكرته. وقال الماء المستعمل هو الماء الذي لاقى الرجل الذي زال حدثه فيجب نزح جميع الماء على رواية نجاسة الماء المستعمل ولا يجب نزح شيء منها على رواية طهارته بل

 

ج / 1 ص -220-       ...............................
_________________
هو باق على طهوريته، وقد عرفت أن الرواية الطهارة، وهي المختارة ا هـ.
فعلى هذا قولهم صار الماء مستعملا معناه صار الماء الملاقي للبدن مستعملا لا أن جميع ماء البئر صار مستعملا.
وقيدنا بقولنا ليس على أعضائه نجاسة حقيقية؛ لأنه لو كان كذلك لتنجس الماء اتفاقا وقيد المسألة في المحيط بقوله ولم يتدلك فيه ولم يبين مفهومه وكذا في الخلاصة والظاهر منه أنه إذا نزل للدلو وتدلك في الماء صار الماء مستعملا اتفاقا؛ لأن الدلك فعل منه قائم مقام نية الاغتسال، فصار كما لو نزل للاغتسال وقيد المسألة بعضهم بأن لا يكون استنجى بالأحجار فمفهومه أنه لو كان مستنجيا بالأحجار تنجس الماء اتفاقا لكن هذا يبتني على أن الحجر في الاستنجاء مخفف لا مطهر. وفيه خلاف ذكره في التجنيس وذكر أن المختار أنه مخفف لا مطهر وسنذكره إن شاء الله تعالى في موضعه.
فإن قلت لم قال أبو يوسف بأن الصب شرط في العضو لا في الثوب، وما الفرق بينهما قلت: روي عن أبي يوسف روايتان في رواية أن الصب شرط فيهما، ووجهه أن القياس يأبى التطهير بالغسل؛ لأن الماء يتنجس بأول الملاقاة، وإنما حكمنا بالطهارة ضرورة أن الشرع كلفنا بالتطهير والتكليف يعتمد القدرة.
وسمي الماء طهورا، وذلك يقتضي حصول الطهارة به والضرورة تندفع بطريق الصب، فلا ضرورة إلى طريق آخر مع أن الماء حالة الصب بمنزلة ماء جار، وفي غير حالة الصب راكد والراكد أضعف من الجاري وفي رواية أن الصب شرط في العضو لا في الثوب، وهو المشهور عنه.
ووجهه أن غسل الثياب بطريق الصب لا يتحقق إلا بكلفة ومشقة؛ لأنها تغسلها النساء عادة وكل امرأة لا تجد خادما يصب الماء عليها ولا ماء جاريا وأما غسل البدن يتحقق بطريق الصب من غير كلفة كذا في النهاية.
وقال القاضي الإسبيجابي في شرح مختصر الطحاوي جنب اغتسل في بئر ثم في بئر إلى العشرة قال أبو يوسف: تنجس الآبار كلها.
وقال محمد: يخرج من الثالثة طاهرا ثم ينظر إن كان على بدنه عين نجاسة تنجست المياه كلها، وإن لم يكن عين نجاسة صارت المياه كلها مستعملة ثم بعد الثالثة إن وجدت منه النية يصيره مستعملا، وإن لم توجد منه النية لا يصير مستعملا عنده.

 

ج / 1 ص -221-       وكل إهاب دبغ فقد طهر
_________________
ولو أنه غسل الثوب النجس في إجانة وعصره ثم في إجانة إلى العشرة، فإن الثوب يخرج من الثالثة طاهرا والمياه الثلاثة نجسة في قولهم جميعا وأبو يوسف فرق بين الثوب والبدن فقال؛ لأن في الثوب ضرورة ولا ضرورة في البدن ا هـ. ولا يخفى أن مقتضى مذهب أبي يوسف من اشتراط الصب أن لا تتنجس المياه كلها عنده لما أن الحدث لم يزل ونية الاغتسال، وإن وجدت لكن لا اعتبار بها إذا لم يصح الغسل عنده.
وقد علمت فيما قدمناه عند الكلام على ماء الفساقي أن ما ذكره الإسبيجابي وغيره من كون ماء الآبار يصير مستعملا عند محمد مبني على القول الضعيف لا على الصحيح فارجع إليه تجد لك فرجا كبيرا إن شاء الله تعالى.
وقد ظهر لي أن قولهم بنجاسة ماء الآبار عند أبي يوسف وقولهم بنجاسة ماء البئر إذا نزل للاغتسال عنده مفرع على رواية عن أبي يوسف أن من نزل في البئر، وهو جنب كان الماء نجسا والرجل نجس، وقد ذكر هذه الرواية عنه الإسبيجابي وذكر هذه الفروع بعدها فالظاهر أنها مفرعة عليها لا على القول المشهور عنه أن الرجل بحاله والماء بحاله والله الهادي للصواب .
" قوله وكل إهاب دبغ فقد طهر " لما كان يتعلق بدباغ الإهاب ثلاث مسائل طهارته، وهي تتعلق بكتاب الصيد والصلاة فيه، وهي تتعلق بكتاب الصلاة والوضوء منه بأن يجعل قربة، وهي تتعلق بالمياه ذكر في بحث المياه لإفادة جواز الوضوء منه بطريق الاستطراد فاندفع بهذا ما قيل إن هذا الوضع ليس لبيان هذه المسألة.
والإهاب الجلد غير المدبوغ والجمع أهب بضمتين وبفتحتين اسم له، وأما الأديم فهو الجلد المدبوغ وجمعه أدم بفتحتين كذا في المغرب وكذا يسمى صرما وجرابا كذا في النهاية.
وقوله كل إهاب يتناول كل جلد يحتمل الدباغة لا ما لا يحتمله فلا حاجة إلى استثنائه وبه يندفع ما ذكره الهندي أنه كان ينبغي استثناء جلد الحية فلا يطهر جلد الحية والفأرة به كاللحم، وكذا لا يطهر بالذكاة؛ لأن الذكاة إنما تقام مقام الدباغ فيما يحتمله كذا في التجنيس

 

ج / 1 ص -222-       إلا جلد الخنزير والآدمي
_________________
وفيه إذا أصلح أمعاء شاة ميتة فصلى، وهي معه جازت صلاته؛ لأنه يتخذ منها الأوتار، وهو كالدباغ وكذلك العقب والعصب وكذا لو دبغ المثانة فجعل فيها لبن جاز ولا يفسد اللبن وكذلك الكرش إن كان يقدر على إصلاحه وقال أبو يوسف في الإملاء إن الكرش لا يطهر؛ لأنه كاللحم. ا هـ.
وأما قميص الحية فهو طاهر كذا في السراج الوهاج ثم الدباغ هو ما يمتنع عود الفساد إلى الجلد عند حصول الماء فيه والدباغ على ضربين حقيقي وحكمي.
فالحقيقي هو أن يدبغ بشيء له قيمة كالشب والقرظ والعفص وقشور الرمان ولحى الشجر والملح، وما أشبه ذلك وضبط بعضهم الشب بالباء الموحدة وذكر الأزهري أن غيره تصحيف وضبطه بعضهم بالثاء المثلثة، وهو نبت طيب الرائحة مر الطعم يدبغ به ذكره الجوهري في الصحاح وبأيهما كان فالدباغ به جائز.
وأما القرظ فهو بالظاء لا بالضاد ورق شجر السلم بفتح السين واللام ومنه أديم مقروظ أي مدبوغ لا لقرظ قالوا والقرظ نبت بنواحي تهامة كذا ذكره النووي في شرح المهذب، وإنما نبهنا عليه لأنه يوجد مصحفا في كثير من كتب الفقه ويقرأ بالضاد والحكمي أن يدبغ بالتشميس والتتريب والإلقاء في الريح لا بمجرد التجفيف.
والنوعان مستويان في سائر الأحكام إلا في حكم واحد, وهو أنه لو أصابه الماء بعد الدباغ الحقيقي لا يعود نجسا باتفاق الروايات وبعد الحمي فيه روايتان وسنتكلم على المختارة مع نظائرها إن شاء الله تعالى.
" قوله: إلا جلد الخنزير والآدمي " يعني كل إهاب دبغ جاز استعماله شرعا إلا جلد الخنزير لنجاسة عينه وجلد الآدمي لكرامته، وبهذا التقرير اندفع ما قيل إن الاستثناء من الطهارة نجاسة، وهذا في جلد الخنزير مسلم، فإنه لا يطهر بالدباغ وأما جلد الآدمي فقد ذكر في الغاية أنه إذا دبغ طهر ولكن لا يجوز الانتفاع به كسائر أجزائه فكيف يصح هذا الاستثناء وقيل جلد الخنزير والآدمي لا يقبلان الدباغ؛ لأن لهما جلودا مترادفة بعضها فوق بعض، وعلى هذا يكون الاستثناء منقطعا كما لا يخفى، وإنما استثنى الجلد ولم يستثن الإهاب

 

ج / 1 ص -223-       ...............................
_________________
مع كونه مناسبا للمستثنى منه، وهو قوله كل إهاب دبغ لما أن الإهاب هو الجلد قبل أن يدبغ فكان مهيأ للدباغ يقال تأهب لكذا إذا تهيأ له، واستعد.
وجلد الخنزير والآدمي لا يتهيآن للدبغ؛ فلذا استثنى بلفظ الجلد دون الإهاب، وإنما قدم الخنزير على الآدمي في الذكر؛ لأن الموضع موضع إهانة لكونه في بيان النجاسة وتأخير الآدمي في ذلك أكمل. فحاصله أن من المشايخ من قال إنما لا يطهر جلد الخنزير بالدباغ؛ لأنه لا يندبغ؛ لأن شعره ينبت من لحمه، ولو تصور دبغه لطهر وقال بعضهم: لا يطهر، وإن اندبغ؛ لأنه محرم العين كذا في معراج الدراية وفي المبسوط روي عن أبي يوسف أنه يطهر بالدباغ، وفي ظاهر الرواية لا يطهر إما؛ لأنه لا يحتمل الدباغ أو؛ لأن عينه نجس. ا هـ.
وأما الآدمي فقد قال بعضهم: إن جلده لا يحتمل الدباغة حتى لو قبلها طهر؛ لأنه ليس بنحس العين لكن لا يجوز الانتفاع به ولا يجوز دبغه احتراما له، وعليه إجماع المسلمين كما نقله ابن حزم وقال بعضهم: إن جلده لا يطهر بالدباغة أصلا احتراما له فالقول بعدم طهارة جلده تعظيم له حتى لا يتجرأ أحد على سلخه ودبغه واستعماله.
ويدخل في عموم قوله كل إهاب جلد الفيل فيطهر بالدباغ خلافا لمحمد في قوله إن الفيل نجس العين وعندهما هو كسائر السباع قال في المبسوط من باب الحدث، وهو الأصح فقد جاء في حديث ثوبان أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى لفاطمة سوارين من عاج فظهر استعمال الناس العاج من غير نكير فدل على طهارته ا هـ. وأخرج البيهقي أنه صلى الله عليه وسلم كان يتمشط بمشط من عاج قال الجوهري: العاج عظم الفيل قال العلامة في فتح القدير هذا الحديث

 

ج / 1 ص -224-       ...............................
_________________
يبطل قول محمد بنجاسة عين الفيل وسيأتي تمامه في عظم الميتات إن شاء الله تعالى.
ويدخل أيضا في عموم قوله كل إهاب جلد الكلب فيطهر بالدباغ بناء على أنه ليس بنجس العين، وقد اختلف روايات المبسوط فيه فذكر في بيان سؤره أن الصحيح من المذهب عندنا أن عين الكلب نجس إليه يشير محمد في الكتاب بقوله، وليس الميت بأنجس من الكلب والخنزير ثم قال وبعض مشايخنا يقولون عينه ليس بنجس ويستدلون عليه بطهارة جلده بالدباغ.
وقال في باب الحدث وجلد الكلب يطهر عندنا بالدباغ خلافا للحسن والشافعي؛ لأن عينه نجس عندهما ولكنا نقول: الانتفاع به مباح حالة الاختيار فلو كان عينه نجسة لما أبيح الانتفاع به. وهذا صريح في مخالفة الأول.
وذكر أيضا في كتاب الصيد في مسألة بيع الكلب في التعليل قال وبهذا يتبين أنه ليس بنجس العين وذكر في الإيضاح اختلاف الرواية فيه، وفي المبسوط شيخ الإسلام، وأما جلد الكلب فعن أصحابنا فيه روايتان في رواية يطهر بالدبغ وفي رواية لا يطهر، وهو الظاهر من المذهب وذكر في البدائع أن فيه اختلاف المشايخ فمن قال: إنه نجس العين جعله كالخنزير ومن جعله طاهر العين جعله مثل سائر الحيوانات سوى الخنزير والصحيح أنه ليس بنجس العين، وكذا صححه في موضع آخر وقال: إنه أقرب القولين إلى الصواب ولذلك قال مشايخنا فيمن صلى وفي كمه جرو أنه تجوز صلاته وقيد الفقيه أبو جعفر الهندواني الجواز بكونه مشدود الفم ا هـ. ولذا صحح في الهداية طهارة عينه وتبعه شارحوها كالأتقاني والكاكي والسغناقي واختار قاضي خان في الفتاوى نجاسة عينه وفرع عليها فروعا.
فالحاصل أنه قد اختلف التصحيح فيه والذي يقتضيه عموم ما في المتون كالقدوري والمختار والكنز طهارة عينه ولم يعارضه ما يوجب نجاستها فوجب أحقية تصحيح

 

ج / 1 ص -225-       ...............................
_________________
عدم نجاستها ألا ترى أنه ينتفع به حراسة واصطيادا وقد صرح في عقد الفوائد شرح منظومة ابن وهبان بأن الفتوى على طهارة عينه.
وأما ما استدل به في المبسوط من قول محمد وليس الميت بأنجس من الكلب والخنزير فقد قال في غاية البيان لا نسلم أن نجاسة العين تثبت في الكلب بهذا القدر من الكلام فمن ادعى ذلك، فعليه البيان، ولم يرد نص عن محمد في نجاسة العين، وما أورد من أنه لا يلزم من الانتفاع به طهارة عينه، فإن السرقين ينتفع به إيقادا وتقوية للزارعة مع نجاسة عينه.
أجاب عنه في النهاية وغيرها بأن هذا الانتفاع بالاستهلاك، وهو جائز في نجس العين كالاقتراب من الخمر للإراقة وقال في القنية: رامزا لمجد الأئمة وقد اختلف في نجاسة الكلب والذي صح عندي من الروايات في النوادر والأمالي أنه نجس العين عندهما، وعند أبي حنيفة ليس بنجس العين ا هـ. ومشى عليه ابن وهبان في منظومته وذكر في عقد الفوائد شرحها.
وذكر الناطفي عن محمد إذا صلى على جلد كلب أو ذئب قد ذبح جازت صلاته ولا يخفى أن هذه الرواية تفيد عينه عند محمد فيجوز أن يكون عن محمد روايتان ا هـ.
وقال القاضي الإسبيجابي: وأما الكلب يحتمل الذكاة والدباغة في ظاهر الرواية خلافا لما روى الحسن ا هـ. فإذا علمت هذا فاعلم أن الجلد لا يطهر بالدباغ على القول بنجاسته، ويطهر به على القول بطهارته، وإذا وقع في بئر واستخرج حيا تنجس الماء كله مطلقا على القول بنجاسته كما لو وقع الخنزير.

 

ج / 1 ص -226-       ...............................
_________________
وعلى القول بطهارته لا يتنجس إلا إذا وصل فمه الماء.
وإذا ذكي لا يطهر جلده ولا لحمه على القول بالنجاسة كالخنزير ويطهر على القول بالطهارة.
وإذا صلى، وهو حامل جروا صغيرا لا تصح صلاته على القول بنجاسته مطلقا، وتصح على القول بطهارته إما مطلقا أو بكونه مشدود الفم كما قدمناه عن البدائع.
وتقييده بكونه جروا صغيرا يظهر أن في الكبير لا تصح مطلقا لما أنه، وإن لم يكن نجس العين فهو متنجس؛ لأن مأواه النجاسات، وقد يقال ينبغي أن لا تصح صلاة من حمل جروا صغيرا اتفاقا أما على القول بنجاسة عينه فظاهر.
وأما على القول بطهارة عينه؛ فلأن لحمه نجس بدليل أنهم اتفقوا على أن سؤره نجس لما أنه مختلط بلعابه ولعابه متولد من لحمه، وهو نجس؛ ولهذا قال في التجنيس: نجاسة السؤر دليل نجاسة اللحم.
وقال: العلامة في فتح القدير نجاسة سؤره لا تستلزم نجاسة عينه بل تستلزم نجاسة لحمه المتولد من اللعاب ا هـ.
وسبب نجاسة لحمه اختلاط الدم المسفوح بأجزائه حالة الحياة مع حرمة أكله كما سنوضحه في بيان الأسآر إن شاء الله تعالى.
وبهذا التقرير يندفع ما قد يتوهم إشكالا، وهو أن يقال كيف يكون سؤره نجسا على القول بطهارة عينه، فإن هذه غفلة عظيمة عن فهم كلامهم، فإن قولهم بطهارة عينه لا يستلزم طهارة كل جزء منه ولهذا علل في البدائع لنجاسة سؤر الكلب وسائر السباع بأن سؤر هذه الحيوانات متحلب من لحومها ولحومها نجسة.
وقد قالوا إن حرمة الشيء إذا لم تكن للكرامة كحرمة الآدمي ولا لفساد الغذاء كالذباب والتراب ولا للخبث طبعا كالضفدع والسلحفاة ولا للمجاورة كالماء النجس كانت علامة النجاسة أي نجاسة اللحم فثبت بهذا أنه لا خلاف في نجاسة لحمه عندنا، وإنما الخلاف في نجاسة عينه، فظهر بهذا أن الكلب طاهر العين بمعنى طهارة عظمه وشعره وعصبه وما لا يؤكل منه لا بمعنى طهارة لحمه لكن قد أجاب في المحيط فقال: وإن كان فمه مشدودا

 

ج / 1 ص -227-       ...............................
_________________
بحيث لا يصل لعابه إلى ثوبه جاز؛ لأن ظاهر كل حيوان طاهر ولا يتنجس إلا بالموت ونجاسة باطنه في معدته فلا يظهر حكمها كنجاسة باطن المصلي، وفي شرح منية المصلي لا يخفى أن هذا على القول بطهارة عينه، وأما على القول بأنه نجس العين فلا لظهور أن الصلاة لا تصح لحامله مطلقا كما في حق حامل الخنزير وإذا دخل الماء فانتفض فأصاب ثوب إنسان أفسده، ولو أصابه ماء المطر لم يفسد؛ لأن في الوجه الأول الماء أصاب الجلد وجلده نجس.
وفي الوجه الثاني أصاب شعره وشعره طاهر كذا ذكر الولوالجي وغيره ولا يخفى أن هذا على القول بنجاسة عينه ويستفاد منه أن الشعر طاهر على القول بنجاسة عينه لما ذكر في السراج الوهاج أن جلد الكلب نجس وشعره طاهر هو المختار ويتفرع عليه ذكر الفرع الذي ذكرناه.
أما على القول بالطهارة إذا انتفض فأصاب ثوبا لا ينجسه مطلقا سواء أصاب شعره أو جلده.
ويدل عليه أن صاحب البدائع ذكر هذا الفرع شاهدا للقول بنجاسة عينه، فقال من جعله نجس العين استدل بما ذكر في العيون عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أن الكلب إذا وقع في الماء ثم خرج منه إلى آخر ما ذكرناه من التفصيل عن الولوالجي.
ويدل عليه أيضا أن صاحب التجنيس ذكر هذا الذي ذكرناه مع التفصيل من جملة مسائل ثم قال بعدها، وهذا المسائل تشير إلى نجاسة عينه، ويدل عليه أيضا ما ذكره في فتح القدير في آخر باب الأنجاس من مسائل شتى بما لفظه وما ذكر في الفتاوى من التجنيس من وضع رجله موضع رجل كلب في الثلج أو الطين ونظائر هذه مبني على رواية نجاسة عين الكلب وليست بالمختارة ا هـ. فقوله ونظائر هذا أراد به مثل المسألة التي ذكرناها عن الولوالجي كما لا يخفى لكن ذكر قاضي خان في فتاويه أن هذه المسألة مفرعة على القول بنجاسة عينه.
وعلل للنجاسة في مسألة ما إذا أصاب الماء جلده بتعليل آخر، وهو أن مأواه النجاسات فاستفيد منه أن الماء إذا أصاب جلده وانتفض، فأصاب الثوب نجسه على القول بطهارة عينه؛ لأنه لما كان مأواه النجاسات صار جلده متنجسا.

 

ج / 1 ص -228-       ...............................
_________________
وعلم مما قررناه أنه لا يدخل في قوله من قال بنجاسة عين الكلب الشعر بخلاف قولهم بنجاسة عين الخنزير، فإنه يدخل فيه شعره أيضا فإذا انتفض الخنزير فأصاب ثوبا نجسه مطلقا سواء أصاب الماء جلده أو شعره كما صرح به في السراج الوهاج.
وقال الولوالجي أيضا الكلب إذا أخذ عضو إنسان أو ثوبه إن أخذ في حالة الغضب لا يتنجس؛ لأنه يأخذه بالأسنان ولا رطوبة فيها، وإن أخذه في حالة المزاح يتنجس؛ لأنه يأخذه بالأسنان والشفتين وشفتاه رطبة فيتنجس ا هـ. وكذا ذكر غيره.
وفي القنية رامزا للوبري عضه كلب ولا يرى بللا لا بأس به يعني لا يجب غسله ولا يخفى أن ما في القنية إنما ينظر إلى وجود المقتضي للنجاسة، وهو الريق سواء كان ملاعبا أو غضبانا، وهو الفقه وقد صرح في الملتقط بأنه لا يتنجس ما لم ير البلل سواء كان راضيا أو غضبانا وفي الصيرفية هو المختار وكذا في التتارخانية وواقعات الناطفي وغيرهما كذا في عقد الفوائد وفي خزانة الفتاوى وعلامة الابتلال أن لو أخذه بيده تبتل يده، ولا يخفى أن هذه المسألة على القولين إما على القول بالنجاسة، فظاهر وإما على القول بطهارة عينه؛ فلأن لعابه نجس لتولده من لحم نجس كما قدمناه.
وفي التجنيس امرأة صلت وفي عنقها قلادة فيها سن كلب أو أسد أو ثعلب فصلاتها تامة؛ لأنه يقع عليها الذكاة وكل ما يقع عليه الذكاة فعظمه لا يكون نجسا بخلاف الآدمي والخنزير ا هـ.
وكذا ذكر الولوالجي وذكر في السراج الوهاج معزيا إلى الذخيرة أسنان الكلب طاهرة وأسنان الآدمي نجسة؛ لأن الكلب يقع عليه الذكاة بخلاف الخنزير والآدمي ا هـ. ولا يخفى أن هذا كله على القول بطهارة عينه؛ لأنه علله بكونه يطهر بالذكاة، وأما على القول بنجاسة عينه فلا تعمل فيه الذكاة فتكون أسنانه نجسة كالخنزير وسيأتي الكلام على أسنان الآدمي إن شاء الله تعالى قريبا.

 

ج / 1 ص -229-       ...............................
_________________
وأما إذا أكل من شيء يغسل ثلاثا، ويؤكل كذا في المبتغى بالغين المعجمة، وينبغي أن يكون هذا بالاتفاق كما لا يخفى، ولا يقال ينبغي أن يطهر بالجفاف قياسا على الكلأ إذا تنجس، فإنه يطهر به كما في الخلاصة والخانية؛ لأنا نقول الطهارة في الكلأ بالجفاف حصلت استحسانا بالأثر لكونه في معنى الأرض لاتصاله بها، وما نحن فيه ليس كذلك، وأما بيعه وتمليكه فهو جائز هكذا نقلوا وأطلقوا لكن ينبغي أن يكون هذا على القول بطهارة عينه أما على القول بالنجاسة فهو كالخنزير فبيعه باطل في حق المسلمين كالخنزير لكن المنقول في فتاوى قاضي خان من البيوع أن بيع الكلب المعلم جائز فمفهومه أن غير المعلم لا يجوز بيعه، وفي التجنيس من باب ما يجوز بيعه وما لا يجوز رجل ذبح كلبه ثم باع لحمه جاز؛ لأن اللحم طاهر بخلاف ما لو ذبح خنزيره ثم باعه. ا هـ. فالظاهر منهما أن هذا الحكم على القول بطهارة عينه وذكر السراج الهندي في شرح الهداية معزيا إلى التجريد أن الكلب لو أتلفه إنسان ضمنه، ويجوز بيعه وتمليكه وفي عمدة المفتي لو استأجر الكلب يجوز والسنور لا يجوز؛ لأن السنور لا يعلم ونقل عن التجريد لو استأجر كلبا معلما أو بازيا ليصيد بهما فلا أجرة له قال لعله لفقد العرف والحاجة إليه. ا هـ. وهذا ما تيسر التكلم عليه في المسائل المتعلقة بالكلب، وهذا البيان إن شاء الله تعالى من خواص هذا الكتاب.
ثم اعلم أن في قول المصنف في أصل المسألة دبغ إشارة إلى أنه يستوي أنه يكون الدابغ مسلما أو كافرا أو صبيا أو مجنونا أو امرأة إذا حصل به مقصود الدباغ، فإن دبغه الكافر وغلب على الظن أنهم يدبغون بالسمن النجس، فإنه يغسل كذا في السراج الوهاج.
وفيه مسألة جلد الميتة بعد الدباغ هل يجوز أكله إذا كان جلد حيوان مأكول اللحم قال بعضهم نعم؛ لأنه طاهر كجلد الشاة المذكاة وقال بعضهم: لا يجوز أكله، وهو الصحيح لقوله تعالى
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}[المائدة:3]، وهذا جزء منها وقال عليه السلام في شاة ميمونة

 

ج / 1 ص -230-       ...............................
_________________
رضي الله تعالى عنها "إنما يحرم من الميتة أكلها مع أمره لهم بالدباغ والانتفاع"، وأما إذا كان جلد ما لا يؤكل كالحمار، فإنه لا يجوز أكله إجماعا؛ لأن الدباغ فيه ليس بأقوى من الذكاة وذكاته لا تبيحه فكذا دباغه. ا هـ. وهذا الذي قدمناه في جلود الميتات كله مذهبنا.
وللعلماء فيه سبعة مذاهب ذكرها الإمام النووي في شرح المهذب فنقتصر منها على ما اشتهر من المذاهب.
منها ما ذهب إليه الشافعي أن كل حيوان ينجس بالموت طهر جلده بالدباغ ما عدا الكلب والخنزير وما تولد منهما أو من أحدهما فلا يدخل الآدمي في هذا العموم عنده؛ لأن الصحيح عنده أن الآدمي لا ينجس بالموت فجلده طاهر من غير دبغ لكن لا يجوز استعماله لحرمته وتكريمه.
ومنها ما ذهب إليه أحمد أنه لا يطهر بالدباغ شيء، وهو رواية عن مالك.
ومنها ما ذهب إليه مالك أنه يطهر الجميع حتى الكلب والخنزير إلا أنه يطهر ظاهره دون باطنه فيستعمل في اليابس دون الرطب وجه قول أحمد قوله تعالى
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}[المائدة:3]، وهو عام في الجلد وغيره وحديث عبد الله بن عكيم قال: أتانا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بشهرين "لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب" رواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم قال الترمذي: حديث حسن.

 

ج / 1 ص -231-       ...............................
_________________
ووجه قول مالك أن الدباغ إنما يؤثر في الظاهر دون الباطن.
ووجه قول الشافعي ما رواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم من رواية ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
"أيما إهاب دبغ فقد طهر" وفي صحيح مسلم "إذا دبغ الإهاب فقد طهر"، وهو حديث حسن صحيح.
وما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في شاة ميتة "هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به" فقالوا يا رسول الله إنها ميتة قال إنما حرم أكلها" وفي الباب أحاديث أخر ذكرها النووي في شرح المهذب وإنما خرج الكلب والخنزير؛ لأن الحياة أقوى من الدباغ بدليل أنها سبب لطهارة الجملة والدباغ إنما يطهر الجلد فإذا كانت الحياة لا تطهرهما فالدباغ أولى.
ولنا ما ذكرناه من الأحاديث في دليل الشافعي، وهو كما تراه عام فإخراج الخنزير منه لمعارضة الكتاب إياه وهو قوله تعالى
{أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ}[الأنعام:145] بناء على عود الضمير إلى المضاف إليه؛ لأنه صالح لعوده وعند صلاحية كل من المتضايفين لذلك يجوز كل من الأمرين وقد جوز عود ضمير ميثاقه في قوله تعالى {يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ}[البقرة:27] إلى كل من العهد ولفظ الجلالة وتعين عوده إلى المضاف إليه في قوله تعالى {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}[البقرة:172] ضرورة صحة الكلام وإلى المضاف في قولك رأيت ابن زيد فكلمته؛ لأن المحدث عنه بالرؤية رتب على الحديث الأول عنه الحديث الثاني فتعين هو مرادا به، وإلا اختل النظم فإذا جاز كل منهما لغة والموضع

 

ج / 1 ص -232-       ...............................
_________________
موضع احتياط وجب إعادته على ما فيه الاحتياط، وهو بما قلنا كذا قرره العلامة في فتح القدير أخذا من النهاية ومعراج الدراية.
وفي غاية البيان ومما ظهر لي في فؤادي من الأنوار الربانية والأجوبة الإلهامية أن الهاء لا يجوز أن ترجع إلى اللحم؛ لأن قوله
{فَإِنَّهُ رِجْسٌ}[الأنعام:145] خرج في مقام التعليل، فلو رجع إليه لكان تعليل الشيء بنفسه، فهو فاسد لكونه مصادرة، وهذا؛ لأن نجاسة لحمه عرفت من قوله {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ}[الأنعام:145]؛ لأن حرمة الشيء مع صلاحيته للغذاء لا للكرامة آية النجاسة فحينئذ يكون معناه كأنه قال لحم خنزير نجس، فإن لحمه نجس.
أما إذا رجع الضمير إلى الخنزير فلا فساد؛ لأنه حينئذ يكون حاصل الكلام لحم خنزير نجس؛ لأن الخنزير نجس يعني أن هذا الجزء من الخنزير نجس؛ لأن كله نجس هذا هو التحقيق في الباب لأولي الألباب ا هـ.
وتعقبه شارح متأخر بأنه عند التأمل بمعزل عن الصواب، وكيف لا والجري على هذا المنوال مما يسد باب التعليل بالأوصاف المناسبة للأحكام ولا شك أنه لا يلزم من كون الشيء علامة على شيء أن لا يصح التصريح بكون الشيء الثاني علة للشيء الأول بجعل الشارع لما فيه من الوصف المناسب لذلك بل ذلك يصحح التصريح بكونه علة، ولا يلزم منه تعليل الشيء بنفسه قطعا.
ولنوضحه فيما نحن بصدده فنقول قوله إنه رجس تعليل للتحريم وكون التحريم لا للتكريم علامة على نجاسة المحرم كما هنا يصحح التصريح بكونه نجسا علة لتحريمه لا أنه يمنع منه، وليس فيه تعليل النجاسة بالنجاسة بل تعليل التحريم الكائن لا للتكريم بوصف مناسب له قائم بالعين المحرمة، وهو القذارة حثا على مكارم الأخلاق والتزام المروءة بمجانبة الأقذار والنزاهة منها.
ونظيره قوله تعالى
{وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاءَ سَبِيلاً}[النساء:22] فقوله {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاءَ سَبِيلاً}[النساء:22] تعليل لتحريم نكاح منكوحات الآباء مع أن تحريم نكاحهن علامة على قبحه ممقوتا عند الله تعالى فلم يمنع ذلك من التصريح به علة له ا هـ. وهو كما ترى في غاية الحسن والتحقيق.
وأما الجواب عن احتجاج أحمد أما على الآية، فهو أنها عامة خصتها السنة كذا أجاب النووي عنها في شرح المهذب، وأما عن حديث عبد الله بن عكيم فالاضطراب في متنه وسنده

 

ج / 1 ص -233-       ...............................
_________________
يمنع تقديمه على حديث ابن عباس رضي الله عنهما، فإن الناسخ أي معارض فلا بد من مشاكلته في القوة؛ ولذا قال به أحمد وقال هو آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تركه للاضطراب فيه.
أما في السند فروى عبد الرحمن عن ابن عكيم كما قدمنا وروى أبو داود من جهة خالد الحذاء عن الحكم بن عتبة بالتاء فوق عن عبد الرحمن أنه انطلق هو وناس إلى عبد الله بن عكيم قال فدخلوا ووقفت على الباب فخرجوا إلي فأخبروني أن عبد الله بن عكيم أخبرهم أنه عليه السلام كتب إلى جهينة الحديث ففي هذا أنه سمع من الداخلين وهم مجهولون، وأما في المتن ففي رواية بشهر وفي أخرى بأربعين يوما وفي أخرى بثلاثة أيام هذا مع الاختلاف في صحبة ابن عكيم ثم كيف كان لا يوازي حديث ابن عباس الصحيح في جهة من جهات الترجيح ثم لو كان لم يكن قطعيا في معاضته؛ لأن الإهاب اسم لغير المدبوغ وبعده يسمى شنا وأديما وما رواه الطبراني في الأوسط من لفظ هذا الحديث هكذا "كنت رخصت لكم في جلود الميتة فلا تنتفعوا من الميتة بجلد ولا عصب" في سنده فضالة بن مفضل مضعف.
والحق أن حديث ابن عكيم ظاهر في النسخ لولا الاضطراب المذكور، فإن من المعلوم أن أحدا لا ينتفع بجلد الميتة قبل الدباغ؛ لأنه حينئذ مستقذر فلا يتعلق النهي به ظاهرا كذا في فتح القدير وفيه كلام من وجوه الأول أنه ذكر أن الترمذي حسنه وقد قدمناه أيضا والحسن لا اضطراب فيه.
الثاني أن قوله مع الاختلاف في صحبة ابن عكيم لا يقدح في حجيته؛ لأنه على تقدير كونه ليس صحابيا يكون الحديث مرسلا وأنتم تعملون به.
الثالث أن قوله الحق أن حديث ابن عكيم ظاهر في النسخ إلخ أخذا من قول الحازمي كما نقله الزيلعي المخرج عنه أنه قال وطريق الإنصاف أن حديث ابن عكيم ظاهر الدلالة في النسخ ولكنه كثير الاضطراب غير مسلم؛ لأن أخبارنا مطلقة فيجوز أن يكون بعضها قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بدون المدة المذكورة في حديث ابن عكيم على الاختلاف فيها، وبهذا صرح النووي في شرح المهذب.

 

ج / 1 ص -234-       ...............................
_________________
ويمكن الجواب عن الأول بما ذكره النووي أن الترمذي إنما حسنه بناء على اجتهاده وقد بين هو وغيره وجه ضعفه.
وعن الثاني بأن هذا أعني كونه مرسلا صالح لأن يجاب به على مقتضى مذهبنا.
وأما الجواب عن احتجاج مالك، فهو مخالف للنصوص الصحيحة التي قدمناها، فإنها عامة في طهارة الظاهر والباطن.
وأصرح من ذلك ما رواه البخاري من حديث سودة قالت ماتت لنا شاة فدبغنا مسكها، وهو جلدها فمازلنا ننتبذ فيه حتى صار شنا، وهو حديث صحيح، فإنه استعمل في مائع وهم لا يجيزونه، وإن كانوا يجيزون شرب الماء منه؛ لأن الماء لا يتنجس عندهم إلا بالتغير.
وأما الجواب عن احتجاج الشافعي إن قلنا بأن الكلب ليس بنجس العين، وإن جلده يطهر بالدباغ، فهو عموم الأحاديث الصحيحة المتقدمة، فإنه يدخل في عمومها الكلب؛ لأن أيا في الحديث نكرة وصفت بصفة عامة فتعم كما عرف في الأصول، وأما الخنزير فإنما خرج عن العموم لعارض ذكرناه.
ولقد أنصف النووي حيث قال في شرح المهذب واحتج أصحابنا بأحاديث لا دلالة فيها فتركها " لأني التزمت في خطبة الكتاب الإعراض عن الدلائل الواهية " ا هـ وإن قلنا إن الكلب كالخنزير فلا يحتاج إلى الجواب وقد قدمنا أن الدباغ جائز بكل ما يمنع النتن والفساد، ولو ترابا أو ملحا.
وقال الشافعي لا يجوز بالشمس والتراب والملح لما رواه الدارقطني والبيهقي من حديث ابن عباس في شاة ميمونة قال إنما حرم أكلها أو ليس في الماء والقرظ ما يطهرها، وهو حديث حسن ذكره النووي في شرح المهذب ورواه أبو داود والنسائي في سننهما بمعناه عن

 

ج / 1 ص -235-       ...............................
_________________
ميمونة قال يطهرها الماء والقرظ ولنا ما تقدم من الأحاديث الصحيحة، فإن اسم الدباغ يتناول ما يقع بالتشميس والتتريب فلا يقيد بشيء؛ ولأن المقصود يحصل به فلا معنى لاشتراط غيره وليس الحديث الذي استدل به الشافعي مما يقتضي الاختصاص بل المراد به ما في معناه بالإجماع ولا يختص بما ذكر في الحديث ثم عندنا يجوز بيع الجلد المدبوغ وينتفع به، وهو قول الشافعي في الجديد وجمهور العلماء.
وأما بيعه قبل الدباغ فقد نقل النووي في شرح المهذب أن أبا حنيفة يقول بجواز بيعه ورهنه كالثوب النجس، وهو سهو منه، فإن مذهب أبي حنيفة عدم جواز بيع جلود الميتة قبل الدباغ ذكره في المحيط وشرح الطحاوي وكثير من الكتب وفي بعض الكتب ذكر خلافا قال بعضهم: إنه ملحق بالميتة وبعضهم ألحقه بالخمر فالظاهر منه الاتفاق على عدم الجواز. واعلم أن ما طهر جلده بالدباغ طهر بالذكاة لحمه وجلده سواء كان مأكولا أو لا أما طهارة جلده، فهو ظاهر المذهب كما في البدائع.
وفي النهاية أنه اختيار بعض المشايخ وعند بعضهم إنما يطهر جلده بالذكاة إذا لم يكن سؤره نجسا ا هـ. وأما طهارة لحمه إذا كان غير مأكول فقد اختلف فيه فصحح في البدائع والهداية والتجنيس طهارته وصحح في الأسرار والكفاية والتبيين نجاسته وفي المعراج أنه قول المحققين من أصحابنا وفي الخلاصة هو المختار واختاره قاضي خان، وفي التبيين أنه قول أكثر المشايخ، وأما المصنف فقد اختلف كلامه فصحح في الكافي نجاسته واختار في الكنز في الذبائح طهارته وسنتكلم عليها بدلائلها وبيان ما هو الحق ثمة إن شاء الله تعالى.
لكن في كثير من الكتب أن الذكاة إنما توجب الطهارة في الجلد واللحم إذا كانت من الأهل في المحل، وهو ما بين اللبة واللحيين، وقد سمى بحيث لو كان مأكولا يحل أكله بتلك الذكاة فذبيحة المجوسي لا توجب الطهارة؛ لأنها إماتة.
وقد قدمنا عن معراج الدراية معزيا إلى المجتبى أن ذبيحة المجوسي وتارك التسمية عمدا توجب الطهارة على الأصح، وإن لم يكن مأكولا، وكذا نقل صاحب المعراج في

 

ج / 1 ص -236-       وشعر الإنسان والميتة وعظمهما طاهران
_________________
هذه المسألة الطهارة عن القنية أيضا هنا وصاحب القنية هو صاحب المجتبى، وهو الإمام الزاهدي المشهور علمه وفقهه.
ويدل على أن هذا هو الأصح أن صاحب النهاية ذكر هذا الشرط الذي قدمناه بصيغة قيل معزيا إلى فتاوى قاضي خان.
وفي منية المصلي السنجاب إذا أخرج من دار الحرب وعلم أنه مدبوغ بودك الميتة لا تجوز الصلاة عليه ما لم يغسل، وإن علم أنه مدبوغ بشيء طاهر جاز، وإن لم يغسل, وإن شك فالأفضل أن يغسل. ا هـ.
" قوله وشعر الإنسان والميتة وعظمهما طاهران " إنما ذكرهما في بحث المياه لإفادة أنه إذا وقع في الماء لا ينجسه لطهارته عندنا.
والأصل أن كل ما لا تحله الحياة من أجزاء الهوية محكوم بطهارته بعد موت ما هي جزؤه كالشعر والريش والمنقار والعظم والعصب والحافر والظلف واللبن والبيض الضعيف القشر والإنفحة لا خلاف بين أصحابنا في ذلك، وإنما الخلاف بينهم في الإنفحة واللبن هل هما متنجسان فقالا نعم لمجاورتهما الغشاء النجس، فإن كانت الإنفحة جامدة تطهر بالغسل، وإلا تعذر طهارتها.
وقال أبو حنيفة: رحمه الله تعالى ليسا بمتنجسين وعلى قياسهما قالوا في السخلة إذا سقطت من أمها، وهي رطبة فيبست ثم وقعت في الماء لا تنجس؛ لأنها كانت في معدنها كذا في فتح القدير.
وفي إدخال العصب في المسائل التي لا خلاف فيها نظر فقد صرحوا أن في العصب روايتين.
وصرح في السراج الوهاج أن الصحيح نجاسته إلا أن صاحب الفتح تبع صاحب البدائع.
فالتحرير ما في غاية البيان أن أجزاء الميتة لا تخلو إما أن يكون فيها دم أو لا فالأولى

 

ج / 1 ص -237-       ...............................
_________________
كاللحم نجسة والثانية ففي غير الخنزير والآدمي ليست بنجسة إن كانت صلبة كالشعر والعظم بلا خلاف.
وأما الإنفحة المائعة واللبن فكذلك عند أبي حنيفة وعندهما نجس.
وأما الآدمي ففيه روايتان في رواية نجسة فلا يجوز بيعها ولا الصلاة معها إذا كانت أكثر من قدر الدرهم وزنا أو عرضا وفي رواية طاهرة لعدم الدم وعدم جواز البيع للكرامة.
وأما العصب ففيه روايتان إحداهما أنه طاهر؛ لأنه عظم والأخرى أنه نجس؛ لأن فيه حياة والحس يقع به ا هـ.
وأما الخنزير فشعره وعظمه وجميع أجزائه نجسة ورخص في شعره للخرازين للضرورة؛ لأن غيره لا يقوم مقامه عندهم وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه كره لهم ذلك أيضا ولا يجوز بيعه في الروايات كلها، وإن وقع شعره في الماء القليل نجسه عند أبي يوسف.
وعند محمد لا ينجس، وإن صلى معه جاز عند محمد وعند أبي يوسف لا يجوز إذا كان أكثر من قدر الدراهم واختلفوا في قدر الدرهم قيل وزنا وقيل بسطا كذا في السراج الوهاج وذكر السراج الهندي أن قول أبي يوسف بنجاسته هو ظاهر الرواية وصححه في البدائع ورجحه في الاختيار.
وفي التجنيس لا بأس ببيع عظام الموتى؛ لأنه لا يحل العظام الموت وليس في العظام دم فلا تنجس فيجوز بيعها إلا بيع عظام الآدمي والخنزير ا هـ. وفي المحيط أن عظم الميتة إذا كان عليه دسومة ووقع في الماء نجسه وفي السراج الوهاج شعر الميتة إنما يكون طاهرا إذا كان محلوقا أو مجزوزا، وإن كان منتوفا، فهو نجس وكذا شعر الآدمي على هذا التفصيل، وعن محمد في نجاسة شعر الآدمي وظفره روايتان الصحيح منهما الطهارة.
وفي النهاية واختلف في السن هل هو عظم أو طرف عصب يابس؛ لأن العظم لا يحدث في الإنسان بعد الولادة وقيل هو عظم.
وما وقع في الذخيرة وغيرها من أن أسنان الكلب إذا كانت يابسة طاهرة وأسنان الآدمي نجسة بناء على أن الكلب يطهر بالذكاة وما يطهر بها فعظمه طاهر بخلاف الآدمي فضعيف، فإن

 

ج / 1 ص -238-       ...............................
_________________
المصرح به في البدائع والكافي وغيرهما بأن سن الآدمي طاهرة على ظاهر المذهب، وهو الصحيح وعلل له في البدائع بأنه لا دم فيها والمنجس هو الدم؛ ولأنه يستحيل أن تكون طاهرة من الكلب نجسة من الآدمي المكرم إلا أنه لا يجوز بيعها ويحرم الانتفاع بها احتراما للميت.
كما إذا طحن سن الآدمي مع الحنطة أو عظمه لا يباح تناول الخبز المتخذ من دقيقهما لا لكونه نجسا بل تعظيما له كي لا يصير متناولا من أجزاء الآدمي كذا هذا وكذا ذكر في المبسوط والنهاية والمعراج.
وعلى هذا ما ذكر في التجنيس رجل قطعت أذنه أو قلعت سنه فأعاد أذنه إلى مكانها أو سنه الساقط إلى مكانها فصلى أو صلى وأذنه أو سنه في كمه يجزيه؛ لأن ما ليس بلحم لا يحله الموت فلا يتنجس بالموت ا هـ. لكن ما ذكره في السن مسلم.
أما الأذن فقد قال في البدائع ما أبين من الحي من الأجزاء إن كان المبان جزءا فيه دم كاليد والأذن والأنف ونحوها، فهو نجس بالإجماع، وإن لم يكن فيه دم كالشعر والصوف والظفر، فهو طاهر عندنا خلافا للشافعي ا هـ.
لكن في فتاوى قاضي خان والخلاصة، ولو قلع إنسان سنه أو قطع أذنه ثم أعادهما إلى مكانهما أو صلى وسنه أو أذنه في كمه تجوز صلاته في ظاهر الرواية ا هـ. فهذا يقوي ما في التجنيس وفي السراج الوهاج وإن قطعت أذنه قال أبو يوسف لا بأس بأن يعيدها إلى مكانها، وعندهما لا يجوز ا هـ. وبما ذكرناه عن الفتاوى يندفع ما ذكر في بعض الحواشي أنه لو صلى، وهو حامل سن غيره أو حامل سن نفسه ولم يضعها في مكانها تفسد صلاته اتفاقا كما لا يخفى، وكذا ذكر في المعراج أنه لو صلى، وهو حامل سن غيره لا يجوز بالاتفاق وفيه من النظر ما علمت.
وفي الخلاصة وفتاوى قاضي خان والتجنيس والمحيط جلد الإنسان إذا وقع في الماء أو قشره إن كان قليلا مثل ما يتناثر من شقوق الرجل ونحوه لا يفسد الماء، وإن كان كثيرا يعني قدر الظفر يفسد والظفر لا يفسد الماء ا هـ. وعلل له في التجنيس بأن الجلد

 

ج / 1 ص -239-       ...............................
_________________
والقشر من جملة لحم الآدمي والظفر عصب، وهذا كله مذهبنا، وقال الشافعي الكل نجس إلا شعر الآدمي لقوله تعالى
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}[المائدة:3]، وهو عام للشعر وغيره.
 ولنا في المعهود فيها حالة الحياة الطهارة، وإنما يؤثر الموت النجاسة فيما يحله ولا تحلها الحياة فلا يحلها الموت، وإذا لم يحلها وجب الحكم ببقاء الوصف الشرعي المعهود لعدم المزيل.
وفي السنة أيضا ما يدل عليه، وهو قوله عليه السلام في شاة مولاة ميمونة حين مر بها ميتة "إنما حرم أكلها" في الصحيحين وفي لفظ "إنما حرم عليكم لحمها ورخص لكم في مسكها" وفي الباب حديث الدارقطني إنما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الميتة لحمها فأما الجلد والشعر والصوف، فلا بأس، وهو وإن أعله بتضعيف عبد الجبار بن مسلم فقد ذكره ابن حبان في الثقات فهو لا ينزل عن درجة الحسن وأخرجه الدارقطني من طريق أخرى وضعفهما ومن طريق أخرى بمعناه ضعيفة. وأخرج البيهقي أنه عليه السلام كان يتمشط بمشط من عاج وضعفه فهذه عدة أحاديث لو كانت ضعيفة حسن المتن فكيف ومنها ما لا ينزل عن الحسن وله الشاهد الأول كذا في فتح القدير مختصرا وفي البدائع لأصحابنا طريقان أحدهما أن هذه الأشياء ليست بميتة؛ لأن الميتة من الحيوانات في عرف الشرع اسم لما زالت حياته لا بصنع أحد من العباد أو بصنع غير مشروع ولا حياة في هذه الأشياء، فلا تكون ميتة.

 

ج / 1 ص -240-       ...............................
_________________
والثاني أن نجاسة الميتات ليست لأعيانها بل لما فيها من الدماء السائلة والرطوبات النجسة ولم توجد في هذه الأجزاء ا هـ. وقد اقتصر في الهداية على الطريقة الأولى، وفي غاية البيان على الثانية.
ولا يخفى أن الطريقة المذكورة في الهداية لا تجري في العصب؛ لأن فيه حياة لما فيه من الحركة ألا ترى أنه يتألم الحي بقطعه بخلاف العظم، فإن قطع قرن البقرة لا يؤلمها فدل أنه ليس في العظم حياة كذا في النهاية.
ولهذا كان فيه روايتان فالأولى هي الطريقة الثانية وعليها لا يحتاج إلى الجواب عن قوله تعالى
{قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}[يّـس:78، 79] ، فإن هذه الأشياء من الميتات إلا أن نجاسة الميتات إنما هي لما فيها من الدماء والرطوبات والعصب صقيل لا يتصور فيه ذلك، وكذا في العظم والشعر.
وأما الجواب عن الآية على الطريقة الأولى فمن ثلاثة أوجه: الأول: ما ذكره في الكشاف بقوله ولقد استشهد بهذه الآية من يثبت الحياة في العظام ويقول إن عظام الموتى نجسة؛ لأن الموت يؤثر فيها من قبل أن الحياة تحلها.
وأما أصحاب أبي حنيفة رحمهم الله فهي عندهم طاهرة وكذلك الشعر والعصب ويزعمون أن الحياة لا تحلها فلا يؤثر فيها الموت، ويقولون المراد بإحياء العظام في الآية ردها إلى ما كانت عليه غضة رطبة في بدن حي حساس ا هـ. ولا يتوهم أن صاحب الكشاف لم يرتض ما ذكره عن الحنفية بدليل قوله يزعمون لأن زعم مطية الكذب كما قيل؛ لأنا لا نسلم أن زعم خاص في الباطل بل يستعمل تارة فيه وتارة في الحق.
فمن الأول قوله تعالى
{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا}[التغابن:7] ومن الثاني قوله في حديث مسلم زعم رسولك أن الله افترض علينا خمس صلوات صرح به النووي في شرح مسلم وأطال الكلام فيه. الثاني: أن المراد بالعظام النفوس كما في معراج الدراية.

 

ج / 1 ص -241-       ...............................
_________________
وحينئذ يعود الضمير في قوله
{وَهِيَ رَمِيمٌ}[يّـس:78] إلى العظام الحقيقية على طريقة الاستخدام؛ لأن من أقسامه كما عرف في علم البديع أن يراد بلفظ له معنيان أحدهما ثم يؤتى بعده بضمير يعود في اللفظ عليه وفي المعنى على معناه الآخر كقول معاوية بن أبي مالك.
إذا نزل السماء بأرض قوم
رعيناه وإن كانوا غضابا.
فإنه أراد بالسماء المطر وأراد بالضمير في رعيناه النبات والنبات أحد معنى السماء؛ لأنه مجاز عنه باعتبار أن المطر سببه وسوغ له عود الضمير إلى النبات، وإن لم يكن تقدم له ذكر لتقدم ذكر سببه، وهو السماء التي أريد بها المطر.
فكذلك ما نحن فيه، فإن العظام له معنيان أحدهما: مراد، وهو النفوس مجازا من إطلاق البعض وإرادة الكل والمعنى الآخر، وهو العظام الحقيقية غير مراد.
ثم الضمير في قوله
{وَهِيَ رَمِيمٌ}[يّـس:78] يعود إلى العظام بالمعنى الغير المراد لا بالمعنى المراد وهو النفوس فكان من باب الاستخدام هذا ما ظهر لي.
الثالث ما ذكره في غاية البيان والعناية أن المراد أصحاب العظام على تقدير مضاف فإن قلت المفهوم من الآية إحياؤها في الآخرة وأحوالها لا تناسب أحوال الدنيا.
قلنا سوق الكلام صريح في الرد على من أنكر إعادتها في الآخرة إلى ما كانت عليه في الدنيا بعد أن صارت بالية خالية عن استعداد العود إليها في زعمهم.
وقد استدل بعض مشايخنا لغير العظم ونحوه بقوله تعالى
{وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ}[النحل:80].
ووجه الدلالة عموم الآية، فإن الله تعالى من علينا بأن جعل لنا الانتفاع، ولم يخص شعر الميتة من المذكاة فهو عموم إلا أن يمنع منه دليل وأيضا، فإن الأصل كونها طاهرة قبل الموت بإجماع ومن زعم أنه انتقل إلى نجاسة فعليه البيان، فإن قيل حرمت عليكم الميتة وذلك عبارة عن الجملة.

 

ج / 1 ص -242-       ...............................
_________________
قلنا نخصه بما ذكرنا، فإنه منصوص عليه في ذكر الصوف، وليس في آيتكم ذكر الصوف صريحا، فكان دليلنا أولى كذا ذكر القرطبي في تفسيره وذكر أن الصوف للغنم والوبر للإبل والشعر للمعز وقد أجاب الأتقاني في غاية البيان أيضا عن استدلالهم بقوله تعالى
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}[المائدة:3] بأنا لا نسلم أن المراد منه حرمة الانتفاع فلم لا يجوز أن يكون المراد منه حرمة الأكل بدليل ما رويناه في حديث مولاة ميمونة ولئن قال الشافعي في بعض هذه الأشياء رطوبة فنقول نحن نقول أيضا بنجاسته إذا بقيت الرطوبة.
وكلامنا فيما إذا لم تبق الرطوبة به في العظم والحافر والظلف ونحوه إذا غسل الشعر ونحوه وأزيل عنه الدم المتصل والرطوبة النجسة ولئن قال الشعر ينمو بنماء الأصل.
فنقول: نعم ينمو ولكن لا نسلم أن النماء يدل على الحياة الحقيقية كما في النبات والشجر.
وقوله بنماء الأصل غير مسلم أيضا؛ لأنه قد ينمو مع نقصان الأصل كما إذا هزل الحيوان بسبب مرض فطال شعره ا هـ. وقد وقع في الهداية تعريف الموت بزوال الحياة فقال في كشف الأسرار شرح أصول فخر الإسلام من باب الأهلية الموت عند أهل السنة أمر وجودي؛ لأنه ضد الحياة لقوله تعالى
{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ}[الملك:2] وعند المعتزلة هو زوال الحياة، فهو أمر عدمي وتفسير صاحب الهداية بزوال الحياة تفسير بلازمه كذا نقل عن العلامة شمس الأئمة الكردي ا هـ. وهكذا أوله في الكافي.
وذكر في معراج الدراية أن الموت ضد الحياة والضدان صفتان وجوديتان يتعاقبان على موضوع واحد ويستحيل اجتماعهما، ويجوز ارتفاعهما وزوال الحياة ليس بضد الحياة كما أن

 

ج / 1 ص -243-       ...............................
_________________
زوال السكون ليس بضد السكون فكان هذا تعريفا بلازمه ا هـ.
وتعقبه في غاية البيان بأنا لا نسلم أن زوال الحياة ليس بضد لها، وكيف يقال هذا وزوال الحياة مع الحياة لا يجتمعان وليس معنى التضاد إلا هذا ولا نسلم أن زوال الحياة ليس بوجودي فهل لزوال الحياة وجود أم لا، فإن قلت نعم فيكون زوال الحياة وجوديا، وإن قلت لا فيكون حينئذ زوال الحياة حياة، وهو محال؛ لأن عدم زوال الحياة عبارة عن الحياة ا هـ. ولا يخفى ضعفه؛ لأن الموت نفس زوال الحياة لا عدم زوالها ولا يلزم من كون نقيض الشيء عدميا أن يكون عدم عدمه حتى يكون نفي النفي، فيكون إثباتا.
وأما جعله زوال الحياة ضدا لها فغير مسلم؛ لأن التضاد الحقيقي هو أن يكون بين الموجودين اللذين يمكن تعقل أحدهما مع الذهول عن الآخر تعاقب على الموضوع ويكون بينهما غاية الخلاف، وهي ما يكون مقتضى كل منهما مغاير المقتضى الآخر كالسواد والبياض، فإن مقتضى أحدهما قبض البصر ومقتضى الثاني تفريقه ولا شك أن زوال الحياة عدمي فلا يكون ضدا لها، وإنما يكون بينهما تقابل العدم والملكة وقد ذكر بعض الأصوليين في شرح المغني أن هذا الفرق إنما هو على اصطلاح أهل المعقول.
أما على اصطلاح الأصوليين فالضد ما يقابل الشيء ويكون بينهما غاية الخلاف سواء كانا وجوديين أو أحدهما وجودي، والآخر عدمي وقد اختار صاحب الكشاف أن الموت عدمي فقال والحياة ما يصح بوجوده الإحساس.
وقيل ما يوجب كون الشيء حيا، وهو الذي يصح منه أن يعلم ويقدر، والموت عدم ذلك فيه ومعنى خلق الموت والحياة إيجاد ذلك المصحح وإعدامه.
قال الطيبي رحمه الله في حاشيته قوله والموت عدم ذلك فيه الانتصاف لمذهب القدرية أن الموت عدم واعتقاد السنية أنه أمر وجودي ضاد الحياة وكيف يكون عدميا وقد وصف بكونه مخلوقا وعدم الحوادث أزلي، ولو كان المعدوم مخلوقا لزم وقوع الحوادث أزلا، وهو ظاهر البطلان.

 

ج / 1 ص -244-       ...............................
_________________
وقال صاحب الفوائد: لو كان الموت عدم الحياة استحال أن يكون مخلوقا وقد قال بعد ذلك معنى خلق الموت والحياة إيجاد ذلك المصحح وإعدامه، وهذا أيضا منظور فيه وقال الإمام: هي الصفة التي يكون الموصوف بها بحيث يصح أن يعلم ويقدر واختلفوا في الموت قيل أنه عبارة عن عدم هذه الصفة.
وقيل صفة وجودية مضادة للحياة لقوله تعالى
{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ}[الملك:2] والعدم لا يكون مخلوقا هذا هو التحقيق.
إلى هنا كلام الطيبي رحمه الله تعالى.
وقال الإمام القرطبي في تفسيره قال العلماء رضي الله عنهم الموت ليس بعدم محض ولا فناء صرف، وإنما هو تعلق الروح بالبدن ومفارقته وحيلولة بينهما وتبدل حال وانتقال من دار إلى دار والحياة عكس ذلك ونقل أقوالا فيهما لا نطيل بذكرها.
والحاصل أن مذهب أهل السنة أن الموت أمر وجودي كالحياة ومذهب المعتزلة كما في الكشف أو القدرية كما في الحاشية أنه عدمي وعلى كل منهما لا نزاع في أن الموت يكون بعد الحياة إذ ما لم يسبق له حياة لا يوصف بالموت حقيقة في اللغة والعرف.
ولهذا قال السيد الشريف في شرح المواقف بعد تفسير الموت بعدم الحياة عما من شأنه أن يكون حيا: والأظهر أن يقال عدم الحياة عما اتفق لها ا هـ. لكن قد يقال يحتاج حينئذ إلى الجواب عن قوله تعالى
{وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ}[البقرة:28] وفي الكشاف، فإن قلت كيف قيل لهم أموات في حال كونهم جمادا، وإنما يقال ميت فيما يصح فيه الحياة من الشيء قلت بل يقال ذلك في حال كونهم جمادا لعادم الحياة كقوله {بَلْدَةً مَيْتاً}[الفرقان:49] {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ}[يّـس:33] {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ}[النحل:21] ويجوز أن يكون استعارة في

 

ج / 1 ص -245-       وتنزح البئر بوقوع نجس
_________________
اجتماعهما في أن لا روح ولا إحساس ا هـ. وقرر القطب في حاشيته الاستعارة بأن يشبه الجماد بالميت في عدم الروح ثم استعير اللفظ والله أعلم.
" تتمة " نافجة المسك طاهرة مطلقا على الأصح
" قوله: وتنزح البئر بوقوع نجس " لما ذكر حكم الماء القليل بأنه يتنجس كله عند وقوع النجاسة فيه حتى يراق كله ورد عليه ماء البئر نقضا في أنه لا ينزح كله في بعض الصور، فذكر أحكامه.
قال الشارحون: ومنهم المصنف في المستصفى أن المراد بنزح البئر نزح مائها إطلاقا لاسم المحل على الحال كقولهم جرى الميزاب وسال الوادي وأكل القدر والمراد ما حل فيها للمبالغة في إخراج جميع الماء والمراد بالبئر هنا هي التي لم تكن عشرا في عشر.
أما إذا كانت عشرا في عشر لا تنجس بوقوع نجس إلا بالتغير كما يفيده ما سنذكره والمراد بالنجس هنا هو الذي ليس حيوانا كالدم والبول والخمر.
وأما أحكام الحيوان الواقع فيها فسنذكرها مفصلة.
وبهذا يظهر ضعف ما في التبيين من أن المصنف أطلق ولم يقدر بشيء؛ لأنه لم يعين ما وقع فيها من النجاسة فأي نجس وقع فيها يوجب نزحها، وإنما ينجس ماء البئر كله بقليل النجاسة؛ لأن البئر عندنا بمنزلة الحوض الصغير تفسد بما يفسد به الحوض الصغير إلا أن يكون عشرا في عشر كذا في فتاوى قاضي خان في التفاريق عن أبي حنيفة وأبي يوسف البئر لا تنجس كالماء الجاري البئر إذا لم تكن عريضة، وكان عمق مائها عشرة أذرع فصاعدا فوقعت النجاسة فيها لا يحكم بنجاستها في أصح الأقاويل ا هـ. وعزاه في القنية إلى شرح صدر القضاة.
وذكر ابن وهبان أنه مخالف لما أطلقه جمهور الأصحاب كذا في شرح منية المصلي ولا

 

ج / 1 ص -246-       ...............................
_________________
يخفى أن هذا التصحيح لو ثبت لانهدمت مسائل أصحابنا المذكورة في كتبهم.
وقد عللوا بأن البئر لما وجب إخراج النجاسة منها ولا يمكن إخراجها منها إلا بنزح كل مائها وجب نزحه لتخرج النجاسة معه حقيقية.
لكن قال في السراج الوهاج، ولو وقعت في البئر خشبة نجسة أو قطعة من ثوب نجس وتعذر إخراجها وتغيبت فيها طهرت الخشبة والقطعة من الثوب تبعا لطهارة البئر وعزاه إلى الفتاوى.
وفي المجتبى ومعراج الدراية ونزحه أن يقل حتى لا يمتلئ الدلو منه أو أكثره ا هـ.
أي ونزح ماء البئر لكن هذا إنما يستقيم فيما إذا كانت البئر معينا لا تنزح وأخرج منها المقدار المعروف أما إذا كانت غير معين، , فإنه لا بد من إخراجها لوجوب نزح جميع الماء.
ثم البئر مؤنثة مهموزة ويجوز تخفيف همزها، وهي مشتقة من بأرت أي حفرت وجمعها في القلة أبؤر وأبآر بهمزة بعد الباء فيهما، ومن العرب من يقلب الهمزة في أبآر وينقل فيقول آبار وجمعها في الكثرة بآر بكسر الباء بعدها همزة كذا ذكر النووي في شرح مسلم من كتاب الإيمان والإسلام.
واعلم أن مسائل الآبار مبنية على اتباع الآثار دون القياس فإن القياس فيها إما أن لا تطهر أصلا كما قال بشر لعدم الإمكان لاختلاط النجاسة بالأوحال والجدران والماء ينبع شيئا فشيئا وإما أن لا تتنجس إسقاطا الحكم لحم النجاسة حيث تعذر الاحتراز أو التطهير كما نقل عن محمد أنه قال اجتمع رأيي ورأي أبي يوسف أن ماء البئر في حكم الجاري؛ لأنه ينبع من أسفله ويؤخذ من أعلاه فلا يتنجس كحوض الحمام قلنا وما علينا أن ننزح منها دلاء أخذا بالآثار.
ومن الطريق أن يكون الإنسان في يد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم كالأعمى في يد القائد كذا في فتح القدير وغيره من الشروح.
وفي البدائع بعدما ذكر القياسين قال إلا أنا تركنا القياسين الظاهرين بالخبر والأثر وضرب من الفقه الخفي.

 

ج / 1 ص -247-       ...............................
_________________
أما الخبر فما روى أبو جعفر الأسروشني بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الفأرة تموت في البئر ينزح منها عشرون وفي رواية ثلاثون وعن أبي سعيد الخدري أنه قال في دجاجة ماتت في البئر ينزح منها أربعون دلوا وعن ابن عباس وابن الزبير أنهما أمرا بنزح جميع ماء زمزم حين مات فيها زنجي، وكان بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليهما أحد فانعقد الإجماع عليه.
وأما الفقه الخفي فهو أن في هذه الأشياء دما مسفوحا وقد تشرب في أجزائها عند الموت فنجسها وقد جاور هذه الأشياء و الماء يتنجس أو يفسد بمجاورة النجس؛ لأن الأصل أن ما جاور النجس نجس بالشرع قال صلى الله عليه وسلم في الفأرة تموت في السمن الجامد يقور ما حولها ويلقى وتؤكل البقية فقد حكم النبي صلى الله عليه وسلم بنجاسة جار النجس وفي الفأرة ونحوها وما

 

ج / 1 ص -248-       ...............................
_________________
يجاورها من الماء مقدار ما قدره أصحابنا، وهو عشرون دلوا أو ثلاثون لصغر جثتها فحكم بنجاسة هذا القدر من الماء لأن ما وراء هذا القدر لم يجاور الفأرة بل جاورها ما جاور الفأرة والشرع ورد بتنجيس جار الخبث لا بتنجيس جار جار النجس.
ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بطهارة جار السمن الذي جاور الفأرة وحكم بنجاسة ما جاور الفأرة، وهذا؛ لأن جار جار النجس لو حكم بنجاسته لحكم أيضا بنجاسة ما جاور جار النجس ثم هكذا إلى ما لا نهاية له فيؤدي إلى أن قطرة من بول أو فأرة لو وقعت في بحر عظيم أن يتنجس جميع مائه لاتصال بين أجزائه وذلك فاسد.
وفي الدجاجة والسنور وأشباه ذلك المجاورة أكثر لزيادة ضخامة في جثتها فقدر بنجاسة ذلك القدر. والآدمي وما كان جثته مثل جثته كالشاة ونحوها مجاور جميع الماء في العادة لعظم جثته فيوجب تنجيس جميع الماء وكذا إذا تفسخ شيء من هذه الواقعات أو انتفخ؛ لأن عند ذلك تخرج البلة منها الرخاوة فيها فتجاور جميع أجزاء الماء وقبل ذلك لا يجاور إلا قدر ما ذكرنا لصلابة فيها.
ولهذا قال محمد إذا وقع في البئر ذنب فأرة ينزح جميع الماء؛ لأن موضع القطع لا ينفك عن بلة فيجاور أجزاء الماء فيفسدها. ا هـ. وهذا تقرير حسن لو لم يكن مخالفا لعامة كتب أصحابنا، فإنها مصرحة بأن مسائل الآبار ليس للرأي فيها مدخل وما ذكره خلافه كذا تعقبه شارح المنية.
والذي ظهر لي أن ما ذكره في البدائع لا يخالف ما صرحوا به؛ لأنه ذكر أن هذا معنى خفي فقهي لا قياس جلي ولا يكون من قبيل الرأي إلا القياس الجلي وأما القياس الخفي فهو المسمى بالاستحسان قال في التوضيح القياس جلي وخفي فالخفي يسمى بالاستحسان لكنه أعم من القياس الخفي، فإن كل قياس خفي استحسان وليس كل استحسان قياسا خفيا؛ لأن الاستحسان قد يطلق على غير القياس الخفي أيضا لكن الغالب في كتب أصحابنا أنه إذا ذكر

 

ج / 1 ص -249-       لا ببعرتي إبل غنم
_________________
الاستحسان أريد به القياس الخفي، وهو دليل يقابل القياس الجلي الذي يسبق إليه الأفهام، وهو حجة عندنا؛ لأن ثبوته بالدلائل التي هي حجة إجماعا؛ لأنه إما بالأثر كالسلم والإجارة وبقاء الصوم في النسيان وإما بالإجماع كالاستصناع وإما بالضرورة كطهارة الحياض والآبار، وإما بالقياس الخفي إلى آخر ما ذكر في أصول الفقه، وكذا في كثير من كتب الأصول فظهر بهذا أن طهارة الآبار بالنزح إنما ثبتت بالقياس الخفي الذي ثبت بالضرورة .
" قوله: لا ببعرتي إبل وغنم " أي لا ينزح ماء البئر بوقوع بعرتي إبل وغنم فيها، وهذا استحسان والقياس أن يتنجس الماء مطلقا لوقوع النجاسة في الماء القليل كالإناء.
وذكر للاستحسان طريقتان الأولى واختارها صاحب الهداية مقتصرا عليها أن آبار الفلوات ليس لها رءوس حاجزة والمواشي تبعر حولها ويلقيها الريح فيها فجعل القليل عفوا للضرورة ولا ضرورة في الكثير ولا فرق على هذا بين الرطب واليابس، والصحيح والمنكسر، والروث والبعر والخثى؛ لأن الضرورة تشمل الكل.
وقد صرح في غاية البيان بأنه ظاهر الرواية ويعارض ما ذكره السرخسي أو الروث والمفتت من البعر مفسد في ظاهر الرواية وعن أبي يوسف أن قليله عفو قال: وهو الأوجه وظاهر هذه الطريقة أن هذا الحكم مختص بآبار الفلوات.
وأما الآبار التي في المصر فتنجس بالقليل منه؛ لأن لها رءوسا حاجزة فيقع الأمن عن الوقوع فيها.
وقد صرح به في البدائع تكن في غاية البيان ذكر أنه لا فرق بينهما على هذه الطريقة فقال واختلف المشايخ في البئر إذا كانت في المصر والصحيح عدم الفرق لشمول الضرورة في الجملة ا هـ. فاعتبر الضرورة في الجملة وكذا في التبيين.
والطريقة الثانية أن لليابس صلابة فلا يختلط شيء من أجزائه بأجزاء الماء فهذه تقتضي أن الرطب والمنكسر والروث والخثى ينجس الماء وظاهرها عدم الفرق بين آبار الفلوات والأمصار كما هو مذكور في البدائع، وكذا ظاهرها أن الكثير من اليابس الصحيح لا ينجس كالقليل وبه قال الحسن بن زياد لكن الصحيح أن الكثير ينجس الإناء وماء البئر على الطريقتين أما على الأولى فلما بينا أنه لا ضرورة في الكثير.
وأما على الثانية؛ فلأنها إذا كثرت تقع المماسة بينها فيصطك البعض بالبعض فتتفتت

 

ج / 1 ص -250-       ...............................
_________________
أجزاؤها فتتنجس إليه أشار في البدائع وظاهرها أيضا أنه لا فرق بين البئر والإناء في عدم التنجس بالقليل.
وعلى الطريقة الأولى بينهما فرق لأن الضرورة في البئر لا في الإناء كذا في الكافي بخلاف بعر الشاة إذا وقع منها في الحلب وقت الحلب، فإنه ترمى البعرة ويشرب اللبن على الطريقتين أما على الثانية فظاهر.
وأما على الأولى فلمكان الضرورة كذا في الهداية وقيده في النهاية وغاية البيان والمعراج بكونها رميت على الفور ولم يبق لونها على اللبن وكذا في فتح القدير معللا له بأن الضرورة تتحقق في نفس الوقوع؛ لأنها تبعر عند الحلب عادة لا فيما وراءه وذلك بمرأى منه.
واختلفوا في حد الكثير على أقوال صحح منها قولان في النهاية أنه ما لا يخلو دلو عن بعرة وعزاه إلى المبسوط وصحح في البدائع والكافي للمصنف وكثير من الكتب أن الكثير ما يستكثره الناظر والقليل ما يستقله وفي معراج الدراية هو المختار وفي الهداية وعليه الاعتماد.
قال في العناية، وإنما قال وعليه الاعتماد؛ لأن أبا حنيفة لا يقدر شيئا بالرأي في مثل هذه المسائل التي تحتاج إلى التقدير فكان هذا موافقا لمذهبه ا هـ. فظهر بهذا أن ما ذكره في المتن من أن البعرتين لا ينجسان للإشارة إلى أن الثلاث تنجس إنما هو على قول ضعيف مبني على ما وقع في الجامع الصغير من قوله، فإن وقعت فيها بعرة أو بعرتان لم يفسد الماء فدل على أن الثلاث تفسد بناء على أن مفهوم العدد في الرواية معتبر، وإن لم يكن معتبرا في الدلائل عندنا على الصحيح.
وهذا الفهم إنما يتم لو اقتصر محمد في الجامع الصغير على هذه العبارة و لكنه لم يقتصر عليها، فإنه قال إذا وقعت بعرة أو بعرتان في البئر لا يفسد ما لم يكن كثيرا فاحشا والثلاث ليس بكثير فاحش كذا نقل عبارة الجامع في المحيط وغيره.

 

ج / 1 ص -251-       وخرء حمام وعصفور
_________________
ولو جعل قائل الحد الفاصل بين القليل والكثير أن ما غير أحد أوصاف الماء كان كثيرا وما لم يغيره يكون قليلا لكان له وجه كذا في شرح منية المصلي.

وبعر يبعر من حد منع والروث للفرس والحمار من راث يقال من حد نصر.
والخثى بكسر الخاء واحد الأخثاء للبقر يقال من باب ضرب كذا في فتح القدير وغيره .
" قوله: وخرء حمام وعصفور " أي لا ينزح ماء البئر بوقوع خرء حمام وعصفور فيها.
والخرء بالفتح واحد الخروء بالضم مثل قرء وقروء وعن الجوهري أنه بالضم كجند وجنود والواو بعد الراء غلط كذا في المغرب، وإنما لا ينزح ماؤها منه؛ لأنه ليس بنجس عندنا على ما اختاره في الهداية وكثير من الكتب.
وذكر في النهاية ومعراج الدراية اختلاف المشايخ في نجاسته وطهارته مع اتفاقهم على سقوط النجاسة لكن عند البعض السقوط من الأصل للطهارة وعند آخرين للضرورة ا هـ. ولم يذكرا فائدة هذا الاختلاف.
وقال الشافعي نجس، وهو القياس؛ لأنه استحال إلى نتن وفساد فأشبه خرء الدجاج.
ولنا الإجماع العملي، فإنها في المسجد الحرام مقيمة من غير نكير من أحد من العلماء مع العلم بما يكون منها مع ورود الأمر بتطهير المساجد فيما رواه ابن حبان في صحيحه وأحمد وأبو داود وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب وعن سمرة رضي الله عنه أنه كتب إلى بنيه أما بعد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا أن نضع المساجد في دورنا ونصلح صنعتها ونطهرها رواه أبو داود وسكت عليه ثم المنذري بعده كذا ذكره الحافظ الزيلعي.
وروى أبو أمامة الباهلي أن النبي صلى الله عليه وسلم شكر الحمامة فقال أنها أوكرت على باب

 

ج / 1 ص -252-       وبول ما يؤكل نجس
_________________
الغار فجزاها الله تعالى بأن جعل المساجد مأواها فهذا دليل طهارة خرئها.
وعن ابن مسعود أنه خرأت عليه حمامة فمسحها بإصبعه وكذلك عمر رضي الله عنه زرق عليه طير فمسحه بحصاة ثم صلى كذا في معراج الدراية والنهاية .
وأما ذكره من الاستحالة فهي لا إلى نتن رائحة فأشبه الطين الذي في قعر البئر، فإن فيه الفساد أيضا وليس بنجس؛ لأنه لا إلى نتن رائحة .
ويشكل هذا بالمني على قوله قال في النهاية ثم الاستحالة إلى فساد لا توجب النجاسة لا محالة، فإن سائر الأطعمة إذا فسدت لا تنجس به؛ لأن التغير إلى الفساد لا يوجب النجاسة ا هـ. وبهذا يعلم ضعف ما ذكره في الخزانة من أن الطعام إذا تغير واشتد تغيره تنجس.
وإن حمل ما في النهاية على ما إذا لم يشتد تغيره ليجمع بينهما فهو بعيد.
والظاهر ما في النهاية؛ لأنه لا موجب لتنجيسه، وإنما حرم أكله في هذه الحالة للإيذاء كاللحم إذا أنتن قالوا يحرم أكله ولم يقولوا تنجس بخلاف السمن واللبن والدهن والزيت إذا أنتن لا يحرم والأشربة لا تحرم بالتغير كذا في الخزانة.
وأشار المصنف رحمه الله بقوله خرء حمام وعصفور إلى خرء ما يؤكل لحمه من الطيور احترازا عما لا يؤكل لحمه منها، فإن خرأه نجس وسنذكره صريحا في باب الأنجاس.
والصحيح أنه طاهر كخرء مأكول اللحم منها ذكره في المبسوط وصحح قاضي خان في شرح الجامع الصغير نجاسته وسنتكلم عليه إن شاء الله تعالى في باب الأنجاس .
" قوله: وبول ما يؤكل نجس " إنما ذكرها هنا، وإن كان محلها باب الأنجاس لبيان أنه إذا وقع في البئر نجس ماءها، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف .
وقال محمد رحمه الله طاهر فلا ينزح الماء من وقوعه إلا إذا غلب على الماء فيخرج

 

ج / 1 ص -253-       ...............................
_________________
من أن يكون طهورا لما رواه الأئمة الستة في كتبهم من حديث أنس أن ناسا من عرينة اجتووا المدينة فرخص لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتوا إبل الصدقة ويشربوا من ألبانها وأبوالها فقتلوا الراعي واستاقوا الذود فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتي بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركهم بالحرة يعضون الحجارة وفي رواية مسلم وتركهم في الحرة يستسقون فلا يسقون حتى ماتوا وفي رواية متفق عليها أنهم ثمانية كذا في فتح القدير.
وعرنة واد بحذاء عرفات وبتصغيرها سميت عرينة، وهي قبيلة ينسب إليها العرنيون، وإنما سقطت ياء التصغير عند النسبة لما أن ياء فعيلة وفعيلة يسقطان عند النسبة قياسا مطردا فيقال حنفي ومدني وجهني وعقلي في حنيفة ومدينة وجهينة وعقيلة كذا في المغرب وغيره.
وقوله اجتووها هو بالجيم والمثناة فوق ومعناه استوخموها كما فسرها في الرواية الأخرى أي لم توافقهم وكرهوها لسقم أصابهم قالوا، وهو مشتق من الجوى، وهو داء في الجوف.
ومعنى سمر أعينهم بالراء كحلها بمسامير وفي بعض الروايات سمل باللام بمعنى فقأها وأذهب ما فيها كذا ذكر النووي في شرح مسلم من القصاص.
ولهما قوله صلى الله عليه وسلم
"استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه" أخرجه الحاكم من حديث أبي هريرة وقال صحيح على شرط الشيخين ولا أعرف له علة كذا ذكره الزيلعي المخرج وفي معراج الدراية وفي بعض نسخ الأحاديث عن مكان من وفي المغرب، وأما قولهم استنزهوا البول لحن.

 

ج / 1 ص -254-       ...............................
_________________وفي معراج الدراية وجه مناسبة عذاب القبر مع ترك استنزاه البول هو أن القبر أول منزلة من منازل الآخرة والاستنزاه أول منزل من منازل الطهارة والصلاة أول ما يحاسب به المرء يوم القيامة فكانت الطهارة أول ما يعذب بتركها في أول منزل من منازل الآخرة.
وفي غاية البيان وجه التمسك به أن البول يشمل كل بول بعمومه وقد ألحق النبي صلى الله عليه وسلم وعيد عذاب القبر بترك استنزاه البول من غير فصل فدل على أن بول ما يؤكل لحمه نجس؛ لأن الحلال لا يتحقق بمباشرته وعيد ا هـ.
وأجاب في الهداية عن حديث العرنيين بأنه عليه السلام عرف شفاءهم فيه وحيا وزاد شارحوها كالأتقاني والكاكي جوابا آخر بأن ذلك كان في ابتداء الإسلام ثم نسخ بعد أن نزلت الحدود ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم حين ارتدوا واستاقوا الإبل وليس جزاء المرتد إلا القتل فعلم أن إباحة البول انتسخت كالمثلة ا هـ.
وذكر الأصوليون منا أن العام قبل الخصوص يوجب الحكم فيما تناوله قطعا كالخاص حتى يجوز نسخ الخاص بالعام عندنا كحديث العرنيين ورد في أبوال الإبل، وهو خاص نسخ بقوله صلى الله عليه وسلم
"استنزهوا من البول"؛ لأن البول عام؛ لأن اللام فيه للجنس في ضمن المشخصات فيحمل على جميعها إذ لا عهد وحديث العرنيين متقدم؛ لأن المثلة التي تضمنتها منسوخة بالاتفاق؛ لأنها كانت في ابتداء الإسلام. ا هـ. وهذا كله مبني على أن قصة العرنيين تضمنت مثلة.
وقد صرح به في الهداية من كتاب الجهاد فقال والمثلة المروية في قصة العرنيين منسوخة بالنهي المتأخر وأراد بالنهي المتأخر ما ذكره البيهقي عن أنس قال ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك خطبة إلا نهى فيها عن المثلة وقد أنكر بعضهم كون الواقع في قصتهم كما روى ابن سعد في خبرهم أنهم قطعوا يد الراعي ورجله وغرزوا الشوك في

 

ج / 1 ص -255-       لا ما لم يكن حدثا
_________________
لسانه وعينه حتى مات فليس هذا بمثلة والمثلة ما كان ابتداء على غير جزاء وقد جاء في صحيح مسلم إنما سمل النبي صلى الله عليه وسلم أعينهم؛ لأنهم سملوا أعين الرعاء وسيأتي بقيته في كتاب الجهاد إن شاء الله تعالى.
وأما ما أجاب به قاضي خان في شرح الجامع الصغير وتبعه عليه صاحب معراج الدراية من أن الصحيح أنه أمرهم بشرب الألبان يعني دون الأبوال فلا يخفى ضعفه لما علمت أن رواية شرب الأبوال ثابتة في الكتب الستة والله الموفق للصواب.
" قوله: ما لم يكن حدثا " عطف على بول أي ما لا يكون حدثا لا يكون نجسا، وهذا عند أبي يوسف
فالدم الذي لم يسل كما إذا أخذ بقطنة، ولو كان كثيرا في نفسه والقيء القليل إذا وقع في الماء لا ينجسه وكذا إذا أصاب شيئا.
وقال محمد أنه نجس كذا في كثير من الكتب.
وظاهر ما في شرح الوقاية أن ظاهر الرواية عن أصحابنا الثلاثة أنه ليس بنجس.
وعند محمد في غير رواية الأصول أنه نجس؛ لأنه لا أثر للسيلان في النجاسة فإذا كان السائل نجسا فغير السائل يكون كذلك.
ولنا قوله تعالى:
{قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ}[الأنعام:145] إلى قوله {أَوْ دَماً مَسْفُوحاً}[الأنعام:145] فغير المسفوح لا يكون محرما فلا يكون نجسا.
والدم الذي لم يسل عن رأس الجرح دم غير مسفوح فلا يكون نجسا.
فإن قيل هذا فيما يؤكل لحمه أما فيما لا يؤكل كالآدمي فغير المسفوح حرام أيضا فلا يمكن الاستدلال بحله على طهارته.
قلت لما حكم بحرمة المسفوح بقي غير المسفوح على أصله، وهو الحل ويلزم منه الطهارة سواء كان فيما يؤكل لحمه أو لإطلاق النص ثم حرمة غير المسفوح في الآدمي بناء

 

ج / 1 ص -256-       ولا يشرب أصلا
_________________
على حرمة لحمه وحرمة لحمه لا توجب نجاسته إذ هذه الحرمة للكرامة لا للنجاسة فغير المسفوح في الآدمي يكون على طهارته الأصلية مع كونه محرما.
والفرق بين المسفوح وغيره مبني على حكمة غامضة، وهي أن غير المسفوح دم انتقل عن العروق وانفصل عن النجاسات وحصل له هضم آخر في الأعضاء وصار مستعدا لأن يصير عضوا فأخذ طبيعة العضو فأعطاه الشرع حكمه بخلاف دم العروق فإذا سأل عن رأس الجرح علم أنه دم انتقل من العروق في هذه الساعة، وهو الدم النجس أما إذا لم يسل علم أنه دم العضو هذا في الدم أما في القيء فالقليل هو الماء الذي كان في أعالي المعدة، وهي ليست محل النجاسة فحكمه حكم الريق كذا في شرح الوقاية، وكان الإسكاف والهندواني يفتيان بقول محمد وصحح صاحب الهداية وغيره قول أبي يوسف وقال في العناية قول أبي يوسف أرفق خصوصا في حق أصحاب القروح.
وفي فتح القدير أن الوجه يساعده؛ لأنه ثبت أن الخارج بوصف النجاسة حدث وأن هذا الوصف قبل الخروج لا يثبت شرعا وإلا لم يحصل للإنسان طهارة فلزم أن ما ليس حدثا لم يعتبر خارجا شرعا وما لم يعتبر خارجا شرعا لم يعتبر نجسا ا هـ. وذكر في السراج الوهاج أن الفتوى على قول أبي يوسف فيما إذا أصاب الجامدات كالثياب والأبدان وعلى قول محمد فيما إذا أصاب المائعات كالماء وغيره ا هـ. وفي معراج الدراية ثم قوله ما لا يكون حدثا إلى آخره لا ينعكس فلا يقال ما لا يكون نجسا لا يكون حدثا، فإن النوم والجنون والإغماء وغيرها حدث وليست بنجسة ا هـ. لكن قد يقال إنه مطرد منعكس؛ لأن المراد ما يخرج من بدن الإنسان وليس بحدث لا يكون نجسا وكذا ما يخرج من البدن وليس بنجس لا يكون حدثا.
وأما النوم ونحوه فلم يدخل في العكس في قولنا ما لا يكون نجسا لا يكون حدثا؛ لأنه ليس بخارج من بدن الإنسان.
" قوله: ولا يشرب أصلا " أي بول ما يؤكل لحمه لا يشرب أصلا لا للتداوي ولا لغيره،

 

ج / 1 ص -257-       ...............................
_________________وهذا عند أبي حنيفة وقال أبو يوسف يجوز للتداوي؛ لأنه لما ورد الحديث به في قصة العرنيين جاز التداوي به، وإن كان نجسا وقال محمد يجوز شربه مطلقا للتداوي وغيره لطهارته عنده.
ووجه قول أبي حنيفة رحمه الله أنه نجس والتداوي بالطاهر المحرم كلبن الأتان فلا يجوز فما ظنك بالنجس؛ ولأن الحرمة ثابتة فلا يعرض عنها إلا بتيقن الشفاء.
وتأويل ما روي في قصة العرنيين أنه عليه السلام عرف شفاءهم فيه وحيا ولم يوجد تيقن شفاء غيرهم؛ لأن المرجع فيه الأطباء وقولهم ليس بحجة قطعية وجاز أن يكون شفاء قوم دون قوم لاختلاف الأمزجة حتى لو تعين الحرام مدفعا للهلاك الآن يحل كالميتة والخمر عند الضرورة؛ ولأنه عليه السلام علم موتهم مرتدين وحيا ولا يبعد أن يكون شفاء الكافرين في نجس دون المؤمنين بدليل قوله تعالى:
{الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ}[النور:26].
وبدليل ما روى البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه عليه السلام قال
"إن الله تعالى لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم" فاستفيد من كاف الخطاب أن الحكم مختص بالمؤمنين.
هذا وقد وقع الاختلاف بين مشايخنا في التداوي بالمحرم ففي النهاية عن الذخيرة الاستشفاء بالحرام يجوز إذا علم أن فيه شفاء ولم يعلم دواء آخر ا هـ.
وفي فتاوى قاضي خان معزيا إلى نصر بن سلام معنى قوله عليه السلام
"إن الله لم

 

ج / 1 ص -258-       وعشرون دلوا وسطا بموت نحو فأرة
_________________
يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم" إنما قال ذلك في الأشياء التي لا يكون فيها شفاء فأما إذا كان فيها شفاء فلا بأس به ألا ترى أن العطشان يحل له شرب الخمر للضرورة ا هـ.
وكذا اختار صاحب الهداية في التجنيس فقال إذا سال الدم من أنف إنسان يكتب فاتحة الكتاب بالدم على جبهته وأنفه ويجوز ذلك للاستشفاء والمعالجة، ولو كتب بالبول إن علم أن فيه شفاء لا بأس بذلك لكن لم ينقل.
وهذا؛ لأن الحرمة ساقطة عند الاستشفاء ألا ترى أن العطشان يجوز له شرب الخمر والجائع يحل له أكل الميتة. ا هـ. وسيأتي لهذا زيادة بيان في باب الكراهية إن شاء الله تعالى.
قال في التبيين وقول محمد مشكل؛ لأن كثيرا من الطاهر لا يجوز شربه وقول أبي يوسف أشد إشكالا ا هـ. وقد يقال إنه لا إشكال فيه أصلا؛ لأنه قال بنجاسته عملا بحديث
"استنزهوا من البول" وقال بجواز شربه للتداوي عملا بحديث العرنيين.
" قوله: وعشرون دلوا وسطا بموت نحو فأرة " قال في التبيين أي ينزح عشرون إذا ماتت فيها فأرة ونحوها وقوله عشرون معطوف على البئر وفيه إشكال، وهو أنه يصير معناه تنزح البئر وعشرون دلوا وأربعون وكله فيفسد المعنى؛ لأنه يقتضي نزح البئر وعشرين دلوا وليس هذا بمراد، وإنما المراد أن تنزح البئر إذا وقع فيها نجس ثم ذلك النجس ينقسم إلى ثلاثة أقسام منه ما يوجب نزح عشرين ومنه ما يوجب نزح أربعين ومنه ما يوجب نزح الجميع وليس نزح البئر مغايرا لهذه الثلاث حتى يعطف عليها، وإنما هو تفسير وتقسيم لذلك النزح المبهم وليس هذا من باب عطف البعض على الكل لا يقال إنه أراد بالأول ما يوجب الجميع وبالمعطوف ما يوجب نزح البعض؛ لأنه ذكر بعد ذلك ما يوجب نزح الجميع أيضا فلو كان مراده الجميع لما ذكر ثانيا لكونه تكرارا محضا؛ ولأن الأول لا يجوز أن يحمل على نوع من هذه الأنواع الثلاثة لعدم الأولوية فبقي على إطلاقه إلى هنا كلام الزيلعي رحمه الله.

 

ج / 1 ص -259-       ...............................
_________________
وأقول: لا حاجة إلى هذه الإطالة مع إمكان حمل كلامه على وجه صحيح، فإن قوله عشرون معطوف على البئر بمعنى ماء البئر كما تقدم.
والواو فيه كبقية المعطوفات بمعنى أو والتقدير ينزح ماء البئر كله بوقوع نجس غير حيوان أو ينزح عشرون دلوا من ماء البئر بموت نحو فأرة أو أربعون منه بنحو دجاجة أو كله بنحو شاة إلى آخره.
وبهذا علم أن قوله وتنزح البئر بوقوع نجس ليس مبهما بل المراد منه نجس غير حيوان اندفع به ما ذكره من لزوم التكرار لو أريد بالأول نزح الجميع، فإنه أريد بالأول نزح الجميع لوقوع غير حيوان وأريد بالثاني نزح الجميع لوقوع حيوان مخصوص فلا تكرار.
وقوله؛ ولأن الأول لا يجوز أن يحمل إلى آخره سلمناه لكن يمنع قوله فبقي على إطلاقه؛ لأنه لا يلزم من انتفاء جواز حمله على الأنواع الثلاث بقاؤها مطلقا لجواز حمله على نوع رابع غير الثلاثة كما حملناه على النجس الذي ليس حيوانا، وهو ليس واحدا من الأنواع.
واعلم أنه لا فرق بين أن تموت الفأرة في البئر أو خارجها وتلقى فيها وكذا سائر الحيوانات إلا الميت الذي تجوز الصلاة عليه كالمسلم المغسول أو الشهيد نعم في خزانة الفتاوى.
والفأرة اليابسة لا تنجس الماء؛ لأن اليبس دباغة ا هـ.
ولا يخفى ضعفه؛ لأنا قدمنا أن ما لا يحتمل الدباغة لا يطهر وأن اليبس ليس بدباغة ويدل عليه ما في الذخيرة أن الفأرة الميتة إذا كانت يابسة، وهي في الخابية وجعل في الخابية الزيت فظهرت على رأس الخابية فالزيت نجس ا هـ. ثم اعلم أن الواقع في البئر إما نجاسة أو حيوان وحكم النجاسة قد تقدم في قوله وتنزح البئر بوقوع نجس على ما أسلفناه
والحيوان إما آدمي أو غيره وغير الآدمي إما نجس العين أو غيره وغير نجس العين إما مأكول اللحم أو غيره والكل إما إن أخرج حيا أو ميتا والميت إما منتفخ أو غيره فالآدمي إذا خرج حيا ولم يكن في بدنه نجاسة حقيقية أو حكمية، وكان مستنجيا لم يفسد الماء، وإن كان مسلما جنبا أو محدثا فانغمس بنية الغسل أو لطلب الدلو فقد قدم حكمه، وإن كان كافرا روي عن أبي حنيفة أنه ينزح ماؤها؛ لأن بدنه لا يخلو عن نجاسة حقيقة أو حكما، وإن أخرج ميتا، وكان

 

ج / 1 ص -260-       ...............................
________________
مسلما وقع بعد الغسل لم يفسد الماء وإن كان قبله فسد والكافر يفسد قبل الغسل وبعده وغير الآدمي إن كان نجس العين كالخنزير والكلب على القول بأنه نجس العين نجس البئر مات أو لم يمت أصاب الماء فمه أو لم يصب وعلى القول بأن الكلب ليس بنجس العين لا ينجسه إذا لم يصل فمه إلى الماء، وهو الأصح وقيل دبره منقلب إلى الخارج فلهذا يفسد الماء بخلاف غيره من الحيوانات.
وأما سائر الحيوانات، فإن علم ببدنه نجاسة تنجس الماء، وإن لم يصل فمه إلى الماء وقيدنا بالعلم؛ لأنهم قالوا في البقر ونحوه يخرج ولا يجب نزح شيء، وإن كان الظاهر اشتمال بولها على أفخاذها لكن يحتمل طهارتها بأن سقطت عقب دخولها ماء كثيرا هذا مع أن الأصل الطهارة.
وإن لم يعلم ولم يصل فمه إلى الماء فإن كان مما يؤكل لحمه فلا يوجب التجنيس أصلا، وإن كان مما لا يؤكل لحمه من السباع والطيور ففيه اختلاف المشايخ والأصح عدم التجنيس.
وكذلك في الحمار والبغل والصحيح أنه لا يصير الماء مشكوكا فيه وقيل ينزح ماء البئر كله، وإن وصل لعابه فحكم الماء حكمه فيجب نزح الجميع إذا وصل لعاب البغل أو الحمار إلى الماء كذا في فتاوى قاضي خان وغيرهما.
لكن في المحيط، ولو وقع سؤر الحمار في الماء يجوز التوضؤ به ما لم يغلب عليه؛ لأنه طاهر غير طهور كالماء المستعمل عند محمد ا هـ.
وظاهر كلام صاحب الهداية في التجنيس أن معنى قولهم يجب نزح الجميع أنه لا لأجل النجاسة بل؛ لأنه كان غير طهور ولا يجب النزح إذا وقع في البئر ما يكره سؤره ووصل لعابه إلى الماء
لكن في فتاوى قاضي خان ينزح منها دلاء عشرة أو أكثر احتياطا وثقة
وفي التبيين يستحب نزح الماء كله ولا يخفى ما فيه، وهذا كله إذا خرج حيا فإن مات وانتفخ أو تفسخ فالواجب نزح الجميع في الجميع، وإن لم ينتفخ ولم يتفسخ فالمذكور في ظاهر الرواية أنه على ثلاث مراتب كما دل عليه كلام المصنف والقدوري وصاحب الهداية وغيرهم ففي الفأرة ونحوها عشرون أو ثلاثون وفي الدجاجة ونحوها أربعون أو خمسون أو ستون وفي الشاة ونحوها ينزح ماء البئر كله وفي رواية الحسن عن أبي حنيفة جعله على خمس مراتب ففي الحلمة واحد الحلم وهي القراد الضخم العظيم والفأرة الصغيرة عشر دلاء وفي الفأرة الكبيرة عشرون وفي الحمامة ثلاثون وفي الدجاجة أربعون وفي الآدمي ماء البئر كله،

 

ج / 1 ص -261-       ...............................
_________________
وقد قدمنا مسائل الآبار مبنية على اتباع الآثار.
فذكر مشايخنا في كتبهم آثارا الأول عن أنس رضي الله عنه أنه قال في الفأرة ماتت في البئر وأخرجت من ساعتها ينزح منها عشرون دلوا.
الثاني: عن أبي سعيد الخدري أنه قال في الدجاجة إذا ماتت في البئر ينزح منها أربعون دلوا
قال في الغاية لم يذكر أحد من أهل الحديث فيما علمته حديث أنس، وإنما ذكره أصحابنا في كتب الفقه على عادتهم وفي فتح القدير ذكر مشايخنا ما عن أنس والخدري غير أن قصور نظرنا أخفاه عنا.
وقال الشيخ علاء الدين إن الطحاوي رواهما من طرق وتعقبه تلميذه الإمام الزيلعي المخرج بأني لم أجدهما في شرح الآثار للطحاوي ولكنه أخرج عن حماد بن أبي سليمان أنه قال في دجاجة وقعت في البئر فماتت قال ينزح منها قدر أربعين دلوا أو خمسين.
وأجاب عنه المحقق السراج الهندي بأنه يجوز أن يكون الطحاوي ذكرهما في كتاب اختلاف العلماء له أو في أحكام القرآن له أو في كتاب آخر ولا يلزم من عدم الوجدان في الآثار عدم الوجود مطلقا الثالث حديث الزنجي في بئر زمزم وسنتكلم عليه إن شاء الله تعالى.
واختلف في تفسير الدلو الوسط فقيل هي الدلو المستعمل في كل بلد وقيل المعتبر في كل بئر دلوها؛ لأن السلف لما أطلقوا انصرف إلى المعتاد واختاره في المحيط والاختيار

 

ج / 1 ص -262-       وأربعون بنحو حمامة
_________________
والهداية وغيرها، وهو ظاهر الرواية؛ لأنه مذكور في الكافي للحاكم وقيل ما يسع صاعا، وهو ثمانية أرطال وقيل عشرة أرطال وقيل غير ذلك والذي يظهر أن البئر إما أن يكون لها دلو أو لا، فإن كان لها دلو اعتبر به، وإلا اتخذ لها دلو يسع صاعا، وهو ظاهر ما في الخلاصة وشرح الطحاوي والسراج الوهاج وحينئذ فينبغي أن يحمل قول من قدر الدلو على ما إذا لم يكن للبئر دلو كما لا يخفى فلو نزح القدر الواجب فيها بحسب دلوها أو دلوهم بدلو واحد كبير أجزأ وحكم بطهارتها، وهو ظاهر المذهب، وكان الحسن بن زياد يقول لا تطهر إلا بنزح الدلاء المقدرة الواجبة؛ لأن عند تكرار النزح ينبع الماء من أسفله ويؤخذ من أعلاه فيكون كالجاري، وهذا لا يحصل بدلو واحد، وإن كان عظيما كذا في البدائع ونقله في التبيين والنهاية عن زفر.
قلنا قد حصل المقصود، وهو إخراج القدر الواجب واعتبار معنى الجريان ساقط ولهذا لا يشترط التوالي في النزح حتى لو نزح في كل يوم دلو جاز
ويتفرع على عدم اشتراط التوالي أنه إذا نزح البعض ثم ازداد في الغد قيل ينزح كله وقيل مقدار البقية هذا مع أن في اشتراط التوالي خلافا نقله في معراج الدراية.
لكن المختار عدم اشتراطه، وأنه إذا ازداد في اليوم الثاني لا ينزح إلا ما بقي إليه أشار في الخلاصة وأشار المصنف رحمه الله بقوله بموت نحو فأرة إلى أن ما يعادل الفأرة في الجثة حكمه حكمها وأورد عليه سؤالا وجوابا في المستصفى فقال: فإن قيل قد مر أن مسائل الآبار مبنية على اتباع الآثار والنص ورد في الفأرة والدجاجة والآدمي وقد قيس ما عادلها بها.
قلنا بعدما استحكم هذا الأصل صار كالذي ثبت على وفق القياس في حق التفريع عليه كما في الإجارة وسائر العقود التي يأبى القياس جوازها ا هـ. ولا يخفى ما فيه، فإنه ظاهر في أن للرأي مدخلا في بعض مسائل الآبار، وليس كذلك فالأولى أن يقال إن هذا إلحاق بطريق الدلالة لا بالقياس كما اختاره في معراج الدراية.
" قوله: وأربعون بنحو حمامة " أي ينزح أربعون دلوا وسطا بموت نحو حمامة وقد تقدم دليله قريبا وقد ذكر المصنف في هذين النوعين القدر الواجب ولم يذكر المستحب ولم يتعرض له الشارح الزيلعي أيضا.
والمذكور في غيرهما أن المستحب في نحو الفأرة عشرة وفي نحو الدجاجة اختلف كلام

 

ج / 1 ص -263-       وكله بنحو شاة
_________________
محمد في الأصل والجامع الصغير ففي الأصل ما يفيد أن المستحب عشرون وفي الجامع الصغير عشرة قال في الهداية:، وهو الأظهر.
وعلل له في غاية البيان بأن الجامع الصغير صنف بعد الأصل فأفاد أن الظهور من جهة الرواية لا من جهة الدراية، وقد يقال من جهة الدراية إن الذي يضعف بسبب كبر الحيوان إنما هو الواجب لا المستحب.
واعلم أن القدر المستحب المذكور لم يصرح به في ظاهر الرواية، وإنما فهمه بعض المشايخ من عبارة محمد رحمه الله حيث قال ينزح في الفأرة عشرون أو ثلاثون وفي الهرة أربعون أو خمسون فلم يرد به التخيير بل أراد به بيان الواجب والمستحب، وليس هذا الفهم بلازم بل يحتمل أنه إنما قال ذلك لاختلاف الحيوانات في الصغر والكبر، ففي الصغير ينزح الأقل وفي الكبير ينزح الأكثر وقد اختار هذا بعضهم كما نقله في البدائع.
ولعل هذا هو سبب ترك التعرض للمستحب في الكتاب ثم هذا إذا كان الواقع واحدا فأما إذا تعدد فالفأرتان إذا لم يكونا كهيئة الدجاجة كفأرة واحدة إجماعا وكذا إذا كان كهيئة الدجاجة إلا فيما روي عن محمد أنه ينزح منها أربعون والهرتان كالشاة إجماعا.
وجعل أبو يوسف الثلاث والأربع كفأرة واحدة والخمسة كالهرة إلى التسع والعشرة كالكلب وقال محمد الثلاث كالهرة والست كالكلب.
ولم يوجد التصحيح في كثير من الكتب لكن في المبسوط أن ظاهر الرواية أن الثلاث كالهرة فيفيد أن الست كالكلب وبه يترجح قول محمد.
وما كان بين الفأرة والهرة فحكمه حكم الفأرة وما كان بين الهرة والكلب فحكمه حكم الهرة وهكذا يكون حكم الأصغر والهرة مع الفأرة كالهرة ويدخل الأقل في الأكثر كذا في التجنيس وغيره.
وظاهره يخالف قول من قال إن الفأرة إذا كانت هاربة من الهرة فوقعت في البئر وماتت ينزح جميع الماء؛ لأنها تبول غالبا على هذا القول يجب نزح الجميع في الهرة مع الفأرة؛ لأنها تبول خوفا وقد جزم به جماعة لكن قال في المجتبى بخلافه وعليه الفتوى ا هـ. ولعل وجهه أن في ثبوت كونها بالت شكا فلا يثبت بالشك.
" قوله: وكله بنحو شاة " أي ينزح ماء البئر كله بموت ما عادل الشاة في الجثة كالآدمي

 

ج / 1 ص -264-       ...............................
_________________
والكلب طاهرا كان أو نجسا؛ لأن ابن عباس وابن الزبير أفتيا بنزح الماء كله حين مات زنجي في بئر زمزم كما رواه ابن ابن سيرين وعطاء وعمرو بن دينار وقتادة وأبو الطفيل.
أما رواية ابن سيرين فأخرجها الدارقطني في سننه بإسناده عن محمد بن سيرين أن زنجيا مات في زمزم فأمر به ابن عباس فأخرج وأمر بها أن تنزح قال فغلبتهم عين جاءت من الركن قال فأمر بها فسدت بالقباطي والمطارف حتى نزحوها فلما نزحوها انفجرت عليهم والقباطي جمع قبطية، وهو ثوب من ثياب مصر رقيقة بيضاء وكأنه منسوب إلى القبط وهم أهل مصر والمطارف أردية من خز مربعة لها أعلام مفردها مطرف بكسر الميم وضمها.
وأما رواية عطاء فرواها ابن أبي شيبة في مصنفه والطحاوي في شرح الآثار أن حبشيا وقع في بئر زمزم فمات فأمر ابن الزبير فنزح ماؤها فجعل الماء لا ينقطع فنظر فإذا عين تجري من قبل الحجر الأسود فقال ابن الزبير حسبكم، وأما رواية عمرو بن دينار فرواها البيهقي والآمر فيها بالنزح ابن عباس، وأما رواية قتادة فرواها ابن أبي شيبة في مصنفه والآمر ابن عباس، وأما رواية أبي الطفيل فرواها البيهقي والآمر ابن عباس، فإن قالوا رواية ابن سيرين مرسلة؛ لأنه لم يلق ابن عباس بل سمعها من عكرمة وكذا قتادة لم يلق ابن عباس.
وأما رواية ابن دينار ففيها ابن لهيعة ولا يحتج به.
وأما رواية أبي الطفيل ففيها جابر الجعفي ولا يحتج به.
وأما عطاء فهو، وإن سمع من ابن الزبير بلا خلاف لكن وجد ما يضعف روايته، وهو ما رواه البيهقي عن سفيان بن عيينة أنه قال أنا بمكة منذ سبعين سنة لم أر صغيرا ولا كبيرا يعرف حديث الزنجي الذي قالوا إنه وقع في بئر زمزم ولا سمعت أحدا يقول نزحت زمزم ثم أسند عن الشافعي أنه قال لا يعرف هذا عن ابن عباس وكيف يروي ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم
"الماء لا ينجسه شيء" ويتركه، وإن كان قد فعل فلنجاسة ظهرت على وجه الماء أو نزحها للتنظيف لا للنجاسة، فإن زمزم للشرب.

 

ج / 1 ص -265-       ...............................
_________________
فالجواب أن ابن سيرين لما أرسل عن ابن عباس، وكان الواسطة بينهما ثقة، وهو عكرمة كان الحديث صحيحا محتجا به وفي التمهيد لابن عبد البر مراسيل ابن سيرين عندهم حجة صحاح كمراسيل سعيد بن المسيب، وأما الجعفي فقد وثقه الثوري وشعبة واحتمله الناس ورووا عنه ولم يختلف أحد في الرواية عنه ورواه الطحاوي عنه أيضا، وأما ابن لهيعة قال ابن عدي هو حسن الحديث يكتب حديثه وقد حدث عنه الثقات الثوري وشعبة وعمرو بن الحارث والليث بن سعد وأما عدم علم سفيان والشافعي فلا يصلح دليلا في دين الله تعالى والإثبات مقدم على النفي، فإن لم يعرفا فقد عرف غيرهما ممن ذكرناه من الأعلام الأئمة وإثباتهم مقدم على نفي غيرهم مع أن بينهما وبين ذلك الوقت قريبا من مائة وخمسين سنة.
وأما رواية ابن عباس "الماء لا ينجسه شيء" فيجوز أن يكون وقع عنده دليل أوجب تخصيصه، فإن روايته كعلم المخالف به فكما قال الشافعي رحمه الله بتنجيس ما دون القلتين بدون تغير لدليل آخر وقع عنده أوجب تخصيص هذا الحديث لا يستبعد مثله لابن عباس.
وأما تجويز كون النزح لنجاسة ظهرت أو للتنظيف فمخالف لظاهر الكلام؛ لأن الظاهر من قول القائل مات فأمر بنزحها أنه للموت لا لنجاسة أخرى كقولهم زنى فرجم وسها فسجد وسرق فقطع على أن عندهم لا ينزح أيضا للنجاسة، ولو كان للتنظيف لم يأمر بنزحها ولم يبالغوا هذه المبالغة العظيمة من سد العين.

 

ج / 1 ص -266-       وانتفاخ حيوان أو تفسخه
_________________
وقول النووي كيف يصل هذا الخبر إلى أهل الكوفة ويجهله أهل مكة وسفيان بن عيينة كبير أهل مكة استبعاد بعد وضوح الطريق ومعارض بأن جمهور الصحابة كعلي وأصحابه وابن مسعود وأصحابه وأبي موسى الأشعري وأصحابه وابن عباس وجماعة من أصحابه وسلمان الفارسي وعامة أصحابه والتابعين انتقلوا إلى الكوفة والبصرة ولم يبق بمكة إلا القليل وانتشروا في البلاد للجهاد والولايات وسمع الناس منهم وانتشر العلم في جميع البلاد الإسلامية منهم حتى قال العجلي في تاريخه نزل الكوفة ألف وخمسمائة من الصحابة ونزل قرقيسياء ست مائة فيجوز أن يعرف أهل الكوفة أكثر من أهل مكة ولا ينكر هذا إلا مكابر وما ذكره أيضا مخالف لقول إمامه فقد حكى ابن عساكر عن الشافعي أنه قال لأحمد أنتم أعلم بالأخبار الصحاح منا فإذا كان خبر صحيح فأعلموني حتى أذهب إليه كوفيا كان أو بصريا أو شاميا.
فهلا قال كيف يصل إلى أهل الكوفة والبصرة والشام ويجهله أهل مكة والمدينة مع أن الغالب أن البئر إذا نزحت لا يحضرها أهل البلد ولا أكثرهم، وإنما يحضر من له بصارة أو من يستعان به.
" قوله: وانتفاخ حيوان أو تفسخه " أي ينزح ماء البئر كله لأجل انتفاخ الحيوان الواقع فيها أو تفسخه مطلقا صغر الحيوان أو كبر كالفأرة والآدمي والفيل لانتشار البلة في أجزاء الماء؛ لأن عند انتفاخه تنفصل بلته، وهي نجسة مائعة فصارت كقطرة من خمر؛ ولهذا لو وقع ذنب فأرة ينزح الماء كله؛ لأن موضع القطع منه لا ينفك عن نجاسة بخلاف ما لو أخرجت قبل الانتفاخ؛ لأن شيئا من أجزائها لم يبق في الماء بعد إخراجها والانتفاخ أن تتلاشى أعضاؤه والتفسخ أن تتفرق عضوا عضوا وكذا إذا تمعط شعره فهو كالمنتفخ.

 

ج / 1 ص -267-       ...............................
_________________
قال في السراج الوهاج، فإن جعل موضع القطع شمعة لم يجب إلا ما يجب في الفأرة ا هـ.
فروع لا يفيد النزح قبل إخراج الواقع؛ لأنه سبب النجاسة ومع بقائها لا يمكن الحكم بالطهارة إلا إذا تعذر إخراجه وكان متنجسا كما قدمناه، وإذا لم يوجد في البئر القدر الواجب نزح ما فيها فإذا جاء الماء بعده لا ينزح منه شيء، ولو غار الماء قبل النزح ثم عاد يعود نجسا؛ لأنه لم يوجد المطهر، وإن صلى رجل في قعرها، وقد جفت تجزئه كذا في التجنيس.
لكن اختار في فتح القدير أنه لا يعود نجسا وصرح في باب الأنجاس بأن فيه روايتين كنظائره والأصح عدم العود؛ لأنه بمنزلة النزح كذا في المعراج وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
لكن إنما يكون الأصح عدم العود فيما إذا جف أسفله أما إذا غار ولم يجف أسفله فالأصح العود كما أفاده السراج الوهاج.
وإذا طهرت البئر يطهر الدلو والرشا والبكرة ونواحي البئر ويد المستقي؛ لأن نجاسة هذه الأشياء بنجاسة البئر فتطهر بطهارتها للحرج كدن الخمر يطهر تبعا إذا صار خلا وكيد المستنجي تطهر بطهارة المحل وكعروة الإبريق إذا كان في يده نجاسة رطبة فجعل يده عليها كلما صب على اليد فإذا غسل اليد ثلاثا طهرت العروة بطهارة اليد.
ولو سال النجس على الآجر ثم وصل إلى الماء فنزحها طهارة للكل.
وقيل الدلو طاهر في حق هذه البئر لا غيرها كدم الشهيد طاهر في حق نفسه.
ولا يجب نزح الطين في شيء من الصور لأن الآثار إنما وردت بنزح الماء.
وفي المجتبى وكلما نزح من البئر شيء طهر من الدلو بقدره وليتأمل فيه وفي فتاوى قاضي خان ولا يطين المسجد بطين البئر التي نزحت احتياطا ثم نجاسة البئر بعد إخراج الفأرة وغيرها غليظة ثم بقدر ما ينزح تخف فلو صب الدلو الأول من بئر وجب فيها نزح عشرين في بئر طاهرة ينزح من الثانية عشرون، ولو صب الثاني تسعة عشر وكذا الثالث على هذا، ولو صب الدلو الأخير ينزح دلو مثله.

 

ج / 1 ص -268-       ...............................
_________________
والأصل في هذا أن البئر الثانية تطهر بما تطهر به الأولى، ولو أخرجت الفأرة وألقيت في بئر طاهرة وصب أيضا فيها عشرون من الأولى يجب إخراج الفأرة ونزح عشرين دلوا؛ لأن الأولى تطهر به فكذا الثانية، ولو صب الدلو العاشرة في بئر طاهرة ينزح منها عشر دلاء وفي رواية أبي سليمان وفي رواية أبي حفص إحدى عشرة، وهو الأصح.
قال الإسبيجابي ووفق بين الروايتين فالأولى سوى المصبوب والثانية مع المصبوب فلا خلاف.
ولو صب ماء بئر نجسة في بئر أخرى، وهي نجسة أيضا ينظر بين المصبوب وبين الواجب فيها فأيهما كان أكثر أغنى عن الأقل، فإن استويا فنزح أحدهما يكفي مثاله بئران ماتت في كل منهما فأرة فنزح من إحداهما عشرة مثلا وصب في الأخرى ينزح عشرون، ولو صب دلو واحد، فكذلك.
ولو ماتت فأرة في بئر ثالثة فصب من إحدى البئرين عشرون ومن الأخرى عشرة ينزح ثلاثون، ولو صب فيها من كل عشرون نزح أربعون وينبغي أن ينزح المصبوب ثم الواجب فيها على رواية أبي حفص، ولو نزح دلو من الأربعين وصب في العشرين ينزح الأربعون؛ لأنه لو صب في بئر طاهرة كذلك فكذا هذا، وهذا كله قول محمد.
وعن أبي يوسف روايتان في رواية ينزح جميع الماء وفي رواية ينزح الواجب والمصبوب جميعا فقيل له إن محمدا روى عنك الأكثر فأنكر.
وكذا قال أبو يوسف في بئرين وقع في كل واحد منهما سنور فنزح من إحداهما لو صب في الأخرى ينزح ماؤها كله على الرواية الأولى؛ لأن الدلو الذي نزح أخذ حكم النجاسة؛ ولهذا لو أصاب الثوب نجسه ويجب غسله، فصار كما إذا وقع في البئر نجاسة أخرى واقتصر على هذه الرواية في التجنيس ودفعه في فتح القدير بأن هذا إنما يظهر وجهه في المسألة السابقة، وهي ما إذا كان المصبوب فيها طاهرة أما إذا كانت نجسة فلا؛ لأن أثر نجاسة هذا الدلو

 

ج / 1 ص -269-       ...............................
_________________
إنما يظهر فيما إذا ورد على طاهر وقد ورد هنا على نجس فلا يظهر أثر نجاسته فتبقى الموردة على ما كانت، فتطهر بإخراج القدر الواجب.
وجه دفعه عن المسألة السابقة ما في المبسوط من أنا نتيقن أنه ليس في هذا البئر إلا نجاسة فأرة ونجاسة فأرة يطهرها عشرون دلوا ا هـ.
وفي المحيط معزيا إلى النوادر فإن ماتت في حب فأريق الماء في البئر.
قال محمد ينزح الأكثر من المصبوبة ومن عشرين دلوا، وهو الأصح؛ لأن الفأرة لو وقعت فيها ينزح عشرون فكذا إذا صب فيها ما وقع فيه إلا إذا زاد المصبوب على ذلك فتنزح الزيادة مع العشرين.
وقال أبو يوسف: ينزح المصبوب وعشرون دلوا؛ لأنه يصير بمنزلة ما لو وقعت الفأرتان في البئر يجب نزحهما ونزح عشرين دلوا كذا هذا.
وفي الكافي والمستصفى والبدائع أن الفأرة إذا وقعت في الحب بالحاء المهملة يهراق الماء كله ولم يعلله له.
ووجهه أن الاكتفاء بنزح البعض مخصوص بالآبار ثبت بالآثار على خلاف القياس فلا يلحق به غيره.
فعلى هذا إذا وقعت الفأرة في الصهريج أو الفسقية ولم يكونا عشرا في عشر، فإن الماء كله يهراق كما لا يخفى ولا يحكم بطهارة البئر ما لم ينفصل الدلو الأخير عن رأس البئر عندهما؛ لأن حكم الدلو حكم المتصل بالماء والبئر.
وعند محمد يطهر بالانفصال عن الماء ولا اعتبار بما يتقاطر للضرورة.
وثمرة الخلاف تظهر فيما إذا انفصل الدلو الأخير عن الماء، ولم ينفصل عن رأس البئر واستقى من مائها رجل ثم أعاد الدلو فعندهما الماء المأخوذ قبل العود نجس، وعنده طاهر كذا في التبيين.
وظاهره أن عود الدلو قيد وليس كذلك بل الماء المأخوذ قبل الانفصال عن رأس البئر نجس عندهما مطلقا عاد الدلو أو لا ولهذا لم يذكر هذا القيد في فتح القدير ومعراج

 

ج / 1 ص -270-       ...............................
_________________
الدراية والمحيط وكثير من الكتب فكان زائدا وفي البدائع لم يذكر في ظاهر الرواية قول أبي حنيفة وإنما ذكره الحاكم.
وفي التجنيس إذا نزح الماء النجس من البئر يكره أن يبل به الطين ولا يطين به المسجد أو أرضه لنجاسته بخلاف السرقين إذا جعله في الطين؛ لأن في ذلك ضرورة؛ لأنه لا يتهيأ إلا بذلك ا هـ.
والبعد بين البالوعة والبئر المانع من وصول النجاسة إلى البئر خمسة أذرع في رواية أبي سليمان وسبعة في رواية أبي حفص وقال الحلواني: المعتبر الطعم أو اللون أو الريح، فإن لم يتغير جاز وإلا فلا، ولو كان عشرة أذرع قال في الخلاصة: وفتاوى قاضي خان والتعويل عليه وصححه في المحيط.
وإن ماتت الفأرة في غير الماء، فإن كان مائعا تنجس جميعه وجاز استعماله في غير الأبدان كذا قالوا وينبغي أن لا يستصبح به في المساجد لكونه ممنوعا عن إدخال النجاسة المسجد ويجوز بيعه وللمشتري الخيار إن لم يعلم به، وإن كان جامدا ألقيت الفأرة وما حولها، وكان الباقي طاهرا، وجاز الانتفاع بما حولها في غير الأبدان.
وفي المبسوط وحد الجمود والذوب أنه إذا كان بحال لو قور ذلك الموضع لا يستوي من ساعته فهو جامد، وإن كان يستوي من ساعته فهو ذائب.
وذكر الإسبيجابي أن الجلد إذا دبغ بذلك السمن يغسل الجلد بالماء ويطهر والتشرب فيه معفو عنه ولمن اشتراه الخيار إن لم يعلم به.
وفي السراج الوهاج، وإن ماتت الفأرة في الخمر فصار خلا قال بعضهم: الخل مباح وقيل لا يحل شربه وقيل إذا لم تتفسخ فيه جاز، وإن تفسخت لم يجز ؛ لأنه قد صار فيه جزء منها، وهذا القول أحسن وهذا إذا استخرجت منه قبل أن يصير خلا أما إذا صار خلا والفأرة فيه لا يحل شربه سواء كانت متفسخة أو لا؛ لأنه نجس ا هـ.
وفي المحيط والتجنيس بالوعة حفروها وجعلوها بئر ماء، فإن حفروها مقدار ما وصلت إليه النجاسة فالماء طاهر وجوانبها نجسة، وإن حفروها أوسع من الأول طهر الماء والبئر كله ا هـ.
وذكر الولوالجي، ولو نزح ماء بئر رجل بغير إذنه حتى يبست لا شيء عليه؛ لأن صاحب البئر غير مالك للماء، ولو صب ماء رجل كان في الحب يقال له املأ الإناء؛ لأن صاحب الحب مالك للماء، وهو من ذوات الأمثال فيضمن مثله.

 

ج / 1 ص -271-       ومائتان لو لم يمكن نزحها
_________________
وفي الخلاصة والإوز كالدجاج إن كان صغيرا، وإن كان كبيرا فهو كالجمل العظيم ينزح كل الماء وفي فتح القدير، ولو تنجست بئر فأجرى ماؤها بأن حفر منفذ فصار الماء يخرج منه حتى خرج بعضه طهرت لوجود سبب الطهارة، وهو جريان الماء وصار كالحوض إذا تنجس فأجرى فيه الماء حتى خرج بعضه وقد ذكرناه ا هـ.
" قوله: ومائتان لو لم يمكن نزحها " أي ينزح مائتا دلو إن كانت البئر معينة لا يمكن نزحها بسبب أنهم كلما نزحوا نبع من أسفله مثل ما نزحوا أو أكثر، وقد اختلفت الروايات فيها فما في الكتاب مروي عن محمد قالوا إنما أفتى به بناء على ما شاهد في بغداد؛ لأن الغالب ماء آبارها كان لا يزيد على ثلثمائة وروي عن أبي حنيفة التقدير بمائة دلو قالوا أفتى بذلك بناء على قلة المياه في آبار الكوفة وفي الهداية وعن أبي حنيفة في الجامع الصغير في مثله ينزح حتى يغلبهم الماء ولم يقدر الغلبة بشيء كما هو دأبه في مثله. ا هـ. وإنما لم يقدرها؛ لأنها متفاوتة والنزح إلى أن يظهر العجز أمر صحيح في الشرع لأن الطاعة بحسب الطاقة وقيل على قول أبي حنيفة يجب قدر ما يغلب على ظنهم أنه جميع الماء عند ابتداء النزح والأصح تفسير الغلبة بالعجز كذا ذكر قاضي خان.
وعن أبي يوسف وجهان أحدهما أن تحفر حفيرة عمقها ودورها مثل موضع الماء منها وتجصص على قول بعض المشايخ ويصب فيها فإذا امتلأت فقد نزح ماؤها. والثاني: أن ترسل قصبة في الماء ويجعل علامة لمبلغ الماء ثم ينزح عشر دلاء مثلا ثم تعاد القصبة فينظر كم انتقص فإن انتقض العشر فهو مائة قالوا ولكن هذا لا يستقيم إلا إذا كان دور البئر من أول حد الماء إلى قعر البئر متساويا، وإلا لا يلزم إذا نقص شبر بنزح عشر من أعلى الماء أن ينقص شبر بنزح مثله من أسفله.
وعن أبي نصر محمد بن سلام أنه يؤتى برجلين لهما بصارة بأمر الماء فإذا قدراه بشيء وجب نزح ذلك القدر، وهو الأصح والأشبه بالفقه وفي معراج الدراية أنه المختار لكونهما نصاب الشهادة الملزمة.
واشتراط المعرفة لهما بالماء باعتبار أن الأحكام إنما تستفاد ممن له علم أصله قوله تعالى:
{فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}[النحل:43] وظاهر ما في النقاية

 

ج / 1 ص -272-       ونجسها منذ ثلاث فأرة منتفخة جهل وقت وقوعها، وإلا مذ يوم وليلة
_________________
الاكتفاء بواحد لأنه أمر ديني فيكتفى بالواحد لكن أكثر الكتب على الاثنين وقد صحح هذا القول جماعة واختاروه.
وصحح الإمام حسام الدين في شرح الجامع الصغير اعتبار الغلبة، وهي العجز وذكر أن الفتوى على أنه يفوض إلى رأي المبتلى به وفي الخلاصة أن الفتوى على أنه ينزح ثلثمائة وكذا في معراج الدراية معزيا إلى فتاوى العتابي أن المختار ما عن محمد.
فالحاصل أنه قد اختلف التصحيح في المسألة واختلفت الفتوى فيها.
والإفتاء بما عن محمد أسهل على الناس والعمل بما عن أبي نصر أحوط.
ولهذا قال في الاختيار وما روي عن محمد أيسر على الناس لكن لا يخفى ضعفه، فإنه إذا كان الحكم الشرعي نزح جميع الماء للحكم بنجاسته فالقول بطهارة البئر بالاقتصار على نزح عدد مخصوص من الدلاء يتوقف على سمعي يفيده وأين ذلك بل المأثور عن ابن عباس وابن الزبير خلافه.
واختار بعض المتأخرين أن الأظهر إن أمكن سد منابع الماء من غير عسر سدت وأخرج ما فيها من الماء، وإن عسر ذلك، فإن علم أن كون محل الماء منها على منوال واحد طولا وعرضا في سائر أجزائه أرسل في الماء قصبة وعمل في ذلك بما قدمناه.
وإن لم يقع العلم بذلك، فإن أمكن العمل بمقداره من عدلين لهما بصارة بمياه الآبار أخذ بقولهما، وإن تعذر العلم بمقدار الماء من عدلين بصيرين بذلك نزحوا حتى يظهر لهم العجز بحسب غلبة ظنهم. ا هـ. وهذا تفصيل حسن للمتأمل فليكن العمل عليه.
" قوله: ونجسها منذ ثلاث فأرة منتفخة جهل وقت وقوعها، وإلا مذ يوم وليلة " أي نجس البئر منذ ثلاثة أيام بلياليها فأرة ميتة منتفخة لا يدرى وقت وقوعها، وإن لم تكن منتفخة نجسها مذ يوم وليلة قال المصنف في المستصفى أي مذ ثلاث ليال إذ لو أريد به الأيام لقال مذ ثلاثة لكن الليالي تنتظم ما بإزائها من الأيام كما أن الأيام تنتظم ما بإزائها من الليالي كقوله تعالى:
{أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً}[البقرة:234] أي وعشر ليال بأيامها ا هـ. فعلم أنه لا حاجة إلى ما ذكره الزيلعي هنا.

 

ج / 1 ص -273-       ...............................
_________________
اعلم أن البئر تنجس من وقت وقوع الحيوان الذي وجد ميتا فيها إن علم ذلك الوقت، وإن لم يعلم فقد صار الماء مشكوكا في طهارته ونجاسته.
فإذا توضئوا منها وهم متوضئون أو غسلوا ثيابهم من غير نجاسة، فإنهم لا يعيدون إجماعا؛ لأن الطهارة لا تبطل بالشك، وإن توضئوا منها وهم محدثون أو اغتسلوا من جنابة أو غسلوا ثيابهم عن نجاسة ففي الثالث لا يعيدون، وإنما يلزمهم غسلها على الصحيح ويحكم بنجاستها في الحال من غير إسناد لأنه من باب وجود النجاسة في الثوب ومن وجد في ثوبه نجاسة أكثر من قدر الدرهم ولم يدر متى أصابته لا يعيد شيئا من صلاته بالاتفاق، وهو الصحيح كذا في المحيط والتبيين.
وتعقبه شارح منية المصلي بأنه إذا كان يلزمهم غسلها لكونها مغسولة بماء البئر فيما تقدم حال العلم باشتمال البئر على الفأرة بدون يوم وليلة أو بدون ثلاثة أيام كيف يكون الحكم بنجاسة الثياب من باب الاقتصار على التنجس في الحال لا مستندا إلى ما تقدم فلا يتجه هذا على قوله؛ لأنه يوجب مع الغسل الإعادة لا على قولهما لأنهما لا يوجبان غسل الثوب أصلا ا هـ. وفي الأول والثاني خلاف فعند أبي حنيفة التفصيل المذكور في الكتاب.
وقالا يحكم بنجاستها وقت العلم بها ولا يلزمهم إعادة شيء من الصلوات ولا غسل ما أصابه ماؤها قبل العلم، وهو القياس؛ لأن اليقين لا يزول بالشك؛ لأنا نتيقن بطهارتها فيما مضى وقد شك في النجاسة لاحتمال أنها ماتت في غير البئر ثم ألقتها الريح العاصف فيها أو بعض السفهاء أو الصبيان أو بعض الطيور كما حكي عن أبي يوسف أنه كان يقول بقوله إلى أن رأى حدأة في منقارها فأرة ميتة فألقتها في البئر فرجع عن قوله إلى هذا القول وقياسا على النجاسة إذا وجدها في ثوبه وعلى ما إذا رأت المرأة في كرسفها دما ولا تدري متى نزل وعلى ما لو مات المسلم وله امرأة نصرانية فجاءت مسلمة بعد موته وقالت أسلمت قبل موته وقالت الورثة بعده فالقول لهم والجامع بينهما أن الحادث يضاف إلى أقرب أوقاته.
ولأبي حنيفة، وهو الاستحسان أن الإحالة على السبب الظاهر واجب عند خفاء المسبب والكون في الماء قد تحقق، وهو سبب ظاهر للموت والموت فيه في نفس الأمر قد خفي فيجب

 

ج / 1 ص -274-       ...............................
_________________
اعتباره مات فيه إحالة على السبب الظاهر عند خفاء المسبب دون الموهوم، وهو الموت بسبب آخر كمن جرح إنسانا ولم يزل مصاحب الفراش حتى مات يضاف موته إلى الجرح حتى يجب القصاص، وإن احتمل موته بسبب آخر وكذا إذا وجد قتيل في محلة يضاف القتل إلى أهلها حتى تجب القسامة والدية عليهم وإن احتمل أنه قتل في موضع آخر غير أن الانتفاخ دليل التقادم فيقدر بالثلاث ولهذا يصلى على القبر إلى ثلاث أيام على ما قيل وعدم الانتفاخ دليل قرب العهد فقدرناه بيوم وليلة لأن ما دون ذلك ساعات لا يمكن ضبطها لتفاوتها، وأما مسألة النجاسة فقد قال المعلى بن منصور الرازي تلميذهما أنها على الخلاف، فإن كانت يابسة يعيد صلاة ثلاثة أيام، وإن كانت طرية يعيد صلاة يوم وليلة عنده فلا يحتاج إلى الفرق، ولو سلم أنها على الوفاق كما قدمنا أنه الأصح فالفرق له واضح، وهو أن الثوب بمرأى عينه يقع عليه بصره فلو كانت النجاسة أصابته قبل ذلك لعلم بها بخلاف البئر فإنها غائبة عن بصره فلا يصح القياس.
وما ذكره المعلى رحمه الله كونه رواية عن الإمام، وهو ظاهر ما ذكره القاضي الإسبيجابي وصاحب البدائع ويحتمل أنه تفقه منه بطريق القياس على مسألة البئر، وهو ظاهر ما في المحيط، وهو الحق فقد قال الحاكم الشهيد إن المعلى قال ذلك من دأب نفسه.
وأما مسألة الميراث فالمرأة محتاجة إلى الاستحقاق والظاهر لا يصلح حجة لها وإنما يصلح للدفع والورثة هم الدافعون وفي المجتبى وحكم ما عجن به حكم الوضوء والغسل، وكان الصباغي يفتي بقول أبي حنيفة فيما تعلق بالصلاة وبقولهما فيما سواه كذا في معراج الدراية.
وفي غاية البيان وما قاله أبو حنيفة احتياط في أمر العبادة وما قالاه عمل باليقين ورفق

 

ج / 1 ص -275-       والعرق كالسؤر
_________________
بالناس وفي تصحيح الشيخ قاسم رحمه الله وفي فتاوى العتابي المختار قولهما.
قلت هو المخالف لعامة الكتب فقد رجح دليله في كثير من الكتب وقالوا إنه الاحتياط فكان العمل عليه وذكر الإسبيجابي أن ما عجن به قال بعضهم يلقى إلى الكلاب وقال بعضهم يعلف المواشي وقال بعضهم يباع من شافعي المذهب أو داودي المذهب ا هـ. واختار الأول في البدائع وجزم به بصيغة قال مشايخنا يطعم للكلاب.
فروع
ذكر ابن رستم في نوادره عن أبي حنيفة من وجد في ثوبه منيا أعاد من آخر ما احتلم، وإن كان دما لا يعيد؛ لأن دم غيره قد يصيبه والظاهر أن الإصابة لم تتقدم زمان وجوده فأما مني غيره لا يصيب ثوبه فالظاهر أنه منيه فيعتبر وجوده من وقت وجود سبب خروجه حتى إن الثوب لو كان مما يلبسه هو وغيره يستوي فيه حكم الدم والمني ومشايخنا قالوا في البول يعتبر من آخر ما بال وفي الدم من آخر ما رعف وفي المني من آخر ما احتلم أو جامع كذا في البدائع ومراده بالاحتلام النوم؛ لأنه سببه بدليل ما نقله في المحيط عن ابن رستم أنه يعيد من آخر نومة نامها فيه واختار في المحيط أنه لا يعيد شيئا.
لو رأى دما، ولو فتق جبة فوجد فيها فأرة ميتة ولم يعلم متى دخل فيها، فإن لم يكن للجبة ثقب يعيد الصلاة من يوم ندف القطن فيها، وإن كان فيه ثقب يعيد صلاة ثلاثة أيام ولياليها عند أبي حنيفة كما في البئر كذا في التجنيس والمحيط وفي الذخيرة ولا بأس برش الماء النجس في الطريق ولا يسقى للبهائم وفي خزانة الفتاوى لا بأس بأن يسقى الماء النجس للبقر والإبل والغنم وحيث وجبت الإعادة على قوله فالمعاد الصلوات الخمس والوتر وسنة الفجر كذا في شرح منية المصلي.
" قوله: والعرق كالسؤر " لما فرغ من بيان فساد الماء وعدمه باعتبار وقوع نفس الحيوانات فيه ذكرهما باعتبار ما يتولد منها.
والسؤر مهموز العين بقية الماء التي يبقيها الشارب في الإناء أو في الحوض ثم استعير لبقية الطعام وغيره والجمع الأسآر.
والفعل أسأر أي أبقى مما شرب أي عرق كل شيء معتبر بسؤره طهارة ونجاسة وكراهة؛ لأن السؤر مختلط باللعاب، وهو والعرق متولدان من اللحم إذ كل واحد منهما رطوبة

 

ج / 1 ص -276-       ...............................
_________________
متحللة من اللحم فأخذا حكمه ولا ينتقض بعرق الحمار، فإنه طاهر مع أن سؤره مشكوك فيه؛ لأنا نقول خص بركوبه صلى الله عليه وسلم الحمار معروريا والحر حر الحجاز والثقل ثقل النبوة فلا بد أن يعرق الحمار قال في المغرب فرس عري لا سرج عليه ولا لبد وجمعه أعراء ولا يقال فرس عريان كما لا يقال رجل عري وأعرورى الدابة ركبه عريا ومنه كان عليه السلام يركب الحمار معروريا، وهو حال من ضمير الفاعل المستكن، ولو كان من المفعول لقيل معروري ا هـ. أو؛ لأنه لا فرق بين عرقه وسؤره، فإن سؤره طاهر على الأصح والشك إنما هو في طهوريته.
وقد ذكر قاضي خان في شرح الجامع الصغير ثلاث روايات في لعابه وعرقه إذا أصاب الثوب أو البدن في رواية مقدر بالدرهم وفي رواية بالكثير الفاحش وفي رواية لا يمنع وإن فحش وعليه الاعتماد وذكر شمس الأئمة الحلواني أن عرقه نجس لكن عفي عنه للضرورة فعلى هذا لو وقع في الماء القليل يفسده وهكذا روي عن أبي يوسف ا هـ.
وذكر الولوالجي رحمه الله أن عرق الحمار والبغل إذا أصاب الثوب لا يفسده، ولو وقع في الماء أفسده يعني به لم يبق طهورا؛ لأن عرقهما إذا وقع في الماء صار الماء مشكلا كما في لعابهما والماء المشكل طاهر لكن كونه طهورا مشكل فلا يزول الحدث الثابت بيقين بالشك ا هـ. وهكذا في التجنيس.
واعلم أن تفسير الفساد بعدم الطهورية فيه نظر؛ لأنه إذا كان كل من العرق واللعاب طاهرا كيف يخرج الماء به عن الطهورية مع أنه فرض قليل والماء غالب عليه فلعل الأشبه ما ذكره قاضي خان في تفسير قول شمس الأئمة أنه نجس وعفي عنه في الثوب والبدن للضرورة في الماء كما لا يخفى.
فالحاصل أنه لا فرق بين العرق والسؤر على ما هو المعتمد من أن كلا منهما طاهر، وإذا أصاب الثوب أو البدن لا ينجسه، وإذا وقع في الماء صار مشكلا ولهذا قال في المستصفى ظاهر المذهب أن العرق واللعاب مشكوك فيها ا هـ.
فظهر بهذا كله أن قولهم إن العرق كالسؤر على إطلاقه من غير استثناء وظهر به أيضا أن ما

 

ج / 1 ص -277-       وسؤر الآدمي والفرس وما يؤكل لحمه طاهر
_________________
نقله الأتقاني في شرح البزدوي من الإجماع على طهارة عرقه فليس مما ينبغي وكأنه بناه على أنها هي التي استقر عليها الحال.
" قوله: وسؤر الآدمي والفرس وما يؤكل لحمه طاهر " أما الآدمي؛ فلأن لعابه متولد من لحم طاهر، وإنما لا يؤكل لكرامته.
ولا فرق بين الجنب والطاهر والحائض والنفساء والصغير والكبير والمسلم والكافر والذكر والأنثى كذا ذكر الزيلعي رحمه الله.
يعني أن الكل طاهر طهور من غير كراهة وفيه نظر فقد صرح في المجتبى من باب الحظر والإباحة أنه يكره سؤر المرأة للرجل وسؤره لها ولهذا لم يذكر الذكر والأنثى في كثير من الكتب لكن قد يقال الكراهة المذكورة إنما هو في الشرب لا في الطهارة واستثنوا من هذا العموم سؤر شارب الخمر إذا شرب من ساعته، فإن سؤره نجس لا لنجاسة لحمه بل لنجاسة فمه كما لو آدمي فوه أما لو مكث قدر ما يغسل فمه بلعابه ثم شرب لا ينجس في كثير من الكتب.
وفي الخلاصة والتجنيس رجل شرب الخمر إن تردد في فيه من البزاق بحيث لو كان ذلك الخمر على ثوب طهرها ذلك البزاق طهر فمه. ا هـ. وهذا هو الصحيح من مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف ويسقط اعتبار الصب عند أبي يوسف للضرورة.
ونظيره لو أصاب عضوه نجاسة فلحسها حتى لم يبق أثرها أو قاء الصغير على ثدي أمه ثم مصه حتى زال الأثر طهر خلافا لمحمد في جميعها بناء على عدم جواز إزالة النجاسة بغير الماء المطلق كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وفي بعض شروح القدوري، فإن كان شارب الشارب طويلا ينجس الماء، وإن شرب بعد ساعات؛ لأن الشعر الطويل كما تنجس لا يطهر باللسان ا هـ. وكأنه؛ لأنه لا يتمكن اللسان من استيعابه بإصابة بله إياه بريقه ثم أخذ ما عليه من البلة النجسة مرة بعد أخرى، وإلا فهو ليس دون الشفتين والفم في تطهيره بالريق تفريعا على قول أبي حنيفة وأبي يوسف في جواز التطهير من النجاسة بغير الماء كذا في شرح منية المصلي فإن قيل ينبغي أن يتنجس سؤر الجنب على القول بنجاسة المستعمل لسقوط الفرض به.

 

ج / 1 ص -278-       ...............................
_________________
قلنا ما يلاقي الماء من فمه مشروب سلمنا أنه ليس بمشروب لكن لحاجة فلا يستعمل به كإدخال يده في الحب لإخراج كوزه على ما قدمناه في المياه وقد نقلوا روايتين في رفع الحدث بهذا الشرب وظاهر كلامهم ترجيح أنه رافع فلا يصير الماء مستعملا للحرج لكن صرح يعقوب باشا بأن الصحيح أن الفرض لا يسقط به.
ويدل على طهارة سؤر الآدمي مطلقا ما رواه مالك من طريق الزهري عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بلبن قد شيب بماء وعن يمينه أعرابي وعن يساره أبو بكر فشرب ثم أعطى الأعرابي وقال الأيمن فالأيمن وروى مسلم وغيره عن عائشة رضي الله عنها كنت أشرب وأنا حائض فأناوله النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فاه على موضع في.
ولما أنزل النبي صلى الله عليه وسلم بعض المشركين في المسجد ومكنه من المبيت فيه على ما في الصحيحين على أن المراد بقوله تعالى:
{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}[التوبة:28] النجاسة في اعتقادهم.
وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي حذيفة فمد يده ليصافحه فقبض يده وقال إني جنب فقال عليه السلام
"المؤمن ليس بنجس" ذكره البغوي في المصابيح.

 

ج / 1 ص -279-       والكلب والخنزير وسباع البهائم نجس
_________________
وأما سؤر الفرس ففيه روايتان عن أبي حنيفة فظاهر الرواية عنه طهوريته من غير كراهة، وهو قولهما؛ لأن كراهة لحمه عنده لاحترامه؛ لأنه آلة الجهاد لا لنجاسة فلا يؤثر في كراهة سؤره، وهو الصحيح كذا في البدائع وغيره.
وأما سؤر ما يؤكل لحمه؛ فلأنه متولد من لحم طاهر فأخذ حكمه ويستثنى منه الإبل الجلالة والبقر الجلالة والدجاجة المخلاة كما سيأتي.
والجلالة التي تأكل الجلة بالفتح وهي في الأصل البعرة وقد يكنى بها عن العذرة، وهي هنا من هذا القبيل كما أشار إليه في المغرب ويلحق بما يؤكل ما ليس له نفس سائلة مما يعيش في الماء وغيره كذا في التبيين.
" قوله: والكلب والخنزير وسباع البهائم نجس " أي سؤر هذه الأشياء نجس والمراد بسباع البهائم نحو الأسد والفهد والنمر.
قال الزيلعي رحمه الله قوله والكلب إلى آخره بالرفع أجود على أنه حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وذلك جائز بالاتفاق إذا كان الكلام مشعرا بحذفه وقد وجد هنا ما يشعر بحذفه، وهو تقدم ذكر السؤر، ولو جر على أنه معطوف على ما قبله من المجرور ولا يجوز عند سيبويه؛ لأنه يلزم منه العطف على عاملين، وهو ممتنع عند البصريين ويجوز عند الفراء.
ولو قيل إنه مجرور على أنه حذف المضاف وترك المضاف إليه على إعرابه كان جائزا إلا أنه قليل نحو قولهم ما كل سوداء تمرة ولا كل بيضاء شحمة ويشترط أن يتقدم في اللفظ ذكر المضاف ا هـ.
وقد أطال رحمه الله الكلام مع عدم التحريم؛ لأن قوله؛ لأنه يلزم منه العطف على عاملين

 

ج / 1 ص -280-       ...............................
_________________
مجازا إنما يلزم منه العطف على معمولي عاملين؛ لأن الكلب معطوف على الآدمي، وهو معمول للمضاف أعني سؤر ونجس معطوف على طاهر، وهو معمول المبتدأ أعني سؤر فكان فيه العطف على معمولين وهما الآدمي وطاهر لعاملين وهما المضاف والمبتدأ.
هذا إذا كان المضاف عاملا في المضاف إليه.
أما إذا كان العامل هو الإضافة فلا إشكال أنه من باب العطف على معمولي عاملين مختلفين.
قال في المغني وقولهم على عاملين فيه تجوز.
قال الشمني يعني بحذف المضاف.
قال الرضي معنى قولهم العطف على عاملين أن تعطف بحرف واحد معمولين مختلفين كانا في الإعراب كالمنصوب والمرفوع أو متفقين كالمنصوبين على معمولي عاملين مختلفين نحو إن زيدا ضرب عمرا وبكرا خالدا فهو عطف متفقي الإعراب على معمولي عاملين مختلفين وقولك إن زيدا ضرب غلامه وبكرا أخوه عطف مختلفي الإعراب ولا يعطف المعمولان على عاملين بل على معموليهما فهذا القول منهم على حذف المضاف ا هـ. وفي المغني الحق جواز العطف على معمولي عاملين في نحو في الدار زيد والحجرة عمرو ا هـ.
أما سؤر الكلب فهو طاهر عند مالك ومن تبعه ولكن يغسل الإناء منه سبعا تعبدا وقال الشافعي إنه نجس ويغسل الإناء منه سبعا إحداهن بالتراب لما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال
"يغسل الإناء إذا ولغ فيه الكلب سبع مرات أولاهن وأخراهن بالتراب" رواه

 

ج / 1 ص -281-       ...............................
_________________
الأئمة الستة في كتبهم وفي لفظ لمسلم وأبي داود "طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسل سبع مرات" ورواه أيضا مسلم من حديث أبي هريرة
"إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه ثم ليغسله سبع مرات" روى مالك في الموطإ عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات" قال ابن عبد البر إن حديث أبي هريرة تواترت طرقه وكثرت عنه.
والأمر بالإراقة دليل التنجس وكذا الطهور؛ لأنه مصدر بمعنى الطهارة فيستدعي سابقيه الحدث أو الخبث ولا حدث في الإناء فتعين الثاني؛ ولأنه متى دار الحكم بين كونه تعبديا ومعقول المعنى كان جعله معقول المعنى هو الوجه لندرة التعبد وكثرة التعقل ولنا قوله صلى الله عليه وسلم
"يغسل الإناء من ولوغ الكلب ثلاثا".
روي عن أبي هريرة فعلا وقولا مرفوعا وموقوفا من طريقتين: الأول: أخرجه الدارقطني بإسناد صحيح عن عطاء عن أبي هريرة
"إذا ولغ الكلب في الإناء فأهرقه ثم اغسله ثلاث مرات".
وأخرجه بهذا الإسناد عن أبي هريرة أنه قال "إذا ولغ الكلب في الإناء أهرقه وغسل

 

ج / 1 ص -282-       ...............................
_________________
ثلاث مرات".
قال الشيخ تقي الدين في الإلمام هذا إسناد صحيح.
الطريق الثاني أخرجه ابن عدي في الكامل عن الحسين بن علي الكرابيسي بسنده إلى عطاء عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليهرقه وليغسله ثلاث مرات ولم يرفعه غير الكرابيسي قال ابن عدي قال لنا أحمد الحسين الكرابيسي يسأل عنه وله كتب مصنفة ذكر فيها اختلاف الناس من المسائل وذكر فيها أخبارا كثيرة وكان حافظا لها ولم أجد له منكرا غير هذا الحديث والذي حمل أحمد بن حنبل عليه إنما هو من أجل اللفظ بالقرآن فأما في الحديث فلم أر به بأسا ا هـ.
ومن المعلوم أن الحكم بالضعف والصحة إنما هو في الظاهر أما في نفس الأمر فيجوز صحة ما حكم بضعفه ظاهرا وثبوت كون مذهب أبي هريرة ذلك كما تقدم بالسند الصحيح قرينة تفيد أن هذا مما أجاده الراوي المضعف وحينئذ يعارض حديث السبع ويقدم عليه؛ لأن مع حديث السبع دلالة التقدم للعلم بما كان من التشديد في أمر الكلاب أول الأمر حتى أمر بقتلها والتشديد في سؤرها يناسب كونه إذ ذاك وقد ثبت نسخ ذلك.
فإذا عارض قرينه معارض كانت التقدمة له ولو طرحنا الحديث بالكلية كان في عمل أبي هريرة على خلاف حديث السبع، وهو رواية كفاية لاستحالة أن يترك القطعي بالرأي منه، وهذا؛ لأن ظنية خبر الواحد إنما هو بالنسبة إلى غير راويه فأما بالنسبة إلى راويه الذي سمعه من في النبي صلى الله عليه وسلم فقطعي حتى ينسخ به الكتاب إذا كان قطعي الدلالة في معناه فلزم أنه لا يتركه إلا لقطعه بالناسخ إذ القطعي لا يترك إلا لقطعي فبطل تجويزهم تركه بناء على ثبوت ناسخ في اجتهاده المحتمل للخطأ.
وإذا علمت ذلك كان تركه بمنزلة روايته للناسخ بلا شبهة فيكون الآخر منسوخا بالضرورة كذا في فتح القدير وقال الطحاوي: ولو وجب العمل برواية السبع ولا يجعل منسوخا لكان ما روى عبد الله بن المغفل في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم أولى مما روى أبو هريرة لأنه زاد عليه
"وعفروا الثامنة بالتراب" والزائد أولى من الناقص فكان ينبغي للمخالف أن يعمل بهذه الزيادة فإن تركها لزمه ما لزم خصمه في ترك السبع ومالك لم يأخذ بالتعفير الثابت في الصحيح مطلقا فثبت أنه منسوخ ا هـ.
وحديث عبد الله بن المغفل مجمع على صحته ورواه مسلم وأبو داود فكان الأخذ بروايته أحوط وقد روي عن أبي هريرة
"إذا ولغ السنور في الإناء يغسل سبع مرات".

 

ج / 1 ص -283-       ...............................
_________________
ولم يعملوا به وكل جواب لهم عن ذلك فهو جوابنا عما زاد على الثلاث أو يحمل ما زاد على الثلاث على الاستحباب.
ويؤيده ما روى الدارقطني عن أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم في الكلب يلغ في الإناء أنه يغسل ثلاثا أو خمسا أو سبعا فخيره، ولو كان التسبيع واجبا لما خيره.
ثم اعلم أن الطحاوي والوبري نقلا أن أصحابنا لم يحدوا لغسل الإناء منه حدا بل العبرة لأكبر الرأي، ولو بمرة كما هو الحكم في غسل غيره من النجاسات ذكره الطحاوي في كتاب اختلاف العلماء.
وهو مخالف لما في الهداية وغيرها أنه يغسل الإناء من ولوغه ثلاثا، وهو ظاهر الحديث الذي استدلوا به وسيأتي بيان أن الثلاث هل هي شرط في إزالة الأنجاس أو لا إن شاء الله تعالى وفي النهاية الولوغ حقيقة شرب الكلب المائعات بأطراف لسانه وفي شرح المهذب أن الماضي والمضارع بفتح العين تقول ولغ يلغ وقد قدمنا أن سؤر الكلب نجس عند أصحابنا جميعا.
أما على القول بنجاسة عينه فظاهر، وأما على القول المصحح بطهارة عينه؛ فلأن لحمه نجس ولعابه متولد من لحمه ولا يلزم من طهارة عينه طهارة سؤره لنجاسة لحمه ولا يلزم من نجاسة سؤره نجاسة عينه، وإنما يلزم من نجاسة سؤره نجاسة لحمه المتولد منه اللعاب كما صرح به في التجنيس وفتح القدير وغيرهما وسيأتي إيضاحه في الكلام على سؤر السباع والمذكور في كتب الشافعية كالمهذب أنه لا فرق بين الولوغ ووضع بعض عضو في الإناء ولم أر هذا في كتبنا.
والذي يقتضيه كلامهم على القول بنجاسة عينه تنجس الماء وعلى القول بطهارة عينه عدم تنجسه أخذا من قولهم إذا ولغ الكلب في البئر كما قدمناه؛ لأن ماء البئر في حكم الماء القليل كماء الآنية كما قدمناه ولا فرق بين ولوغ كلب أو كلبين في الاكتفاء بالثلاث؛ لأن الثاني لم يوجب تنجسا كما لا يخفى، وإذا ولغ الكلب في طعام فالذي يقتضيه كلامهم أنه إن كان جامدا

 

ج / 1 ص -284-       ...............................
_________________
قور ما حوله وأكل الباقي، وإن كان مائعا انتفع به في غير الأبدان كما قدمناه.
وأما سؤر الخنزير؛ فلأنه نجس العين لقوله تعالى:
{أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ}[الأنعام:145] والرجس النجس، والضمير عائدا إليه لقربه وقد بسطنا الكلام فيه في الكلام على جلده.
وأما سؤر سباع البهائم فقد قال الشافعي بطهارته محتجا بما رواه البيهقي والدارقطني عن جابر قال قيل يا رسول الله أنتوضأ بما أفضلت الحمر قال "نعم وبما أفضلت السباع كلها".
وبما رواه مالك في الموطإ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج في ركب فيهم عمرو بن العاص حتى وردوا حوضا فقال عمرو بن العاص يا صاحب الحوض هل ترد حوضك السباع فقال عمر بن الخطاب يا صاحب الحوض لا تخبره فإنا نرد على السباع وترد علينا.
وبما رواه ابن ماجه عن ابن عمر قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفار فسار ليلا فمروا على رجل عند مقراة له فقال عمر يا صاحب المقراة أولغت السباع الليلة في مقراتك فقال عليه السلام
"يا صاحب المقراة لا تخبره هذا متكلف لها ما حملت في بطونها ولنا ما بقي شراب وطهور" ولنا أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل كل ذي ناب من

 

ج / 1 ص -285-       ...............................
_________________
السباع والظاهر من الحرمة مع كونه صالحا للغذاء غير مستقذر طبعا كونه للنجاسة.
وخبث طباعها لا ينافيه بل ذلك يصلح مثيرا لحكم النجاسة فليكن المثير لها فيجامعها ترتيبا على الوصف الصالح للعلية مقتضاه؛ ولأنه ليس فيه ضرورة وعموم بلوى فيخرج السنور والفأرة؛ ولأن لسانه يلاقي الماء فيخرج سباع الطير لأنه يشرب بمنقاره كما سيأتي ولم تتعارض أدلته فيخرج البغل والحمار وأما حديث جابر فقد اعترف النووي بضعفه، وأما أثر الموطإ فهو، وإن صححه البيهقي وذكر أنه مرسل يحتج به على أبي حنيفة فقد ضعفه ابن معين والدارقطني، وأما حديث ابن ماجه فقد ضعفه ابن عدي وعلى تسليم الصحة يحمل على الماء الكثير أو على ما قبل تحريم لحوم السباع أو على حمر الوحوش وسباع الطير بدليل ما تمسكوا به من حديث القلتين، فإنه صلى الله عليه وسلم قال
"إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا" جوابا لسؤاله عن الماء يكون في الفلاة وما ينوبه من السباع إعطاء لحكم هذا الماء الذي ترده السباع وغيره.
فإن الجواب لا بد أن يطابق أو يزيد فيندرج فيه المسئول عنه وغيره وقد قال بمفهوم شرطه فنجس ما دون القلتين، وإن لم يتغير وحقيقة مفهوم شرطه أنه إذا لم يبلغها يتنجس من ورود السباع، وهذا من الوجوه الإلزامية له.
قال الزيلعي رحمه الله: ثم اعلم أن في مذهب أصحابنا في سؤر ما لا يؤكل لحمه من السباع إشكالا، فإنهم يقولون؛ لأنه متولد من لحم نجس ثم يقولون إذا ذكي طهر؛ لأن نجاسته لأجل رطوبة الدم وقد خرج بالذكاة. 
فإن كانوا يعنون بقولهم نجس نجاسة عينه وجب أن لا يطهر بالذكاة كالخنزير، وإن كانوا يعنون به لأجل مجاورة الدم فالمأكول كذلك يجاوره الدم فمن أين جاء الاختلاف بينهما في السؤر إذا كان كل واحد منها يطهر بالذكاة ويتنجس بموته حتف أنفه ولا فرق بينهما إلا في المذكى في حق الأكل والحرمة لا توجب النجاسة وكم من طاهر لا يحل أكله.
ومن ثم قال بعضهم: لا يطهر بالذكاة إلا جلده؛ لأن حرمة لحمه لا لكرامته آية نجاسته لكن بين الجلد واللحم جلدة رقيقة تمنع تنجس الجلد باللحم، وهذا هو الصحيح؛ لأنه لا وجه لنجاسة السؤر إلا بهذا الطريق ا هـ.

 

ج / 1 ص -286-       ...............................
_________________
وقد ذكر في العناية حاصل هذا الإشكال وذكر أنها نكتة لا بأس بالتنبيه عليها ثم قال وحلها أن المراد باللحم الطاهر المتولد منه اللعاب ما يحل أكله بعد الذبح، وبالنجس ما يقابله.
وهذا لأنهما اشتركا في النجاسة المجارة بالدم المسفوح قبل الذبح، فإن الشاة لا تؤكل إذا ماتت حتف أنفها واشتركا في الطهارة بعده لزوال المنجس، وهو الدم فلا فرق بينهما إلا أن الشاة تؤكل بعد الذبح دون الكلب ولا فرق بينهما أيضا في الظاهر إلا اختلاط اللعاب المتولد من اللحم فعلم من هذا أن اللعاب المتولد من لحم مأكول بعد الذبح طاهر بلا كراهة دون غيره إضافة للحكم إلى الفارق صيانة لحكم الشرع عن المناقضة ظاهرا هذا ما سنح لي ا هـ.
ولا يخفى ما في هذا الجواب، فإن قول الزيلعي والحرمة لا توجب النجاسة يرده بل الجواب الصحيح ما في شرح الوقاية، وهو أن الحرمة إذا لم تكن للكرامة، فإنها آية النجاسة لكن فيه شبهة أن النجاسة لاختلاط الدم باللحم إذ لولا ذلك بل نجاسته لذاته لكان نجس العين، وليس كذلك فغير مأكول اللحم إذا كان حيا فلعابه متولد من اللحم الحرام المخلوط بالدم فيكون نجسا لاجتماع الأمرين.
أما في مأكول اللحم فلم يوجد إلا أحدهما، وهو الاختلاط بالدم فلم يوجب نجاسة السؤر؛ لأن هذه العلة بانفرادها ضعيفة إذ الدم المستقر في موضعه لم يعط له حكم النجاسة في الحي، وإذا لم يكن حيا، فإن لم يكن مذكى كان نجسا سواء كان مأكول اللحم أو غيره؛ لأنه صار حراما بالموت فالحرمة موجودة مع اختلاط الدم فيكون نجسا، فإذا كان مذكى كان طاهرا.
أما في مأكول اللحم؛ فلأنه لم توجد الحرمة ولا اختلاط الدم.
وأما في غير مأكول اللحم؛ فلأنه لم يوجد الاختلاط والحرمة المجردة غير كافية في النجاسة على ما مر أنها تثبت باجتماع الأمرين ا هـ.
فحاصله أن نجاسة اللحم لحرمته مع اختلاط الدم المسفوح به، وقد فقد الثاني في المذكى من السباع فكان طاهرا واجتمعا في حالتي الموت والحياة فكان نجسا، وفقد الأول في الشاة حالة الحياة والذكاة فكان طاهرا واجتمعا حالة الموت فكان نجسا.

 

ج / 1 ص -287-       والهرة والدجاجة المخلاة وسباع الطير وسواكن البيوت مكروه
_________________
فظهر من هذا كله أن طهارة العين لا تستلزم طهارة اللحم؛ لأن السباع طاهرة العين باتفاق أصحابنا كما نقله بعضهم مع أن لحمها نجس.
فثبت بهذا ما قدمناه من أن الكلب طاهر العين ولحمه نجس ونجاسة سؤره لنجاسة لحمه لكن بقي هاهنا كلام، وهو أن قولهم بين الجلد واللحم جلدة رقيقة تمنع تنجس الجلد باللحم مشكل، فإنه يقتضي طهارة الجلد من غير توقف على الذكاة أو الدباغة كما لا يخفى.
وفي مبسوط شيخ الإسلام ذكر محمد نجاسة سؤر السباع، ولم يبين أنها خفيفة أم غليظة فعن أبي حنيفة في رواية الأصول غليظة وعن أبي يوسف أن سؤر ما لا يؤكل لحمه كبول ما يؤكل لحمه كذا في معراج الدراية ومما سيأتي في سبب التغليظ والتخفيف يظهر وجه كل من الروايتين فالذي يظهر ترجيح الأولى لما عرف من أصله.
" قوله: والهرة والدجاجة المخلاة وسباع الطير وسواكن البيوت مكروه " أي سؤر هذه الأشياء مكروه، وفي التبيين وإعرابه بالرفع أجود على ما تقدم قال المصنف في المستصفى ويعني من السؤر المكروه أنه طاهر لكن الأولى أن يتوضأ بغيره ا هـ.
واعلم أن المكروه إذا أطلق في كلامهم فالمراد منه التحريم إلا أن ينص على كراهة التنزيه فقد قال المصنف في المستصفى: لفظ الكراهة عند الإطلاق يراد بها التحريم قال أبو يوسف: قلت لأبي حنيفة رحمه الله إذا قلت في شيء أكره فما رأيك فيه قال: التحريم ا هـ.
وقد صرحوا بالخلاف في كراهة سؤر الهرة فمنهم كالطحاوي ومن مال إلى أنها كراهة تحريم نظر إلى حرمة لحمها، ومنهم كالكرخي من مال إلى كراهة التنزيه نظرا إلى أنها لا تتحامى النجاسة.
قالوا، وهو الأصح، وهو ظاهر ما في الأصل، فإنه قال: وإن توضأ بغيره أحب إلي لكن صرح بالكراهة في الجامع الصغير فكانت للتحريم لما تقدم.
وأما سؤر الدجاجة المخلاة فلم أر من ذكر خلافا في المراد من الكراهة بل ظاهر كلامهم أنها كراهة تنزيه بلا خلاف؛ لأنها لا تتحامى النجاسة وكذا في سباع الطير وسواكن البيوت.

 

ج / 1 ص -288-       ...............................
_________________
أما سؤر الهرة فظاهر ما في شروح الهداية أن أبا يوسف مع أبي حنيفة ومحمد في ظاهر الرواية وعن أبي يوسف أنه لا بأس بسؤرها.
وظاهر ما في المنظومة وغيرها أن أبا يوسف مخالف لهما مستدلا بما روي عن كبشة بنت كعب بن مالك، وكانت تحت أبي قتادة قالت دخل عليها أبو قتادة فسكبت له وضوء فجاءت هرة تشرب منه فأصغى لها الإناء حتى شربت قالت كبشة فرآني أنظر إليه فقال أتعجبين يا ابنة أخي فقلت نعم قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
"إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات"
رواه أبو داود والترمذي وابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك ومالك في الموطإ وابن خزيمة في صحيحه وقال الترمذي: حديث أبي قتادة حسن صحيح، وهو أحسن شيء في الباب وقال البيهقي إسناده صحيح وعليه الاعتماد والنجس بفتحتين كل ما يستقذر قال النووي أما لفظ أو الطوافات فروي بأو وبالواو قال صاحب مطالع الأنوار يحتمل أن تكون للشك ويحتمل أن تكون للتقسيم ويكون ذكر الصنفين من الذكور والإناث، وهذا الذي قاله محتمل والأظهر أنه للنوعين قال أهل اللغة الطوافون الخدم والمماليك وقيل هم الذين يخدمون برفق وعناية.
ومعنى الحديث أن الطوافين من الخدم والصغار الذين سقط في حقهم الحجاب

 

ج / 1 ص -289-       ...............................
_________________
والاستئذان في غير الأوقات الثلاثة التي هي قبل الفجر وبعد العشاء وحين الظهيرة التي ذكرها الله تعالى إنما سقط في حقهم دون غيرهم للضرورة وكثرة مداخلتهم بخلاف الأحرار البالغين فلهذا يعفى عن الهرة للحاجة ا هـ.
ولهما أنه لا نزاع في سقوط النجاسة، المفاد بالحديث بعلة الطوف المنصوصة يعني أنها تدخل المضايق ولازمه شدة المخالطة بحيث يتعذر معه صون الأواني منها بل صون النفس متعذر فللضرورة اللازمة من ذلك سقطت النجاسة.
إنما الكلام بعد هذا في ثبوت الكراهة فإن كانت الكراهة كراهة تحريم كما قال الطحاوي لم ينهض به وجه فإن قال سقطت النجاسة فبقيت كراهة التحريم منعت الملازمة إذ سقوط وصف أو حكم شرعي لا يقتضي ثبوت آخر إلا بدليل.
والحاصل أن إثبات كل حكم شرعي يستدعي دليلا فإثبات كراهة التحريم والحالة هذه بغير دليل، وإن كانت كراهة تنزيه على الأصح كفى فيه أنها لا تتحامى النجاسة فيكره كماء غمس الصغير يده فيه وأصله كراهة غمس اليد في الإناء للمستيقظ قبل غسلها نهي عنه في حديث المستيقظ لتوهم النجاسة.
فهذا أصل صحيح منتهض يتم به المطلوب من غير حاجة إلى التمسك بالحديث، وهو ما رواه الحاكم وصححه عن أبي هريرة قال قال رسول الله: صلى الله عليه وسلم
"السنور سبع".
ووجه التمسك به على ما ذكره المصنف في المستصفى أنه عليه السلام لم يرد الحقيقة؛ لأنه ما بعث لبيان الحقائق فيكون المراد به الحكم.

 

ج / 1 ص -290-       ...............................
_________________
والحكم أنواع نجاسة السؤر وكراهته وحرمة اللحم.
ثم لا يخلو إما أن يلحق به في حق جميع الأحكام وهو غير ممكن؛ لأن فيه قولا بنجاسة السؤر مع كراهته وأنه لا يجوز أو في حرمة اللحم وأنه لا يجوز لما أنها ثابتة بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع أو في كراهة السؤر، وهو المرام أو في نجاسته، وهو أنه لا يجوز أيضا إذ النجاسة منتفية بالإجماع أو بالحديث أو بالضرورة فبقيت الكراهة أو في الأول مع الثاني أو في الأول مع الثالث أو في الثاني مع الثالث وأنه لا يجوز لما مر.
فإن قيل إنما يستقيم هذا الكلام أن لو كان هذا الحديث واردا بعد تحريم السباع.
قلنا حرمة لحم السباع قبل ورود هذا الحديث لا يخلو إما أن تكون ثابتة أو لم تكن.
فإن كانت ثابتة فظاهر، وإن لم تكن ثابتة لا تكون الحرمة من لوازم كونه سبعا فلا يمكن جعله مجازا عنها أو نقول ابتداء لا يجوز أن تكون حرمة اللحم مرادة من هذا الحديث؛ لأن فيه حمل كلام الرسول عليه الصلاة والسلام على الإعادة لا على الإفادة سواء كان هذا الحديث سابقا أو مسبوقا تأمل تدر ا هـ.
فثبت بهذا كراهة سؤرها ويحمل إصغاء أبي قتادة الإناء على زوال ذلك التوهم بأن كانت بمرأى منه في زمان يمكن فيه غسلها فمها بلعابها.
وأما على قول محمد فيمكن كونه بمشاهدة شربها من ماء كثير أو مشاهدة قدومها عن غيبة يجوز معها ذلك فيعارض هذا التجويز تجويز أكلها نجسا قبيل شربها فيسقطه فتبقى الطهارة دون كراهة؛ لأنها ما جاءت إلا من ذلك التجويز وقد سقط.
وعلى هذا لا ينبغي إطلاق كراهة أكل فضلها والصلاة إذا لحست عضوا قبل غسله كما أطلقه شمس الأئمة وغيره بل يقيد بثبوت ذلك التوهم، فأما لو كان زائلا بما قلنا فلا.
وقد تسامح في غاية البيان حيث قال: ومن الواجب على العوام أن يغسلوا مواضع لحس الهرة إذا دخلت تحت لحافهم لكراهة ما أصابه فمها.
فإنا قدمنا أن الصحيح أنه تنزيهية وترك المكروه كراهة تنزيه مستحب لا واجب إلا أن يراد بالواجب الثابت ولا يخفى أن كراهة أكل فضلها تنزيها إنما هو في حق الغني؛ لأنه يقدر على غيره أما في حق الفقير فلا يكره كما صرح به في السراج الوهاج، وهو نظير ما قالوا إن

 

ج / 1 ص -291-       ...............................
_________________
السؤر المكروه إنما يكون عند وجود غيره أما عند عدم غيره فلا كراهة أصلا.
واعلم أن قولهم إن الأصل في سؤر الهرة أن يكون نجسا، وإنما سقطت النجاسة بعلة الطواف يفيد أن سؤر الهرة الوحشية نجس، وإن كان النص بخلافه لعدم العلة وهي الطواف؛ لأن العلة إذا كانت ثابتة بالنص وعرف قطعا أن الحكم متعلق بها فالحكم يدور على وجودها لا غير كعدم حرمة التأفيف للوالدين إذا لم يعلم الولد معناه أو استعمله بجهة الإكرام ذكره في كشف الأسرار في بحث دلالة النص.
وأما سؤر الدجاجة المخلاة؛ فلأنها تخالط النجاسة فمنقارها لا يخلو عن قذر وكذا البقر الجلالة والإبل الجلالة إلا أن تكون محبوسة.
واختلفوا في تفسيرها فقيل هي التي تحبس في بيت ويغلق بابه وتعلف هناك لعدم النجاسة على منقارها لا من حيث الحقيقة ولا من حيث الاعتبار؛ لأنها لا تجد عذرات غيرها حتى تجول فيها، وهي في عذرات نفسها لا تجول، وإليه ذهب شيخ الإسلام في مبسوطه.
وحكي عن الإمام الحاكم عبد الرحمن أنه قال لم يرد بكونها محبوسة أن تكون محبوسة في بيتها؛ لأنها، وإن كانت محبوسة تجول في عذرات نفسها فلا يؤمن من أن يكون على منقارها قذر فيكره كما لو كانت مخلاة، وإنما المراد أن تحبس في بيت لتسمن للأكل فيكون رأسها وعلفها وماؤها خارج البيت فلا يمكنها أن تجول في عذرات نفسها كذا في معراج الدراية واختار الثاني صاحب الهداية وغيره وفي فتح القدير والحق أنها لا تأكله بل تلاحظ الحب بينه فتلتقطه.
وأما سؤر سباع الطير كالصقر والبازي فالقياس نجاسته لنجاسة لحمها لحرمة أكله كسباع البهائم ووجه الاستحسان أن حرمة لحمها، وإن اقتضت النجاسة لكنها تشرب بمنقارها، وهو عظم جاف طاهر لكنها تأكل الميتات والجيف غالبا فأشبه الدجاجة المخلاة فأورث الكراهة بخلاف سباع البهائم، فإنها تشرب بلسانها وهو رطب بلعابها المتولد من لحمها، وهو نجس فافترقا؛ ولأن في سباع الطير ضرورة وبلوى، فإنها تنقض من الهواء فتشرب ولا يمكن صون الأواني عنها خصوصا في البراري.

 

ج / 1 ص -292-       والحمار والبغل مشكوك
_________________
وعن أبي يوسف أن الكراهة لتوهم النجاسة في منقارها لا لوصول لعابها إلى الماء حتى لو كانت محبوسة يعلم لصاحبها أنه لا قذر في منقارها لا يكره التوضؤ بسؤرها واستحسن المشايخ المتأخرون هذه الرواية وأفتوا بها كذا في النهاية وفي التجنيس يجوز أن يفتى بها.
وأما سؤر سواكن البيوت كالحية والفأرة؛ فلأن حرمة اللحم أوجبت النجاسة لكنها سقطت النجاسة بعلة الطواف وبقيت الكراهة والعلة المذكورة في. الحديث في الهرة موجودة بعينها في سواكن البيوت وهي الطوف فيثبت ذلك الحكم المترتب عليها، وهو سقوط النجاسة وتثبت الكراهة لتوهمها
فرع
تكره الصلاة مع حمل ما سؤره مكروه كالهرة كذا في التوشيح
نكتة قيل ست تورث النسيان سؤر الفأرة وإلقاء القملة وهي حية والبول في الماء الراكد وقطع القطار ومضغ العلك وأكل التفاح ومنهم من ذكره حديثا لكن قال أبو الفرج بن الجوزي: إنه حديث موضوع.
" قوله: والحمار والبغل مشكوك " أي سؤرهما مشكوك فيه هذه عبارة أكثر مشايخنا وأبو طاهر الدباس أنكر أن يكون شيء من أحكام الله تعالى مشكوكا فيه وقال سؤر: الحمار طاهر لو غمس فيه الثوب جازت الصلاة معه إلا أنه محتاط فيه فأمر بالجمع بينه وبين التيمم ومنع منه حالة القدرة.
والمشايخ قالوا المراد بالشك التوقف لتعارض الأدلة لا أن يعني بكونه مشكوكا الجهل بحكم الشرع؛ لأن حكمه معلوم، وهو وجوب الاستعمال وانتفاء النجاسة وضم التيمم إليه، والقول بالتوقف عند تعارض الأدلة دليل العلم وغاية الورع.
وبيان التعارض على ما في المبسوط تعارض الأخبار في أكل لحمه، فإنه روي أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن أكل لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر.

 

ج / 1 ص -293-       ...............................
_________________
وروى غالب بن أبجر قال لم يبق لي مال إلا حميرات فقال عليه السلام
"كل من سمين مالك" قال شيخ الإسلام خواهر زاده في مبسوطه، وهذا لا يقوى؛ لأن لحمه حرام بلا إشكال؛ لأنه اجتمع المحرم والمبيح فغلب المحرم على المبيح كما لو أخبر عدل بأن هذا اللحم ذبيحة مجوسي والآخر أنه ذبيحة مسلم لا يحل أكله لغلبة الحرمة فكان لحمه حراما بلا إشكال، ولعابه متولد منه فيكون نجسا بلا إشكال وقيل سبب الإشكال اختلاف الصحابة، فإنه روي عن ابن عمر أنه كان يكره التوضؤ بسؤر الحمار والبغل وعن ابن عباس أنه قال الحمار: يعلف القت والتبن فسؤره طاهر.
قال شيخ الإسلام: وهذا لا يقوى أيضا؛ لأن الاختلاف في طهارة الماء ونجاسته لا يوجب الإشكال كما في إناء أخبر عدل أنه طاهر وآخر أنه نجس فالماء لا يصير مشكلا، وقد استوى الخبران وبقي العبرة بالأصل، فكذا هاهنا، ولكن الأصح في التمسك أن دليل الشك هو التردد في الضرورة، فإن الحمار يربط في الدور والأفنية فيشرب من الأواني وللضرورة أثر في إسقاط النجاسة كما في الهرة والفأرة إلا أن الضرورة في الحمار دون الضرورة فيهما لدخولهما مضايق البيت بخلاف الحمار، ولو لم تكن الضرورة ثابتة أصلا كما في الكلب والسباع لوجب الحكم

 

ج / 1 ص -294-       ...............................
_________________
بالنجاسة بلا إشكال ولو كانت الضرورة مثل الضرورة فيهما لوجب الحكم بإسقاط النجاسة فلما ثبتت الضرورة من وجه دون وجه واستوى ما يوجب النجاسة والطهارة تساقطا للتعارض فوجب المصير إلى الأصل والأصل هاهنا شيئان الطهارة في جانب الماء والنجاسة في جانب اللعاب؛ لأن لعابه نجس كما بينا وليس أحدهما بأولى من الآخر فبقي الأمر مشكلا نجسا من وجه طاهرا من وجه فكان الإشكال عند علمائنا بهذا الطريق لا للإشكال في لحمه ولا لاختلاف الصحابة في سؤره.
وبهذا التقرير يندفع كثير من الأسئلة منها أن المحرم والمبيح إذا اجتمعا يغلب المحرم احتياطا.
وجوابه أن القول بالاحتياط إنما يكون في ترجيح الحرمة في غير هذا الموضع.
أما هاهنا الاحتياط في إثبات الشك؛ لأنا إن رجحنا الحرمة للاحتياط يلزم ترك العمل بالاحتياط؛ لأنه حينئذ لا يجوز استعمال سؤر الحمار مع احتمال كونه مطهرا باعتبار الشك فكان متيمما عند وجود الماء في أحد الوجهين وذلك حرام فلا يكون عملا بالاحتياط ولا بالمباح وما قيل إن في تغليب الحرمة تقليل النسخ فذلك في تعارض النصين لا في الضرورة.
ومنها أن يقال لما وقع التعارض في سؤره وجب المصير إلى الخلف، وهو التيمم كمن له إناءان أحدهما طاهر والآخر نجس فاشتبه عليه.
فإنه يسقط استعمال الماء ويجب التيمم فكذا هاهنا قلنا الماء هاهنا طاهر لما ذكرنا أن قضية الشك أن يبقى كل واحد على حاله ولم يزل الحدث؛ لأنه لما كان ثابتا بيقين فيبقى إلى أن يوجد المزيل بيقين والماء طاهر ووقع الشك في طهوريته فلا يسقط استعماله بالشك بخلاف الإناءين، فإن أحدهما نجس يقينا والآخر طاهر يقينا لكنه عجز عن استعماله لعدم عمله فيصار إلى الخلف.
ومنها أن التعارض لا يوجب الشك كما في إخبار عدلين بالطهارة والنجاسة حيث يتوضأ بلا تيمم قلنا في تعارض الخبرين وجب تساقطهما فرجحنا كون الماء مطهرا باستصحاب الحال والماء كان مطهرا قبله.
وهاهنا تعارض جهتا الضرورة فتساقطتا فأيقنا ما كان على ما كان أيضا إلا أن هاهنا ما كان ثابتا على حاله قبل التعارض شيئان جانب الماء وجانب اللعاب وليس أحدهما بأولى من الآخر فوجب الشك.

 

ج / 1 ص -295-       ...............................
_________________
ومنها ما قيل في استعمال الماء ترك العمل بالاحتياط من وجه آخر؛ لأنه إن كان نجسا فقد تنجس العضو قلنا أما على القول بأن الشك في الطهورية فظاهر وأما على القول المرجوح من أن الشك في كونه طاهرا.
فالجواب أن العضو طاهر بيقين فلا يتنجس بالشك والحدث ثابت بيقين فلا يزول بالشك فيجب ضم التيمم إليه كذا في معراج الدراية وغيره.
وفي الكافي ولم يتعارض الخبران في سؤر الهرة إذ قوله صلى الله عليه وسلم
"الهرة سبع" لا يقتضي نجاسة السؤر لما قدمنا ا هـ. ثم اختلف مشايخنا فقيل الشك في طهارته وقيل في طهوريته وقيل فيهما جميعا والأصح أنه في طهوريته، وهو قول الجمهور كذا في الكافي.
هذا مع اتفاقهم أنه على ظاهر الرواية لا ينجس الثوب والبدن والماء ولا يرفع الحدث.
فلهذا قال في كشف الأسرار شرح أصول فخر الإسلام إن الاختلاف لفظي؛ لأن من قال الشك في طهوريته لا في طهارته أراد أن الطاهر لا يتنجس به ووجب الجمع بينه وبين التراب لا أن ليس في طهارته شك أصلا؛ لأن الشك في طهوريته إنما نشأ من الشك في طهارته لتعارض الأدلة في طهارته ونجاسته ا هـ.
وبهذا التقرير علم ضعف ما استدل به في الهداية لقول من قال الشك في طهوريته بأن لو وجد الماء المطلق لا يجب عليه غسل رأسه، فإن وجوب غسله إنما يثبت بتيقن النجاسة والثابت الشك فيها فلا يتنجس الرأس بالشك فلا يجب.
وعلم أيضا ضعف ما في فتاوى قاضي خان تفريعا على كون الشك في طهارته أنه لو وقع في الماء القليل أفسده؛ لأنه لا إفساد بالشك.
وفي المحيط تفريعا على الشك في طهوريته أنه لو وقع في الماء يجوز التوضؤ به ما لم يغلب عليه؛ لأنه طاهر غير طهور كالماء المستعمل عند محمد ا هـ. وكان الوجه أن يقول ما لم يساوه لما علمته في مسألة الفساقي وقد قدمنا حكم عرقه.وأما لبنها فاختار في الهداية أنه

 

ج / 1 ص -296-       ...............................
_________________
طاهر ولا يؤكل وصححه في منية المصلي وبه اندفع ما في النهاية أنه لم يرجحه أحد وعن البزدوي أنه يعتبر فيه الكثير الفاحش وصححه التمرتاشي وصحح بعضهم أنه نجس نجاسة غليظة.
وفي المحيط أنه نجس في ظاهر الرواية ومقتضى القول بطهارته القول بحل أكله وشربه.
ويدل عليه ما في المبسوط قيل لمحمد لم قلت بطهارة بول ما يؤكل لحمه ولم تقل بطهارة روثه قال كما قلت بطهارة بوله أبحت شربه ولو قلت بطهارة روثه لأبحت أكله ولا أحد يقول بها. ا هـ. فإن ظاهره أن الطهارة والحل متلازمان يلزم من القول بأحدهما القول بالآخر، ومن المشايخ من قال بنجاسة سؤر الحمار دون الأتان؛ لأن الحمار ينجس فمه بشم البول، وفي البدائع، وهذا غير سديد؛ لأنه أمر موهوم لا يغلب وجوده فلا يؤثر في إزالة الثابت وقال قاضي خان: والأصح أنه لا فرق بينهما ولما ثبت الحكم في الحمار ثبت في البغل؛ لأنه من نسله فيكون بمنزلته.
قال الزيلعي هذا إذا كانت أمه أتانا فظاهر؛ لأن الأم هي المعتبرة في الحكم، وإن كانت فرسا ففيه إشكال لما ذكرنا أن العبرة للأم ألا ترى أن الذئب لو نزا على شاة فولدت ذئبا حل أكله ويجزئ في الأضحية فكان ينبغي أن يكون مأكولا عندهما وطاهرا عند أبي حنيفة اعتبار للأم.
وفي الغاية إذا نزا الحمار على الرمكة لا يكره لحم البغل المتولد منهما عند محمد فعلى هذا لا يصير سؤره مشكوكا. ا هـ. الرمكة، وهي الفرس، وهي البرذونة تتخذ للنسل كذا في المغرب.
ويمكن الجواب عن الإشكال بأن البغل لما كان متولدا من الحمار والفرس فصار سؤره كسؤر فرس اختلط بسؤر الحمار فصار مشكوكا ذكره في معراج الدراية وغيره.
وذكر مسكين في شرح الكتاب سؤالا فقال: فإن قلت أين ذهب قولك الولد يتبع الأم

 

ج / 1 ص -297-       توضأ به وتيمم إن فقد ماء
_________________
في الحل والحرمة قلت ذلك إذا لم يغلب شبهه بالأب أما إذا غلب شبهه فلا ا هـ. وبهذا سقط أيضا إشكال الزيلعي كما لا يخفى.
وقال جمال الدين الرازي شارح الكتاب: البغال أربعة بغل يؤكل بالإجماع، وهو المتولد من حمار وحشي وبقرة وبغل لا يؤكل بالإجماع، وهو المتولد من أتان أهلي وفحل وبغل يؤكل عندهما، وهو المتولد من فحل وأتان حمار وحشي وبغل ينبغي أن يؤكل عندهما، وهو المتولد من رمكة وحمار أهلي ا هـ. وفي النوازل لا يحل شرب ما شرب منه الحمار وقال ابن مقاتل: لا بأس به قال الفقيه أبو الليث: هذا خلاف قول أصحابنا ولو أخذ إنسان بهذا القول أرجو أن لا يكون به بأس والاحتياط أن لا يشرب كذا في فتح القدير وفرع في المحيط على كون سؤر الحمار مشكوكا ما لو اغتسلت بسؤر الحمار تنقطع الرجعة ولا تحل للأزواج؛ لأنه مشكوك فيه، فإن كان طاهرا فلا رجعة، وإن كان نجسا لم يكن مطهرا فله الرجعة فإذا احتمل انقطعت احتياطا ولا تحل لغيره احتياطا ا هـ.
" قوله: توضأ به وتيمم إن فقد ماء " أي توضأ بسؤرهما وتيمم إن لم يجد ماء مطلقا يعني يجمع بينهما والمراد بالجمع أن لا تخلو الصلاة الواحدة عنهما، وإن لم يوجد الجمع في حالة واحدة حتى لو توضأ بسؤر الحمار وصلى ثم أحدث وتيمم وصلى تلك الصلاة أيضا جاز؛ لأنه جمع بين الوضوء والتيمم في حق صلاة واحدة، وهو الصحيح كذا في فتاوى قاضي خان فأفاد أن فيها اختلافا.
وفي الجامع الصغير للمحبوبي وعن نصير بن يحيى في رجل لم يجد إلا سؤر الحمار قال يهريق ذلك السؤر يصير عادما للماء ثم يتيمم فعرض قوله هذا على القاسم

 

ج / 1 ص -298-       وأيا قدم صح
_________________
الصفار فقال هو قول جيد وذكر محمد في نوادر الصلاة لو توضأ بسؤر الحمار وتيمم ثم أصاب ماء نظيفا ولم يتوضأ به حتى ذهب الماء ومعه سؤر الحمار فعليه إعادة التيمم وليس عليه إعادة الوضوء بسؤر الحمار؛ لأنه إذا كان مطهرا فقد توضأ به، وإن كان نجسا فليس عليه الوضوء لا في المرة الأولى ولا في الثانية كذا في النهاية وفي الخلاصة ولو تيمم وصلى ثم أراق سؤر الحمار يلزمه إعادة التيمم والصلاة؛ لأنه يتحمل أن سؤر الحمار كان طهورا ا هـ.
فإن قيل هذا الطريق يستلزم أداء الصلاة بغير طهارة في إحدى المرتين لا محالة، وهو مستلزم للكفر لتأديه إلى الاستخفاف بالدين فينبغي أن لا يجوز ويجب الجمع في أداء واحد قلنا ذلك فيما أدى بغير طهارة بيقين، فأما إذا كان أداؤه بطهارة من وجه فلا لانتفاء الاستخفاف؛ لأنه عمل بالشرع من وجه، وهاهنا كذلك؛ لأن كل واحد من السؤر والتراب مطهر من وجه دون وجه فلا يكون الأداء بغير طهارة من كل وجه فلا يلزم منه الكفر كما لو صلى حنفي بعد الفصد أو الحجامة لا تجوز صلاته ولا يكفر لمكان الاختلاف، وهذا أولى بخلاف ما لو صلى بعد البول كذا في معراج الدراية.
"قوله: وأيا قدم صح " أي من المذكورين وهما الوضوء والتيمم أيا بدأ به جاز حتى لو توضأ ثم تيمم جاز بالاتفاق وإن عكس جاز عندنا خلافا لزفر؛ لأنه لا يجوز المصير إلى التيمم مع وجود ماء هو واجب الاستعمال فصار كالماء المطلق.
ولنا، وهو الأصح أن الماء إن كان طهورا فلا معنى للتيمم تقدم أو تأخر، وإن لم يكن طهورا فالمطهر هو التيمم تقدم أو تأخر ووجود هذا الماء وعدمه بمنزلة واحدة وإما يجمع بينهما لعدم العلم بالمطهر منهما عينا فكان الاحتياط في الجمع دون الترتيب كذا الاختلاف في الاغتسال به فعندنا لا يشترط تقديمه خلافا له لكن الأفضل تقديم الوضوء والاغتسال به عندنا، وفي الخلاصة اختلفوا في النية في الوضوء بسؤر الحمار والأحوط أن ينوي ا هـ.
" تنبيه " فيه ثلاث مسائل الأولى ما قدمناه لو أخبر عدل بأن هذا اللحم ذبيحة المجوسي وأخبر عدل آخر أنه ذبيحة المسلم، فإنه لا يحل أكله.

 

ج / 1 ص -299-       ...............................
_________________
الثانية ما قدمناه لو أخبر عدل بنجاسة الماء وعدل آخر بطهارته، فإنه يحكم بطهارته.
الثالثة ما ذكره محمد في كتاب الاستحسان كما نقله في التوشيح لو أخبر عدل بحل طعام وآخر بحرمته، فإنه يحكم بحله، وهذا التنبيه لبيان الفرق بين الثلاث، فإنه قد يشتبه الأصل فيها أن الخبرين إذا تعارضا تساقطا، ويبقى ما كان ثابتا قبل الخبر على ما كان.
ففي الماء قبل الخبر الثابت إباحة شربه وطهارته فلما تعارض الدليلان تساقطا فبقي ما كان من الإباحة والطهارة.
وفي الطعام كذلك؛ لأن الأصل هو الحل فوجب العمل به إذ لو ترجح جانب الحرمة لزم ترجيح أحد المتساويين بلا مرجح مع ترك العمل بالأصل ولا يجوز ترجيح الحرمة بالاحتياط لاستلزامه تكذيب الخبر بالحل من غير دليل.
فأما تعارض أدلة الشرع في حل الطعام وحرمته فيوجب ترجيح الحرمة تقليلا للنسخ الذي هو خلاف الأصل وعملا بالاحتياط الذي هو الأصل في أمور الدين عند عدم المانع.
 وأما مسألة اللحم الأولى، فإنه لما تساقط الدليلان أيضا بالتعارض بقي ما كان ثابتا قبل الذبح والثابت قبله حرمة الأكل؛ لأنه إنما يحل أكله بالذبح شرعا، وإذا لم يثبت السبب المبيح لوقوع التعارض في سبب الإباحة بقي حراما كما كان فظهر الفرق بين الثلاث.
لكن ذكر الإمام جلال الدين الخبازي في حاشية الهداية تفصيلا حسنا في مسألة الماء تسكن إليه النفس ويميل إليه القلب فقال، فإن قيل إذا أخبر عدل بنجاسة الماء وعدل آخر بطهارته لم لا يصير الماء مشكوكا مع وقوع التعارض بين الخبرين قلنا لا تعارض ثمة؛ لأنه أمكن ترجيح أحدهما، فإن المخبر عن الطهارة لو استقصى في ذلك بأن قال أخذت هذا الماء من النهر وسددت فم هذا الإناء ولم يخالطه شيء أصلا رجحنا خبره لتأيده بالأصل، وإن بنى خبره على الاستصحاب وقال كان طاهرا فيبقى كذلك رجحنا خبر النجاسة؛ لأنه أخبر عن محسوس مشاهد وأنه راجح على الاستصحاب ا هـ.
والذي ظهر لي أنه يحمل كلام المشايخ على ما إذا لم يبين مستند إخباره فإذا لم يبين يعمل بالأصل، وهو الطهارة، وإن بين فالعبرة لهذا التفصيل.

 

ج / 1 ص -300-       بخلاف نبيذ التمر
_________________
" قوله: بخلاف نبيذ التمر " يعني إن فقد ماء مطلقا ولم يجد إلا نبيذ التمر، فإنه يتوضأ ولا يجمع بينه وبين التيمم.
وذكر هذه المسألة هنا إما؛ لأنه ما يجوز الوضوء به على رأي أو؛ لأن محمدا لما أوجب الجمع صار عنده مشكوكا فيه فشابه سؤر الحمار كذا قيل لكن لا يخفى ضعف الثاني؛ لأن المصنف جعله مخالفا لسؤر الحمار ثم اعلم أن الكلام هاهنا في ثلاثة مواضع: الأول: في تفسيره الثاني في وقته الثالث في حكمه.
أما الأول فهو أن يلقي في الماء تميرات فيصير رقيقا يسيل على الأعضاء حلوا غير مسكر ولا مطبوخ، وإنما قلنا حلوا؛ لأنه توضأ به قبل خروج الحلاوة يجوز بلا خلاف، وإنما قلنا غير مسكر؛ لأنه لو كان مسكرا لا يجوز الوضوء به بلا خلاف لأنه حرام، وإنما قلنا غير مطبوخ؛ لأنه لو طبخ فالصحيح أنه لا يتوضأ به إذ النار قد غيرته حلوا كان أو مشتدا كمطبوخ الباقلاء كذا في المبسوط والمحيط.
يعني بلا خلاف بين الثلاثة، وهو الأليق بما قدمناه من أن الماء يصير مقيدا بالطبخ إذا لم يقصد به المبالغة في التنظيف
وبه يظهر ضعف ما صححه في المفيد والمزيد أنه يجوز الوضوء به بعدما طبخ.
وقد ذكر الزيلعي أن صاحب الهداية وقع منه تناقض فإنه ذكر هنا أن النار إذا غيرته يجوز الوضوء به عند أبي حنيفة لجواز شربه وذكر في بحث المياه أنه لا يجوز الوضوء بما تغير بالطبخ ا هـ.
ولا يخفى ثبوت الخلاف في هذه المسألة؛ لأن اختلاف التصحيح ينبئ عنه فكان فيه روايتان.
فيحتمل أن يكون مراد صاحب الهداية نقل الرواية في الموضعين فلا تناقض حيث أمكن التوفيق.
وأما سائر الأنبذة، فإنه لا يجوز الوضوء بها عند عامة العلماء، وهو الصحيح؛ لأن جواز

 

 

ج / 1 ص -301-       ...............................
_________________
التوضؤ بنبيذ التمر ثابت بخلاف القياس بالحديث؛ ولهذا لا يجوز عند القدرة على الماء المطلق فلا يقاس عليه غيره كذا في غاية البيان.
وأما الثاني: قال أبو حنيفة: كل وقت يجوز التيمم فيه يجوز التوضؤ به، وإلا فلا كذا في معراج الدراية، وأما الثالث ففيه ثلاث روايات عن أبي حنيفة.
الأولى، وهو قوله الأول أنه يتوضأ به جزما ويضيف التيمم إليه استحبابا والثانية يجب الجمع بينه وبين التيمم كسؤر الحمار وبه قال محمد واختاره في غاية البيان ورجحه والثالثة أنه يتيمم ولا يتوضأ به قوله الآخر وقد رجع إليه، وهو الصحيح.
وبه قال أبو يوسف والشافعي ومالك وأحمد وأكثر العلماء واختاره الطحاوي.
وحكي عن أبي طاهر الدباس أنه قال إنما اختلفت أجوبة أبي حنيفة لاختلاف الأسئلة، فإنه سئل عن التوضؤ به إذا كانت الغلبة للحلاوة قال يتيمم ولا يتوضأ به وسئل مرة إذا كان الماء والحلاوة سواء قال يجمع بينهما وسئل مرة إذا كانت الغلبة للماء فقال يتوضأ به ولا يتيمم.
وبالجملة فالمذهب المصحح المختار المعتمد عندنا هو عدم الجواز موافقة للأئمة الثلاث فلا حاجة إلى الاشتغال بحديث ابن مسعود الدال على الجواز من قوله عليه السلام له ليلة الجن ما في إداوتك قال نبيذ تمر قال "تمرة طيبة وماء طهور" أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه.
لأن من العلماء من تكلم فيه وضعفه وإن أجيب عنه بما ذكره الزيلعي المخرج وغيره وعلى تقدير صحته هو منسوخ بآية التيمم لتأخرها إذ هي مدنية وعلى هذا مشى جماعة من

 

ج / 1 ص -302-       ................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المتأخرين فإذا علم عدم جواز الوضوء به علم عدم جواز الغسل به واختلفوا على قول من يجيز الوضوء به في جواز الغسل به فصحح في المبسوط جوازه وصحح في المفيد عدمه.
ولا فائدة في التصحيحين بعد أن كان المذهب عدم الجواز به في الحديثين؛ لأن المجتهد إذا رجع عن قول لا يجوز الأخذ به كما صرح به في التوشيح.
وتشترط النية له على قول من يجيز الوضوء به ولا يخفى أن سؤر الحمار مقدم عليه على المذهب وعلى القول الأول يقدم النبيذ وعند محمد يجمع بينهما مع التيمم.
وإذا شرع في الصلاة بالتيمم ثم وجده، فهو كالمعدوم على المذهب وعلى الأول يقطعها وعند محمد يمضي فيها ويعيدها بالوضوء به كما لو وجد سؤر حمار، فإنه يمضي ويعيدها به بالاتفاق.
ولولا عبارة الوافي - أصل الكتاب - لشرحته بأن المراد أن النبيذ مخالف لسؤر الحمار حيث لا يجوز الوضوء به أصلا ليصير ما في الكتاب هو المعتمد ولقد أنصف الإمام الطحاوي ناصر المذهب حيث قال ما ذهب إليه أبو حنيفة أولا اعتمد على حديث ابن مسعود لا أصل له ا هـ والله سبحانه وتعالى أعلم.

باب التيمم
_________________
" باب التيمم "
الباب لغة النوع وعرفا نوع من المسائل اشتمل عليها كتاب، وليست بفصل والتيمم لغة مطلق القصد بخلاف الحج، فإنه القصد إلى معظم وشواهدهما كثيرة.
واصطلاحا على ما في شروح الهداية القصد إلى الصعيد الطاهر للتطهير.
وعلى ما في البدائع وغيره استعمال الصعيد في عضوين مخصوصين على قصد التطهير بشرائط مخصوصة وزيف الأول بأن القصد شرط لا ركن والثاني بأنه لا يشترط استعمال جزء من الأرض حتى يجوز بالحجر الأملس فالحق أنه اسم لمسح الوجه واليدين على الصعيد الطاهر.
والقصد شرط؛ لأنه النية وله ركن وشروط وحكم وسبب مشروعية وسبب وجوب وكيفية ودليل.

 

ج / 1 ص -303-       ...............................
_________________
أما ركنه فشيئان الأول ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين والثاني استيعاب العضوين وفي الأول كلام نذكره إن شاء الله تعالى.
وأما شرائطه أعني شرائط جوازه فستأتي في الكتاب مفصلة، وأما حكمه فاستباحة ما لا يحل إلا به.
وأما سبب مشروعيته فما وقع لعائشة رضي الله عنها في غزوة بني المصطلق، وهي غزوة المريسيع، وهو ماء بناحية قديد بين مكة والمدينة لما أضلت عقد ها فبعث عليه السلام في طلبه فحانت الصلاة وليس معهم ماء فأغلظ أبو بكر رضي الله عنه على عائشة وقال حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين على غير ماء فنزلت آية التيمم فجاء أسيد بن الحضير فجعل يقول "ما أكثر بركتكم يا آل أبي بكر" رواه البخاري ومسلم وقال القرطبي: نزلت الآية في عبد الرحمن بن عوف أصابته جنابة، وهو مريض فرخص له في التيمم وقيل غير ذلك، وأما سبب وجوبه فما هو سبب وجوب أصله المتقدم، وأما كيفيته فستأتي.
وأما دليله فمن الكتاب في آيتين في سورة النساء والمائدة وهما مدنيتان ومن السنة فأحاديث منها ما رواه البخاري ومسلم عن عمار بن ياسر قال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة فأجنبت فلم أجد الماء فتمرغت في الصعيد كما تتمرغ الدابة وفي رواية فتمعكت ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه.

 

ج / 1 ص -304-       يتيمم لبعده ميلا عن ماء
_________________
ثم اعلم أن التيمم لم يكن مشروعا لغير هذه الأمة، وإنما شرع رخصة لنا والرخصة فيه من حيث الآلة حيث اكتفى بالصعيد الذي هو ملوث وفي محله بشطر أعضاء الوضوء كذا في المستصفى.
" قوله: يتيمم لبعده ميلا عن ماء " أي يتيمم الشخص، وهذا شروع في بيان شرائطه فمنها أن لا يكون واجدا للماء قدر ما يكفي لطهارته في الصلاة التي تفوت إلى خلف وما هو من أجزائها لقوله تعالى:
{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}[النساء:43] وغير الكافي كالمعدوم، وهذا عندنا.
وقال الشافعي: يلزمه استعمال الموجود والتيمم للباقي؛ لأن ما نكرة في النفي فتعم وقياسا على إزالة بعض النجاسة وستر بعض العورة وكالجمع في حالة الاضطرار بين الذكية والميتة.
قلنا الآية سيقت لبيان الطهارة الحكمية فكأن التقدير فلم تجدوا ماء محللا للصلاة، فإن وجود الماء النجس لا يمنعه من التيمم إجماعا وباستعمال القليل لم يثبت شيء من الحل يقينا على الكمال، فإن الحل حكم والعلة غسل الأعضاء كلها وشيء من الحكم لا يثبت ببعض العلة كبعض النصاب في حق الزكاة وكبعض الرقبة في حق الكفارة والقياس على الحقيقية والعورة فاسد؛ لأنهما يتجزآن فيفيد إلزامه باستعمال القليل للتقليل ولا يفيد هنا إذ لا يتجزأ هنا بل الحدث قائم ما بقي أدنى لمعة فيبقى مجرد إضاعة مال خصوصا في موضع عزته مع بقاء الحدث كما هو.
وأما الجمع حالة الاضطرار؛ فلأن الذكية لما لم تدفع الاضطرار صارت كالعدم كذا ذكر في كثير من الشروح لكن في الخلاصة ولو وجد من الماء قدر ما يغسل به بعض النجاسة الحقيقية أو وجد من الثوب قدر ما يستر بعض العورة لا يلزمه ا هـ. ولو وجد ماء يكفي للحدث أو إزالة النجاسة المانعة غسل به الثوب منها وتيمم للحدث عند عامة العلماء، وإن توضأ به وصلى في النجس أجزأه، وكان مسيئا كذا في الخانية.
وفي المحيط ولو تيمم أولا ثم غسل النجاسة يعيد التيمم؛ لأنه تيمم، وهو قادر على ما يتوضأ به ا هـ.
وفيه نظر بل الظاهر الحكم بجواز التيمم تقدم على غسل الثوب أو تأخر؛ لأنه مستحق الصرف إلى الثوب على ما قالوا والمستحق الصرف إلى جهة معدوم حكما بالنسبة إلى غيرها

 

ج / 1 ص -305-       ...............................
_________________
كما في مسألة اللمعة مع الحدث قبل التيمم له إذا كان الماء كافيا لأحدهما فبدأ بالتيمم للحدث قبل غسلها كما هو رواية الأصل وكالماء المستحق للعطش ونحوه نعم يتمشى ذلك على رواية الزيادات القائلة بأنه لو تيمم قبل غسل اللمعة لا يصح والله سبحانه أعلم. ولهذا قال في شرح الوقاية ثم إنما ثبتت القدرة إذا لم يكن مصروفا إلى جهة أهم.
أصاب بدن المتيمم قذر فصلى ولم يمسحه جاز؛ لأن المسح لا يزيل النجاسة والمستحب أن يمسح تقليلا للنجاسة. ا هـ. ثم العدم على نوعين: عدم من حيث الصورة والمعنى وعدم من حيث المعنى لا من حيث الصورة.
فالأول أن يكون بعيدا عنه قال في البدائع ولم يذكر حد البعد في ظاهر الروايات فعن محمد التقدير بالميل، فإن تحقق كونه ميلا جاز له التيمم، وإن تحقق كونه أقل أو ظن أنه ميل أو أقل لا يجوز قال في الهداية: والميل هو المختار في المقدار؛ لأنه يلحقه الحرج بدخول المصر والماء معدوم حقيقة.
والميل في كلام العرب منتهى مد البصر وقيل للأعلام المبنية في طريق مكة أميال؛ لأنها بنيت على مقادير منتهى البصر كذا في الصحاح والمغرب والمراد هنا ثلث الفرسخ والفرسخ اثنا عشر ألف خطوة كل خطوة ذراع ونصف بذراع العامة، وهو أربع وعشرون أصبعا كذا في الينابيع.
وعن الكرخي رحمه الله أنه إن كان في موضع يسمع صوت أهل الماء فهو قريب، وإن كان لا يسمع فهو بعيد، وبه أخذ أكثر مشايخنا كذا في الخانية، وعن أبي يوسف إذا كان بحيث لو ذهب إليه وتوضأ تذهب القافلة وتغيب عن بصره فهو بعيد ويجوز له التيمم واستحسن المشايخ هذه الرواية كذا في التجنيس وغيره إلا أن ظاهره أنه في حق المسافر لا المقيم، وهو جائز لهما، ولو في المصر؛ لأن الشرط هو العدم فأينما تحقق جاز التيمم نص عليه في الأسرار.
لكن قال في شرح الطحاوي لا يجوز التيمم في المصر إلا لخوف فوت جنازة أو صلاة عيد أو للجنب الخائف من البرد.
وكذا ذكر التمرتاشي بناء على كونه نادرا والحق الأول لما ذكرنا والمنع بناء على عادة الأمصار فليس خلافا حقيقيا وتصحيح الزيلعي لا يفسده.
وفي الخانية قليل السفر وكثيره سواء في التيمم والصلاة على الدابة خارج المصر إنما الفرق بين القليل والكثير في ثلاثة في قصر الصلاة والإفطار والمسح على الخفين ا هـ.

 

ج / 1 ص -306-       أو لمرض
_________________
وفي المحيط المسافر يطأ جاريته، وإن علم أنه لا يجد الماء؛ لأن التراب شرع طهورا حالة عدم الماء ولا تكره الجنابة حال وجود الماء فكذا حال عدمه ا هـ. وبما قررناه علم أن المعتبر المسافة دون خوف فوت الوقت خلافا لزفر.
وفي المبتغى بالغين المعجمة ومن كان في كلة جاز تيممه لخوف البق أو مطر وحر شديد إن خاف فوت الوقت ا هـ.
ولا يخفى أن هذا مناسب لقول زفر لا لقول أئمتنا، فإنهم لا يعتبرون خوف الفوت، وإنما العبرة للبعد كما قدمناه كذا في شرح منية المصلي.
لكن ظفرت بأن التيمم لخوف فوت الوقت رواية عن مشايخنا ذكرها في القنية في مسائل من ابتلي ببليتين ويتفرع على هذا الاختلاف ما لو ازدحم جمع على بئر لا يمكن الاستقاء منها إلا بالمناوبة لضيق الموقف أو لاتحاد الآلة للاستقاء ونحو ذلك، فإن كان يتوقع وصول النوبة إليه قبل خروج الوقت لم يجز له التيمم بالاتفاق وإن علم أنها لا تصير إليه إلا بعد خروج الوقت يصبر عندنا ليتوضأ بعد الوقت، وعند زفر يتيمم.
ولو كان جمع من العراة وليس معهم إلا ثوب يتناوبونه وعلم أن النوبة لا تصل إليه إلا بعد الوقت، فإنه يصبر ولا يصلي عاريا ولو اجتمعوا في سفينة أو بيت ضيق وليس هناك موضع يسع أن يصلي قائما فقط لا يصلي قاعدا بل تصبر ويصلي قائما بعد الوقت كما لو كان مريضا عاجزا عن القيام واستعمال الماء في الوقت ويغلب على ظنه القدرة بعده وكذا لو كان معه ثوب نجس ومعه ماء يغسله ولكن لو غسله خرج الوقت لزم غسله، وإن خرج الوقت كذا في التوشيح وأما العدم معنى لا صورة فهو أن يعجز عن استعمال الماء لمانع مع قرب الماء منه وسيأتي بيانه مفصلا.
" قوله: أو لمرض " يعني يجوز التيمم للمرض.
وأطلقه، وهو مقيد بما ذكره في الكافي من قوله بأن يخاف اشتداد مرضه لو استعمل الماء فعلم أن اليسير منه لا يبيح التيمم، وهو قول جمهور العلماء إلا ما حكاه النووي عن بعض المالكية، وهو مردود بأنه رخصة أبيحت للضرورة ودفع الحرج، وهو إنما يتحقق عند خوف الاشتداد والامتداد.

 

ج / 1 ص -307-       ...............................
_________________
ولا فرق عندنا بين أن يشتد بالتحرك كالمبطون أو بالاستعمال كالجدري أو كأن لا يجد من يوضئه ولا يقدر بنفسه اتفاقا.
وإن وجد خادما كعبده وولده وأجيره لا يجزيه التيمم اتفاقا كما نقله في المحيط.
وإن وجد غير خادمه من لو استعان به أعانه ولو زوجته فظاهر المذهب أنه لا يتيمم من غير خلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه كما يفيده كلام المبسوط والبدائع وغيرهما.
ونقل في التجنيس عن شيخه خلافا بين أبي حنيفة وصاحبيه على قوله يجزئه التيمم وعلى قولهما لا قال وعلى هذا الخلاف إذا كان مريضا لا يقدر على الاستقبال أو كان في فراشه نجاسة ولا يقدر على التحول منه ووجد من يحوله ويوجهه لا يفترض عليه ذلك عنده وعلى هذا الأعمى إذا وجد قائدا لا تلزمه الجمعة والحج والخلاف فيهما معروف.
فالحاصل أن عنده لا يعتبر المكلف قادر بقدرة غيره؛ لأن الإنسان إنما يعد قادرا إذا اختصر بحالة يتهيأ له الفعل متى أراد، وهذا لا يتحقق بقدرة غيره؛ ولهذا قلنا إذا بذل الابن المال والطاعة لأبيه لا يلزمه الحج، وكذا من وجبت عليه الكفارة، وهو معدم فبذل له إنسان المال لما قلنا وعندهما تثبت القدرة بآلة الغير؛ لأن آلة الغير صارت كآلته بالإعانة، وكان حسام الدين رحمه الله يختار قولهما.
والفرق على ظاهر المذهب بين مسألة التيمم وبين المريض إذا لم يقدر على الصلاة، ومعه قوم لو استعان بهم في الإقامة والثبات جاز له الصلاة قاعدا أنه يخاف على المريض زيادة الوجع في قيامه، ولا يلحقه زيادة الوجع في الوضوء ا هـ. ما في التجنيس.
وظاهره أنه لو لم يكن له أجير لكن معه ما يستأجر به أجيرا لا يجزئه التيمم قل الأجر أو كثر، فإنه قال أو عنده من المال مقدار ما يستأجر به أجيرا.
والفرق بين الزوجة والمملوك أن المنكوحة إذا مرضت لا يجب عليه أن يوضئها وأن يتعاهدها، وفي العبد والجارية يجب عليه إذا لم يستطع الوضوء كذا في الخلاصة.
يعني أن السيد لما كان عليه تعاهد العبد في مرضه كان على عبده أن يتعاهده في مرضه

 

ج / 1 ص -308-       أو برد
_________________
والزوجة لما لم يكن عليه أن يتعاهدها في مرضها فيما يتعلق بالصلاة لا يجب عليها ذلك إذا مرض فلا يعد قادرا بفعلها
وفي المبتغى مريض إذا لم يكن عنده أحد يوضئه إلا بأجر جاز له التيمم عند أبي حنيفة قل الأجر أو كثر وقالا لا يتيمم إذا كان الأجر ربع درهم ا هـ. والظاهر عدم الجواز إذا كان قليلا لا إذا كان كثيرا لما عرف من مسألة شراء الماء إذا وجده بثمن المثل على ما نبينه إن شاء الله تعالى
وبقولنا قال مالك وأحمد والشافعي في الأصح كما نقله النووي لإطلاق قوله تعالى:
{وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى}[النساء:43، المائدة:6] والمراد من الوجود في الآية القدرة.
قال العلامة الكردري الفاء في قوله تعالى:
{فلم تجدوا} للعطف على الشرط وفي {فتيمموا} لجواب الشرط وفي {فامسحوا} لتفسير التيمم، وهذا إذا قدر المريض على التيمم أما إذا لم يقدر عليه أيضا ولا عنده من يستعين به، فإنه لا يصلي عندهما.
قال الشيخ الإمام أبو بكر رأيت في الجامع الصغير للكرخي أن مقطوع اليدين والرجلين إذا كان بوجهه جراحة يصلي بغير طهارة ولا يتيمم ولا يعيد، وهذا هو الأصح كذا في فتاوى الظهيرية ذكره مسكين.
وسيأتي بقية الكلام عليه إن شاء الله تعالى.
" قوله: أو برد " أي إن خاف الجنب أو المحدث إن اغتسل أو توضأ أن يقتله البرد أو يمرضه تيمم سواء كان خارج المصر أو فيه وعندهما لا يتيمم فيه كذا في الكافي.
وجوازه للمحدث قول بعض المشايخ والصحيح أنه لا يجوز له التيمم كذا في فتاوى قاضي خان والخلاصة وغيرهما وذكر المصنف في المستصفى أنه بالإجماع على الأصح.
قال في فتح القدير: وكأنه والله أعلم لعدم اعتبار ذلك الخوف بناء على أنه مجرد وهم إذ لا يتحقق في الوضوء عادة ا هـ.
ثم اعلم أن جوازه للجنب عند أبي حنيفة مشروط بأن لا يقدر على تسخين الماء ولا على

 

ج / 1 ص -309-       ...............................
_________________
أجرة الحمام في المصر ولا يجد ثوبا يتدفأ فيه، ولا مكانا يأويه كما أفاده في البدائع وشرح الجامع الصغير لقاضي خان، فصار الأصل أنه متى قدر على الاغتسال بوجه من الوجوه لا يباح له التيمم إجماعا وقالا لا يجوز التيمم للبرد في المصر.
وقد اختلف المشايخ فمنهم من جعل الخلاف بينهم في هذه نشأ عن اختلاف زمان لا برهان بناء على أن أجر الحمام في زمانهما يؤخذ بعد الدخول، فإذا عجز عن الثمن دخل ثم تعلل بالعسرة، وفي زمانه قبله فيعذر.
ومنهم من جعله برهانيا بناء على الخلاف في جواز التيمم لغير الواجد قبل الطلب من رفيقه إذا كان له رفيق فعلى هذا يقيد منعهما بأن يترك طلب الماء الحار من جميع أهل المصر.
أما إذا طلب فمنع، فإنه يجوز عندهما والظاهر قوله؛ لأنه لا يكلف الطهارة بالماء إلا إذا قدر عليه بالملك أو الشراء وعند انتفاء هذه القدرة يتحقق العجز.
ولهذا لم يفصل العلماء فيما إذا لم يكن معه ثمن الماء بين إمكان أخذه بثمن مؤجل بالحيلة على ذلك أو لا بل أطلقوا جواز التيمم إذ ذاك فما أطلقه بعض المشايخ من عدم جواز التيمم في هذا الزمان بناء على أن أجر الحمام يؤخذ بعد الدخول فيتعلل بالعسرة بعده فيه نظر كذا في فتح القدير.
ولا شك في هذا فيما يظهر؛ لأنه تغرير لم يأذن الشرع فيه، ومن ادعى إباحته فضلا عن تعيينه، فعليه البيان ولا يخفى أن مراد المحقق في فتح القدير من قوله ليس معه مال أنه لا مال له غائب أيضا فحينئذ لا يلزمه الشراء بالنسيئة.
أما إذا لم يكن معه مال، وله مال غائب، فإنه يلزمه الشراء بالنسيئة كما أشار إليه شارح منية المصلي تلميذ المحقق.
وفي المبتغى بالغين المعجمة أجير لا يجد الماء إن علم أنه يجده في نصف ميل لا يعذر في التيمم، وإن لم يأذن له المستأجر يتيمم ويصلي ثم يعيد ولو صلى صلاة أخرى، وهو يذكر هذه تفسد ا هـ.
" قوله: أو خوف عدو أو سبع أو عطش أو فقد آلة " يعني يجوز التيمم لهذه الأعذار؛ لأن الماء معدوم معنى لا صورة.

 

ج / 1 ص -310-       ...............................
_________________
أما إذا كان بينه وبين الماء عدو آدميا أو غيره يخاف على نفسه إذا أتاه؛ فلأن إلقاء النفس في التهلكة حرام فيتحقق العجز عن استعمال الماء وسواء خاف على نفسه أو ماله كذا في العناية وفي المبتغى ولو كان عنده أمانة يخاف عليها إن ذهب إلى الماء يتيمم وفي التوشيح إذا خافت المرأة على نفسها بأن كان الماء عند فاسق أو خاف المديون المفلس من الحبس بأن كان صاحب الدين عند الماء.
وفي الخلاصة وفتاوى قاضي خان وغيرهما الأسير في يد العدو إذا منعه الكافر عن الوضوء والصلاة يتيمم ويصلي بالإيماء ثم يعيد إذا خرج وكذا لو قال لعبده إن توضأت حبستك أو قتلتك، فإنه يصلي بالتيمم ثم يعيد كالمحبوس؛ لأن طهارة التيمم لم تظهر في منع وجوب الإعادة.
وفي التجنيس رجل أراد أن يتوضأ فمنعه إنسان عن أن يتوضأ بوعيد قيل ينبغي أن يتيمم ويصلي ثم يعيد الصلاة بعد ما زال عنه؛ لأن هذا عذر جاء من قبل العباد فلا يسقط فرض الوضوء عنه ا هـ.
فعلم منه أن العذر إن كان من قبل الله تعالى لا تجب الإعادة وإن كان من قبل العبد وجبت الإعادة
ثم وقع الاختلاف في الخوف من العدو هل هو من الله فلا تجب الإعادة أو هو بسبب العبد فتجب الإعادة ذهب صاحب معراج الدراية إلى الأول وذهب صاحب النهاية إلى الثاني.
والذي يظهر ترجيح ما في النهاية لما نقلناه من مسألة منع السيد عبده بوعيد من الحبس أو القتل، فإنه ليس فيه إلا الخوف لا المنع الحسي وكذا ظاهر ما نقلناه عن التجنيس كما لا يخفى.
لكن قد يقال لا مخالفة بين ما في النهاية والدراية، فإن ما في النهاية محمول على ما إذا حصل وعيد من العبد نشأ منه الخوف فكان هذا من قبل العباد وما في الدراية محمول على ما إذا لم يحصل وعيد من العبد أصلا بل حصل خوف منه فكان هذا من قبل الله تعالى إذا لم يتقدمه وعيد بدليل أن صاحب الدراية ذكر مسألة الخوف في الأسير بدار الحرب وبه يندفع ما ذكره في فتح القدير من أن صاحب الدراية نص على مخالفة ما في النهاية كما لا يخفى ثم بعد هذا رأيت العلامة ابن أمير حاج صرح بما فهمته فقال وتحرر أن المراد بالخوف من العدو الخوف الذي لم ينشأ عن وعيد من قادر عليه ونحو ذلك كما في الخوف من السبع ولا بأس بأن

 

ج / 1 ص -311-       ...............................
_________________
يكون مرادهم ذلك، وإنما نسب هذا الخوف إلى الله تعالى في هذه الصورة مع أن فيها وفي غيرها منه تعالى أيضا خلقا وإرادة لتجرده في هذه الصورة عن مباشرة سبب له من الغير في حق الخائف وفي المحيط ولو حبس في السفر تيمم وصلى أو لا يعيد؛ لأنه انضم عذر السفر إلى العذر الحقيقي والغالب في السفر عدم الماء فتحقق العدم من كل وجه ا هـ.
وأما الماء المحتاج إليه للعطش، فإنه مشغول بحاجته والمشغول بالحاجة كالمعدوم وعطش رفيقه ودابته وكلبه لماشيته أو صيده في الحال أو ثاني الحال كعطشه وسواء كان المحتاج إليه للعطش رفيقه المخالط له أو آخر من أهل القافلة، فإن امتنع صاحب الماء من ذلك، وهو غير محتاج إليه للعطش وهناك مضطر إليه للعطش كان له أخذه منه قهرا وله أن يقاتله، فإن قتل أحدهما صاحبه إن كان المقتول صاحب الماء فدمه هدر ولا قصاص فيه ولا دية ولا كفارة، وإن كان المضطر فهو مضمون بالقصاص أو الدية والكفارة.
وإن كان صاحب الماء محتاجا إليه للعطش فهو أولى به من غيره، فإن احتاج إليه الأجنبي للوضوء، وكان مستغنيا عنه لم يلزمه بذله، ولا يجوز للأجنبي أخذه منه قهرا كذا في السراج الوهاج وكذا الماء المحتاج إليه للعجين لما قلنا.
وإن كان يحتاج إليه لاتخاذ المرقة لا يتيمم؛ لأن حاجة الطبخ دون حاجة العطش.
وأما جوازه بفقد الآلة فلتحقق العجز؛ لأنه إذا لم يجدد لوا يستقي به فوجود البئر وعدمها سواء ويشترط أن لا يمكنه إيصال ثوبه إليه أما إذا أمكنه إيصال ثوبه ويخرج الماء قليلا بالبلل لا يجوز له التيمم كذا في السراج الوهاج وفي الخلاصة ولو كان معه منديل طاهر لا يجزئه التيمم.
وهذا يوافق فروعا ذكرها الشافعية، وهي أنه لو وجد بئرا فيها ماء ولا يمكنه النزول إليه وليس معه ما يدليه إلا ثوبه أو عمامته لزمه إدلاؤه ثم يعصره إن لم تنقص قيمة الثوب أكثر من ثمن الماء، فإن زاد النقص على ثمن الماء تيمم ولا إعادة عليه وإن قدر على استئجار من ينزل إليها بأجرة المثل لزمه ولم يجز التيمم، وإلا جاز بلا إعادة، ولو كان معه ثوب إن شقه نصفين وصل إلى الماء، وإلا لم يصل، فإن كان نقصه بالشق لا يزيد على ثمن الماء وثمن آلة الاستقاء لزمه شقه ولم يجز التيمم، وإلا جاز بلا إعادة، وهذا كله موافق لقواعدنا كذا في التوشيح.
والأصل أنه متى أمكنه استعمال الماء بوجه من الوجوه من غير لحوق ضرر في نفسه أو ماله وجب عليه استعماله، وما زاد على ثمن المثل ضرر فلا يلزمه بخلاف ثمن المثل.

 

ج / 1 ص -312-       ...............................
_________________
وفي المبتغى بالغين المعجمة وبوجود آلة التقوير في نهر جامد تحته ماء لا يتيمم وقيل يتيمم وفي سفره جمد أو ثلج ومعه آلة الذوب لا يتيمم وقيل يتيمم ا هـ. والظاهر الأول منهما كما لا يخفى.
وفي المحيط الماء الموضوع في الفلاة في الحب ونحوه لا يمنع جواز التيمم؛ لأنه لم يوضع للوضوء غالبا، وإنما وضع للشرب إلا أن يكون الماء كثيرا فيستدل بكثرته على أنه وضع للشرب والوضوء جميعا ا هـ. وكذا في التجنيس وفتاوى الولوالجي وقاضي خان والحب بضم الحاء الخابية وعن الإمام أبي بكر محمد بن الفضل أن الموضوع للشرب يجوز التوضؤ منه والموضوع للوضوء لا يباح منه الشرب.
وفي الخلاصة وغيرها ثلاثة نفر في السفر جنب وحائض طهرت من الحيض وميت ومعهم من الماء قدر ما يكفي لأحدهم إن كان الماء لأحدهم فهو أحق، وإن كان الماء لهم لا ينبغي لأحدهم أن يغتسل، وإن كان الماء مباحا فالجنب أحق فتتيمم المرأة وييمم الميت ولو كان مكان الحائض محدث يصرف إلى الجنب ا هـ.
وفي الظهيرية قال عامة المشايخ الميت أولى وقيل الجنب أولى، وهو الأصح ا هـ.
وفي المحيط وينبغي أن يصرفا نصيبهما إلى غسل الميت ويتيمما فيما إذا كان مشتركا وفي التجنيس رجل كان في البادية وليس معه إلا قمقمة من ماء زمزم في رحله وقد رصص رأسه لا يجوز له التيمم إذا كان لا يخاف على نفسه العطش؛ لأنه واجد للماء وكثيرا ما يبتلى به الحاج الجاهل ويظن أنه يجزئه.
والحيلة فيه أن يهبه من غيره ثم يستودع منه الماء ا هـ.

 

ج / 1 ص -313-       مستوعبا وجهه ويديه مع مرفقيه
_________________
قال قاضي خان في فتاويه إلا أن هذا ليس بصحيح عندي، فإنه لو رأى مع غيره ماء يبيعه بمثل الثمن أو بغبن يسير يلزمه الشراء ولا يجوز له التيمم، فإذا تمكن من الرجوع في الهبة كيف يجوز له التيمم ا هـ. ودفعه في فتح القدير بأنه يمكن أن يفرق بأن الرجوع تملك بسبب مكروه، وهو مطلوب العدم شرعا فيجوز أن يعتبر الماء معدوما في حقه كذلك، وإن قدر عليه حقيقة كماء الحب بخلاف البيع ا هـ.
وقيل الحيلة فيه أن يخلطه بماء الورد حتى يغاب عليه فلا يبقى طهورا كذا في التوشيح والمحبوس الذي لا يجد طهورا لا يصلي عندهما.
وعند أبي يوسف يصلي بالإيماء ثم يعيد، وهو رواية عن محمد تشبها بالمصلين قضاء لحق الوقت كما في الصوم ولهما أنه ليس بأهل للأداء لمكان الحدث فلا يلزمه التشبه كالحائض.
وبهذه المسألة تبين أن الصلاة بغير طهارة متعمدا ليس بكفر، فإنه لو كان كفرا لما أمر أبو يوسف به وقيل كفر كالصلاة إلى غير القبلة أو مع الثوب النجس عمدا؛ لأنه كالمستخف.
والأصح أنه لو صلى إلى غير القبلة أو مع الثوب النجس لا يكفر؛ لأن ذلك يجوز أداؤه بحال ولو صلى بغير طهارة متعمدا يكفر؛ لأن ذلك يحرم بكل حال فإذا صلى بغير طهارة متعمدا فقد تهاون واستخف بأمر الشرع فيكفر كذا في المحيط.
وقد قدمنا عن الفتاوى الظهيرية أن مقطوع اليدين والرجلين إذا كان بوجهه جراحة يصلي بغير طهارة ولا يتيمم ولا يعيد، وهذا هو الأصح.
فكانت الصلاة بغير طهارة نظير الصلاة إلى غير القبلة أو مع الثوب النجس فينبغي التسوية بينهما في الحكم، وهو عدم التكفير كما لا يخفى.
" قوله: مستوعبا وجهه ويديه مع مرفقيه " أي يتيمم تيمما مستوعبا فهو صفة لمصدر محذوف.
وجوز الزيلعي أن يكون حالا من الضمير الذي في تيمم فيكون حالا منتظرة قال والأول أوجه.
ولم يبين وجهه ولعل وجهه أن الاستيعاب فيه ركن لا يتحقق التيمم إلا به، وعلى جعله

 

ج / 1 ص -314-       ...............................
_________________
حالا يصير شرطا خارجا عن ماهيته؛ لأن الأحوال شروط على ما عرف.
اعلم أن الاستيعاب فرض لازم في ظاهر الرواية عن أصحابنا حتى لو ترك شيئا قليلا من مواضع التيمم لا يجوز ونص غير واحد على أن هذا هو الصحيح منهم قاضي خان ونص صاحب المجمع وصاحب الاختيار على أنه الأصح وصاحب الخلاصة والولوالجي على أنه المختار وشارح الوقاية أن عليه الفتوى. وروى الحسن عن أبي حنيفة أن الأكثر يقوم مقام الكل لوجه غير لازم، وهو إما لكثرة البلوى أو؛ لأنه مسح فلا يجب فيه الاستيعاب كمسح الرأس.
وفي تفصيل عقد الفوائد بتكميل قيد الشرائد معزيا إلى الخلاصة أن المتروك لو كان أقل من الربع يجزئه، وهو الأصح.
والظاهر أن ليس المراد بها خلاصة الفتاوى المشهورة، فإن فيها أن المختار افتراض الاستيعاب.
ووجه ظاهر الرواية أن الأمر بالمسح في باب التيمم تعلق باسم الوجه واليدين وأنه يعم الكل؛ ولأن التيمم بدل بعد الوضوء والاستيعاب في الأصل من تمام الركن فكذا في البدل فيلزمه تخليل الأصابع ونزع الخاتم أو تحريكه ولو ترك لم يجز و على رواية الحسن لا يلزمه ويمسح المرفقين مع الذراعين عند أصحابنا الثلاثة خلافا لزفر حتى لو كان مقطوع اليدين من المرفقين يمسح موضع القطع عندنا خلافا لزفر والكلام فيه كالكلام في الوضوء وقدر كذا في البدائع وفي المحيط وإن كان القطع فوق المرفق لا يجب المسح يعني اتفاقا ويمسح تحت الحاجبين وفوق العينين وفي فتح القدير معزيا إلى الحلية تبعا للدراية يمسح من وجهه ظاهر البشرة والشعر على الصحيح ا هـ. لكن في السراج الوهاج لا يجب عليه مسح اللحية في التيمم ولا مسح الجبيرة.
ولو مسح بإحدى يديه وجهه وبالأخرى يديه أجزأه في الوجه واليد الأولى ويعيد الضرب لليد الأخرى ا هـ.

 

ج / 1 ص -315-       بضربتين
_________________
وفي تعبيره بالواو في قوله ويديه دون ثم إشارة إلى أن الترتيب ليس بشرط فيه كأصله.
ويشترط المسح بجميع اليد أو بأكثرها حتى لو مسح بأصبع واحدة أو إصبعين لا يجوز ولو كرر المسح حتى استوعب بخلاف مسح الرأس كذا في السراج الوهاج معزيا إلى الإيضاح وفي المجتبى ومسح العذار شرط على ما حكى عن أصحابنا والناس عنه غافلون.
وفي المحيط عن محمد في رجل يرى التيمم إلى الرسغ والوتر ركعة ثم رأى التيمم إلى المرفق والوتر ثلاثا لا يعيد ما صلى؛ لأنه مجتهد فيه، وإن فعل ذلك من غير أن يسأل أحدا ثم سأل فأمر بثلاث يعيد ما صلى؛ لأنه غير مجتهد ا هـ. وفي معراج الدراية ولو أمر غيره أن ييممه ونوى هو جاز وقال ابن القاضي لا يجزئه ا هـ والناوي هو الآمر كما لا يخفى.
وفي شرح المجمع، وأما استيعاب الوجه في التيمم فليس مستفادا من الإلصاق بل؛ لأنه خلف عن الغسل فلزم الاستيعاب في الخلف حسب لزومه في الأصل. ا هـ. وقد قدمناه في مسح الرأس.
" قوله: بضربتين " الباء متعلقة بتيمم أي يتيمم بضربتين وقد وقع ذكر الضرب في كثير من الكتب والمذكور في الأصل الوضع دون الضرب وفي بعض الروايات الضرب فاختلف المشايخ فيه.
فمنهم كالمصنف في المستصفى من قال بأنهم إنما اختاروه، وإن كان الوضع جائزا لما أن الآثار جاءت بلفظ الضرب وفي غاية البيان والمقصود من الضرب أن يدخل الغبار في خلال الأصابع تحقيقا لمعنى الاستيعاب وتعقب ما في المستصفى بأن الضرب لم يذكر في الآية ولا في سائر الآثار، وإنما جاء في بعضها.
ومنهم من ذهب إلى أن المقصود بذكر الضربتين الرد على ابن سيرين ومن تبعه أنه لا بد

 

ج / 1 ص -316-       ...............................
_________________
من ثلاث ضربات ضربة للوجه وضربة للكفين وضربة للذراعين.
وأما ما روي عن محمد من الاحتياج إلى ثلاث ضربات فليس افتراضا للثالثة لذاتها بل لتخليل الأصابع إذا لم يدخل الغبار بينهما، وهو خلاف النص والمقصود، وهو التخليل لا يتوقف عليه.
ومنهم من ذهب إلى أن الضربتين ركن للخبر الوارد التيمم.
ضربتان فهما من ماهية التيمم ومن ثم قال السيد أبو شجاع أنه لو أحدث بعد الضربة أعادها ولا يجزئه المسح بما في يده من التراب وصححه في الخلاصة، وهو مختار شمس الأئمة.
ولكن قال القاضي الإسبيجابي إن الضربة تجزئه كما في الوضوء حيث يتوضأ بذلك الماء وفرق السيد أبو شجاع بينهما بأن الشرط في الوضوء الحصول وفي التيمم التحصيل. وأجيب عنه بأن التحصيل شرط فلا ينافي الحدث كما لو أحرم مجامعا.
وفي فتح القدير بعد ما ذكر الخلاف وعلى هذا فما صرحوا به من أنه لو ألقت الريح الغبار على وجهه ويديه فمسح بنية التيمم أجزأه وإن لم يمسح لا يجوز يلزم فيه أما كونه قول من أخرج الضربة لا قول الكل، وأما اعتبار الضربة أعم من كونها على الأرض أو على العضو مسحا والذي يقتضيه النظر عدم اعتبار ضربة الأرض من مسمى التيمم شرعا، فإن المأمور به.

 

ج / 1 ص -317-       ...............................
_________________
المسح في الكتاب ليس غير قال تعالى
{فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ}[النساء:43] ويحمل قوله عليه السلام "التيمم ضربتان" أما على إرادة الأعم من المسحتين كما قلنا أو أنه أخرج مخرج الغالب والله سبحانه أعلم ا هـ.
ثم اعلم أن الشرط وجود الفعل منه أعم من أن يكون مسحا أو ضربا أو غيره فقد قال في الخلاصة ولو أدخل رأسه في موضع الغبار بنية التيمم يجوز ولو انهدم الحائط وظهر الغبار فحرك رأسه ونوى التيمم جاز والشرط وجود الفعل منه. ا هـ. وهذا يعين أن هذه الفروع مبنية على قول من أخرج الضربة من مسمى التيمم.
وأما من أدخلها فلا يمكنه القول بها فيما نقلناه عن الخلاصة إذا ليس فيها ضرب أصلا لا على الأرض ولا على العضو إلا أن يقال مراده بالضرب الفعل منه أعم من كونه ضربا أو غيره، وهو بعيد كما لا يخفى وتظهر ثمرة الخلاف أيضا فيما إذا نوى بعد الضرب فمن جعله ركنا لم يعتبر النية بعده ومن لم يجعله ركنا اعتبرها بعده كذا في السراج الوهاج وفي الخلاصة ولو شلت كلا يديه يمسح وجهه وذراعيه على الحائط ا هـ.
وقد قدمنا أنه لو أمر غيره بأن ييممه جاز بشرط أن ينوي الآمر فلو ضرب المأمور يده على الأرض بعد نية الآمر ثم أحدث الآمر قال في التوشيح ينبغي أن يبطل بحدث الآمر على قول أبي شجاع ا هـ. وظاهره أنه لا يبطل بحدث المأمور لما أن المأمور آلة وضربه ضرب للآمر فالعبرة للآمر؛ ولهذا اشترطنا نيته لا نية المأمور.
وفي المحيط وكيفية التيمم أن يضرب يديه على الأرض ثم ينفضهما فيمسح بهما وجهه بحيث لا يبقى منه شيء، وإن قل ثم يضرب يديه ثانيا على الأرض ثم ينفضهما فيمسح بهما كفيه وذراعيه كليهما إلى المرفقين وقال مشايخنا يضرب يديه ثانيا ويمسح بأربع أصابع يده اليسرى ظاهر يده اليمنى من رءوس الأصابع إلى المرفق ثم يمسح بكفه اليسرى باطن يده اليمنى إلى الرسغ ويمر باطن إبهامه اليسرى على ظاهر إبهامه اليمنى ثم يفعل باليد اليسرى كذلك، وهو الأحوط؛ لأن فيه احترازا عن استعمال المستعمل بالقدر الممكن، فإن التراب الذي على يده يصير مستعملا بالمسح حتى لو ضرب يديه مرة ومسح بهما وجهه وذراعيه لا يجوز ولا يجب مسح باطن الكف؛ لأن ضربهما على الأرض يغني عنه.
وفي شرح النقاية للشمني معزيا إلى الذخيرة لم يرد نص هل الضربة بباطن الكفين أو بظاهرهما والأصح أنها بظاهرهما وباطنهما ا هـ.

 

ج / 1 ص -318-       ولو جنبا أو حائضا
_________________
والمراد بالواو أو إذ لا جمع بينهما كما لا يخفى، وهذا النقل عن الذخيرة مخالف لما نقله عنها ابن أمير حاج في شرح منية المصلي ولفظه تنبيه في الذخيرة لم يذكر محمد أنه يضرب على الأرض ظاهر كفيه أو باطنهما وأشار إلى أنه يضرب باطنهما، فإنه قال في الكتاب لو ترك المسح على ظاهر كفيه لا يجوز، وإنما يكون تاركا للمسح على ظاهر كفيه إذا ضرب باطن كفيه على الأرض ا هـ ثم قال قلت وبهذا يعلم أن المراد بالكف باطنها لا ظاهرها ا هـ. وهكذا في التوشيح معزيا إلى الذخيرة إلا أنه بعد أسطر ذكر ما في شرح النقاية من التصحيح.
وسنن التيمم سبعة إقبال اليدين بعد وضعهما على التراب وإدبارهما ونفضهما وتفريج الأصابع والتسمية في أوله والترتيب والموالاة ذكر الأربعة الأول في المبتغى والباقية في المبسوط وبعضهم أطلق على بعض هذه الاستحباب وفي ظاهر الرواية ينفضهما مرة وعن أبي يوسف مرتين، وهذا ليس كالزيلعي باختلاف؛ لأن المقصود، وهو تناثر التراب إن حصل بمرة اكتفى بها، وإن لم يحصل ينفض مرتين كذا في البدائع ولهذا قال في الهداية وينفض يديه بقدر ما يتناثر التراب كي لا يصير مثلة ا هـ.
" قوله: ولو جنبا أو حائضا " يعني يتيمم الجنب والمحدث والحائض والنفساء، وهو قول جمهور العلماء للأحاديث الواردة.
منها ما رواه البخاري ومسلم من حديث عمر أن ابن الحصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا معتزلا لم يصل مع القوم فقال يا فلان ما منعك أن تصلي مع القوم فقال يا رسول الله أصابتني جنابة ولا ماء فقال
"عليك بالصعيد" ومنها حديث عمار أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالتيمم، وهو جنب رواه الأئمة الستة وأما الآية، وهي قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ}[النساء:43] فقد اختلف فيها فذهب عمر وابن مسعود وابن عمر إلى حملها

 

ج / 1 ص -319-       ...............................
_________________
على المس باليد فمنعوا التيمم للجنب وذهب علي وابن عباس وعائشة إلى أنها محمولة على الجماع فجوزوه للجنب.
وبه أخذ أصحابنا وجمهور العلماء ترجيحا لسياق الآية؛ لأن الله تعالى بين حكم الحدث الأصغر والأكبر حال وجود الماء ثم نقل الحكم إلى التراب حال عدم الماء وذكر الحدث الأصغر بقوله
{أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ}[النساء:43] فتعين حمل الملامسة على الجماع ليكون بيانا لحكم الحدثين عند عدم الماء كما بين حكمهما عند وجوده والشافعي حمل الآية على الجماع والمس باليد فقال بإباحته للجنب ونقض الوضوء بالمس باليد والحيض والنفاس ملحقان بالجنابة؛ لأنهما في معناهما هكذا في كثير من الكتب.
لكن في الفتاوى الظهيرية كما نقله مسكين في شرح الكنز والشمني في شرح النقاية تفصيل في الحائض، وهي أنها إذا طهرت لعشرة أيام يجوز لها التيمم، وإن طهرت لأقل لا يجوز إلا أن الشمني نقله عنها في تيممها لصلاة الجنازة والعيد والأول في مطلق التيمم والذي يظهر أن هذا التفصيل غير صحيح بدليل ما اتفقوا على نقله في باب الحيض والرجعة أن الحائض إذا انقطع دمها لأقل من عشرة فتيممت عند عدم القدرة على الماء وصلت جاز للزوج وطؤها وهل تنقطع الرجعة بمجرد التيمم أو لا بد من الصلاة به فيه خلاف.
فهذا صريح في جواز التيمم لها وممن صرح به القاضي الإسبيجابي في شرح مختصر الطحاوي. ولفظه الأصل أن المرأة إذا كانت أيامها دون العشرة فوقت اغتسالها من الحيض حتى أنها لا تخرج من الحيض ما لم تغتسل أو يمضي عليها أدنى وقت الصلاة إليها مع قدوة الاغتسال فيه، ولو تيممت، وصلت خرجت من الحيض بالاتفاق ولو تيممت ولم تصل لا ينقطع حق الرجعة في قولهما خلافا لمحمد وزفر وأجمعوا أنها لا تتزوج حتى تصلي بذلك التيمم إلى آخر ما ذكر من الفروع.
لكن صحح شمس الأئمة السرخسي في مبسوطه أنه لا يطؤها حتى تصلي به إجماعا؛ لأن محمدا إنما جعل التيمم كالاغتسال فيما هو مبني على الاحتياط، وهو قطع الرجعة والاحتياط في الوطء تركه فليس التيمم فيه كالاغتسال كما لم يفعله في الحل للأزواج.
وفي المحيط جنب مر على مسجد فيه ماء يتيمم للدخول ولا يباح له إلا بالتيمم، وإن كان فيه عين صغيرة ولا يستطيع الاغتراف منه لا يغتسل فيها ويتيمم؛ لأن الاغتسال فيه يفسده ولا

 

ج / 1 ص -320-       بطاهر
_________________
يخرج طاهرا فلا يكون مفيدا ولو أصابته الجنابة في المسجد قيل لا يباح له الخروج من غير تيمم اعتبارا بالدخول وقيل يباح؛ لأن في الخروج تنزيه المسجد عن النجاسة وفي الدخول تلويثه بها. ا هـ. وسيأتي في الحيض تمامه إن شاء الله تعالى.
" قوله: بطاهر " متعلق بيتيمم يعني يشترط لصحة التيمم طهارة الصعيد لقوله تعالى:
{فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً}[النساء:43] ولا طيب مع النجاسة حتى لو تيمم بغبار ثوب نجس لا يجوز إلا إذا وقع ذلك الغبار عليه بعد ما جف ولا بد أن تكون طهارته مقطوعا بها حتى لو تيمم بأرض قد أصابتها نجاسة فجفت وذهب أثرها لم يجز في ظاهر الرواية.
والفرق بين التيمم منها وجواز الصلاة عليها أن الجفاف مقلل لا مستأصل وقليلها مانع في التيمم دون الصلاة ويجوز أن يعتبر القليل مانعا في شيء دون شيء كقليلها في الماء مانع دون الثوب كذا في البدائع وسيأتي تمامه في الأنجاس إن شاء الله تعالى.
وظاهر كلامهم أن الأرض التي جفت نجسة في حق التيمم طاهرة في حق الصلاة والحق أنها طاهرة في حق الكل، وإنما منع التيمم منها لفقد الطهورية كالماء المستعمل طاهر غير طهور.
وكان ينبغي للمصنف أن يقول بمطهر ليخرج ما ذكرنا كما عبر به في منظومة ابن وهبان وللحديث الوارد من قوله صلى الله عليه وسلم
"جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا" بناء على أن الطهور بمعنى المطهر وقد تقدم الكلام فيه.
وفي المحيط والبدائع ولو تيمم اثنان من مكان واحد جاز؛ لأنه لم يصر مستعملا؛ لأن التيمم إنما يتأدى بما التزق بيده لا بما فضل كالماء الفاضل في الإناء بعد وضوء الأول ا هـ. وهو يفيد تصور استعماله وقصره على صورة واحدة، وهي أن يمسح الذراعين بالضربة التي مسح بها وجهه ليس غير

 

ج / 1 ص -321-       من جنس الأرض
_________________
" قوله: من جنس الأرض " يعني يتيمم بما كان من جنس الأرض قال المصنف في المستصفى: كل ما يحترق بالنار فيصير رمادا كالشجر أو ينطبع ويلين كالحديد فليس من جنس الأرض وما عدا ذلك فهو من جنس الأرض ا هـ. فلا يجوز التيمم بالأشجار والزجاج المتخذ من الرمل وغيره والماء المتجمد والمعادن إلا أن تكون في محالها فيجوز للتراب الذي عليها لا بها نفسها واللؤلؤ، وإن كان مسحوقا؛ لأنه متولد من حيوان في البحر والدقيق والرماد ويجوز بالحجر والتراب والرمل والسبخة المنعقدة من الأرض دون الماء والجص والنورة والكحل والزرنيخ والمغرة والكبريت والفيروزج والعقيق والبلخش والزمرد والزبرجد وفي فتح القدير عدم الجواز بالمرجان وفي غاية البيان والتوشيح والعناية والمحيط ومعراج الدراية والتبيين الجواز فكان الأول سهوا وأما الملح، فإن كان مائيا فلا يجوز به اتفاقا، وإن كان جبليا ففيه روايتان وصحح كل منهما ذكره في الخلاصة لكن الفتوى على الجواز به كذا في التجنيس.
ويجوز بالآجر المشوي، وهو الصحيح؛ لأنه طين مستحجر وكذا بالخزب الخالص إلا إذا كان مخلوطا بما ليس من جنس الأرض أو كان عليه صبغ ليس من جنس الأرض كذا أطلق في التجنيس والمحيط وغيرهما مع أن المسطور في فتاوى قاضي خان التراب إذا خالطه شيء ما ليس من أجزاء الأرض يعتبر فيه الغلبة، وهذا يقتضي أن يفصل في المخالط للنيء بخلاف المشوي لاحتراق ما فيه من أجزاء الأرض كذا في فتح القدير.
وفي فتاوى قاضي خان، وإذا احترقت الأرض بالنار إن اختلطت بالرماد يعتبر فيه الغالب إن كانت الغلبة للتراب جاز به التيمم، وإلا فلا.
وفي فتح القدير يجوز التيمم بالأرض المحترقة في الأصح ولم يفصل والظاهر التفصيل، وفي المحيط ولو تيمم بالذهب والفضة إن كان مسبوكا لا يجوز، وإن لم يكن مسبوكا، وكان مختلطا بالتراب والغلبة للتراب جاز ا هـ. فعلم بهذا أن ما أطلقه في فتح القدير محمول على هذا التفصيل وإذا لم يجد إلا الطين يلطخه بثوبه فإذا جف تيمم به وقيل عند أبي حنيفة يتيمم بالطين، وهو الصحيح؛ لأن الواجب عنده وضع اليد على الأرض لا استعمال

 

ج / 1 ص -322-       ...............................
_________________
جزء منه والطين من جنس الأرض إلا إذا صار مغلوبا بالماء فلا يجوز التيمم به كذا في المحيط وقيد الجواز بالطين الولوالجي في فتاويه وصاحب المبتغى بأن يخاف خروج الوقت أما قبله فلا كي لا يتلطخ وجهه فيصير بمعنى المثلة من غير ضرورة، وهو قيد حسن ينبغي حفظه وذكر الإسبيجابي ولو أن الحنطة أو الشيء الذي لا يجوز عليه التيمم إذا كان عليه التراب فضرب يده عليه وتيمم ينظر إن كان يستبين أثره بمده عليه جاز، وإن كان لا يستبين لا يجوز ا هـ. وبهذا يعلم حكم التيمم على جوخة أو بساط عليه غبار فالظاهر عدم الجواز لقلة وجود هذا الشرط في نحو الجوخة فليتنبه له والله سبحانه الموفق، وهذا كله عند أبي حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف لا يجوز إلا بالتراب، وهو قول الشافعي لما أخرجه مسلم عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم
"قال وجعلت لي الأرض مسجدا وجعل تربتها لنا طهورا".
وروى أحمد والبيهقي "وجعل لي التراب طهورا" ولأبي حنيفة ومحمد قوله تعالى:
{فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً}[النساء:43] والصعيد اسم لوجه الأرض ترابا كان أو غيره قال الزجاج لا أعلم اختلافا بين أهل اللغة في ذلك، وإذا كان هذا مفهومه وجب تعميمه وتعين حمل تفسير ابن عباس الصعيد بالتراب على الأغلب ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين "وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا"؛ لأن اللام فيها للجنس فلا يخرج شيء منها؛ لأن الأرض كلها جعلت مسجدا وما جعل مسجدا هو الذي جعل طهورا.
وما في الصحيحين أيضا من حديث عمار "إنما يكفيك أن تضرب بيديك الأرض" ولم يقل التراب وما رواه البخاري من أنه صلى الله عليه وسلم تيمم على الجدار قال الطحاوي حيطان

 

ج / 1 ص -323-       ...............................
_________________
المدينة مبنية من حجارة سود من غير تراب ولو لم تثبت الطهارة بهذا التيمم لما فعله صلى الله عليه وسلم وأما رواية "وترابها طهور" فالجمهور على خلافه وأن الثابت وتربتها ولا يراد بها التراب بل مكان تربتها ما يكون فيه من التراب والرمل وغيره من جنس الأرض ولو سلم فالاستدلال به عمل بمفهوم اللقب، وهو ليس بحجة عند الجمهور.
وما قد يتوهم أن هذا يخصص رواية الأرض؛ لأنه فرد من أفراد العام فخطأ؛ لأن التخصيص إخراج الفرد من حكم العام، وهذا ربط حكم العام نفسه ببعض أفراده كذا في فتح القدير بمعناه ويدل له ما ذكر في البدائع أن الجمهور أنه إذ وافق خاص عاما لم يخصصه خلافا لأبي ثور كقوله "أيما أهاب" وكقوله في شاة ميمونة "دباغها طهورها" لنا لا تعارض فالعمل بهما واجب، فإن قيل المفهوم مخصص عند قائليه فذكرها يخرج غيرها قلنا أما على أصلنا فظاهر ومن أجاز المفهوم فبغير اللقب ا هـ. وكذا ذكر ابن الحاجب في أصوله وبهذا اندفع ما ذكره النووي في شرح مسلم أنه من قبيل حمل المطلق على المقيد.
قال القرطبي في تفسيره: وقولهم هذا من باب المطلق والمقيد فليس كذلك، وإنما هو من باب النص على بعض أشخاص العموم كقوله تعالى:
{فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ}[الرحمن:68] ا هـ.
وعلى تسليم أنهما منه وقولهم إن مفهوم اللقب حجة إذا اقترن بقرينة، وهي هنا موجودة؛ لأنه لولا أن الحكم متعلق بالمذكور لم يكن لذكره فائدة قلنا إنه إنما ذكره جريا على الغالب وإشارة إلى أنه الأصل.

 

ج / 1 ص -324-       وإن لم يكن عليه نقع وبه بلا عجز
_________________
" قوله:، وإن لم يكن عليه نقع وبه بلا عجز " أي، وإن لم يكن على جنس الأرض غبار حتى لو وضع يده على حجر لا غبار عليه يجوز.
وقال محمد لا يجوز لظاهر قوله تعالى:
{فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ}[المائدة:6] قلنا من للابتداء في المكان إذ لا يصح فيها ضابط التبعيضية، وهو وضع بعض موضعها والباقي بحاله إذ لو قيل فامسحوا بوجوهكم وأيديكم بعضه أفاد أن المطلوب جعل الصعيد ممسوحا والعضوين آلته، وهو منتف اتفاقا ولا يصح فيها ضابط البيانية، وهو وضع الذي موضعها مع جزء ليتم صلة الموصول كما في {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ}[الحج:30] أي الذي هو الأوثان كذا في فتح القدير ومثله توضأت من النهر أي ابتداء الأخذ للوضوء من النهر وفي الكشاف، فإن قلت قولهم إنها لابتداء الغاية قول متعسف ولا يفهم أحد من العرب من قول القائل مسحت برأسي من الدهن ومن الماء ومن التراب إلا معنى التبعيض قلت هو كما تقول والإذعان للحق أحق من المراء ذكره في تفسير آية النساء.
واختار ابن أمير حاج تلميذ المحقق ابن الهمام أنها لتبيين جنس ما تماسه الآلة التي بها يمسح العضوين على أن في الآية شيئا مقدرا طوي ذكره لدلالة الكلام عليه كما هو دأب إيجاز الحذف الذي هو باب من البلاغة التقدير والله أعلم امسحوا بوجوهكم وأيديكم مما مسه شيء من الصعيد، وهذا لا يوجب استعمال جزء من الصعيد في العضوين قطعا ا هـ.
وقوله: وبه بلا عجز أي بالنقع يجوز التيمم بلا عجز عن التراب وعند أبي يوسف لا يجوز إلا عند العجز.
" تنبيهات ": الأول: أن الصعيد المذكور في الآية ظرف مكان عندنا وعند الشافعي ومن يشترط التراب مفعول به بتقدير حذف الباء أي بصعيد ذكره القرطبي.
الثاني: أن التيمم على التيمم ليس بقربة كذا في القنية وظاهره أنه ليس بمكروه وينبغي كراهته لكونه عبثا.
الثالث ذكر في الغاية أن هاهنا لطيفة، وهي أن الله تعالى خلق درة ونظر إليها فصارت ماء ثم تكاثف منه وصار ترابا وتلطف منه فصار هواء وتلطف منه فصار نارا فكان الماء أصلا ذكره المفسرون، وهو منقول عن التوراة.
وإنما لم يجز التيمم بالمعدن كالحديد؛ لأنه ليس بتبع للماء وحده حتى يقوم مقامه ولا للتراب

 

ج / 1 ص -325-       كذلك، وإنما هو مركب من العناصر الأربعة فليس له اختصاص بشيء منها حتى يقوم مقامه.
ناويا
_________________
" قوله: ناويا " أي يتيمم ناويا وهي من شروطه والنية والقصد الإرادة الحادثة؛ ولهذا لا يقال لله تعالى ناو ولا قاصد كذا في المستصفى.
وشرطها أن يكون المنوي عبادة مقصودة لا تصح إلا بالطهارة أو الطهارة أو استباحة الصلاة أو رفع الحدث أو الجنابة وما وقع في التجنيس من أن النية المشروطة في التيمم هي نية التطهير، وهو الصحيح فلا ينافيه لتضمنها نية التطهير، وإنما اكتفى بنية التطهير؛ لأن الطهارة شرعت للصلاة وشرطت لإباحتهما فكانت نيتها نية إباحة الصلاة حتى لو تيمم لتعليم الغير لا تجوز به الصلاة في الأصح كذا في معراج الدراية.
فلو تيمم لصلاة الجنازة أو سجدة التلاوة جاز له أن يصلي سائر الصلوات؛ لأن كلا منهما قربة مقصودة والمراد بالقربة المقصودة أن لا تجب في ضمن شيء آخر بطريق التبعية ولا ينافي هذا ما ذكر في الأصول من أن سجدة التلاوة ليست بقربة مقصودة حتى لو تلاها في وقت مكروه جاز أن يؤديها في وقت مكروه آخر بخلاف الصلاة المفروضة إذا وجبت في وقت ناقص لا تؤدى في ناقص آخر؛ لأن النفي والإثبات ليس من جهة واحدة بل من جهتين.
والمراد مما ذكر هنا أنها شرعت ابتداء تقربا إلى الله تعالى من غير أن تكون تبعا لغيرها بخلاف دخول المسجد ومس المصحف.
والمراد بما في الأصول أن هيئة السجود ليست بمقصودة لذاتها عند التلاوة بل لاشتمالها على التواضع المحقق لموافقة أهل الإسلام ومخالفة أهل الطغيان فلهذا قلنا لا يختص إقامة الواجب بهذه الهيئة بل ينوب الركوع في الصلاة على الفور منابها كذا في معراج الدراية تبعا للخبازية وصرحوا بأنه لو تيمم لدخول المسجد أو القراءة ولو من المصحف أو مسه أو زيارة القبور أو دفن الميت أو الأذان أو الإقامة أو السلام أو رده أو الإسلام لا تجوز الصلاة بذلك التيمم عند عامة المشايخ؛ لأن بعضها ليست بعبادة مقصودة والإسلام وإن كان عبادة مقصودة لكن يصح بدون الطهارة هكذا أطلقوا في قراءة القرآن المنع وفي المحيط أطلق الجواز وسوى بين صلاة الجنازة وسجدة التلاوة وقراءة القرآن وفي السراج الوهاج الأصح أنه لا يجوز له أن يصلي إذا تيمم لقراءة القرآن.
والحق التفصيل فيها، فإن تيمم لها، وهو جنب جاز له أن يصلي به سائر الصلوات كذا في البدائع وغاية البيان ولم يفصلا في دخول المسجد بين أن يكون جنبا أو محدثا مع أن كلا منهما تبع لغيره، وهو الصلاة.

 

ج / 1 ص -326-       ...............................
_________________
فالأولى أن يقال الشرط كون المنوي عبادة مقصودة أو جزأها، وهو لا يحل إلا بالطهارة فالقراءة جزء من العبادة المقصودة إلا أنه إن كان جنبا وجد الشرط الأخير، وهو عدم حل الفعل إلا بالطهارة فكمل الشرط فجازت الصلاة به، وإن كان محدثا عدم الشرط الأخير ولم تجز الصلاة به.
وخرج التيمم لدخول المسجد مطلقا أما إن كان للحدث فظاهر لفوات الشرطين، وأما للجنابة فهو، وإن وجد الشرط الأخير، وهو عدم الحل إلا أنه عدم الشرط الأول، وهو كونه عبادة مقصودة أو جزأها.
وخرج التيمم لمس المصحف مطلقا، فإنه، وإن كان لا يحل إلا بها إلا أنه ليس بعبادة مقصودة ولا يقال إن دخول المسجد عبادة، وإن لم يكن للصلاة بل للاعتكاف؛ لأنا نقول العبادة هي الاعتكاف ودخول المسجد تبع له فكانت عبادة غير مقصودة ولو تيمم لسجدة الشكر لا يصلي به المكتوبة وعند محمد يصليها بناء على أنها قربة عنده وعندهما ليست بقربة كذا في التوشيح وفي فتح القدير، فإن قلت ذكرت أن نية التيمم لرد السلام لا تصححه على ظاهر المذهب مع أنه عليه السلام تيمم لرد السلام على ما أسلفته في الأول.
فالجواب إن قصد رد السلام بالتيمم لا يستلزم أن يكون نوى عند فعل التيمم التيمم له بل يجوز كونه نوى ما يصح معه التيمم ثم يرد السلام إذا صار طاهرا ا هـ.
ولقائل أن يمنع عدم صحة التيمم للسلام كما زعمه؛ لأن المذهب أن التيمم للسلام صحيح، وإنما الكلام في جواز الصلاة به؛ ولهذا قال قاضي خان في فتاويه ولو تيمم للسلام أو لرده لا يجوز له أداء الصلاة بذلك التيمم ولم يقل لا يجوز تيممه فعلم أن جواز الصلاة به حكم آخر لا تعلق له بما فعله عليه السلام، فإنه تيمم للسلام عند فقد الماء ولا شك في صحته.
قال النووي في شرح مسلم: وهذا الحديث محمول على أنه صلى الله عليه وسلم كان عادما للماء حال التيمم، فإن التيمم مع وجود الماء لا يجوز للقادر على استعماله ا هـ. وعلى أصولنا لا حاجة إلى هذا الحمل، فإن عندنا ما يفوت لا إلى خلف يجوز التيمم له مع وجود الماء كصلاة الجنازة ولا شك أن رد السلام منه بناء على أنه عليه السلام لا يذكر الله تعالى إلا على طهارة بل عندنا ما هو أعم من ذلك، وهو أن ما ليست الطهارة شرطا في فعله وحله، فإنه يجوز التيمم له مع وجود

 

ج / 1 ص -327-       فلغا تيمم كافر لا وضوءه
_________________
الماء كدخول المسجد للمحدث؛ ولهذا قال في المبتغى بالغين المعجمة ويجوز التيمم لدخول مسجد عند وجود الماء وكذا للنوم فيه ا هـ. وتجويز أن يكون النبي عليه السلام نوى معه ما يصح معه التيمم خلاف الظاهر كما لا يخفى ثم لا يخفى أن قولهم بجواز الصلاة بالتيمم لصلاة الجنازة محمول على ما إذا لم يكن واجدا للماء كما قيده في الخلاصة بالمسافر.
أما إذ يتيمم لها مع وجوده لخوف الفوت، فإن تيممه يبطل بفراغه منها ومما تقدم علم أن نية التيمم لا تكفي لصحته على المذهب خلافا لما في النوادر ولا اعتماد عليه بل المعتمد اشتراط نية مخصوصة هي ما قدمناه لكن لا دليل عليه؛ لأن قوله تعالى:
{فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً}[النساء:43] إنما يدل على قصد الصعيد المترتب عليه المسح فلا يكون موجبا غير النية المعتبرة كذا في فتح القدير ويمكن أن يقال إن المراد قصد الصعيد لأجل الصلاة بقرينة قوله {فلم تجدوا} ففيه الإنباء عن المشروط كما لا يخفى ولا تشترط نية التمييز بين الحدث والجنابة حتى لو تيمم الجنب يريد به الوضوء أجزأه هكذا روي عن محمد نصا كما نقله في التجنيس.
وذكر الجصاص أنه لا حاجة إلى نية التطهير بل لا بد من التمييز؛ لأن التيمم لهم يقع على صفة واحدة فيميز بالنية كصلوات الفرائض وليس بصحيح؛ لأن الحاجة إلى النية ليقع التيمم طهارة فإذا وقع طهارة جاز له أن يؤدي ما شاء؛ لأن الشروط يراعى وجودها لا غير.
ألا ترى أنه لو تيمم للعصر يجوز أداء الظهر به بخلاف الصلوات كذا في الخبازية وغيرها ولا يخفى أن قول محمد لو تيمم الجنب يريد به الوضوء معناه يريد به طهارة الوضوء لما علمت من اشتراط نية التطهير وبما تقرر علم أن ما في القنية من قوله بقي على جسد الجنب لمعة ثم أحدث وتيمم لهما جاز وينوي لهما؛ لأنه إذا نوى لأحدهما يبقى الآخر بلا نية مبني على قول أبي بكر الجصاص كما لا يخفى.
" قوله: فلغا تيمم كافر لا وضوءه " يعني فلأجل اشتراط النية المخصوصة في التيمم بطل تيمم كافر ولعدم اشتراط النية في الوضوء لا يبطل وضوءه أما الأول؛ فلأن الإسلام شرط وقوع التيمم صحيحا عند عامة العلماء.
وروي عن أبي يوسف إذا تيمم ينوي الإسلام جاز حتى لو أسلم لا يجوز له أن يصلي بذلك التيمم عند العامة، وعلى رواية أبي يوسف يجوز.

 

ج / 1 ص -328-       ولا تنقضه ردة
_________________
فالحاصل أن تيمم الكافر غير صحيح مطلقا للصلاة والإسلام، عند أبي يوسف صحيح للإسلام لا للصلاة؛ لأنه نوى قربة مقصودة تصح منه في الحال.
ولنا أن الكافر ليس بأهل للنية فما يفتقر إليها لا يصح منه، وهذا؛ لأن النية تصير الفعل منتهضا مسببا للثواب ولا فعل يقع من الكافر كذلك حال الكفر؛ ولذا صححنا وضوءه لعدم افتقاره إلى النية، ولم يصححه الشافعي لما افتقر إليها عنده، وهي المسألة الثانية.
" قوله: ولا تنقضه ردة " أي لا ينقض التيمم ردة لما بين أن الإسلام عندنا شرط وقوع التيمم صحيحا بين أن الإسلام ليس شرط بقائه على الصحة حتى لو تيمم المسلم ثم ارتد عن الإسلام والعياذ بالله ثم أسلم جاز له أن يصلي بذلك التيمم؛ لأن التيمم وقع طهارة صحيحة فلا يبطل بالردة؛ لأن أثرها في إبطال العبادات والتيمم ليس بعبادة عندنا لكنه طهور، وهي لا تبطل صفة الطهورية كما لا تبطل الوضوء واحتمال الحاجة باق؛ لأنه مجبور على الإسلام والثابت بيقين يبقى لوهم الفائدة في أصول الشرع إلا أنه لم ينعقد طهارة مع الكفر؛ لأن جعله طهارة للحاجة والحاجة زائلة للحال بيقين وغير الثابت بيقين لا يثبت لوهم الفائدة لما أن رجاء الإسلام منه على موجب ديانته واعتقاده منقطع والجبر على الإسلام منعدم فهو الفرق بين الابتداء والبقاء كذا قرره في البدائع.
وتحقيقه أن التيمم نفسه لا ينافيه الكفر، وإنما ينافي شرطه، وهو النية المشروطة في الابتداء، وقد تحققت وتحقق التيمم كذلك فالصفة الباقية بعده لو اعتبرت كنفسه لا يرفعها الكفر؛ لأن الباقي حينئذ حكما ليس هو النية بل الطهارة.
تنبيه مقتضى ما ذكروه أن الكافر إذا توضأ أو تيمم لا يكون مسلما به، وكذا قولهم في الإحرام أن الكافر إذا أحرم للحج ثم أسلم فجدد الإحرام يجوز يقتضي أن لا يكون مسلما بالإحرام لكن محله ما إذا لبى ولم يشهد المناسك أما إذا لبى وشهد المناسك كلها مع المسلمين، فإنه يكون مسلما كما صرح به في المحيط.
والأصل أن الكافر متى فعل عبادة، فإن كانت موجودة في سائر الأديان، فإنه لا يكون به مسلما كالصلاة منفردا والصوم والحج الذي ليس بكامل والصدقة ومتى فعل ما هو مختص بشريعتنا، فإن كان من الوسائل كالتيمم لا يكون به مسلما، وإن كان من المقاصد أو من الشعائر كالصلاة بجماعة والحج على الهيئة الكاملة والأذان في المسجد وقراءة القرآن، فإنه يكون به مسلما إليه أشار في المحيط وغيره من كتاب السير.

 

ج / 1 ص -329-       بل ناقض الوضوء، وقدرة ماء فضل عن حاجته
_________________
" قوله: بل ناقض الوضوء " أي بل ينقضه ناقض الوضوء الحقيقي والحكمي المتقدمان في الوضوء؛ لأن التيمم خلف عن الوضوء ولا شك أن حال الخلف دون حال الأصل فما كان مبطلا للأعلى فأولى أن يكون مبطلا للأدنى وما وقع في شرح النقاية من أن الأحسن أن يقال وينقضه ناقض الأصل وضوءا كان أو غسلا فغير مسلم؛ لأن من المعلوم أن كل شيء نقض الغسل نقض الوضوء فالعبارتان على السواء كما لا يخفى. واعلم أنه إذا تيمم عن جنابة وأحدث حدثا ينقض الوضوء، فإن تيممه ينتقض باعتبار الحدث فتثبت أحكام الحدث لا أحكام الجنابة، فإنه محدث وليس بجنب.
" قوله: وقدرة ماء فضل عن حاجته " أي وينقضه أيضا القدرة على استعمال الماء الكافي الفاضل عن حاجته قيدنا بالكافي؛ لأن غيره وجوده كعدمه وقد قدمناه فلو وجد المتيمم ماء فتوضأ به فنقص عن إحدى رجليه إن كان غسل كل عضو ثلاثا أو مرتين انتقض تيممه، وهو المختار أو مرة لا ينتقض؛ لأنه في الأول وجد ماء يكفيه إذ لو اقتصر على المرة كفاه كذا في الخلاصة وقيدنا بالفاضل؛ لأنه لو لم يكن فاضلا عنها فهو مشغول بها، وهو كالمعدوم كما بيناه.
وفي قوله وقدرة ماء إشارتان الأولى إفادة أن الوجود المذكور في قوله تعالى:
{فلم تجدوا ماء} بمعنى القدرة بخلاف الوجود المذكور في الكفارات، فإنه بمعنى الملك حتى لو أبيح له الماء لا يجوز له التيمم للقدرة ولو عرض على المعسر الحانث الرقبة يجوز له التكفير بغير الإعتاق.
الثانية أن التعبير بالقدرة أولى من التعبير برؤية الماء المشروطة بالقدرة على استعماله كما وقع في الهداية؛ لأن القدرة أعم من أن تكون برؤية الماء أو بغيره، فإن المريض إذا تيمم للمرض ثم زال مرضه انتقض تيممه كما صرح به قاضي خان في فتاويه.
 ومن تيمم للبرد ثم زال البرد انتقض تيممه كما صرح به في المبتغى فإذا تيمم للمرض أو للبرد مع وجود الماء ثم فقد الماء ثم زال المرض أو البرد ينتقض تيممه لقدرته على استعمال الماء، وإن لم يكن الماء موجودا.
فالحاصل أن كل ما منع وجوده التيمم نقض وجوده التيمم وما لا فلا فلو قالوا وينقضه زوال ما أباح التيمم لكان أظهر في المراد وإسناد النقض إلى زوال ما أباح التيمم إسناد مجازي؛ لأن الناقض حقيقة إنما هو الحدث السابق بخروج النجس وزوال المبيح شرط لعمل الحدث

 

ج / 1 ص -330-       ...............................
_________________
السابق عمله عنده واستدلوا له بقوله صلى الله عليه وسلم التراب طهور المسلم ولو إلى عشر حجج ما لم يجد الماء؛ لأن مقتضاه خروج ذلك التراب الذي تيمم به من الطهورية إذا وجد الماء ويستلزم انتفاء أثره، وهو طهارة المتيمم.
لكن قال في فتح القدير: ويرد عليه أن قطع الاعتبار الشرعي طهورية التراب إنما هو عند الرؤية مقتصرا، فإنما يظهر في المستقبل إذ لو استند ظهر عدم صحة الصلوات السابقة وما قيل إنه وصف يرجع إلى المحل فيستوي فيه الابتداء والبقاء لا يفيد دفعا ولا يمسه والأوجه الاستدلال بقوله صلى الله عليه وسلم في بقية الحديث فإذا وجده فليمسه بشرته وفي إطلاقه دلالة على نفي تخصيص الناقضية بالوجدان خارج الصلاة كما هو قول الأئمة الثلاثة ا هـ.
فالحاصل أن الحديث لا يفيد إلا انتهاء الطهورية بوجد الماء ولا يلزم من انتهاء الطهورية انتهاء الطهارة الحاصلة به كالماء تزول عنه الطهورية بالاستعمال وتبقى الطهارة الحاصلة به والجواب بالفرق بينهما، وهو أن التراب طهوريته مؤقتة بشيء غير متصل به، وهو وجود الماء فثبت به الطهارة المؤقتة الحاصلة على صفة المطهر فإذا زالت طهوريته زالت طهارته.
والماء لما كان مطهرا ولا تزول طهوريته بدون شيء يتصل به ثبت به الطهارة على التأبيد؛ لأن طهوريته إذا لم يتصل بها شيء على التأبيد إليه أشار في الخبازية ولا يخفى أنه لا يلزم من توقيت الطهورية تأقيت الطهارة بل هو عين النزاع فالأوجه الاستدلال ببقية الحديث كما في فتح القدير تبعا لما في المستصفى والحديث المذكور مروي في المصابيح والتقييد بعشرة حجج لبيان طول المدة لا للتقييد به كما في قوله تعالى:
{إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً}[التوبة:80]، فإنه لبيان الكثرة لا للتحديد كذا في المستصفى.
وقال بعض الأفاضل قولهم إن الحدث السابق ناقض حقيقة لا يناسب قول أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن التيمم عندهما ليس بطهارة ضرورية ولا خلف عن الوضوء بل هو أحد نوعي

 

ج / 1 ص -331-       ...............................
_________________
الطهارة فكيف يصح أن يقال عمل الحدث السابق عمله عند القدرة فالأولى أن يقال لما كان عدم القدرة على الماء شرطا لمشروعية التيمم وحصول الطهارة فعند وجودها لم يبق مشروعا فانتفى؛ لأن انتفاء الشرط يستلزم انتفاء المشروط والمراد بالنقض انتفاؤه والنائم على صفة لا توجب النقض كالنائم ماشيا أو راكبا إذا مر على ماء كاف مقدور الاستعمال انتقض تيممه عند أبي حنيفة خلافا لهما.
أما النائم على صفة توجب النقض فلا يتأتى فيه الخلاف إذ التيمم انتقض بالنوم؛ ولهذا صور المسألة في المجمع في الناعس لكن يتصور في النوم الناقض أيضا بأن كان متيمما عن جنابة كما لا يخفى قال في التوشيح: والمختار في الفتاوى عدم الانتقاض اتفاقا؛ لأنه لو تيمم وبقربه ماء لا يعلم به جاز تيممه اتفاقا ا هـ. وفي التجنيس جعل الاتفاق فيما إذا كان بجنبه بئر، ولا يعلم بها، وأثبت الخلاف فيما لو كان على شاطئ نهر لا يعلم به وصحح عدم الانتقاض وأنه قول أبي حنيفة.
واعلم أنهم جعلوا النائم كالمستيقظ في خمس وعشرين مسألة كما ذكره الولوالجي في آخر فتاواه في مسألة النائم المتيمم وفي الصائم إذا نام على قفاه وفمه مفتوح فوصل الماء إلى جوفه وفيمن جامعها زوجها، وهي نائمة فسد صومها وفي المحرمة إذا جومعت نائمة فعليها الكفارة وفي المحرم النائم إذا حلق رأسه فعليه الجزاء وفي المحرم إذا انقلب على صيد وقتله وجب الجزاء وفي المار بعرفة نائما، فإنه مدرك للحج وفي الصيد سراية إليه بالسهم إذا وقع عند نائم فمات منها، فإنه يحرم لقدرته على ذكاته وفيمن انقلب على مال إنسان فأتلفه يضمن وفيمن وقع على مورثه فقتله يحرم من الميراث على قول، وهو الصحيح وفيمن رفع نائما فوضعه تحت جدار فسقط عليه فمات لا يضمن وفي عدم صحة الخلوة ومعهما أجنبي نائم.
وفيمن نام في بيت فجاءته زوجته ومكثت عنده صحت الخلوة وفي امرأة نائمة دخل عليها زوجها ومكث ساعة صحت الخلوة وفي صغير ارتضع من ثدي نائمة ثبتت حرمة الرضاع وفيمن تكلم في صلاته، وهو نائم فسدت صلاته وفيمن قرأ في صلاته، وهو نائم حالة القيام تعتبر تلك القراءة في رواية وفيمن تلا آية سجدة، وهو نائم فسمعه رجل تلزمه السجدة وفيمن قرأ عند نائم آية السجدة فلما استيقظ أخبره يجب عليه أن يسجد في قول وفيمن قرأها، وهو نائم فلما استيقظ أخبر يلزم القارئ في قول وفيمن حلف لا يكلم فلانا فجاء الحالف وكلمه، وهو نائم ولم يستيقظ الأصح حنثه وفيمن مس مطلقته النائمة، فإنه يصير مراجعا وفي نائم قبلته مطلقته الرجعية بشهوة يصير مراجعا عند أبي يوسف خلافا لمحمد.

 

ج / 1 ص -332-       ...............................
_________________
وفي امرأة أدخلت ذكره في فرجها، وهو نائم ثبتت حرمة المصاهرة إذا علم بفعلها وفي امرأة قبلت النائم بشهوة ثبتت حرمة المصاهرة إذا صدقها على الشهوة وفي الاحتلام في الصلاة يوجب الاستقبال وفيمن نام يوما أو أكثر تصير الصلاة دينا في ذمته وفي عقد النكاح بحضرة النائمين يجوز في قول والأصح اشتراط السماع.
وقد علم مما قدمناه أن الإباحة كالملك في النقض فلو وجدوا مقدار ما يكفي أحدهم انتقض تيممهم بخلاف ما إذا كان مشتركا بينهم، فإنه لا ينتقض إلا أن يكون بين الأب والابن، فإن الأب أولى؛ لأن له تملك مال الابن عند الحاجة كذا في فتاوى قاضي خان ولو وهب لجماعة ماء يكفي أحدهم لا ينتقض تيممهم أما عنده فلفسادها للشيوع، وأما عند هما فللاشتراك فلو أذنوا لواحد لا يعتبر إذنهم ولا ينتقض تيممه لفسادها وعندهما يصح إذنهم فانتقض تيممه كذا في كثير من الكتب.
وفي السراج الوهاج الصحيح فساد التيمم إجماعا؛ لأن هذا مقبوض بعقد فاسد فيكون مملوكا فينفذ تصرفهم فيه ا هـ. ولا يخفى أنه، وإن كان مملوكا لا يحل التصرف فيه فكان وجوده كعدمه ولو كانوا في الصلاة فجاء رجل بكوز من ماء وقال هذا لفلان منهم فسدت صلاته خاصة فإذا فرغوا وسألوه الماء، فإن أعطاه للإمام توضأ واستقبلوا معه الصلاة، وإن منع تمت صلاتهم وعلى من أعطاه الاستقبال ولو قال يا فلان خذ الماء وتوضأ فظن كل واحد أنه يدعوه فسدت صلاة الكل كذا في المحيط.
ثم اعلم أن المتيمم إذا رأى مع رجل ماء كافيا فلا يخلو إما أن يكون في الصلاة أو خارجها وفي كل منهما إما أن يغلب على ظنه الإعطاء أو عدمه أو يشك وفي كل منها إما إن سأله أو لا، وفي كل منها إما إن أعطاه أو لا فهي أربعة وعشرون، فإن كان في الصلاة، وغلب على ظنه الإعطاء قطع وطلب الماء، فإن أعطاه توضأ، وإلا فتيممه باق فلو أتمها ثم سأله، فإن أعطاه استأنف، وإن أبى تمت، وكذا إذا أبى ثم أعطى، وإن غلب على ظنه عدم الإعطاء أو شك لا يقطع صلاته، فإن قطع وسأل، فإن أعطاه توضأ، وإلا فتيممه باق، وإن أتم ثم سأل، فإن أعطاه بطلت، وإن أبى تمت، وإن كان خارج الصلاة، فإن لم يسأل وتيمم وصلى جازت الصلاة على ما في الهداية ولا تجوز على ما في المبسوط، فإن سأل بعدها، فإن أعطاه أعاد، وإلا فلا سواء ظن الإعطاء أو المنع أو الشك، وإن سأل، فإن أعطاه توضأ، وإن منعه تيمم وصلى، فإن أعطاه بعدها لا إعادة عليه وينتقض تيممه ولا يتأتى في هذا القسم الظن أو الشك وهذا حاصل ما في الزيادات وغيرها.

 

ج / 1 ص -333-       فهي تمنع التيمم وترفعه، وراجي الماء يؤخر الصلاة
_________________
وهذا الضبط من خواص هذا الكتاب وبه تبين أنه إذا كان في الصلاة وغلب على ظنه الإعطاء لا تبطل بل إذا أتمها وسأله ولم يعطه تمت صلاته لأنه ظهر أن ظنه كان خطأ كذا في شرح الوقاية.
فعلم منه أن ما في فتح القدير من بطلانها بمجرد غلبة ظن الإعطاء ليس بظاهر إلا أن قاضي خان في فتاويه ذكر البطلان في هذه الصورة بمجرد الظن عن محمد.
" قوله: فهي تمنع التيمم وترفعه " أي القدرة على الماء تمنع جواز التيمم ابتداء وترفعه بقاء، وهذا تكرار محض؛ لأنه لما عد الأعذار علم أنه لا يجوز مع القدرة ولما قال وقدرة ماء علم أنه ترفعه القدرة ولا يبقى إلا في موضع يجوز ابتداء فلا فائدة بذكره ثانيا ولا يليق بمثل هذا المختصر كذا في التبيين.
وقد يقال إنه ليس بتكرار محض؛ لأنه إنما عد بعض الأعذار ولم يستوفها كما علم مما بيناه أولا فربما يتوهم حصر الأعذار في المعدود وقد ذكر ضابطا لها لتتم الأعذار فكان فيه فائدة كما لا يخفى.
" قوله: وراجي الماء يؤخر الصلاة " يعني على سبيل الندب كما صرح به في أصله الوافي والمراد بالرجاء غلبة الظن.
أي يغلب على ظنه أنه يجد الماء في آخر الوقت، وهذا إذا كان بينه وبين موضع يرجوه ميل أو أكثر، فإن كان أقل منه لا يجزئه التيمم، وإن خاف فوت وقت الصلاة، فإن كان لا يرجوه لا يؤخر الصلاة عن أول الوقت؛ لأن فائدة الانتظار احتمال وجد أن الماء فيؤديها بأكمل الطهارتين، وإذا لم يكن له رجاء وطمع فلا فائدة في الانتظار وأداء الصلاة في أول الوقت أفضل إلا إذا تضمن التأخير فضيلة لا تحصل بدونه كتكبير الجماعة ولا يتأتى هذا في حق من في المفازة فكان التعجيل أولى.
 ولهذا كان أولى للنساء أن يصلين في أول الوقت؛ لأنهن لا يخرجن إلى الجماعة كذا في مبسوطي شمس الأئمة وفخر الإسلام كذا في معراج الدراية وكذا في كثير من شروح الهداية.
وتعقبهم في غاية البيان بأن هذا سهو وقع من الشارحين وليس مذهب أصحابنا كذلك، فإن كلام أئمتنا صريح في استحباب تأخير بعض الصلوات من غير اشتراط جماعة وما ذكروه في التيمم مفهوم والصريح مقدم على المفهوم. وأجاب عنه في السراج الوهاج بأن الصريح

 

ج / 1 ص -334-       ...............................
_________________
محمول على ما إذا تضمن ذلك فضيلة كتكثير الجماعة؛ لأنه إذا لم يتضمن ذلك لم يكن للتأخير فائدة وما لا فائدة فيه لم يكن مستحبا.
وهل يؤخر عند الرجاء إلى وقت الاستحباب أو إلى وقت الجواز أقوال ثالثها إن كان على ثقة فإلى آخر وقت الجواز، وإن كان على طمع فإلى آخر وقت الاستحباب وأصحها الأول كذا في السراج الوهاج والحق ما في غاية البيان، فإن محمدا ذكر في الأصل أن تأخير الصلاة أحب إلي ولم يفصل بين الرجاء وغيره.
والذي في مبسوط شمس الأئمة إنما هو إذا كان لا يرجو فلا يؤخر الصلاة عن وقتها المعهود أي عن وقت الاستحباب، وهو أول النصف الأخير من الوقت في الصلاة التي يستحب تأخيرها أما إذا كان يرجو فالمستحب تأخيرها عن هذا الوقت المستحب، وهذا هو مراد من قال بعدم استحباب التأخير إذا كان لا يرجو، وليس المراد بالتعجيل الفعل في أول وقت الجواز حتى يلزم أن يكون أفضل.
ويدل على ما قلناه ما ذكره الإسبيجابي في شرح مختصر الطحاوي بقوله، وإن لم يكن على طمع من وجود الماء، فإنه يتيمم ويصلي في وقت مستحب ولم يقل يصلي في أول الوقت.
وقال الكردري في مناقبه: والأوجه أن يحمل استحباب التأخير مع الرجاء إلى آخر النصف الثاني وعدم استحبابه إلى هذا عند عدم الرجاء بل الأفضل عند عدم الرجاء الأداء في أول النصف الثاني بدليل قولهم المستحب أن يسفر بالفجر في وقت يؤدي الصلاة بالقراءة المسنونة ثم لو بدا له في الصلاة الأولى ريب يؤدي الثانية بالطهارة والتلاوة المسنونة أيضا وذلك لا يتأتى إلا في أول النصف الثاني ا هـ.
وفي الخلاصة وغيرها المسافر إذا كان على تيقن من وجود الماء أو غالب ظنه على ذلك في آخر الوقت فتيمم في أول الوقت وصلى إن كان بينه وبين الماء مقدار ميل جاز، وإن كان أقل ولكن يخاف الفوت لا يتيمم ا هـ. فحاصله أن البعد مجوز للتيمم مطلقا.
وفي معراج الدراية معزيا إلى المجتبى ويتخالج في قلبي فيما إذا كان يعلم أنه إن أخر الصلاة إلى آخر الوقت بقرب من الماء بمسافة أقل من ميل لكن لا يتمكن من الصلاة بالوضوء

 

ج / 1 ص -335-       وصح قبل الوقت ولفرضين
_________________
في الوقت الأولى أن يصلي في أول الوقت مراعاة لحق الوقت وتجنبا عن الخلاف ا هـ. وذكر في المناقب أن هذه المسألة أول واقعة خالف أبو حنيفة أستاذه حمادا فصلى حماد بالتيمم في أول الوقت ووجد أبو حنيفة الماء في آخر الوقت وصلاها، وكان ذلك غرة اجتهاده فقبلها الله تعالى منه وصوبه فيه، وكانت هذه الصلاة صلاة المغرب، وكان خروجهما لأجل تشييع الأعمش.
" قوله: وصح قبل الوقت ولفرضين " أي صح التيمم قبل الوقت ولفرضين.
اعلم أن التيمم بدل بلا شك اتفاقا لكن اختلفوا في كيفية البدل في موضعين: أحدهما: الخلاف فيه لأصحابنا مع الشافعي فقال أصحابنا: هو بدل مطلق عند عدم الماء وليس بضروري ويرتفع به الحدث إلى وقت وجود الماء لا أنه مبيح للصلاة مع قيام الحدث وقال الشافعي هو بدل ضروري مبيح مع قيام الحدث حقيقة فلا يجوز قبل الوقت ولا يصلي به أكثر من فريضة عنده وعندنا يجوز وفي إناءين طاهر ونجس يجوز التيمم عندنا خلافا له؛ ولهذا يبني الخلاف تارة على أنه رافع للحدث عندنا مبيح عنده لا رافع وتارة على أنه طهارة ضرورية عنده مطلقة عندنا واقتصر على الثاني صاحب الهداية.
ويدفع مبنى الشافعي الأول بأن اعتبار الحدث مانعية عن الصلاة شرعية لا يشكل معه أن التيمم رافع لارتفاع ذلك المنع به، وهو الحق إن لم يقم على أكثر من ذلك دليل وتغير الماء برفع الحدث إنما يستلزم اعتباره نازلا عن وصفه الأول بواسطة إسقاط الفرض لا بواسطة إزالة وصف حقيقي مدنس ويدفع الثاني بأنه طهور حال عدم الماء بقوله صلى الله عليه وسلم
"التراب طهور المسلم".
وقال في حديث الخصائص في الصحيحين
"وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا" يريد به مطهرا، وإلا لما تحققت الخصوصية؛ لأن طهارة الأرض بالنسبة إلى سائر الأنبياء ثابتة، وإذا كان مطهرا فتبقى طهارته إلى وجود غايتها من وجود الماء أو ناقض آخر.

 

ج / 1 ص -336-       ...............................
_________________
الثاني الخلاف فيه بين أصحابنا فعند أبي حنيفة وأبي يوسف البدلية بين الماء والتراب وعند محمد بين الفعلين وهما التيمم والوضوء ويتفرع عليه جواز اقتداء المتوضئ بالمتيمم فأجازاه ومنعه وسيأتي إن شاء الله تعالى.
وقاس الشافعي كما ذكره النووي عدم جوازه قبل الوقت على عدم جواز طهارة المستحاضة قبل الوقت وقال النووي إنهم وافقونا عليه ومنع أئمتنا الحكم في المقيس عليه؛ لأن المذهب عندنا جواز وضوئها قبل الوقت ولا ينتقض بالدخول ولئن سلم على قول من يقول بنقضها بالدخول فالفرق بينهما أن طهارة المستحاضة قد وجد ما ينافيها، وهو سيلان الدم والتيمم لم يوجد له رافع بعده، وهو الحدث أو وجود الماء فيبقى على ما كان كالمسح على الخفين بل أقوى؛ لأن المسح مؤقت بمدة قليلة والشارع جوز التيمم ولو إلى عشر حجج ما لم يجد الماء وقولهم لا ضرورة قبله ممنوع؛ لأن المندوب التطهر قبل الوقت ليشتغل أول الوقت بالأداء وما استدلوا به من أثر ابن عباس قال من السنة أن لا يصلي بالتيمم أكثر من صلاة واحدة رواه الدارقطني ومن أثر ابن عمر قال يتيمم لكل صلاة، وإن لم يحدث رواه البيهقي ومن أثر علي قال يتيمم لكل صلاة فالكل ضعيف؛ لأن في سند الأول الحسن بن عمارة تكلموا فيه قال بعضهم متروك ذكره مسلم في مقدمة كتابه في جملة من تكلم فيه رواه عنه أبو يحيى الجماني، وهو متروك وفي سند الثاني عامر ضعفه ابن عيينة وأحمد بن حنبل وفي سماعه عن نافع نظر وقال ابن خزيمة الرواية فيه عن ابن عمر لا تصح وفي السند الثالث الحجاج بن أرطاة والحارث الأعور وهما ضعيفان مع أن ظاهرهما متروك، فإنهم يجوزون أكثر من صلاة واحدة من النوافل مع الفرض تبعا له بشرط أن يتيمم له فلو تيمم لصلاة النفل لا

 

ج / 1 ص -337-       وخوف فوت صلاة جنازة
_________________
يجوز أن يؤدي الفرض به عنده وعلى عكسه يجوز.
" تنبيه " ظاهر كلام المشايخ هنا أن الشرط يلزم من عدمه عدم المشروط، فإنهم قالوا إن التراب مطهر بشرط عدم الماء فإذا وجد الماء فقد الشرط ففقد المشروط، وهو طهورية التراب والمذكور في الأصول أن الشرط لا يلزم من عدمه العدم ولا من وجوده وجود ولا عدم.
والجواب أن الشرط إذا كان مساويا للمشروط استلزمه وهاهنا كذلك، فإن كل واحد من عدم الماء وجواز التيمم مساو للآخر لا محالة فجاز أن يستلزمه كذا في العناية، فإن قلت لا نسلم مساواتهما لجوازه مع وجوده حال مرضه قلت ليس بموجود فيها حكما؛ لأن المراد به القدرة، وهو ليس بقادر.
" قوله: وخوف فوت صلاة جنازة " أي يجوز التيمم لخوف فوت صلاة الجنازة أطلقه وقيده في الهداية بأربعة أشياء حضور الجنازة وكونه صحيحا وكونه في المصر وكونه ليس بولي ووافقه على الأخير في الوافي ولا حاجة إلى هذه القيود أصلا؛ لأن المريض يرخص له التيمم مطلقا وكذا المسافر وقبل حضورها لا يخاف الفوت إذ الوجوب بالحضور وكذا لا يخاف الفوت الولي مع أن في جوازه له خلافا ففي الهداية الصحيح أنه لا يجوز له التيمم؛ لأن للولي حق الإعادة فلا فوات في حقه واختاره المصنف في الكافي وصحح في التجنيس في الإمام عدم الجواز إن كانوا ينتظرونه، وإلا جاز وفي ظاهر الرواية جوازه لهما وصححه السرخسي.
وقال صاحب الذخيرة لا فرق بين الإمام والمقتدي ومن له حق الصلاة؛ لأن الانتظار فيها مكروه.
والمراد بالولي من له التقدم حتى لا يجوز التيمم للسلطان والقاضي والوالي على ما في الهداية؛ لأن الولي إذا كان لا يجوز له التيمم، وهو مؤخر فمن هو مقدم عليه أولى؛ لأن المقدم على الولي له حق الإعادة لو صلى الولي فعلى هذا يجوز التيمم للولي إذا كان هو مقدم عليه حاضرا اتفاقا؛ لأنه يخاف الفوت إذ ليس له حق الإعادة لو صلى من هو مقدم عليه كما علم في الجنائز.
وكذا يجوز للولي التيمم إذا أذن لغيره بالصلاة؛ لأنه حينئذ لا حق له في الإعادة فيخاف فوتها ولا يجوز لمن أمره الولي كذا في الخلاصة وهذه التفاريع التي ذكرناها إنما هي على

 

ج / 1 ص -338-       ...............................
_________________
مختار صاحب الهداية أما على ظاهر الرواية فيجوز التيمم للكل عند خوف الفوت ولا فرق في جوازه عند الخوف بين كونه محدثا أو جنبا أو حائضا أو نفساء كما صرح به في النهاية وغيرها ولا بد من خوف فوت التكبيرات كلها لو اشتغل بالطهارة، فإن كان يرجو أن يدرك البعض لا يتيمم؛ لأنه لا يخاف الفوت؛ لأنه يمكنه أداء الباقي وحده كذا في البدائع والقنية.
وذكر ابن أمير حاج أنه لم يقف على هذا التفصيل في صلاة الجنازة فلله الحمد والمنة.
والأصل في هذه المسائل أن كل موضع يفوت الأداء لا إلى خلف يجوز له التيمم وفي كل موضع لا يفوت الأداء لا يجوز. ثم اعلم بأن الصلاة ثلاثة أنواع نوع لا يخشى فواتها أصلا لعدم توقتها كالنوافل ونوع يخشى فواتها أصلا كصلاة الجنازة والعيد ونوع يخشى فواتها وتقضى بعد وقتها أصلها أو بدلها كالجمعة والمكتوبات.
أما الأول فلا يتيمم لها عند وجود الماء. وأما الثاني: فيتيمم لها عند وجوده عندنا ومنعه الشافعي؛ لأنه تيمم مع عدم شرطه وقلنا هو مخاطب بالصلاة عاجز عن الوضوء لها بفرض المسألة فيجوز التيمم ويدل له تيممه عليه الصلاة والسلام لرد السلام مع وجود الماء على ما أسلفناه خشية الفوات؛ لأنه لو رد بعد التراخي لا يكون جوابا له وفيه ما تقدم من الاحتمال.
وروى ابن عدي في الكامل بسنده عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا فجأتك الجنازة وأنت على غير وضوء فتيمم" ثم قال هذا مرفوعا غير محفوظ بل هو موقوف على

 

ج / 1 ص -339-       أو عيد ولو بناء
_________________
ابن عباس ورواه ابن أبي شيبة عنه أيضا ورواه الطحاوي في شرح الآثار وكذا رواه النسائي في كتاب الكنى.
وروى البيهقي من طريق بجهة الدارقطني أن ابن عمر أتى الجنازة، وهو على غير وضوء فتيمم وصلى عليها والحديث إذا كثرت طرقه وتعاضدت قويت فلا يضره الوقف؛ لأن الصحابة كانوا تارة يرفعون وتارة لا يرفعون ولو حضرت جنازة أخرى بعد فراغه من الصلاة وخاف فوتها ففي المجمع يعيد عند محمد ولا يعيد عند أبي حنيفة وأبي يوسف.
وذكر المصنف في المستصفى أن الخلاف فيما إذا لم يتمكن من التوضؤ بين الصلاتين أما إذا تمكن ثم فات التمكن يعيد التيمم اتفاقا وفي الولوالجية وعليه الفتوى وذكر الحلواني أن التيمم في بلادنا لا يجوز للجنازة؛ لأن الماء حول مصلى الجنازة، وأما رواية القدوري فمطلقة كذا في معراج الدراية وفي المستصفى لا يقال إن النص ورد في الصلاة المطلقة وصلاة الجنازة ليست في معناها؛ لأنا نقول: لما جاز أداء أقوى الصلاتين بأضعف الطهارتين لأن يجوز أداء أضعف الصلاتين بأضعف الطهارتين أولى.
" قوله: أو عيد ولو بناء " أي يجوز التيمم لخوف فوت صلاة عيد ولو كان الخوف بناء لما بينا أنها تفوت لا إلى بدل، فإن كان إماما ففي رواية الحسن لا يتيمم وفي ظاهر الرواية يجزئه؛ لأنه يخاف الفوت بزوال الشمس حتى لو لم يخف لا يجزئه، وإن كان المقتدي بحيث يدرك بعضها مع الإمام لو توضأ لا يتيمم كما قدمناه في الجنازة وصورة الخوف في البناء أن يشرع في صلاة العيد ثم يسبقه حدث إماما كان أو مقتديا، فهذه على وجوه، فإن كان لا يخاف الزوال ويمكنه أن يدرك شيئا منها مع الإمام لو توضأ، فإنه لا يتيمم اتفاقا لإمكان أداء الباقي بعده، وإن كان يخاف زوال الشمس لو اشتغل بالوضوء يباح له التيمم اتفاقا لتصور الفوات بالإفساد بدخول الوقت المكروه ولو شرع بالتيمم تيمم وبنى بالاتفاق؛ لأنا لو أوجبنا الوضوء يكون واجدا للماء في خلال صلاته فتفسد كذا في الهداية والمحيط.

 

ج / 1 ص -340-       ...............................
_________________
وقيل لا يجوز البناء بالتيمم عندهما لوجود الماء ويجوز أن يكون ابتداؤها بالتيمم والبناء بالوضوء كما قلنا في جنب معه ماء قدر ما يكفي الوضوء، فإنه يتيمم ويصلي ولو سبقه حدث فيها، فإنه يتوضأ ويبني.
وهذا القياس مع الفارق، فإن في المقيس عليه لا يلزم بناء القوي على الضعيف إذ التيمم هاهنا أقوى من الوضوء؛ لأنه يزيل الجنابة والوضوء لا يزيلها وفي المقيس يلزم بناء القوي على الضعيف فكان الظاهر البناء اتفاقا.
وقد يقال إنه غير لازم؛ لأن التيمم مثل الوضوء بدليل جواز اقتداء المتوضئ بالمتيمم يؤيده ما ذكره قاضي خان في فصل المسح على الخفين من فتاواه أن المتيمم إذا سبقه حدث في خلال صلاته فانصرف ثم وجد ماء يتوضأ ويبني والفرق بينه وبين المتيمم الذي وجد الماء في خلال صلاته حيث يستأنف إن التيمم ينتقض بصفة الاستناد إلى وجود الحدث عند إصابة الماء؛ لأنه يصير محدثا بالحدث السابق؛ لأن الإصابة ليست بحدث وفي هذه الصلاة لم ينتقض التيمم عند إصابة الماء بصفة الاستناد لانتقاضه بالحدث الطارئ على التيمم ويمكن أن يقال إن التيمم ينتقض عند رؤية الماء بالحدث السابق وإن كان هناك حدث طارئ لما قدمناه عن محمد أن الأسباب المتعاقبة كالبول ثم الرعاف ثم القيء توجب أحداثا متعاقبة يجزئ عنها وضوء واحد وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الحدث في الصلاة ما يخالف ما ذكره قاضي خان فثبت أن البناء بالتيمم متفق عليه، ولو شرع بالوضوء ثم سبقه الحدث ولم يخف زوال الشمس ولا يرجو إدراك الإمام قبل فراغه فعند أبي حنيفة يتيمم ويبني وقالا يتوضأ ولا يتيمم.
ثم اختلف المشايخ فمنهم من قال إنه اختلاف عصر وزمان فكان في زمانه جبانة الكوفة بعيدة ولو انصرف للوضوء زالت الشمس فخوف الفوت قائم وفي زمنهما جبانة بغداد قريبة فأفتيا على وفق زمنهما؛ ولهذا كان شمس الأئمة الحلواني والسرخسي يقولان في ديارنا لا يجوز التيمم للعيد ابتداء ولا بناء؛ لأن الماء محيط بمصلى العيد فيمكن التوضؤ والبناء بلا خوف الفوت حتى لو خيف الفوت يجوز التيمم ومنهم من جعله برهانيا ثم اختلفوا فمنهم من جعله ابتدائيا فهما نظرا إلى أن اللاحق يصلي بعد فراغ الإمام فلا فوت وأبو حنيفة نظر إلى أن الخوف باق؛ لأنه يوم زحمة فيعتريه عارض يفسد عليه صلاته من رد سلام أو تهنئة.

 

ج / 1 ص -341-       لا لفوت جمعة ووقت
_________________
ومنهم من جعله مبنيا على مسألة، وهي أن من أفسد صلاة العيد لا قضاء عليه عنده فتفوت لا إلى بدل وعندهما عليه القضاء فتفوت إلى بدل وإليه ذهب أبو بكر الإسكاف لكن قال القاضي الإسبيجابي في شرح مختصر الطحاوي الأصح أنه لا يجب قضاء صلاة العيد بالإفساد عند الكل.
وفي شرح منية المصلي لقائل أن يقول بجواز التيمم في المصر لصلاة الكسوف والسنن الرواتب ما عدا سنة الفجر إذا خاف فوتها لو توضأ، فإنها تفوت لا إلى بدل، فإنها لا تقضى كما في العيد ولا سيما على القول بأن صلاة العيد سنة كما اختاره السرخسي وغيره وأما سنة الفجر، فإن خاف فوتها مع الفريضة لا يتيمم، وإن خاف فوتها وحدها فعلى قياس قول محمد لا يتيمم وعلى قياس قولهما يتيمم، فإن عند محمد إذا فاتته باشتغاله بالفريضة مع الجماعة عند خوف فوت الجماعة يقضيها بعد ارتفاع الشمس وعندهما لا يقضيها أصلا.
" قوله: لا لفوت جمعة ووقت " أي لا يصح التيمم لخوف فوت صلاة الجمعة وصلاة مكتوبة، وإنما يجوز التيمم لهما عند عدم القدرة على الماء حقيقة أو حكما وفيه خلاف زفر كما قدمناه أما عدم جوازه لخوف فوت الجمعة؛ فلأنها تفوت إلى خلف، وهو الظهر كذا في الهداية وأورد أن هذا لا يتأتى إلا على مذهب زفر أما على ظاهر المذهب المختار من أن الجمعة خلف والظهر أصل فلا ودفع بأنه متصور بصورة الخلف؛ لأن الجمعة إذا فاتت يصلى الظهر فكان الظهر خلفا صورة أصلا معنى وقد جمع بينهما في النافع فقال؛ لأنها تفوت إلى ما يقوم مقامها، وهو الأصل.
وأما عدم جوازه لخوف فوت الوقت؛ فلأن الفوات إلى خلف، وهو القضاء، فإن قيل فضيلة الجمعة والوقت تفوت لا إلى خلف؛ ولهذا جاز للمسافر التيمم وجازت الصلاة للراكب الخائف مع ترك بعض الشروط والأركان، وكل هذا لفضيلة الوقت.
قلنا فضيلة الوقت والأداء وصف للمؤدى تابع له غير مقصود لذاته بخلاف صلاة الجنازة والعيد، فإنها أصل فيكون فواتها فوات أصل مقصود وجوازها للمسافر بالنص لا لخوف الفوت بل لأجل أن لا تتضاعف عليه الفوائت ويحرج في القضاء وكذا صلاة الخوف للخوف دون خوف الفوت.

 

ج / 1 ص -342-       ولم يعد إن صلى به ونسي الماء في رحله
_________________
هذا وقد قدمنا عن القنية أن التيمم لخوف فوت الوقت رواية عن مشايخنا، وفرع عليها في باب التيمم أنه لو كان في سطح ليلا وفي بيته ماء لكنه يخاف في الظلمة إن دخل البيت يتيمم إن خاف فوت الوقت، وكذا يتيمم في كلة لخوف البق أو مطر أو حر شديد إن خاف فوت الوقت، وعلى اعتبار العجز لا خوف الوقت فرع محمد رحمه الله ما لو وعده صاحبه أن يعطيه الإناء أنه ينتظر، وإن خرج الوقت؛ لأن الظاهر هو الوفاء بالعهد، فكان قادرا على استعمال الماء ظاهرا وكذا إذا وعد الكاسي العاري أن يعطيه الثوب إذا فرغ من صلاته لم تجزه الصلاة عريانا لما قلنا كذا في البدائع.
" قوله: ولم يعد إن صلى به ونسي الماء في رحله " أي ولم يعد إن صلى بالتيمم ناسيا الماء كائنا في رحله مما ينسى عادة، وكان موضوعا بعلمه، وهو للبعير كالسرج للدابة ويقال لمنزل الإنسان ومأواه رحل أيضا، وهو المراد بقولهم نسي الماء في رحله كذا في المغرب لكن قد يقال قولهم لو كان الماء في مؤخرة الرحل يفيد أن المراد بالرحل الأول، وهذا عند أبي حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف: تلزمه الإعادة.
قيد بالنسيان؛ لأن في الظن لا يجوز التيمم إجماعا ويعيد الصلاة؛ لأن الرحل معدن الماء عادة فيفترض عليه الطلب كما يفرض عليه الطلب في العمرانات؛ لأن العلم لا يبطل بالظن بخلاف النسيان؛ لأنه من أضداد العلم وظنه بخلاف العادة لا يعتبر.
وقيد بقوله في رحله؛ لأنه لو كان على ظهره فنسيه ثم تيمم يعيد اتفاقا وكذا إذا كان على رأسه أو معلقا في عنقه وقيدنا بكونه مما ينسى عادة؛ لأنه لو لم يكن كذلك كما إذا نسي الماء المعلق في مؤخر رحله، وهو يسوق دابته، فإنه يعيد اتفاقا وكذا إذا كان راكبا والماء في مقدم الرحل أو بين يديه راكبا بخلاف ما إذا كان سائقا، وهو في المقدم أو راكبا، وهو في المؤخر، فإنه على الاختلاف وكذا إذا كان قائدا مطلقا.
وقيدنا بكونه موضوعا بعلمه؛ لأنه لو وضعه غيره ولو عبده أو أجيره بغير أمره لا يعيد اتفاقا؛ لأن المرء لا يخاطب بفعل الغير كذا في النهاية وتبعه عليه جماعة من الشارحين وإليه أشار في فتح القدير وتعقبه في غاية البيان بأن دعوى الإجماع سهو ليست بصحيحة ونقل عن فخر الإسلام في شرح الجامع الصغير أنها على الاختلاف والحق ما في البدائع أنه لا رواية لهذا نصا.

 

ج / 1 ص -343-       ...............................
_________________
وقال بعض المشايخ إن لفظ الرواية في الجامع الصغير تدل على أنه يجوز بالإجماع، فإنه قال في الرجل يكون في رحله ماء فنسي والنسيان يستدعي تقدم العلم ثم مع ذلك جعل عذرا عندهما فبقي موضع لا علم أصلا ينبغي أن يجعل عذرا عند الكل ولفظ الرواية في كتاب الصلاة يدل على أنه على الاختلاف، فإنه قال مسافر تيمم ومعه ماء في رحله، وهو لا يعلم به، وهذا يتناول حالة النسيان وغيرها.
لأبي يوسف وجهان أحدهما أنه نسي ما لا ينسى عادة؛ لأن الماء من أعز الأشياء في السفر لكونه سببا لصيانة نفسه عن الهلاك فكان القلب متعلقا به فالتحق النسيان فيه بالعدم. والثاني: أن الرحل موضع الماء غالبا لحاجة المسافر إليه فكان الطلب واجبا كما في العمران ولهما أنه عجز عن استعمال الماء فلا يلزمه الاستعمال، وهذا؛ لأنه لا قدرة بدون العلم؛ لأن القادر على الفعل هو الذي لو أراد تحصيله يتأتى له ذلك ولا تكليف بدون القدرة ولو فقدت قدرته بفقد سائر الآلات جاز تيممه فإذا فقد العلم، وهو أقوى الآلات أولى وتعقبه في فتح القدير بأن هذا لا يفيد بعد ما قرر لأبي يوسف لثبوت العلم نظرا إلى الدليل اتفاقا كما قال الكل في المسائل الملحق بها، وإنما المفيد ليس إلا منع وجود العلة أي لا نسلم أن الرحل دليل الماء الذي ثبوته يمنع التيمم أعني ماء الاستعمال بل الشرب، وهو مفقود في حق غير الشرب ا هـ. ولو صلى عريانا، وفي رحله ثوب طاهر لم يعلم به ثم علم، فإن بعضهم تلزمه الإعادة بالإجماع وذكر الكرخي أنه على الاختلاف، وهو الأصح كذا في البدائع، فإن كان على الاختلاف فظاهر، وإن كان بالإجماع فالفرق على قولهما أن الرحل معد للثوب لا لماء الوضوء لكن يرد عليه لو مع ثوب نجس ناسيا الطاهر، فإنها كمسألة الصلاة عاريا مع أن الرحل ليس معدا لماء الاستعمال بل لماء الشرب كما بينا وما وقع في شرح الكنز وغيره من الفرق بينهما وبين ما لو نسي ماء الوضوء فتيمم بأن فرض الستر وإزالة النجاسة فات لا إلى خلف بخلاف الوضوء لا يثلج الخاطر عند التأمل؛ لأن فوات الأصل إلى خلف لا يجوز الخلف مع فقد شرطه بل إذا فقد شرطه مع فوات الأصل يصير فاقدا للطهورين فيلزمه حكمه، وهو التأخير عنده والتشبه عندهما بالمصلين كذا في فتح القدير ولقائل أن يقول قوله؛ لأن فوات الأصل إلى آخره صحيح.
وأما قوله بل إذا فقد شرطه إلى آخره فليس بظاهر؛ لأن شرط جواز الخلف عدم القدرة على الأصل وفقد هذا الشرط بالقدرة على الأصل فكيف يجتمع فقد شرط الخلف مع فوات الأصل بل يلزم من فقد شرط الخلف وجود الأصل؛ لأن شرطه فوات الأصل ففقده بوجوده.

 

ج / 1 ص -344-       ويطلبه غلوة إن ظن قربه، وإلا لا
_________________
ولا فرق في مسألة الكتاب بين أن يذكره في الوقت أو بعده ولو مر بالماء، وهو متيمم لكنه نسي أنه تيمم ينتقض تيممه، ولو ضرب الفسطاط على رأس البئر قد غطى رأسها ولم يعلم بذلك فتيمم وصلى ثم علم بالماء أمر بالإعادة.
واتفقوا على أن النسيان غير معفو في مسائل منها ما لو نسي المحدث غسل بعض أعضائه ومنها لو صلى قاعدا متوهما عجزه عن القيام وكان قادرا ومنها أن الحاكم إذا حكم بالقياس ناسيا النص ومنها لو نسي الرقبة في الكفارة فصام ومنها لو توضأ بماء نجس ناسيا ومنها لو فعل ما ينافي الصلاة ناسيا ومنها لو فعل محظور الإحرام ناسيا ومنها مسائل كثيرة تعرف في أثناء الكتاب إن شاء الله تعالى.
" قوله: ويطلبه غلوة إن ظن قربه، وإلا لا " أي يجب على المسافر طلب الماء قدر غلوة إن ظن قربه، وإن لم يظن قربه لا يجب عليه وحد القرب ما دون الميل قيدنا به؛ لأن الميل وما فوقه بعيد لا يوجب الطلب وقيدنا بالمسافر؛ لأن طلب الماء في العمرانات واجب اتفاقا مطلقا وكذا لو كان بقرب منها وقد اختلفوا في مقدار الطلب فاختار المصنف هنا قدر غلوة، وهي مقدار رمية سهم كما في التبيين أو ثلثمائة ذراع كما في الذخيرة والمغرب إلى أربعمائة.
واختار في المستصفى أنه يطلب مقدار ما يسمع صوت أصحابه ويسمع صوته، وهو الموافق لما قال أبو يوسف سألت أبا حنيفة عن المسافر لا يجد الماء أيطلب عن يمين الطريق أو عن يساره قال إن طمع فيه فليفعل ولا يبعد فيضر بأصحابه إن انتظروه وبنفسه إن انقطع عنهم ويوافقه ما صححه في البدائع فقال: والأصح أنه يطلب قدر ما لا يضر بنفسه ورفقته بالانتظار، فكان هو المعتمد وعلى اعتبار الغلوة فالطلب أن ينظر يمينه وشماله وأمامه ووراء غلوة كذا في الحقائق وظاهره أنه لا يلزمه المشي بل يكفيه النظر في هذه الجهات، وهو في مكانه، وهذا إذا كان حواليه لا يستتر عنه، فإن كان بقربه جبل صغير ونحوه صعده ونظر حواليه إن لم يخف ضررا على نفسه أو ماله الذي معه أو المخلف في رحله فإن خاف لم يلزمه الصعود والمشي كذا في التوشيح.
ولو بعث من يطلب له كفاه عن الطلب بنفسه، وكذا لو أخبره من غير أن يرسله كذا في منية المصلي ولو تيمم من غير طلب، وكان الطلب واجبا وصلى ثم طلبه فلم يجده وجبت عليه الإعادة عندهما خلافا لأبي يوسف كذا في السراج الوهاج.

 

ج / 1 ص -345-       ...............................
_________________
وفي المستصفى وفي إيراد هذه المسألة عقيب المسألة المتقدمة لطيفة، فإن الاختلاف في تلك المسألة بناء على اشتراط الطلب وعدمه ا هـ. وعند الشافعي يجب الطلب مطلقا لقوله تعالى:
{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً}[النساء:43]؛ لأن الوجود يقتضي سابقة الطلب، وهي دعوى لا دليل عليها لقوله تعالى: {أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُوا نَعَمْ}[لأعراف:44] ولا طلب وقوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} (الضحى:7] وقوله {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ}[النساء:92] وقوله {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً}[الكهف:49] ولم يطلبوا خطاياهم وقوله تعالى: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ}[لأعراف:102] وقوله {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ}[الكهف:77] ولقوله عليه السلام "من وجد لقطة فليعرفها" ولا طلب من الواجد ولقوله من وجد زادا وراحلة ويقال فلان وجد ماله، وإن لم يطلبه ووجد مرضا في نفسه ولم يطلبه.
فقد ثبت أن الوجود يتحقق من غير طلب والله تعالى جعل شرط الجواز عدم الوجود من غير طلب فمن زاد شرط الطلب فقد زاد على النص، وهو لا يجوز بخلاف العمرانات؛ لأن العدم، وإن ثبت حقيقة لم يثبت ظاهرا؛ لأن كون الماء في العمرانات دليل ظاهر على وجود الماء؛ لأن قيام العمارة بالماء فكان العدم ثابتا من وجه دون وجه وشرط الجواز العدم المطلق ولا يثبت ذلك في العمرانات إلا بعد الطلب وبخلاف ما إذا غلب على ظنه قربه؛ لأن غلبة الظن تعمل عمل

 

ج / 1 ص -346-       ويطلبه من رفيقه، فإن منعه تيمم
_________________
اليقين في حق وجوب العمل، وإن لم تعمل في حق الاعتقاد كما في التحري في القبلة وكما في دفع الزكاة لمن غلب على ظنه فقره وكما إذا غلب على ظنه نجاسة الماء أو طهارته.
وأما إذا لم يغلب على ظنه قربه فلا يجب بل يستحب إذا كان على طمع من وجود الماء كذا في البدائع وظاهره أنه إذا لم يطمع لا يستحب له الطلب وعلل له في المبسوط بأنه لا فائدة فيه إذا لم يكن على رجاء منه وبما تقرر علم أن المراد بالظن غالبه، والفرق بينهما على ما حققه اللامشي في أصوله أن أحد الطرفين إذا قوي وترجح على الآخر، ولم يأخذ القلب ما ترجح به، ولم يطرح الآخر فهو الظن، وإذا عقد القلب على أحدهما وترك الآخر فهو أكبر الظن وغالب الرأي ا هـ. وغلبة الظن هنا أما بأن وجد إمارة ظاهرة أو أخبره مخبر كذا أطلقه في الوشيح وقيده في البدائع بالعدل.
" قوله: ويطلبه من رفيقه، فإن منعه تيمم " أي يطلب الماء من رفيقه أطلقه هنا وفصل في الوافي فقال مع رفيقه ماء فظن أنه إن سأله أعطاه لم يجز التيمم، وإن كان عنده أنه لا يعطيه يتيمم، وإن شك في الإعطاء وتيمم وصلى فسأله فأعطاه يعيد وعلل له في الكافي بأنه ظهر أنه كان قادرا، وإن منعه قبل شروعه وأعطاه بعد فراغه لم يعد؛ لأنه لم يتبين أن القدرة كانت ثابتة ا هـ.
اعلم أن ظاهر الرواية عن أصحابنا الثلاثة وجوب السؤال من الرفيق كما يفيده ما في المبسوط قال: وإذا كان مع رفيقه ماء فعليه أن يسأله إلا على قول الحسن بن زياد، فإنه كان يقول السؤال ذل وفيه بعض الحرج وما شرع التيمم إلا لدفع الحرج ولكنا نقول ماء الطهارة مبذول عادة بين الناس وليس في سؤال ما يحتاج إليه مذلة فقد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض حوائجه من غيره ا هـ. فاندفع بهذا ما وقع في الهداية وشرح الأقطع من الخلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه فعنده لا يلزمه الطلب وعندهما يلزمه واندفع ما في غاية البيان من أن قول الحسن حسن وفي الذخيرة نقلا عن الجصاص أنه لا خلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه فمراده فيما إذا غلب على ظنه منعه تجري الظنة عليه لا يجب الطلب منه ا هـ.
ولو كان مع رفيقه دلو لم يجب أن يسأله ولو سأله فقال انتظر حتى أستقي فالمستحب

 

ج / 1 ص -347-       وإن لم يعطه إلا بثمن وله ثمنه لا يتيمم، وإلا تيمم
_________________
عند أبي حنيفة أن ينتظر بقدر ما لا يفوت الوقت، فإن خاف ذلك تيمم وعندهما ينظر، وإن خاف فوت الوقت.
وجه قولهما إن الوعد إذا وجد صار قادرا باعتباره؛ لأن الظاهر أنه يفي به وعلى هذا الخلاف العاري إذا وعد له رفيقه الثوب كذا في معراج الدراية وفي فتح القدير والتوشيح لو كان مع رفيقه دلو وليس معه له أن يتيمم قبل أن يسأله عنه وفي المجتبى رأى في صلاته ماء في يد غيره ثم ذهب منه قبل الفراغ فسأله فقال لو سألتني لأعطيتك فلا إعادة عليه، وإن كانت العدة قبل الشروع يعيد لوقوع الشك في صحة الشروع والأصح أنه لا يعيد؛ لأن العدة بعد الذهاب لا تدل على الإعطاء قبله. ا هـ. وقد قدمنا الفروع المتعلقة بها عن الزيادات وفي التوشيح وأجمعوا أنه إذا قال أبحت لك مالي لتحج به، فإنه لا يجب عليه الحج وأجمعوا أن في الماء إذا وعده صاحبه أن يعطيه لا يتيمم وينتظر، وإن خرج الوقت والفرق بينهما أن القدرة في الأول لا تكون إلا بالملك وفي الثاني بالإباحة.
وفي المحيط ولو قرب من الماء، وهو لا يعلم به ولم يكن بحضرته من يسأله عنه أجزأه التيمم؛ لأن الجهل بقربه كبعده عنه ولو كان بحضرته من يسأله فلم يسأله حتى تيمم وصلى ثم سأله فأخبره بماء قريب لم تجز صلاته؛ لأنه قادر على استعماله بالسؤال كمن نزل بالعمران ولم يطلب الماء لم يجز تيممه وإن سأله في الابتداء فلم يخبره ثم أخبره بماء قريب جازت صلاته؛ لأنه فعل ما عليه. ا هـ.
" قوله:، وإن لم يعطه إلا بثمن وله ثمنه لا يتيمم، وإلا تيمم " هذه المسألة على ثلاثة أوجه إما إن أعطاه بمثل قيمته في أقرب موضع من المواضع الذي يعز فيه الماء أو بالغبن اليسير أو بالغبن الفاحش ففي الوجه الأول والثاني لا يجزئه التيمم لتحقق القدرة، فإن القدرة على البدل قدرة على الماء كالقدرة على ثمن الرقبة في الكفارة تمنع الصوم وفي الوجه الثالث يجوز له التيمم لوجود الضرر، فإن حرمة مال المسلم كحرمة نفسه والضرر في النفس مسقط فكذا في المال كذا في العناية.
ونظيره الثوب النجس إذا لم يكن عنده ماء، فإنه يصلي فيه ولا يلزمه قطع الثوب من موضع النجاسة، والمراد بالثمن الفاضل عن حاجته على ما قدمناه.
واختلفوا في تفسير الغبن الفاحش ففي النوادر هو ضعف القيمة في ذلك المكان وفي

 

ج / 1 ص -348-       ولو أكثره مجروحا تيمم وبعكسه يغسل، ولا يجمع بينهما
_________________
رواية الحسن إذا قدر أن يشتري ما يساوي درهما بدرهم ونصف لا يتيمم وقيل ما لا يدخل تحت تقويم المقومين وقيل ما لا يتغابن في مثله؛ لأن الضرر مسقط واقتصر في البدائع والنهاية على ما في النوادر فكان هو الأولى وقد قدمنا أنه إذا كان له مال غائب وأمكنه الشراء بثمن مؤجل وجب عليه الشراء بخلاف ما إذا وجد من يقرضه، فإنه لا يجب عليه؛ لأن الأجل لازم ولا مطالبة قبل حلوله بخلاف القرض قيد بالماء؛ لأن العاري إذا قدر على شراء الثوب.
" قوله: ولو أكثره مجروحا تيمم وبعكسه يغسل " أي لو كان أكثر أعضاء الوضوء منه مجروحا في الحدث الأصغر أو أكثر جميع بدنه في الحدث الأكبر تيمم، وإذا كان الصحيح أكثر من المجروح يغسل؛ لأن للأكثر حكم الكل ويمسح على الجراحة إن لم يضره، وإلا فعلى الخرقة، وقد اختلف في حد الكثرة منهم من اعتبر من حيث عدد الأعضاء، ومنهم من اعتبر الكثرة في نفس كل عضو، فلو كان برأسه ووجهه ويديه جراحة والرجل لا جراحة بها يتيمم سواء كان الأكثر من أعضاء الجراحة جريحا أو صحيحا.
والآخرون قالوا إن كان الأكثر من كل عضو من أعضاء الوضوء المذكورة جريحا فهو الكثير الذي يجوز معه التيمم، وإلا فلا كذا في فتح القدير من غير ترجيح، وفي الحقائق المختار اعتبار الكثرة من حيث عدد الأعضاء ولا يخفى أن الخلاف إنما هو في الوضوء.
وأما في الغسل فالظاهر أن يكون المراد أكثر البدن صحيحا أو جريحا الأكثرية من حيث المساحة فلو استويا لا رواية فيه واختلف المشايخ منهم من قال يتيمم ولا يستعمل الماء أصلا وقيل يغسل الصحيح ويمسح على الباقي واختار القول الأول في الاختيار وقال إنه أحسن وفي الخلاصة أنه الأصح وفي فتح القدير تبعا للزيلعي أنه الأشبه بالفقه، وهو المذكور في النوادر واختار في المحيط الثاني. وقال: وهو الأصح وفي فتاوى قاضي خان، وهو الصحيح ولا يخفى أنه أحوط فكان أولى.
وفي القنية والمبتغى بالغين المعجمة بيده قروح يضره الماء دون سائر جسده يتيمم إذا لم يجد من يغسل وجهه وقيل يتيمم مطلقا ا هـ. فهذا يفيد أن قولهم إذا كان الأكثر صحيحا يغسل الصحيح محمول على ما إذا لم يكن باليدين جراحة كما لا يخفى.
" قوله: ولا يجمع بينهما " أي لا يجمع بين التيمم والغسل لما فيه من الجمع بين البدل

 

ج / 1 ص -349-       ...............................
_________________
والمبدل ولا نظير له في الشرع فيكون الحكم للأكثر بخلاف الجمع بين التيمم وسؤر الحمار؛ لأن الفرض يتأدى بأحدهما لا بهما فجمعنا بينهما لمكان الشك وكما لا جمع بين التيمم والغسل لا جمع بين الحيض والاستحاضة ولا بين الحيض والنفاس ولا بين الاستحاضة والنفاس ولا بين الحيض والحبل ولا بين الزكاة والعشر ولا بين العشر والخراج ولا بين الفطرة والزكاة ولا بين الفدية والصوم ولا بين القطع والضمان ولا بين الجلد والنفي ولا بين القصاص والكفارة ولا بين الحد والمهر ولا بين المتعة والمهر وغيرها من المسائل الآتية في مواضعها إن شاء الله تعالى وما وقع في خزانة الفقه لأبي الليث أن عشرة لا تجتمع مع عشرة فليس للحصر كما لا يخفى.
" فروع "
رجل تيمم للجنابة وصلى ثم أحدث ومعه من الماء قدر ما يتوضأ به، فإنه يتوضأ به لصلاة أخرى، فإن توضأ به ولبس خفيه ثم مر بالماء ولم يغتسل حتى صار عادما الماء ثم حضرت الصلاة ومعه من الماء قدر ما يتوضأ به، فإنه يتيمم ولا يتوضأ، فإن تيمم ثم حضرت الصلاة الأخرى وقد سبقه الحدث، فإنه يتوضأ به وينزع خفيه، وإن لم يكن مر بماء قبل ذلك مسح على خفيه.
وفاقد الطهورين في المصر بأن حبس في مكان نجس ولم يجد مكانا طاهرا ولا ماء طاهرا ولا ترابا طاهرا لا يصلي حتى يجد أحدهما وقال أبو يوسف يصلي بالإيماء تشبها بالمصلين.
قال بعضهم: إنما يصلي بالإيماء على قوله إذا لم يكن الموضع يابسا أما إذا كان يابسا يصلي بركوع وسجود ومحمد في بعض الروايات مع أبي حنيفة.
وأجمعوا أن الماشي لا يصلي، وهو يمشي والسابح لا يصلي، وهو يسبح ولا السائف، وهو يضرب بالسيف، وإن خاف فوت الوقت، وهذا إذا لم يمكنه أن ينقر الأرض أو الحائط بشيء، فإن أمكنه يستخرج التراب الطاهر ويصلي بالإجماع كذا في الخلاصة.
وجعل في المبسوط المسائل المجمع عليها مختلفا فيها إذا أحدث الإمام في صلاة الجنازة قال ابن الفضل إن استخلف متوضئا ثم تيمم وصلى خلفه أجزأه في قولهم جميعا وإن تيمم هذا الذي أحدث وأم وأتم جازت صلاة الكل في قول أبي حنيفة وأبي يوسف وعلى قول محمد وزفر صلاة المتوضئين فاسدة وصلاة المتيممين جائزة، وهذه المسألة دليل على أن في

 

ج / 1 ص -350-       ...........................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صلاة الجنازة يجوز البناء والاستخلاف ويصح فيها اقتداء المتوضئ بالمتيمم كما في غيرها من الصلاة كذا في فتاوى قاضي خان من التيمم.
وفي الخلاصة من كتاب الصلاة في صحة الاقتداء، وأما اقتداء المتوضئ بالمتيمم في صلاة الجنازة فجائزة بلا خلاف ا هـ. وذكر الجلابي في كتاب الصلاة له أن من به وجع في رأسه لا يستطيع معه مسحه يسقط فرض المسح في حقه ا هـ. وهذه مسألة مهمة أحببت ذكرها لغرابتها وعدم وجودها في غالب الكتب وقد أفتى بها الشيخ سراج الدين قارئ الهداية أستاذ المحقق كمال الدين بن الهمام، وبه اندفع ما كان قد توهم قبل الوقوف على هذا النقل أنه يتيمم لعجزه عن استعمال الماء، وليس بعد النقل إلا الرجوع إليه.
ولعل الوجه فيه أن يجعل عادما لذلك العضو حكما فتسقط وظيفته كما في المعدوم حقيقة بخلاف ما إذا كان ببعض الأعضاء المغسولة جراحة، فإنه يغسل الصحيح ويمسح على الجريح؛ لأن المسح عليه كالغسل لما تحته؛ ولأن التيمم مسح فلا يكون بدلا عن مسح، وإنما هو بدل عن غسل والرأس ممسوح؛ ولهذا لم يكن التيمم في الرأس وسيأتي في آخر باب المسح على الخفين لهذا زيادة تحقيق إن شاء الله تعالى.
وفي القنية مسافران انتهيا إلى ماء فزعم أحدهما نجاسته فتيمم وزعم الآخر طهارته فتوضأ ثم جاء متوضئ بماء مطلق وأمهما ثم سبقه الحدث في صلاته فذهب قبل الاستخلاف وأتم كل واحد منهما صلاة نفسه، ولم يقتد بصاحبه جاز؛ لأنه يعتقد أن صاحبه محدث، وبه أفتى أئمة بلخ، وهو حسن. ا هـ.
 

باب المسح على الخفين
_________________
" باب المسح على الخفين "
ذكره بعد التيمم؛ لأن كلا منهما طهارة مسح وقدمه عليه لثبوته بالكتاب، وهذا ثابت بالسنة على الصحيح كما سيأتي.
والمسح لغة إمرار اليد على الشيء واصطلاحا عبارة عن رخصة مقدرة جعلت للمقيم يوما وليلة وللمسافر ثلاثة أيام ولياليها.

 

ج / 1 ص -351-       ...............................
_________________
والخف في الشرع اسم للمتخذ من الجلد الساتر للكعبين فصاعدا وما ألحق به وسمي الخف خفا من الخفة؛ لأن الحكم خف به من الغسل إلى المسح ثم يحتاج هنا إلى معرفة ستة أشياء: أحدهما: أصل المسح. والثاني: معرفة مدته. والثالث: معرفة الخف الذي يجوز عليه المسح. والرابع: معرفة ما ينتقض به المسح. والخامس: معرفة حكمه إذا انتقض. والسادس: معرفة صورته. وقد ذكرها المصنف فبدأ بالأول فقال:
" صح " أي جاز المسح على الخفين والصحة في العبادات على ما في التوضيح كونها بحيث توجب تفريغ الذمة فالمعتبر في مفهومها اعتبارا أوليا إنما هو المقصود الدنيوي، وهو تفريغ الذمة، وإن كان يلزمها الثواب مثلا، وهو المقصود الأخروي لكنه غير مقصود في مفهومه اعتبارا أوليا والوجوب كون الفعل بحيث لو أتى به يثاب ولو تركه يعاقب فالمعتبر في مفهومه اعتبارا أوليا هو المقصود الأخروي، وإن كان يتبعه المقصود الدنيوي كتفريغ الذمة ونحوه ا هـ. واختلف مشايخنا هل جوازه ثابت بالكتاب أو بالسنة فقيل بالكتاب عملا بقراءة الجر، فإنها لما عارضت قراءة النصب حملت على ما إذا كان متخففا وحملت قراءة النصب على ما إذا لم يكن متخففا واختاره في غاية البيان وقال الجمهور: لم يثبت بالكتاب، وهو الصحيح بدليل قوله
{إلى الكعبين}؛ لأن المسح غير مقدر بهذا بالإجماع والصحيح أن جوازه ثبت بالسنة كذا ذكره المصنف في المستصفى.
واختاره صاحب المجمع معللا بأن الماسح على الخف ليس ماسحا على الرجل حقيقة ولا حكما؛ لأن الخف اعتبر مانعا سراية الحدث إلى القدم فهي طاهرة وما حل بالخف أزيل بالمسح فهو على الخف حقيقة وحكما وحملوا قراءة الجر عطفا على المغسول والجر للمجاورة وقد جاءت السنة بجوازه قولا وفعلا حتى قال أبو حنيفة ما قلت بالمسح حتى جاءني فيه مثل ضوء النهار وعنه أخاف الكفر على من لم ير المسح على الخفين؛ لأن الآثار التي جاءت فيه في حيز التواتر وقال أبو يوسف خبر المسح يجوز نسخ الكتاب به لشهرته وقال أحمد ليس في قلبي شيء من المسح فيه أربعون حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رفعوا وما وقفوا وعن الحسن البصري أدركت سبعين نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون المسح على الخفين ومن لم ير المسح عليهما جائزا من الصحابة فقد صح رجوعهم كابن عباس وأبي هريرة وعائشة وقال شيخ الإسلام الدليل على أن منكر المسح ضال مبتدع ما روي أن أبا حنيفة سئل عن مذهب أهل السنة والجماعة فقال هو أن تفضل الشيخين وتحب الختنين وترى المسح على الخفين.

 

ج / 1 ص -352-       ...............................
_________________
وإنما لم يجعله واجبا؛ لأن العبد مخير بين فعله وتركه كذا قالوا.
وينبغي أن يكون المسح واجبا في مواضع منها إذا كان معه ماء لو غسل به رجليه لا يكفي وضوءه ولو مسح على الخفين يكفيه، فإنه يتعين عليه المسح ومنها ما لو خاف خروج الوقت لو غسل رجليه، فإنه يمسح ومنها إذا خاف فوت الوقوف بعرفة لو غسل رجليه ولم أر من صرح بهذا من أئمتنا لكني رأيته في كتب الشافعية وقواعدنا لا تأباه كما لا يخفى ولم يجعله مستحبا؛ لأن من اعتقد جوازه ولم يفعله كان أفضل لإتيانه بالغسل إذ هو أشق على البدن.
قال في التوشيح، وهذا مذهبنا وبه قال الشافعي ومالك ورواه ابن المنذر عن عمر بن الخطاب والبيهقي عن أبي أيوب الأنصاري أيضا وقال الشعبي والحكم وحماد والإمام أبو الحسن الرستغفني من أصحابنا أن المسح أفضل، وهو أصح الروايتين عن أحمد أما لنفي التهمة عن نفسه؛ لأن الروافض والخوارج لا يرونه، وأما للعمل بقراءة النصب والجر و عن أحمد أنهما سواء، وهو اختيار ابن المنذر احتج من فضل المسح بقوله عليه السلام في حديث المغيرة بهذا أمرني ربي رواه أبو داود والأمر إذا لم يكن للوجوب كان للندب ولنا حديث علي قال رخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث ذكره ابن خزيمة في صحيحه وكذا في

 

ج / 1 ص -353-       ...............................
_________________
حديث صفوان ذكر الرخصة والأخذ بالعزيمة أولى.
فإن قيل فهذه رخصة إسقاط لما عرف في أصول الفقه فينبغي أن لا يكون مشروعا ولا يثاب على إتيان العزيمة هاهنا إذ لا تبقى العزيمة مشروعة إذا كانت الرخصة للإسقاط كما في قصر الصلاة.
قلنا العزيمة لم تبق مشروعة ما دام متخففا أيضا والثواب باعتبار النزع والغسل، وإذا نزع صارت مشروعة وسقط سبب الرخصة في حقه أيضا فكان هذا نظير من ترك السفر سقط عنه سبب رخصة سقوط القصر وليس لأحد أن يقول إن تارك السفر آثم ا هـ. وهكذا أجاب النسفي وشراح الهداية وأكثر الأصوليين ومبنى السؤال على أنه رخصة إسقاط ومنعه الشارح الزيلعي رحمه الله وخطأهم في تمثيلهم به في الأصول؛ لأن المنصوص عليه في عامة الكتب أنه لو خاض ماء بخفه فانغسل أكثر قدميه بطل المسح وكذا لو تكلف غسلهما من غير نزع أجزأه عن الغسل حتى لا يبطل بمضي المدة فعلم أن العزيمة مشروعة مع الخف ا هـ.
ودفعه المحقق العلامة في فتح القدير بأن مبنى هذه التخطئة على صحة هذا الفرع، وهو منقول في الفتاوى الظهيرية لكن في صحته نظر، فإن كلمتهم متفقة على أن الخف اعتبر شرعا مانعا سراية الحدث إلى القدم فتبقى القدم على طهارتها ويحل الحدث بالخف فيزال بالمسح وبنوا عليه منع المسح للمتيمم والمعذورين بعد الوقت وغير ذلك من الخلافيات، وهذا يقتضي أن غسل الرجل في الخف وعدمه سواء إذا لم يبتل معه ظاهر الخف في أنه لم يزل به الحدث؛ لأنه في غير محله فلا تجوز الصلاة به؛ لأنه صلى مع حدث واجب الرفع إذ لو لم يجب والحال أنه لا يجب غسل الرجل جازت الصلاة بلا غسل ولا مسح فصار كما لو ترك ذراعيه وغسل محلا غير واجب الغسل كالفخذ ووزانه في الظهيرية بلا فرق لو أدخل يده تحت الجرموقين فمسح على الخفين وذكر فيها أنه لم يجز وليس إلا؛ لأنه في غير محل الحدث.
والأوجه في ذلك الفرع كون الأجزاء إذا خاض النهر لابتلال الخف ثم إذا انقضت المدة إنما لا يتقيد بها لحصول الغسل بالخوض والنزع إنما وجب للغسل وقد حصل ا هـ. وظاهره تسليم التخطئة لو صح الفرع وقد رد بعض المحققين التخطئة على تقدير صحة الفرع أيضا بأن هذا سهو

 

ج / 1 ص -354-       ...............................
_________________
وقع من الزيلعي؛ لأن مرادهم بالمشروعية الجواز في نظر الشارع بحيث يترتب عليه الثواب لا أن يترتب عليه حكم من الأحكام الشرعية يدل عليه تنظيرهم بقصر الصلاة، فإن أتى بالعزيمة بأن صلى أربعا وقعد على الركعتين يأثم مع أن فرضه يتم.
وتحقيق جوابه أن المترخص ما دام مترخصا لا يجوز له العمل بالعزيمة فإذا زال الترخص جاز له ذلك، فإن المسافر ما دام مسافرا لا يجوز له الإتمام حتى إذا افتتحها بنية الأربع يجب قطعها والافتتاح بالركعتين لما سيأتي في صلاة المسافر فإذا افتتحها بنية ثنتين ونوى الإقامة أثناء الصلاة تحولت إلى الأربع فالمتخفف ما دام متخففا لا يجوز له الغسل حتى إذا تكلف وغسل رجليه من غير نزع أثم، وإن أجزأه عن الغسل وإذا نزع الخف وزال الترخص صار الغسل مشروعا يثاب عليه والعجب أن هذا مع وضوحه لمن تدرب في كتب الأصول كيف خفى على فحل من العلماء الفحول ا هـ.
واعلم أن العزيمة ما كان حكما أصليا غير مبني على أعذار العباد والرخصة ما بني على أعذار العباد، وهو الأصح في تعريفهما عند الأصوليين كما عرف فيه.
واعلم أن في تتمة الفتاوى الصغرى وفي فتاوى الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل أنه إذا ابتل قدمه لا ينتقض مسحه على كل حال؛ لأن استتار القدم بالخف يمنع سراية الحدث إلى الرجل فلا يقع هذا غسلا معتبرا فلا يوجب بطلان المسح ويوافقه ما في شرح الزاهدي في سياق نقله عن البحر المحيط وعن أبي بكر العياضي لا ينتقض، وإن بلغ الماء الركبة. ا هـ.
لكن ذكر في خير مطلوب لبس خفيه على الطهارة ومسح عليهما فدخل الماء إحداهما إن وصل الكعب حتى صار جميع الرجل مغسولا يجب غسل الأخرى، وإن لم يبلغ الكعب لا ينتقض مسحه وإن أصاب الماء أكثر إحدى رجليه اختلف فيه فقد علمت صحة ما بحثه

 

ج / 1 ص -355-       ولو امرأة، لا جنبا
_________________
المحقق في فتح القدير غير أنه أقر القائل بأنه إذا انقضت المدة ولم يكن محدثا لا يجب عليه غسل رجليه على هذا القول وتعقبه تلميذه العلامة ابن أمير حاج بأنه يجب عليه غسل رجليه ثانيا إذا نزعهما أو انقضت المدة، وهو غير محدث؛ لأن عند النزع أو انقضاء المدة يعمل ذلك الحدث السابق عمله من السراية إلى الرجلين وقتئذ فيحتاج إلى مزيل له عنهما حينئذ للإجماع على أن المزيل لا يظهر عمله في حدث طارئ بعده فليتأمل ا هـ.
" قوله: ولو امرأة " أي ولو كان الماسح امرأة لإطلاق النصوص وقد قدمنا أن الخطاب الوارد في أحدهما يكون واردا في حق الآخر ما لم ينص على التخصيص، وأشار به إلى أنه يجوز للحاجة ولغيرها سفرا و حضرا
" قوله: لا جنبا " أي لا يجوز المسح على الخفين لمن وجب عليه الغسل والمحققون على أن الموضع موضع النفي فلا حاجة إلى التصوير وحاصله أنه إذا أجنب وقد لبس على وضوء وجب نزع خفيه وغسل رجليه وذكر شمس الأئمة أن الجنابة ألزمته غسل جميع البدن ومع الخف لا يتأتى ذلك وفي الكفاية صورته توضأ ولبس جوربين مجلدين ثم أجنب ليس له أن يشدهما ويغسل سائر جسده مضطجعا ويمسح عليه ا هـ. وبهذا اندفع ما في النهاية من أنه لا يتأتى الاغتسال مع وجود الخف ملبوسا.
وقيل صورته مسافر أجنب ولا ماء عنده فتيمم ولبس ثم أحدث ووجد ماء يكفي وضوءه لا يجوز له المسح؛ لأن الجنابة سرت إلى القدمين والتيمم ليس بطهارة كاملة فلا يجوز له المسح إذا لبسهما على طهارته فينزعهما ويغسلهما فإذا فعل ولبس ثم أحدث وعنده ماء يكفي للوضوء توضأ ومسح؛ لأن هذا الحدث يمنعه الخف السراية لوجوده بعد اللبس على طهارة كاملة فلو مر بعد ذلك بماء كثير عاد جنبا فإذا لم يغتسل حتى فقده تيمم له فإذا أحدث بعد ذلك وعنده ماء يكفي للوضوء توضأ وغسل رجليه؛ لأنه عاد جنبا، فإن أحدث بعد ذلك وعنده ماء للوضوء فقط توضأ ومسح.

 

ج / 1 ص -356-       ...............................
_________________
وعلى هذا تجري المسائل وقد ذكر شراح الهداية أن هذا تكلف غير محتاج إليه.
وفي فتح القدير أنه يفيد أنه يشترط لجواز المسح كون اللبس على طهارة الماء لا طهارة التيمم معللا بأن طهارة التيمم ليست بطهارة كاملة، فإن أريد بعدم كمالها عدم الرفع عن الرجلين فهو ممنوع، وإن أريد عدم إصابة الرجلين في الوظيفة حسا فيمنع تأثيره في نفي الكمال المعتبر في الطهارة التي يعقبها اللبس.
ويمكن أن يوجه الحكم المذكور بأن المسح على خلاف القياس، وإنما ورد من فعله صلى الله عليه وسلم على طهارة الماء ولم يرد من قوله ما يوسع مورده فيلزم فيه الماء قصرا على مورد الشرع وحديث صفوان صريح في منعه للجنابة. ا هـ.
وهو ما رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان وابن خزيمة بسند صحيح عن صفوان بن عسال قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا سفرا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليها لا عن جنابة ولكن عن بول وغائط وروي إلا من جنابة في كتب الحديث المشهورة وروي بحرف النفي وكلاهما صحيح ولكن المشهور رواية إلا الاستثنائية ووقع في كتب الفقه ولكن عن بول أو غائط أو نوم بأو والمشهور في كتب الحديث بالواو كذا ذكر النووي.
وفي معراج الدراية معزيا إلى المجتبى سألت أستاذي نجم الأئمة البخاري عن صورته فقال توضأ ولبس خفيه ثم أجنب ليس له أن يشد خفيه فوق الكعبين ثم يغتسل ويمسح وما ذكروا من الصور ليس بصحيح؛ لأن الجنابة لا تعود على الأصح ا هـ. ولم يتعقبه ولا يخفى ضعفه، فإنهم صرحوا بأن التيمم ينتقض برؤية الماء، فإن كان جنبا وتيمم عادت الجنابة برؤية الماء، وإن كان محدثا عاد الحدث والذي يدلك على أن الصورة المتقدمة تكلف أنها لا تناسب وضع المسألة إذ وضعها عدم جواز المسح للجنب في الغسل وما ذكر إنما هو عدم جوازه في الوضوء فليتنبه لذلك وفي شرح منية المصلي قوله من كل حدث موجب للوضوء احترازا من الجنابة، وما في معناها مما يوجب الغسل كالحيض على أصل أبي يوسف في حق المرأة إذا كانت مسافرة؛ لأن أقل الحيض عنده يومان وليلتان وأكثر اليوم الثالث والنفاس، فإنه لا ينوب المسح على الخفين في هذه الأحداث عن غسل الرجلين لعدم جعل الخف مانعا من سرايتها إلى الرجل شرعا كما صرح به في الجنابة حديث صفوان المتقدم ويقاس الحيض والنفاس في ذلك عليها إن لم يكن فيها إجماع ا هـ.

 

ج / 1 ص -357-       إن لبسهما على وضوء تام وقت الحدث
_________________
وإنما جعل الحيض مبنيا على أصل أبي يوسف لظهور أنه لا يتأتى على أصلهما، فإنها إذا توضأت ولبست الخفين ثم أحدثت وتوضأت ومسحت ثم حاضت كان ابتداء المدة من وقت الحدث، فإذا انقطع الدم لثلاثة أيام انتقض المسح قبلها فلا يتصور أن يمنع المسح لأجل غسل الحيض؛ لأنه امتنع لانتقاضه بمضي المدة، وإن لبستهما في الحيض فغسل الرجلين واجب لفوات شرط المسح، وهو لبس الخفين على طهارة والمقصود تصوير المسألة بحيث لا يكون مانع من مسح الخفين سوى وجوب الاغتسال وصورة عدم مسح النفساء أنها لبست على طهارة ثم نفست وانقطع قبل ثلاثة، وهي مسافرة أو قبل يوم وليلة، وهي مقيمة.
" قوله: إن لبسهما على وضوء تام وقت الحدث " يعني المسح جائز بشرط أن يكون اللبس على طهارة كاملة وقت الحدث.
وذكره التمام لدفع توهم النقصان الذاتي له كما إذا بقي لمعة لم يصبها الماء لا للاحتراز عن طهارة أصحاب الأعذار بالنسبة إلى ما بعد الوقت إذا توضئوا ولبسوا مع وجود الحدث الذي ابتلوا به كما مشى عليه غير واحد من المشايخ وعن طهارة التيمم وبنبيذ التمر على القول بتعين الوضوء به عند وجوده وفقد الماء المطلق الطهور، فإنه في الحقيقة لا نقص في شيء من هذه الطهارات بل هي ما بقي شرطها كالتي بالماء المطلق الطهور في حق الأصحاء.
وتحرير المسح لأصحاب الأعذار أنه إذا كان العذر غير موجود وقت الوضوء واللبس، فإنه يمسح كالأصحاء حتى إذا كان مقيما فيوما وليلة من وقت الحدث العارض له على الطهارة المذكورة بعد اللبس، وإن كان مسافرا فثلاثة أيام ولياليها من وقت الحدث المذكور؛ لأن الحدث المذكور صادف لبسهما على طهارة كاملة مطلقا فجاز له المسح في الوقت وبعده إلى تمام المدة بخلاف ما إذا لبس بطهارة العذر بأن وجد العذر مقارنا للوضوء أو للبس أو لكليهما أو فيما بينهما واستمر على ذلك حتى لبس، فإنه حينئذ إنما يمسح في الوقت كلما توضأ الحدث غير ما ابتلى به ولا يمسح خارج الوقت بناء على ذلك اللبس؛ لأن الحدث في هذه الصورة صادف بالنسبة إلى الوقت لبسا على طهارة كاملة بدليل أن الشارع ألحق ذلك الحدث الذي ابتلى به بالعدم فيه حتى جوز له أداء الصلاة معه فيه وصادف بالنسبة إلى خارج الوقت لبسا على غير طهارة بدليل أن الشارع لم يجوز له أداء الصلاة فيه، وإن لم يوجد منه حدث آخر.
فإن هذه آية عمل الحدث السابق عمله إذ خروج الوقت ليس بحدث حقيقة بالإجماع فبان أن اللبس في حقه حصل لا على طهارة فلا جرم إن جاز له المسح في الوقت لا خارجه.

 

ج / 1 ص -358-       ...............................
_________________
فحاصله أنه لا يمسح بعد خروج الوقت في ثلاثة أحوال ويمسح في حال واحدة وأما في الوقت فيمسح مطلقا كذا في النهاية وغيرها وشمل كلام المصنف صورا منها أن يبدأ بغسل رجليه ثم يلبسهما ثم يكمل الوضوء ومنها أن يتوضأ إلا رجليه ثم يغسل واحدة ويلبس خفها ثم يغسل الأخرى ويلبسه ومنها أن يبدأ بلبس الخفين ثم يتوضأ إلا رجليه ثم يخوض في الماء فتبتل رجلاه مع الكعبين أو عكسه بأن ابتل رجلاه ثم توضأ وفي جميع هذه الصور يجوز له المسح إذا أحدث لتمام الطهارة وقت الحدث، وإن لم يوجد وقت اللبس.
فظهر بهذا أن قوله وقت الحدث قيد لا بد منه وبه يندفع ما ذكر في التبيين من أنه زيادة بلا فائدة؛ لأن قوله أن لبسهما على وضوء يغني عنه؛ لأن اللبس يطلق على ابتداء اللبس وعلى الدوام عليه؛ ولهذا يحنث بالدوام عليه في يمينه لا يلبس هذا الثوب، وهو لابسه فيكون معناه إن وجد لبسهما على وضوء تام سواء كان ذلك اللبس ابتداء أو بالدوام عيه فلا حاجة إلى تلك الزيادة ا هـ. ووجه دفعه أن الفعل دال على الحدث ولا دلالة له على الدوام والاستمرار.
قال المحقق التفتازاني في أول المطول الاسم يدل على الدوام والاستمرار والفعل إنما يدل على الحقيقة دون الاستغراق ا هـ. فالمعنى أن الشرط حصول اللبس على طهر في الجملة عند اللبس بشرط أن تتم تلك الطهارة عند الحدث ولو لم يقيد التام بوقت الحدث لتبادر تقييده بوقت اللبس وحصول الطهر التام قبله كما هو مقتضى لفظة على وبعدما قيد بوقت الحدث لم يبق احتمال تقييده بوقت اللبس وكون الفعل أطلق على الدوام في مسألة اليمين إنما هو بطريق المجاز والكلام في تبادر المعنى الحقيقي فلولا التقييد بوقت الحدث لتبادر الفهم إلى المعنى الحقيقي.
فإن قيل المفهوم من الكتاب عدم الجواز عند كون اللبس على طهر تام وقت اللبس مع أنه ليس كذلك قلنا التام وقت الحدث أعم من التام فيه فقط والتام فيه وقبله أيضا والتام وقت اللبس يكون تاما وقت الحدث.
وقال الشافعي: لا بد من لبسهما على وضوء تام ابتداء لما في الصحيحين عن المغيرة كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فأهويت لأنزع خفيه فقال دعهما، فإني أدخلتهما طاهرتين فمسح

 

ج / 1 ص -359-       ...............................
_________________
عليهما وأهويت بمعنى قصدت ولما أخرجه ابن حبان وابن خزيمة في صحيحهما من حديث أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوما وليلة إذا تطهر فلبس خفيه أن يمسح عليهما.
ونص الشافعي على أن إسناده صحيح والبخاري على أنه حديث حسن.
والجواب أن معنى أدخلتهما أدخلت كل واحدة الخف، وهي طاهرة لا أنهما اقترنا في الطهارة والإدخال؛ لأن ذلك غير متصور عادة، وهذا كما يقال دخلنا البلد ونحن ركبان يشترط أن يكون كل واحد راكبا عند دخولها ولا يشترط أن يكون جميعهم ركبانا عند دخول كل واحد منهم ولا اقترانهم في الدخول كذا أجاب في التبيين وغيره لكن لا يصدق على الصورة الأخيرة التي ذكرناها، وهي ما إذا بدأ بلبسهما ثم توضأ إلى آخره نظرا إلى ابتداء اللبس لا إلى ما بعد الوضوء الكامل المشتمل على غسلهما بعد ذلك.
لكن أهل المذهب ليسوا بمعتدين بابتداء هذا اللبس في هذه الصورة بل إنما هم معتدون باستمراره لهما بعد الوضوء الكامل تنزيلا لاستمرار اللبس من وقته إلى حين الحدث بعده بمنزلة ابتداء لبس جديد وجد الحدث بعده على طهارة كاملة لعقلية أن المقصود وقوع المسح على خف يكون ملبوسا عند أول حدث يحدث بعد اللبس على طهارة كاملة وهذا المقصود موجود في هذه الصورة كما في الصور الأخر ألا ترى أن في الوجه الذي فعل فيه الوضوء بتمامه مرتبا لو نزع رجليه من خفيه ثم أعادهما إليهما من غير إعادة غسلهما أنه يمسح على الخفين إذا أحدث بعد ذلك قبل مضي المدة بالإجماع.
وهذا ظاهر في أنه لا أثر لعدم الإكمال قبل ابتداء اللبس في المنع من جواز المسح إذا وجد الإكمال بعد ابتداء اللبس قبل الحدث على أن كلا من الحديثين المذكورين ليس بمتعرض لعدم

 

ج / 1 ص -360-       ...............................
_________________
الجواز في هذه الصورة اللهم إلا إن كان حديث أبي بكرة بطريق مفهوم المخالفة، وهو طريق غير صحيح عند أهل المذهب على ما عرف في علم الأصول مع أن كلا منهما وما ضاهاهما يجوز أن يكون خرج مخرج البيان لما هو الأكمل في ذلك والأحسن وأهل المذهب قائلون بأن هذا الذي عينه مخالفوهم محلا للجواز نظرا إلى هذه الأحاديث هو الوجه الأكمل.
واعلم أن في قوله وقت الحدث توسعا والمراد قبيل الحدث أي متصلا به؛ لأن وقت الحدث لا يجامع الطهارة فكيف يكون ظرفا له، وإنما أراد المبالغة في اتصال الوضوء التام بالحدث حتى كأنهما في وقت واحد كذا ذكره مسكين في شرحه وقد أفصح المصنف عن مراده في الكافي فقال شرطه أن يكون الحدث بعد اللبس طارئا على وضوء تام.
وقد ذكر في التوشيح أنه لو توضأ للفجر وغسل رجليه ولبس خفيه وصلى ثم أحدث وتوضأ للظهر وصلى ثم للعصر كذلك ثم تذكر أنه لم يمسح رأسه في الفجر ينزع خفيه ويعيد الصلاة؛ لأنه تبين أن اللبس لم يكن على طهارة تامة وإن تبين أنه لم يمسح في الظهر فعليه إعادة الظهر خاصة لتيقنه أنه كان على طهارة في العصر تامة فتكون طهارته للعصر تامة ولا ترتيب عليه للنسيان وذكر في السراج الوهاج معزيا إلى الفتاوى رجل ليست له إلا رجل واحدة يجوز له المسح على الخف.
وفي البدائع لو توضأ ومسح على جبائر قدميه ولبس خفيه أو كانت إحدى رجليه صحيحة فغسلها ومسح على جبائر الأخرى ولبس خفيه ثم أحدث، فإن لم يكن برئ الجرح مسح على الخفين؛ لأن المسح على الجبائر لغسل لما تحته فحصل لبس الخفين على طهارة كاملة كما لو أدخلهما مغسولتين حقيقة في الخف، وإن كان برئ الجرح نزع خفيه؛ لأنه صار محدثا بالحدث السابق فظهر أن اللبس حصل لا على طهارة ا هـ.
وفي المحيط، وإن لبس الخف ثم مسح على الجبيرة ثم برئ يكمل مدته؛ لأنه لزمه غسل ما برئ بحدث متأخر عن اللبس، وإن لم يحدث حتى برئ فغسل موضعه ثم أحدث فله أن يمسح على خفيه لأنه لما غسل ذلك الموضع فقد كملت الطهارة فيكون الحدث طارئا على طهارة كاملة، وإن أحدث قبل أن يغسل موضع الجراحة بعد البرء لا يمسح بل ينزع الخف؛ لأن الحدث طرأ على طهارة ناقصة ا هـ.

 

ج / 1 ص -361-       يوما وليلة للمتيمم وللمسافر ثلاثا، من وقت الحدث
_________________
واعلم أنا قد قدمنا أن عدم مسح المتيمم بعد وجود الماء لم يستفد من اشتراط اللبس على الوضوء التام؛ لأن طهارة التيمم تامة لما علمت من أنها كالتي بالماء ما بقي الشرط بل؛ لأنه لو جاز المسح بعد وجود الماء لكان الخف رافعا للحدث الذي حل بالقدم؛ لأن الحدث الذي يظهر عند وجود الماء هو الذي قد كان حل به قبل التيمم لكن المسح إنما يزيل ما حل بالممسوح بناء على اعتبار الخف مانعا شرعا سراية الحدث الذي يطرأ بعده إلى القدمين، وبهذا يظهر ضعف ما في شرح الكنز من جعله طهارة التيمم ناقصة كما لا يخفى.
" قوله: يوما وليلة للمتيمم وللمسافر ثلاثا " هذا بيان لمدة المسح أي صح المسح يوما وليلة إلخ، وهذا قول جمهور العلماء منهم أصحابنا والشافعي وأحمد والحجة لهم أحاديث كثيرة صريحة يطول سردها وقد اختلف القول عن مالك في جوازه للمقيم ومشى أبو زيد في رسالته على جوازه للمقيم.
" قوله: من وقت الحدث " بيان لأول وقته ولا يعتبر من وقت المسح الأول كما هو رواية عن أحمد واختاره جماعة منهم النووي وقال؛ لأنه مقتضى أحاديث الباب الصحيحة ولا من وقت اللبس كما هو محكي عن الحسن البصري.
واختاره السبكي من متأخري الشافعية؛ لأنه وقت جواز الرخصة.
والحجة للجمهور أن أحاديث الباب كلها دالة على أن الخف جعل مانعا من سراية الحدث إلى الرجل شرعا فتعتبر المدة من وقت المنع؛ لأن ما قبل ذلك طهارة الغسل ولا تقدير فيها، فإذن التقدير في التحقيق إنما هو لمدة منعه شرعا، وإن كان ظاهر اللفظ التقدير للمسح أو اللبس والخف إنما منع من وقت الحدث.
وفي المبسوط لشمس الأئمة السرخسي وابتداؤها عقيب الحدث؛ لأنه لا يمكن اعتبار المدة من وقت اللبس، فإنه لو لم يحدث بعد اللبس حتى يمر يوم وليلة لا يجب عليه نزع الخف ولا يمكن اعتباره من وقت المسح؛ لأنه لو أحدث ولم يمسح ولم يصل أياما لا إشكال أنه لا يمسح

 

ج / 1 ص -362-       على ظاهرهما مرة
_________________
بعد ذلك فكان العدل في الاعتبار من وقت الحدث ا هـ. وكذا في النهاية ومعراج الدراية معزيا إلى مبسوط شيخ الإسلام فاستفيد منه أن مضي المدة رافع لجواز المسح أعم من كونه مسح أو لا فالأولى أن لا يجعل مضي المدة ناقضا للمسح؛ لأنه يوهم أنه إذا لم يكن هناك مسح فلا أثر لمضيها كما لا يخفى.
وثمرة الخلاف تظهر فيمن توضأ بعدما انفجر الصبح ولبس خفيه وصلى الفجر ثم أحدث بعد طلوع الشمس ثم توضأ ومسح على خفيه بعد زوال الشمس فعلى قول الجمهور يمسح إلى ما بعد طلوع الشمس من اليوم الثاني إن كان مقيما ومن اليوم الرابع إن كان مسافرا.
وعلى قول من اعتبر من وقت المسح يمسح إلى ما بعد الزوال من اليوم الثاني إن كان مقيما ومن اليوم الرابع إن كان مسافرا وعلى قول من اعتبر من وقت اللبس يمسح إلى ما بعد طلوع الفجر من اليوم الثاني إن كان مقيما ومن اليوم الرابع إن كان مسافرا وفي معراج الدراية معزيا إلى المجتبى والمقيم في مدة مسحه قد لا يتمكن إلا من أربع صلوات وقتية بالمسح كمن توضأ ولبس خفيه قبل الفجر ثم طلع الفجر وصلاها وقعد قدرا لتشهد فأحدث لا يمكنه أن يصلي من الغد على هيئة الأولى لاعتراض ظهور الحدث في آخر صلاته وقد يصلي خمسا وقد يصلي ستا كمن أخر الظهر إلى آخر الوقت ثم أحدث وتوضأ ومسح وصلى الظهر في آخر وقته ثم صلى الظهر من الغد وقد يصلي به على هذا الوجه سبعا على الاختلاف ا هـ.
" قوله: على ظاهرهما مرة " بيان لمحل المسح حتى لا يجوز مسح باطنه أو عقبه أو ساقيه أو جوانبه أو كعبه وفي المبتغى بالغين المعجمة وظهر القدم من رءوس الأصابع إلى معقد الشراك ا هـ. وفي المحيط ولا يسن مسح باطن الخف مع ظاهره خلافا للشافعي؛ لأن السنة شرعت مكملة للفرائض والإكمال إنما يتحقق في محل الفرض لا في غيره ا هـ. وفي غيره نفي الاستحباب، وهو المراد واحتج الشافعي بحديث المغيرة بن شعبة قال: وضأت رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فمسح أعلى الخف وأسفله رواه أبو داود

 

ج / 1 ص -363-       ...............................
_________________
ولنا ما رواه أبو داود والبيهقي من طرق عن علي رضي الله عنه لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه أراد أن أصول الشريعة لم تثبت من طريق القياس، وإنما طريقها التوقيف وغير جائز استعمال القياس في رد التوقيف وكان القياس أن يكون باطن الخف أولى بالمسح؛ لأنه يلاقي الأرض بما عليها من طين وتراب وقذر ولا يلاقيها ظاهره إلا أنه لم يستعمل القياس؛ لأنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح ظاهر الخف دون باطنه، وهذا يدل على أن مراده كان نفي القياس مع النص كذا ذكره الجصاص في أصوله ا هـ. كذا في غاية البيان.
وهذا يفيد كظاهر ما في النهاية وغيرها أن المراد بالباطن عندهم محل الوطء لا ما يلاقي البشرة.
وتعقبهم المحقق في فتح القدير بأنه بتقديره لا تظهر أولوية مسح باطنه لو كان بالرأي بل المتبادر من قول علي رضي الله عنه ذلك ما يلاقي البشرة، وهذا؛ لأن الواجب من غسل الرجل في الوضوء ليس لإزالة الخبث بل الحدث ومحل الوطء من باطن الرجل فيه كظاهره وكذا ما روي عن علي فيه بلفظ لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه يجب أن يراد بالأسفل الوجه الذي يلاقي البشرة؛ لأنه أسفل من الوجه الأعلى المحاذي للسماء كما ذكرنا ا هـ. وما روي أنه مسح أعلاه وأسفله فقد ضعفه الترمذي وأبو داود وغيرهما ولو صح فمعناه ما يلي الساق وما يلي الأصابع توفيقا بينه وبين حديث علي كذا في غاية البيان.
وأورد أنه ينبغي جواز مسح الأسفل والعقب؛ لأنه خلف عن الغسل فيجوز في جميع محل الغسل كمسح الرأس، فإنه يجوز في جميع الرأس، وإن ثبت مسحه عليه السلام على الناصية.

 

ج / 1 ص -364-       ...............................
_________________
وأجيب بأن فعله هنا ابتداء غير معقول فيعتبر جميع ما ورد به الشرع من رعاية الفعل والمحل بخلاف مسحه على الناصية، فإنه بيان ما ثبت بالكتاب لا نصب الشرع فيجب العمل بقدر ما يحصل به البيان، وهو المقدار؛ لأن المحل معلوم بالنص فلا حاجة إلى جعل فعله بيانا له.
وتعقب بأنه ينبغي أن يجب المسح إلى الساق رعاية لجميع ما ورد به الشرع فينبغي أن لا يجوز قدر ثلاث أصابع إلا بنص ولم يجب عنه في فتح القدير وبأنه ينبغي أنه لو بدأ من الساق لا يجوز لما ذكرنا فأجاب عن الثاني في فتح القدير بأنه لا يجب مراعاة جميع ما ورد به في محل الابتداء أو الانتهاء للعلم بأن المقصود إيقاع البلة على ذلك المحل وأجاب عن الأول في معراج الدراية بأنه روي أنه عليه السلام مسح على خفيه من غير ذكر مد إلى الساق كما روي المد فجعل المفروض أصل المسح والمد سنة جمعا بين الأدلة وتعقب بأنه ينبغي حمل المطلق على المقيد هنا لورودهما في حكم واحد في محل واحد كما في كفارة اليمين. وأجيب بأن الروايتين لا يتساويان في الشهرة بل المطلق هو المشهور دون المقيد ولئن سلمنا تساويهما لا يجب الحمل أيضا لإمكان الجمع، فإن مسحه عليه السلام لم يقتصر على مرة واحدة فلا يكون الإطلاق والتقييد في حكم واحد في حادثة واحدة بل في متعدد في نفسه فيثبت أصل المسح وسنية المد.
وتعقب بأنه ينبغي أن يستحب الجمع بين مسح الظاهر والباطن لكونهما مرويين والجمع ممكن فيثبت فرضية أصل المسح وسنية المسح على الظاهر والباطن. وأجيب بأن في إحدى الروايتين احتمالا كما قدمناه فلا تثبت السنية بالشك، وقد يقال كان ينبغي على هذا أن يكون في صوم الكفارة مطلق الصوم واجب والتتابع سنة ويكون هذا جمعا بين القراءتين؛ ولهذا والله أعلم لم يرتض المحقق في فتح القدير بما أجاب به في معراج الدراية.

 

ج / 1 ص -365-       بثلاث أصابع
_________________
وفي البدائع ما يصلح جوابا عما في فتح القدير، فإنه استدل على فرضية ثلاث أصابع بحديث علي أنه عليه الصلاة والسلام مسح على ظهر خفيه خطوطا بالأصابع قال: وهذا خرج مخرج التفسير للمسح والأصابع اسم جمع وأقل الجمع الصحيح ثلاثة فكان هذا تقديرا للمسح بثلاث أصابع اليد ا هـ. وهكذا ذكر الأقطع واستدل المصنف في المستصفى بأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يغسل خفيه فقال صلى الله عليه وسلم أما يكفيك مسح ثلاثة أصابع". ا هـ. وهذا صريح في المقصود وفي قوله مرة إشارة إلى أنه لا يسن تكراره كمسح الرأس عملا بما ورد أنه عليه السلام مسح على ظاهر خفيه خطوطا بالأصابع بطريق الإشارة إذ الخطوط إنما تكون إذا مسح مرة كذا في المستصفى.
ولم يذكر المصنف الخطوط للإشارة إلى الرد على ما يفهم من عبارة الطحاوي أنها فرض كما هو ظاهر المجتبى، فإنه ذكر أن إظهار الخطوط في المسح ليس بشرط في ظاهر الرواية ثم قال وقال الطحاوي المسح على الخفين خطوطا بالأصابع. ا هـ. والظاهر ظاهر الرواية نعم إظهار الخطوط شرط السنية.
" قوله: بثلاث أصابع " بيان لمقدار آلة المسح بطريق المنطوق ولبيان قدر الممسوح بطريق اللزوم وأراد أصابع اليد لما ذكره في المستصفى كذا أطلقه غير واحد من مشايخ المذهب وعزاه في الخلاصة إلى أبي بكر الرازي وفي الاختيار وغيره إلى محمد رحمه الله وقيدها قاضي خان بكونها من أصغر أصابع اليد وقال الكرخي ثلاث أصابع من أصابع الرجل والأول أصح كذا في كثير من الكتب؛ لأن اليد آلة المسح والثلاثة أكثر أصابعها وقد تقدم دليله من السنة من البدائع وغيرها.
وقد ذكر كثير من المشايخ أن الثلاث فرض المسح ونص عليه محمد كما في المحيط.
ومرادهم به الواجب؛ لأنه ثابت بالسنة فيكون المراد بالفرض التقدير دون الفرض الاصطلاحي، فإنه ليس ثابتا بدليل قطعي؛ ولأنه مختلف فيه كذا في التوشيح لكن لا حاجة

 

ج / 1 ص -366-       ...............................
_________________
إلى هذا؛ لأن مشايخنا يطلقون أصل الفرض على ما ثبت بظني إذا كان الجواز يفوت بفوته كغسل المرافق والكعبين وقد بيناه هناك.
وفي تقدير الفرض بثلاث أصابع إشارة إلى أنه لو قطعت إحدى رجليه وبقي منها أقل منه أو بقي ثلاث أصابع لكن من العقب لا من موضع المسح فلبس على الصحيحة أو المقطوعة لا يمسح لوجوب غسل ذلك الباقي كما لو قطعت من الكعب حيث يجب غسل الجميع ولا يمسح، وهذا التقدير لا بد منه في كل رجل فلو مسح على رجل أصبعين، وعلى الأخرى قدر خمسة لم يجز واستفيد منه أنه لو مسح بأصبع واحدة ومدها حتى بلغ مقدار الثلاث من غير أن يأخذ ماء جديدا لا يجوز ولو مسح بأصبع واحدة ثلاث مرات وأخذ لكل مرة ماء جاز إن مسح كل مرة غير الموضع الذي مسحه كأنه مسح بثلاثة أصابع كما في فتاوى قاضي خان ولو مسح بالإبهام والسبابة إن كانتا مفتوحتين جاز؛ لأن ما بينهما مقدار أصبع ولو مسح بأصبع واحدة بجوانبها الأربع فينبغي أن يجوز بالاتفاق على الأصح بخلاف مسح الرأس، فإن فيه اختلافا فصحح في الهداية الجواز بناء على التقدير بثلاث أصابع وصحح شمس الأئمة السرخسي ومن تابعه عدم الجواز بناء على التقدير بالربع وهنا لما اتفقوا في الأصح على الثلاث كان الإجزاء متفقا عليه كما لا يخفى.
وإنما قيدنا الاتفاق بالأصح؛ لأن المصنف في الكافي قال والكلام فيه كالكلام في مسح الرأس فمن شرط ثمة الربع شرط الربع هنا ومن شرط الأدنى شرطه هنا ا هـ. وفيه نظر؛ لأن هناك الراجح الربع وهنا الراجح الثلاث كما لا يخفى.
وفي منية المصلي ولو مسح برءوس الأصابع وجافى أصول الأصابع الكف لا يجوز إلا أن يكون الماء متقاطرا وفي الخلاصة ولو مسح بأطراف أصابعه يجوز سواء كان الماء متقاطرا أو لا، وهو الصحيح وما في المنية أولى مما في الخلاصة كما لا يخفى، وفي البدائع ولو مسح بثلاث أصابع منصوبة غير موضوعة ولا ممدودة لا يجوز بلا خلاف بين أصحابنا ولو أصاب موضع المسح ماء أو مطر قدر ثلاث أصابع جاز وكذا لو مشى في حشيش مبتل بالمطر ولو كان مبتلا بالطل وأصاب الخف طل قدر الواجب قيل يجوز؛ لأنه ماء وقيل لا يجوز؛ لأنه نفس دابة في البحر يجذبه الهواء والأول أصح.
وفي الخلاصة ولو مسح بظاهر كفه جاز والمستحب أن يمسح بباطن كفه. ا هـ. وكان المراد به باطن الكف والأصابع ولو قال بباطن اليد لكان أولى كذا في شرح منية المصلي

 

ج / 1 ص -367-       يبدأ من الأصابع إلى الساق
_________________
وفيه نظر؛ لأن صاحب الخلاصة نقل أنه إن وضع الكف ومدها أو وضع الكف مع الأصابع ومدها كلاهما حسن والأحسن الثاني ا هـ. فوضع الكف وحدها دون الأصابع مستحب حسن، وإن كانت مع الأصابع أحسن، ولو توضأ ومسح ببلة بقيت على كفيه بعد الغسل يجوز سواء كانت البلة قاطرة أو لم تكن كذا في فتاوى قاضي خان وغيرها وصرح في الخلاصة بأنه الصحيح ولو مسح رأسه ثم مسح خفيه ببلة بقيت على كفيه لا يجوز وكذا بماء أخذه من لحيته.
والحاصل أن البلل إذا بقي في كفيه بعد غسل عضو من المغسولات جاز المسح به؛ لأنه بمنزلة ما لو أخذه من الإناء، وإذا بقي في يده بعد مسح عضو ممسوح أو أخذه من عضو من أعضائه لا يجوز المسح به مغسولا كان ذلك العضو أو ممسوحا؛ لأنه مسح ببلة مستعملة ويستثنى من هذا الإطلاق مسح الأذنين، فإنه جائز ببلة بقيت بعد مسح الرأس بل سنة عندنا كما قدمناه والأصبع يذكر ويؤنث كذا في شرح الوقاية.
" قوله: يبدأ من الأصابع إلى الساق " بيان للسنة حتى لو بدأ من الساق إلى الأصابع أو مسح عليه عرضا جاز لحصول المقصود إلا أنه خالف السنة وكيفيته كما ذكره قاضي خان في شرح الجامع الصغير أن يضع أصابع يده اليمنى على مقدم خفه الأيمن وأصابع يده اليسرى على مقدم خفه الأيسر من قبل الأصابع فإذا تمكنت الأصابع يمدها حتى ينتهي إلى أصل الساق فوق الكعبين؛ لأن الكعبين يلحقهما فرض الغسل ويلحقهما سنة المسح، وإن وضع الكف مع الأصابع كان أحسن هكذا روي عن محمد ا هـ. ويدل للأحسنية ما رواه ابن أبي شيبة من حديث المغيرة أنه وضع يده اليمنى على خفه الأيمن ويده اليسرى على خفه الأيسر ثم مسح أعلاهما مسحة واحدة الحديث ولم يقل وضع كفه.
وفي الخلاصة وفتاوى الولوالجي وغيرهما: وتفسير المسح على الخفين أن يمسح على ظهر قدميه ما بين أطراف الأصابع إلى الساق ويفرج بين أصابعه قليلا. ا هـ. وهذا يفيد أن الأصابع غير داخلة في المحلية.
وما في الكتاب كغيره من المتون والشروح يفيد دخولها ويتفرع عليه أنه لو مسح بثلاث أصابع يده على أصابع كل رجل دون القدم فعلى ما في الكتاب يجوز لوجود المحلية وعلى ما في أكثر الفتاوى لا يجوز لعدمها.

 

ج / 1 ص -368-       والخرق الكبير يمنعه
_________________
وقد صرح به قاضي خان في فتاويه فقال رجل له خف واسع الساق إن بقي من قدمه خارج الساق في الخف مقدار ثلاث أصابع سوى أصابع الرجل جاز مسحه، وإن بقي من قدمه خارج الساق في الخف مقدار ثلاث أصابع بعضه من القدم وبعضه من الأصابع لا يجوز المسح عليه حتى يكون مقدار ثلاث أصابع كلها من القدم ولا اعتبار للأصابع ا هـ فليتنبه لذلك والله الموفق للصواب.
" قوله: والخرق الكبير يمنعه " قال المصنف في المستصفى يجوز بالباء بنقطة من تحت والثاء بثلاث من فوق والتفاوت بينهما أن الأول يستعمل في الكمية المتصلة والثاني في المنفصلة والثاني منقول عن العالم الكبير بدر الدين ا هـ. وفي المغرب أن الكثرة خلاف القلة وتجعل عبارة عن السعة ومنها قولهم الخرق الكثير ا هـ. فأفاد أن الكثير يستعمل للكمية المنفصلة أيضا وصحح في السراج الوهاج رواية المثلثة بدليل قول القدوري، وإن كان أقل وفي شرح منية المصلي عن خواهر زاده الصحيح الرواية بالباء الموحدة؛ لأن في الكم المنفصل تستعمل الكثرة والقلة وفي الكم المتصل يستعمل الكبر والصغر والخف كم متصل فلا يذكر إلا الكبير لا الكثير ا هـ. وقد علمت عن المغرب استعمال الكثير لهما والأمر في ذلك قريب، وعلى التقدير الأول أورد عليه أن الخرق واحد فكيف يوصف بالكثرة. وأجيب بأنه اسم مصدر، وهو يقع على القليل والكثير ثم كون الخرق الكبير مانعا دون القليل قول علمائنا الثلاثة، وهو استحسان.
والقياس أن يمنع القليل أيضا، وهو قول زفر والشافعي في الجديد؛ لأنه لما ظهر شيء من القدم، وإن قل ظهر غسله لحلول الحدث به والرجل في حق الغسل غير متجزئة فوجب غسلها كلها.
ووجه الاستحسان أن الخفاف لا تخلو عن قليل الخرق عادة والشرع علق المسح بمسمى الخف، وهو الساتر المخصوص الذي يقطع به المسافة وما كان كذلك، فهذا المعنى موجود فيه والاسم مطلقا يطلق عليه فكان ذلك اعتبارا للخرق عدما بخلاف الخف المشتمل على الكثير، فإن هذا المعنى معدوم فيه وإن ترك في التعبير عنه باسم الخف تقييده بمخروق فهو مراد للمطلق معنى فليس بخف مطلق؛ ولأنه لا تقطع المسافة به إذ لا يمكن تتابع المشي فيه والخف مطلقا

 

ج / 1 ص -369-       وهو قدر ثلاث أصابع القدم أصغرها
_________________
ما تقطع به فليس به وأيضا الحرج لازم على اعتبار الأول إذ غالب الخفاف لا تخلو عنه عادة والحرج منتف شرعا بقي الأمر محتاجا إلى الحد الفاصل بين القليل والكثير فبينه.
قوله " وهو قدر ثلاث أصابع القدم أصغرها " أي الخرق الكبير؛ لأن هذا القدر إذا انكشف منع من قطع المسافة؛ ولأنه أكثر الأصابع وللأكثر حكم الكل.
ثم اختلفوا فروى الحسن عن أبي حنيفة أن المعتبر كونها من اليد ثم في اعتبارها مضمومة أو منفرجة اختلاف المشايخ ذكره في الأجناس وقال محمد: في الزيادات من أصابع الرجل أصغرها وصححه صاحب الهداية كغيره واعتبر الأصغر للاحتياط، وإنما اعتبر على هذا أصابع الرجل في الخرق وأصابع اليد في المسح؛ لأن الخرق يمنع قطع السفر وتتابع المشي وأنه فعل الرجل فأما فعل المسح، فإنه يتأدى باليد والرجل محله وإضافة الفعل إلى الفاعل دون المحل هي الأصل ولا عدول عن الأصل بلا موجب ولا موجب هنا.
وفي مقطوع الأصابع يعتبر الخرق بأصابع غيره وقيل بأصابع نفسه لو كانت قائمة كذا في التبيين والأوجه الثاني؛ لأن من الأصابع ما يكون طويلا ويكون قصيرا فلا يعتبر بأصابع غيره كما لا يخفى وفي السراج الوهاج وكبر القدم دليل على كبرها وصغره دليل على صغرها فيعرف من هذا الوجه. ا هـ.
وإنما يعتبر الأصغر إذا انكشف موضع غير موضع الأصابع، وأما إذا انكشف الأصابع نفسها يعتبر أن ينكشف الثلاث أيتها كانت ولا يعتبر الأصغر؛ لأن كل أصبع أصل بنفسها فلا يعتبر بغيرها حتى لو انكشف الإبهام مع جارتها وهما قدر ثلاث أصابع من أصغرها يجوز المسح، وإن كان مع جارتها لا يجوز، وهذا هو الأصح كذا في تتمة الفتاوى الصغرى وحكى القدوري عن الحاكم أنه جعل الإبهام كأصبعين، وهو مردود كذا في شرح منية المصلي.
والخرق المانع هو المنفرج الذي يرى ما تحته من الرجل أو يكون منضما لكن ينفرج عند المشي أو يظهر القدم منه عند الوضع بأن كان الخرق عرضا، وإن كان طولا يدخل فيه ثلاث أصابع وأكثر لكن لا يرى شيئا من القدم ولا ينفرج عند المشي لصلابته لا يمنع المسح ولو انكشفت الظهارة وفي داخلها بطانة من جلد أو خرقة مخروزة بالخف لا يمنع والخرق أعلى الكعب لا

 

ج / 1 ص -370-       ويجمع في خف لا فيهما
_________________
يمنع؛ لأنه لا عبرة بلبسه والخرق في الكعب وما تحته هو المعتبر في المنع ولو كان الخرق تحت القدم فإن كان أكثر القدم منعه كذا في الاختيار وذكره الزيلعي عن الغاية بلفظ قيل وعلله بأن مواضع الأصابع يعتبر بأكثرها فكذا القدم وتعقبه في فتح القدير بأنه لو صح هذا التعليل لزم أن لا يعتبر قدر ثلاث أصابع أصغرها إلا إذا كان عند أصغرها؛ لأن كل موضع حينئذ إنما يعتبر بأكثره ا هـ.
وظاهره اختيار اعتبار ثلاث أصابع مطلقا، وهو ظاهر المتون كما لا يخفى حتى في العقب، وهو اختيار السرخسي.
وفي فتاوى قاضي خان هذا إذا كان الخرق في مقدم الخف أو في أعلى القدم أو أسفله، وإن كان الخرق في موضع العقب إن كان يخرج أقل من نصف العقب جاز عليه المسح، وإن كان أكثر لا يجوز وعن أبي حنيفة في رواية أخرى يمسح حتى يبدو أكثر من نصف العقب ا هـ. وعلى هذه الرواية مشى في شرح الجامع الصغير مقتصرا عليها فقال: وإن كان الخرق من مؤخر الخف بإزاء العقب، فإن كان يبدو منه أكثر العقب منع المسح، وإلا فلا ا هـ. وفي اعتبار المصنف الأصابع تبعا لصاحب الهداية ردا لما اختاره صاحب البدائع وشمس الأئمة السرخسي، فإنهما قالا واختلف مشايخنا فيما إذا كان يبدو ثلاثة من الأنامل والأصح أنه لا يجوز المسح عليه ا هـ. وصحح ما في الكتاب صاحب الهداية والنهاية والمحيط والأنامل أطراف الأصابع والقدم من الرجل ما يطأ عليه الإنسان من لدن الرسغ إلى ما دون ذلك، وهي مؤنثة والعقب بكسر القاف مؤخر القدم.
" قوله: ويجمع في خف لا فيهما " أي ويجمع الخروق في خف واحد لا في خفين حتى لو كان الخرق في خف واحد قدر أصبعين في موضع أو موضعين وفي الآخر قدر أصبع جاز المسح عليهما بعد أن يقع المقدار الواجب على الخف نفسه، فإن الظاهر أنه لو مسح مقدار ثلاث أصابع من أصغر أصابع اليد على الصحيح منه وعلى ما ظهر من الخرق اليسير كما في هذه المسألة أنه لا يجوز؛ لأن المسح على ما ظهر من الخرق ليس بمسح على الخف حقيقة ولا حكما أما حقيقة فظاهر، وأما حكما؛ فلأن الخرق المذكور إنما جعل عفوا في جواز المسح على خف هو فيه لكن لا بحيث يكون ما يقع على ما ظهر منه محسوبا من القدر الواجب لما تقدم من أنه إنما اعتبر عفوا فيه؛ لأن في اعتباره مانعا من المسح حرجا لازما لما ذكرنا ولا حرج في عدم احتساب ما يقع من المسح على ما ظهر منه من القدر الواجب لعدم العسر في فعله على غيره.
فظهر أن عدم اعتباره مانعا من المسح على خف هو فيه للضرورة وأنه لا ضرورة

 

ج / 1 ص -371-       بخلاف النجاسة والانكشاف
_________________
لاحتساب ما يقع إليه من القدر الواجب من المسح وما ثبت بالضرورة يتقدر بقدرها كذا في شرح منية المصلي وإذ امتنع المسح على أحدهما بجمع الخروق المتفرقة امتنع المسح على الآخر لما عرف حتى يلبس مكان المتخرق ما يجوز المسح عليه وهذا الحكم المذكور في الكتاب هو المشهور في المذهب.
وقد بحث المحقق كمال الدين بحثا عليه فقال لقائل أن يقول لا داعي إلى جمع الخروق، وهو اعتبارها كأنها في مكان واحد لمنع المسح؛ لأن امتناعه فيما إذا اتحد المكان حقيقة لانتفاء معنى الخف بامتناع قطع المسافة المعتادة به لا لذاته ولا لذات الانكشاف من حيث هو انكشاف، وإلا لوجب الغسل في الخرق الصغير، وهذا المعنى منتف عند تفرقها صغيرة كقدر الحمصة والفولة لإمكان قطعها مع ذلك وعدم وجوب غسل البادي ا هـ. وقد قواه تلميذه ابن أمير حاج بأن هذه الدراية موافقة لرواية عن أبي يوسف مذكورة في خزانة الفتاوى وفي بعض شروح المجمع أنه لا يجمع الخرق سواء كان في خف أو خفين ا هـ. وقد رأيت في التوشيح أن هذه الرواية قول أبي يوسف وجعل الجمع قول محمد ا هـ. ولا شك أن هذه الدراية أولى مما في المحيط من أن الخروق المتعددة في الخف قدر ثلاثة أصابع تمنع من تتابع المشي فيه إذ لا يخفى ما فيه من المنع الظاهر.
ومما في البدائع من أن الخرق إنما منع جواز المسح لظهور مقدار فرض المسح فإذا كان متفرقا في الخفين لم يظهر مقدار فرض المسح من كل منهما، فإن ظهور مقدار فرض المسح من كل منهما لا يظهر له أثر في المنع بعد إمكان قطع المسافة به وتتابع المشي فيه وبقاء شيء من ظهر القدم يقع فيه مقدار الواجب من المسح فكان الظاهر ما بحثه المحقق والله أعلم وأقل الخرق الذي يجمع ما يدخل فيه المسلة وأما ما دونه فلا يعتبر إلحاقا بمواضع الخرز ذكره في جوامع الفقه.
" قوله: بخلاف النجاسة والانكشاف " أي بخلاف النجاسة المتفرقة حيث تجمع، وإن كانت متفرقة في خفيه أو ثوبه أو بدنه أو مكان أو في المجموع وبخلاف انكشاف العورة المتفرق كانكشاف شيء من فرج المرأة وشيء من ظهرها وشيء من فخذها وشيء من ساقها حيث يجمع لمنع جواز الصلاة؛ لأن المانع في العورة انكشاف القدر المانع وفي النجاسة هو كونه حاملا لذلك القدر المانع وقد وجد فيهما، وأما الخروق في الخف، فإنما منع لامتناع قطع المسافة معه، وهذا المعنى مفقود فيما إذا لم يكن في كل خف مقدار ثلاث أصابع إليه أشار في الهداية وقد تقدم ما فيه

 

ج / 1 ص -372-       وينقضه ناقض الوضوء، وزع خف، ومضي المدة
_________________
وسيأتي في باب شروط الصلاة كيفية الجمع وما فيه هذا وقد ذكر في الخلاصة أن النجاسة لو كانت في ثوب المصلي أقل من قدر الدرهم وتحت قدميه أقل من قدر الدرهم ولكن لو جمع بلغ أكثر من قدر الدرهم لا يجمع ولا يخفى أنه مخالف لما قدمناه، وهو مذكور في التبيين وغيره.
وفي الخلاصة أيضا والخرق في أذني الأضحية هل يجمع اختلف المشايخ فيه وأعلام الثوب تجمع ا هـ. يعني: إذا كان في الثوب أعلام من الحرير، وكانت إذا جمعت بلغت أكثر من أربع أصابع، فإنها تجمع ولا يجوز لبسه كما لا يخفى.
" قوله: وينقضه ناقض الوضوء " أي وينقض المسح كل شيء نقض الوضوء حقيقيا أو حكميا؛ لأن المسح بعض الوضوء فما نقض الكل نقض البعض وعلل في كثير من الكتب بأنه بدل عن الغسل فينقضه ناقض أصله كالتيمم وقد يقال إنه ليس ببدل كما صرح به في السراج الوهاج واختاره بعض الأفاضل؛ لأن البدل لا يجوز مع القدرة على الأصل والمسح يجوز مع القدرة على الأصل بل التحقيق أن التيمم بدل والمسح خلف.
" قوله: ونزع خف " أي وينقضه أيضا نزع خف؛ لأن الحدث السابق سرى إلى القدمين لزوال المانع ولا يلزم عليه أنه لو مسح الرأس ثم حلق الشعر حيث لا يلزمه إعادة المسح؛ لأن الشعر من الرأس خلقة فالمسح عليه مسح على الرأس كما لو مسح على الخف ثم حكه بخلاف ما نحن فيه كذا في النهاية.
" قوله: ومضي المدة " أي وينقضه أيضا مضي المدة للأحاديث الدالة على التأقيت.
واعلم أن نزع الخف ومضي المدة غير ناقض في الحقيقة، وإنما الناقض له الحدث السابق لكن الحدث يظهر عند وجودهما فأضيف النقض إليهما مجازا كما تقدم في التيمم، فإن قيل لا حدث ليسري؛ لأنه قد كان حل بالخف ثم زال بالمسح فلا يعود إلا بسببه من الخارج النجس ونحوه قلنا جاز أن يعتبر الشرع ارتفاع الحدث بمسح الخف مقيدا بمدة منعه ثم علمنا وقوع مثله في التيمم حيث اعتبر في ارتفاعه باستعماله الصعيد تقييده بمدة اعتباره عاملا أعني مدة عدم القدرة على الماء ويناسب ذلك لوصف البدلية، وهو في المسح ثابت بل هو فيه من وجهين، فإن المسح، وإن كان بالماء لكنه يدل عن وظيفة الغسل والخف عن الرجل فوجب تقييد الارتفاع فيه

 

ج / 1 ص -373-       إن لم يخف ذهاب رجله من البرد، وبعدهما غسل رجليه فقط
_________________
بمدة اعتباره بدلا يفيد ما يفيده الأصل كما تقيد في التيمم بمدة كونه بدلا يفيد ما يفيده الأصل مع أن المقام مقام الاحتياط كذا في فتح القدير.
" قوله: إن لم يخف ذهاب رجله من البرد " أي ينقضه مضي المدة بشرط أن لا يخاف على رجله العطب بالنزع.
ومفهوم أنه إذا خاف يجوز له المسح مطلقا من غير توقيت بمدة إلى أن يزول هذا الخوف وظاهره أنه لا ينتقض عند الخوف وتعقبه في فتح القدير بأن خوف البرد لا أثر له في منع السراية كما أن عدم الماء لا يمنعها فغاية الأمر أنه لا ينزع لكن لا يمسح بل يتيمم لخوف البرد وعن هذا نقل بعض المشايخ تأويل المسح المذكور بأنه مسح جبيرة لا كمسح الخف فعلى هذا يستوعب الخف على ما هو الأولى أو أكثره.
وهو غير المفهوم من اللفظ المؤول مع أنه إنما يتم إذا كان مسمى الجبيرة يصدق على ساتر ليس تحته محل وجع بل عضو صحيح غير أنه يخاف من كشفه حدوث المرض للبرد ويستلزم بطلان كلية مسألة التيمم لخوف البرد على عضو أو اسوداده ويقتضي أيضا على ظاهر مذهب أبي حنيفة جواز تركه رأسا، وهو خلاف ما يفيده إعطاؤهم حكم المسألة ا هـ. وفي معراج الدراية ولو مضت، وهو يخاف البرد على رجله بالنزع يستوعب بالمسح كالجبائر ا هـ فأفاد الاستيعاب وأنه ملحق بالجبائر لا جبيرة حقيقة وأما كلية مسألة التيمم فمخصوصة بما إذا لم يكن عليه جبيرة أو ما هو ملحق بها.
وأما جواز تركه رأسا فالمفتى به عدمه في الجبيرة كما سيأتي فكذا في الملحق بها.
وفي فتاوى قاضي خان لو تمت المدة، وهو في الصلاة ولا ماء يمضي على الأصح في صلاته إذ لا فائدة في النزع؛ لأنه للغسل ولا ماء خلافا لمن قال من المشايخ تفسد ا هـ. وفي التبيين القول بالفساد أشبه لسراية الحدث إلى الرجل؛ لأن عدم الماء لا يمنع السراية ثم يتيمم له ويصلي كما لو بقي من أعضائه لمعة ولم يجد ماء يغسلها به، فإنه يتيمم فكذا هذا ا هـ. وتبعه المحقق في فتح القدير.
" قوله: وبعدهما غسل رجليه فقط " أي بعد النزع ومضي المدة غسل رجليه فقط وليس عليه إعادة بقية الوضوء إذا كان على وضوء؛ لأن الحدث السابق هو الذي حل بقدمه وقد غسل بعده سائر الأعضاء وبقيت القدمان فقط فلا يجب عليه إلا غسلهما ولا معنى لغسل الأعضاء

 

ج / 1 ص -374-       وخروج أكثر القدم نزع
_________________
المغسولة ثانيا؛ لأن الفائت الموالاة، وهي ليست بشرط في الوضوء عندنا.
وسيأتي إن شاء الله تعالى أن الماسح على الخف إذا أحدث فانصرف ليتوضأ فانقضت مدة مسحه بطلت صلاته على الصحيح.
" قوله: وخروج أكثر القدم نزع "، وهو الصحيح كذا في الهداية، وهو قول أبي يوسف وعنه بخروج نصفه.
وعن محمد إن كان الباقي قدر محل الفرض أعني ثلاثة أصابع اليد طولا لا ينتقض، وإلا انتقض وعليه أكثر المشايخ كذا في الكافي والمعراج، وهو الصحيح كذا في النصاب وقال أبو حنيفة: إن خرج أكثر العقب يعني إذا أخرجه قاصدا إخراج الرجل بطل المسح حتى لو بدا له إعادتها فأعادها لا يجوز المسح وكذا لو كان أعرج يمشي على صدور قدميه وقد ارتفع عقبه عن موضع عقب الخف إلى الساق لا يمسح أما لو كان الخف واسعا يرتفع العقب برفع الرجل إلى الساق ويعود بوضعها، فإنه يجوز له المسح كذا في فتح القدير.
وقيده في المحيط بأنه يبقى فيه مقدار ثلاثة أصابع.
وفي البدائع وقال بعض مشايخنا: يستمشي، فإن أمكنه المشي المعتاد يبقى المسح، وإلا ينتقض، وهو موافق لقول أبي يوسف، وهو اعتبار أكثر القدم ولا بأس بالاعتماد عليه؛ لأن القصد من لبس الخف هو المشي فإذا تعذر المشي عدم اللبس فيما قصد له؛ ولأن للأكثر حكم الكل. ا هـ. وهذا تصريح بترجيح هذا القول، وهو به جدير، فإن الحكم إذا كان دائرا مع الأصل وجودا وعدما كان الاعتبار له وحينئذ يظهر أن ما قاله أبو حنيفة صحيح متجه؛ لأن بقاء العقب أو أكثرها في الساق يتعذر معه المداومة على المشي المعتاد مقدار ما يقطع به المسافة بواسطة ما فيه من الدوس على نفس الساق وقد صرح بهذا في فتح القدير وقد علم أن بنزع أحدهما يجب نزع الآخر لئلا يكون جماعا بين الأصل والخلف كذا في الكافي وغيره.
وهل ينتقض أيضا بغسل الرجل أو أكثرها فالصحيح أنه ينتقض بغسل الأكثر وذكر في السراج الوهاج أنه لا ينتقض المسح بغسل الرجل أصلا، وهو الأظهر. ا هـ. وهو موافق لما قدمناه من البحث فارجع إليه وإلى هنا صار نواقض المسح أربعة وزاد في السراج الوهاج

 

ج / 1 ص -375-       ولو مسح مقيم فسافر قبل تمام يوم وليلة مسح ثلاثا
_________________
خامسا، وهو خروج الوقت في حق صاحب العذر وقد قدمناه.
" قوله: ولو مسح مقيم فسافر قبل تمام يوم وليلة مسح ثلاثا " سواء سافر قبل انتقاض الطهارة أو بعدها قبل كمال مدة المقيم ولا خلاف في أن مدته تتحول إلى مدة المسافر في الأول وفي الثاني خلاف الشافعي.
لنا العمل بإطلاق قوله صلى الله عليه وسلم يمسح المسافر الحديث، وهذا مسافر فيمسحها بخلاف ما بعد كمال مدة المقيم؛ لأن الحدث قد سرى إلى القدم، وإنما يمسح على خف رجل لا حدث فيها إجماعا.
وأما ما استدل به الشافعي من أن هذه عبادة ابتدأت حالة الإقامة فيعتبر فيها حالة الابتداء كصلاة ابتدأها مقيما في سفينة فسافرت وصوم شرع فيه مقيما فسافر حيث يعتبر فيه حكم الإقامة فغني عن تكلف الفرق لعدم ظهور وجه الجمع بالمشترك المؤثر في الحكم كذا في فتح القدير.
وبيانه أن أئمتنا لا يرون العبادة وصفا لازما للمسح بل إذا كان الوضوء منويا والنية ليست بشرط فيه عند هم؛ ولأن المسحات في المدة بمنزلة الصيام في السفر لا بمنزلة صوم اليوم بدلالة أن فساد بعض المسحات لا يوجب فساد البعض الآخر كما في صيام أيام رمضان ولا شك في أن من سافر في أواخر رمضان يسقط عنه وجوب الأداء فيما بقي ما دام مسافرا ولا يمنع كونه مقيما في أوله من ترخصه بترك أداء الصوم في تلك الحالة فكذا كون الماسح مقيما في أول المدة لا يمنع من ترخصه رخصة المسافر بالمسح إذا كان في آخرها مسافرا.
قال في السراج الوهاج فلو أنه لما جاوز العمران قبل مضي يوم وليلة ودخل في الصلاة سبقه الحدث فيها وعاد إلى مصره ليتوضأ فمضى يوم وليلة قبل أن يعود إلى مصلاه فالقياس أن تفسد صلاته؛ لأنه لما عاد إلى مصره فقد صار مقيما وقد انقضت مدته، وهو في الصلاة ففسدت.
إلا أن الصدر الشهيد ذكر في الواقعات أن الماسح إذا انقضت مدته، وهو في حال انصرافه مع الحدث لا تبطل صلاته استحسانا ولو عاد إلى مصلاه في مسألتنا قبل مضي يوم وليلة انتقلت مدته إلى السفر ووجب عليه الإتمام في هذه الصلاة وهذه مسألة عجيبة، وهو أنه مسافر في حق المسح مقيم في حق إتمام الصلاة كذا في إيضاح الصيرفي. ا هـ. وقد علمت فيما قدمناه أن الصحيح بطلان الصلاة ومسألة الإتمام المذكورة مذكورة في الخلاصة من باب المسافر.

 

ج / 1 ص -376-       ولو أقام المسافر بعد يوم وليلة نزع، وإلا يتم يوما وليلة، وصح على الجرموق
_________________
" قوله: ولو أقام المسافر بعد يوم وليلة نزع، وإلا يتم يوما وليلة "؛ لأن رخصة السفر لا تبقى بدونه والشافعي يوافقنا في هذه على ما هو المنصوص عليه.
" قوله: وصح على الجرموق " أي جاز المسح على الجرموق لما فرغ من بيان المسح على الخف شرع في الجرموق ولا بد من بيانهما فنقول ذكر قاضي خان في فتاويه ثم الخف الذي يجوز المسح عليه ما يكون صالحا لقطع المسافة والمشي المتتابع عادة ويستر الكعبين وما تحتهما وما ليس كذلك لا يجوز المسح عليه ثم قال ويجوز المسح على الخف الذي يكون من اللبد، وإن لم يكن منعلا؛ لأنه يمكن قطع المسافة به وفي الخلاصة، وأما المسح على الخفاف المتخذة من اللبود التركية فالصحيح أنه يجوز المسح عليه ولا يجوز المسح حتى يكون الأديم على أصابع الرجل وظاهر القدمين ا هـ. فلو اتخذ خفا من زجاج أو خشب أو حديد لا يجوز المسح عليه عندنا خلافا للشافعي فيما يمكن متابعة المشي فيه بغير عصا.
وأما الجرموق فهو فارسي معرب ما يلبس فوق الخف وساقه أقصر من الخف وقال الشافعي لا يجوز المسح عليه؛ لأن الحاجة لا تدعو إليه؛ ولأن الخف بدل عن الرجل فلو جاز المسح على الجرموق لصار بدلا عن الخف والخف لا بدل له ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الموقين رواه أبو داود من حديث بلال وابن خزيمة في صحيحه والحاكم في مستدركه وصححه والطبراني في معجمه والبيهقي من حديث أنس بن مالك؛ ولأنه تبع للخف استعمالا من حيث المشي والقيام والقعود وغرضا، فإن الخف وقاية للرجل فكذا الجرموق وقاية للخف تبعا له وكلاهما تبع للرجل فصار كخف ذي طاقين، وهو بدل عن الرجل لا عن الخف لا يقال كيف بطل المسح بنزع الجرموق ولم يبطل بنزع أحد طاقي الخف؛ لأنا نقول بالمسح ظهرت أصالة الجرموق فصار نزعه كنزع الخف بخلاف نزع أحد طاقي في الخف؛ لأنه جزء من الخف لم يأخذ الأصالة أصلا كما إذا غسل رجله ثم أزال جلدها لم يجب عليه غسلها ثانيا.

 

ج / 1 ص -377-       ...............................
_________________
ولا يقال أيضا لو كان بدلا عن الرجل لكان ينبغي أن لا يجوز المسح على الخف بنزعه؛ لأنا نقول الخف لم يكن محلا للمسح حال قيام الجرموق فإذا زال صار محلا للمسح وما ذكره النووي من أن الجرموق هو الخف مخالف لما ذكره أهل اللغة كالجوهري والمطرزي، فإنهما قالا إن الجرموق والموق يلبسان فوق الخف فعلم أنهما غير الخف.
وقولهم إن الحاجة لا تدعو إليه ممنوع ومناقض لمذهبهم في الخف من الزجاج أو الحديد كما قدمناه.
ويشترط لجواز المسح على الجرموقين أن لا يحدث قبل لبسهما حتى لو لبس الخف على طهارة ثم أحدث قبل لبس الجرموق ثم لبسه لا يجوز له أن يمسح عليه سواء لبسه قبل المسح على الخف أو بعده؛ لأن حكم الحدث استقر عليه لحلول الحدث به فلا يزال بمسح غيره.
وكذا لو لبس الجرموقين قبل الحدث ثم أحدث فأدخل يده فمسح خفيه لا يجوز؛ لأنه مسح في غير محل الحدث ولو نزع أحد موقيه بعد المسح عليهما وجب مسح الخف البادي وإعادة المسح على الجرموق لانتقاض وظيفتهما كنزع أحد الخفين؛ لأن انتقاض المسح لا يتجزأ وفي بعض روايات الأصل ينزع الآخر ويمسح على الخفين.
وجه الظاهر أنه في الابتداء لو لبس على أحدهما كان له أن يمسح عليه وعلى الخف الآخر فكذا هذا.
والخف على الخف كالجرموق عندنا في سائر أحكامه كذا في الخلاصة وكذا الخف فوق اللفافة يدل عليه ما في غاية البيان من أن ما جاز المسح عليه إذا لم يكن بينه وبين الرجل حائل جاز المسح عليه إذا كان بينهما حائل كخف إذا كان تحته خف أو لفافة ا هـ. فهذا صريح في أن اللفافة على الرجل لا تمنع المسح على الخف فوقها ووقع في شرح ابن الملك عن الكافي أنه لو لم يكن خفاه صالحين للمسح لخرقهما يجوز على الموقين اتفاقا ونقل من فتاوى

 

ج / 1 ص -378-       ...............................
_________________
الشاذي أن ما يلبس من الكرباس المجرد تحت الخف يمنع المسح على الخف لكونه فاصلا وقطعة كرباس تلف على الرجل لا يمنع لأنه غير مقصود باللبس لكن يفهم مما ذكر في الكافي أنه يجوز المسح عليه؛ لأن الخف الغير الصالح للمسح إذا لم يكن فاصلا فلأن لا يكون الكرباس فاصلا أولى ا هـ. وقد وقع في عصرنا بين فقهاء الروم بالروم كلام كثير في هذه المسألة فمنهم من تمسك بما في فتاوى الشاذي وأفتى بمنع المسح على الخف الذي تحته الكرباس ورد على ابن الملك في عزوه للكافي إذ الظاهر أن المراد به كافي النسفي ولم يوجد فيه ومنهم من أفتى بالجواز، وهو الحق لما قدمناه عن غاية البيان؛ ولهذا قال يعقوب باشا: إنه مفهوم من الهداية والكافي ويدل عليه أيضا ما ذكره الشارحون في مسألة نزع الخف في الكلام مع الشافعي في قوله إنه إذا أعادهما يجوز له المسح من غير غسل الرجلين معللا بأنه لم يظهر من محل الفرض شيء.
فقالوا في الرد عليه أن قوله لم يظهر من محل الفرض شيء يشكل بما لو أخرج الخفين عن رجليه وعلى الرجلين لفافة، فإنه يبطل المسح، وإن لم يظهر من محل الفرض شيء ا هـ. فهذا ظاهر في صحة المسح على الخف فوق اللفافة.
وفي المبتغى بالغين المعجمة ولو أدخل يده تحت الجرموق ومسح على ظهر الخف لم يجز بخلاف ما لو كان الخرق المانع ظاهر الجرموق وقد ظهر الخف فله المسح على الخف أو على الجرموق؛ لأنهما كخف واحد، وإن كان الخرق يسيرا فمسح على بعض الصحيح وعلى بعض الخرق، وهو كله ثلاثة أصابع لم يجزه ا هـ.
وفي منية المصلي ولا يجوز المسح على الجرموق المتخرق، وإن كان خفاه غير متخرق ا هـ. وينبغي أن يقال إن كان الخرق في الجرموق مانعا لا يجوز المسح عليه، وإنما يجوز المسح على الخف لا غير لما علم أن المتخرق خرقا مانعا وجوده كعدمه فكانت الوظيفة للخف فلا يجوز المسح على غيره.
وقد صرح به في السراج الوهاج فقال والشرط الثاني لجواز المسح على الجرموق أن يكون الجرموق لو انفرد جاز المسح عليه حتى لو كان به خرق كثير لا يجوز المسح عليه ولا يجوز المسح على الجرموق إذا كان من كرباس ونحوه؛ لأنه لا يمكن قطع السفر وتتابع المشي عليهما كما لو لبسهما على الانفراد إلا أن يكون رقيقين يصل البلل إلى ما تحتهما من الخف

 

ج / 1 ص -379-       ...............................
_________________
فحينئذ يجوز ويكون مسحا على الخف كذا في الذخيرة وغيرها.
وفي الخلاصة وغيرها، ولو كان الجرموقان واسعين يفضل الجرموق من الخف ثلاثة أصابع فمسح على تلك الفضلة لم يجز إلا إذا مسح على الفضلة بعد أن يقدم رجليه على تلك الفضلة فحينئذ جاز ولو أزال رجليه عن ذلك الموضع أعاد المسح ا هـ. وفي التجنيس بعد أن نقل هذا عن أبي علي الدقاق قال وفيه نظر ولم يذكر وجهه وفي القنية جعل الخف كالجرموق في هذا من أنه إذا فضل من الجرموق أو الخف قدر ثلاثة أصابع لم يجز المسح عليها.
" قوله: والجورب المجلد والمنعل والثخين " أي يجوز المسح على الجورب إذا كان مجلدا أو منعلا أو ثخينا يقال جورب مجلد إذا وضع الجلد على أعلاه وأسفله وجورب منعل ومنعل الذي وضع على أسفله جلدة كالنعل للقدم وفي المستصفى أنعل الخف ونعله جعل له نعلا وهكذا في كثير من الكتب فيجوز في المنعل تشديد العين مع فتح النون كما يجوز تسكين النون وتخفيف العين وفي معراج الدراية والمنعل بالتخفيف وسكون النون والظاهر ما قدمناه كما لا يخفى وفي فتاوى قاضي خان ثم على رواية الحسن ينبغي أن يكون النعل إلى الكعبين وفي ظاهر الرواية إذا بلغ النعل إلى أسفل القدم جاز والثخين أن يقوم على الساق من غير شد ولا يسقط ولا يشف ا هـ. وفي التبيين ولا يرى ما تحته ثم المسح على الجورب إذا كان منعلا جائز اتفاقا، وإذا كان لم يكن منعلا، وكان رقيقا غير جائز اتفاقا، وإن كان ثخينا فهو غير جائز عند أبي حنيفة وقالا يجوز لما رواه الترمذي عن المغيرة بن شعبة قال توضأ النبي صلى الله عليه وسلم ومسح على الجوربين وقال حديث حسن صحيح ورواه ابن حبان في صحيحه أيضا؛ ولأنه يمكن المشي فيه إذا كان ثخينا وله أنه ليس في معنى الخف؛ لأنه لا يمكن مواظبة المشي فيه إلا إذا كان منعلا، وهو محمل الحديث وعنه أنه رجع إلى قولهما.

 

ج / 1 ص -380-       ...............................
_________________
وعليه الفتوى كذا في الهداية وأكثر الكتب؛ لأنه في معنى الخف.
فالتأويل المذكور للحديث قصر لدلالته عن مقتضاه بغير سبب فلا يسمع على أن الظاهر أنه لو كان المراد به ذلك لنص عليه الراوي، وهذا بخلاف الرقيق، فإن الدليل يفيد إخراجه من الإطلاق لكونه ليس في معنى الخف.
وما نقل من تضعيفه عن الإمام أحمد وابن مهدي ومسلم حتى قال النووي: كل منهم لو انفرد قدم على الترمذي مع أن الجرح مقدم على التعديل فلا يضر لكونه روي من طرق متعددة ذكرها الزيلعي المخرج، وهي وإن كانت كلها ضعيفة اعتضد بعضها ببعض والضعيف إذا روي من طرق صار حسنا مع ما ظهر من مسح كثير من الصحابة من غير نكير منهم على فاعله كما ذكره أبو داود في سننه.
ثم مع هذا كله لم يوجد من المعنى ما يقوى على الاستقلال بالمنع فلا جرم إن كان الفتوى على الجواز وما في البدائع من أنها حكاية حال لا عموم لها فمسلم لو لم يرد ما رواه الطبراني عن بلال قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على الخفين والجوربين وفي الخلاصة، فإن كان الجورب من مرعزى وصوف لا يجوز المسح عليه عندهم.
المرعز بميم مكسورة وقد تفتح فراء ساكنة فمهملة مكسورة فزاي مشددة مفتوحة فألف مقصورة وقد تمد مع تخفيف الزاي وقد تحذف مع بقاء التشديد الزغب الذي تحت شعر العنز كذا في شرح النقاية.
وفي المجتبى لا يجوز المسح على الجورب الرقيق من غزل أو شعر بلا خلاف ولو كان ثخينا يمشي معه فرسخا فصاعدا كجورب أهل مرو فعلى الخلاف وكذا الجورب من جلد رقيق على الخلاف ويجوز على الجوارب اللبدية وعن أبي حنيفة لا يجوز قالوا ولو شاهد أبو حنيفة صلابتها لأفتى بالجواز ويجوز على الجرموق المشقوق على ظهر القدم وله أزرار يشده عليه يسده؛ لأنه كغير المشقوق، وإن ظهر من ظهر القدم شيء فهو كخروق الخف.
قلت: وأما الخف الدوراني الذي يعتاده فقهاء زماننا، فإن كان مجلدا يستر جلدة الكعب يجوز، وإلا فلا كذا في معراج الدراية.
وفي الخلاصة المسح على الجارموق إن كان يستر القدم ولا يرى من الكعب ولا من ظهر

 

ج / 1 ص -381-       لا على عمامة وقلنسوة وبرقع وقفازين
_________________
القدم إلا قدر أصبع أو أصبعين جاز المسح عليه وإن لم يكن كذلك ولكن ستر القدم بالجلد إن كان الجلد متصلا بالجرموق بالخرز جاز المسح عليه، وإن شد بشيء لا ولو ستر القدم باللفافة جوزه مشايخ سمرقند ولم يجوزه مشايخ بخارى ا هـ. ثم ذكر التفصيل المذكور للجورق عن المجتبى في الجورب من الشعر وفيها أيضا وتفسير النعل أن يكون الجورب المنعل كجوارب الصبيان الذين يمشون عليها في ثخونة الجورب وغلظ النعل وفي فتاوى قاضي خان أن الجورق اسم فارسي لخف معروف وعامة المشايخ على أنه إذا كان يظهر من ظهر القدم قدر ثلاثة أصابع لا يجوز بعضهم جوزوا ذلك؛ لأن عوام الناس يسافرون به خصوصا في بلاد المشرق أما إذا كان يظهر منه قدر أصبع أو أصبعين، فإنه يجوز في قولهم.
" قوله: لا على عمامة وقلنسوة وبرقع وقفازين " أي يجوز المسح على هذه الأشياء العمامة والقلنسوة بفتح القاف وضم السين معروفتان والبرقع بضم الباء الموحدة وسكون الراء وضم القاف وفتحها خريقة تثقب للعينين تلبسها الدواب ونساء العرب على وجوههن والقفاز بالضم والتشديد شيء يعمل لليدين يحشى بقطن ويكون له أزرار تزر على الساعدين من البرد تلبسه المرأة في يديها وهما قفازان كما في الصحاح وقد تكون من الحلي تتخذه المرأة ليديها ورجليها ومن ذلك يقال تقفزت المرأة بالحناء إذا نقشت يديها ورجليها كما في الجمهرة لابن دريد وقد يتخذه الصائد من جلد ولبد ليغطي الأصابع والكف ثم عدم جواز المسح على هذه ما عدا العمامة لا يعرف فيه خلاف ثابت عمن يعتد به.
وفي معراج الدراية ولو مسحت على خمارها ونفذت البلة إلى رأسها حتى ابتل قدر الربع منه يجوز.
قال مشايخنا إذا كان الخمار جديدا يجوز؛ لأن ثقوب الجديد لم تسد بالاستعمال فتنفذ البلة أما إذا لم يكن جديد لا يجوز لانسداد ثقوبه، وأما على العمامة فاجمعوا على عدم جوازه إلا أحمد، فإنه أجازه بشرط أن تكون ساترة لجميع الرأس إلا ما جرت العادة بكشفه وأن يكون تحت الحنك منها شيء سواء كانت لها ذؤابة أو لم يكن وأن لا تكون عمامة محرمة فلا يجوز.

 

ج / 1 ص -382-       والمسح على الجبيرة وخرقة القرحة كالغسل
_________________
المسح على العمامة المغصوبة ولا يجوز للمرأة إذا لبست عمامة الرجل أن تمسح عليها، وإلا ظهر عند أحمد وجوب استيعابها والتوقيت فيها كالخف ويبطل بالنزع والانكشاف إلا أن يكون يسيرا مثل أن يحك رأسه أو يرفعها لأجل الوضوء.
وفي اشتراط لبسها على طهارة روايتان واستدل بما ورد من مسحه صلى الله عليه وسلم على العمامة كما رواه مسلم من حديث بلال والحجة للجمهور أن الكتاب العزيز ورد بغسل الأعضاء ومسح الرأس فلا يزاد على الكتاب بخبر شاذ بخلاف الخف، فإن الأخبار فيه مستفيضة تجوز الزيادة بمثلها على الكتاب وقد أخرج الترمذي عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر قال سألت جابر بن عبد الله عن المسح على الخفين فقال السنة يا أخي وسألته عن المسح على العمامة فقال أمس الشعر. وقال محمد بن الحسن في موطئه أخبرنا مالك قال بلغني عن جابر بن عبد الله أنه سئل عن المسح على العمامة فقال لا حتى يمس الشعر الماء قال محمد وبهذا نأخذ ثم قال أخبرنا مالك قال حدثنا نافع قال رأيت صفية بنت أبي عبيد تتوضأ وتنزع خمارها ثم تمسح برأسها قال نافع وأنا يومئذ صغير قال محمد وبهذا نأخذ لا يمسح على خمار ولا عمامة بلغنا أن المسح على العمامة كان ثم تركه كذا في غاية البيان بعد أن ذكر تأويله بأن بلالا كان بعيدا فمسح النبي صلى الله عليه وسلم على رأسه ولم يضع العمامة عن رأسه فظن بلال أنه عليه الصلاة والسلام مسح على العمامة أو أراد بلال المجاز إطلاقا لاسم الحال على المحل.
وفي معراج الدراية أن التأويل بعيد لأنه حكم يلزمه غير الرأي والصواب أن نقول إذا ثبت رواية سالما عن المعارض ثبت جواز المسح على العمامة ا هـ يعني: ولم تسلم لما قدمناه من معارضة الكتاب لها.
" قوله: والمسح على الجبيرة وخرقة القرحة كالغسل " أي لما تحتها وليس ببدل والجبيرة كما ذكره المصنف في الطلبة عيدان تربط على الجرح ويجبر بها العظام وفي المغرب جبر الكسر جبرا وجبر بنفسه جبورا والجبران في مصادره غير مذكورة والجبر غير فصيح وجبره

 

ج / 1 ص -383-       ...............................
_________________
بمعنى أجبره لغة ضعيفة، وإن قل استعمال المجبور بمعنى المجبر وقرحه قرحا جرحه، وهو قريح ومقروح ذو قرح ا هـ. وفي القاموس القرحة قد يراد بها الجراحة وقد يراد بها ما يخرج في البدن من بثور. ا هـ. وأياما كان المراد هنا فالحكم المذكور لا يختلف ثم الأصل في شرعيته على ما ذكر غير واحد من مشايخنا ما عن علي رضي الله عنه قال انكسرت إحدى زندي فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرني أن أمسح على الجبائر رواه ابن ماجه وفي إسناده عمرو بن خالد الواسطي متروك قال النووي في هذا الحديث اتفقوا على ضعفه.
وفي المغرب انكسرت إحدى زندي علي صوابه كسر أحد زنديه؛ لأن الزند مذكر والزندان عظما الساعد ونقل المصنف في المستصفى خلافا في أنه هل كان الكسر يوم أحد أو يوم خيبر وذكر الزيلعي المخرج أحاديث دالة على الجواز وضعفها ويكفي في هذا الباب ما صح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه مسح على العصابة كما ذكره الحافظ المنذري، فإن الظاهر أن الموقوف في هذا كالمرفوع، فإن الأبدال لا تنصب بالرأي والباقي استئناس لا يضره التضعيف إن تم إذا لم يقو بعضه ببعض أما إذا قوي فليستدل به كما قدمناه ولم يذكر المصنف رحمه الله صفة المسح على الجبيرة والملحق بها لوجود الاختلاف في نقل المذهب.
فاعلم أنه لا خلاف في أنه إذا كان المسح على الجبيرة يضره أنه يسقط عنه المسح؛ لأن الغسل يسقط بالعذر فالمسح أولى، وإنما الخلاف فيما إذا كان لا يضره ففي المحيط ولو ترك المسح على الجبائر والمسح يضره جاز، فإن لم يضره لم يجز تركه ولا تجوز الصلاة بدونه عند أبي يوسف ومحمد ولم يحك في الأصل قول أبي حنيفة وقيل عنده يجوز تركه.

 

ج / 1 ص -384-       ...............................
_________________
والصحيح أن عنده مسح الجبيرة واجب وليس بفرض حتى يجوز بدونه الصلاة؛ لأن الفرضية لا تثبت إلا بدليل مقطوع به وحديث علي من أخبار الآحاد فأوجب العمل به دون العلم فحكمنا بوجوب المسح عملا ولم نحكم بفساد الصلاة حال عدم المسح؛ لأن الحكم بالفساد يرجع إلى العلم، وهذا الدليل لا يوجبه ويوافقه ما في شرح الطحاوي والزيادات والذخيرة بأن المسح ليس بفرض عنده وكذا ذكر القدوري في تجريده أنه الصحيح وكذا صحح في الغاية كما في المحيط وفي التجنيس الاعتماد على أنه ليس بفرض عنده، وفي الخلاصة أن أبا حنيفة رجع إلى قولهما بعدم جواز الترك ا هـ.
ويوافقه ما ذكره صاحب المجمع في شرحه من قوله وقيل الوجوب متفق عليه، وهذا أصح وعليه الفتوى؛ لأن المسح على الجبيرة كالغسل لما تحتها ووظيفة هذا العضو الغسل عند الإمكان والمسح على الجبيرة.
عند عدمه كالتيمم وكما لا يقال إن الوضوء لا يجب عند العجز عن الماء فلا يجب التيمم كذلك لا يقال إن غسل ما تحتها ساقط فسقط المسح بل هو واجب بدليله كما وجب التيمم بدليله ا هـ.
فحاصله أنه قد اختلف التصحيح في افتراضه أو وجوبه ولم أر من صحح استحبابه على قول وقد جنح المحقق في فتح القدير إلى تقوية القول بوجوبه حيث قال ما معناه وغاية ما يفيد الوارد في المسح على الجبيرة الوجوب فعدم الفساد بتركه أقعد بالأصول وحكم على قول الخلاصة الماضي بأنه اشتهر عن أبي حنيفة شهرة نقيضه عنه ولعل ذلك معنى ما قيل إن عنه روايتين. ا هـ.
وهذا مبني على ما ذكره في المحيط من أن حكم بالفساد يرجع إلى العلم فلا يثبت بدليل ظني وفيه بحث، فإن الكلام في الصلاة مفسد لها مع أن ترك الكلام فيها ثابت بخبر الواحد، وهو قوله عليه الصلاة والسلام
"إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس" فلا يكون الحكم بالفساد من باب العلم فيجوز ثبوته بظني كذا في التوشيح.

 

ج / 1 ص -385-       ...............................
_________________
وقد يقال إن الحكم بالفساد بسبب الكلام ليس ثابتا بالحديث؛ لأنه إنما أفاد كونه محظورا فيها والاتفاق على أنه حظر يرتفع إلى الإفساد، فهو إنما ثبت بالاتفاق لا بالحديث.
ولا يخفى أنه على القول بوجوبه لا الفساد بتركه إذا لم يمسح وصلى، فإنه يجب عليه إعادة تلك الصلاة لما عرف من أن كل صلاة أديت مع ترك واجب وجبت إعادتها.
هذا وقد ذكر الشيخ أبو بكر الرازي تفصيلا على قول أبي حنيفة فقال إن كان ما تحت الجبيرة لو ظهر أمكن غسله فالمسح واجب بالأصل ليتعلق بما قام مقامه كمسح الخف وإن كان ما تحتها لو ظهر لا يمكن غسله فالمسح عليها غير واجب؛ لأن فرض الأصل قد سقط فلا يلزم ما قام مقامه كالمقطوع القدم إذا لبس الخف قال الصريفني، وهذا أحسن الأقوال.
ويؤيده ما ذكره المصنف في المصفى أن الخلاف في المجروح أما المكسور فيجب عليه المسح بالاتفاق كذا في السراج الوهاج فمبنى ما في المصفى على تفصيل الرازي لا كما توهمه في فتح القدير من أنه مبني على أن خبر المسح عن علي في المكسور. ا هـ.
وهذا كله بإطلاقة شامل لما إذا كانت الجراحة بالرأس وقد صرح به في البدائع فقال ولو كانت الجراحة على رأسه وبعضه صحيح، فإن كان الصحيح قدر ما يجوز عليه المسح، وهو قدر ثلاث أصابع لا يجوز إلا أن يمسح عليه؛ لأن المفروض من مسح الرأس هذا القدر، وهذا القدر من الرأس صحيح فلا حاجة إلى المسح على الجبائر، وإن كان أقل من ذلك لم يمسح؛ لأن وجوده وعدمه بمنزلة واحدة ويمسح على الجبائر ا هـ.
وفي المبتغى بالغين المعجمة ومن كان جميع رأسه مجروحا لا يجب المسح عليها؛ لأن المسح بدل عن الغسل ولا بدل له وقيل يجب ا هـ. والصواب هو الوجوب وقوله المسح بدل عن الغسل غير صحيح؛ لأن المسح على الرأس أصل بنفسه لا بدل كما لا يخفى وفي شرح الجامع الصغير لقاضي خان والمسح على الجبائر على وجوه إن كان لا يضره غسل ما تحته يلزمه الغسل وإن كان يضره الغسل بالماء البارد ولا يضره الغسل بالماء الحار يلزمه الغسل بالماء الحار، وإن كان يضره الغسل ولا يضره المسح يمسح ما تحت الجبيرة ولا يمسح فوقها ا هـ. قالوا ينبغي أن يحفظ هذا، فإن الناس عنه غافلون.
ولكن قال في السراج الوهاج: ولو كان لا يمكنه غسل الجراحة إلا بالماء الحار خاصة ولا

 

ج / 1 ص -386-       فلا يتوقت، ويجمع مع الغسل، ويجوز، وإن شدها بلا وضوء
_________________
يمكنه بما سواه لم يجب عليه تكلف الغسل الحار ويجزئه المسح لأجل المشقة. ا هـ. والظاهر الأول كما لا يخفى؛ ولهذا اقتصر المحقق في فتح القدير عليه ولم ينقل غيره وقيده بأن يكون قادرا عليه، وهو ظاهر.
وقد قدمنا أن المسح على الجبيرة ليس ببدل بخلاف المسح على الخفين؛ ولهذا لا يمسح على الخف في أحد الرجلين ويغسل الأخرى؛ لأنه يؤدي إلى الجمع بين الأصل والبدل ولو كانت الجبيرة على إحدى رجليه ومسح عليها وغسل الأخرى لا يكون ذلك جمعا بين الأصل والبدل.
ولهذا أيضا لو مسح على خرقة المجروحة وغسل الصحيحة ولبس الخف عليها ثم أحدث، فإنه يتوضأ وينزع الخف؛ لأن المجروحة مغسولة حكما ولا يجتمع الوظيفتان في الرجل وعلى قياس ما روي عن أبي حنيفة إن ترك المسح على الجبائر، وهو لا يضره يجوز.
ينبغي أن يجوز؛ لأنه لما سقط غسل المجروحة صارت كالذاهبة هذا إذا لبس الخف على الصحيحة لا غير، فإن لبس على الجريحة أيضا بعدما مسح على جبيرتها، فإنه يمسح عليها؛ لأن المسح عليها كالغسل لما تحتها كذا في الخلاصة، وهذا كله ظاهر في أن هذا المسح ليس ببدل عن الغسل وظاهر ما في الهداية أنه بدل وتعقبه بعض الشارحين بأنه ليس ببدل بدليل ما ذكرنا من الفرق بينه وبين مسح الخف فكان أصلا لا بدلا.
وأجيب بأنه في نفسه بدل بدليل أنه لا يجوز عند القدرة على الغسل لكن نزل منزلة الأصل لعدم القدرة عليه فكان كالأصل بخلاف المسح على الخفين، فإنه لم يعط له حكم الغسل بل هو بدل محض؛ ولهذا لو جمع بينه وبين الغسل أو بين المسح على الجبيرة يلزم الجمع بين الأصل والبدل حقيقة أو حكما.
" قوله: فلا يتوقت " أي لا يتوقت المسح على الجبيرة بوقت معين؛ لأنه كالغسل لما تحتها، وإنما قيدنا بالوقت المعين؛ لأنه مؤقت بالبرء كما سيجيء وهذه من المسائل التي يخالف فيها مسح الجبيرة مسح الخف
" قوله: ويجمع مع الغسل " أي يجمع المسح على الجبيرة مع الغسل، وقد قدمناه وهذه هي الثانية من المسائل.
" قوله: ويجوز، وإن شدها بلا وضوء "؛ لأن في اعتبارها في تلك الحالة حرجا؛ ولأن غسل

 

ج / 1 ص -387-       ويمسح على كل العصابة كان تحتها جراحة أو لا
_________________
ما تحتها سقط وانتقل إلى الجبيرة بخلاف الخف وهذه هي الثالثة، وفي تعبيره بيجوز دون يجب إشارة إلى أن المسح على الجبيرة ليس بفرض
" قوله: ويمسح على كل العصابة كان تحتها جراحة أو لا " وفيه مسألتان الأولى أن استيعاب مسح العصابة واجب، وكذا الجبيرة ولم يذكر في ظاهر الرواية وذكر فيها روايتين صاحب الخلاصة في رواية الاستيعاب شرط وفي رواية المسح على الأكثر يجوز، وعليه الفتوى وقال المصنف في الكافي: ويكتفي بالمسح على أكثرها في الصحيح لئلا يؤدي إلى إفساد الجراحة ا هـ. فكان ينبغي أن يقول في المتن ويمسح على أكثر العصابة كما لا يخفى.
الثانية جواز المسح على جميع العصابة ولا يشترط أن تكون الجراحة تحت جميعها بل يكفي أن تكون تحت بعضها جراحة، وهذا ليس على إطلاقه وقد بينه في المحيط فقال إذا زادت الجبيرة على رأس الجرح إن كان حل الخرقة وغسل ما تحتها يضر بالجراحة يمسح على الكل تبعا، وإن كان الحل والمسح لا يضر بالجرح لا يجزئه مسح الخرقة بل يغسل ما حول الجراحة ويمسح عليها لا على الخرقة، وإن كان يضره المسح ولا يضره الحل يمسح على الخرقة التي على رأس الجرح ويغسل حواليها وتحت الخرقة الزائدة إذ الثابت بالضرورة يتقدر بقدرها ا هـ. قال المحقق في فتح القدير ولم أر لهم ما إذا ضره الحل لا المسح لظهور أنه حينئذ يمسح على الكل ا هـ. ولا يخفى أنه يستفاد من عبارة المحيط، فإنه اعتبر في القسم الأول ضرر الحل مطلقا سواء ضره المسح معه أو لا ولا فرق بين الجراحة وغيرها كالكي والكسر؛ لأن الضرورة تشمل الكل ومن ضرر الحل أن تكون الجراحة في موضع لو زال عنه الجبيرة أو الرباط لا يمكنه أن يشد ذلك بنفسه، فإنه يجوز له المسح على الجبيرة والرباط، وإن كان لا يضره المسح على الجراحة ذكره قاضي خان في فتاويه.
ولا يعرى إطلاقه عن بحث، فإنه لو أمكنه أن يستعين بغيره في شدها على الوجه المشروع ينبغي أن يتعين عليه ذلك كما لا يخفى ثم قد عرف من هذا أنه كان ينبغي للمصنف أن يقول ويمسح على أكثر العصابة ونحوها، وإن لم يكن تحت بعضها جراحة إن ضره الحل وشمل كلامه عصابة المفتصد.
وفي الخلاصة وإيصال الماء إلى الموضع الذي لم تستره العصابة بين العصابة فرض؛ لأنها بادية ا هـ. ومنهم من قال لا ويكفيه المسح وعليه مشى في مختارات النوازل وفي الذخيرة وغيرها، وهو الأصح؛ لأنه لو كلف غسل ذلك الموضع ربما تبتل جميع العصابة وتنفذ البلة إلى موضع الفصد فيتضرر.

 

ج / 1 ص -388-       وإن سقطت عن برء بطل، وإلا لا
_________________
وفي تتمة الفتاوى الصغرى، وإذا علم يقينا أن موضع الفصد قد انسد يلزمه غسل ذلك الموضع ولا يجزئه المسح ا هـ. وفي إمامة المفتصد بغيره أقوال ثالثها أنه لا يؤم على الفور ويؤم بعد زمان وظاهر ما في فتاوى قاضي خان اختيار الجواز مطلقا.
ولو انكسر ظفره فجعل عليه دواء أو علكا أو أدخل جلده مرارة أو مرهما، فإن كان يضر نزعه مسح عليه، وإن ضره المسح تركه، وإن كان بأعضائه شقوق أمر الماء عليها إن قدر، وإلا تركه وغسل ما حوله كذا في فتح القدير وغيره وفي المغرب الشقاق بالضم تشقيق الجلد ومنه طلى شقاق رجله، وهو خاص وأما الشق لواحد الشقوق فعام.
" قوله:، وإن سقطت عن برء بطل، وإلا لا " أي إن سقطت الجبيرة عن برء بطل المسح لزوال العذر، وإن لم يكن السقوط عن برء لا يبطل المسح لقيام العذر المبيح للمسح والبرء خلاف السقم، وهو الصحة.
وتمام الجواب في هذه المسألة على ما في عامة الكتب أن الجبيرة إن سقطت عن برء، فإن كان خارج الصلاة، وهو متطهر غسل موضع الجبيرة ولا يجب عليه غسل باقي الأعضاء، وإن كان في الصلاة، فإن كان بعدما قعد قدر التشهد فهي إحدى المسائل الاثني عشر الآتية في موضعها، وإن كان قبل القعود غسل موضعها واستقبل الصلاة؛ لأنه ظهر حكم الحدث السابق على الشروع فصار كأنه شرع من غير غسل ذلك الموضع، وإن سقطت عن غير برء لم يبطل المسح سواء كان في الصلاة أو خارجها حتى أنه إذا كان في الصلاة مضى عليها ولا يستقبل؛ ولهذا إذا أعادها أو غيرها لا يجب عليه إعادة المسح عليها والأحسن أن يعيد المسح كذا في الخلاصة وفتاوى قاضي خان والولوالجي؛ لأن المسح على الأولى كان بمنزلة الغسل فعلى هذا ما في الذخيرة عن أبي يوسف رجل به جرح يضره إمساس الماء فعصبه بعصابتين ومسح على العليا ثم رفعها قال يمسح على العصابة الباقية بمنزلة الخفين والجرموقين ولا يجزئه حتى يمسح ا هـ. ليس بظاهر بل الظاهر مما قدمناه أن الإعادة مستحبة لا واجبة.
ومن الغريب ما نقله الزاهدي في القنية أنها إذا سقطت من غير برء لا يبطل المسح عند أبي حنيفة ويبطل عندهما ا هـ. ولم يتعرض المصنف لما إذا برئ موضع الجبيرة ولم تسقط قال الزاهدي ولم يذكر في عامة كتب الفقه إذا برأ موضع الجبائر ولم تسقط وذكر في الصلاة للتقي الكرابيسي أنه بطل المسح ا هـ.

 

ج / 1 ص -389-       ...............................
_________________
وينبغي أن يقال هذا إذا كان مع ذلك لا يضره إزالتها أما إذا كان يضره لشدة لصوقها به ونحوه فلا والله سبحانه أعلم والدواء كالجبيرة إذا أمر الماء عليه ثم سقط كان على التفصيل.
ثم اعلم أن المسح على الجبيرة يخالف المسح على الخف من وجوه الأول: أن الجبيرة لا يشترط شدها على وضوء بخلاف الخف. الثاني: أن مسح الجبيرة غير مؤقت بوقت معين بخلاف الخف. الثالث: أن الجبيرة إذا سقطت عن غير برء لا ينتقض المسح بخلاف الخف. الرابع: إذا سقطت عن برء لا يجب إلا غسل ذلك الموضع إذا كان على وضوء بخلاف الخف، فإنه يجب عليه غسل الرجلين. الخامس: أن الجبيرة يستوي فيها الحدث الأكبر والأصغر بخلاف الخف. سادسها: أن الجبيرة يجب استيعابها في المسح في رواية بخلاف الخف، فإنه لا يجب رواية واحدة هكذا ذكر الزيلعي، وقد يزاد عليها أيضا فنقول. السابع: إن الصحيح وجوب مسح أكثر الجبيرة بخلاف الخف. الثامن: أنهم اختلفوا هل يشترط تكرار مسح الجبيرة فمنهم من شرط المسح ثلاثا إلا أن تكون الجراحة في الرأس فلا يلزمه تكرار المسح ومنهم من قال التكرار ليس بشرط ويجوز له أن يمسح مرة واحدة كمسح الرأس والخفين، وهو الأصح عند علمائنا كذا في الذخيرة بخلاف مسح الخف لم يشترط تكراره اتفاقا.
التاسع: أنه إذا مسح عليها ثم شد عليها أخرى أو عصابة جاز المسح على الفوقاني بخلاف الخف إذا مسح عليه لا يجوز على الفوقاني كما قدمناه. العاشر: إذا دخل الماء تحت الجبائر لا يبطل المسح بخلاف الخف ذكره الزاهدي.
الحادي عشر: أن النية لا تشترط فيه باتفاق الروايات بخلاف المسح على الخف كما سيأتي. الثاني عشر: إذا زالت العصابة الفوقانية التي مسح عليها لا يعيد المسح على التحتانية كما قدمناه بخلاف الخف.
الثالث عشر: إذا كان الباقي من العضو المعصوب أقل من ثلاثة أصابع كاليد المقطوعة والرجل جاز المسح عليها بخلاف المسح على الخفين كما قدمناه. الرابع عشر: أن مسح الجبيرة ليس ثابتا بالكتاب اتفاقا بخلاف مسح الخف، فإن فيه خلافا كما قدمناه. الخامس عشر: أن مسح الجبيرة يجوز تركه في بعض الروايات بخلاف المسح على الخفين، فإنه لا يجوز تركه مع إرادة عدم الغسل.

 

ج / 1 ص -390-       ولا يفتقر إلى النية في مسح الخف والرأس
_________________
" قوله: ولا يفتقر إلى النية في مسح الخف والرأس " على الصحيح؛ لأنهما ليسا بعبادة على أصلنا؛ لأن النية لا تشترط إلا فيما هو عبادة أو وسيلة دل الدليل على اشتراطها فيها كالتيمم ولم يوجد فيما نحن فيه.
وبهذا ظهر ضعف ما في جوامع الفقه أن النية شرط في مسح الخف والله سبحانه وتعالى أعلم

باب الحيض
________________
" باب الحيض ".
اختلف الشارحون في التعبير عن الحيض والنفاس بأنهما من الأحداث أو الأنجاس فمنهم من ذهب إلى الثاني ومنهم من ذهب إلى الأول وهو الأنسب؛ لأن المصنف يقول بعد هذا باب الأنجاس.
ولما فرغ من الأحداث التي يكثر وقوعها ذكر ما هو أقل وقوعا منه، ولقب الباب بالحيض دون النفاس لكثرته أو لكونه حالة معهودة في بنات آدم دون النفاس، كذا في العناية لكن الظاهر من كلام المصنف أنه من الأنجاس بدليل التعريف، وأفرده لاختصاصه بأحكام على حدة، وقدمه لكثرة مناسبته بالأحداث حتى كانت الأحكام المختصة بالأحداث ثابتة له، ولا يضر اختصاص نوع من النجس بأحكام وبهذا اندفع ما في النهاية كما لا يخفى والظاهر أنه لا ثمرة لهذا الاختلاف.
واعلم أن باب الحيض من غوامض الأبواب خصوصا من المتحيرة وتفاريعها ولهذا اعتنى به المحققون وأفرده محمد في كتاب مستقل.
ومعرفة مسائل الحيض من أعظم المهمات لما يترتب عليها ما لا يحصى من الأحكام كالطهارة والصلاة وقراءة القرآن والصوم والاعتكاف والحج والبلوغ والوطء والطلاق والعدة والاستبراء وغير ذلك من الأحكام وكان من أعظم الواجبات؛ لأن عظم منزلة العلم بالشيء بحسب منزلة ضرر الجهل به وضرر الجهل بمسائل الحيض أشد من ضرر الجهل بغيرها فيجب الاعتناء بمعرفتها وإن كان الكلام فيها طويلا فإن المحصل يتشوف إلى ذلك ولا التفات إلى كراهة أهل البطالة، ثم الكلام فيه في عشرة مواضع في تفسيره لغة وشرعا وسببه وركنه وشرطه وقدره وألوانه وأوانه ووقت ثبوته والأحكام المتعلقة به.

 

ج / 1 ص -391-       وهو دم ينفضه رحم امرأة سليمة عن داء وصغر
_________________
أما تفسيره لغة فقال أهل اللغة أصله السيلان يقال حاض الوادي أي سال فسمي حيضا لسيلانه في أوقاته وقال الأزهري الحيض دم يرخيه رحم المرأة بعد بلوغها في أوقات معتادة، ويقال حاضت المرأة تحيض حيضا ومحيضا ومحاضا فهي حائض بحذف التاء؛ لأنه صفة المؤنث خاصة فلا تحتاج إلى علامة التأنيث بخلاف قائمة ومسلمة هذه اللغة الفصيحة المشهورة.
وحكى الجوهري عن الفراء أنه يقال أيضا حائضة وله عشرة أسماء حيض وطمث بالمثلثة وضحك وإكبار وإعصار ودراس وعراك وفراك بالفاء وطمس بالسين المهملة ونفاس وزاد بعضهم " طمت " بالمثناة وطمء بالهمزة، وأما تفسيره شرعا بناء على أنه من الأنجاس.
فما ذكره المصنف بقوله " وهو دم ينفضه رحم امرأة سليمة عن داء وصغر " فدخل في قوله دم غير المعرف وشمل الدم الحقيقي والحكمي، وخرج بقوله ينفضه رحم امرأة دم الرعاف والجراحات وما يكون منه لا من آدمية، وما يخرج من الدبر من الدم فإنه ليس بحيض لكن يستحب لها أن تغتسل عن انقطاع الدم، فإن أمسك زوجها عن الإتيان أحب إلي، كذا في الخلاصة.
ولم تخرج الاستحاضة؛ لأن المراد بالرحم هنا الفرج، وإنما خرج بقوله " سليمة " عن داء أي داء برحمها، وإنما قيدنا به؛ لأن مرض المرأة السليمة الرحم لا يمنع كون ما تراه في عادتها مثلا حيضا كما لا يخفى وخرج به النفاس أيضا؛ لأن بالرحم داء بسبب الولادة وهذا أولى مما قالوا: إن النفاس خرج به؛ لأن النفساء في حكم المريضة حتى اعتبر تبرعاتها من الثلث فإن ظاهره أن مرض المرأة يمنع كونها حائضا، وقد علمت خلافه، وقد خرج به أيضا ما تراه الصغيرة فإنه دم استحاضة لكن قال بعضهم: إن ما تراه المرأة قبل استكمال تسع سنين فهو دم فساد ولا يقال له استحاضة؛ لأن الاستحاضة لا تكون إلا على صفة لا تكون حيضا، ولهذا قال الأزهري الاستحاضة سيلان الدم في غير أوقاته المعتادة؛ فلهذا ذكر ما يخرج ما تراه الصغيرة بقوله وصغر.
وبهذا التقرير يندفع ما ذكره في فتح القدير من أن هذا التعريف لا يخلو عن تكرار واستدراك؛ لأن لفظ الصغر مستدرك، والاستحاضة تكرر إخراجها لخروجها بذكر الرحم وسليمة عن داء وتعريفه بلا استدراك ولا تكرر دم من الرحم لا لولادة. ا هـ. وقد سبقه إلى هذا التعريف صاحب البدائع.

 

ج / 1 ص -392-       ...............................
_________________
وفي الظهيرية والخنثى إذا خرج منه المني والدم فالعبرة للمني دون الدم، ثم هذا التعريف بناء على أن مسمى الحيض خبث، أما إذا كان مسماه الحدث الكائن عن الدم المحرم للتلاوة والمس كاسم الجنابة للحدث الخاص لا للماء الخاص فتعريفه مانعية شرعية بسبب الدم المذكور عما اشترط فيه الطهارة وعن الصوم والمسجد والقربان، وقد جزم صاحب النهاية بأنه من الأحداث لا الأنجاس وعرفه بما في الكتاب فكان تناقضا منه. وأما سببه فقد قيل إن أمنا حواء عليها السلام حين تناولت من شجرة الخلد فابتلاها الله تعالى بذلك وبقي هو في بناتها إلى يوم التنادي بذلك السبب.
وثبت في الصحيح عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحيض
"هذا شيء كتبه الله على بنات آدم" قال البخاري في صحيحه قال بعضهم: أول ما أرسل الحيض على بني إسرائيل قال البخاري وحديث النبي صلى الله عليه وسلم أكبر، قال النووي يعني أنه عام في جميع بني آدم.
وأما ركنه فهو بروز الدم من محل مخصوص حتى تثبت الأحكام به.
وعن محمد بالإحساس به.
وثمرته تظهر فيما لو توضأت ووضعت الكرسف ثم أحست بنزول الدم إليه قبل الغروب ثم رفعته بعده تقضي الصوم عنده خلافا لهما يعني إذا لم يحاذ حرف الفرج الداخل، فإن حاذته البلة من الكرسف كان حيضا ونفاسا اتفاقا، وكذا الحدث بالبول ولو وضعته ليلا فلما أصبحت رأت الطهر تقضي العشاء فلو كانت طاهرة فرأت البلة حين أصبحت تقضيها أيضا إن لم تكن صلتها قبل الوضع إنزالا لها طاهرة في الصورة الأولى من حين وضعته وحائضا في الثانية حين رفعته أخذا بالاحتياط فيهما وهذا أولى مما ذكره في النهاية من أن ركنه امتداد دور الدم من قبل المرأة؛ لأن ركن الشيء ما يقوم به ذلك الشيء والحيض لا يقوم به؛ لأن الامتداد الخاص معرف له

 

ج / 1 ص -393-       ...............................
_________________
لا أنه ركن؛ لأن الامتداد لو كان ركنه لما ثبت حكمه قبله، وقد علمت أن حكمه ثبت بمجرد البروز.
وأما شرطه فتقدم نصاب الطهر حقيقة أو حكما وعدم نقصانه عن الأقل وعدم الصغر وفراغ الرحم عن الحبل الذي تنفس بوضعه؛ لأن الحامل لا تحيض، وإنما قيدنا بقولنا تنفس؛ لأنه إذا سقط منها شيء لم يستبن خلقه فما رأت فعلى هذا يكون حيضا؛ لأنه لا يعلم أنه حبل بل لحم من البطن فلا تسقط الصلاة بالشك.
والتحقيق أن له الشرطين الأولين، وأما ما تراه الحامل والصغيرة فليس من الرحم فلم يوجد الركن وعدم الصغر يعرف بتقدير أدنى مدة يحكم ببلوغها فيما إذا رأت الدم واختلف فيها على أقوال المختار منها تسع وعليه الفتوى، كذا في السراج الوهاج وإذا رأت المبتدأة في سن يحكم ببلوغها فيه تركت الصلاة والصوم وعند أكثر مشايخ بخارى وعن أبي حنيفة لا تترك حتى تستمر ثلاثة أيام، ثم الأصح أن الحيض موقت إلى سن الإياس وأكثر المشايخ قدروه بستين سنة ومشايخ بخارى وخوارزم بخمس وخمسين فما رأت بعدها لا يكون حيضا في ظاهر المذهب وفي المجتبى والفتوى في زماننا أن يحكم بالإياس عن الخمسين وفي شرح الوقاية والمختار أنها إن رأت دما قويا كالأسود والأحمر القاني كان حيضا ويبطل الاعتداد بالأشهر قبل التمام وبعده لا، وإن رأت صفرة أو خضرة أو تربية فهي استحاضة ا هـ.
وفي فتح القدير ثم إنما ينتقض الحكم بالإياس بالدم الخالص فيما يستقبل لا فيما مضى حتى لا تفسد الأنكحة المباشرة قبل المعاودة، وفي القنية قضاء القاضي ليس بشرط للحكم بالإياس وهو الأظهر حتى إذا بلغت مدة الإياس تعتد بالأشهر ولا يحتاج في ذلك إلى القضاء. ا هـ. وقد علم أوانه ووقت ثبوته وسيأتي مقداره وألوانه وأحكامه.
" قوله: وأقله ثلاثة أيام وأكثره عشرة " أي أقل الحيض ثلاثة أيام بالرفع والنصب، أما الرفع فعلى كونها خبرا لمبتدأ وعلى هذا لا بد من الإضمار لاستحالة كون الدم ثلاثة أيام فالتقدير أقل مدة الحيض.
وأما النصب فعلى الظرف ولا يخفى أنه ليس بشرط أن يكون الدم ممتدا ثلاثة أيام بحيث لا ينقطع ساعة حتى يكون حيضا؛ لأن ذلك لا يكون إلا نادرا بل انقطاع الدم ساعة أو ساعتين فصاعدا غير مبطل للحيض، كذا في المستصفى والمراد أن أقل مدته قدر ثلاثة أيام بلياليها وأكثرها قدر عشرة أيام بلياليها كما صرح به في الوافي.

 

ج / 1 ص -394-       ...............................
_________________
وإنما حذفه هنا؛ لأن ذكر الأيام بلفظ الجمع يتناول مثلها من الليالي قال الله تعالى
{ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً}[آل عمران:41] وقال في موضع آخر {ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً}[مريم:10] والقصة واحدة وهذا هو ظاهر الرواية حتى لو رأت عند طلوع الفجر يوم السبت وانقطع عند غروب الشمس يوم الاثنين لا يكون حيضا وعن أبي يوسف روايتان الأولى وهي قوله إنه مقدر بيومين وأكثر الثالث وهو سبع وستون ساعة على ما في العناية عن النوادر. الثانية أنه مقدر بثلاثة أيام وليلتين على ما في التجنيس وفي غيره أنه رواية الحسن عن أبي حنيفة، وفي البدائع رواية الحسن ضعيفة؛ لأن كل واحد من عدد الأيام والليالي منصوص عليه فلا يجوز أن ينقص عنه، وقال الشافعي وأحمد أقله يوم وليلة وأكثره خمسة عشر يوما لقوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش "دم الحيض أسود يعرف فإذا كان كذلك فامسكي عن الصلاة" رواه أبو داود وغيره بأسانيد صحيحة قال النووي وهذه الصفة موجودة في اليوم والليلة.
ولنا قوله صلى الله عليه وسلم "أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة أيام" هكذا ذكره أصحابنا وخرجه الزيلعي المخرج من حديث أبي أمامة ووائلة ومعاذ وأبي سعيد الخدري وأنس بن مالك وعائشة بطرق ضعيفة وأطال الكلام فيها قال في فتح القدير بعد سردها فهذه عدة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم متعددة الطرق وذلك يرفع الضعيف إلى الحسن، والمقدرات الشرعية مما لا تدرك بالرأي فالموقوف فيها حكمه الرفع بل تسكن النفس بكثرة ما روي فيه عن الصحابة والتابعين إلى أن المرفوع مما أجاد فيه ذلك الراوي الضعيف وبالجملة فله أصل في الشرع بخلاف قولهم أكثره خمسة عشر يوما لم نعلم فيه حديثا حسنا ولا ضعيفا وإنما تمسكوا فيه بما رووه عنه عليه الصلاة والسلام قال في صفة النساء
"تمكث إحداكن شطر عمرها لا تصلي" وهو لو صح لم يكن فيه حجة، قال البيهقي: إنه لم يجده وقال ابن الجوزي في

 

ج / 1 ص -395-       فما نقص من ذلك أو زاد استحاضة، وما سوى البياض الخالص حيض
_________________
التحقيق هذا حديث لا يعرف وأقره عليه صاحب التنقيح. ا هـ.
وقال النووي في شرح المهذب إنه حديث باطل لا يعرف، وإنما ثبت في الصحيحين "تمكث الليالي ما تصلي" ا هـ.
واحتج الطحاوي للمذهب بحديث أم سلمة إذ سألت عن المرأة تهراق الدماء فقال عليه السلام "لتنظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر فلتترك قدر ذلك من الشهر، ثم تغتسل وتصلي" فأجابها بذكر عدد الليالي والأيام من غير أن يسألها عن مقدار حيضها قبل ذلك وأكثر ما يتناوله الأيام عشرة وأقله ثلاثة. ا هـ.
وأما ما استدلوا به على أقله فلا دليل فيه؛ لأنه لما جاز أن تكون الصفة موجودة في اليوم والليلة جاز وجودها فيما دونه فلم لم يجعله حيضا.
" قوله: فما نقص من ذلك أو زاد استحاضة " أي ما نقص من الأقل أو زاد على الأكثر فهو استحاضة؛ لأن هذا الدم إما أن يكون دم حيض أو نفاس أو استحاضة فانتفى الأولان فتعين الثالث ولأن تقدير الشرع يمنع إلحاق غيره به
" قوله: وما سوى البياض الخالص حيض " لما فرغ من بيان كميته شرع في بيان كيفيته اعلم أن ألوان الدماء ستة: السواد والحمرة والصفرة والكدرة والخضرة والتربية وهي التي على لون التراب نوع من الكدرة وهي نسبة إلى الترب بمعنى التراب.

 

ج / 1 ص -396-       ...............................
_________________
ويقال تربية بتشديد الياء وتخفيفها بغير همزة وتريبة مثل تريعة وتربية بوزن ترعية وقيل هي من الرئة؛ لأنها على لونها، كذا في المغرب ويقال أيضا الترابية وكل هذه الألوان حيض في أيام الحيض إلى أن ترى البياض وعند أبي يوسف لا تكون الكدرة حيضا إذا رأتها في أول أيام الحيض وإذا رأتها في آخرها تكون حيضا؛ لأنها لو كانت دم رحم لتأخرت عن الصافي.
ولهما ما روي عن مولاة عائشة قالت كان النساء يبعثن إلى عائشة بالدرجة التي فيها الكرسف فيه الصفرة من دم الحيض لتنظر إليه فتقول لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء تريد بذلك الطهر من الحيض رواه مالك في الموطإ والقصة بفتح القاف وتشديد الصاد المهملة وذكره البخاري تعليقا بصيغة الجزم فصح بهذا اللفظ عن عائشة. وذكر في الصحيح والسنن عن أم عطية قالت كنا لا نعد الكدرة والصفرة بعد الطهر شيئا وهذا يدل على أنهما في أيام الحيض حيض؛ لأنها قيدت بما بعد الطهر.
وفي التجنيس امرأة رأت بياضا خالصا على الخرقة ما دام رطبا فإذا يبس اصفر فحكمه حكم البياض؛ لأن المعتبر حال الرؤية لا حالة التغير بعد ذلك. ا هـ. وكذا لو رأت حمرة أو صفرة فإذا يبست أبيضت يعتبر حالة الرؤية لا حالة التغير بعد ذلك. ا هـ. ومن المشايخ من أنكر الخضرة فقال لعلها أكلت قصيلا استبعادا لها قلنا هي نوع من الكدرة ولعلها أكلت نوعا من البقول.
وفي الهداية، وأما الخضرة فالصحيح أن المرأة إذا كانت من ذوات الأقراء يكون حيضا ويحمل على فساد الغذاء، وإن كانت آيسة لا ترى غير الخضرة يحمل على فساد المنبت فلا يكون حيضا. ا هـ.
وفي البدائع قال بعضهم الكدرة والتربة والصفرة والخضرة إنما تكون حيضا على

 

ج / 1 ص -397-       ...............................
_________________
الإطلاق من غير العجائز، أما في العجائز فينظر إن وجدتها على الكرسف ومدة الوضع قريبة فهي حيض، وإن كانت مدة الوضع طويلة لم تكن حيضا؛ لأن رحم العجوز يكون منتنا فيتغير الماء فيه لطول المكث وما عرفت الجواب في هذه الأبواب من الحيض فهو الجواب فيها في النفاس؛ لأنها أخت الحيض. ا هـ.
وفي معراج الدراية معزيا إلى فخر الأئمة لو أفتى مفت بشيء من هذه الأقوال في مواضع الضرورة طلبا للتيسير كان حسنا ا هـ.
وفي فتح القدير ومقتضى المروي في الموطإ والبخاري أن مجرد الانقطاع دون رؤية القصة لا يجب معه أحكام الطاهرات وكلام الأصحاب فيما يأتي كله بلفظ الانقطاع حيث يقولون وإذا انقطع دمها فكذا، مع أنه قد يكون انقطاع بجفاف من وقت إلى وقت ثم ترى القصة، فإن كانت الغاية القصة لم تجب تلك الصلاة، وإن كان الانقطاع على سائر الألوان وجبت وأنا متردد فيما هو الحكم عندهم بالنظر إلى دليلهم وعباراتهم في إعطاء الأحكام. والله أعلم. ورأيت في مروي عبد الوهاب عن يحيى بن سعيد عن ريطة مولاة عمرة عن عمرة أنها كانت تقول للنساء إذا أدخلت إحداكن الكرسف فخرجت متغيرة فلا تصلي حتى لا ترى شيئا وهذا يقتضي أن الغاية الانقطاع. ا هـ.
وقد يقال هذا التردد لا يتم إلا إذا فسرت القصة بأنها بياض ممتد كالخيط.
والظاهر من كلامهم ضعف هذا التفسير فقد قال في المغرب قال أبو عبيدة معناه أن تخرج القطنة أو الخرقة التي تحتشي بها المرأة كأنها قصة لا تخالطها صفرة ولا تربية، ويقال: إن القصة شيء كالخيط الأبيض يخرج بعد انقطاع الدم كله ويجوز أن يراد انتفاء اللون وأن لا يبقى منه أثر ألبتة فضرب رؤية القصة مثلا لذلك؛ لأن رائي القصة غير رائي شيء من سائر ألوان الحائض. ا هـ.
فقد علمت أن القصة مجاز عن الانقطاع وأن تفسيرها بأنها شيء كالخيط ذكره بصيغة يقال الدالة على التمريض ويدل على أن المراد بها الانقطاع آخر الحديث وهو قوله تريد بذلك الطهر من الحيض، فثبت بهذا أن دليلهم موافق لعباراتهم كما لا يخفى.

 

ج / 1 ص -398-       يمنع صلاة وصوما
_________________
وفي شرح الوقاية ثم وضع الكرسف مستحب للبكر في الحيض وللثيب في كل حال وموضعه موضع البكارة ويكره في الفرج الداخل. ا هـ.
وفي غيره أنه سنة للثيب حالة الحيض مستحبة حالة الطهر ولو صلتا بغير كرسف جاز.
" قوله:: يمنع صلاة وصوما " شروع في بيان أحكامه فذكر بعضها ولا بأس ببيانها، فنقول: إن الحيض يتعلق به أحكام: أحدها يمنع صحة الطهارة، وأما أغسال الحج فإنها تأتي بها؛ لأن المقصود منها التنظيف لا الطهارة، وأما تحريم الطهارة عليها فمنقول في شرح المهذب للنووي، وأما أئمتنا فقالوا: إنه يستحب لها أن تتوضأ لوقت كل صلاة وتقعد على مصلاها تسبح وتهلل وتكبر وفي رواية يكتب لها ثواب أحسن صلاة كانت تصلي.
وصحح في الظهيرية أنها تجلس مقدار أداء فرض الصلاة كي لا تنسى العادة. الثاني: يمنع وجوب الصلاة وهو ظاهر ما في الكتاب وظاهر ما في القدوري أيضا فإنه قال: والحيض يسقط. فأفاد ظاهرا عدم تعلق أصل الوجوب بها وهذا لأن تعلقه يستتبع فائدته، وهي إما الأداء أو القضاء والأول منتف لقيام الحدث مع العجز عن رفعه والثاني كذلك فضلا منه تعالى دفعا للحرج اللازم بإلزام القضاء لتضاعف الواجبات خصوصا فيمن عادتها أكثره فانتفى الوجوب لانتفاء فائدته لا لعدم أهليتها للخطاب، ولذا تعلق بها خطاب الصوم لعدم الحرج إذ غاية ما تقضي في السنة خمسة عشر يوما إذا كان حيضها عشرة.
وبهذا اندفع ما في النهاية ومعراج الدراية وغيرهما من أن قوله يسقط يقتضي سابقة الوجوب عليها ويقولون أنه قول أبي زيد وأما على قول عامة المشايخ لا يجب، وقد نقل النووي الإجماع على سقوط وجوب الصلاة عنها. الثالث: يحرمها. الرابع: يمنع صحتها. الخامس: يحرم الصوم. السادس - يمنع صحته. وأما أنه يمنع وجوبه فلا لما قدمنا وسيأتي إيضاحه. السابع: يحرم مس المصحف وحمله. الثامن: يحرم قراءة القرآن. التاسع: يحرم دخول المسجد. العاشر: يحرم سجود التلاوة والشكر ويمنع صحته. الحادي عشر: يحرم الاعتكاف. الثاني عشر: يمنع صحته. الثالث عشر: يفسده إذا طرأ عليه. الرابع عشر: يحرم الطواف من جهتين دخول المسجد وترك الطهارة له. لكن لا يمنع صحته كما هو المشهور من مذهبنا فاندفع به ما نقله النووي في شرح المهذب من نقل الإجماع على عدم صحة طوافها مطلقا. الخامس عشر: يمنع وجوب طواف الصدر. السادس عشر: يحرم الوطء وما هو في حكمه. السابع عشر: يحرم الطلاق. الثامن عشر: تبلغ به الصبية. التاسع عشر: يتعلق به انقضاء العدة. العشرون:

 

ج / 1 ص -399-       فتقضيه دونها
_________________
يتعلق به الاستبراء. الحادي والعشرون: يوجب الغسل بشرط الانقطاع على ما حققناه. الثاني والعشرون: لا يقطع التتابع في صوم كفارة القتل والفطر بخلاف كفارة اليمين ونحوها حيث تقطع على ما حققه الإمام الدبوسي في التقويم.
وهذه الأحكام كلها متعلقة بالنفاس إلا خمسة: وهي انقضاء العدة والاستبراء والحكم ببلوغها والفصل بين طلاقي السنة والبدعة وعدم قطع التتابع في الصوم فإن هذه مختصة بالحيض فظهر بما قررناه أن ما في النهاية ومعراج الدراية وغيرهما من أن أحكام الحيض والنفاس اثنا عشر ثمانية مشتركة وأربعة مختصة بالحيض ليس بجامع.
ثم هذه الأحكام التي ذكرناها منها ما يتعلق ببروز الدم على المذهب المختار وعند محمد بالإحساس ومنها ما يتعلق بنصاب الحيض لكن يستند إلى ابتدائه ومنها ما يتعلق بانقضائه فالثاني هو الحكم ببلوغها ووجوب الغسل.
والثالث هو انقضاء العدة والاستبراء وبقية الأحكام متعلقة بالقسم الأول.
" قوله: فتقضيه دونها " أي فتقضي الصوم لزوما دون الصلاة لما في الكتب الستة عن معاذة قالت سألت عائشة فقلت ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة فقالت أحرورية أنت قلت لست بحرورية ولكني أسأل قالت كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة وعليه انعقد الإجماع ولأن في قضاء الصلاة حرجا بتكررها في كل يوم وتكرر الحيض في كل شهر بخلاف الصوم حيث يجب في السنة شهرا واحدا والمرأة لا تحيض عادة في الشهر إلا مرة فلا حرج، وإنما وجب عليها قضاء الصوم، وإن نفست رمضان كله؛ لأن وجوده في رمضان كله نادر فلا يعتبر.
وذكر في آخر الفتاوى الظهيرية أن حكمته أن حواء لما رأت الدم أول مرة سألت آدم فقال لا أعلم فأوحي إليه أن تترك الصلاة فلما طهرت سألته فقال لا أعلم فأوحي إليه أن

 

ج / 1 ص -400-       ودخول مسجد
_________________
لا قضاء عليها، ثم رأته في وقت الصوم فسألته فأمرها بترك الصوم وعدم قضائه قياسا على الصلاة فأمرها الله تعالى بقضاء الصوم من قبل أن آدم أمرها بذلك من غير أمر الله تعالى.
وفي معراج الدراية أن سبب قضائه ترك حواء السؤال له وقياسها الصوم على الصلاة فجوزيت بقضائه بسبب ترك السؤال، فإن قيل إنها غير مخاطبة بالصوم حال حيضها لحرمته عليها فكيف يجب عليها القضاء ولم يجب عليها الأداء قلنا: أما من قال من مشايخنا وغيرهم بأن القضاء يجب بأمر جديد فلا إشكال، وأما على قول الجمهور من مشايخنا أن القضاء يجب بما يجب به الأداء فانعقاد السبب يكفي لوجوب القضاء، وإن لم تخاطب بالأداء وهل يكره لها قضاء الصلاة لم أره صريحا وينبغي أن يكون خلاف الأولى كما لا يخفى. والحرورية فرقة من الخوارج منسوبة إلى حروراء قرية بالكوفة كان بها أول تحكمهم واجتماعهم.
والمراد أنها في التعمق في سؤالها كأنها خارجية؛ لأنهم تعمقوا في أمر الدين حتى خرجوا، كذا في المغرب.
" قوله: ودخول مسجد " أي يمنع الحيض دخول المسجد وكذا الجبانة وخرج بالمسجد غيره كمصلى العيد والجنائز والمدرسة والرباط فلا يمنعان من دخولها، ولهذا قال في الخلاصة المتخذ لصلاة الجنازة والعيد الأصح أنه ليس له حكم المسجد، واختار في القنية من كتاب الوقف أن المدرسة إذا كان لا يمنع أهلها الناس من الصلاة في مسجدها فهي مسجد.
وفي فتاوى قاضي خان الجبانة ومصلى الجنازة لهما حكم المسجد عند أداء الصلاة حتى يصح الاقتداء وإن لم تكن الصفوف متصلة وليس لهما حكم المسجد في حق المرور وحرمة الدخول للجنب وفناء المسجد له حكم المسجد في حق جواز الاقتداء بالإمام، وإن لم تكن الصفوف متصلة ولا المسجد ملآن. ا هـ. وأما في جواز دخول الحائض فليس للفناء حكم المسجد فيه.
وأما ما في شرح الزاهدي من أن سطح المسجد وظلة بابه في حكمه فليس على إطلاقه بل مقيد في الظلة بأنها حكمه في حق جواز الاقتداء لا في حرمة الدخول للجنب والحائض كما لا يخفى.
وقيد صاحب الدرر والغرر المنع من دخولهما المسجد بأن لا يكون عن ضرورة فقال وحرم على الجنب دخول المسجد ولو للعبور إلا لضرورة كأن يكون باب بيته إلى المسجد ا هـ.

 

 

ج / 1 ص -401-       ...............................
_________________وهو حسن، وإن خالف إطلاق المشايخ وينبغي أن يقيد بكونه لا يمكنه تحويل بابه إلى غير المسجد وليس قادرا على السكنى في غيره كما لا يخفى وإلا لم تتحقق الضرورة.
يدل عليه ما عن أفلت عن جسرة بنت دجاجة عن عائشة رضي الله عنها قالت جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد فقال وجهوا هذه البيوت عن المسجد ثم دخل ولم يصنع القوم شيئا رجاء أن تنزل فيهم رخصة فخرج إليهم فقال
"وجهوا هذه البيوت عن المسجد فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب" رواه أبو داود وابن ماجه والبخاري في تاريخه الكبير، وقد نقل الخطابي تضعيفه بسبب جهالة أفلت ورد عليه ودجاجة بكسر الدال بخلاف واحدة الدجاج وهو حجة على الشافعي في إباحته الدخول على وجه العبور وعلي أبي اليسر من أصحابنا كما في إباحة الدخول لغير الصلاة كما نقله عنه في خزانة الفتاوى.
واستدل الشافعي بقوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا}[النساء:43] بناء منه على إرادة مكان الصلاة بلفظ الصلاة مجازا فيكون المنهي عنه قربان مكان الصلاة للجنب لا حال العبور أو بناء منه على استعمال لفظ الصلاة في حقيقته ومجازه فيكون المنهي عنه قربان الصلاة وموضعها.
ولا شك أن هذا منه عدول عن الظاهر ولا موجب له إلا توهم لزوم جواز الصلاة جنبا حال كونه عابر سبيل؛ لأنه مستثنى من المنع المغيا بالاغتسال وهذا التوهم ليس بلازم لوجوب الحكم بأن المراد جوازها حال كونه عابر سبيل أي مسافرا بالتيمم؛ لأن مؤدى التركيب لا تقربوها جنبا حتى تغتسلوا لا حال عبور السبيل فلكم أن تقربوها بغير اغتسال، وبالتيمم يصدق أنه بغير اغتسال نعم مقتضى ظاهر الاستثناء إطلاق القربان حال العبور لكن يثبت اشتراط التيمم فيه بدليل آخر وليس هذا ببدع فظهر بهذا أن المراد بعابري السبيل المسافرون كما هو منقول عن أهل التفسير وعلى هذا فالآية دليلهما على منع التيمم للجنب المقيم في المصر ظاهرا، فإنه استثنى من المنع المسافرين فكان المقيم داخلا في المنع.

 

ج / 1 ص -402-       ...............................
_________________
وجوابه من قبل أبي حنيفة أنه خص حالة عدم القدرة على الماء في المصر من المنع في الآية كما أنها مطلقة في المريض وقد أجمعوا على تخصيص حالة القدرة حتى لا يتيمم المريض القادر على استعمال الماء وإجماعهم إنما كان للعلم بأن شرعيته للحاجة إلى الطهارة عند العجز عن الماء فإذا تحقق في المصر جاز وإذا لم يتحقق في المريض لا يجوز، فإن قيل في الآية دليل حينئذ على أن التيمم لا يرفع الحدث وأنتم تأبونه قلنا: قد ذكرنا أن محصلها لا تقربوها جنبا حتى تغتسلوا إلا عابري سبيل فاقربوها بلا اغتسال بالتيمم؛ لا أن المعنى فاقربوها جنبا بلا اغتسال بالتيمم، فالرفع وعدمه مسكوت عنه، ثم استفيد كونه رافعا من خارج على ما قدمناه في باب التيمم.
ويدل للمذهب أيضا ما أخرجه الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
"يا علي لا يحل لأحد يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك" وقال حديث حسن غريب.
ثم ذكر عن علي بن المنذر قلت لضرار بن صرد ما معناه قال لا يحل لأحد يستطرقه جنبا غيري وغيرك نعم تعقب تحسين الترمذي بأن في إسناده سالم بن أبي حفصة وعطية العوفي وهما ضعيفان شيعيان متهمان لكن قال الحافظ سراج الدين الشهير بابن الملقن ورواه البزار من حديث سعد بن أبي وقاص والطبراني في أكبر معاجمه من حديث أم أبي سلمة ا هـ. وقال الحافظ بن حجر، وقد ذكر البزار في مسنده أن حديث
"سدوا كل باب في المسجد إلا باب علي" جاء من روايات أهل الكوفة.
وأهل المدينة يروون إلا باب أبي بكر قال: فإن ثبتت رواية أهل الكوفة فالمراد بها هذا المعنى، فذكر حديث أبي سعيد الذي ذكرناه ثم قال يعني البزار على أن روايات أهل الكوفة جاءت من وجوه بأسانيد حسان.
وأخرج القاضي إسماعيل المالكي في أحكام القرآن عن المطلب هو ابن عبد الله بن حنطب أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن أذن لأحد أن يمر في المسجد ولا يجلس فيه وهو جنب إلا علي بن أبي طالب؛ لأن بيته كان في المسجد قال الحافظ ابن حجر وهو مرسل قوي ا هـ. فقد منعهم من

 

ج / 1 ص -403-       ...............................
_________________
الاجتياز والقعود ولم يستثن منهم غير علي خصوصية له كما خص الزبير بإباحة لبس الحرير لما شكا من أذى القمل وخص غيره بغير ذلك وما ينطق عن الهوى.
وقد صرح بهذا في خصوص ما نحن فيه فقد أخرج غير واحد من الحفاظ منهم الحاكم وقال صحيح الإسناد عن زيد بن أرقم قال كان لنفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبواب شارعة في المسجد قال فقال يوما سدوا هذه الأبواب إلا باب علي قال فتكلم في ذلك أناس قال فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه قال: أما بعد فإني أمرت بسد هذه الأبواب غير باب علي فقال فيه قائلكم وإني والله ما سددت شيئا ولا فتحته ولكني أمرت بشيء فاتبعته واعلم أن في تتمة الفتاوى الصغرى ويستوي في المنع المكث أو عبور آل محمد صلى الله عليه وسلم وغيره خلاف ما قاله أهل الشيعة إنه رخص لآل محمد صلى الله عليه وسلم الدخول في المسجد لمكث أو عبور، وإن كان جنبا لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لعلي وأهل بيته أن يمكثوا في المسجد وإن كانوا جنبا، وكذا رخص لهم لبس الحرير إلا أن هذا حديث شاذ لا نأخذ به ا هـ.
قال ابن أمير حاج والظاهر أن ما ذكره الشيعة لأهل علي في دخول المسجد ولبس الحرير اختلاق منهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما الحكم بالشذوذ على الترخيص لعلي في دخول المسجد جنبا ففيه نظر نعم قضى ابن الجوزي في موضوعاته على حديث
"سدوا الأبواب التي في المسجد إلا باب علي" بأنه باطل لا يصح وهو من وضع الرافضة، وقد دفع ذلك شيخنا الحافظ ابن حجر في القول المسدد في الذب عن مسند أحمد وأفاد أنه جاء من طرق متظافرة من روايات الثقات تدل على أن الحديث صحيح منها ما ذكرنا آنفا وبين عدم معارضته لحديث الصحيحين "سدوا الأبواب الشارعة في المسجد إلا خوخة أبي بكر" فليراجع ذلك من رام الوقوف عليه. ا هـ. وقد علم أن دخوله صلى الله عليه وسلم المسجد جنبا ومكثه فيه من خواصه وذكره النووي وقواه.

 

ج / 1 ص -404-       والطواف وقربان ما تحت الإزار
_________________
وفي منية المصلي، وإن احتلم في المسجد تيمم للخروج إذا لم يخف، وإن خاف يجلس مع التيمم ولا يصلي ولا يقرأ ا هـ. وصرح في الذخيرة أن هذا التيمم مستحب وظاهر ما قدمناه في التيمم عن المحيط أنه واجب، ثم الظاهر أن المراد بالخوف الخوف من لحوق ضرر به بدنا أو مالا كأن يكون ليلا.
" قوله: والطواف " أي ويمنع الحيض الطواف بالبيت وكذا الجنابة لما في الصحيحين أنه عليه الصلاة والسلام قال لعائشة رضي الله عنها لما حاضت بسرف اقضي ما يقضي الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تغتسلي" فكان طوافها حراما ولو فعلته كانت عاصية معاقبة وتتحلل به من إحرامها بطواف الزيارة وعليها بدنة كطواف الجنب كما سيأتي في محله إن شاء الله تعالى.
وعلل للمنع صاحب الهداية بأن الطواف في المسجد.
وكان الأولى عدم الاقتصار على هذا التعليل فإن حرمة الطواف جنبا ليس منظورا فيه إلى دخول المسجد بالذات بل لأن الطهارة واجبة في الطواف فلو لم يكن ثمة مسجد حرم عليها الطواف، كذا في فتح القدير وغيره. وقد يقال: إن حرمة الطواف عليها إنما هي لأجل كونه في المسجد.
وأما إذا لم يكن الطواف في المسجد بل خارجه فإنه مكروه كراهة تحريم لما عرف من أن الطهارة له واجبة على الصحيح فتركها يوجب كراهة التحريم ولا يوجب التحريم إلا ترك الفرض ولو حاضت بعدما دخلت وجب عليها أن لا تطوف وحرم مكثها كما صرحوا به.
" قوله: وقربان ما تحت الإزار " أي ويمنع الحيض قربان زوجها ما تحت إزارها، أما حرمة وطئها عليه فمجمع عليها لقوله تعالى:
{وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ}[البقرة:222] ووطؤها في الفرج عالما بالحرمة عامدا مختارا كبيرة لا جاهلا ولا ناسيا ولا مكرها فليس عليه إلا التوبة والاستغفار وهل يجب التعزير أم لا، ويستحب أن يتصدق بدينار أو نصفه وقيل بدينار إن كان أول الحيض ونصفه أن وطئ في آخره كأن قائله رأى أن لا معنى للتخيير بين القليل والكثير في

 

ج / 1 ص -405-       .................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
النوع الواحد ومصرفه مصرف الزكاة كما في السراج الوهاج.
وقيل: إن كان الدم أسود يتصدق بدينار، وإن كان أصفر فبنصف دينار، ويدل له ما رواه أبو داود والحاكم وصححه
"إذا واقع الرجل أهله وهي حائض إن كان دما أحمر فليتصدق بدينار، وإن كان أصفر فليتصدق بنصف دينار" وفي السراج الوهاج وإذا أخبرته بالحيض قال بعضهم: إن كانت فاسقة لا يقبل قولها، وإن كانت عفيفة يقبل قولها وترك وطأها. وقال بعضهم: إن كان صدقها ممكنا بأن كانت في أوان حيضها قبلت ولو كانت فاسقة كما في العدة وهذا القول أحوط وأقرب إلى الورع. ا هـ.
فعلم من هذا أنها إذا كانت فاسقة ولم يغلب على ظنه صدقها بأن كانت في غير أوان حيضها لا يقبل قولها اتفاقا كما قالوا في إخبار الفاسق أنه يشترط لوجوب العمل به أن يغلب على الظن صدقه.
وبهذا علم أن ما في فتح القدير من أن الحرمة تثبت بإخبارها وإن كذبها ليس على إطلاقه بل إذا كانت عفيفة أو غلب على الظن صدقها بخلاف من علق به طلاقها فأخبرته به فإنه يقع الطلاق عليه وإن كذبها مطلقا لتقصيره في تعليقه بما لا يعرف إلا من جهتها وهذا إذا وطئها غير مستحل، فإن كان مستحلا له فقد جزم صاحب المبسوط والاختيار وفتح القدير وغيرهم بكفره.
وذكره القاضي الإسبيجابي بصيغة وقيل وصحح أنه لا يكفر صاحب الخلاصة.
ويوافقه ما نقله أيضا من الفصل الثاني في ألفاظ الكفر من اعتقد الحرام حلالا أو على القلب يكفر إذا كان حراما لعينه وثبتت حرمته بدليل مقطوع به، أما إذا كان حراما لغيره بدليل مقطوع به أو حراما لعينه بأخبار الآحاد لا يكفر إذا اعتقده حلالا ا هـ. فعلى هذا لا يفتى بتكفير مستحله لما في الخلاصة أن المسألة إذا كان فيها وجوه توجب التكفير ووجه واحد يمنع فعلى المفتي أن يميل إلى ذلك الوجه. ا هـ.
وأما الاستمتاع بها بغير الجماع فمذهب أبي حنيفة وأبي يوسف والشافعي ومالك يحرم

 

ج / 1 ص -406-       ...............................
_________________
عليه ما بين السرة والركبة وهو المراد بما تحت الإزار، كذا في فتح القدير وفي المحيط وفتاوى الولوالجي وتفسير الإزار على قولهما قال بعضهم الإزار المعروف ويستمتع بما فوق السرة ولا يستمتع بما تحتها وقال بعضهم هو الاستتار فإذا استترت حل له الاستمتاع. ا هـ.
والظاهر ما اقتصر عليه في فتح القدير. وقال محمد بن الحسن وأحمد لا يحرم ما سوى الفرج واختاره من المالكية أصبغ.
ومن الشافعية النووي لما أخرج الجماعة إلا البخاري أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوها في البيوت؛ فسألت الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأنزل الله تعالى
{وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ}[البقرة:222] فقال النبي صلى الله عليه وسلم "اصنعوا كل شيء إلا النكاح" وفي رواية "إلا الجماع". وللجماعة ما عن عبد الله بن سعد سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يحل لي من امرأتي وهي حائض فقال "لك ما فوق الإزار" رواه أبو داود وسكت عليه فهو حجة وإذن فالترجيح له؛ لأنه مانع وذلك مبيح ولخبر "من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه"، وأما ترجيح السروجي

 

ج / 1 ص -407-       ...............................
_________________
قول محمد بأن دليله منطوق ودليلنا مفهوم والمنطوق أقوى فكان مقدما فغير صحيح.
أما الأول فلأنه لا يلزم أن يكون دليلنا مفهوما بل يحتمل أن يكون منطوقا فإن السائل سأل عن جميع ما يحل له من امرأته الحائض فقوله لك ما فوق الإزار معناه جميع ما يحل لك ما فوق الإزار ليطابق الجواب السؤال، وأما ثانيا فلأنه لو سلم أنه مفهوم كان هذا المفهوم أقوى من المنطوق؛ لأنه يدل على المفهوم بطريق اللزوم لوجوب مطابقة جوابه عليه السلام لسؤال السائل ولو كان هذا المفهوم غير مراد لم يطابق فكان ثبوته واجبا من اللفظ على وجه لا يقبل تخصيصا ولا تبديلا لهذا العارض والمنطوق من حيث هو منطوق يقبل ذلك فلم يصح الترجيح في خصوص المادة بالمنطوقية ولا المرجوحية بالمفهومية، وقد كان فعله صلى الله عليه وسلم على ذلك فكان لا يباشر إحداهن وهي حائض حتى يأمرها أن تأتزر متفق عليه.
وأما قوله تعالى:
{وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ}[البقرة:222] فإن كان نهيا عن الجماع عينا فلا يمتنع أن نثبت حرمة أخرى في محل آخر بالسنة، وإياك أن تظن أن هذه من الزيادة على النص بخبر الواحد؛ لأنها تقيد مطلق النص فتكون معارضة له في بعض متناولاته وما أثبتته السنة فيما نحن فيه شرع ما لم يتعرض له النص القرآني فلم يكن من باب الزيادة، وإن كان نهيا عما هو أعم من الجماع من أفراد المنهي عنه لتناوله حرمة الاستمتاع بها أعني من الجماع وغيره من الاستمتاعات، ثم يظهر تخصيص بعضها بالحديث المفيد لحل ما سوى ما بين السرة والركبة فيبقى ما بينهما داخلا في عموم النهي عن قربانه، وإن لم يحتج إلى هذا الاعتبار في ثبوت المطلوب لما بينا، كذا في فتح القدير مع بعض اختصار.
واعلم أنه كما يحرم عليه الاستمتاع بما بين السرة والركبة يحرم عليها التمكين منه ولم أر لهم صريحا حكم مباشرتها له ولقائل أن يمنعه؛ لأنه لما حرم تمكينها من استمتاعه بها حرم فعلها بالأولى ولقائل أن يجوزه؛ لأن حرمته عليه لكونها حائضا وهو مفقود في حقه فحل لها الاستمتاع به ولأن غاية مسها لذكره أنه استمتاع بكفها وهو جائز قطعا. " تنبيهات " وقع في بعض العبارات لفظ الاستمتاع وهو يشمل النظر واللمس بشهوة ووقع في عبارة كثير لفظ

 

ج / 1 ص -408-       وقراءة القرآن
_________________
المباشرة والقربان ومقتضاها تحريم اللمس بلا شهوة فبينهما عموم وخصوص من وجه والذي يظهر أن التحريم منوط بالمباشرة ولو بلا شهوة بخلاف النظر ولو بشهوة وليس هو أعظم من تقبيلها في وجهها بشهوة كما لا يخفى.
وقد علم من عباراتهم أن يجوز الاستمتاع بالسرة وما فوقها وبالركبة وما تحتها والمحرم الاستمتاع بما بينهما وهي أحسن من عبارة بعضهم يستمتع بما فوق السرة وما تحت الركبة كما لا يخفى.
فيجوز له الاستمتاع فيما عدا ما ذكر بوطء وغيره ولو بلا حائل وكذا بما بينهما بحائل بغير الوطء ولو تلطخ دما، ولا يكره طبخها ولا استعمال ما مسته من عجين أو ماء أو غيرهما إلا إذا توضأت بقصد القربة كما هو المستحب على ما قدمناه فإنه يصير مستعملا وفي فتاوى الولوالجي ولا ينبغي أن يعزل عن فراشها؛ لأن ذلك يشبه فعل اليهود.
وفي التجنيس وغيره امرأة تحيض من دبرها لا تدع الصلاة؛ لأن هذا ليس بحيض ويستحب أن تغتسل عند انقطاع الدم، وإن أمسك زوجها عن الإتيان كان أحب إلي لمكان الصورة وهو الدم من الفرج. ا هـ. وقد قدمناه عن الخلاصة.
" قوله: وقراءة القرآن " أي يمنع الحيض قراءة القرآن وكذا الجنابة لقوله صلى الله عليه وسلم
"لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن" رواه الترمذي وابن ماجه وحسنه المنذري وصححه النووي وقال إنه يقرأ بالرفع على النفي وهو محمول عن النهي كي لا يلزم الخلف في الوعد وبكسر الهمز لالتقاء الساكنين على النهي وهما صحيحان. وعن علي رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئنا القرآن على كل حال ما لم يكن جنبا رواه أبو داود والترمذي وقال إنه

 

ج / 1 ص -409-       ...............................
_________________
حسن صحيح ثم كل من الحديثين يصلح مخصصا لحديث مسلم عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله على كل أحيانه بعد القول بتناول الذكر قراءة القرآن وبقولنا قال أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين كما حكاه الترمذي في جامعه وشمل إطلاقه الآية وما دونها وهو قول الكرخي وصححه صاحب الهداية في التجنيس وقاضي خان في شرح الجامع الصغير والولوالجي في فتاويه ومشى عليه المصنف في المستصفى وقواه في الكافي.
ونسبه صاحب البدائع إلى عامة المشايخ وصححه معللا بأن الأحاديث لم تفصل بين القليل والكثير لكن ذكر أن القراءة مكروهة وفي كثير من الكتب أنها حرام، وفي رواية الطحاوي يباح لهما ما دون الآية وصححه الخلاصة في الفصل الحادي عشر في القراءة ومشى عليه فخر الإسلام في شرح الجامع الصغير ونسبه الزاهدي إلى الأكثر ووجهه صاحب المحيط بأن النظم والمعنى يقصر فيما دون الآية ويجري مثله في محاورات الناس وكلامهم فتمكنت فيه شبهة عدم القرآن ولهذا لا تجوز الصلاة به. ا هـ.
فحاصله أن التصحيح قد اختلف فيما دون الآية والذي ينبغي ترجيح القول بالمنع لما علمت من أن الأحاديث لم تفصل والتعليل في مقابلة النص مردود؛ لأن شيئا كما في الكافي نكرة في سياق النفي فتعم وما دون الآية قرآن فيمتنع كالآية مع أنه قد أجيب أيضا بالأخذ بالاحتياط فيهما وهو عدم الجواز في الصلاة والمنع للجنب ومن بمعناه.
ويؤيده ما رواه الدارقطني عن علي رضي الله عنه قال اقرءوا القرآن ما لم يصب أحدكم جنابة، فإن أصابه فلا ولا حرفا واحدا ثم قال: وهو الصحيح عن علي وهذا كله إذا قرأ على

 

ج / 1 ص -410-       ...............................
_________________
قصد أنه قرآن، أما إذا قرأه على قصد الثناء أو افتتاح أمر لا يمنع في أصح الروايات وفي التسمية اتفاق أنه لا يمنع إذا كان على قصد الثناء أو افتتاح أمر كذا في الخلاصة وفي العيون لأبي الليث ولو أنه قرأ الفاتحة على سبيل الدعاء أو شيئا من الآيات التي فيها معنى الدعاء ولم يرد به القراءة فلا بأس به ا هـ. واختاره الحلواني وذكر في غاية البيان أنه المختار.
لكن قال الهندواني لا أفتي بهذا، وإن روي عن أبي حنيفة ا هـ.
وهو الظاهر في مثل الفاتحة فإن المباح إنما هو ليس بقرآن وهذا قرآن حقيقة وحكما لفظا ومعنى وكيف لا وهو معجز يقع به التحدي عند المعارضة والعجز عن الإتيان بمثله مقطوع به وتغيير المشروع في مثله بالقصد المجرد مردود على فاعله بخلاف نحو الحمد لله بنية الثناء؛ لأن الخصوصية القرآنية فيه غير لازمة وإلا لانتفى جواز التلفظ بشيء من الكلمات العربية لاشتمالها على الحروف الواقعة في القرآن وليس الأمر كذلك إجماعا بخلاف نحو الفاتحة فإن الخصوصية القرآنية فيه لازمة قطعا وليس في قدرة المتكلم إسقاطها عنه مع ما هو عليه من النظم الخاص كما هو في المفروض، وقد انكشف بهذا ما في الخلاصة من عدم حرمة ما يجري على اللسان عند الكلام من آية قصيرة من نحو ثم نظر أو لم يولد، ثم اعلم أنهم قالوا هنا وفي باب ما يفسد الصلاة إن القرآن يتغير بعزيمته فأورد الإمام الخاصي كما نقله عنه السراج الهندي في التوشيح بأن العزيمة لو كانت مغيرة للقراءة لكان ينبغي أنه إذا قرأ الفاتحة في الأوليين بنية الدعاء لا تكون مجزئة، وقد نصوا على أنها مجزئة. وأجاب بأنها إذا كانت في محلها لا تتغير بالعزيمة حتى لو لم يقرأ في الأوليين فقرأ في الأخريين بنية الدعاء لا يجزئه. ا هـ.
والمنقول في التجنيس أنه إذا قرأ في الصلاة فاتحة الكتاب على قصد الثناء جازت صلاته؛ لأنه وجدت القراءة في محلها فلا يتغير حكمها بقصد. ا هـ. ولم يقيد بالأوليين ولا شك أن الأخريين محل القراءة المفروضة فإن القراءة فرض في ركعتين غير عين، وإن كان تعيينها في الأوليين واجبا وذكر في القنية خلافا فيما إذا قرأ الفاتحة على قصد الدعاء فرقم لشرح شمس الأئمة الحلواني أنها لا تنوب عن القراءة ا هـ.
وأما الأذكار فالمنقول إباحتها مطلقا ويدخل فيها اللهم اهدنا إلى آخره، وأما اللهم إنا

 

ج / 1 ص -411-       ومسه إلا بغلافه
_________________
نستعينك إلى آخره الذي هو دعاء القنوت عندنا فالظاهر من المذهب أنه لا يكره لهما وعليه الفتوى، كذا في الفتاوى الظهيرية وغيرها وعن محمد يكره لشبهة كونه قرآنا لاختلاف الصحابة في كونه قرآنا فلا يقرأه احتياطا قلنا حصل الإجماع القطعي اليقيني على أنه ليس بقرآن ومعه لا شبهة توجب الاحتياط المذكور نعم المذكور في الهداية وغيرها في باب الأذان استحباب الوضوء لذكر الله تعالى وترك المستحب لا يوجب الكراهة.
وفي الخلاصة ولا ينبغي للحائض والجنب أن يقرأ التوراة والإنجيل كذا روي عن محمد والطحاوي لا يسلم هذه الرواية قال رضي الله عنه وبه يفتى. ا هـ. وفي النهاية وغيرها وإذا حاضت المعلمة فينبغي لها أن تعلم الصبيان كلمة كلمة وتقطع بين الكلمتين على قول الكرخي وعلى قول الطحاوي تعلم نصف آية ا هـ.
وفي التفريع نظر على قول الكرخي فإنه قائل باستواء الآية وما دونها في المنع إذا كان ذلك بقصد قراءة القرآن وما دون الآية صادق على الكلمة، وإن حمل على التعليم دون قصد القرآن فلا يتقيد بالكلمة ثم في كثير من الكتب التقييد بالحائض المعلمة معللا بالضرورة مع امتداد الحيض.
وظاهره عدم الجواز للجنب لكن في الخلاصة واختلف المتأخرون في تعليم الحائض والجنب والأصح أنه لا بأس به إن كان يلقن كلمة كلمة ولم يكن من قصده أن يقرأ آية تامة. ا هـ. والأولى ولم يكن من قصده قراءة القرآن كما لا يخفى.
" قوله:: ومسه إلا بغلافه " أي تمنع الحائض مس القرآن لما روى الحاكم في المستدرك وقال صحيح الإسناد عن حكيم بن حزام قال لما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قال
" لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر" واستدلوا له أيضا بقوله تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ}[الواقعة:79] فظاهر ما في الكشاف صحة الاستدلال به هنا إن جعلت الجملة صفة للقرآن، ولفظه: في كتاب مكنون مصون عن غير المقربين من الملائكة لا يطلع عليه من سواهم وهم المطهرون من جميع الأدناس أدناس الذنوب وما سواها إن جعلت الجملة صفة لكتاب مكنون وهو اللوح، وإن جعلتها صفة للقرآن فالمعنى لا ينبغي أن يمسه إلا من هو على الطهارة

 

ج / 1 ص -412-       ...............................
_________________من الناس يعني مس المكتوب منه. ا هـ. لكن الإمام الطيبي في حاشيته ذكر صحة الاستدلال به على الوجه الأول أيضا فقال فالمعنى على الوجه الأول أن هذا الكتاب كريم على الله تعالى ومن كرمه أنه أثبته عنده في اللوح المحفوظ وعظم شأنه بأن حكم بأنه لا يمسه إلا الملائكة المقربون وصانه عن غير المقربين فيجب أن يكون حكمه عند الناس كذلك بناء على أن ترتب الحكم على الوصف المناسب مشعر بالعلية؛ لأن سياق الكلام لتعظيم شأن القرآن وعن الدارمي عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
"القرآن أحب إلى الله تعالى من السموات والأرض ومن فيهن". ا هـ. وذكر أنه على الوجه الثاني إخبار في معنى الأمر كقوله {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً}[النور:3]. ا هـ. وتعبير المصنف بمس القرآن أولى من تعبير غيره بمس المصحف لشمول كلامه ما إذا مس لوحا مكتوبا عليه آية، وكذا الدرهم والحائط وتقييده بالسورة في الهداية اتفاقي بل المراد الآية.
لكن لا يجوز مس المصحف كله المكتوب وغيره بخلاف غيره فإنه لا يمنع إلا مس المكتوب كذا ذكره في السراج الوهاج مع أن في الأول اختلافا فقال في غاية البيان، وقال بعض مشايخنا المعتبر حقيقة المكتوب حتى إن مس الجلد ومس مواضع البياض لا يكره؛ لأنه لم يمس القرآن وهذا أقرب إلى القياس والمنع أقرب إلى التعظيم ا هـ.
وفي تفسير الغلاف اختلاف فقيل الجلد المشرز وفي غاية البيان مصحف مشرز أجزاؤه مشدود بعضها إلى بعض من الشيرازة وليست بعربية وفي الكافي والغلاف الجلد الذي عليه في الأصح وقيل هو المنفصل كالخريطة ونحوها والمتصل بالمصحف منه حتى يدخل في بيعه بلا ذكر. ا هـ. وصحح هذا القول في الهداية وكثير من الكتب وزاد في السراج الوهاج إن عليه الفتوى، وقد تقدم أنه أقرب إلى التعظيم، والخلاف في الغلاف المشرز جار في الكم ففي المحيط لا يكره مسه بالكم عند الجمهور واختاره المصنف في الكافي وعلله بأن المس محرم وهو اسم للمباشرة باليد بلا حائل ا هـ. وفي الهداية ويكره مسه بالكم هو الصحيح؛ لأنه تابع له ا هـ.
وفي الخلاصة من فصل القرآن وكرهه عامة مشايخنا ا هـ. فهو معارض لما في المحيط فكان هو الأولى وفي فتح القدير والمراد بالكراهة كراهة التحريم ولهذا عبر بنفي الجواز في الفتاوى.

 

ج / 1 ص -413-       ...............................
_________________
وقال لي بعض الإخوان هل يجوز مس المصحف بمنديل هو لابسه على عنقه قلت لا أعلم فيه منقولا، والذي يظهر أنه إن كان بطرفه وهو يتحرك بحركته ينبغي أن لا يجوز، وإن كان لا يتحرك بحركته ينبغي أن يجوز لاعتبارهم إياه في الأول تابعا له كبدنه دون الثاني.
قالوا فيمن صلى وعليه عمامة بطرفها نجاسة مانعة إن كان ألقاه وهو يتحرك لا يجوز وإلا يجوز اعتبارا له على ما ذكرنا. ا هـ. وفي الهداية بخلاف كتب الشريعة حيث يرخص لأهلها في مسها بالكم؛ لأن فيه ضرورة. ا هـ. وفي فتح القدير أنه يقتضي أنه لا يرخص بلا كم قالوا: يكره مس كتب التفسير والفقه والسنن؛ لأنها لا تخلو عن آيات القرآن وهذا التعليل يمنع مس شروح النحو أيضا ا هـ. وفي الخلاصة يكره مس كتب الأحاديث والفقه للمحدث عندهما وعند أبي حنيفة الأصح أنه لا يكره ذكره من كتاب الصلاة في فضل القراءة خارج الصلاة وفي شرح الدرر والغرر ورخص المس باليد في الكتب الشرعية إلا التفسير ذكره في مجمع الفتاوى وغيره. ا هـ. وفي السراج الوهاج معزيا إلى الحواشي المستحب أن لا يأخذ كتب الشريعة بالكم أيضا بل يجدد الوضوء كلما أحدث وهذا أقرب إلى التعظيم.
قال الحلواني إنما نلت هذا العلم بالتعظيم فإني ما أخذت الكاغد إلا بطهارة.
والإمام السرخسي كان مبطونا في ليلة وكان يكرر درس كتابه فتوضأ في تلك الليلة سبع عشرة مرة.
" فروع "
من التعظيم أن لا يمد رجله إلى الكتاب وفي التجنيس المصحف إذا صار كهنا أي عتيقا وصار بحال لا يقرأ فيه وخاف أن يضيع يجعل في خرقة طاهرة ويدفن؛ لأن المسلم إذا مات يدفن فالمصحف إذا صار كذلك كان دفنه أفضل من وضعه موضعا يخاف أن تقع عليه النجاسة أو نحو ذلك والنصراني إذا تعلم القرآن يعلم والفقه كذلك؛ لأنه عسى يهتدي لكن لا يمس المصحف، وإذا اغتسل ثم مس لا بأس به في قول محمد وعندهما يمنع من مس المصحف مطلقا، ولو كان القرآن مكتوبا بالفارسية يحرم على الجنب والحائض مسه بالإجماع وهو الصحيح، أما عند أبي حنيفة فظاهر وكذلك عندهما؛ لأنه قرآن عندهما حتى يتعلق به جواز الصلاة في حق من لا يحسن العربية ا هـ.
ذكره في كتاب الصلاة وفي القنية اللغة والنحو نوع واحد فيوضع بعضها فوق بعض،

 

ج / 1 ص -414-       ...............................
_________________
والتعبير فوقهما والكلام فوق ذلك والفقه فوق ذلك والأخبار والمواعظ والدعوات المروية فوق ذلك والتفسير فوق ذلك والتفسير الذي فيه آيات مكتوبة فوق كتب القراءة، بساط أو غيره كتب عليه الملك لله يكره بسطه واستعماله إلا إذا علق للزينة ينبغي أن لا يكره، وينبغي أن لا يكره كلام الناس مطلقا وقيل يكره حتى الحروف المفردة.
ورأى بعض الأئمة شبانا يرمون إلى هدف كتب فيه أبو جهل لعنه الله فنهاهم عنه، ثم مر بهم وقد قطعوا الحروف فنهاهم أيضا وقال إنما نهيتكم في الابتداء لأجل الحروف فإذا يكره مجرد الحروف لكن الأول أحسن وأوسع يجوز للمحدث الذي يقرأ القرآن من المصحف تقليب الأوراق بقلم أو عود أو سكين ويجوز أن يقول للصبي احمل إلي هذا المصحف ولا يجوز لف شيء في كاغد فيه مكتوب من الفقه وفي الكلام الأولى أن لا يفعل وفي كتب الطب يجوز ولو كان فيه اسم الله تعالى أو اسم النبي عليه السلام فيجوز محوه ليلف فيه شيء ومحو بعض الكتابة بالريق يجوز، وقد ورد النهي في محو اسم الله تعالى بالبزاق محا لوحا يكتب فيه القرآن واستعمله في أمر الدنيا يجوز حانوت أو تابوت فيه كتب فالأدب أن لا يضع الثياب فوقه، يجوز قربان المرأة في بيت فيه مصحف مستور يجوز رمي براية القلم الجديد ولا يرمي براية القلم المستعمل لاحترامه كحشيش المسجد وكناسته لا تلقى في موضع يخل بالتعظيم ا هـ. ذكره في الكراهية.
وتكره القراءة في المخرج والمغتسل والحمام. وعند محمد لا بأس في الحمام؛ لأن الماء المستعمل طاهر عنده.
ولو كانت رقية في غلاف متجاف لم يكره دخول الخلاء به والاحتراز عن مثله أفضل، كذا في فتح القدير وفي الخلاصة لو كان على خاتمه اسم الله تعالى يجعل الفص إلى باطن الكف ا هـ. وفي التوشيح وتكره المسافرة بالقرآن إلى دار الحرب صونا عن وقوعه في أيدي الكفرة واستخفافه وفي السراج الوهاج الدرهم المكتوب عليه آية يكره إذابته إلا إذا كسره فلا بأس به حينئذ وفي غاية البيان معزيا إلى فخر الإسلام، فإن غسل الجنب فمه ليقرأ أو يده ليمس أو غسل المحدث يده ليمس لم يطلق له المس ولا القراءة للجنب هذا هو الصحيح؛ لأن الجنابة والحدث لا يتجزآن وجودا ولا زوالا وفي الخلاصة إنما تكره القراءة في الحمام إذا قرأ جهرا، فإن قرأ في نفسه لا بأس به هو المختار وكذا التحميد والتسبيح وكذا لا يقرأ إذا كانت

 

ج / 1 ص -415-       ومنع الحدث المس ومنعهما الجنابة والنفاس وتوطأ بلا غسل بتصرم لأكثره ولأقله لا حتى تغتسل أو يمضي عليها أدنى وقت صلاة
_________________
عورته مكشوفة أو امرأته هناك تغتسل مكشوفة أو في الحمام أحد مكشوف، فإن لم يكن فلا بأس بأن يرفع صوته.
وقوله " ومنع الحدث المس " أي مس القرآن.
" ومنعهما " أي المس وقراءة القرآن " الجنابة والنفاس "، وقد تقدم بيان أحكام النفاس.
" قوله: وتوطأ بلا غسل بتصرم لأكثره " أي ويحل وطء الحائض إذا انقطع دمها العشرة بمجرد الانقطاع من غير توقف على اغتسالها وقال في المغرب تصرم القتال انقطع وسكن.
" قوله: ولأقله لا حتى تغتسل أو يمضي عليها أدنى وقت صلاة ". اعلم أن هذه المسألة على ثلاثة أوجه؛ لأن الدم إما ينقطع لتمام العشرة أو دونها لتمام العادة أو دونهما ففيما إذا انقطع لتمام العشرة يحل وطؤها بمجرد الانقطاع ويستحب له أن لا يطأها حتى تغتسل، وفيما إذا انقطع لما دون العشرة دون عادتها لا يقربها وإن اغتسلت ما لم تمض عادتها، وفيما إذا انقطع للأقل لتمام عادتها إن اغتسلت أو مضى عليها وقت صلاة حل وإلا لا.
وكذا النفاس إذا انقطع لما دون الأربعين لتمام عادتها، فإن اغتسلت أو مضى الوقت حل وإلا لا، كذا في المحيط وقال الشافعي لا يجوز وطؤها حتى تغتسل مطلقا عملا بقوله تعالى:
{حَتَّى يَطَّهَّرن} بالتشديد أي يغتسلن ونقله الإسبيجابي عن زفر ولنا أن في الآية قراءتين " يطهرن " بالتخفيف " ويطهرن " بالتشديد.
ومؤدى الأولى انتهاء الحرمة العارضة بالانقطاع مطلقا وإذا انتهت الحرمة العارضة على الحل حلت بالضرورة ومؤدى الثاني عدم انتهائها عنده بل بعد الاغتسال فوجب الجمع ما أمكن فحملنا الأولى على الانقطاع لأكثر المدة والثانية عليه لتمام العادة التي ليست أكثر مدة الحيض وهو المناسب؛ لأن في توقيف قربانها في الانقطاع للأكثر على الغسل إنزالها حائضا حكما وهو مناف لحكم الشرع عليها بوجوب الصلاة المستلزم إنزاله إياها طاهرة قطعا بخلاف تمام العادة، فإن الشرع لم يقطع عليها بالطهر بل يجوز الحيض بعده ولذا لو زادت ولم تجاوز العشرة كان الكل حيضا بالاتفاق.
بقي أن مقتضى الثانية ثبوت الحرمة قبل الغسل فرفع الحرمة قبله بخروج الوقت معارضة للنص بالمعنى والجواب أن القراءة الثانية خص منها صورة الانقطاع للعشرة بقراءة التخفيف فجاز أن تخص ثانيا بالمعنى، كذا في فتح القدير.

 

ج / 1 ص -416-       ...............................
_________________
وعبارته في التحرير في فصل التعارض وقراءتي التشديد في يطهرن المانعة إلى الغسل والتخفيف إلى الطهر فيحل القربان قبله بالحل الذي انتهت حرمته العارضة بحمل تلك على ما دون الأكثر وهذه عليه.
وتطهرن بمعنى طهرن؛ لأنه يأتي به كتكبر وتعظم في صفاته تعالى محافظة على حقيقة يطهرن بالتخفيف وكل وإن كان خلاف الظاهر لكن هذا أقرب إذ لا يوجب تأخر حق الزوج بعد القطع بارتفاع المانع. ا هـ.
فقوله وتطهرن بمعنى طهرن إلى آخره جواب سؤال تقديره إن هذا الحمل يرده قوله تعالى:
{فَإِذَا تَطَهَّرْنَ}[البقرة:222] فإنه لم يقرأ إلا بالتشديد.
واعلم أن المراد بأدنى وقت الصلاة أدناه الواقع آخرا أعني أن تطهر في وقت منه إلى خروجه قدر الاغتسال والتحريم لا أعم من هذا أو من إن تطهرن في أوله ويمضي منه هذا المقدار؛ لأن هذا لا ينزلها طاهرة شرعا كما رأيت بعضهم يغلط فيه، ألا ترى إلى تعليلهم بأن تلك الصلاة صارت دينا في ذمتها وذلك بخروج الوقت ولذا لم يذكر غير واحد لفظة أدنى وعبارة الكافي أو تصير الصلاة دينا في ذمتها بمضي أدنى وقت صلاة بقدر الغسل والتحريمة بأن انقطع في آخر الوقت، كذا في فتح القدير.
وما قاله حق فقد رأيت أيضا من يغلط فيه، ويؤيده ما في السراج الوهاج من أن الانقطاع إذا كان في أول الوقت فلا يجوز قربانها إلا بعد الاغتسال أو بمضي جميع الوقت، وإذا انقطع في وقت صلاة ناقصة كصلاة الضحى والعيد فإنه لا يجوز وطؤها حتى تغتسل أو يمضي عليها وقت صلاة الظهر. ا هـ. وإنما عبر بعضهم بالأدنى ولم يقل مضى وقت صلاة نفيا لما قد يتوهم أن مضي الوقت كله والدم منقطع شرط للحل وليس كذلك، ولهذا قال كثير من الشارحين إن هذا محمول على ما إذا كان الانقطاع آخر الوقت.
فالحاصل أن الانقطاع إن كان في أول الوقت أو في أثنائه فلا بد للحل من خروج الوقت، وإن كان في آخره فإن بقي منه زمان قدر الغسل والتحريمة وخرج الوقت حل وإلا فلا.
وأما الثالث وهو ما إذا كان الانقطاع لما دون العشرة لأقل من العادة فوق الثلاث لم يقربها حتى تمضي عادتها، وإن اغتسلت؛ لأن العود في العادات غالب فكان الاحتياط في الاجتناب،

 

ج / 1 ص -417-       ...............................
_________________
كذا في الهداية وصيغة لم يقربها وكذا التعليل بالاحتياط في الاجتناب يقتضي حرمة الوطء.
وقد صرح به في غاية البيان والمنصوص عليه في النهاية والكافي للنسفي كراهة الوطء، فإن أريد بالكراهة التحريم فلا منافاة بين العبارتين وإلا فالمنافاة بينهما ظاهرة.
وفي النهاية تأخير الغسل إلى آخر الوقت المستحب مستحب فيما إذا انقطع لتمام عادتها وفيما إذا انقطع لأقلها واجب وفي المبسوط إذا انقطع لأقل من عشرة تنتظر إلى آخر الوقت المستحب دون المكروه نص عليه محمد في الأصل قال: إذا انقطع في وقت العشاء تؤخر إلى وقت يمكنها أن تغتسل فيه وتصلي قبل انتصاف الليل وما بعد نصف الليل مكروه ا هـ.
وفي فتح القدير إن حكم الثالث خلاف إنهاء الحرمة بالغسل الثابت بقراءة التشديد فهو مخرج منه بالإجماع. ا هـ. ويعارضه ما نقله في الغاية عن ابن تيمية أنه ذكر الإجماع على أنها تغتسل وتصلي ولا يحرم وطؤها كما في شرح منظومة ابن وهبان.
ولعله توهم من قول بعض الحنفية بالكراهة أنها كراهة تنزيه فنقل الإجماع على عدم الحرمة وإلا فلا يصح نقل الإجماع مع خلاف الحنفية كما لا يخفى.
وفي التجنيس مسافرة طهرت من الحيض فتيممت ثم وجدت ماء جاز للزوج أن يقربها لكن لا تقرأ القرآن؛ لأنها لما تيممت خرجت من الحيض فلما وجدت الماء فإنما وجب عليها الغسل فصارت كالجنب ا هـ. وظاهره أن التيمم من غير صلاة يخرجها من الحيض فيجوز قربانها وليس كذلك فقد قال في المبسوط ولم يذكر يعني الحاكم الشهيد في الكافي ما إذا تيممت ولم تصل فقيل هو على الاختلاف عندهما ليس للزوج أن يقربها وعند محمد له ذلك والأصح أنه ليس له أن يقربها عندهم جميعا؛ لأن محمدا إنما جعل التيمم كالاغتسال فيما هو مبني على الاحتياط وهو قطع الرجعة والاحتياط في الوطء تركه فلم نجعل التيمم فيه قبل تأكده بالصلاة كالاغتسال كما لا يفعله في الحل للأزواج. ا هـ.
فالحاصل أن التيمم لا يوجب حل وطئها وانقطاع الرجعة وحلها للأزواج إلا بالصلاة على الصحيح من المذهب لكن قال القاضي الإسبيجابي في شرح مختصر الطحاوي وأجمعوا أنه يقربها زوجها، وإن لم تصل ولا تتزوج بزوج آخر ما لم تصل وفي انقطاع الرجعة الخلاف.

 

ج / 1 ص -418-       ...............................
_________________
وفي الخلاصة إذا انقطع دم المرأة دون عادتها المعروفة في حيض أو نفاس اغتسلت حين تخاف فوت الصلاة وصلت واجتنب زوجها قربانها احتياطا حتى تأتي على عادتها لكن تصوم رمضان احتياطا.
ولو كانت هذه الحيضة هي الثالثة من العدة انقطعت الرجعة احتياطا ولا تتزوج بزوج آخر احتياطا، فإن تزوجها رجل إن لم يعاودها الدم جاز، وإن عاودها إن كان في العشرة ولم يزد على العشرة فسد نكاح الثاني وكذا صاحب الاستبراء يجتنبها احتياطا ا هـ.
قال في فتح القدير ومفهوم التقييد أنه إذا زاد لا يفسد ومراده إذا كان العود بعد انقضاء العادة، أما قبلها فيفسد وإن زاد؛ لأن الزيادة توجب الرد إلى العادة والفرض أنه عاودها فيها فظهر أن النكاح قبل انقضاء الحيضة.
واعلم أن مدة الاغتسال معتبرة من الحيض في الانقطاع لأقل من العشرة، وإن كان تمام عادتها بخلاف الانقطاع للعشرة حتى لو طهرت في الأولى والباقي قدر الغسل والتحريمة فعليها قضاء تلك الصلاة ولو طهرت في الثانية يشترط أن يكون الباقي قدر التحريمة فقط.
وفي المجتبى والصحيح أنه يعتبر مع الغسل لبس الثياب وهكذا جواب صومها إذا طهرت قبل الفجر لكن الأصح أن لا تعتبر التحريمة في حق الصوم ثم قال: قال مشايخنا زمان الغسل من الطهر في حق صاحبة العشرة ومن الحيض فيما دونها ولكن ما قالوا في حق القربان وانقطاع الرجعة وجواز التزوج بزوج آخر لا في حق جميع الأحكام.
ألا ترى أنها إذا طهرت عقب غيبوبة الشفق ثم اغتسلت عند الفجر الكاذب ثم رأت الدم في الليلة السادسة عشر بعد زوال الشفق فهو طهر تام، وإن لم يتم خمسة عشر من وقت الاغتسال. ا هـ.
وقوله الأصح أن لا يعتبر في الصوم التحريمة ظاهره الاكتفاء بمضي زمان الغسل.
وفي السراج الوهاج ولو انقطع دمها في بعض ليالي رمضان، فإن وجدت في الليل مقدار ما تغتسل ويبقى ساعة من الليل فإنه يجب عليها قضاء العشاء ويجوز صومها من الغد.
وإن بقي من الليل أقل من ذلك لا يجب عليها قضاء العشاء ولا يجوز صومها من الغد، وفي التوشيح إن كانت أيامها دون العشرة لا يجزئها صوم هذا اليوم إذا لم يبق من الوقت قدر الاغتسال والتحريمة؛ لأنه لا يحكم بطهارتها إلا بهذا، وإن بقي مقدار الغسل والتحريمة فإنه يجزئها صومها؛ لأن العشاء صارت دينا عليها وإنه من حكم الطهارات فحكم بطهارتها ضرورة. ا هـ. وهذا هو الحق فيما يظهر.

 

ج / 1 ص -419-       والطهر بين الدمين في المدة حيض ونفاس
_________________
وفي الكافي للحاكم ولو كانت نصرانية تحت مسلم فانقطع عنها الدم فيما دون العشرة وسع الزوج أن يطأها ووسعها أن تتزوج؛ لأنه لا اغتسال عليها لعدم الخطاب وهي مخرجة من حمل قراءة التشديد على ما دون الأكثر كما لا يخفى، فإن أسلمت بعد الانقطاع لا تتغير الأحكام؛ لأنا حكمنا بخروجها من الحيض بنفس الانقطاع فلا يعود بالإسلام بخلاف ما إذا عاودها الدم فرؤية الدم مؤثرة في إثبات الحيض به ابتداء فكذلك يكون مؤثرا في البقاء بخلاف الإسلام، كذا في المبسوط وفي الخلاصة، فإن أدركها الحيض في شيء من الوقت سقطت الصلاة عنها إن افتتحها.
وأجمعوا أنها إذا طهرت وقد بقي من الوقت قدر ما لا يسع فيه التحريمة لا يلزمها قضاء هذه الصلاة وإذا أدركها الحيض بعد شروعها في التطوع كان عليها قضاء تلك الصلاة إذا طهرت ا هـ. وكذا إذا شرعت في صوم التطوع ثم حاضت فإنه يلزمها قضاؤه فلا فرق بين الصلاة والصوم ذكره في فتح القدير من الصوم، وكذا في النهاية وكذا ذكره الإسبيجابي هنا فتبين أن ما في شرح الوقاية من الفرق بينهما غير صحيح.
" قوله: والطهر بين الدمين في المدة حيض ونفاس " يعني أن الطهر المتخلل بين دمين والدمان في مدة الحيض أو في مدة النفاس يكون حيضا في الأول ونفاسا في الثاني.
اعلم أن خمسة من أصحاب أبي حنيفة وهم أبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد وابن المبارك روى كل منهم عنه في هذه المسألة رواية إلا محمدا فإنه روى عنه روايتين وأخذ بإحداهما.
فالأصل عند أبي يوسف وهو قول أبي حنيفة الآخر على ما في المبسوط أن الطهر المتخلل بين الدمين إذا كان أقل من خمسة عشر يوما لا يصير فاصلا بل يجعل كالدم المتوالي؛ لأنه لا يصلح للفصل بين الحيضتين فلا يصلح للفصل بين الدمين، وإن كان خمسة عشر يوما فصاعدا يكون فاصلا لكنه لا يتصور ذلك إلا في مدة النفاس، ثم إن كان في أحد طرفيه ما يمكن جعله حيضا فهو حيض وإلا فهو استحاضة ثم ينظر إن كان لا يزيد على العشرة فهو حيض كله ما رأت الدم فيه وما لم تره وسواء كانت مبتدأة أو لا وما سواه فدم استحاضة وطهره طهر.
ووافق محمد أبا يوسف في الطهر المتخلل في مدة النفاس إن كان خمسة عشر يوما فصل بين الدمين فيجعل الأول نفاسا والثاني حيضا إن أمكن بأن كان ثلاثة بليالها فصاعدا أو يومين وأكثر الثالث عند أبي يوسف وإلا كان استحاضة.

 

ج / 1 ص -420-       ...............................
________________
وعند أبي حنيفة لا يفصل ويجعل إحاطة الدم بطرفيه كالدم المتوالي فلو رأت بعد الولادة يوما دما وثمانية وثلاثين طهرا ويوما دما فالأربعون نفاس عنده وعندهما نفاسها الدم الأول.
ومن أصل أبي يوسف أيضا أنه يجوز بداية الحيض بالطهر وختمه به بشرط أن يكون قبله وبعده دم ويجعل الطهر بإحاطة الدمين به حيضا وإن كان قبله دم ولم يكن بعده دم يجوز بداية الحيض بالطهر ولا يجوز ختمه به، وعلى عكسه بأن كان بعده دم ولم يكن قبله دم يجوز ختم الحيض بالطهر ولا يجوز بدايته به فلو رأت مبتدأة يوما وأربعة عشر طهرا أو يوما دما كانت العشرة الأولى حيضا يحكم ببلوغها، ولو رأت المعتادة قبل عادتها يوما دما وعشرة طهرا أو يوما دما فالعشرة التي لم تر فيها الدم حيض إن كانت عادتها العشرة، فإن كانت أقل ردت إلى أيام عادتها.
والأخذ بقول أبي يوسف أيسر وكثير من المتأخرين أفتوا به؛ لأنه أسهل على المفتي والمستفتي؛ لأن في قول محمد وغيره تفاصيل يحرج الناس في ضبطها، وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما وروى محمد عن أبي حنيفة أن الشرط أن يكون الدم محيطا بطرفي العشرة فإذا كان كذلك لم يكن الطهر المتخلل فاصلا بين الدمين وإلا كان فاصلا، فلو رأت مبتدأة يوما دما وثمانية طهرا ويوما دما فالعشرة حيض يحكم ببلوغها، ولو كانت معتادة فرأت قبل عادتها يوما دما وتسعة طهرا ويوما دما لا يكون شيء منه حيضا ووجهه أن استيعاب الدم ليس بشرط إجماعا فيعتبر أوله وآخره كالنصاب في باب الزكاة.
وقد اختار هذه الرواية أصحاب المتون لكن لم تصحح في الشروح كما لا يخفى ولعله لضعف وجهها فإن قياسها على النصاب غير صحيح؛ لأن الدم منقطع في أثناء المدة بالكلية وفي المقيس عليه يشترط بقاء جزء من النصاب في أثناء الحول، وإنما الذي اشترط وجوده في الابتداء والانتهاء تمامه.
وروى ابن المبارك عن أبي حنيفة أنه يعتبر أن يكون الدم في العشرة مثل أقله وهو قول زفر، ووجهه أن الحيض لا يكون أقل من ثلاثة أيام وهو اسم للدم فإذا بلغ المرئي هذا المقدار كان قويا في نفسه فجعل أصلا وما يتخلله من الطهر تبع له، وإن كان الدم دون هذا كان ضعيفا في نفسه لا حكم له إذا انفرد فلا يمكن جعل زمان الطهر تبعا له فلو رأت يوما دما وثمانية طهرا ويوما دما لم يكن شيء منه حيضا.

 

ج / 1 ص -421-       ...............................
_________________
وقال محمد الطهر المتخلل إن نقص عن ثلاثة أيام ولو بساعة لا يفصل اعتبارا بالحيض، فإن كان ثلاثة فصاعدا، فإن كان مثل الدمين أو أقل فكذلك تغليبا للمحرمات؛ لأن اعتبار الدم يوجب حرمتها واعتبار الطهر يوجب حلها فغلب الحرام الحلال، وإن كان أكثر فصل ثم ينظر إن كان في أحد الجانبين ما يمكن أن يجعل حيضا فهو حيض والآخر استحاضة، وإن لم يمكن فالكل استحاضة ولا يمكن كون كل من المحتوشين حيضا؛ لأن الطهر حينئذ أقل من الدمين إلا إذا زاد على العشرة فيجعل الأول حيضا لسبقه لا الثاني.
ومن أصله أن لا يبدأ الحيض بالطهر ولا يختم به سواء كان قبله أو بعده دم أو لم يكن ولا يجعل زمان الطهر زمان الحيض بإحاطة الدمين به.
ولو رأت مبتدأة يوما دما ويومين طهرا ويوما دما فالأربعة حيض، ولو رأت يوما دما وثلاثة طهرا أو يومين دما فالستة حيض للاستواء ولو رأت يوما دما وخمسة طهرا ويوما دما لا يكون حيضا لغلبة الطهر، ولو رأت ثلاثة دما وخمسة طهرا أو يوما دما فالثلاثة حيض لغلبة الطهر فصار فاصلا والمتقدم أمكن جعله حيضا، ولو رأت يوما دما وخمسة طهرا وثلاثة دما فالأخير حيض لما تقدم، ولو رأت ثلاثة دما وستة طهرا و ثلاثة دما فحيضها الثلاثة الأول لسبقها ولا تكون العشرة حيضا لغلبة الطهر فيها، وإن كان مساويا باعتبار الزائد عليها.
وقد صحح قول محمد في المبسوط والمحيط وعليه الفتوى لكن قال المحقق في فتح القدير الأولى الإفتاء بقول أبي يوسف لما قدمناه.
وفي معراج الدراية جعل قول محمد رواية عن أبي حنيفة فثبت أنه روي عنه روايتين أخذ بإحداهما وروى زفر عن أبي حنيفة أنها إذا رأت في طرفي العشرة ثلاثة أيام دما فهي حيض وإلا فلا.
ذكر هذه الرواية في التوشيح والمعراج والخبازية إلا أن المذكور في المبسوط وأكثر الكتب المشهورة أن قول زفر رواية ابن المبارك المتقدمة ولم يذكروا له رواية عن أبي حنيفة.
والظاهر أن هذه الرواية لا تخالف رواية ابن المبارك إلا أن يقال: إن هذه الرواية تفيد

 

ج / 1 ص -422-       ...............................
_________________
اشتراط وجود الدم في العشرة ورواية ابن المبارك لا تفيد إلا اشتراط وجود ثلاثة أيام دما ولو في طرف واحد.
وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة إن نقص الطهر عن ثلاثة لم يفصل، وإن كان ثلاثة فصل كيفما كان ثم ينظر إن أمكن أن يجعل أحدهما بانفراده حيضا يجعل ذلك حيضا كما قاله محمد، وإنما خالفه في أصل واحد وهو أنه لم يعتبر غلبة الدم ولا مساواته بالطهر.
وفي فتح القدير فرع على هذه الأصول رأت يومين دما وخمسة طهرا ويوما دما ويومين طهرا و يوما دما فعند أبي يوسف العشرة الأولى حيض إن كانت عادتها أو مبتدأة؛ لأن الحيض يختم بالطهر، وإن كانت معتادة فعادتها فقط لمجاوزة الدم العشرة.
وعلى قول محمد الأربعة الأخيرة فقط؛ لأنه تعذر جعل العشرة حيضا لاختتامها بالطهر وتعذر جعل ما قبل الطهر الثاني حيضا؛ لأن الغلبة فيه للطهر فطرحنا الدم الأول والطهر الأول فبقي بعده يوم دم ويومان طهر ويوم دم والطهر أقل من ثلاثة فجعلنا الأربعة حيضا. وعند زفر الثمانية حيض لاشتراطه كون الدم ثلاثة في العشرة ولا يختم عنده بالطهر، وقد وجد أربعة دما وكذلك هو أيضا رواية محمد عن أبي حنيفة لخروج الدم الثاني عن العشرة.
" فرع آخر " عادتها عشرة فرأت ثلاثة وطهرت ستة عند أبي يوسف لا يجوز قربانها وعند محمد يجوز؛ لأن المتوهم بعده من الحيض يوم والستة أغلب من الأربعة فيجعل الدم الأول فقط حيضا بخلاف قول أبي يوسف ولو كانت طهرت خمسة وعادتها تسعة اختلفوا على قول محمد قيل لا يباح قربانها لاحتمال الدم في يومين آخرين وقيل يباح وهو الأولى؛ لأن اليوم الزائد موهوم؛ لأنه خارج العادة وفي نظم ابن وهبان إفادة أن المجيز للقربان يكرهه. ا هـ. ما في فتح القدير وعبارة النظم هذه:

ولو طهرت بعد الثلاث وطهرت                      وعادتها لم تمض فالوطء يذكر

كراهته بعض وينفيه بعضهم                        وبالصوم تأتي والصلاة وتذكر

ولا يخفى بعد هذه الإفادة من النظم؛ لأن ما فيه ليس هذه الصورة بل الاغتسال عقب الطهر من غير بيان أن الطهر غالب على الحيض أو لا وهي المسألة التي قدمناها وهي أن الدم إذا انقطع لأقل من العادة هل وطؤها حرام أو مكروه وليس فيه خلاف الإمامين ولم ينقل فيها

 

ج / 1 ص -423-       وأقل الطهر خمسة عشر يوما، ولا حد لأكثره إلا عند نصب العادة في زمن الاستمرار
_________________
الجواز أصلا ونقل الكراهة لا يفيده؛ لأن الجواز بمعنى الحل لا يجامع كراهة التحريم بخلافه بمعنى الصحة.
" قوله: وأقل الطهر خمسة عشر يوما " بإجماع الصحابة رضي الله عنهم ولأنه مدة اللزوم فصار كمدة الإقامة.
" قوله: ولا حد لأكثره إلا عند نصب العادة في زمن الاستمرار "؛ لأنه قد يمتد إلى سنة وإلى سنتين، وقد لا تحيض أصلا فلا يمكن تقدير أكثره إلا عند الضرورة، وشمل كلامه ثلاث مسائل: الأولى إذا بلغت مستحاضة فستأتي أنه يقدر حيضها بعشرة من كل شهر وباقيه طهر.
والثانية إذا بلغت برؤية عشرة مثلا دما وسنة طهرا ثم استمر بها الدم فقال أبو عصمة والقاضي أبو حازم حيضها ما رأت وطهرها ما رأت فتنقضي عدتها بثلاث سنين وثلاثين يوما وهذا بناء على اعتباره للطلاق أول الطهر.
والحق أنه إن كان من أول الاستمرار إلى إيقاع الطلاق مضبوطا فليس هذا التقدير بلازم لجواز كون حسابه يوجب كونه أول الحيض فيكون أكثر من المذكور بعشرة أيام أو آخر الطهر فيقدر بسنتين وأحد وثلاثين أو اثنين أو ثلاثة وثلاثين ونحو ذلك، وإن لم يكن مضبوطا فينبغي أن تزاد العشرة إنزالا له مطلقا أول الحيض احتياطا كذلك في فتح القدير، وقد يقال لما كان الطلاق في الحيض محرما لم ينزلوه مطلقا فيه حملا لحال المسلم على الصلاح وهو واجب ما أمكن.
والثالثة مسألة المضللة وتسمى بالمحيرة وفيها ثلاثة فصول الأول الإضلال بالعدد والثاني الإضلال بالمكان والثالث الإضلال بهما.
والأصل أنها متى تيقنت بالطهر في وقت صلت فيه بالوضوء لوقت كل صلاة وصامت، ومتى تيقنت بالحيض في وقت تركتهما فيه، ومتى شكت في وقت أنه وقت حيض أو طهر تحرت، فإن لم يكن لها رأي تصلي فيه بالوضوء لوقت كل صلاة وتصوم وتقضيه دونها، ومتى شكت في وقت أنه حيض أو طهر أو خروج عن الحيض تصلي فيه بالغسل لكل صلاة لجواز أنه وقت الخروج من الحيض ولا يأتيها زوجها بحال لاحتمال الحيض.

 

ج / 1 ص -424-       ...............................
_________________
أما الأول وهو ما إذا نسيت عدد أيامها بعدما انقطع الدم عنها أشهرا واستمر وعلمت أن حيضها في كل شهر مرة فإنها تدع الصلاة ثلاثة أيام من أول الاستمرار لتيقنها بالحيض فيها ثم تغتسل سبعة أيام لكل صلاة لتردد حالها فيها بين الحيض والطهر والخروج من الحيض ثم تتوضأ عشرين يوما لوقت كل صلاة لتيقنها فيها بالطهر ويأتيها زوجها، وأما إذا لم تعلم أنه كل شهر مرة فهو على ثلاثة أوجه.
أحدها ما إذا لم تعلم عدد حيضها وطهرها فإنها تدع الصلاة ثلاثة أيام من أول الاستمرار ثم تصلي سبعة بالاغتسال لوقت كل صلاة ثم تصلي ثمانية بالوضوء لوقت كل صلاة لتيقنها بالطهر فيها ويأتيها زوجها فيها ثم تصلي ثلاثة بالوضوء لوقت كل صلاة للتردد بين الطهر والحيض ثم تصلي بالاغتسال لكل صلاة كما قدمناه.
وثانيها إذا علمت أن طهرها خمسة عشر ولم تعلم عدد حيضها فإنها تدع الصلاة ثلاثة أيام ثم تصلي سبعة بالغسل ثم تصلي ثمانية بالوضوء باليقين ثم تصلي ثلاثة أيام بالوضوء بالشك فبلغ ذلك أحدا وعشرين يوما، فإن كان حيضها ثلاثة فابتداء طهرها الثاني بعد أحد وعشرين يوما، وإن كان حيضها عشرة فابتداء طهرها الثاني بعد خمسة وثلاثين فتصلي في هذه الأربعة عشر التي بعد الأحد والعشرين بالاغتسال لكل صلاة للتردد بين الثلاثة ثم تصلي يوما بالوضوء لوقت كل صلاة بيقين لتيقنها بالطهر؛ لأنه اليوم الخامس عشر منه الذي هو السادس والثلاثون ثم تصلي ثلاثة بالوضوء لوقت كل صلاة للتردد فيها بين الحيض والطهر ثم تغتسل لكل صلاة أبدا؛ لأنه ما من ساعة إلا ويتوهم أنه وقت خروجها من الحيض.
وثالثها إذا علمت أن حيضها ثلاثة ولا تعلم عدد طهرها فإنها تدع الصلاة ثلاثة أيام من أول الاستمرار، ثم تصلي خمسة عشر يوما بالوضوء لوقت كل صلاة لتيقنها بالطهر فيه، ثم تصلي ثلاثة بالوضوء للتردد بين الحيض والطهر، ثم تغتسل لكل صلاة أبدا لتوهم خروجها عن الحيض كل ساعة.
وإن علمت أنها كانت تحيض في كل شهر مرة من أوله أو آخره ولا تدري العدد تتوضأ ثلاثة أيام في أول الشهر لتردد حالها فيه بين الحيض والطهر، ثم تغتسل سبعة أيام للتردد بين الثلاثة، ثم تتوضأ إلى آخر الشهر وتغتسل مرة واحدة لتمام الشهر لجواز خروجها من الحيض؛ لأن الشك في العشرة الأولى والأخيرة لا في الوسطى.

 

ج / 1 ص -425-       ...............................
_________________
وأما الثاني وهو الإضلال بالمكان فأصله أنها متى أضلت أيامها في ضعفها من العدد أو أكثر من الضعف فلا تتيقن بالحيض في شيء منه كما لو أضلت ثلاثة في ستة أو أكثر ومتى أضلت أيامها في دون ضعفها من العدد فإنها تتيقن بالحيض في شيء منه كما لو أضلت ثلاثة في خمسة فإنها تتيقن بالحيض في اليوم الثالث فإنه أول الحيض أو آخره، فإن علمت أن أيامها كانت ثلاثة ولا تعلم موضعها من الشهر تصلي ثلاثة أيام من أول الشهر بالوضوء لوقت كل صلاة للتردد بين الحيض والطهر، ثم تغتسل سبعة وعشرين لكل صلاة لتوهم خروجها من الحيض في كل ساعة، وإن علمت أن أيامها أربعة توضأت في الأربعة ثم اغتسلت لكل صلاة إلى آخر العشر وكذا لو علمت أن أيامها خمسة توضأت خمسة ثم اغتسلت إلى آخر العشر ولو علمت أن أيامها ستة توضأت أربعة من أول العشر وتدع الصلاة والصوم يومين لتيقنها بالحيض فيهما لما قدمناه من الأصل، ثم تغتسل أربعة لكل صلاة لتوهم خروجها من الحيض في كل ساعة، وإن علمت أن أيامها سبعة صلت بالوضوء ثلاثة أيام من أولها وتدع أربعة أيام لتيقنها بالحيض فيها، ثم تغتسل لكل صلاة ثلاثة أيام وعلى هذا القياس الثمانية والتسعة.
وأما الثالث وهو الإضلال بهما كما إذا استحيضت ونسيت عدد أيامها ومكانها فإنها تتحرى، وإن لم يكن لها رأي اغتسلت لكل صلاة على الصحيح.
وقيل لوقت كل صلاة وتصلي المكتوبات والواجبات والسنن المؤكدة ولا تصلي تطوعا كالصوم تطوعا وتقرأ القدر المفروض والواجب على الصحيح وقيل تقتصر على المفروض وتقرأ في الركعتين الأخيرتين على الصحيح؛ لأنها سنة، وقيل: لا، ولا تقرأ في الوتر اللهم إنا نستعينك؛ لأنها سورة عند عمر وغيره يقوم مقامه.
ولا تقرأ شيئا من القرآن خارج الصلاة ولا تمس المصحف ولا تدخل المسجد ولو سمعت آية السجدة فسجدت في الحال لا تجب الإعادة عليها؛ لأنها إن كانت طاهرة فقد صح أداؤها وإلا لم تلزمها وإن سجدت بعد ذلك أعادت بعد العشرة لاحتمال طهارتها وقت السماع وحيضها وقت السجود.
وأما قضاء الفوائت، فإن كان عليها فوائت فقضتها فعليها إعادتها بعد عشرة أيام لاحتمال حيضها وقت القضاء وقال أبو علي الدقاق تقضيها بعد العشرة قبل أن تزيد على خمسة عشر وهو الصحيح لجواز أن يعود حيضها بعد خمسة عشر يوما.

 

ج / 1 ص -426-       ...............................
_________________
وأما الصوم فإنها تصوم كل شهر رمضان لاحتمال طهارتها كل يوم وتعيد بعد رمضان عشرين يوما وهو على ثلاثة أوجه: الأول - إن علمت أن ابتداء حيضها كان يكون بالليل فإنها تقضي عشرين يوما لجواز أن حيضها في كل شهر عشرة أيام فإذا قضت عشرة يجوز حصولها في الحيض فتقضي عشرة أخرى.
والثاني وإن علمت أن ابتداء حيضها كان يكون بالنهار فتقضي اثنين وعشرين يوما؛ لأن أكثر ما فسد من صومها في الشهر أحد عشر يوما فتقضي ضعفه احتياطا، وإن لم تعلم شيئا قال عامة مشايخنا تقضي عشرين؛ لأن الحيض لا يزيد على عشرة.
وقال الفقيه أبو جعفر الهندواني تقضي اثنين وعشرين يوما وهو الأصح احتياطا لجواز أن يكون بالنهار.
وهذا إذا علمت دورها في كل شهر، فإن لم تعلم ذلك، فإن علمت أن ابتداء حيضها كان بالليل تقضي خمسة وعشرين يوما لجواز أنها حاضت عشرة في أوله وخمسة في آخره أو على العكس فعليها قضاء خمسة عشر يوما فإذا قضته موصولا بالشهر فعلى التقدير الأول فخمسة أيام من شوال بقية حيضها الثاني فلا يجزئ الصوم فيها ويجزئها في خمسة عشر بعدها وعلى العكس فيوم الفطر أول يوم من طهرها لا تصوم فيه، ثم يجزئها الصوم في أربعة عشر يوما، ثم لا يجزئها في عشرة، ثم يجزئها في آخر يوم فجملته خمسة وعشرون يوما وكذلك إن قضته مفصولا لتوهم أن ابتداء القضاء كان وافق أول يوم من حيضها فلا يجزئها الصوم في عشر، ثم يجزئها في خمسة عشر، وإن علمت أن ابتداء حيضها كان بالنهار تقضي اثنين وثلاثين يوما إن قضته موصولا برمضان؛ لأن أكثر ما فسد من صومها من أول الشهر ستة عشر يوما وإن قضته مفصولا تقضي ثمانية وثلاثين يوما لتوهم أن ابتداء القضاء وافق أول يوم من حيضها فلا يجزئها الصوم في أحد عشر، ثم يجزئها في أربعة عشر، ثم لا يجزئها في أحد عشر، ثم يجزئها في يومين فجملته ثمانية وثلاثون يوما، وإن كانت لا تعلم شيئا قال عامة مشايخنا تصوم خمسة وعشرين يوما.
وقال الفقيه أبو جعفر إن قضته موصولا صامت اثنين وثلاثين، وإن قضته مفصولا صامت ثمانية وثلاثين يوما وهو الأصح لما بينا وهذا كله إذا كان شهر رمضان كاملا، فإن كان ناقصا وعلمت أن ابتداء حيضها كان بالليل أو لم تعلم، فإن وصلت قضت ثلاثة وثلاثين يوما، وإن فصلت صامت سبعة وثلاثين يوما.
وأما إن حجت فلا تأتي بطواف التحية؛ لأنه سنة وتطوف للزيارة؛ لأنه ركن، ثم تعيده بعد

 

ج / 1 ص -427-       ولو زاد الدم على أكثر الحيض والنفاس فما زاد على عادتها استحاضة
_________________
عشرة وتطوف للصدر ولا تعيده؛ لأنها إن كانت طاهرة فقد سقط وإلا فلا يجب على الحائض ولا يأتيها زوجها تجنبا عن وقوعه في الحيض ولا يطؤها بالتحري؛ لأن التحري في باب الفروج لا يجوز، نص عليه في كتاب التحري في باب الجواري وقال مشايخنا له أن يتحرى؛ لأن زمان الطهر أكثر فتكون الغلبة للحلال وعند غلبة الحلال يجوز التحري كما في المساليخ إذا غلب الحلال منها، كذا في المحيط مع حذف للبعض ومن أشكل عليه شيء مما كتبناه فليراجعه.
وأما حكم العدة ففيه اختلاف فمنهم من لم يقدر لها طهرا ولا تنقضي عدتها أبدا؛ لأن التقدير لا يجوز إلا توقيفا والعامة قدروه بسنة والميداني بستة أشهر إلا ساعة؛ لأن الطهر بين الدمين أقل من أدنى مدة الحبل عادة فنقصنا عنه ساعة لتنقضي عدتها بتسعة عشر شهرا إلا ثلاث ساعات لاحتمال أنه طلقها أول الطهر وبحث الشارح الزيلعي أنه ينبغي زيادة عشرة لمثل ما قلنا في المسألة الثانية وجوابه بمثل ما قدمناه.
وعن محمد بن الحسن شهران واختاره الحاكم الشهيد وعليه الفتوى؛ لأنه أيسر على المفتي والنساء، كذا في النهاية والعناية وفتح القدير.
" قوله: ولو زاد الدم على أكثر الحيض والنفاس فما زاد على عادتها استحاضة "؛ لأن ما رأته في أيامها حيض بيقين وما زاد على العشرة استحاضة بيقين وما بين ذلك متردد بين أن يلحق بما قبله فيكون حيضا فلا تصلي وبين أن يلحق بما بعده فيكون استحاضة فتصلي فلا تترك الصلاة بالشك فيلزمها قضاء ما تركت من الصلاة.
والمراد بالأكثر عشرة أيام وعشر ليال في الحيض حتى إذا كان عشرة أيام وتسع ليال، ثم زاد الدم فإنه حيض حتى يزيد على ليلة الحادي عشر، كذا في السراج الوهاج وهل تترك بمجرد رؤيتها الزيادة قيل لا إذ لم تتيقن بكونه حيضا لاحتمال الزيادة على العشرة.
وقيل نعم استصحابا للحال ولأن الأصل الصحة وكونه استحاضة بكونه عن داء وصححه في النهاية وغيرها وكذا في النفاس فما زاد على الأربعين ولها عادة معروفة فإنها ترد إليها أطلقه فشمل ما إذا كان ختم عادتها بالدم أو بالطهر وهذا عند أبي يوسف.

 

ج / 1 ص -428-       ...............................
_________________
وعند محمد إن كان ختم عادتها بالدم فكذلك، وإن كان بالطهر فلا؛ لأن أبا يوسف يرى ختم الحيض والنفاس بالطهر إذا كان بعده دم ومحمد لا يرى ذلك.
وبيانه ما ذكر في الأصل إذا كانت عادتها في النفاس ثلاثين يوما فانقطع دمها على رأس عشرين يوما وطهرت عشرة أيام تمام عادتها فصلت وصامت، ثم عاودها الدم فاستمر بها حتى جاوز الأربعين ذكر أنها مستحاضة فيما زاد على الثلاثين ولا يجزئها صومها في العشرة التي صامت فيلزمها القضاء.
قال الحاكم الشهيد هذا على مذهب أبي يوسف يستقيم فأما على مذهب محمد ففيه نظر لما قدمناه فنفاسها عنده عشرون يوما فلا يلزمها قضاء ما صامت في العشرة أيام بعد العشرين، كذا في البدائع.
وقيد بكونه زاد على الأكثر؛ لأنه لو زاد على العادة ولم يزد على الأكثر فالكل حيض اتفاقا بشرط أن يكون بعده طهر صحيح، وإنما قيدنا به؛ لأنها لو كانت عادتها خمسة أيام مثلا من أول كل شهر فرأت ستة أيام فإن السادس حيض أيضا، فإن طهرت بعد ذلك أربعة عشر يوما، ثم رأت الدم فإنها ترد إلى عادتها وهي خمسة واليوم السادس استحاضة فتقضي ما تركته فيه من الصلاة، كذا في السراج الوهاج.
وإنما الخلاف في أنه يصير عادة لها أو لا إلا إن رأت في الثاني كذلك، وهذا بناء على نقل العادة بمرة أو لا.
فعندهما لا وعند أبي يوسف نعم وفي الخلاصة والكافي أن الفتوى على قول أبي يوسف.
وإنما تظهر ثمرة الاختلاف فيما لو استمر بها الدم في الشهر الثاني فعند أبي يوسف يقدر حيضها من كل شهر ما رأته آخرا وعندهما على ما كان قبله، كذا في فتح القدير وفيه نظر، بل ثمرة الاختلاف تظهر أيضا فيما إذا رأت في الشهر الأول زيادة على عادتها فإن الأمر موقوف عند أبي حنيفة إن رأت في الشهر الثاني مثله فهذا والأول حيض وإلا فهو استحاضة وقالا حيض؛ لأن أبا يوسف يرى نقض العادة بمرة ومحمد يرى الإبدال إن أمكن كما صرح به في الكافي فيما إذا رأت يومين ويوما قبلها.

 

ج / 1 ص -429-       ...............................
_________________
وفي الفتاوى الظهيرية ولو رأت صاحبة العادة قبل أيامها ما يكون حيضا وفي أيامها ما لا يكون حيضا أو رأت قبل أيامها ما لا يكون حيضا وفي أيامها ما لا يكون حيضا لكن إذا جمعا كان حيضا أو رأت قبل أيامها ما يكون حيضا ولم تر في أيامها شيئا لا يكون شيء من ذلك حيضا عند أبي حنيفة والأمر موقوف إلى الشهر الثاني، فإن رأت في الشهر الثاني ما رأت في الشهر الأول يكون الكل حيضا وعندهما يكون حيضا غير أن عند أبي يوسف بطريق العادة وعند محمد بطريق البدل.
ولو رأت قبل أيامها ما لا يكون حيضا وفي أيامها ما يكون حيضا فالكل حيض بالاتفاق ويجعل ما قبل أيامها تبعا لأيامها ولو رأت قبل أيامها ما يكون حيضا وفي أيامها ما يكون حيضا فعن أبي حنيفة روايتان وكذا الحكم في المتأخر غير أنها إذا رأت في أيامها ما يكون حيضا وبعد أيامها ما لا يكون حيضا يكون الكل حيضا رواية واحدة عن أبي حنيفة، وقد بين الإبدال على قول محمد وأطال فيه فمن رامه فليراجعها.
وما في الظهيرية هو الانتقال من حيث المكان وما تقدم هو انتقال العادة من حيث العدد، وعلى هذا الخلاف لو انقطع دون عادتها على ثلاثة أو أربعة، كذا في السراج الوهاج وفي الظهيرية والعادة كما تنتقل برؤية الدم المخالف للدم المرئي في أيامها مرتين.
فكذلك تنتقل بطهر أيامها مرتين قيد بكونها معتادة؛ لأنه لو لم يكن لها عادة معروفة بأن كانت ترى شهرا ستا وترى شهرا سبعا فاستمر بها الدم فإنها تأخذ في حق الصوم والصلاة والرجعة بالأقل وفي حق انقضاء العدة والغشيان بالأكثر فعليها إذا رأت ستة أيام في الاستمرار أن تغتسل في اليوم السابع لتمام السادس وتصلي فيه وتصوم إن كان دخل عليها شهر رمضان؛ لأنه يحتمل أن يكون السابع حيضا ويحتمل أن لا يكون حيضا فوجب احتياطا فإذا جاء الثامن فعليها الغسل ثانيا وتقضي اليوم الذي صامته في السابع لاحتمال كونها حائضا فيه ولا تقضي الصلاة، وإن كانت عادتها خمسة فحاضت ستة، ثم حاضت أخرى سبعة، ثم حاضت أخرى ستة فعادتها ستة بالإجماع حتى يبنى الاستمرار عليها؛ لأن عند أبي يوسف يبنى الاستمرار على المرة الأخيرة، وأما عندهما فقد رأت الستة مرتين، كذا في البدائع والمبسوط.
ومنهم كصاحب المحيط والمصفى جعل هذا نظير العادة الجعلية وأنها نوعان أصلية

 

ج / 1 ص -430-       ولو مبتدأة فحيضها عشرة ونفاسها أربعون
_________________
وهي أن ترى دمين متفقين وطهرين متفقين على الولاء أو أكثر وإن الخلاف جار فيها والجعلية تنتقل برؤية المخالف مرة واحدة اتفاقا وهي أن ترى أطهارا مختلفة ودماء مختلفة بأن رأت في الابتداء خمسة دما وسبعة عشر طهرا، ثم أربعة وستة عشر، ثم ثلاثة وخمسة عشر، ثم استمر بها الدم فعلى قول محمد بن إبراهيم يبنى على أوسط الأعداد فتدع من أول الاستمرار أربعة وتصلي ستة عشر وذلك دأبها.
وعلى قول ابن مزاحم تبني على أقل المرئيين الأخيرين فتدع ثلاثة وتصلي خمسة عشر فهذه عادتها جعلية لها في زمن الاستمرار ولذلك سميت جعلية؛ لأنها جعلت عادة للضرورة ولا يخفى أن ما في البدائع وغيره أولى؛ لأنه أحوط.
ثم اختلفوا في العادة الجعلية إذا طرأت على العادة الأصلية هل تنتقض الأصلية قال أئمة بلخ لا؛ لأنها دونها وقال أئمة بخارى نعم؛ لأنها لا بد أن تتكرر في الجعلية خلاف ما كان في الأصلية فإن المرأة متى كانت عادتها الأصلية في الحيض خمسة فلا تثبت العادة الجعلية إلا برؤية ستة وسبعة وثمانية ويتكرر فيها خلاف العادة الأصلية مرارا فالعادة الأصلية تنتقل بالتكرار بخلافها، كذا في المحيط.
وفي المجتبى والعادة تنتقل عند أبي يوسف بأحد أمور ثلاثة بعدم رؤية مكانها مرة وبطهر صحيح صالح لنصب العادة يخالف الأول مرة ودم صالح مخالف مرة وعندهما بتكرر هذه الأمور مرتين على الولاء ا هـ.
" قوله: ولو مبتدأة فحيضها عشرة ونفاسها أربعون " أي لو كانت المستحاضة ابتدأت مع البلوغ مستحاضة أو مع الولد الأول فحيضها ونفاسها الأكثر؛ لأن الأصل الصحة فلا يحكم بالعارض إلا بيقين وتترك الصلاة بمجرد رؤية الدم على الصحيح كصاحبة العادة وعن أبي حنيفة أنها لا تترك ما لم تستمر ثلاثة أيام وتثبت عادة هذه المبتدأة بمرة واحدة فلو رأت خمسة دما وخمسة عشر طهرا، ثم استمر الدم فإنها تترك الصلاة من أول الاستمرار خمسة، ثم تصلي خمسة عشر وذلك عادتها؛ لأن الانتقال عن حالة الصغر في النساء لا يحصل إلا بمرة واحدة بخلاف المعتادة، ثم العادة في حق المبتدأة أيضا نوعان أصلية وجعلية.
فالأولى على وجهين أحدهما أن ترى دمين خالصين وطهرين خالصين متفقين على الولاء

 

ج / 1 ص -431-       وتتوضأ المستحاضة ومن به سلس بول أو استطلاق بطن أو انفلات ريح أو رعاف دائم أو جرح لا يرقأ لوقت كل فرض
_________________
بأن رأت مبتدأة ثلاثة دما وخمسة عشر طهرا وثلاثة دما وخمسة عشر طهرا، ثم استمر بها الدم فإنها تدع الصلاة من أول الاستمرار وتصلي خمسة عشر؛ لأن ذلك صار عادة أصلية لها بالتكرار.
والثاني أن ترى دمين وطهرين مختلفين بأن رأت ثلاثة دما وخمسة عشر طهرا و أربعة دما وستة عشر طهرا، ثم استمر بها الدم فعند أبي يوسف أيام حيضها وطهرها ما رأت أول مرة واختلفوا في قولهما فقيل عادتها ما رأته أول مرة وقيل عادتها أقل المرتين؛ لأن الأقل موجود في الأكثر فيتكرر الأقل معنى، وأما العادة الجعلية فهي أن ترى ثلاثة دماء وأطهار مختلفة، ثم استمر الدم بها بأن رأت خمسة دما وسبعة عشر طهرا وأربعة دما وستة عشر طهرا وثلاثة دما وخمسة عشر طهرا واختلفوا فقيل عادتها أوسط الأعداد فتدع من أول الاستمرار أربعة وتصلي ستة عشر.
وقيل أقل المرئيين الأخيرين فتدع من أول الاستمرار ثلاثة وتصلي خمسة عشر فلو رأت مبتدأة ثلاثة دما وخمسة عشر طهرا وأربعة دما وستة عشر طهرا و خمسة دما وسبعة عشر طهرا، ثم استمر بها الدم فعادتها أربعة في الدم وستة عشر في الطهر اتفاقا؛ لأن ذلك أقل المرئيين الأخيرين وأوسط الأعداد.
ولو رأت ثلاثة دما وخمسة عشر طهرا و أربعة دما وستة عشر طهرا وثلاثة دما وخمسة عشر طهرا فإن عادتها ثلاثة في الدم وخمسة عشر في الطهر؛ لأنا جعلنا ما رأته آخرا مضموما إلى ما رأته أولا؛ لأنه تأكد بالتكرار فصار عادة جعلية لها، كذا في المحيط. وبقية مسائل المبتدأة مذكورة فيه فمن رامها فليراجعه ولخوف الإطالة المؤدية إلى الملل لم نوردها وأطلق العشرة فشمل الأولى والوسطى والأخيرة؛ لأن المراد عشرة من أول ما رأت.
" قوله: وتتوضأ المستحاضة ومن به سلس بول أو استطلاق بطن أو انفلات ريح أو رعاف دائم أو جرح لا يرقأ لوقت كل فرض " لما كان الحيض أكثر وقوعا قدمه، ثم أعقبه الاستحاضة؛ لأنه أكثر وقوعا من النفاس فإنها تكون مستحاضة بما إذا رأت الدم حالة الحبل أو زاد الدم على العشرة أو زاد الدم على عادتها وجاوز العشرة أو رأت ما دون الثلاث أو رأت قبل تمام الطهر أو رأت قبل أن تبلغ تسع سنين على ما عليه العامة.
وكذا من أسباب الاستحاضة إذا زاد الدم على الأربعين في النفاس أو زاد على عادتها

 

ج / 1 ص -432-       ...............................
_________________
وجاوز الأربعين وكذا ما تراه الآيسة بخلاف النفاس فإن سببه شيء واحد وقدم حكم الاستحاضة ومن بمعناها على تفريعها؛ لأن المقصود بيان الحكم.
ودم الاستحاضة اسم لدم خارج من الفرج دون الرحم وعلامته أنه لا رائحة له ودم الحيض منتن الرائحة.
ومن به سلس بول وهو من لا يقدر على إمساكه.
والرعاف الدم الخارج من الأنف.
والجرح الذي لا يرقأ أي الذي لا يسكن دمه من رقأ الدم سكن، وإنما كان وضوءها لوقت كل فرض لا لكل صلاة لقوله عليه الصلاة والسلام "المستحاضة تتوضأ لوقت كل صلاة" رواه سبط بن الجوزي عن أبي حنيفة وحديث "توضئي لكل صلاة" محمول عليه؛ لأن اللام للوقت.
وفي الفتاوى الظهيرية رجل رعف أو سال من جرحه دم ينتظر آخر الوقت إن لم ينقطع الدم توضأ وصلى قبل خروج الوقت، فإن توضأ وصلى ثم خرج الوقت ودخل وقت صلاة أخرى وانقطع الدم ودام الانقطاع إلى وقت صلاة أخرى توضأ وأعاد الصلاة، وإن لم ينقطع في وقت الصلاة الثانية حتى خرج الوقت جازت الصلاة. ا هـ. وسيأتي إيضاحه.
وقيد بالوضوء؛ لأنه لا يجب عليها الاستنجاء لوقت كل صلاة، كذا في الظهيرية أيضا.
وفي البدائع، وإنما تبقى طهارة صاحب العذر في الوقت إذا لم يحدث حدثا آخر، أما إذا أحدث حدثا آخر فلا تبقى كما إذا سال الدم من أحد منخريه فتوضأ، ثم سال من المنخر الآخر فعليه الوضوء؛ لأن هذا حدث جديد لم يكن موجودا وقت الطهارة، فأما إذا سال منهما جميعا فتوضأ ثم انقطع أحدهما فهو على وضوئه ما بقي الوقت ا هـ.

 

ج / 1 ص -433-       ويصلون به فرضا ونفلا ويبطل بخروجه فقط
_________________
" قوله: ويصلون به فرضا ونفلا " أي يصلي أرباب الأعذار بوضوئهم ما شاءوا فرضا كان أو واجبا أو نفلا فالمراد بالنفل ما زاد على الفرض فيشمل الواجب.
" فروع "
وينبغي لصاحب الجرح أن يربطه تقليلا للنجاسة ولو سال على ثوبه فعليه أن يغسله إذا كان مفيدا بأن لا يصيبه مرة أخرى، وإن كان يصيبه المرة بعد الأخرى أجزأه ولا يجب غسله ما دام العذر قائما، وقيل لا يجب غسله أصلا.
واختار الأول السرخسي والمختار ما في النوازل إن كان لو غسله تنجس ثانيا قبل الفراغ من الصلاة جاز أن لا يغسله وإلا فلا ومتى قدر المعذور على رد السيلان برباط أو حشو أو كان لو جلس لا يسيل ولو قام سال وجب رده وخرج برده عن أن يكون صاحب عذر بخلاف الحائض إذا منعت الدرور فإنها حائض واختلفوا في المستحاضة إذا احتشت قيل كصاحب العذر وقيل كالحائض، كذا في السراج ويجب أن يصلي جالسا بإيماء إن سال بالميلان؛ لأن ترك السجود أهون من الصلاة مع الحدث ولا يجوز أن يصلي من به انفلات ريح خلف من به سلس البول؛ لأن الإمام معه حدث ونجاسة فكان صاحب عذرين والمأموم صاحب عذر واحد ولو كان في عينيه رمد يسيل دمعها يؤمر بالوضوء لكل وقت لاحتمال كونه صديدا وفي فتح القدير وأقول: هذا التعليل يقتضي أنه أمر استحباب فإن الشك والاحتمال في كونه ناقضا لا يوجب الحكم بالنقض إذ اليقين لا يزول بالشك نعم إذا علم من طريق غلبة الظن بإخبار الأطباء أو علامات تغلب على ظن المبتلى يجب ا هـ.
وهو حسن لكن صرح في السراج الوهاج بأنه صاحب عذر فكان الأمر للإيجاب.
" قوله: ويبطل بخروجه فقط " أي ولا يبطل بدخوله ومراده يظهر الحدث السابق عند خروجه فإضافة البطلان إلى الخروج مجاز؛ لأنه لا تأثير للخروج في الانتقاض حقيقة ولهذا لا يجوز لهم المسح على الخفين بعد الوقت إذا كان العذر موجودا وقت الوضوء أو اللبس ولا البناء إذا خرج الوقت وهم في الصلاة.
وظهور الحدث السابق عنده إنما هو مقتصر من كل وجه على التحقيق لا أنه مستند إلى أول الوقت ولهذا لو شرع صاحب العذر في التطوع ثم خرج الوقت لزمه القضاء ولو كان ظهوره مستندا لم يلزمه؛ لأن المراد بظهوره أن ذلك الحدث محكوم بارتفاعه إلى غاية معلومة فيظهر

 

ج / 1 ص -434-       وهذا إذا لم يمض عليهم وقت فرض إلا وذلك الحدث يوجد فيه
_________________
عندها مقتصر إلا أن يظهر قيامه شرعا من ذلك الوقت ومن حقق أنه اعتبار شرعي لم يشكل عليه مثله، ثم إنما يبطل بخروجه إذا توضأ على السيلان أو وجد السيلان بعد الوضوء.
أما إذا كان على الانقطاع ودام إلى خروج الوقت فلا يبطل بالخروج ما لم يحدث حدثا آخر أو يسيل دمها.
وأفاد أنه لو توضأ بعد طلوع الشمس ولو لعيد أو ضحى على الصحيح فلا تنتقض إلا بخروج وقت الظهر لا بدخوله خلافا لأبي يوسف وأنه لو توضأ قبل الطلوع انتقض بالطلوع اتفاقا خلافا لزفر وأنه لو توضأ في وقت الظهر للعصر بطل بخروج وقت الظهر على الصحيح.
فالحاصل أنه ينتقض بالخروج لا بالدخول عندهما وعند أبي يوسف بأيهما وجد وعند زفر بالدخول فقط.
" قوله: وهذا إذا لم يمض عليهم وقت فرض إلا وذلك الحدث يوجد فيه " أي وحكم الاستحاضة والعذر يبقى إذا لم يمض على أصحابهما وقت صلاة إلا والحدث الذي ابتليت به يوجد فيه ولو قليلا حتى لو انقطع وقتا كاملا خرج عن كونه عذرا قيدنا بكونه شرط البقاء؛ لأن شرط ثبوته ابتداء بأن يستوعب وقتا كاملا، كذا في أكثر الكتب.
وفي النهاية يشترط في الابتداء دوام السيلان من أول الوقت إلى آخره اعتبارا بالسقوط فإنه لا يتم حتى ينقطع في الوقت كله، وفي شرح الشيخ حميد الدين الضرير فالشرط في الابتداء أن يكون الحدث مستغرقا جميع الوقت حتى لو لم يستغرق كل الوقت لا تكون مستحاضة، وظاهره أنه لو انقطع في الوقت زمنا يسيرا لا تكون مستحاضة.
وفي الكافي ما يخالفه فإنه قال إنما يصير صاحب عذر إذا لم يجد في وقت صلاة زمانا يتوضأ فيه خاليا عن الحدث وفي التبيين أن الأظهر خلاف ما في الكافي.
وفي فتح القدير أن ما في الكافي يصلح تفسيرا لما في غيره إذ قل ما يستمر كمال وقت بحيث لا ينقطع لحظة فيؤدي إلى نفي تحققه إلا في الإمكان بخلاف جانب الصحة منه فإنه يدوم انقطاعه وقتا كاملا وهو مما يتحقق. ا هـ.

 

ج / 1 ص -435-       ...............................
_________________
وفي شرح الدرر والغرر لمنلا خسرو لا مخالفة بين ما في عامة الكتب وما ذكره في الكافي بدليل أن شراح الجامع الخلاطي قالوا في شرح قوله؛ لأن زوال العذر يثبت باستيعاب الوقت كالثبوت إن الانقطاع الكامل معتبر في إبطال رخصة المعذور والقاصر غير معتبر إجماعا فاحتيج إلى حد فاصل فقدرنا بوقت الصلاة كما قدرنا به ثبوت العذر ابتداء فإنه يشترط لثبوته ابتداء دوام السيلان من أول الوقت إلى آخره؛ لأنه إنما يصير صاحب عذر ابتداء إذا لم يجد في وقت صلاة زمانا يتوضأ فيه ويصلي خاليا عن الحدث الذي ابتلي به. ا هـ.
فالحاصل أن صاحب العذر ابتداء من استوعب عذره تمام وقت صلاة ولو حكما؛ لأن الانقطاع اليسير ملحق بالعدم وفي البقاء من وجد عذره في جزء من الوقت وفي الزوال يشترط استيعاب الانقطاع حقيقة وفي السراج الوهاج للمستحاضة وضوءان كامل وناقص.
فالكامل أن تتوضأ والدم منقطع فهذه لا يضرها خروج الوقت إذا لم يسل إلى خروجه، والناقص أن تتوضأ وهو سائل فهذه يضرها خروجه سال بعد ذلك أو لا ولها انقطاعان كامل وناقص.
فالكامل أن ينقطع وقتا كاملا فهذا يوجب الزوال ويمنع اتصال الدم الثاني بالأول، والناقص أن ينقطع دونه فهذا لا يزيله ويكون ما بعده كدم متصل.
وبيانه إذا زالت الشمس ودمها سائل فتوضأت على السيلان، ثم انقطع قبل الشروع في صلاة الظهر أو بعده قبل القعود قدر التشهد أو بعده قبل السلام عند الإمام ودام الانقطاع حتى خرج وقت الظهر انتقض وضوءها؛ لأنه ناقص فأفسده خروج الوقت، ثم إذا توضأت للعصر فتم الانقطاع حتى غربت الشمس لم ينتقض وضوءها؛ لأنه كامل فلا يضره الخروج ولكن عليها إعادة الظهر؛ لأن دمها انقطع وقتا كاملا وتبين أنها صلت الظهر بطهارة العذر والعذر زائل ولا يجب عليها إعادة العصر؛ لأن فساد الظهر إنما عرف بعد الغروب.
وأما إذا كان دمها انقطع بعدما فرغت من صلاة الظهر أو بعد القعود قدر التشهد على قولهما فإنها لا تعيد الظهر؛ لأن عذرها زال بعد الفراغ كالمتيمم إذا رأى الماء بعد الفراغ من الصلاة ا هـ

 

ج / 1 ص -436-       والنفاس دم يعقب الولد
_________________
وظن القوام الأتقاني في غاية البيان أن ما ذكر في المتن تعريف للمستحاضة فأورد عليه الحائض والنفساء؛ لأن الحائض قد تكون بهذه المثابة بأن لا يمضي عليها وقت إلا وهو يوجد فيه.
واختار تعريفا للمستحاضة بأنها هي التي ترى الدم مستغرقا وقت صلاة في الابتداء من غير شرط استمرار في البقاء في زمان لا يعتبر من الحيض والنفاس. ا هـ. وليس كما ظن بل هو شرط لها لا تعريف، وقد قدمنا تعريف الاستحاضة.
" قوله: والنفاس دم يعقب الولد " شرعا وفي اللغة هو مصدر نفست المرأة بضم النون وفتحها إذا ولدت فهي نفساء وهن نفاس، وإنما سمي الدم به؛ لأن النفس التي هي اسم لجملة الحيوان قوامها بالدم وقولهم النفاس هو الدم الخارج عقيب الولد تسمية بالمصدر كالحيض.
فأما اشتقاقه من تنفس الرحم أو خروج النفس بمعنى الولد فليس بذاك، كذا في المغرب.
وأفاد المصنف أنها لو ولدت ولم تر دما لا تكون نفساء، ثم يجب الغسل عند أبي حنيفة احتياطا؛ لأن الولادة لا تخلوا ظاهرا عن قليل دم وعند أبي يوسف لا يجب؛ لأنه متعلق بالنفاس ولم يوجد، كذا في فتح القدير وفيه نظر بل هي نفساء عند أبي حنيفة لما في السراج الوهاج أنه يبطل صومها عند أبي حنيفة إن كانت صائمة وعند أبي يوسف لا غسل عليها ولا يبطل صومها ا هـ.
فلو لم تكن نفساء لم يبطل صومها.
وصحح الشارح الزيلعي قول أبي يوسف معزيا إلى المفيد وقال لكن يجب عليها الوضوء بخروج النجاسة مع الولد إذ لا تخلو عن رطوبة.
وصحح في الفتاوى الظهيرية قول الإمام بالوجوب.
وكذا صححه في السراج الوهاج قال وبه كان يفتي الصدر الشهيد فكان هو المذهب وفي العناية، وأكثر المشايخ أخذوا بقول أبي حنيفة.
وأراد المصنف بالدم الدم الخارج عقب الولادة من الفرج فإنها لو ولدت من قبل سرتها بأن كان ببطنها جرح فانشقت وخرج الولد منها تكون صاحبة جرح سائل لا نفساء وتنقضي به العدة وتصير الأمة أم ولد ولو علق طلاقها بولادتها وقع لوجود الشرط، كذا في الفتاوى الظهيرية إلا إذا سال الدم من الأسفل فإنها تصير نفساء ولو ولدت من السرة؛ لأنه وجد خروج الدم من الرحم عقب الولادة، كذا في المحيط الدم الخارج عقب خروج أكثر الولد كالخارج

 

ج / 1 ص -437-       ودم الحامل استحاضة والسقط إن ظهر بعض خلقه ولدا
_________________
عقب كله فيكون نفاسا، وإن خرج الأقل لا يكون حكمها حكم النفساء ولا تسقط عنها الصلاة ولو لم تصل تكون عاصية لربها.
ثم كيف تصلي قالوا يؤتى بقدر فيجعل القدر تحتها أو يحفر لها حفيرة وتجلس هناك وتصلي كي لا تؤذي ولدها، كذا في الظهيرية ونقله في المحيط عن أبي حنيفة وأبي يوسف وعند محمد وزفر إذا خرج أكثره لا يكون نفاسا؛ لأن عندهما النفاس لا يثبت إلا بوضع الحمل كله.
" قوله: ودم الحامل استحاضة " لانسداد فم الرحم بالولد فلا يخرج منه دم، ثم يخرج بخروج الولد للانفتاح به ولذا حكم الشارع بكون وجود الدم دليلا على فراغ الرحم في قوله صلى الله عليه وسلم
"ألا لا تنكح الحبالى حتى يضعن ولا الحيالى حتى يستبرأن بحيضة".
وأفاد أن ما تراه من الدم في حال ولادتها قبل خروج أكثر الولد استحاضة فتتوضأ إن قدرت في هذه الحالة أو تتيمم وتومئ بالصلاة ولا تؤخر فما عذر الصحيح القادر كذا في المجتبى.
" قوله: والسقط إن ظهر بعض خلقه ولدا " وهو بالكسر والتثليث لغة، كذا في المصباح وهو الولد الساقط قبل تمامه وهو كالساقط بعد تمامه في الأحكام فتصير المرأة به نفساء وتنقضي به العدة وتصير الأمة به أم ولد إذا ادعاه المولى ويحنث به لو كان علق يمينه بالولادة ولا يستبين خلقه إلا في مائة وعشرين يوما، كذا ذكره الشارح الزيلعي في باب ثبوت النسب والمراد نفخ الروح وإلا فالمشاهد ظهور خلقته قبلها.
قيد بقوله إن ظهر؛ لأنه لو لم يظهر من خلقته شيء فلا يكون ولدا ولا تثبت هذه الأحكام فلا نفاس لها لكن إن أمكن جعل المرئي من الدم حيضا بأن يدوم إلى أقل مدة الحيض ويقدمه طهر تام يجعل حيضا، وإن لم يمكن كان استحاضة، كذا في العناية، وإن كان لا يدري أمستبين هو أم لا بأن أسقطت في المخرج واستمر بها الدم إن أسقطت أول أيامها تركت الصلاة قدر عادتها بيقين؛ لأنها إما حائض أو نفساء، ثم تغتسل

 

ج / 1 ص -438-       ولا حد لأقله
_________________
وتصلي عادتها في الطهر بالشك لاحتمال كونها نفساء أو طاهرة، ثم تترك الصلاة قدر عادتها بيقين؛ لأنها إما نفساء أو حائض، ثم تغتسل وتصلي عادتها في الطهر بيقين إن كانت استوفت أربعين من وقت الإسقاط وإلا فبالشك في القدر الداخل فيها وبيقين في الباقي، ثم تستمر على ذلك، وإن أسقطت بعد أيامها فإنها تصلي من ذلك الوقت قدر عادتها في الطهر بالشك، ثم تترك قدر عادتها في الحيض بيقين. وحاصل هذا كله أنه لا حكم للشك ويجب الاحتياط وفي كثير من نسخ الخلاصة غلط في التصوير هنا من النساخ فاحترس منه، كذا في فتح القدير.
وفي النهاية، فإن رأت دما قبل إسقاط السقط ورأت دما بعده، فإن كان مستبين الخلق فما رأت قبله لا يكون حيضا وهي نفساء فيما رأته بعده، وإن لم يكن مستبين الخلق فما رأته بعده حيض إن أمكن كما قدمناه.
" قوله: ولا حد لأقله " أي النفاس؛ لأن تقدم الولد علم الخروج من الرحم فأغنى عن امتداده بما جعل علما عليه بخلاف الحيض وذكر شيخ الإسلام في مبسوطه اتفق أصحابنا على أن أقل النفاس ما يوجد فإنها كما ولدت إذا رأت الدم ساعة، ثم انقطع الدم عنها فإنها تصوم وتصلي وكان ما رأت نفاسا.
لا خلاف في هذا بين أصحابنا إنما الخلاف فيما إذا وجب اعتبار أقل النفاس في انقضاء العدة بأن قال لها إذا ولدت فأنت طالق فقالت انقضت عدتي أي مقدار يعتبر لأقل النفاس مع ثلاث حيض عند أبي حنيفة يعتبر أقله بخمسة وعشرين يوما وعند أبي يوسف بأحد عشر وعند محمد بساعة، فأما في حق الصوم والصلاة فأقله ما يوجد، كذا في النهاية.
وإنما لم ينقص عن خمسة وعشرين عند أبي حنيفة؛ لأنه لو نصب لها دون ذلك أدى إلى نقض العادة عند عود الدم في الأربعين؛ لأن من أصله أن الدم إذا كان في الأربعين فالطهر المتخلل فيه لا يفصل طال الطهر أو قصر حتى لو رأت ساعة دما وأربعين إلا ساعتين طهرا، ثم ساعة دما كان الأربعون كله نفاسا.
وعندهما إن لم يكن الطهر خمسة عشر يوما فكذلك، وإن كان خمسة عشر يوما فصاعدا يكون الأول نفاسا والثاني حيضا إن أمكن وإلا كان استحاضة وهو رواية ابن المبارك عنه وكذا في حق الإخبار بانقضاء العدة مقدر بخمسة وعشرين يوما عنده وأبو يوسف قدره بأحد عشر يوما ليكون أكثر من أكثر الحيض، كذا في التبيين فعلى هذا لا تصدق في أقل من خمسة وثمانين يوما عند أبي حنيفة في رواية محمد عنه وفي رواية الحسن لا تصدق في أقل من مائة يوم وتوضيحه بتمامه في السراج الوهاج.

 

ج / 1 ص -439-      
وأكثره أربعون يوما والزائد استحاضة ونفاس التوأمين من الأول
_________________
" قوله: وأكثره أربعون يوما والزائد استحاضة " وهو مروي عن جماعة من الصحابة منهم ابن عمر وعائشة.
ولأنهم أجمعوا على أن أكثر مدة النفاس أربعة أمثال أكثر مدة الحيض، وقد ثبت في باب الحيض أن أكثر مدته عشرة أيام بلياليها فكان أكثر مدة النفاس أربعين يوما، وإنما كان كذلك؛ لأن الروح لا تدخل في الولد قبل أربعة أشهر فتجتمع الدماء أربعة أشهر فإذا دخل الروح صار الدم غذاء للولد فإذا خرج الولد خرج ما كان محتسبا من الدماء أربعة أشهر في كل شهر عشرة أيام، كذا في العناية ومراده المبتدأة، وأما صاحبة العادة إذا زاد دمها على الأربعين فإنها ترد إلى أيام عادتها، وقد ذكره من قبل هذا، كذا في التبيين، وقد قدمنا أن أبا يوسف يجوز ختم عادتها بالطهر ومحمد يمنعه فراجعه.
" قوله: ونفاس التوأمين من الأول " وهما الولدان اللذان بين ولادتيهما أقل من ستة أشهر وهذا مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن بالولد الأول ظهر انفتاح الرحم فكان المرئي عقبه نفاسا وعند محمد وزفر نفاسها من الثاني والأول استحاضة.
وأفاد المصنف أن ما تراه عقب الثاني إن كان قبل الأربعين فهو نفاس الأول لتمامها واستحاضة بعد تمامها عند أبي حنيفة وأبي يوسف فتغتسل وتصلي كما وضعت الثاني وهو الصحيح، كذا في النهاية وفي السراج الوهاج ومن فوائد الاختلاف إذا كان عادتها عشرين فرأت بعد الأول عشرين وبعد الثاني أحدا وعشرين فعند أبي حنيفة وأبي يوسف العشرون الأولى نفاس وما بعد الثاني استحاضة وعند محمد وزفر العشرون الأولى استحاضة تصوم وتصلي معها وما بعد الثاني نفاس ولو رأت بعد الأول عشرين وبعد الثاني عشرين وعادتها عشرون فالذي بعد الثاني نفاس إجماعا والذي قبله نفاس أيضا عندهما خلافا لمحمد وزفر.
وقيد بالتوأمين؛ لأنه لو كان بينهما ستة أشهر فأكثر فهما حملان ونفاسان، ولو ولدت ثلاثة أولاد بين الأول والثاني أقل من ستة أشهر وكذا بين الثاني والثالث ولكن بين الأول والثالث أكثر من ستة أشهر فالصحيح أنه يجعل حملا واحدا. والله تعالى أعلم.

 

ج / 1 ص -440-       باب الأنجاس
_________________
" باب الأنجاس "
لما فرغ من الحكمية وتطهيرها شرع في الحقيقية وإزالتها وقدم الحكمية؛ لأنها أقوى لكون قليلها يمنع جواز الصلاة اتفاقا ولا يسقط وجوب إزالتها بعذر ما إما أصلا أو خلفا بخلاف الحقيقة، كذا في النهاية، وأما من به نجاسة وهو محدث إذا وجد ماء يكفي أحدهما فقط إنما وجب صرفه إلى النجاسة لا الحدث ليتيمم بعده فيكون محصلا للطهارتين لا لأنها أغلظ من الحدث، كذا في فتح القدير والأنجاس جمع نجس بفتحتين وهو كل مستقذر وهو في الأصل مصدر، ثم استعمل اسما قال الله تعالى {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}[التوبة:28] وكما أنه يطلق على الحقيقي يطلق على الحكمي إلا أنه لما قدم بيان الحكمي أمن اللبس فأطلقه كذا في العناية وفي الكافي الخبث يطلق على الحقيقي والحدث على الحكمي والنجس عليهما ا هـ.
والنجاسة شرعا عين مستقذرة شرعا وإزالتها عن البدن والثوب والمكان فرض إن كان القدر المانع كما سيأتي وأمكن إزالتها من غير ارتكاب ما هو أشد حتى لو لم يتمكن من إزالتها إلا بإبداء عورته للناس يصلي معها؛ لأن كشف العورة أشد فلو أبداها للإزالة فسق إذ من ابتلي بين أمرين محظورين عليه أن يرتكب أهونهما، كذا في فتح القدير وفي البزازية ومن لم يجد سترة تركه ولو على شط نهر؛ لأن النهي راجح على الأمر حتى استوعب النهي الأزمان ولم يقتض الأمر التكرار.
وفي الخلاصة إذا تنجس طرف من أطراف الثوب ونسيه فغسل طرفا من أطراف الثوب من غير تحر حكم بطهارة الثوب وهو المختار فلو صلى مع هذا الثوب صلوات، ثم ظهر أن النجاسة في الطرف الآخر يجب عليه إعادة الصلوات التي صلى مع هذا الثوب. ا هـ.
وفي الظهيرية المصلي إذا رأى على ثوبه نجاسة ولا يدري متى أصابته ففيه تقاسيم واختلافات والمختار عند أبي حنيفة أنه لا يعيد إلا الصلاة التي هو فيها واختار في البدائع في المسألة الأولى غسل الجميع احتياطا؛ لأن موضع النجاسة غير معلوم وليس البعض بأولى من البعض وفي شرح النقاية ولو وجب غسل على رجل ولم يجد ما يستره من رجال يرونه يغتسل ولا يؤخر ولو وجب عليه الاستنجاء يتركه.

 

ج / 1 ص -441-       يطهر البدن والثوب بالماء، وبمائع مزيل كالخل وماء الورد
_________________
والفرق أن النجاسة الحكمية أقوى من النجاسة الحقيقية بدليل عدم جواز الصلاة معها، وإن كانت دون الدرهم ولو وجب غسل على امرأة لا تجد سترة من الرجال تؤخر، وإن كانت لا تجد سترة من النساء فكالرجل بين الرجال. ا هـ.
وينبغي أن تتيمم المرأة وتصلي لعجزها شرعا عن استعمال الماء فينتقل الحكم إلى التيمم وسيأتي تفاريعها في شروط الصلاة.
" قوله: يطهر البدن والثوب بالماء " وهذا بالإجماع وأراد به الماء المطلق، وقد تقدم تعريفه في بحث المياه وأراد بطهارة البدن طهارته من الخبث لا من الحدث؛ لأنه عطف عليه المائع الطاهر، وإن كان الحدث يجوز إزالته بالماء.
" قوله: وبمائع مزيل كالخل وماء الورد " قياسا على إزالتها بالماء بناء على أن الطهارة بالماء معلولة بعلة كونه قالعا لتلك النجاسة والمائع قالع فهو محصل ذلك المقصود فتحصل به الطهارة وما عن أسماء بنت الصديق رضي الله عنهما قالت جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت إحدانا يصيب ثوبها من دم الحيض كيف تصنع به قال "تحته، ثم تقرصه بالماء، ثم تنضحه، ثم تصلي فيه" متفق عليه فلا يدل على خلافه؛ لأنه مفهوم لقب وهو ليس بحجة كما عرف في الأصول.
والحت القشر بالعود والظفر ونحوه، والقرص بأطراف الأصابع وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف خلافا لمحمد قياسا على النجاسة الحكمية.
وقيد بكونه مزيلا ليخرج الدهن والسمن واللبن وما أشبه ذلك؛ لأن الإزالة إنما تكون بأن يخرج أجزاء النجاسة مع المزيل شيئا فشيئا، وذلك إنما يتحقق فيما ينعصر بالعصر بخلاف الخل وماء الباقلا الذي لم يثخن فإنه مزيل وكذا الريق وعلى هذا فرعوا طهارة الثدي إذا قاء عليه الولد، ثم رضعه حتى أزال أثر القيء وكذا إذا لحس أصبعه من نجاسة بها حتى ذهب الأثر أو شرب خمرا

 

ج / 1 ص -442-       ...............................
_________________
ثم تردد ريقه في فيه مرارا طهر حتى لو صلى صحت صلاته وعلى قول محمد لا تصح ولا يحكم بالطهارة بذلك؛ لأنه لا يجيز إزالتها إلا بالماء المطلق ولم يقيده بالطاهر كما في الهداية للاختلاف فيه فقيل لا يشترط حتى لو غسل الثوب المتنجس بالدم ببول ما يؤكل لحمه زالت نجاسة الدم وبقية نجاسة البول فلا يمنع ما لم يفحش وصحح السرخسي أن التطهير بالبول لا يكون واختاره المحقق في فتح القدير.
ووجهه أن سقوط التنجس حال كون المستعمل في المحل ضرورة التطهير وليس البول مطهرا للتضاد بين الوصفين فيتنجس بنجاسة الدم فما ازداد الثوب بهذا إلا شرا إذ يصير جميع المكان المصاب بالبول متنجسا بنجاسة الدم، وإن لم يبق عين الدم، وتظهر ثمرة الاختلاف أيضا فيمن حلف ما فيه دم، وقد غسله بالبول لا يحنث على الضعيف ويحنث على الصحيح إليه أشار في النهاية وفي العناية وكذا الحكم في الماء المستعمل يعني على القول بنجاسته فقيل يزيل النجاسة والأصح لا.
وأما على القول بطهارته فهو مائع مزيل طاهر فيزيل النجاسة الحقيقية، وقد صرح بكون المستعمل مزيلا القدوري في مختصره وفي النهاية إنما يتصور على رواية محمد عن أبي حنيفة.
وأما رواية أبي يوسف فهو نجس فلا يزيل النجاسة، وقد قدمنا الكلام عليه في بحث الماء المستعمل، ثم اعلم أن القياس يقتضي تنجس الماء بأول الملاقاة للنجاسة لكن سقط للضرورة سواء كان الثوب في إجانة وأورد الماء عليه أو كان الماء فيها وأورد الثوب المتنجس عليه عندنا فهو طاهر في المحل نجس إذا انفصل سواء تغير أو لا وهذا في الماءين بالاتفاق.
وأما الماء الثالث فهو طاهر عندهما إذا انفصل أيضا؛ لأنه كان طاهرا وانفصل عن محل طاهر.
وعند أبي حنيفة نجس؛ لأن طهارته في المحل ضرورة تطهيره، وقد زالت، وإنما حكم شرعا بطهارة المحل عند انفصاله ولا ضرورة في اعتبار الماء المنفصل طاهرا مع مخالطة النجس بخلاف الماء الرابع فإنه لم يخالطه ما هو محكوم شرعا بنجاسته في المحل فيكون طاهرا.

 

ج / 1 ص -443-       لا الدهن
_________________
وأما عند الشافعي فإنما سقط هذا القياس في الماء الوارد على النجاسة، أما في الماء الذي وردت عليه النجاسة فلا يطهر عنده.
وعلى هذا فالأولى في غسل الثوب النجس وضعه في الإجانة من غير ماء، ثم صب الماء عليه لا وضع الماء أولا، ثم وضع الثوب فيه خروجا من الخلاف ولما سقط ذلك القياس عندنا مطلقا لم يفرق محمد بين تطهير الثوب النجس في الإجانة والعضو النجس بأن يغسل كلا منهما في ثلاث إجانات طاهرات أو ثلاثا في إجانة بمياه طاهرة ليخرج من الثالث طاهرا.
وقال أبو يوسف بذلك في الثوب خاصة، أما العضو المتنجس إذا غمس في إجانات طاهرات نجس الجميع ولا يطهر بحال بل بأن يغسل في ماء جار أو يصب عليه؛ لأن القياس يأبى حصول الطهارة لهما بالغسل في الأواني فسقط في الثياب للضرورة وبقي في العضو لعدمها.
وهذا يقتضي أنه لو كان المتنجس من الثوب موضعا صغيرا فلم يصب الماء عليه، وإنما غسله في الإناء فإنه لا يطهر عند أبي يوسف لعدم الضرورة لتيسر الصب. وعلى هذا جنب اغتسل في آبار ولم يكن استنجى تنجس كلها، وإن كثرت، وإن كان استنجى صارت فاسدة.
ولم يطهر عند أبي يوسف وقال محمد إن لم يكن استنجى يخرج من الثالثة طاهرا وكلها نجسة، وإن كان استنجى يخرج من الأولى طاهرا وسائرها مستعملة، كذا في المصفى.
وينبغي تقييد الاستعمال بما إذا قصد القربة عنده، كذا في فتح القدير.
وقد قدمنا في بحث الماء المستعمل أنه لا يحتاج إلى قصد القربة عند محمد على الصحيح وقدمنا أن ماء البئر لا يصير مستعملا على الصحيح؛ لأن الملاقي للعضو المنفصل عنه وهو قليل بالنسبة إلى ماء البئر فلا يصير ماؤها مستعملا كما أوضحناه في الخير الباقي في جواز الوضوء في الفساقي وتكلمنا عليه في شرحنا هذا فراجعه.
" قوله: لا الدهن " أي لا يجوز التطهير بالدهن؛ لأنه ليس بمزيل.
وما روي عن أبي يوسف من أنه لو غسل الدم من الثوب بدهن حتى ذهب أثره جاز،

 

ج / 1 ص -444-       والخف بالدلك بنجس ذي جرم وإلا يغسل
_________________
فخلاف الظاهر عنه بل الظاهر عن أبي حنيفة وصاحبيه خلافه، كذا في شرح منية المصلي وكذا ما روي في المحيط من كون اللبن مزيلا في رواية فضعيف وعلى ضعفه فهو محمول على ما إذا لم يكن فيه دسومة.
وفي المجتبى والماء المقيد ما استخرج بعلاج كماء الصابون والحرض والزعفران والأشجار والأثمار والباقلا فهو طاهر غير طهور يزيل النجاسة الحقيقية عن الثوب والبدن جميعا كذا قال الكرخي والطحاوي وفي العيون لا يزيل عن البدن في قولهم جميعا والصحيح ما ذكراه ا هـ.
" قوله: والخف بالدلك بنجس ذي جرم وإلا يغسل " بالرفع عطفا على البدن أي يطهر الخف بالدلك إذا أصابته نجاسة لها جرم، وإن لم يكن لها جرم فلا بد من غسله لحديث أبي داود "إذا جاء أحدكم المسجد فلينظر، فإن رأى في نعله أذى أو قذرا فليمسحه وليصل فيهما" وفي حديث ابن خزيمة
"فطهورهما التراب" وخالف فيه محمد والحديث حجة عليه، ولهذا روي رجوعه كما في النهاية.
قيد بالخف؛ لأن الثوب والبدن لا يطهران بالدلك إلا في المني؛ لأن الثوب لتخلخله يتداخله كثير من أجزاء النجاسة فلا يخرجها إلا الغسل والبدن للينه ورطوبته وما به من العرق لا يجف، فعلى هذا فما روي عن محمد في المسافر إذا أصاب يده نجاسة يمسحها بالتراب فمحمول على أن المسح لتقليل النجاسة لا للتطهير وإلا فمحمد لا يجوز الإزالة بغير الماء وهما لا يقولان بالدلك إلا في الخف والنعل، كذا في فتح القدير وظاهر ما في النهاية أن المسح للتطهير فيحمل على أن عن محمد روايتين.
ولم يقيده بالجفاف للإشارة إلى أن قول أبي يوسف هنا هو الأصح فإن عنده لا تفصيل بين الرطب واليابس وهما قيداه بالجفاف وعلى قوله أكثر المشايخ.

 

ج / 1 ص -445-       ...............................
_________________
وفي النهاية والعناية والخانية والخلاصة وعليه الفتوى وفي فتح القدير وهو المختار لعموم البلوى ولإطلاق الحديث وفي الكافي والفتوى أنه يطهر لو مسحه بالأرض بحيث لم يبق أثر النجاسة ا هـ فعلم به أن المسح بالأرض لا يطهر إلا بشرط ذهاب أثر النجاسة وإلا لا يطهر.
وأطلق الجرم فشمل ما إذا كان الجرم منها أو من غيرها بأن ابتل الخف بخمر فمشي به على رمل أو رماد فاستجمد فمسحه بالأرض حتى تناثر طهر وهو الصحيح، كذا في التبيين، ثم الفاصل بينهما أن كل ما يبقى بعد الجفاف على ظاهر الخف كالعذرة والدم فهو جرم وما لا يرى بعد الجفاف فليس بجرم.
واشتراط الجرم قول الكل؛ لأنه لو أصابه بول فيبس لم يجزه حتى يغسله؛ لأن الأجزاء تتشرب فيه فاتفق الكل على أن المطلق مقيد فقيده أبو يوسف بغير الرقيق وقيداه بالجرم والجفاف وإنما قيده أبو يوسف به؛ لأنه مفاد بقوله طهور أي مزيل ونحن نعلم أن الخف إذا تشرب البول لا يزيله المسح فإطلاقه مصروف إلى ما يقبل الإزالة بالمسح، كذا في النهاية والعناية وتعقبه في فتح القدير بأنه لا يخفى ما فيه إذ معنى طهور مطهر، واعتبر ذلك شرعا بالمسح المصرح به في الحديث الآخر الذي ذكرناه مقتصرا عليه وكما لا يزيل ما تشرب به من الرقيق كذلك لا يزيل ما تشرب من الكثيف حال الرطوبة على ما هو المختار للفتوى باعتراف هذا المجيب.
والحاصل فيه بعد إزالة الجرم كالحاصل قبل الدلك في الرقيق فإنه لا يشرب إلا ما في استعداده قبوله، وقد يصيبه من الكثيفة الرطبة مقدار كثير يشرب من رطوبته مقدار ما يشربه من بعض الرقيق. ا هـ.
وقد يفرق بأن التشرب، وإن كان موجودا فيهما لكن عفي عنه في التشرب من الكثيف حال الرطوبة للضرورة والبلوى ولأنا نعلم أن الحديث يفيد طهارتها بالدلك مع الرطوبة إذ ما بين المسجد والمنزل ليس مسافة يجف في مدة قطعها ما أصاب الخف رطبا ولم يعف عن التشرب في الرقيق لعدم الضرورة والبلوى إذ قد جوزوا كون الجرم من غيرها بأن يمشي به على رمل أو تراب فيصير لها جرم فتطهر بالدلك فحيث أمكنه ذلك لا ضرورة في التطهير بدونه. والله سبحانه أعلم.
وذكر المصنف الدلك بالأرض تبعا لرواية الأصل وهو المسح فإنه ذكر في الأصل إذا

 

ج / 1 ص -446-       وبمني يابس بالفرك وإلا يغسل
_________________
مسحهما بالتراب يطهر وفي الجامع الصغير أنه إن حكه أو حته بعدما يبس طهر.
قال في النهاية قال مشايخنا لولا المذكور في الجامع الصغير. لكنا نقول: إنه إذا لم يمسحهما بالتراب لا يطهر؛ لأن المسح بالتراب له أثر في باب الطهارة فإن محمدا قال في المسافر إذا أصاب يده نجاسة يمسحها بالتراب، فأما الحك فلا أثر له في باب الطهارة فالمذكور في الجامع الصغير بين أن له أثرا أيضا. ا هـ. وقد قدمنا مسألة مسح المسافر يده المتنجسة.
واعلم أنا قد قدمنا أن الطهارة بالمسح خاصة بالخف والنعل وأن المسح لا يجوز في غيرهما كما قالوا وينبغي أن يستثنى منه ما في الفتاوى الظهيرية وغيرها إذا مسح الرجل محجمه بثلاث خرقات رطبات نظاف أجزأه عن الغسل هكذا ذكره الفقيه أبو الليث ونقله في فتح القدير وأقره عليه، ثم قال وقياسه ما حول محل الفصد إذا تلطخ ويخاف من الإسالة السريان إلى الثقب ا هـ. وهو يقتضي تقييد مسألة المحاجم بما إذا خاف من الإسالة ضررا كما لا يخفى والمنقول مطلق.
وفي الفتاوى الظهيرية خف بطانة ساقه من الكرباس فدخل في خروقه ماء نجس فغسل الخف ودلكه باليد، ثم ملأ الماء وأراقه طهر للضرورة يعني من غير توقف على عصر الكرباس كما صرح به البزازي في فتاويه، ثم قال في الظهيرية أيضا الخف يطهر بالغسل ثلاثا إذا جففه في كل مرة بخرقة وعن القاضي الإمام صدر الإسلام أبي اليسر أنه لا يحتاج إلى التجفيف وفي السراج الوهاج الخف إذا دهن بدهن نجس، ثم غسل بعد ذلك فإنه يطهر.
" قوله: وبمني يابس بالفرك وإلا يغسل " معطوف على قوله بالماء يعني يطهر البدن والثوب والخف إذا أصابه مني بفركه إن كان يابسا وبغسله إن كان رطبا وهو فرع نجاسة المني خلافا للشافعي لحديث مسلم عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان يغسل المني، ثم يخرج إلى الصلاة في ذلك الثوب وأنا أنظر إلى أثر الغسل فيه، فإن حمل على حقيقته من أنه فعله بنفسه فظاهر؛ لأنه

 

ج / 1 ص -447-       ...............................
_________________
لو كان طاهرا لم يغسله؛ لأنه إتلاف الماء لغير حاجة وهو سرف أو هو على مجازه وهو أمره بذلك فهو فرع علمه أطلق مسألة المني فشمل منيه ومنيها وفي طهارة منيها بالفرك اختلاف قال الفضلي لا يطهر به لرقته والصحيح أنه لا فرق بين مني الرجل ومني المرأة، كذا في فتاوى قاضي خان وشمل البدن والثوب في أن كلا منهما يطهر بالفرك وهو ظاهر الرواية للبلوى وعن أبي حنيفة أن البدن لا يطهر بالفرك لرطوبته، كذا في شرح المجمع لابن الملك وشمل ما إذا تقدمه مذي أولا.
وقيل إنما يطهر بالفرك إذا لم يسبقه مذي، فإن سبقه لا يطهر إلا بالغسل، وعن هذا قال شمس الأئمة مسألة المني مشكلة؛ لأن كل فحل يمذي، ثم يمني إلا أن يقال إنه مغلوب بالمني مستهلك فيه فيجعل تبعا. ا هـ.
وفي فتح القدير وهذا ظاهر في أنه إذا كان الواقع أنه لا يمني حتى يمذي، وقد طهره الشرع بالفرك يابسا يلزم أن يكون اعتبر ذلك الاعتبار للضرورة بخلاف ما إذا بال ولم يستنج بالماء حتى أمنى فإنه لا يطهر حينئذ إلا بالغسل لعدم الملجئ كما قيل.
وقيل ولو بال ولم ينتشر البول على رأس الذكر بأن لم يتجاوز الثقب فأمنى لا يحكم بتنجيس المني وكذا إذا جاوز لكن خرج المني دفقا من غير أن ينتشر على رأس الذكر؛ لأنه لم يوجد سوى مروره على البول في مجراه ولا أثر لذلك في الباطن ا هـ. وظاهر المتون الإطلاق أعني سواء بال واستنجى أو لم يستنج بالماء فإن المني يطهر بالفرك؛ لأنه مغلوب مستهلك كالمذي ولم يعف في المذي إلا لكونه مستهلكا لا لأجل الضرورة وأطلق في الثوب فشمل الجديد والغسيل فيطهر كل منهما بالفرك.
وقيده في غاية البيان بكون الثوب غسيلا احترازا عن الجديد فإنه لا يطهر بالفرك ولم أره فيما عندي من الكتب لغيره وهو بعيد كما لا يخفى وشمل ما إذا كان للثوب بطانة نفذ إليها وفيه اختلاف، والصحيح أن البطانة تطهر بالفرك كالظهارة؛ لأنه من أجزاء المني كما في النهاية وغيرها، ثم نجاسة المني عندنا مغلظة كذا في السراج الوهاج معزيا إلى خزانة الفقيه أبي الليث وحقيقة الفرك الحك باليد حتى يتفتت، كذا في شرح ابن الملك، وقد صرح

 

ج / 1 ص -448-       ونحو السيف بالمسح
_________________
المصنف بطهارة المحل بالفرك وكذا في الكل وفيه اختلاف نذكره في آخرها إن شاء الله تعالى وفي المجتبى وبقاء أثر المني بعد الفرك لا يضر كبقائه بعد الغسل وفي المسعودي مني الإنسان نجس وكذا مني كل حيوان وأشار إلى أن العلقة والمضغة نجسان كالمني، وقد صرح بذلك في النهاية والتبيين وكذا الولد إذا لم يستهل فهو نجس ولهذا قال قاضي خان في فتاويه الولد إذا نزل من المرأة ولم يستهل وسقط في الماء أفسده سواء غسل أو لا وكذا لو حمله المصلي لا تصح صلاته. ا هـ. وفي المجتبى أصاب الثوب دم عبيط فيبس فحته طهر الثوب كالمني ا هـ. وفيه نظر لتصريحهم بأن طهارة الثوب بالفرك إنما هو في المني لا في غيره.
وفي البدائع، وأما سائر النجاسات إذا أصابت الثوب أو البدن ونحوهما فإنها لا تزول إلا بالغسل سواء كانت رطبة أو يابسة وسواء كانت سائلة أو لها جرم.
ولو أصاب ثوبه خمر فألقى عليها الملح ومضى عليه من المدة مقدار ما يتخلل فيها لم يحكم بطهارته حتى يغسله، ولو أصابه عصير فمضى عليه من المدة مقدار ما يتخمر العصير لا يحكم بنجاسته. ا هـ.
" قوله: ونحو السيف بالمسح " أي يطهر كل جسم صقيل لا مسام له بالمسح جديدا كان أو غيره.
فخرج الجديد إذا كان عليه صدأ أو منقوشا فإنه لا يطهر إلا بالغسل وخرج الثوب الصقيل لوجود المسام ودخل الظفر إذا كان عليه نجاسة فمسحها وكذلك الزجاجة والزبدية الخضراء أعني المدهونة والخشب الخراطي والبوريا القصب كما في فتح القدير.
وزاد في السراج الوهاج العظم والآبنوس وصفائح الذهب والفضة إذا لم تكن منقوشة.
وإنما اكتفى بالمسح؛ لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقتلون الكفار بسيوفهم، ثم يمسحونها

 

ج / 1 ص -449-       والأرض باليبس وذهاب الأثر للصلاة لا للتيمم
_________________
ويصلون معها ولأنه لا يتداخله النجاسة، وما على ظاهره يزول بالمسح أطلقه فشمل الرطب واليابس والعذرة والبول وذكر في الأصل أن البول والدم لا يطهر إلا بالغسل والعذرة الرطبة كذلك واليابسة تطهر بالحت عندهما خلافا لمحمد، والمصنف كأنه اختار ما ذكره الكرخي ولم يذكر خلاف محمد وهو المختار للفتوى لما قدمناه من فعل الصحابة، كذا في العناية، وقد أفاد المصنف طهارته بالمسح كنظائره وفيه اختلاف فقيل تطهر حقيقة وقيل تقل وإليه يشير قول القدوري حيث قال اكتفى بمسحهما ولم يقل طهرتا وسيأتي بيان الصحيح فيه وفي نظائره.
وفائدته فيما لو قطع البطيخ أو اللحم بالسكين الممسوحة من النجاسة فإنه يحل أكله على الأول دون الثاني ولا يخفى أن المسح إنما يكون مطهرا بشرط زوال الأثر كما قيده به قاضي خان في فتاويه.
ولا فرق بين أن يمسحه بتراب أو خرقة أو صوف الشاة أو غير ذلك كما في الفتاوى أيضا والمسام منافذ الشيء.
" قوله: والأرض باليبس وذهاب الأثر للصلاة لا للتيمم " أي تطهر الأرض المتنجسة بالجفاف إذا ذهب أثر النجاسة فتجوز الصلاة عليها ولا يجوز التيمم منها لأثر عائشة ومحمد بن الحنفية زكاة الأرض يبسها أي طهارتها، وإنما لم يجز التيمم منها؛ لأن الصعيد علم قبل التنجس طاهرا وطهورا وبالتنجس علم زوال الوصفين، ثم ثبت بالجفاف شرعا أحدهما أعني الطهارة فيبقى الآخر على ما علم من زواله وإذا لم يكن طهورا لا يتيمم به.
وهذا أولى مما ذكره الشارحون في الفرق بأن طهارة المكان ثبتت بدلالة النص التي خص منها حالة غير الصلاة والنجاسة القليلة والعام المخصوص من الحجج المجوزة كخبر الواحد فجاز تخصيصه بالأثر بخلاف قوله تعالى:
{فتيمموا} فإنه من

 

ج / 1 ص -450-       ...............................
_________________
الحجج الموجبة التي لم يدخله تخصيص فإن المصنف في الكافي قال بعده ولي فيه أشكال؛ لأن النص لا عموم له في الأحوال؛ لأنها غير داخلة تحت النص، وإنما تثبت ضرورة والتخصيص يستدعي سبق التعميم ولأن الطيب يحتمل الطاهر والمنبت وعلى الثاني حمله أبو يوسف والشافعي.
ولا يجوز أن يكونا مرادين؛ لأن المشترك لا عموم له فيكون مؤولا وهو من الحجج المجوزة كالعام المخصوص قيد بالأرض احترازا عن الثوب والحصير والبدن وغير ذلك فإنها لا تطهر بالجفاف مطلقا ويشارك الأرض في حكمها كل ما كان ثابتا فيها كالحيطان والأشجار والكلأ والقصب وغيره ما دام قائما عليها فيطهر بالجفاف وهو المختار، كذا في الخلاصة، فإن قطع الخشب والقصب وأصابته نجاسة فإنه لا يطهر إلا بالغسل ويدخل في القصب الخص بضم الخاء المعجمة وبالصاد المهملة البيت من القصب والمراد به هنا السترة التي تكون على السطوح من القصب، كذا في شرح الوقاية وكذا الجص بالجيم كما في الخلاصة.
حكمه حكم الأرض بخلاف اللبن الموضوع على الأرض وأما الحجر فذكر الخجندي أنه لا يطهر بالجفاف.
وقال الصيرفي إن كان الحجر أملس فلا بد من الغسل، وإن كان تشرب النجاسة كحجر الرحا فهو كالأرض والحصى بمنزلة الأرض، وأما اللبن والآجر، فإن كانا موضوعين ينقلان ويحولان فإنهما لا يطهران بالجفاف؛ لأنهما ليسا بأرض، وإن كان اللبن مفروشا فجف قبل إن يقلع طهر بمنزلة الحيطان.
 وفي النهاية إن كانت الآجرة مفروشة في الأرض فحكمها حكم الأرض، وإن كانت موضوعة تنقل وتحول، فإن كانت النجاسة على الجانب الذي يلي الأرض جازت الصلاة عليها، وإن كانت النجاسة على الجانب الذي قام عليه المصلي لا تجوز صلاته، كذا في السراج الوهاج وإذا رفع الآجر عن الفرش هل يعود نجسا؟ فيه روايتان، كذا في البزازية وسيأتي بيان الصحيح في نظائره.
وأطلق في اليبس ولم يقيده بالشمس كما قيده القدوري؛ لأن التقييد به مبني على العادة وإلا فلا فرق بين الجفاف بالشمس والنار والريح والظل وقيد باليبس؛ لأن النجاسة لو كانت

 

ج / 1 ص -451-       ...............................
_________________
رطبة لا تطهر إلا بالغسل فإن كانت رخوة تتشرب الماء كلما صب عليها فإنه يصب عليها الماء حتى يغلب على ظنه أنها طهرت ولا توقيت في ذلك.
وعن أبي يوسف يصب بحيث لو كانت هذه النجاسة في الثوب طهر.
واستحسن هذا صاحب الذخيرة.
وإن كانت صلبة إن كانت منحدرة حفر في أسفلها حفيرة وصب عليها الماء فإذا اجتمع في تلك الحفيرة كبسها أعني الحفيرة التي فيها الغسالة، وإن كانت صلبة مستوية فلا يمكن الغسل بل يحفر ليجعل أعلاه في أسفله وأسفله في أعلاه، وإن كانت الأرض مجصصة قال في الواقعات يصب عليها الماء، ثم يدلكها وينشفها بخرقة أو صوفة ثلاثا فتطهر جعل ذلك بمنزلة غسل الثوب في الإجانة والتنشيف بمنزلة العصر، فإن لم يفعل ذلك ولكن صب عليها الماء كثيرا حتى زالت النجاسة ولم يوجد لها لون ولا ريح، ثم تركها حتى نشفت طهرت، كذا في السراج الوهاج والخلاصة والمحيط وقيد بذهاب الأثر الذي هو الطعم واللون والريح؛ لأنها لو جفت وذهب أثرها بالرؤية وكان إذا وضع أنفه شم الرائحة لم تجز الصلاة على مكانها، كذا في السراج الوهاج وفي الفتاوى إذا احترقت الأرض بالنار فتيمم بذلك التراب قيل يجوز التيمم وقيل لا يجوز والأصح الجواز.
ثم اعلم أن ما حكم بطهارته بمطهر غير المائعات إذا أصابه ماء هل يعود نجسا فذكر الشارح الزيلعي أن فيها روايتين وأن أظهرهما أن النجاسة تعود بناء على أن النجاسة قلت ولم تزل وحكى خمس مسائل المني إذا فرك والخف إذا دلك والأرض إذا جفت مع ذهاب الأثر وجلد الميتة إذا دبغ دباغا حكميا بالتتريب والتشميس والبئر إذا غار ماؤها، ثم عاد، وقد اختلف التصحيح في بعضها ولا بأس بسوق عباراتهم.
 فأما مسألة المني فقال قاضي خان في فتاويه والصحيح أنه يعود نجسا وفي الخلاصة المختار أنه لا يعود نجسا.
وأما مسألة الخف فقال في الخلاصة هو كالمني في الثوب يعني المختار عدم العود وقال الحدادي في السراج الوهاج الصحيح أنه يعود نجسا.
 وأما مسألة الأرض فقال قاضي خان في فتاويه الصحيح أنها لا تعود نجسة وقال في المجتبى الصحيح عدم عود النجاسة وفي الخلاصة بعدما ذكر أن المختار عدم نجاسة الثوب من المني إذا أصابه الماء بعد الفرك قال وكذا الأرض على الرواية المشهورة.

 

ج / 1 ص -452-       ...............................
_________________
وأما مسألة جلد الميتة إذا دبغ، ثم أصابه الماء فأفاد الشارح أنها على الروايتين لكن المتون مجمعة على الطهارة بالدباغ فإنهم يقولون كل إهاب دبغ فقد طهر وهو يقتضي عدم عودها.
وأما مسألة البئر إذا غار ماؤها، ثم عاد ففي الخلاصة لا تعود نجسة وعزاه إلى الأصل ويزاد على هذه الخمسة الآجرة المفروشة إذا تنجست فجفت، ثم قلعت فعلى الروايتين وفي الخلاصة المختار عدم العود ويزاد السكين إذا مسحت فعلى الروايتين وقال السراج الوهاج اختار القدوري عود النجاسة واختار الإسبيجابي عدم العود وفي المحيط الأرض إذا أصابتها النجاسة فيبست وذهب أثرها ثم أصابها الماء والمني إذا فرك والخف إذا دلك والجب إذا غار ماؤها، ثم عاد فيه روايتان في رواية يعود نجسا وهو الأصح. ا هـ.
فالحاصل أن التصحيح والاختيار قد اختلف في كل مسألة منها كما ترى فالأولى اعتبار الطهارة في الكل كما يفيده أصحاب المتون حيث صرحوا بالطهارة في كل وملاقاة الماء الطاهر للطاهر لا توجب التنجس، وقد اختاره في فتح القدير.
فإن من قال بالعود بناه على أن النجاسة لم تزل وإنما قلت ولا يرد المستنجي بالحجر ونحوه إذا دخل في الماء القليل فإنهم قالوا بأنه ينجسه؛ لأن غير المائع لم يعتبر مطهرا في البدن إلا في المني.
وجواز الاستنجاء بغير المائعات إنما هو لسقوط ذلك المقدار عفوا لا لطهارة المحل فعنه أخذوا كون قدر الدرهم في النجاسات عفوا على أن المختار طهارته أيضا كما سنبينه في آخر الباب.
ثم اعلم أنه قد ظهر إلى هنا أن التطهير يكون بأربعة أمور بالغسل والدلك والجفاف والمسح في الصقيل دون ماء والفرك يدخل في الدلك.
والخامس مسح المحاجم بالماء بالخرق كما قدمناه والسادس النار كما قدمناه في الأرض إذا احترقت بالنار.
والسابع انقلاب العين، فإن كان في الخمر فلا خلاف في الطهارة، وإن كان في غيره كالخنزير والميتة تقع في المملحة فتصير ملحا يؤكل والسرقين والعذرة تحترق فتصير رمادا

 

ج / 1 ص -453-       ...............................
_________________
تطهر عند محمد خلافا لأبي يوسف وضم إلى محمد أبا حنيفة في المحيط وكثير من المشايخ اختاروا قول محمد وفي الخلاصة وعليه الفتوى.
وفي فتح القدير أنه المختار؛ لأن الشرع رتب وصف النجاسة على تلك الحقيقة وتنتفي الحقيقة بانتفاء بعض أجزاء مفهومها فكيف بالكل فإن الملح غير العظم واللحم فإذا صار ملحا ترتب حكم الملح ونظيره في الشرع النطفة نجسة وتصير علقة وهي نجسة وتصير مضغة فتطهر والعصير طاهر فيصير خمرا فينجس ويصير خلا فيطهر فعرفنا أن استحالة العين تستتبع زوال الوصف المرتب عليها.
وعلى قول محمد فرعوا الحكم بطهارة صابون صنع من زيت نجس ا هـ.
وفي المجتبى جعل الدهن النجس في صابون يفتى بطهارته؛ لأنه تغير والتغيير يطهر عند محمد ويفتى به للبلوى.
وفي الظهيرية ورماد السرقين طاهر عند أبي يوسف خلافا لمحمد والفتوى على قول أبي يوسف وهو عكس الخلاف المنقول فإنه يقتضي أن الرماد طاهر عند محمد نجس عند أبي يوسف كما لا يخفى وفيها أيضا العذرات إذا دفنت في موضع حتى صارت ترابا قيل تطهر كالحمار الميت إذا وقع في المملحة فصار ملحا يطهر عند محمد.
وفي الخلاصة فارة وقعت في دن خمر فصار خلا يطهر إذا رمى بالفأرة قبل التخلل وإن تفسخت الفأرة فيها لا يباح، ولو وقعت الفأرة في العصير ثم تخمر العصير ثم تخلل وهو لا يكون بمنزلة ما لو وقعت في الخمر هو المختار وكذا لو ولغ الكلب في العصير، ثم تخمر، ثم تخلل لا يطهر ا هـ.
وفي الظهيرية إذا صب الماء في الخمر، ثم صارت الخمر خلا تطهر وهو الصحيح.
وأدخل في فتح القدير التطهير بالنار في الاستحالة ولا ملازمة بينهما فإنه لو أحرق موضع الدم من رأس الشاة والتنور إذا رش بماء نجس لا بأس بالخبز فيه، كذا في المجتبى وكذا الطين النجس إذا جعل منه الكوز أو القدر وجعل في النار يكون طاهرا، كذا في السراج الوهاج.
والثامن الدباغ وقد مر، والتاسع الذكاة فكل حيوان يطهر جلده بالدباغ يطهر بالذكاة

 

ج / 1 ص -454-       وعفي قدر الدرهم كعرض الكف من نجس مغلظ كالدم والبول والخمر وخرء الدجاج وبول ما لا يؤكل لحمه والروث والخثي
_________________
كما قدمناه والعاشر النزح في الآبار كما بيناه.
فظهر بهذا أن المطهرات عشرة كما ذكره في المجتبى ناقلا عن صلاة الجلابي.
" قوله: وعفي قدر الدرهم كعرض الكف من نجس مغلظ كالدم والبول والخمر وخرء الدجاج وبول ما لا يؤكل لحمه والروث والخثي "؛ لأن ما لا يأخذه الطرف كوقع الذباب مخصوص من نص التطهر اتفاقا فيخص أيضا قدر الدرهم بنص الاستنجاء بالحجر؛ لأن محله قدره ولم يكن الحجر مطهرا حتى لو دخل في قليل ماء نجسه أو بدلالة الإجماع عليه والمعتبر وقت الإصابة فلو كان دهنا نجسا قدر درهم فانفرش فصار أكثر منه لا يمنع في اختيار المرغيناني وجماعة ومختار غيرهم المنع.
فلو صلى قبل اتساعه جازت وبعده لا وبه أخذ الأكثرون كذا في السراج الوهاج ولا يعتبر نفوذ المقدار إلى الوجه الآخر إذا كان الثوب واحدا؛ لأن النجاسة حينئذ واحدة في الجانبين فلا يعتبر متعددا بخلاف ما إذا كان ذا طاقين لتعددها فيمنع.
وعن هذا فرع المنع لو صلى مع درهم متنجس الوجهين لوجود الفاصل بين وجهه وهو جواهر سمكه ولأنه مما لا ينفذ نفس ما في أحد الوجهين فيه فلم تكن النجاسة متحدة فيهما، ثم إنما يعتبر المانع مضافا إليه فلو جلس الصبي المتنجس الثوب والبدن في حجر المصلي وهو يستمسك أو الحمام المتنجس على رأسه جازت صلاته؛ لأنه الذي يستعمله فلم يكن حامل النجاسة بخلاف ما لو حمل من لا يستمسك حيث يصير مضافا إليه فلا يجوز، كذا في فتح القدير.
ولو حمل ميتا إن كان كافرا لا يصح مطلقا، وإن كان مسلما لم يغسل فكذلك، وإن غسل، فإن استهل صحت وإلا فلا، ومراده من العفو صحة الصلاة بدون إزالته لا عدم الكراهة لما في السراج الوهاج وغيره إن كانت النجاسة قدر الدرهم تكره الصلاة معها إجماعا، وإن كانت أقل وقد دخل في الصلاة نظر إن كان في الوقت سعة فالأفضل إزالتها واستقبال الصلاة، وإن كانت تفوته الجماعة، فإن كان يجد الماء ويجد جماعة آخرين في موضع آخر فكذلك أيضا ليكون مؤديا للصلاة الجائزة بيقين، وإن كان في آخر الوقت أو لا يدرك الجماعة في موضع آخر يمضي على

 

ج / 1 ص -455-       ...............................
_________________
صلاته ولا يقطعها. ا هـ. والظاهر أن الكراهة تحريمية لتجويزهم رفض الصلاة لأجلها ولا ترفض لأجل المكروه تنزيها وسوى في فتح القدير بين الدرهم وما دونه في الكراهة ورفض الصلاة، وكذا في النهاية والمحيط وفي الخلاصة ما يقتضي الفرق بينهما فإنه قال: وقدر الدرهم لا يمنع ويكون مسيئا، وإن كان أقل فالأفضل أن يغسلها ولا يكون مسيئا ا هـ.
وأراد بالدرهم المثقال الذي وزنه عشرون قيراطا وعن شمس الأئمة أنه يعتبر في كل زمان درهمه والأول هو الصحيح، كذا في السراج الوهاج.
وأفاد بقوله كعرض الكف أن المعتبر بسط الدرهم من حيث المساحة وهو قدر عرض الكف وصححه في الهداية وغيرها وقيل من حيث الوزن والمصنف في كافيه.
ووفق الهندواني بينهما بأن رواية المساحة في الرقيق كالبول ورواية الوزن في الثخين واختار هذا التوفيق كثير من المشايخ وفي البدائع وهو المختار عند مشايخ ما وراء النهر.
وصححه الشارح الزيلعي وصاحب المجتبى وأقره عليه في فتح القدير؛ لأن إعمال الروايتين إذا أمكن أولى خصوصا مع مناسبة هذا التوزيع.
وروي أن عمر رضي الله عنه سئل عن قليل النجاسة في الثوب فقال إذا كان مثل ظفري هذا لا يمنع جواز الصلاة حتى يكون أكثر منه وظفره كان مثل المثقال، كذا في السراج الوهاج وقال النخعي أرادوا أن يقولوا مقدار المقعدة فاستقبحوا ذلك وقالوا مقدار الدرهم والمراد بعرض الكف ما وراء مفاصل الأصابع كذا في غاية البيان.
وكل من هذه الروايات خلاف ظاهر الرواية فإنه لم يذكر في ظاهر الرواية صريحا أن المراد من الدرهم من حيث العرض أو الوزن، وإنما رجح في الهداية رواية العرض؛ لأنها صريحة في النوادر ورواية الوزن ليست صريحة إنما أشير إليها في كتاب الصلاة حيث قال الدرهم الكبير المثقالي إليه أشار في البدائع ولم يصرح المصنف رحمه الله بما يثبت به التغليظ والتخفيف وفيه اختلاف فعند أبي حنيفة رحمه الله التخفيف والتغليظ بتعارض النصين وعدمه وقالا بالاختلاف وعدمه، كذا في المجمع.
وحاصله أنه إن ورد نص واحد بنجاسة شيء فهو مغلظ، وإن تعارض نصان في طهارته ونجاسته فهو مخفف عنده وعندهما إن اتفق العلماء على النجاسة فهو مغلظ، وإن اختلفوا فهو مخفف هكذا تواردت كلمتهم وزاد في الاختيار في تفسير الغليظة عنده ولا حرج في اجتنابه وفي تفسيرها عندهما ولا بلوى في إصابته.

 

ج / 1 ص -456-       ...............................
_________________
فظهر به أن عنده كما يكون التخفيف بالتعارض يكون بعموم البلوى بالنسبة إلى جنس المكلفين، وإن ورد نص واحد في نجاسته من غير معارض وكذا عندهما كما يكون التخفيف بالاختلاف يكون أيضا بعموم البلوى في إصابته وإن وقع الاتفاق على النجاسة فيقع الاتفاق على صدق القضية المشهورة المنقولة في الكافي وهي أن ما عمت بليته خفت قضيته نعم قد يقع النزاع بينه وبينهما في وجود هذا المعنى في بعض الأعيان فيختلف الجواب بسبب ذلك.
ثم قال ابن الملك في شرح المجمع إذا كان النص الوارد في نجاسة شيء يضعف حكمه بمخالفة الاجتهاد عندهما فيثبت به التخفيف فضعفه بما إذا ورد نص آخر يخالفه يكون بطريق أولى فيكون حينئذ التخفيف بتعارض النصين اتفاقا، وإنما يتحقق الاختلاف في ثبوت التخفيف بالاختلاف فعنده لا يثبت وعندهما يثبت وأقره عليه ابن أمير حاج في شرح منية المصلي قال وكأن من هنا - والله أعلم -.
قال في الكافي ولا يظهر الاختلاف في غير الروث والخثي لثبوت الخلاف المذكور مع فقد تعارض النصين، ثم على طرد أنه يثبت التخفيف عندهما بالتعارض كما باختلاف المجتهدين تقع الحاجة إلى الاعتذار لمحمد عن قوله بطهارة بول الحيوان المأكول.
ثم لا يخفى أن المراد باختلاف العلماء المقتضي للتخفيف عندهما الخلاف المستقر بين العلماء الماضين من أهل الاجتهاد قبل وجودهما أو الكائنين في عصرهما لا ما هو أعم من ذلك ا هـ.
وأورد بعضهم على قول أبي حنيفة سؤر الحمار فإن تعارض النصين قد وجد فيه مع أنه لم يقل بالنجاسة أصلا وعلى قولهما المني فإنه مغلظ اتفاقا مع وجود الاختلاف وفي الكافي وخفة النجاسة تظهر في الثياب لا في الماء. ا هـ.
والبدن كالثياب وأراد بالدم الدم المسفوح غير دم الشهيد فخرج الدم الباقي في اللحم المهزول إذا قطع والباقي في العروق والدم الذي في الكبد الذي يكون مكمنا فيه لا ما كان من غيره، وأما دم قلب الشاة ففي روضة الناطفي أنه طاهر كدم الكبد والطحال وفي القنية أنه نجس وقيل طاهر.

 

ج / 1 ص -457-       ...............................
_________________
وخرج الدم الذي لم يسل من بدن الإنسان كما سيأتي ودم البق والبراغيث والقمل، وإن كثر ودم السمك على ما سيأتي ودخل دم الحيض والنفاس والاستحاضة وكل دم أوجب الوضوء أو الغسل ودم الحلمة والوزغ وقيده في الظهيرية بأن يكون سائلا وفي المحيط ودم الحلمة نجس وهي ثلاثة أنواع قراد وحمنانة وحملة فالقراد أصغر أنواعه والحمنانة أوسطها وليس لهما دم سائل والحلمة أكبرها ولها دم سائل ودم كل عرق نجس وكذا الدم السائل من سائر الحيوانات.
وأما دم الشهيد فهو طاهر ما دام عليه فإذا أبين منه كان نجسا، كذا في الظهيرية حتى لو حمله ملطخا به في الصلاة صحت.
وأراد بالبول كل بول سواء كان بول آدمي أو غيره إلا بول الخفاش فإنه طاهر كما سيأتي وإلا بول ما يؤكل لحمه فإنه سيصرح بتخفيفه.
وأطلقه فشمل بول الصغير الذي لم يطعم وشمل بول الهرة والفأرة وفيه اختلاف ففي البزازية بول الهرة أو الفأرة إذا أصاب الثوب لا يفسد وقيل إن زاد على قدر الدرهم أفسد وهو الظاهر. ا هـ.
وفي الخلاصة إذا بالت الهرة في الإناء أو على الثوب تنجس وكذا بول الفأرة.
وقال الفقيه أبو جعفر ينجس الإناء دون الثوب. ا هـ. وهو حسن لعادة تخمير الأواني كذا في فتح القدير وفي المحيط وخرء الفأرة وبولها نجس ؛ لأنه يستحيل إلى نتن وفساد والاحتراز عنه ممكن في الماء وغير ممكن في الطعام والثياب فصار معفوا فيهما. ا هـ.
وهو يفيد أن المراد بقول أبي جعفر ينجس الإناء أي إناء الماء لا مطلق الإناء.
وفي فتاوى قاضي خان بول الهرة والفأرة وخرؤهما نجس في أظهر الروايات يفسد الماء والثوب وبول الخفافيش وخرؤها لا يفسد لتعذر الاحتراز عنه. ا هـ. وبهذا كله ظهر أن مراد صاحب التجنيس بنقل الاتفاق بقوله بال السنور في البئر نزح كله؛ لأن بوله نجس باتفاق

 

ج / 1 ص -458-       ...............................
_________________
الروايات وكذا لو أصاب الثوب أفسده اتفاق الروايات الظاهرة لا مطلقا لوجود الخلاف كما علمت.
وفي الظهيرية وبول الخفافيش ليس بنجس للضرورة وكذلك بول الفأرة؛ لأنه لا يمكن التحرز عنه. ا هـ. وهو صريح في نفي النجاسة، ثم قال آخرا وبول الهرة نجس إلا على قول شاذ وفيها أيضا ومرارة كل شيء كبوله وجرة البعير حكمها حكم سرقينه؛ لأنه توارى في جوفه والجرة بالكسر ما يخرجه البعير من جوفه إلى فمه فيأكله ثانيا والسرقين الزبل.
وأشار بالبول إلى أن كل ما يخرج من بدن الإنسان مما يوجب خروجه الوضوء أو الغسل فهو مغلظ كالغائط والبول والمني والمذي والودي والقيح والصديد والقيء إذا ملأ الفم، أما ما دونه فطاهر على الصحيح.
وقيد بالخمر؛ لأن بقية الأشربة المحرمة كالطلاء والسكر ونقيع الزبيب فيها ثلاثة روايات في رواية مغلظة وفي أخرى مخففة وفي أخرى طاهرة ذكرها في البدائع.
بخلاف الخمر فإنه مغلظ باتفاق الروايات؛ لأن حرمتها قطعية وحرمة غير الخمر ليست قطعية وينبغي ترجيح التغليظ للأصل المتقدم كما لا يخفى فلا فرق بين الخمر وغيرها وكون الحرمة فيه ليست قطعية لا يوجب التخفيف؛ لأن دليل التغليظ لا يشترط أن يكون قطعيا.
وأما قول صاحب الهداية بعد ذكر النجاسات الغليظة؛ لأنها ثبتت بدليل مقطوع به فقال في فتح القدير معناه مقطوع بوجوب العمل به فالعمل بالظني واجب قطعا في الفروع، وإن كان نفس وجوب مقتضاه ظنيا والأولى أن يريد دليل الإجماع. ا هـ.
وفي العناية المراد بالدليل القطعي أن يكون سالما من الأسباب الموجبة للتخفيف من تعارض النصين وتجاذب الاجتهاد والضرورات المخففة. ا هـ.
وأشار بخرء الدجاج إلى خرء كل طير لا يذرق في الهواء كالدجاج والبط لوجود معنى النجاسة فيه وهو كونه مستقذرا لتغييره إلى نتن وفساد رائحة فأشبه العذرة.
وفي الإوز عن أبي حنيفة روايتان روى أبو يوسف عنه أنه ليس بنجس وروى الحسن عنه أنه نجس كذا في البدائع وفي البزازية وخرء البط إذا كان يعيش بين الناس ولا يطير فكالدجاج، وإن كان يطير ولا يعيش بين الناس فكالحمامة

 

ج / 1 ص -459-       ...............................
_________________
وقيد به؛ لأن خرء الطيور التي تذرق في الهواء نوعان فما يؤكل لحمه كالحمام والعصفور فقد تقدم في بحث الآبار أنه طاهر وما لا يؤكل لحمه كالصقر والبازي والحدأة فسيذكر أنه مخفف وفيه خلاف نبينه إن شاء الله تعالى وصرح ببول ما لا يؤكل لحمه مع كونه داخلا في عموم البول لئلا يتوهم أن المراد بالبول بول الآدمي ولا خلاف في نجاسته، وإنما الخلاف في بول ما يؤكل لحمه كما سيأتي.
وأشار بالروث والخثي إلى نجاسة خرء كل حيوان غير الطيور فالروث للحمار والفرس والخثي للبقر والبعر للإبل والغائط للآدمي ولا خلاف في تغليظ غائط الآدمي ونجو الكلب ورجيع السباع واختلفوا فيما عداه فعنده غليظة لقوله عليه السلام
"في الروثة أنها ركس" أي نجس ولم يعارض وعندهما خفيفة.
فإن مالكا يرى طهارتها ولعموم البلوى لامتلاء الطرق بخلاف بول الحمار وغيره مما لا يؤكل لحمه؛ لأن الأرض تنشفه حتى رجع محمد آخرا إلى أنه لا يمنع الروث، وإن فحش لما دخل الري مع الخليفة ورأى بلوى الناس من امتلاء الطرق والخانات بها وقاس المشايخ على قوله هذا طين بخارى؛ لأن مشي الناس والدواب فيها واحد وعند ذلك يروى رجوعه في الخف حتى إذا أصابته عذرة يطهر بالدلك وفي الروث لا يحتاج إلى الدلك عنده ولأبي حنيفة أن الموجب للعمل النص لا الخلاف والبلوى في النعال، وقد ظهر أثرها حتى طهرت بالدلك فإثبات أمر زائد على ذلك يكون بغير موجب وما قيل إن البلوى لا تعتبر في موضع النص عنده كبول الإنسان فممنوع بل تعتبر إذا تحققت بالنص النافي للحرج وهو ليس معارضة للنص بالرأي، كذا في فتح القدير.
وفي الظهيرية والشعير الذي يوجد في بعر الإبل والشاة يغسل ويؤكل بخلاف ما يوجد

 

ج / 1 ص -460-       ...............................
_________________
في خثي البقر؛ لأنه لا صلابة فيه، خبز وجد في خلاله خرء الفأرة، فإن كان صلبا يرمى الخرء ويؤكل الخبز؛ لأنه طاهر.
ثم قال خرء الفأرة إذا وقع في إناء الدهن أو الماء لا يفسده وكذلك لو وقع في الحنطة. ا هـ.
وقد تقدم أنه يفسده وفيها أيضا البعر إذا وقع في المحلب عند الحلب فرمي قبل التفتت لا يتنجس.
وفي البزازية مشى في الطين أو أصابه لا يجب في الحكم غسله ولو صلى به جاز ما لم يتبين أثر النجاسة والاحتياط في الصلاة التي هي وجه دينه ومفاتيح رزقه وأول ما يسأل في الموقف وأول منزلة الآخرة لا غاية له ولهذا قلنا حمل المصلى أي السجادة أولى من تركه في زماننا.
دخل مربطا وأصاب رجله الأرواث جازت الصلاة معه ما لم يفحش. ا هـ. وهو ترجيح لقولهما في الأرواث كما لا يخفى، وقد نقلوا في كتب الفتاوى والشروح فروعا ونصوا على النجاسة ولم يصرحوا بالتغليظ والتخفيف والظاهر أنها مغلظة وأنها المرادة عند إطلاقهم ودخل فيها بعض الطاهرات تبعا في الذكر.
فمنها الأسآر النجسة ومنها ما في الفتاوى الظهيرية جلد الحية نجس، وإن كانت مذبوحة؛ لأن جلدها لا يحتمل الدباغة بخلاف قميصها فإنه طاهر والدودة الساقطة من السبيلين نجسة بخلاف الساقطة من اللحم فإنها طاهرة الحمار إذا شرب من العصير لا يجوز شربه، الريح إذا مرت بالعذرات وأصابت الثوب المبلول يتنجس إن وجدت رائحة النجاسة فيه وما يصيب الثوب من بخارات النجاسات قيل يتنجس الثوب بها وقيل لا يتنجس وهو الصحيح ولو أصاب الثوب ما سال من الكنيف فالأحب أن يغسله ولا يجب ما لم يكن أكبر رأيه أنه نجس.
جلدة آدمي إذا وقعت في الماء القليل تفسده إذا كانت قدر الظفر والظفر لو وقع بنفسه لا يفسده، الكافر الميت نجس قبل الغسل وبعده وكذلك الميت وعظم الآدمي نجس وعن أبي يوسف أنه طاهر والأذن المقطوعة والسن المقلوعة طاهرتان في حق صاحبهما، وإن كانتا أكثر من قدر الدرهم وهذا قول أبي يوسف وقال محمد في الأسنان الساقطة إنها نجسة، وإن كانت أكثر من قدر الدرهم وفي قياس قوله الأذن نجس وبه نأخذ وقال محمد في صلاة الأثر سن وقعت في الماء القليل يفسد وإذا طحنت وفي الحنطة لا تؤكل.

 

ج / 1 ص -461-       ...............................
_________________
وعن أبي يوسف إن سنه طاهر في حقه حتى إذا أثبتها جازت الصلاة، وإن أثبت سن غيره لا يجوز وقال بينهما فرق، وإن لم يحضرني.
وسن الكلب والثعلب طاهرة وجلد الكلب نجس وشعره طاهر هو المختار وماء فم الميت نجس بخلاف ماء فم النائم فإنه طاهر. ا هـ.
وفي الخلاصة ولو استنجى بالماء ولم يمسحه في المنديل حتى فسا اختلف المشايخ فيه وعامة المشايخ على أنه لا يتنجس والمختار أنه يتنجس وكذا لو لم يستنج ولكن ابتل السراويل بالعرق أو بالماء، ثم فسا.
وفي فتاوى قاضي خان ماء المطابق نجس قياسا وليس بنجس استحسانا وصورته إذا احترقت العذرة في بيت فأصاب ماء طابق ثوب إنسان لا يفسده استحسانا ما لم يظهر أثر النجاسة فيه وكذا الإصطبل إذا كان حارا وعلى كوته طابق، أو بيت البالوعة إذا كان عليه طابق وتقاطر منه وكذا الحمام إذا أهريق فيه النجاسات فعرق حيطانها وكوتها وتقاطر.
وكذا لو كان في الإصطبل كوز معلق فيه ماء فترشح في أسفل الكوز في القياس يكون نجسا؛ لأن البلة في أسفل الكوز صار نجسا ببخار الإصطبل وفي الاستحسان لا يتنجس؛ لأن الكوز طاهر والماء الذي فيه طاهر فما ترشح منه يكون طاهرا، إذا صلى ومعه فأرة أو هرة أو حية تجوز صلاته، وقد أساء وكذلك مما يجوز التوضؤ بسؤره، وإن كان في كمه ثعلب أو جرو كلب لا تجوز صلاته؛ لأن سؤره نجس، ثوب أصابه عصير ومضى على ذلك أيام جازت الصلاة فيه عند علمائنا؛ لأنه لا يصير خمرا في الثوب.
والمسك حلال على كل حال يؤكل في الطعام ويجعل في الأدوية ولا يقال إن المسك دم؛ لأنها، وإن كانت دما فقد تغيرت فيصير طاهرا كرماد العذرة، التراب الطاهر إذا جعل طينا بالماء النجس أو على العكس الصحيح أن الطين نجس أيهما ما كان نجسا.
وإذا بسط الثوب الطاهر اليابس على أرض نجسة مبتلة فظهرت البلة في الثوب لكن لم يصر رطبا ولا بحال لو عصر يسيل منه شيء متقاطر لكن موضع الندوة يعرف من سائر المواضع الصحيح أنه لا يصير نجسا، وكذا لو لف الثوب النجس في ثوب طاهر والنجس رطب مبتل وظهرت ندوته في الثوب الطاهر لكن لم يصر بحال لو عصر يسيل منه شيء متقاطر لا يصير نجسا. ا هـ.

 

ج / 1 ص -462-       ...............................
_________________
وفي البزازية الفتوى على أن العبرة للطاهر أيهما كان في مسألة التراب الطاهر إذا جعل طينا بالماء النجس أو عكسه فهو مخالف لتصحيح قاضي خان المتقدم وفيها طير الماء مات فيه لا يفسده عند الإمام وفي غيره يفسده بالاتفاق وعليه الفتوى.
وفي السراج الوهاج غسالة الميت نجسة أطلق ذلك محمد في الأصل والأصح أنه إذا لم يكن على بدنه نجاسة يصير الماء مستعملا ولا يكون نجسا إلا أن محمدا إنما أطلق ذلك؛ لأن بدن الميت لا يخلو عن نجاسة غالبا ودخان النجاسة إذا أصاب الثوب أو البدن فيه اختلاف والصحيح أنه لا ينجسه، بيض ما لا يؤكل لحمه إذا انكسر على ثوب إنسان فأصابه من مائه ومحه فيه اختلاف منهم من قال: إنه نجس اعتبارا بلحم ما لا يؤكل ولبنه؛ لأنه محرم الأكل وقيل هو طاهر اعتبارا ببيض الدجاجة الميتة. ا هـ.
وفي المجتبى وفي نجاسة القيء وماء البئر التي وقعت فيها فأرة وماتت روايتان وسؤر سباع الطير غليظة وغسالة النجاسة في المرات الثلاث غليظة على الأصح، وإن كانت الأولى تطهر بالثلاث والثانية بالثنتين والثالثة بالواحدة. ا هـ. وفيما عدا الأخيرة نظر بل الراجح التغليظ في القيء وماء البئر المتنجس.
وأما سؤر سباع الطير فليس بنجس أصلا بل هو مكروه، وفي عمدة الفتاوى للصدر الشهيد فأرة ماتت في الخمر وتخللت طاب الخل في رواية هو الصحيح فأرة ماتت في السمن الجامد يقور ما حولها ويرمى ويؤكل الباقي، فإن كان مائعا لا يؤكل ويستصبح به ويدبغ به الجلد والتشرب معفو عنه، ودك الميتة يستصبح به ولا يدبغ به الجلد. ا هـ. وفي عدة الفتاوى إذا وجد في القمقمة فأرة ولا يدري أهي فيها ماتت أم في الجرة أم في البئر تحمل على القمقمة. ا هـ.
وفي مآل الفتاوى ماء المطر إذا مر على العذرات لا ينجس إلا أن تكون العذرة أكثر من الأرض الطاهرة أو تكون العذرة عند الميزاب، إذا فسا في السراويل وصلى معه قال بعضهم لا

 

ج / 1 ص -463-       وما دون ربع الثوب من مخفف كبول ما يؤكل والفرس وخرء طير لا يؤكل
_________________
يجوز؛ لأن في الريح أجزاء لطيفة فتدخل أجزاء الثوب وقيل إن الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني كان يصلي من غير السراويل ولا تأويل لفعله إلا التحرز من الخلاف والفتوى أنه يجوز سواء كان السراويل رطبا وقت الفسوة أو يابسا، إذا رأى على ثوب غيره نجاسة أكثر من قدر الدرهم يخبره ولا يسعه تركه، جلد مرارة الغنم نجس ومرارته وبوله سواء عند محمد طاهر وعندهما نجس ومثانة الغنم حكمه حكم بوله حتى لا تجوز الصلاة معه إذا زاد على قدر الدرهم.
قطرة خمر وقعت في دن خل لا يحل شربه إلا بعد ساعة ولو صب كوز من خمر في دن من خل ولا يوجد له طعم ولا رائحة حل الشراب في الحال.
السلق والسلجم المطبوخ في رماد العذرة نجس عند أبي يوسف. ا هـ. وإنما أكثرنا من هذه الفروع للحاجة إليها ولكون الطهارة من المهمات ولهذا ورد أن أول شيء يسأل عنه العبد في قبره الطهارة.
" قوله: وما دون ربع الثوب من مخفف كبول ما يؤكل والفرس وخرء طير لا يؤكل " أي عفي ما كان من النجاسات أقل من ربع الثوب المصاب إذا كانت النجاسة مخففة؛ لأن التقدير فيها بالكثير الفاحش للمنع على ما روي عن أبي حنيفة على ما هو دأبه في مثله من عدم التقدير وهو ما يستكثره الناظر ويستفحشه حتى روى عنه أنه كره تقديره، وقال الفاحش يختلف باختلاف طباع الناس لكن لما كان الربع ملحقا بالكل في بعض الأحكام كمسح الرأس وانكشاف العورة ألحق به هنا وبالكل يحصل الاستفحاش فكذا بما قام مقامه وهو رواية عن أبي حنيفة أيضا وصححه الشارح وغيره وفي الهداية وعليه الاعتماد واختاره في فتح القدير وقال إنه أحسن لاعتبار الربع كثيرا كالكل.
ثم اختلفوا في كيفية اعتبار الربع على ثلاثة أقوال فقيل ربع طرف أصابته النجاسة كالذيل والكم والدخريص إن كان المصاب ثوبا وربع العضو المصاب كاليد والرجل إن كان بدنا وصححه صاحب التحفة والمحيط والبدائع والمجتبى والسراج الوهاج وفي الحقائق وعليه الفتوى وقيل ربع جميع الثوب والبدن وصححه صاحب المبسوط.
وقيل ربع أدنى ثوب تجوز فيه الصلاة كالمئزر وهو رواية عن أبي حنيفة قال شارح

 

ج / 1 ص -464-       ...............................
_________________
القدوري الإمام البغدادي الأقطع وهذا أصح ما روى فيه من غيره. ا هـ.
لكنه قاصر على الثوب ولم يفد حكم البدن فقد اختلف التصحيح كما ترى لكن ترجح الأول بأن الفتوى عليه.
وفي فتح القدير ما يقتضي التوفيق بين القولين الأخيرين بأن يكون المراد من اعتبار ربع جميع الثوب الساتر لجميع بدن الذي هو عليه، وإن كان الذي هو عليه أدنى ما تجوز فيه الصلاة اعتبر ربعه؛ لأنه الكثير بالنسبة إلى المصاب. ا هـ. وهو حسن جدا ولم ينقل القول الأول أصلا.
ومثل المصنف للمخففة بثلاثة الأول ببول ما يؤكل لحمه وهو مخفف عندهما طاهر عند محمد لحديث العرنيين وأبو يوسف قال بالتخفيف لاختلاف العلماء على أصله وأبو حنيفة قال به أيضا لتعارض النصين وهما حديث العرنيين وحديث "استنزهوا البول" وفي الكافي فإن قيل تعارض النصين كيف يتحقق وحديث العرنيين منسوخ عنده قلنا: إنه قال ذلك رأيا ولم يقطع به فتكون صورة التعارض قائمة. ا هـ. وهو أحسن مما أجاب به في النهاية فإن صاحب العناية قد رده فليراجعا.
الثاني بول الفرس وهو داخل فيما قبله لكن لما كان في أكل لحمه اختلاف صرح به لئلا يتوهم أنه داخل في بول ما لا يؤكل لحمه عند الإمام فيكون مغلظا وليس كذلك فإنه مخفف عندهما طاهر عند محمد كبول ما يؤكل لحمه، وإنما كره لحمه إما تنزيها أو تحريما مع اختلاف التصحيح؛ لأنه آلة الجهاد لا لأن لحمه نجس بدليل أن سؤره طاهر اتفاقا.
والثالث خرء طير لا يؤكل، وقد اختلف الإمامان الهندواني والكرخي فيما نقلاه عن أئمتنا فيه فروى الهندواني أنه مخفف عند الإمام مغلظ عندهما وروى الكرخي أنه طاهر عندهما مغلظ عند محمد وقيل إن أبا يوسف مع أبي حنيفة في التخفيف أيضا فاتفقوا على أنه مغلظ عند محمد، وأما أبو يوسف فله ثلاث روايات الطهارة والتغليظ والتخفيف، وأما أبو حنيفة فروايتان التخفيف والطهارة، وأما التغليظ فلم ينقل عنه وصحح قاضي خان في شرح الجامع الصغير إنه نجس عند أبي حنيفة وأبي يوسف حتى لو وقع في الماء القليل أفسده وقيل لا يفسد لتعذر صون الأواني عنه.
وصحح الشارح وجماعة رواية الهندواني فالتخفيف عنده لعموم البلوى وهي موجبة للتخفيف، وأما التغليظ عندهما فاستشكله الشارح الزيلعي بأن اختلاف العلماء يورث التخفيف

 

ج / 1 ص -465-       ودم السمك ولعاب البغل والحمار وبول انتضح كرءوس الإبر
_________________
عندهما، وقد وجد فإنه طاهر في رواية عن أبي حنيفة وأبي يوسف فكان للاجتهاد فيه مساغ. ا هـ. وقد يجاب عنه بضعف رواية الطهارة كما قدمناه، وإن صححها بعضهم كما سيأتي فلم يعد اختلافا وصحح صاحب المبسوط رواية الكرخي وهي الطهارة عندهما وكذا صححه في الدقائق والأولى اعتماد التصحيح الأول لموافقته لما في المتون.
ولهذا قال شارح المنية تلميذ المحقق ابن الهمام تصحيح النجاسة أوجه ووجهه المحقق في فتح القدير بأن الضرورة فيه لا تؤثر أكثر من ذلك فإنه قل أن يصل إلى أن يفحش فيكفي تخفيفه. ا هـ.
والخرء واحد الخروء، مثل قرء وقروء وعن الجوهري بالضم كجند وجنود والواو بعد الراء غلط والهندواني بضم الهاء في نسخة معتبرة وفي المنظومة للنسفي بكسرها.
وهذه النسبة إلى الهندوان بكسر الهاء حصار ببلخ يقال له باب الهندواني ينزل فيه الغلمان والجواري التي تجلب من الهندوان فلعله ولد هناك كذا في الحقائق وفي الفتاوى الظهيرية، وإن أصابه بول الشاة وبول الآدمي تجعل الخفيفة تبعا للغليظة. ا هـ.
" قوله: ودم السمك ولعاب البغل والحمار وبول انتضح كرءوس الإبر " أي وعفي دم السمك وما عطف عليه.
أما دم السمك فلأنه ليس بدم على التحقيق، وإنما هو دم صورة؛ لأنه إذا يبس يبيض والدم يسود وأيضا الحرارة خاصية الدم والبرودة خاصية الماء فلو كان للسمك دم لم يدم سكونه في الماء.
أطلقه فشمل السمك الكبير إذا سال منه شيء، فإن ظاهر الرواية طهارة دم السمك مطلقا وعن أبي يوسف نجاسته مطلقا وأنه مقدر بالكثير الفاحش وعنه نجاسة دم الكبير وما عن أبي يوسف ضعيف ذكره في المبسوط وتقدم الكلام على أنواع الدماء وأحكامها.
وأما لعاب البغل والحمار فقد قدمنا الكلام عليه في الأسآر وفي المجمع ويلحق بالخفيفة لعاب البغل ذو الحمار وطهراه والظاهر من غاية البيان أنه رواية عن أبي يوسف وإن ظاهر الرواية عنه كقولهما.

 

ج / 1 ص -466-       ...............................
_________________
وأما البول المنتضح قدر رءوس الإبر فمعفو عنه للضرورة، وإن امتلأ الثوب وعن أبي يوسف وجوب غسله أطلقه فشمل ما إذا أصابه ماء فكثر فإنه يجب غسله أيضا وشمل بوله وبول غيره وقيد برءوس الإبر؛ لأنه لو كان مثل رءوس المسلة منع وفي الكافي قيل قوله رءوس الإبر يدل على أن الجانب الآخر من الإبر معتبر وليس كذلك بل لا يعتبر الجانبان وبه اندفع ما في التبيين.
وحكى القول الأول في فتح القدير عن الهندواني قال وغيره من المشايخ لا يعتبر الجانبان دفعا للحرج وأشار إلى ما قالوا لو ألقى عذرة أو بولا في ماء فانتضح عليه ماء من وقعها لا ينجس ما لم يظهر لون النجاسة أو يعلم أنه البول.
وما ترشش على الغاسل من غسالة الميت مما لا يمكنه الامتناع عنه ما دام في علاجه لا ينجسه لعموم البلوى بخلاف الغسلات الثلاث إذا استنقعت في موضع فأصابت شيئا نجسته، كذا في فتح القدير فالبول في المختصر قيد احترازي، وقد قدمنا التصحيح في غسالة الميت قريبا.
وقد أطلق المصنف رحمه الله العفو على الكل مع أن هذه الثلاثة طاهرة فتعقبه الشارح الزيلعي؛ لأن العفو يقتضي النجاسة، وقد يجاب بأن هذه ذكرت بطريق الاستطراد والتبعية ولا لبس لتصريحه في الكافي بالطهارة أو؛ لأنه لم يقع الاتفاق على طهارتها كما قدمناه واتضح بمعنى ترشش.
وفي القنية والبول الذي يصيب الثوب مثل رءوس الإبر إذا اتصل وانبسط وزاد على قدر الدرهم ينبغي أن يكون كالدهن النجس إذا انبسط، أبوال البراغيث لا تمنع جواز الصلاة، يمشي في السوق فتبتل قدماه بماء رش به السوق فصلى لم يجزه؛ لأن النجاسة غالبة في أسواقنا وقيل يجزئه.
وعن أبي نصر الدبوسي طين الشارع ومواطئ الكلاب فيه طاهر، وكذا الطين المسرقن وردغة طريق فيه نجاسة طاهرة إلا إذا رأى عين النجاسة قال رحمه الله وهو الصحيح من حيث الرواية وقريب من حيث المنصوص عن أصحابنا ا هـ.

 

ج / 1 ص -467-       والنجس المرئي يطهر بزوال عينه إلا ما يشق
_________________
" قوله: والنجس المرئي يطهر بزوال عينه إلا ما يشق " أي يطهر محله بزوال عينه؛ لأن تنجس المحل باعتبار العين فيزول بزوالها والمراد بالمرئي ما يكون مرئيا بعد الجفاف كالدم والعذرة وما ليس بمرئي هو ما لا يكون مرئيا بعد الجفاف كالبول كذا في غاية البيان وهو معنى ما فرق به في الذخيرة بأن المرئية هي التي لها جرم وغير المرئية هي التي لا جرم لها وأطلقه فشمل ما إذا زالت العين بمرة واحدة فإنه يكتفي بها.
وهذا هو الظاهر وفيه اختلاف المشايخ وأفاد أنها لو لم تزل بالثلاث فإنه يزيد عليها إلى أن تزول العين، وإنما قال يطهر بزوال عينه ولم يقل بغسله ليشمل ما يطهر من غير غسل مما قدمه من طهارة الخف بالدلك والمني بالفرك والسيف بالمسح والأرض باليبس ففي هذا كله لا يحتاج إلى الغسل بل يكفي في ذلك زوال العين من غير غسل، كذا في السراج الوهاج.
والمراد بقوله إلا ما شق استثناء ما شق إزالته من أثر النجاسة لا من عينها ولهذا قال في النهاية: ثم الذي وقع منه الاستثناء غير مذكور لفظا؛ لأن استثناء الأثر من العين لا يصح؛ لأنه ليس من جنسه فكان تقديره فطهارته زوال عينه وأثره إلا أن يبقى من أثره وحذف المستثنى منه في المثبت جائز إذا استقام المعنى كقولك قرأت إلا يوم كذا. ا هـ. وفي العناية أنه استثناء العرض من العين فيكون منقطعا. ا هـ.
فقد أفاد صحته من غير هذا التقدير؛ لأن الاستثناء المنقطع صحيح عند أهل العربية كالمتصل ومنهم من رجعه إلى المتصل بالتقدير ولعل صاحب النهاية مائل إليه والمراد بالأثر اللون والريح، فإن شق إزالتهما سقطت وتفسير المشقة أن يحتاج في إزالته إلى استعمال غير الماء كالصابون والأشنان أو الماء المغلي بالنار كذا في السراج.
وظاهر ما في غاية البيان أنه يعفى عن الرائحة بعد زوال العين مطلقا، وأما اللون، فإن شق إزالته يعفى أيضا وإلا فلا وفي فتح القدير، وقد يشكل على الحكم المذكور وهو أن بقاء الأثر الشاق لا يضر.
ما في التجنيس حب فيه خمر غسل ثلاثا يطهر إذا لم يبق فيه رائحة الخمر؛ لأنه لم يبق فيه أثرها، فإن بقيت رائحتها لا يجوز أن يجعل فيه من المائعات سوى الخل؛ لأنه بجعله فيه يطهر، وإن لم يغسل؛ لأن ما فيه من الخمر يتخلل بالخل إلا أن آخر كلامه أفاد أن بقاء رائحتها فيه.

 

ج / 1 ص -468-       وغيره بالغسل ثلاثا وبالعصر في كل مرة
_________________
بقيام بعض أجزائها وعلى هذا قد يقال في كل ما فيه رائحة كذلك.
وفي الخلاصة الكوز إذا كان فيه خمر تطهيره أن يجعل فيه الماء ثلاث مرات كل مرة ساعة، وإن كان جديدا عند أبي يوسف يطهر وعند محمد لا يطهر أبدا. ا هـ. من غير تفصيل بين بقاء الرائحة أو لا والتفصيل أحوط. ا هـ. ما في فتح القدير.
وفي فتاوى قاضي خان المرأة إذا اختضبت بحناء نجس فغسلت ذلك الموضع ثلاثا بماء طاهر يطهر؛ لأنها أتت بما في وسعها وينبغي أن لا يكون طاهرا ما دام يخرج منه الماء الملون بلون الحناء. ا هـ. وظاهره أن المذهب، وإن لم ينقطع اللون.
وظاهر ما في فتح القدير أن ما ذكره بصيغة ينبغي هو المذهب فإنه قال قالوا لو صبغ ثوبه أو يده بصبغ أو حناء نجسين فغسل إلى أن صفا الماء يطهر مع قيام اللون وقيل يغسل بعد ذلك ثلاثا. ا هـ.
وفي المجتبى غسل يده من دهن نجس طهرت ولا يضر أثر الدهن على الأصح تنجس، العسل يلقى في قدر ويصب عليه الماء ويغلى حتى يعود إلى مقداره الأول هكذا ثلاثا قالوا وعلى هذا الدبس. ا هـ. وأطلق الأثر الشاق فشمل ما إذا كان كثيرا فإنه معفو عنه كما في الكافي.
" قوله: وغيره بالغسل ثلاثا وبالعصر في كل مرة " أي غير المرئي من النجاسة يطهر بثلاث غسلات وبالعصر في كل مرة؛ لأن التكرار لا بد منه للاستخراج ولا يقطع بزواله فاعتبر غالب الظن كما في أمر القبلة، وإنما قدروا بالثلاث؛ لأن غالب الظن يحصل عنده فأقيم السبب الظاهر مقامه تيسيرا و يتأيد ذلك بحديث المستيقظ من منامه حيث شرط الغسل ثلاثا عند توهم النجاسة فعند التحقق أولى ولم يشترط الزيادة في المتحقق؛ لأن الثلاث لو لم تكن لإزالة النجاسة حقيقة لم تكن رافعة للتوهم ضرورة كذا في الهداية والكافي وفي غاية البيان أن التقدير بالثلاث ظاهر الرواية وظاهره أنه لو غلب على ظنه زوالها بمرة أو مرتين لا يكفي.
وظاهر ما في الهداية أولا أنه يكفي؛ لأنه اعتبر غلبة الظن وآخرا أنه لا بد من الزيادة الواحدة حيث قال؛ لأن التكرار لا بد منه للاستخراج والمفتى به اعتبار غلبة الظن من غير تقدير بعدد كما صرح به في منية المصلي وصرح الإمام الكرخي في مختصره بأنه لو غلب على ظنه أنها قد زالت بمرة أجزأه واختاره الإمام الإسبيجابي وذكر في البدائع أن التقدير بالثلاث ليس بلازم بل هو مفوض إلى رأيه.

 

ج / 1 ص -469-       ...............................
_________________
وفي السراج اعتبار غلبة الظن مختار العراقيين والتقدير بالثلاث مختار البخاريين والظاهر الأول إن لم يكن موسوسا، وإن كان موسوسا فالثاني. ا هـ. واشتراط العصر في كل مرة هو ظاهر الرواية؛ لأنه هو المستخرج، كذا في الهداية وفي غير رواية الأصول يكتفي بالعصر مرة واحدة وهو أرفق وعن أبي يوسف العصر ليس بشرط، كذا في الكافي.
ثم اشتراط العصر فيما ينعصر إنما هو فيما إذا غسل الثوب في الإجانة، أما إذا غمس الثوب في ماء جار حتى جرى عليه الماء طهر وكذا ما لا ينعصر ولا يشترط العصر فيما لا ينعصر ولا التجفيف فيما لا ينعصر ولا يشترط تكرار الغمس وكذا الإناء النجس إذا جعله في النهر وملأه وخرج منه طهر.
ولو تنجست يده بسمن نجس فغمسها في الماء الجاري وجرى عليها طهرت ولا يضره بقاء أثر الدهن؛ لأنه طاهر في نفسه، وإنما ينجس بمجاورة النجاسة، بخلاف ما إذا كان الدهن ودك ميتة فإنه يجب عليه إزالة أثره، وأما حكم الغدير فإن غمس الثوب به فإنه يطهر، وإن لم ينعصر وهو المختار، وأما حكم الصب فإنه إذا صب الماء على الثوب النجس إن أكثر الصب بحيث يخرج ما أصاب الثوب من الماء وخلفه غيره ثلاثا فقد طهر؛ لأن الجريان بمنزلة التكرار والعصر والمعتبر غلبة الظن هو الصحيح وعن أبي يوسف إن كانت النجاسة رطبة لا يشترط العصر، وإن كانت يابسة فلا بد منه وهذا هو المختار، كذا في السراج الوهاج.
وفي التبيين والمعتبر ظن الغاسل إلا أن يكون الغاسل صغيرا أو مجنونا فيعتبر ظن المستعمل؛ لأنه هو المحتاج إليه. ا هـ. وتعتبر قوة كل عاصر دون غيره خصوصا على قول أبي حنيفة إن قدرة الغير غير معتبرة و عليه الفتوى فلو كانت قوته أكثر من ذلك إلا أنه لم يبالغ في العصر صيانة لثوبه عن التمزيق لرقته قال بعضهم لا يطهر قال بعضهم يطهر لمكان الضرورة وهو الأظهر، كذا في السراج الوهاج لكن اختار قاضي خان في فتاويه عدم الطهارة.
وفي فتح القدير أن اشتراط العصر فيما ينعصر مخصوص منه ما قال أبو يوسف في إزار الحمام إذا صب عليه ماء كثير وهو عليه يطهر بلا عصر حتى ذكر الحلواني لو كانت النجاسة دما أو بولا وصب عليه الماء كفاه على قياس قول أبي يوسف في إزار الحمام لكن لا يخفى أن ذلك لضرورة ستر العورة فلا يلحق به غيره وتترك الروايات الظاهرة فيه وقالوا

 

ج / 1 ص -470-       وبتثليث الجفاف فيما لا ينعصر
_________________
في البساط النجس إذا جعل في نهر ليلة طهر وفي أنه إذا لم يتهيأ له عصر الكرباس طهر كالبساط. ا هـ.
ولا يخفى أن الإزار المذكور إن كان متنجسا فقد جعلوا الصب الكثير بحيث يخرج ما أصاب الثوب من الماء ويخلفه غيره ثلاثا قائما مقام العصر كما قدمناه عن السراج فحينئذ لا فرق بين إزار الحمام وغيره وليس الاكتفاء به في الإزار لأجل ضرورة الستر كما فهمه المحقق بل لما ذكرناه.
وظاهر ما في فتاوى قاضي خان أن الإزار ليس متنجسا، وإنما أصابه ماء الاغتسال من الجنابة فعلى رواية نجاسة الماء المستعمل طاهر وعليه بني هذا الفرع، وأما على طهارته فلا حاجة إلى غسله أصلا كما لا يخفى والتقدير بالليلة في مسألة البساط لقطع الوسوسة وإلا فالمذكور في المحيط قالوا البساط إذا تنجس فأجري عليه الماء إلى أن يتوهم زوالها طهر؛ لأن إجراء الماء يقوم مقام العصر. ا هـ. ولم يقيده بالليلة.
" قوله: وبتثليث الجفاف فيما لا ينعصر " أي ما لا ينعصر فطهارته غسله ثلاثا وتجفيفه في كل مرة؛ لأن للتجفيف أثرا في استخراج النجاسة وهو أن يتركه حتى ينقطع التقاطر ولا يشترط فيه اليبس أطلقه فشمل ما تداخله أجزاء النجاسة أو لا.
أما الثاني فيغسل ويجفف في كل مرة كالجلد والخف والكعب والجرموق والخزف والآجر والخشب الجديد، وأما القديم فيطهر بالغسل ثلاثا دفعة واحدة، وإن لم يجف كذا ذكره.
وفي فتح القدير وينبغي تقييد الخزفة بما إذا تنجست وهي رطبة، أما لو تركت بعد الاستعمال حتى جفت فإنها كالجديدة؛ لأنه يشاهد اجتذابها حتى يظهر من ظاهرها. ا هـ.
وذكر الإمام الإسبيجابي، وإن كان ذلك الشيء الذي أصابه النجاسة صلبا كالحجر والآجر والخشب والأواني فإنه يغسل مقدار ما يقع في أكبر رأيه أنه قد طهر ولا توقيت فيه، وإنما حكم بطهارته إذا كان لا يوجد بعد ذلك طعم النجاسة ولا رائحتها ولا لونها فإذا وجد منها أحد هذه الأشياء الثلاثة فلا يحكم بطهارتها سواء كانت الآنية من الخزف أو من غيره جديدا كان أو غير

 

ج / 1 ص -471-       ...............................
_________________
جديد وعزاه صاحب المحيط إلى أكثر المشايخ وهو بإطلاقه يفيد أن الأثر فيه غير مغتفر، وإن كان يشق زواله بخلاف ما ذكروا في الثوب ونحوه والتفرقة بينهما في هذه لا تعرى عن شيء، ولعل وجه ذلك أن بقاء الأثر هنا دال على قيام شيء من العين بخلاف الثوب ونحوه لجواز أن يكون الاكتساب فيه بسبب المجاورة واستمرت قائمة بعد اضمحلال العين منه، كذا في شرح المنية ويدل للتفرقة ما في الفتاوى الظهيرية، وإن بقي أثر الخمر يجعل فيه الخل حتى لا يبقى أثرها فيطهر. ا هـ.
وفي الحاوي القدسي والأواني ثلاثة أنواع: خزف وخشب وحديد ونحوها وتطهيرها على أربعة أوجه حرق ونحت ومسح وغسل، فإن كان الإناء من خزف أو حجر وكان جديدا ودخلت النجاسة في أجزائه يحرق، وإن كان عتيقا يغسل، وإن كان من خشب وكان جديدا ينحت، وإن كان عتيقا يغسل، وإن كان من حديد أو صفر أو زجاج أو رصاص وكان صقيلا يمسح، وإن كان خشنا يغسل. ا هـ.
وفي الذخيرة وحكى عن الفقيه أبي إسحاق الحافظ أنه إذا أصابت النجاسة البدن يطهر بالغسل ثلاث مرات متواليات؛ لأن العصر متعذر فقام التوالي في الغسل مقام العصر.
وفي شرح المنية والأظهر أن كلا من التوالي والترك ليس بشرط في البدن وما يجري مجراه بعد التفريع على اشتراط الثلاث في ذلك، وقد صرح به في النوازل وفي الذخيرة ما يوافقه، وأما على أن الاعتبار بغلبة الظن فعدم اشتراط كل منهما أظهر. ا هـ.
وفي عمدة الفتاوى نجاسة يابسة على الحصير تفرك وفي الرطبة يجرى عليها الماء ثلاثا والإجراء كالعصر وفي فتاوى قاضي خان البردي إذا تنجس إن كانت النجاسة رطبة تغسل بالماء ثلاثا ويقوم الحصير حتى يخرج الماء من أثقابه، وإن كانت النجاسة قد يبست في الحصير تدلك حتى تلين النجاسة فتزول بالماء ولو كان الحصير من القصب ذكرنا أنه يغسل ثلاثا فيطهر. ا هـ.
وحمله في فتح القدير على الحصير الصقيلة كأكثر حصر مصر، أما الجديدة المتخذة مما

 

ج / 1 ص -472-       ...............................
_________________
يتشرب فسيأتي وفي المجتبى معزيا إلى صلاة البقالي أن الحصير تطهر بالمسح كالمرآة والحجر، وأما الأول أعني ما يتداخله أجزاء النجاسة فلا يطهر عند محمد أبدا ويطهر عند أبي يوسف كالخزفة الجديدة والخشبة الجديدة والبردي والجلد دبغ بنجس والحنطة انتفخت من النجاسة فعند أبي حنيفة وأبي يوسف تغسل ثلاثا وتجفف في كل مرة على ما ذكرنا وقيل في الأخيرة فقط.
والسكين المموهة بماء نجس تموه ثلاثا بطاهر واللحم وقع في مرقه نجاسة حال الغليان يغلى ثلاثا فيطهر وقيل لا يطهر وفي غير حالة الغليان يغسل ثلاثا، كذا في الظهيرية والمرقة لا خير فيها إلا أن تكون تلك النجاسة خمرا فإنه إذا صب فيها خل حتى صارت كالخل حامضة طهرته.
وفي التجنيس طبخت الحنطة في الخمر قال أبو يوسف تطبخ بالماء ثلاثا وتجفف كل مرة وكذا اللحم وقال أبو حنيفة إذا طبخت بالخمر لا تطهر أبدا وبه يفتى. ا هـ. والكل عند محمد لا يطهر أبدا.
وفي الظهيرية ولو صبت الخمر في قدر فيها لحم إن كان قبل الغليان يطهر اللحم بالغسل ثلاثا، وإن كان بعد الغليان لا يطهر وقيل يغلى ثلاث مرات كل مرة بماء طاهر ويجفف في كل مرة وتجفيفه بالتبريد، الخبز الذي عجن بالخمر لا يطهر بالغسل ولو صب فيه الخل وذهب أثرها يطهر الدهن النجس يطهر بالغسل ثلاثا وحيلته أن يصب الماء عليه فيعلو الدهن هكذا يفعل ثلاث مرات امرأة تطبخ مرقة فجاء زوجها سكران وصب الخمر فيها فصبت المرأة فيها خلا إن صارت المرقة كالخل في الحموضة طهرت.
دجاجة شويت وخرج من بطنها شيء من الحبوب يتنجس موضع الحبوب وتطهيره أن يطبخ ويبرد في كل مرة ثلاث مرات بالماء الطاهر وكذلك البعر إذا وجد في حمل مشوي. ا هـ. ما في الظهيرية.
وفي فتح القدير ولو ألقيت دجاجة حال الغليان في الماء قبل أن يشق بطنها لتنتف أو كرش قبل الغسل لا يطهر أبدا لكن على قول أبي يوسف يجب أن يطهر على قانون ما تقدم في اللحم قلت: - وهو سبحانه أعلم - هو معلل بتشربهما النجاسة المتخللة بواسطة الغليان وعلى

 

ج / 1 ص -473-       وسن الاستنجاء بنحو حجر منق
_________________
هذا اشتهر أن اللحم السميط بمصر نجس لا يطهر لكن العلة المذكورة لا تثبت حتى يصل الماء إلى حد الغليان ويمكث فيه اللحم بعد ذلك زمانا يقع في مثله التشرب والدخول في باطن اللحم وكل من الأمرين غير متحقق في السميط الواقع حيث لا يصل الماء إلى حد الغليان ولا يترك فيه إلا مقدار ما تصل الحرارة إلى سطح الجلد فتنحل مسام السطح من الصوف بل ذلك الترك يمنع من وجوده انقلاع الشعر فالأولى في السميط أن يطهر بالغسل ثلاثا لتنجس سطح الجلد بذلك الماء فإنهم لا يحترسون فيه من المنجس، وقد قال شرف الأئمة بهذا في الدجاجة والكرش والسميط مثلهما. ا هـ.
واعلم أن صاحب المحيط فصل فيما لا ينعصر بين ما لا يتشرب فيه النجس وما يتشرب فالأول يطهر بالغسل ثلاثا من غير تجفيف والثاني يحتاج إلى التجفيف.
وبهذا علم أن المتن ليس على عمومه كما لا يخفى وفيه أيضا والمياه الثلاث نجسة متفاوتة فالأول إذا أصاب شيئا يطهر بالثلاث والثاني بالمثنى والثالث بالواحد ويكون حكمه في الثوب الثاني مثل حكمه في الأول وإذا استنجى بالماء ثلاثا كان نجسا، وإن استعمل الماء بعد الإنقاء صار مستعملا.
" قوله: وسن الاستنجاء بنحو حجر منق " ذكره هنا ولم يذكره في سنن الوضوء؛ لأن الاستنجاء إزالة النجاسة العينية وهو إزالة ما على السبيل من النجاسة وفي المغرب الاستنجاء مسح موضع النجو وهو ما يخرج من البطن أو غسله ويجوز أن تكون السين للطلب أي طلب النجو ليزيله.
وقد علم من تعريفه أن الاستنجاء لا يسن إلا من حدث خارج من أحد السبيلين غير الريح؛ لأن بخروج الريح لا يكون على السبيل شيء فلا يسن منه بل هو بدعة كما في المجتبى ولا من النوم والفصد إليه أشار في شرح الوقاية لكن يرد عليه الحصى الخارج من أحد السبيلين فإنه يدخل تحت ضابطه والحال أنه لا يسن الاستنجاء له صرح به في السراج

 

ج / 1 ص -474-       ...............................
_________________
الوهاج وأفاد أن الاستنجاء لا يكون إلا سنة وصرح في النهاية بأنه سنة مؤكدة فلا يكون فرضا وعلى هذا فما ذكر في السراج الوهاج من أن الاستنجاء خمسة أنواع أربعة فريضة وواحد سنة.
فالأول من الحيض والنفاس والجنابة وإذا تجاوزت النجاسة مخرجها وواحد سنة وهو ما إذا كانت النجاسة مقدار المخرج فتسامح فإن الثلاثة الأول من باب إزالة الحدث إن لم يكن شيء على المخرج، وإن كان شيء فهو من باب إزالة النجاسة الحقيقية من البدن غير السبيلين فلا يكون من باب الاستنجاء، وإن كان على أحد السبيلين شيء فهي سنة لا فرض.
وأما الرابع فهو من باب إزالة النجاسة عن البدن، وقد علمت أنه ليس من باب الاستنجاء فلم يبق إلا القسم المسنون.
وأشار بقوله منق إلى أن المقصود هو الإنقاء وإلى أنه لا حاجة إلى التقييد بكيفية من المذكورة في الكتب نحو إقباله بالحجر في الشتاء وإدباره به في الصيف لاسترخاء الخصيتين فيه لا في الشتاء.
وفي المجتبى المقصود الإنقاء فيختار ما هو الأبلغ والأسلم عن زيادة التلويث ا هـ. فالأولى أن يقعد مسترخيا كل الاسترخاء إلا أن يكون صائما وكان الاستنجاء بالماء ولا يتنفس إذا كان صائما ويحترز من دخول الأصبع المبتلة كل ذلك يفسد الصوم.
وفي كتاب الصوم من الخلاصة إنما يفسد إذا وصل إلى موضع المحقنة وقلما يكون ذلك. ا هـ.
وللمخافة ينبغي أن ينشف المحل قبل أن يقوم ويستحب لغير الصائم أيضا حفظ الثوب من الماء المستعمل ويغسل يديه قبل الاستنجاء وبعده وينبغي أن يخطو قبله خطوات والمقصود أن يستبرئ وفي المبتغى والاستبراء واجب ولو عرض له الشيطان كثيرا لا يلتفت إليه بل ينضح فرجه بماء أو سراويله حتى إذا شك حمل البلل على ذلك النضح ما لم يتيقن خلافه وبالماء البارد في الشتاء أفضل بعد تحقق الإزالة به ولا يدخل الأصبع قيل يورث الباسور.
والمرأة كالرجل تغسل ما ظهر منها ولو غسلت المرأة براحتها كفاها، كذا في فتح القدير ولا تدخل المرأة أصبعها في قبلها للاستنجاء كما في الخانية وأراد المصنف بالسنة السنة المؤكدة كما هو مذكور في الأصل ولو تركه صحت صلاته.

 

ج / 1 ص -475-       ...............................
_________________
قال في الخلاصة بناء على أن النجاسة القليلة عفو عندنا وعلماؤنا فصلوا بين النجاسة التي على موضع الحدث والتي على غيره في غير موضع الحدث إذا تركها يكره وفي موضعه إذا تركها لا يكره وما عن أنس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل الخلاء فأحمل أنا وغلام نحوي إداوة من ماء وعنزة فيستنجي بالماء متفق عليه ظاهر في المواظبة بالماء ومقتضاه كراهة تركه، كذا في فتح القدير وهو مبني على أن صيغة كان يفعل مفيدة للتكرار وفيه خلاف بين الأصوليين والمختار الذي عليه الأكثرون والمحققون من الأصوليين أن لفظة كان لا يلزم منها الدوام ولا التكرار، وإنما هي فعل ماض تدل على وقوعه، فإن دل دليل على التكرار عمل به وإلا فلا تقتضيه بوضعها، وقد قالت عائشة رضي الله عنها كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لحله قبل أن يطوف.
ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لم يحج بعد أن صحبته عائشة إلا حجة واحدة وهي حجة الوداع فاستعملت كان في مرة واحدة ولا يقال لعلها طيبته في إحرامه؛ لأن المعتمر لا يحل له التطيب قبل الطواف بالإجماع فثبت أنها استعملت كان في مرة واحدة كما قال الأصوليون ذكره النووي في شرح مسلم من باب الوتر واختاره المحقق في التحرير فإنه اختار أن إفادتها للتكرار من جهة الاستعمال لا من جهة الوضع لكن الاستعمال مختلف كما رأيت.
وقد علم مما ذكرنا أن التقييد بالإنقاء إنما هو لحصول السنة حتى لو لم ينق فإن السنة قد فاتت لا أنه قيد للجواز وأطلق الخارج ولم يقيده بكونه معتادا ليفيد أن غير المعتاد إذا أصاب المحل كالدم يطهر بالحجارة على الصحيح سواء كان خارجا منه أو لا وليفيد أنه لا فرق بين أن يكون الغائط رطبا ولم يقم من موضعه أو قام من موضعه أو جف الغائط فإن الحجر كاف

 

ج / 1 ص -476-       وما سن فيه عدد، وغسله بالماء أحب
_________________
فيه والثاني خلاف ذكره في السراج الوهاج وأراد بنحو الحجر ما كان عينا طاهرة مزيلة لا قيمة له كالمدر والتراب والعود والخرقة والقطن والجلد الممتهن فخرج الزجاج والثلج والآجر والخزف والفحم.
" قوله: وما سن فيه عدد " أي في الاستنجاء لما قدمنا من أن المقصود إنما هو الإنقاء وشرط الشافعي الثلاث مبني على أن الاستنجاء فرض ولا نقول به وذكر الثلاث في بعض الأحاديث خرج مخرج العادة؛ لأن الغالب حصول الإنقاء بها أو يحمل على الاستحباب بدليل أنه لو استنجى بحجر له ثلاثة أحرف جاز عندهم وبدليل أنه لما أتى له عليه الصلاة والسلام بحجرين وروثة ألقى الروثة واقتصر على الحجرين كذا ذكر أئمتنا.
وتعقبه شيخ الإسلام ابن حجر في فتح الباري بأن الأمر أولا بإتيان ثلاثة أحجار يغني عن طلب ثالث بعد إلقاء الروثة وبأنه ورد في بعض الروايات الصحيحة أنه طلب منه ثالثا وأتى له به.
وبما قررناه علم أنه المراد نفي السنة المؤكدة وإلا فقد صرحوا بالاستحباب كما قدمناه.
" قوله: وغسله بالماء أحب " أي غسل المحل بالماء أفضل؛ لأنه قالع للنجاسة والحجر مخفف لها فكان الماء أولى كذا ذكره الشارح الزيلعي وهو ظاهر في أن المحل لم يطهر بالحجر ويتفرع عليه أنه يتنجس السبيل بإصابة الماء وفيه الخلاف المعروف في مسألة الأرض إذا جفت بعد التنجس ثم أصابها ماء وكذا في نظائرها، وقد اختاروا في الجميع عدم عود النجاسة كما قدمناه عنهم فليكن كذلك هنا ويدل على ذلك من السنة ما رواه الدارقطني

 

ج / 1 ص -477-       ويجب إن جاوز النجس المخرج
_________________
وصححه عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم نهى أن يستنجى بروث أو عظم وقال
"أنهما لا يطهران" فعلم أن ما أطلق الاستنجاء به يطهر إذ لو لم يطهر لم يطلق الاستنجاء به بحكم هذه العلة.
وفي فتح القدير وأجمع المتأخرون أنه لا يتنجس بالعرق حتى لو سال العرق منه وأصاب الثوب والبدن أكثر من قدر الدرهم لا يمنع وظاهر ما في الكتاب يدل على أن الماء مندوب سواء كان قبله الحجر أو لا.
فالحاصل أنه إذا اقتصر على الحجر كان مقيما للسنة وإذا اقتصر على الماء كان مقيما لها أيضا وهو أفضل من الأول وإذا جمع بينهما كان أفضل من الكل وقيل الجمع سنة في زماننا وقيل سنة على الإطلاق وهو الصحيح وعليه الفتوى، كذا في السراج الوهاج.
وفي فتح القدير هذا والنظر إلى ما تقدم أول الفصل من حديث أنس وعائشة يفيد أن الاستنجاء بالماء سنة مؤكدة في كل زمان لإفادته المواظبة وفيه ما قدمناه من البحث، أطلق الغسل بالماء ولم يقيده بعدد ليفيد أن الصحيح تفويضه إلى رأيه فيغسل حتى يقع في قلبه أنه طهر، كذا في الخلاصة بعد نقل الخلاف فمنهم من شرط الثلاث ومنهم من شرط السبع ومنهم من شرط العشرة.
والمراد بالاشتراط الاشتراط في حصول السنة وإلا فترك الكل لا يضره عندهم كما قدمناه وفي فتاوى قاضي خان والاستنجاء بالماء أفضل إن أمكنه ذلك من غير كشف العورة، وإن احتاج إلى كشف العورة يستنجي بالحجر ولا يستنجي بالماء قالوا من كشف العورة للاستنجاء يصير فاسقا وفي فتح القدير ولو كان على شط نهر ليس فيه سترة لو استنجى بالماء قالوا يفسق وكثيرا ما يفعله عوام المصريين في الميضأة فضلا عن شاطئ النيل. ا هـ.، وقد قدمنا الكلام عليه أول الباب.
" قوله: ويجب إن جاوز النجس المخرج " أي ويجب غسل المحل بالماء إن تعدت النجاسة المخرج؛ لأن للبدن حرارة جاذبة أجزاء النجاسة فلا يزيلها المسح بالحجر وهو القياس

 

ج / 1 ص -478-       ويعتبر القدر المانع وراء موضع الاستنجاء
_________________
في محل الاستنجاء إلا أنه ترك فيه للنص على خلاف القياس فلا يتعداه وفسرنا فاعل يجب بالغسل دون الاستنجاء كما فعل الشارح الزيلعي لما أن غسل ما عدا المخرج لا يسمى استنجاء ولما قدمنا من أن الاستنجاء لا يكون إلا سنة وأراد بالماء هنا كل مائع طاهر مزيل بقرينة تصريحه أول الباب وهو أولى من حمله على رواية محمد المعينة للماء كما أشار إليه في الكافي؛ لأنها ضعيفة في المذهب كما علمت سابقا وأراد بالمجاوزة أن يكون أكثر من قدر الدرهم بقرينة ما بعده وحينئذ فالمراد بالوجوب الفرض.
" قوله: ويعتبر القدر المانع وراء موضع الاستنجاء " أي ويعتبر في منع صحة الصلاة أن تكون النجاسة أكثر من قدر الدرهم مع سقوط موضع الاستنجاء حتى إذا كان المجاوز للمخرج مع ما على المخرج أكثر من قدر الدرهم فإنه لا يمنع؛ لأن ما على المخرج ساقط شرعا ولهذا لا تكره الصلاة معه فبقي المجاوز غير مانع وهذا عندهما خلافا لمحمد بناء على أن ما على المخرج في حكم الباطن عندهما وفي حكم الظاهر عنده وهذا بعمومه يتناول ما إذا كانت مقعدته كبيرة وكان فيها نجاسة أكثر من قدر الدرهم ولم يتجاوز المخرج فإنه ينبغي أن يعفى عنه اتفاقا لاتفاقهم على أن ما على المقعدة ساقط، وإنما خلاف محمد فيما إذا جاوزت النجاسة المخرج وكان قليلا وكان لو جمع مع ما على المخرج كان كثيرا فعلى هذا فالاختلاف المنقول في الشرح وغيره بين الفقيه أبي بكر القائل بأنه لا يجزئه الاستنجاء بالأحجار وبين ابن شجاع القائل بالجواز مشكل إلا أن يخص هذا العموم بالمقعدة المعتادة التي قدر بها الدرهم الكبير المثقالي، وأما الكبيرة التي جاوز ما عليها الدرهم فليست ساقطة فله وجه مع بعده.
وفي السراج الوهاج هذا حكم الغائط إذا تجاوز، وأما البول إذا تجاوز عن رأس الإحليل أكثر من قدر الدرهم فالظاهر أنه يجزئ فيه الحجر عند أبي حنيفة وعند محمد لا يجزئ فيه

 

ج / 1 ص -479-       لا بعظم وروث وطعام ويمين
_________________
الحجر إلا إذا كان أقل من قدر الدرهم. ا هـ. وفي الخلاصة ولو أصاب طرف الإحليل من البول أكثر من قدر الدرهم لا تجوز صلاته هو الصحيح. ا هـ.
وتعبير المصنف بموضع الاستنجاء أولى من تعبير صاحب النقاية وغيرها بالمخرج؛ لأنه لا يجب الغسل بالماء إلا إذا تجاوز ما على نفس المخرج وما حوله من موضع الشرج وكان المجاوز أكثر من قدر الدرهم كما في المجتبى.
وذكر في العناية معزيا إلى القنية أنه إذا أصاب موضع الاستنجاء نجاسة من الخارج أكثر من قدر الدرهم يطهر بالحجر وقيل الصحيح أنه لا يطهر إلا بالغسل، وقد قدمنا أنه يطهر بالحجر، وقد نقلوا هذا التصحيح هنا بصيغة التمريض فالظاهر خلافه والله أعلم.
" قوله: لا بعظم وروث وطعام ويمين " أي لا يستنجي بهذه الأشياء والمراد أنه يكره بها كما صرح به الشارح والظاهر أنها كراهة تحريم للنهي الوارد في ذلك لما روى البخاري من حديث أبي هريرة في بدء الخلق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له "ابغني أحجارا استقض بها ولا تأتني بعظم ولا بروثة" قلت: ما بال العظام والروثة قال هما من طعام الجن".
وروى أصحاب الكتب الستة عن أبي قتادة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
"إذا بال أحدكم فلا يمس ذكره بيمينه وإذا أتى الخلاء فلا يتمسح بيمينه وإذا شرب فلا يشرب نفسا واحدا".
وفي القنية في شرح السنة جمع الحديث النهي عن الاستنجاء باليمين ومس

 

ج / 1 ص -480-       ...............................
_________________
الذكر باليمين ولا يمكنه إلا بارتكاب أحدهما فالصواب أن يأخذ الذكر بشماله فيمره على جدار أو موضع ناء من الأرض، وإن تعذر يقعد ويمسك الحجر بين عقبيه فيمر العضو عليه بشماله، فإن تعذر يأخذ الحجر بيمينه ولا يحركه ويمر العضو عليه بشماله قال مولانا نجم الدين وفيما أشار إليه من إمساك الحجر بعقبيه حرج وتعسير وتكلف بل يستنجى بجدار إن أمكن وإلا يأخذ الحجر بيمينه ويستنجي بيساره ا هـ. وليس مراده القصر على هذه الأشياء فإن ما يكره الاستنجاء به ثلاثة عشر كما في السراج الوهاج العظم والروث والرجيع والفحم والطعام والزجاج والورق والخزف والقصب والشعر والقطن والخرقة وعلف الدواب مثل الحشيش وغيره فإن استنجى بها أجزأه مع الكراهة لحصول المقصود، والروث وإن كان نجسا عندنا بقوله عليه الصلاة والسلام "فيها ركس أو رجس" لكن لما كان يابسا لا ينفصل منه شيء صح الاستنجاء به؛ لأنه يجفف ما على البدن من النجاسة الرطبة والرجيع العذرة اليابسة وقيل الحجر الذي قد استنجي به وفي فتح القدير ولا يجزئه الاستنجاء بحجر استنجى به مرة إلا أن يكون له حرف آخر لم يستنج به. ا هـ. والورق قيل: إنه ورق الكتابة، وقيل: إنه ورق الشجر وأي ذلك كان فإنه مكروه.
وأما الطعام فلأنه إسراف وإهانة، وإنما كرهوا وضع المملحة على الخبز للإهانة فهذا أولى وسواء كان مائعا أو لا كاللحم، وأما الخزف والزجاج والفحم فإنه يضر بالمقعدة، وأما باليمين فللنهي المتقدم، فإن كان باليسرى عذر يمنع الاستنجاء بها جاز أن يستنجي بيمينه من غير كراهة، وأما باقي هذه الأشياء فقيل إن الاستنجاء بها يورث الفقر، وقد قدمنا أن التحقيق أن الاستنجاء لا يكون إلا سنة فينبغي أنه إذا استنجى بالمنهي عنه أن لا يكون مقيما لسنة الاستنجاء أصلا فقولهم بالإجزاء مع الكراهة تسامح؛ لأن مثل هذه العبارة تستعمل في الواجب وليس به. والله الموفق للصواب.
" فروع " إذا أراد الإنسان دخول الخلاء وهو بيت التغوط يستحب له أن يدخل بثوب غير

 

ج / 1 ص -481-       ...............................
_________________
ثوبه الذي يصلي فيه إن كان له ذلك وإلا فيجتهد في حفظ ثوبه عن إصابة النجاسة والماء المستعمل ويدخل مستور الرأس ويقول عند دخوله:
باسم الله اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث وأعوذ بك من الرجس الخبيث المخبث الشيطان الرجيم والخبث بسكون الباء بمعنى الشر وبضمها جمع الخبيث وهو الذكر من الشيطان والخبائث جمع الخبيثة وهي الأنثى من الشياطين.
ويكره أن يدخل الخلاء ومعه خاتم مكتوب عليه اسم الله تعالى أو شيء من القرآن ويبدأ برجله اليسرى ويقعد ولا يكشف عورته وهو قائم ويوسع بين رجليه ويميل على اليسرى ولا يتكلم عن الخلاء فإن الله تعالى يمقت على ذلك والمقت هو البغض ولا يذكر الله ولا يحمد إذا عطس ولا يشمت عاطسا ولا يرد السلام ولا يجيب المؤذن ولا ينظر لعورته إلا لحاجة ولا ينظر إلى ما يخرج منه ولا يبزق ولا يمخط ولا يتنحنح ولا يكثر الالتفات ولا يعبث ببدنه ولا يرفع بصره إلى السماء ولا يطيل القعود على البول والغائط؛ لأنه يورث الباسور أو وجع الكبد كما روي عن لقمان عليه السلام فإذا فرغ قام ويقول الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني أي بإبقاء شيء من الطعام؛ لأنه لو خرج كله هلك ويكره البول والغائط في الماء ولو كان جاريا ويكره على طرف نهر أو بئر أو حوض أو عين أو تحت شجرة مثمرة أو في زرع أو في ظل ينتفع بالجلوس فيه ويكره بجنب المساجد ومصلى العيد وفي المقابر وبين الدواب وفي طرق المسلمين ومستقبل القلبة ومستدبرها ولو في البنيان، فإن جلس مستقبل القبلة ناسيا، ثم ذكر بعده إن أمكنه الانحراف انحرف وإلا فلا بأس وكذا يكره للمرأة أن تمسك ولدها للبول والغائط نحو القبلة واختلفوا في الاستقبال للتطهر فاختار التمرتاشي أنه لا يكره وكذا يكره استقبال الشمس والقمر لأنهما من آيات الله الباهرة ويكره أن يقعد في أسفل الأرض ويبول في أعلاها وأن يبول في مهب الريح وأن يبول في حجر فأرة أو حية أو نملة أو ثقب ويكره أن يبول قائما أو مضطجعا أو متجردا عن ثوبه من غير عذر، فإن كان لعذر فلا بأس؛ لأنه عليه الصلاة والسلام بال قائما لوجع في صلبه ويكره أن يبول في موضع

 

ج / 1 ص -482-       ويتوضأ أو يغتسل فيه للنهي، كذا في السراج الوهاج والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.