البحر الرائق شرح كنز الدقائق ط احياء التراث
ج / 5 ص -264-
18- كتاب المفقود.
وهو غائب لم
يدر موضعه, فينصب القاضي من يأخذ حقه ويحفظ
ماله ويقوم عليه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
18- "كتاب المفقود"
من فقده يفقده فقدا وفقدانا وفقدا عدمه فهو
فقيد ومفقود كذا في القاموس.
قوله "وهو غائب لم يدر موضعه" يعني لم تدر
حياته ولا موته فالمدار إنما هو على الجهل
بحياته وموته لا على الجهل بمكانه فإنهم جعلوا
منه كما في المحيط المسلم الذي أسره العدو ولا
يدرى أحي أم ميت مع أن مكانه معلوم وهو دار
الحرب فإنه أعم من أن يكون عرف أنه في بلدة
معينة من دار الحرب أو لا.
وحاصل ما ذكره المصنف من أحكامه أن له حكمين
حكما في الحال وحكما في المآل, فالأصل في
الأول أنه حي في حق نفسه حتى لا يورث عنه ماله
ولا تتزوج نساؤه وميت في حق غيره حتى لا يرث
من أحد ولا يقسم ماله بين ورثته ما لم يثبت
موته ببينة أو يبلغ سنا سيبينه المصنف, وأما
الحكم المآلي فهو الحكم بموته بمضي مدة معينة
قوله: "فينصب القاضي من يأخذ حقه ويحفظ ماله
ويقوم عليه" لأن القاضي نصب ناظرا لكل عاجز عن
النظر لنفسه والمفقود بهذه الصفة وصار كالصبي
والمجنون وفي نصب الحافظ لماله والقائم عليه
نظر له لكن عند الحاجة فلو كان له وكيل, ثم
فقد ينبغي أن لا ينصب القاضي وكيلا; لأنه لا
ينعزل بفقد موكله إذا كان وكيلا في الحفظ لما
في الولوالجية والتجنيس رجل غاب وجعل داره في
يد رجل ليعمرها أو دفع ماله ليحفظه وفقد
الدافع فله أن يحفظه وليس له أن يعمر الدار
إلا بإذن الحاكم; لأنه لعله مات ولا يكون
الرجل وصيا ا هـ.
أطلق الحق فشمل الأعيان والديون من الغلات
وغيرها ما كان في بيته أو عند أمنائه ولا يخفى
أنه يقبض غلاته والديون المقر بها; لأنه من
باب الحفظ فيخاصم في دين وجب بعقده; لأنه أصيل
في حقوقه ولا يخاصم في الذي تولاه المفقود ولا
في نصيب له في عقار أو في عروض في يد رجل;
لأنه ليس بمالك ولا نائب عنه إنما هو وكيل في
القبض من جهة القاضي وأنه لا يملك الخصومة بلا
خلاف وإنما الخلاف في الوكيل بالقبض من جهة
المالك في الدين, وإذا كان كذلك تضمن الحكم به
قضاء على الغائب وأنه لا يجوز إلا إذا رده
القاضي وقضى به; لأنه مجتهد فيه, كذا في
الهداية. وأورد عليه أن المجتهد فيه نفس
القضاء فينبغي أن يتوقف نفاذه على إمضاء قاض
آخر كما لو كان القاضي محدودا في قذف أجيب بأن
المجتهد فيه سبب القضاء وهو أن البينة هل تكون
حجة من غير خصم حاضر أو لا فإذا رآها القاضي
حجة
ج / 5 ص -265-
وينفق
على قريبه ولاد أو زوجته
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقضى بها نفذ قضاؤه كما لو قضى بشهادة المحدود
في القذف واستشكله الشارح بأن الاختلاف إنما
هو في نفس القضاء وإلا لم يتصور الاختلاف في
نفس القضاء فلا ينفذ حكمه إلا بتنفيذ قاض آخر
ولهذا قال الشارح في كتاب القضاء إن الأصح أنه
لا ينفذ إلا بتنفيذ قاض آخر; لأن الاختلاف في
نفس القضاء وتبعه المحقق ابن الهمام هناك لكن
ذكر هنا عن الخلاصة أن الفتوى على النفاذ.
والحاصل أن في نفاذ القضاء على الغائب روايتين
فصححوا في باب المفقود رواية النفاذ وفي كتاب
القضاء رواية عدمه لكن وقع الاشتباه بين أهل
العصر في المراد بالقاضي على الغائب هل المراد
به الأعم من الحنفي وغيره أو المراد غير
الحنفي, ومنشؤه فهم عبارة الهداية وغيرها هنا
حيث قالوا إذا رآه القاضي نفذ هل المراد أنه
رأي له واعتقاد فيخرج الحنفي; لأنه لا يرى
القضاء على الغائب أو المراد إذا رآه القاضي
مصلحة فقال في العناية إلا إذا رآه القاضي أي
جعل ذلك رأيا له وحكم به, وقال في فتح القدير
أي رأى القاضي المصلحة في الحكم على الغائب أو
له ا هـ.
وقال الشارحون وصاحب الخلاصة والبزازية في
توجيه الجواب عما أورد أن المجتهد فيه نفس
القضاء رآها القاضي حجة وقضى بها نفذ, وهو
موافق لما في العناية المقتضي لتخصيص القاضي
بغير الحنفي ومن العجب ما في الخلاصة من نقل
الإجماع على نفاذ القضاء على الغائب لو فعل
وإنما الخلاف في أنه هل يقضي وينصب وكيلا عن
الغائب أم لا وستزداد وضوحا في كتاب القضاء إن
شاء الله تعالى.
والحاصل أنه لا تسمع الدعوى ولا تقبل البينة
فيما لو ادعى إنسان على المفقود دينا أو وديعة
أو شركة في عقار أو رقيق أو ردا بعيب أو
مطالبة لاستحقاق لعدم الخصم; لأن منصوب القاضي
ليس بخصم, وكذا ورثته; لأنهم يرثونه بعد موته
ولم يثبت ولم يذكر المصنف بيع شيء من ماله وفي
الهداية, ثم ما كان يخاف عليه الفساد يبيعه
القاضي; لأنه يتعذر عليه حفظ صورته ومعناه
فينظر له بحفظ المعنى ولا يبيع ما لا يخاف
عليه الفساد في نفقة ولا غيرها; لأنه لا ولاية
له على الغائب إلا في حفظ ماله فلا يسوغ له
ترك حفظ الصورة وهو ممكن
قوله: "وينفق على قريبه ولاد أو زوجته" يعني
من مال المفقود, والأصل فيه أن كل من
ج / 5 ص -266-
ولا
يفرق بينه وبينها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يستحق النفقة في ماله حال حضرته بغير قضاء
القاضي ينفق عليه من ماله في غيبته; لأن
القضاء حينئذ يكون إعانة وكل من لا يستحقها في
حضرته إلا بالقضاء لا ينفق عليه من ماله في
غيبته; لأن النفقة حينئذ تجب بالقضاء والقضاء
على الغائب ممتنع فمن الأول الأولاد الصغار
والإناث من الكبار وألزمني من الذكور الكبار
ومن الثاني الأخ والأخت والخال والخالة وكل
محرم لما قدمناه في النفقات, أطلق في الإنفاق
من ماله وهو مقيد بالدراهم والدنانير; لأن
حقهم في الملبوس والمطعوم فإذا لم يكن ذلك في
ماله يحتاج إلى القضاء بالقيمة وهي النقدان
والتبر بمنزلتهما في هذا الحكم; لأنه يصلح
قيمة كالمضروب وتقدم في النفقات استثناء الأب
فإن له بيع العروض, وفي التتارخانية ويباع في
النفقة ما سوى العقار ولم يقيد بفقرهم لما علم
في النفقات أنه لا بد منه إلا الزوجة فإنها
تستحق النفقة وإن كانت غنية ولم يبين من تحت
يده المال لما قدمه في النفقات أنه إذا كان
المال وديعة أو دينا ينفق عليهم منهما إذا كان
المودع والمديون مقرين بالدين الوديعة والنكاح
والنسب. وهذا إذا لم يكونا ظاهرين عند القاضي
فإن كانا ظاهرين لا حاجة إلى الإقرار وإن كان
أحدهما ظاهرا الوديعة والدين أو النكاح والنسب
يشترط الإقرار بما ليس بظاهر, هذا هو الصحيح
وإن دفع المودع بنفسه أو من عليه الدين بغير
أمر القاضي يضمن المودع ولا يبرأ المديون;
لأنه ما أدى إلى صاحب الحق ولا إلى نائبه
بخلاف ما إذا دفع بأمر القاضي; لأن القاضي
نائب عنه وإن كان المودع والمديون جاحدين أصلا
أو كانا جاحدين الزوجية والنسب لم ينتصب أحد
من مستحقي النفقة خصما في ذلك; لأن ما يدعيه
للغائب لم يتعين سببا لثبوت حقه وهو النفقة;
لأنها كما تجب في هذا المال تجب في مال آخر
للمفقود, وأما إذا نصب القاضي من يخاصم في ذلك
فله ذلك كما في التتارخانية ولم يذكر المصنف
أخذ الكفيل منهم لما قدمه أنه يأخذ كفيلا.
قوله: "ولا يفرق بينه وبينها" أي وبين زوجته
لقوله عليه السلام في امرأة المفقود "إنها امرأته
حتى يأتيها البيان"1 وقول علي
رضي الله عنه فيها
"هي امرأة ابتليت فلتصبر حتى يتبين موت أو طلاق"2 خرج بيانا للبيان المذكور في المرفوع; ولأن النكاح عرف ثبوته
والغيبة لا توجب الفرقة والموت في حيز
الاحتمال فلا يزال النكاح بالشك وعمر رضي الله
عنه رجع إلى قول علي ولا معتبر بالإيلاء; لأنه
كان طلاقا معجلا فاعتبر في الشرع مؤجلا فكان
موجبا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الدارقطني في سننه كتاب النكاح باب
المهر بلفظ "امرأة المفقود امرأته حىيأتيها
الخبر" "3/312" من حديث المغيرة بن شعبة
والزيلعي في نصب الراية "3/473", وفي كنز
العمال برقم "4460".
2 أخرجه عبد الرزاق في الطلاق باب التي لا
تعلم مهلك زوجها "7/90".
ج / 5 ص -267-
وحكم
بموته بعد تسعين سنة, وتعتد امرأته وورث منه
حينئذ لا قبله, ولا يرث من أحد مات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
للفرقة; لأن الغربة تعقب الأوبة والعنة قلما
تنحل بعد استمرارها سنة
قوله: "وحكم بموته بعد تسعين سنة" لأنه الغاية
في زماننا والحياة بعدها نادر فلا عبرة
للنادر, وقد وقع الاختلاف في هذه واختلف
الترجيح, فظاهر الرواية وهو المذهب أنه مقدر
بموت الأقران في السن; لأن من النوادر أن يعيش
الإنسان بعد موت أقرانه فلا ينبني الحكم عليه
فإذا بقي منهم واحد لا يحكم بموته واختلفوا في
المراد بموت أقرانه فقيل من جميع البلاد, وقيل
من بلده وهو الأصح, كذا في الذخيرة. واختار
المؤلف التقدير بالتسعين بتقديم التاء على
السين تبعا لابن الفضل وهو الأرفق كما في
الهداية وفي الذخيرة وعليه الفتوى, وعن أبي
يوسف تقديره بمائة سنة واختاره أبو بكر بن
حامد1 وفي رواية الحسن عن الإمام بمائة وعشرين
سنة واختاره القدوري واختار المتأخرون ستين
سنة واختار المحقق ابن الهمام سبعين سنة
واختار شمس الأئمة أن لا يقدر بشيء; لأنه أليق
بطريق النفقة; لأن نصب المقادير بالرأي لا
تكون وفي الهداية أنه الأقيس وفوضه بعضهم إلى
القاضي فأي وقت رأى المصلحة حكم بموته, قال
الشارح وهو المختار. والحاصل أن الاختلاف ما
جاء إلا من اختلاف الرأي أي في أن الغالب هذا
في الطول أو مطلقا والعجب من المشايخ كيف
يختارون خلاف ظاهر المذهب مع أنه واجب الاتباع
على مقلدي أبي حنيفة والإمام محمد لم يعتبر
السنين وإنما اعتبره المتقدمون بعده, وقال
الصدر الشهيد في شرحه ما قال محمد أحوط كما في
التتارخانية ولقد صدق من قال كثرة المقالات
تؤذن بكثرة الجهالات ومن الغريب ما نقله في
التتارخانية أنه مقدر بثمانين سنة وعليه
الفتوى.
قوله: "وتعتد امرأته وورث منه حينئذ لا قبله"
أي حين حكم بموته بمضي هذه المدة والظرف قيد
للحكمين كأنه مات من ذلك الوقت معاينة إذ
الحكمي معتبر بالحقيقي, وكذا يحكم بعتق مدبريه
وأمهات أولاده في ذلك الوقت كما في الحاوي.
قوله: "ولا يرث من أحد مات" أي قبل الحكم
بموته; لأن بقاءه حيا في ذلك الوقت باستصحاب
الحال وهو لا يصلح حجة للاستحقاق ولذلك لو
أوصى للمفقود ومات الموصي لا يستحق الوصية لكن
قال محمد لا أقضي بها ولا أبطلها حتى يظهر حال
المفقود يعني يوقف نصيب المفقود الموصى له به
إلى أن يقضي بموته فإذا قضى بموته جعل كأنه
مات الآن. والحاصل أنه حي في مال نفسه فلا
يورث ميت في حق غيره فلا يرث, وهذا إذا لم
تعلم حياته إلى أن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الإماملا الزاهد وهو من أقران أبي حصين
الكبيبر وأحد من عزا إليه صاحب القنية وعلم له
"حم" ا هـ. الجواهر المضية "4/17" الفوائد
البهية "52".
ج / 5 ص -268-
ولو
كان مع المفقود وارث يحجب به لم يعط شيئا وإن
انتقص حقه به يعطى أقل النصيبين, كالحمل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يحكم بموته وإن علم حياته في وقت من الأوقات
يرث من مات قبل ذلك الوقت من أقاربه كما في
الحمل لاحتمال أن يكون حيا فيرث فإن تبين
حياته في وقت مات فيه قريبه وإلا يرد الموقوف
لأجله إلى وارث مورثه الذي وقف من ماله
قوله: "ولو كان مع المفقود وارث يحجب به لم
يعط شيئا وإن انتقص حقه به يعطى أقل النصيبين"
بيانه رجل مات عن ابنتين وابن مفقود وابن ابن
أو بنت ابن والمال في يد الأجنبي وتصادقوا على
فقد الابن وطلبت البنتان الميراث يعطيان
النصف; لأنه متيقن به ويوقف النصف الآخر ولا
يعطى أولاد الابن; لأنهم يحجبون بالمفقود لو
كان حيا فلا يستحقون الميراث بالشك ولا ينزع
من يد الأجنبي إلا إذا ظهرت منه خيانة بأن كان
أنكر أن الميت عنده مال حتى أقامت البنتان
البينة فقضى بها; لأن أحد الورثة ينتصب خصما
عن الباقين فإنه حينئذ يؤخذ الفضل الباقي منه
ويوضع على يد عدل لظهور خيانته, ولو لم
يتصادقوا على فقد الابن, فقال الأجنبي الذي في
يده المال مات المفقود قبل أبيه فإنه يجبر على
دفعه الثلثين للبنتين; لأن إقراره معتبر فيما
في يده, وقد أقر أن ثلثيه للبنتين فيجبر على
دفعه لهما ولا يمنع إقراره قول أولاد الابن
أبونا أو عمنا مفقود; لأنهم بهذا القول لا
يدعون لأنفسهم شيئا ويوقف الثلث الباقي في
يده, وتمامه في فتح القدير, وفي البزازية من
كتاب الدعوى مات عن ابنين أحدهما مفقود فزعم
ورثة المفقود أنه حي وله ميراث والابن الآخر
يزعم موته لا خصومة بينهما; لأن ورثة المفقود
اعترفوا أنهم لا حق لهم في التركة فكيف
يخاصمون عمهم ا هـ.
قوله: "كالحمل" أي الحمل نظيره في الميراث عند
الشك في نصيب الحمل فإنه يوقف له ميراث ابن
واحد على ما عليه الفتوى فلو كان مع الحمل
وارث آخر لا يسقط بحال ولا يتغير بالحمل يعطى
كل نصيبه للتيقن به على كل حال, وكذا إذا ترك
ابنا وامرأة حاملا تعطى المرأة الثمن وإن كان
ممن يسقط بالحمل لا يعطى شيئا وإن كان ممن
يتغير يعطى الأقل للتيقن به, مثاله ترك امرأة
حاملا وجدة تعطى السدس; لأنه لا يتغير بها,
ولو ترك حاملا وأخا أو عما لا يعطى شيئا; لأن
الأخ يسقط بالابن وجائز أن يكون الحمل ابنا
وكان بين أن يسقط ولا يسقط فكان أصل الاستحقاق
مشكوكا فيه فلا يعطى شيئا, ولو ترك حاملا وأما
وزوجة تأخذ الأم السدس والزوجة الثمن; لأنه لو
كان ميتا أخذت الأم الثلث أو حيا أخذت السدس
والزوجة الثمن; لأنه لو كان ميتا أخذت الربع
والله أعلم. |