البحر الرائق شرح كنز الدقائق ط احياء التراث

 ج / 8 ص -445-      كتاب الصيد
هو الاصطياد ويحل بالكلب المعلم والفهد والبازي وسائر الجوارح المعلمة

______
قال في العناية مناسبة كتاب الصيد بكتاب الأشربة من حيث إن كل واحد من الأشربة والصيد يورث السرور إلا أنه قدم الأشربة لحرمتها اعتبارا بالاحتراز عنها ا هـ. قال في المحيط: يحتاج إلى معرفة إباحة الصيد وتفسيره لغة وشرعا وركنه وشرط إباحته ودليلها وحكم مشروعيته. أما دليل الإباحة من الكتاب قوله تعالى
{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: من الآية96] {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: من الآية2] وأما تفسيره لغة فالصيد هو الاصطياد ويطلق على ما يصاد مجازا إطلاقا لاسم المصدر على المفعول وهو المتوحش الممتنع بأصل الخلقة عن الآدمي مأكولا كان أو غير مأكول والذي يظهر أنه عند الفقهاء الإرسال بشروطه لأخذ ما هو مباح من الحيوان المتوحش الممتنع عن الآدمي بأصل خلقته وأما ركنه فهو على الأخذ بشروطه وأما شرطه المتعلق بالصيد فكون الصيد غير آمن بالإحرام والحرم, وغير مملوك, وأما حكمه فصيرورة المأخوذ ملكا للآخذ
قال رحمه الله "هو الاصطياد" قال الشارح أي الصيد هو الاصطياد في اللغة ا هـولا يخفى أن هذا لا يناسب أن يذكر في المتن فلا ينبغي أن يذكرها.
قال رحمه الله "ويحل بالكلب المعلم والفهد والبازي وسائر الجوارح المعلمة" يعني يحل الاصطياد بهذه الأشياء وبغيرها من الجوارح كالشاهين والباشق والعقاب والصقر, وفي الجامع الصغير: وكل شيء علمته من ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطير فلا بأس بصيده ولا خير فيما سوى ذلك إلا أن تدرك ذكاته فتذكيه قال في العناية وإنما أورد هذه الرواية ; لأن رواية القدوري تدل على الإثبات والنفي جميعا. ا هـ. واعترض بأنهم قد صرحوا في النهاية وغيرها بأن تخصيص الشيء بالذكر في الرواية يدل على نفي الحكم عما عداه بالاتفاق, فرواية القدوري تدل على إثبات الصيد بما ذكرنا ونفي جوازه بما سواه فلم يتم ما ذكره,

 

 ج / 8 ص -446-     ...........................................
______
والأصل فيه قوله تعالى
{أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} [المائدة: من الآية4] والجوارح الكواسب والجرح الكسب, وقيل هي أن تكون جارحة بنابها ومخلبها حقيقة ومعنى مكلبين معلمين الاصطياد ولأنه اجتمع في الحيوان الصائد ما يوجب أن يكون آلة للذبح وهو كونه جارحا قاطعا بطبعه غير عاقل كالسكين وما يمنع أن يكون آلة للذبح وهو كونه مختارا في فعله كالآدمي, والشرع جعل التعليم فيه بترك الأكل فيجري على موجب اختيار صاحبه فيعمل له لا لنفسه فيصير آلة محضة لصاحبه كالسكين واسم الكلب يقع على كل سبع حتى الأسد, واستثنى الثاني من الجواز اصطياد السبع والدب لأنهما لا يعملان لغيرهما ; الأسد لعلو همته والدب لخساسته كذا في الهداية وذكر في النهاية الذئب بدل الدب ولأن التعلم يعرف بترك الأكل وهما لا يأكلان الصيد في الحال فلا يمكن الاستدلال بترك الأكل على التعليم حتى لو تصور التعليم منهما وعرف ذلك جاز ذكره في النهاية وألحق بعضهم الحدأة بهما لخساستها, والخنزير مستثنى من ذلك ; لأنه نجس العين وفي المحيط قالوا لا يجوز الاصطياد بالأسد والذئب ; لأن الأسد لا يعمل لغيره وإنما يعمل لنفسه, والذئب مثله أيضا. قال في الخلاصة: وإنما يحل الصيد بخمسة عشر شرطا: خمسة في الصائد وهو أن يكون من أهل الذكاة, وأن يوجد منه الإرسال ولا يشاركه في الإرسال من لا يحل صيده, وأن لا يترك التسمية عمدا ولا يشتغل بين الإرسال والأخذ بعمل. وخمسة في الكلب منها أن يكون معلما, وأن يذهب على سنن الإرسال, وأن لا يشاركه في الأخذ من لا يحل صيده, وأن يقتله جرحا, وأن لا يأكل منه. وخمسة في الصيد منها أن لا يكون متقويا بأنيابه أو بمخلبه, وأن لا يكون من الحشرات, وأن لا يكون من بنات الماء سوى السمك, وأن يمنع نفسه بجناحه أو مخلبه, وأن يموت بهذا قبل أن يصل إلى ذبحه ا هـ. وذكر صاحب النهاية والعناية وغاية البيان نقلا عن الخلاصة: واعترض بأن قوله "وأن يموت قبل أن يصل إلى ذبحه" مستدرك بعد قوله, وأن يقتله جرحا وأجيب بأن لا استدراك ; لأن الشرط الذي أريد بقوله "وأن يقتله جرحا" ليس مجرد قتله بل قتله جرحا والمقصود منه الاحتراز عن قتله خنقا, والشرط الذي أريد بقوله "وأن يموت بهذا قبل أن يصل إلى ذبحه" لجواز أن يقتله الكلب جرحا بعد أن يصل المرسل إلى ذبحه فحينئذ لا يحل أكله فلا بد من بيان الشرط الآخر أيضا على الاستقلال قال صاحب العناية: فيما نقله صاحب الخلاصة تسامح ; لأن هذا شرط الاصطياد للأكل بالكلب لا غيره على أنه لو انتقى بعضه لم يحرم كما لو اشتغل بعمل غيره لكن أدركه حيا فذبحه وكذا لو لم يمت بهذا لكن ذبحه فإنه صيد وهو حلال ا هـ. وأجيب بأن هذه الشروط في الصيد المحض وهو الذي لم يدركه حيا أما الذي أدركه فذكاه بالذكاة الاختيارية فليس صيدا محضا بل يلحق به. ا هـ. والمراد بقول صاحب العناية شرط

 

 ج / 8 ص -447-     ولا بد من التعليم وذا بترك الأكل ثلاثا في الكلب وبالرجوع إذا دعوته في البازي
______
الاصطياد أي حال الاصطياد, وفي التعبير بما يدل على ظهور المراد لا يبالى بمثله
قال رحمه الله "ولا بد من التعليم" لقوله تعالى
{وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ} [المائدة: من الآية4] ولقوله عليه الصلاة والسلام لأبي ثعلبة: "ما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله عليه فكل وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركت ذكاته فكل"1 رواه البخاري ومسلم, وأحمد ولذا لا بد أن يكون المرسل أهلا للذكاة بأن يكون مسلما أو كتابيا ويعقل التسمية ويضبط على نحو ما ذكرنا في الذبائح.
قال رحمه الله "وذا بترك الأكل ثلاثا في الكلب وبالرجوع إذا دعوته في البازي" أي التعليم في الكلب يكون بترك الأكل ثلاث مرات وفي البازي في الرجوع إذا دعي روي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ولأن بدن الكلب يحتمل الضرب فيمكن ضربه حتى يترك الأكل, وبدن البازي لا يحتمل الضرب فلا يمكن تحقيق هذا الشرط فيه فاكتفي بغيره مما يدل على التعليم ولأن آية التعليم ترك ما هو مألوفه عادة, وعادة البازي التوحش والاستنفاد, وعادة الكلب الانتهاب والاستلاب لائتلافه بالناس فإذا ترك كل واحد منهما مألوفه دل على تعليمه وانتهاء علمه وهذا الفرق لا يتأتى إلا في الكلب خاصة ; لأنه هو الألوف دون غيره من ذوات الأنياب فإنها ليست بألوفة, والفرق الأول يتأتى في الكل لأن بدن كل ذي ناب يحتمل الضرب فأمكن تعليمه بالضرب إلى أن يترك الأكل قال صاحب النهاية وهذا الفرق لا يتأتى في الفهد والنمر فإنه متوحش كالباز ثم الحكم فيه وفي الكلب سواء فالمعتمد هو الأول كذا في المبسوط وأجيب بأن الكلب في اللغة يقع على كل سبع وليس المراد مما ذكره المؤلف الكلب المعهود بل الكلب بالمعنى اللغوي فلهذا استووا فيما يقع به التعليم وإنما شرط ترك الأكل ثلاث مرات وهو قولهما ورواية عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه ; لأن علمه يعرف بتكرار التجارب والامتحان هو مدة ضربت لذلك كما في قصة السيد موسى وكما في شرط الخيار وكذا قال صلى الله عليه وسلم:
"إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع"2 وعن الإمام أنه لم يثبت التعليم ما لم يغلب على ظنه أنه قد تعلم ولا يقدر بشيء ; لأن المقادير تعرف بالنص لا بالاجتهاد ولا نص هنا فيفوض إلى رأي المبتلى كما هو عادته ثم إذا ترك الأكل ثلاثا لا يحل الأول ولا الثاني على قول من قال بالثلاث وكذا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الحديث: أخرجه البخاري في الذبح والصيد، باب صيد القوس "5478"، وأبو داود في الصيد، باب في الصيد "2855".
2 الحديث: أخرجه البخاري في الاستئذان، باب التسليم والاستئذان ثلاثا "6245"، ومسلم في الآداب، با الاستئذان "2153".

 

 ج / 8 ص -448-     لا بد من التسمية عند الإرسال ومن الجرح في أي موضع كان من أعضائه

______
الثالث عندهما ; لأنه لا يصير معلما إلا بعد تمام الثلاث وقبله غير معلم.
قال رحمه الله "ولا بد من التسمية عند الإرسال ومن الجرح في أي موضع كان من أعضائه" أما التسمية لقوله تعالى
{وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: من الآية121] ولقوله صلى الله عليه وسلم "فإذا ذكرت الله تعالى عليه وجرح فكل"1. وأطلق في قوله "ولا بد من التسمية" فشمل ما إذا كان المرمي إليه يحتاج إلى التسمية أو لا كالسمك, وقد شرط في الأول دون الثاني حتى لو رمى إلى السمك وترك التسمية عمدا فأصاب يحل أكله فلو قال "في صيد البر" لكان أولى وسيأتي عن قاضي خان ولا بد أن يكون المسمي يعقل التسمية فلا يؤكل صيد صبي ومجنون إذا كانا لا يعقلان التسمية أما إذا كانا يعقلانها أكل, ويؤكل صيد الأخرس والكتابي لأن الملة تكفي عن التلفظ عند العجز ولو سمى النصراني باسم المسيح لم يؤكل, والصابئة إن أقروا بكتابي ونبي يؤكل صيدهم وإلا فلا وظاهر عبارة المؤلف الاكتفاء بالجرح سالما أو لا لكن قال في المحيط إن جرحه ولم يدمه اختلفوا فيه قيل لا يحل وقيل يحل وقيل إن كانت الجراحة صغيرة لا يحل إذا لم يرم وإن كانت كبيرة يحل وأما الجرح فالمذكور هنا ظاهر الرواية وعن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه لا يشترط رواه الحسن عنهما وهو قول الشعبي لقوله تعالى {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: من الآية4] مطلقا من غير قيد بالجرح فمن شرطه فقد زاد على النص وهو نسخ ما عرف في موضعه وكذا ما روينا من حديث عدي وثعلبة يدل على ذلك ; لأنه مطلق فيجري على إطلاقه والإلزام نسخه بالرأي وهو لا يجوز, وجه الظاهر قوله تعالى {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} [المائدة: من الآية4] وهو يشير إلى ما قلنا ولأن المقصود إخراج الدم المسفوح وهو يخرج بالجرح عادة ولا يختلف عنه إلا نادرا فأقيم الجرح مقامه كما في الذكاة الاختيارية والرمي بالسهم, ولأنه إذا لم يجرحه صار موقوذة وهي محرمة بالنص وما تلي مطلق, وكذا ما روي فحملناه على المقيد لاتحاد الواقعة وإنما لم يحمل المطلق على المقيد فيما إذا اختلفت الحوادث أو كان التقييد والإطلاق من جهة السبب, وأما إذا كان من جهة الحكم والحادثة واحدة فيحمل عليه, ولو سمى حالة الإرسال فقتل الكل حلت ولو قتل الكل واحدا بعد واحد حل بخلاف ما إذا ذبح شاتين بتسمية فإنه لا يحل والفرق أن الحل في باب الصيد يحصل بالإرسال فتشترط التسمية وقت الإرسال والإرسال وجد وقت تسمية واحدة كما لو رمى سهما إلى صيد فنفذ, وأصاب صيدا آخر بخلاف ما لو ذبح شاة أخرى ; لأن الثانية صارت مذبوحة بفعل غير الأول فلا بد من تسمية أخرى ولو أضجع شاتين
وذبحهما بتسمية واحدة حلا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لم أعثر عليه فيما بين يدي من مصادر.

 

 ج / 8 ص -449-     فإن أكل منه البازي أكل وإن أكل منه الكلب أو الفهد لا

______
قال رحمه الله "فإن أكل منه البازي أكل وإن أكل منه الكلب أو الفهد لا" وقال مالك والشافعي في القديم: يؤكل وإن أكل منه الكلب كالبازي لما روي عن عبد الله بن عمر أن ثعلبة قال يا رسول الله إن لي كلابا مكلبة فأفتني في صيدها فقال:
"إن كانت لك كلاب مكلبة فكل ما أمسكت عليك" الحديث إلى أن قال للنبي صلى الله عليه وسلم: وإن أكل منه؟ قال عليه الصلاة والسلام: "وإن أكل منه"1 وفعل الكلب إنما صار ذكاة لعلمه وبالأكل لا يعود جاهلا فصار كالبازي ولنا ما روينا من حديث عمر بن عدي وقوله تعالى {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: من الآية3] وقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا أرسلت كلابك المعلمة وذكرت اسم الله تعالى فكل ما أمسكن عليك إلا أن يأكل الكلب فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه"2 رواه البخاري ومسلم وعن ابن عباس أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أرسلت كلبك المعلم فأكل من الصيد فلا تأكل فإنما أمسكه على نفسه وإذا أرسلته فقتل ولم يأكل فكل فإنما أمسك على صاحبه"3 رواه أحمد ومرويهما غريب فلا يعارض الصحيح المشهور ولئن صح فالمحرم أولى على ما عرف في موضعه, والفرق بين البازي والكلب قد بيناه. ولو صاد الكلب صيودا ولم يأكل منها شيئا ثم أكل من صيد بعد ذلك لا يؤكل من الذي أكل منه ; لأن أكله علامة جهله ولا مما يصيده بعده حتى يصير معلما على الاختلاف الذي بيناه في الابتداء وأما الصيود التي أخذها من قبل فما أكل منه لا تظهر الحرمة فيه لعدم المحلية وما ليس بمحرز بأن كان في المفازة بعد تثبت الحرمة بالاتفاق وما هو محرز في البيت يحرم عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما لا يحرم ; لأن الأكل لا يدل على جهله لأن الحرفة قد تنسى وقد يشتد عليه الجوع فيأكل مع علمه ولأن ما أحرزه قد أمضي الحكم فيه بالاجتهاد فلا ينتقض باجتهاد مثله ; لأن المقصود قد حصل بالأول بخلاف غير المحرز ; لأن المقصود لم يحصل فيه من كل وجه لبقاء الصيدية فيه من وجه لعدم الاحتراز فيحرم احتياطا ولأبي حنيفة رضي الله عنه أن أكله آية جهله من الابتداء ; لأن الحرفة لا ينسى أصلها فبالأكل تبين أن تركه الأكل كان بسبب الشبع لا للتعلم وقد تبدل الاجتهاد قبل حصول المقصود ; لأن المقصود يحصل بالأكل فصار كتبدل اجتهاد القاضي قبل القضاء ولأن علمه لا يثبت إلا ظاهرا فبقي جهله موهوما والموهوم في باب الصيد يلحق بالمتحقق احتياطا ما أمكن والإمكان في حق

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أبو داود في الصيد، باب في الصيد، "2857"، وأحمد في "منسنده" "6686"
2 أخرجه البخاري في الذبائح والصيد، باب إذا أكل الكلب "5483"، ومسلم في الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب الصيد بالكلاب المعلمة "1929".
3 أخرجه أحمد في "مسنده" "2050".

 

 ج / 8 ص -450-     ...........................................
______
القائم جميعا دون الفائت. وقال بعض المشايخ: إنما تحرم تلك الصيود عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى إذا كان العهد قريبا أما إذا تطاول العهد بأن أتى عليه شهر, وأكثر وصاحبه قد قدر تلك الصيود لا تحرم تلك الصيود في قولهم جميعا ; لأن في المدة الطويلة يتحقق النسيان فلا يعلم أنه لم يكن معلما في الماضي من الزمان وفي المدة القصيرة لا يتحقق النسيان فيظهر أنه لم يكن معلما حين اصطياد تلك الصيود فتحرم تلك الصيود وقال شمس الأئمة السرخسي الصحيح أن الخلاف في الفصلين, ولو أن صقرا فر من صاحبه فمكث حينا ثم رجع إلى صاحبه فأرسله فصاد لا يؤكل صيده ; لأنه ترك ما صار به معلما فيحكم بجهله كالكلب إذا أكل من الصيد فيبقى حكمه كحكم الكلب فيما ذكرنا ولو شرب الكلب من دم الصيد ولم يأكل من لحمه شيئا أكل ; لأنه ممسك عليه وهذا من غاية علمه حيث شرب ما لا يصلح لصاحبه, وأمسك عليه ما يصلح له ولو أخذ الصائد الصيد من الكلب وقطع له منه قطعة وألقاها إليه فأكلها يؤكل ما بقي ; لأنه أمسك على صاحبه وسلمه إليه, وأكله بعد ذلك مما ألقى إليه صاحبه لا يضره لأنه لم يأكل من الصيد وهو عادة الصيادين فصار كما إذا ألقى إليه طعاما آخر وكذا إذا خطف الكلب منه وأكله ; لأنه لم يأكل من الصيد, إذ لم يبق صيدا في هذه الحالة والشرط ترك الأكل من الصيد. وقد وجد فصار كما إذا افترس شاة بخلاف ما إذا فعل ذلك قبل أن يحرزه المالك لبقاء جهة الصيدية وسيأتي الفرق فيه ولو نهش الصيد فقطع منه بضعة فأكلها ثم أدرك الصيد فقتله ولم يأكل منه لم يؤكل ; لأنه صيد كلب جاهل حيث أكل من الصيد ولو ألقى ما نهشه واتبع الصيد فقتله ولم يأكل منه حتى أخذه صاحبه ثم ذهب إلى تلك البضعة فأكلها يؤكل الصيد ; لأنه لو أكل من نفس الصيد في هذه الحالة لا يضره فإذا أكل ما بان منه وهو لا يحل لصاحبه أولى بخلاف الوجه الأول ; لأنه أكل في حالة الاصطياد فتبين بهذا أنه جاهل ممسك على نفسه ولأن نهش البضعة قد يكون ليأكلها وقد يكون حالة الاصطياد ليضعفه بالقطع منه ليتمكن منه فإن أكلها قبل الأخذ يدل على الوجه الأول وبعده على الوجه الثاني
وفي الهداية لو أخذ المرسل الصيد ووثب الكلب على الصيد فأخذ من الصيد, وأكل يؤكل الصيد ; لأنه ما أكل من الصيد والشرط ترك الأكل من الصيد قال في النهاية وطولب بالفرق بين هذه المسألة وبين ما إذا أكل منه بعد ما قتله فإنه يحرم ; لأن الصيد كما خرج من الصيدية بإذن صاحبه جاز أن يخرج عن الصيدية بقتله وأجيب بأنه إذا لم يتعرض بالأكل حتى أخذه صاحبه دل على أنه ممسك على صاحبه, وانتهاشه منه لا يدل على جهله وأما إذا أكل بعد قتله قبل أن يأخذه صاحبه دل على أنه ممسك على نفسه فدل على جهله فلهذا حرم واعترض أيضا بأن عبارة المؤلف شاملة للصورتين فيما إذا وجد افتراقه في الحكم وأجيب بما تقدم وفي المحيط وإن قتله فأخذه صاحبه ثم وثب عليه فأنهش منه قطعة أو رمى صاحبه بها إليه يؤكل الصيد ولو أكل قبل أن يأخذه صاحبه يكره أكله ا هـ.

 

 ج / 8 ص -451-     وإن أدركه حيا ذكاه

______
ثم الإرسال على أقسام: الأول يجب أن يكون الإرسال على صيد ولو أرسل على ما ليس بصيد من الإبل والبقر والغنم والأهل فأصاب صيدا لا يحل أكله ; لأن الإرسال على ما ليس بصيد لا يكون ذكاة شرعا ولو سمع حسا وظنه صيدا فأرسل كلبه فأصاب صيدا ثم تبين أن المسموع حس آدمي أو ما ليس بصيد لم يؤكل وكذا لو سمع حسا ولم يعلم أنه حس صيد أو غيره ولو ظنه حس صيد غير مأكول أو مأكول فأصاب صيدا آخر يحل أكله فلو أرسل كلبه على صيد بعينه وهو غير مأكول فأصاب غيره يحل أكله لأن تعيين الصيد غير معتبر في الإرسال ولو سمع حسا فظن أنه حس آدمي فأرسل كلبه فإذا هو صيد يحل أكله لأن تعيين الصيد غير معتبر وفي المنتقى ولو رمى ظبيا أو طيرا فأصاب غيره وذهب المرمي إليه ولم يعلم أنه متوحش أو مستأنس أكل الصيد لأن الأصل في الصيد التوحش فتمسكوا بالأصل وقال محمد لو ظن حين رآه أنه صيد ثم تحول رأيه أنه ليس بصيد يحل الصيد ; لأن الأول عندنا صيد بحكم الأصل حتى يعلم أنه غير صيد ولو رمى إلى بعير ناد أو غير ناد لم يؤكل حتى يعلم أنه ناد لأن الأصل في البعير الألفة والاستئناس ولو رمى إلى ظبي مربوط وظن أنه صيد فأصاب ظبيا آخر لم يؤكل وكذا لو أرسل كلبه على صيد موثق في يده فصادف غيره لم يؤكل ولو أرسل فهدا على فيل, وأصاب ظبيا لم يؤكل ولو رمى سمكا أو جرادا فأصاب صيدا فعن أبي يوسف في رواية لا يؤكل ; لأن السمك والجراد لا تقع عليه الذكاة وفي رواية يؤكل لأن المرمي إليه صيد. والقسم الثاني أن يكون فور الإرسال باقيا كما سيأتي ومن شرائط الإرسال أن لا يوجد بعد الإرسال بول ولا أكل فإن وجد وطال قطع الإرسال حتى لو قتله لا يحل أكله وفي الروضة ولو حبس الكلب على صدر الصيد طويلا ثم أمر به آخر فأخذه وقتله لم يؤكل ; لأنه انقطع فور الإرسال, وفي الغياثية ولو أرسل كلبين فأخذه أحدهما وقتله الآخر يحل أكله. والقسم الثالث أن يلحقه المرسل أو من يقوم مقامه قبل انقطاع الكلب كما سيأتي
قال رحمه الله "وإن أدركه حيا ذكاه" لقوله عليه الصلاة والسلام لعدي:
"إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله تعالى عليه فإن أمسك عليك, وأدركته حيا فاذبحه"1 رواه البخاري ومسلم ولأنه قدر على هذا الأصل قبل حصول المقصود بالبدل, إذ المقصود هو الحل, والباز والسهم في هذا كالكلب وفي المحيط فإذا أدركه حيا لم يحل إلا بالذبح قدر على الذكاة أو لم يقدر لفقد الآلة وضيق الوقت بأن كان في آخر الرمق وعن أبي حنيفة وأبي يوسف إذا لم يقدر على التمكن كما ذكرنا يحل وهو اختيار لبعض المشايخ لأنه إذا لم يتمكن لم يقدر على الأصل وذكر الكرخي في


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الحديث: أخرجه مسلم في الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب الصيد بالكلاب المعلمة "1929".

 

 ج / 8 ص -452-     وإن لم يذكه حتى مات أو خنقه الكلب ولم يجرحه أو شاركه كلب غير معلم أو كلب مجوسي أو كلب لم يذكر اسم الله عليه عمدا حرم
______
مختصره لو أدركه ولم يأخذه فإن كان في وقت أمكنه ذبحه لم يؤكل وإن كان لا يمكنه ذبحه بعد أخذه أكل ; لأن اليد لم تثبت على الذبح, والتمكن من الذبح لم يوجد والله أعلم وسيأتي بيانه.
قال رحمه الله "وإن لم يذكه حتى مات أو خنقه الكلب ولم يجرحه أو شاركه كلب غير معلم أو كلب مجوسي أو كلب لم يذكر اسم الله عليه عمدا حرم" أما إذا لم يذكه فلأنه لما أدركه حيا صار ذكاته ذكاة الاختيار لما روينا وبينا من المعنى فبتركه يصير ميتة وهذا إذا تمكن من ذبحه أما إذا وقع في يده ولم يتمكن من ذبحه وفيه من الحياة قدر ما يكون في المذبوح بأن يقد بطنه ونحو ذلك ولم يبق إلا مضطربا اضطراب المذبوح فحلال ; لأن هذا القدر من الحياة لا يعتبر فكان ميتا حكما ألا ترى أنه لو وقع في الماء وهو بهذه الحالة لا يحرم كما إذا وقع بعد موته ; لأن موته لا يضاف إليه, والميت ليس محلا للذكاة, وذكر الصدر الشهيد أن هذا بالإجماع وقيل هذا قولهما وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا يحل إلا إذا ذكاه بناء على أن الحياة الخفية معتبرة عنده وعندهما غير معتبرة حتى حلت المتردية والنطيحة والموقوذة ونحوها بالذكاة إذا كان فيها حياة وإن كانت خفية عنده وعندهما لا تحل إلا إذا كانت حياتها بينة وذلك بأن تبقى فوق ما يبقى المذبوح عند محمد. وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى أن تكون بحال يعيش مثلها فيكون موتها مضافا إلى الذكاة, والسهم مثله وإن كان فيه من الحياة فوق ما يكون في المذبوح فكذلك في رواية عن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى وهو قول الشافعي رحمه الله تعالى ; لأنه لم يقدر على الأصل فصار كالمتيمم إذا رأى الماء ولم يقدر على استعماله ولا يؤكل في ظاهر الرواية ; لأنه قادر حكما لثبوت يده عليه وهو قائم مقام التمكن من الذبح, إذ لا يمكن اعتبار الذبح بعينه حقيقة لأن الناس يختلفون فيه على حسب تفاوتهم في الكياسة والهداية في أمر الذبح ولا يمكن ضبطه فأدير الحكم على ثبوت اليد ; لأنه هو المشاهد المعاين فلا يحل الأكل إلا بالذكاة سواء كانت حياته خفية أو بينة لجرح المعلم أو غيره من السباع وعليه الفتوى لقوله تعالى
{وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [(المائدة: من الآية3] استثناه مطلقا من غير تفصيل فيتناول كل حي مطلقا وكذا قوله عليه الصلاة والسلام لعدي: "فإذا أمسك عليك فأدركته حيا فاذبحه"1 مطلق فيتناول كل حي مطلقا والحديث صحيح رواه البخاري ومسلم, وأحمد, وفصل الشافعي رحمه الله تعالى تفصيلا آخر غير ما ذكرنا فقال: إن لم يتمكن من الذبح لفقد الآلة لم يؤكل لأن التقصير من جهته وإن كان لضيق الوقت أكل لعدم التقصير والحجة عليه ما تلونا وما روينا وأما إذا خنقه الكلب. ولم يجرحه فلما بينا عند قوله لا


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الحديث: تقدم تخريجه.

 

 ج / 8 ص -453-     ...........................................
______
بد من التعليم والتسمية والجرح وذكرنا اختلاف الرواية, والكسر كالخنق حتى لا يعتد به ; لأنه لا يفضي إلى خروج الدم وأما إذا شاركه كلب غير معلم أو كلب مجوسي أو كلب لم يذكر اسم الله تعالى عليه عمدا فلما روينا عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه قال: قلت يا رسول الله إني أرسل كلبي فأسمي قال:
"إذا أرسلت كلبك وسميت فأخذ فقتل فكل فإن أكل منه فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه" قلت: إني أرسل كلبي فأجد معه كلبا آخر غيره لا أدري أيهما أخذ فقال: "لا تأكل فإنما سميت على كلبك فإن وجدت مع كلبك كلبا غيره وقد قتل فلا تأكل ; لأنك لا تدري أيهما قتله"1 رواهما البخاري ومسلم, وأحمد رحمهم الله تعالى وهذا صحيح فيكون حجة على مالك والشافعي في قوله القديم لأنه لا يحرم بأكل الكلب الصيد وعلى الشافعي في متروك التسمية عمدا أيضا ولأنه اجتمع فيه المبيح والمحرم فيغلب فيه جهة الحرمة لقوله عليه الصلاة والسلام: "ما اجتمع الحلال والحرام إلا وقد غلب الحرام الحلال"2 وإن الحرام واجب الترك, والحلال جائز الترك فكان الاحتياط في الترك ولو رده عليه الكلب ولم يجرحه معه ومات بجرحه الأول يكره أكله لوجود المعاونة في الأخذ وفقدها في الجرح ثم قيل الكراهة كراهة تنزيه لأن الأول لما انفرد بالجرح والأخذ غلب جانب الحل فصار حلالا, وأوجب إعانة غير المعلم الكراهة دون الحرمة وقيل كراهة تحريم وهو اختيار الحلواني لوجود المشاركة من وجه بخلاف ما إذا رده عليه المجوسي نفسه حيث لا يحرم ولا يكره ; لأن فعل المجوسي ليس من جنس فعل الكلب فلم تتحقق المشاركة من وجه ولو لم يرد الكلب الثاني عليه لكن اشتد على الأول فاشتد الأول على الصيد بسببه فأخذه فقتله فلا بأس بأكله ; لأن فعل الثاني أثر في الكلب الأول حتى ازداد طلبا ولم يؤثر في الصيد فكان تبعا لفعله ; لأنه بناه عليه فلا يضاف الحكم إلى التبع بخلاف ما إذا رده عليه ; لأنه لم يصر تبعا فيضاف إليهما ولو رده سبع أو ذو مخلب من الطير مما يجوز أن يعلم فيصاد به فهو كما لو رده عليه الكلب فيما ذكرنا لوجود المجانسة في الفعل بخلاف ما إذا رده عليه ما لا يجوز الاصطياد به كالجمل والبقر. والبازي في ذلك كالكلب في جميع ما ذكرنا من الأحكام وفي الفتاوى العتابية حلال رمى صيدا فأصابه في الحل ومات في الحرم أو رماه في الحرم, وأصابه في الحل ومات في الحل لا يحل وعليه الجزاء في الوجه الثاني دون الأول وكذا إذا أرسل كلبه في الحرم وقتله خارج الحرم لا يحل وعليه الجزاء, وفي الذخيرة: يجب أن يعلم من رمى سهما إلى صيد أن العبرة في حق الملك لوقت الإصابة وفي حق الأكل لوقت الرمي هذا هو المذكور في


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في الوضوء، باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان وكان عطاء لا يرى "175" ومسلم في الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب الصيد بالكلاب المعلمة "1929".
2 أخرجه البيهقي في الكبرى عن ابن مسعود "7/169".

 

 ج / 8 ص -454-     وإن أرسل مسلم كلبه فزجره مجوسي فانزجر حل ولو أرسله مجوسي فزجره مسلم فانزجر حرم
______
عامة الكتب ولهذا قلنا: المسلم إذا رمى سهما إلى صيد ثم ارتد - والعياذ بالله تعالى - ثم أصابه السهم حل تناوله والمرتد إذا رمى إلى صيد ثم أسلم ثم أصابه لا يحل تناوله.
قال رحمه الله "وإن أرسل مسلم كلبه فزجره مجوسي فانزجر حل ولو أرسله مجوسي فزجره مسلم فانزجر حرم" والمراد بالزجر الإغراء بالصياح عليه, وبالانزجار يحصل زيادة الطلب للصيد كذا في الهداية وأطلق في قوله: فزجره مجوسي إلى آخره فشمل ما إذا زجره في حال طلبه أو بعد وقوفه فانزجر والمراد الأول وذكر شمس الأئمة في شرح كتاب الصيد فيما إذا أرسل مسلم كلبه فزجره مجوسي إنما يحل إذا زجره المجوسي في ذهابه أما إذا وقف الكلب عن سنن الإرسال ثم زجره مجوسي بعد ذلك فانزجر لا يؤكل والفرق أن إرسال المسلم قد صح, وصيحة المجوسي لا تفسده ; لأنه تقوية للإرسال وتحريض للكلب وليس بابتداء إرسال منه فلا ينقطع الإرسال بالزجر فبقي صحيحا فأما الإرسال من المجوسي فإنه وقع فاسدا فلا ينقلب صحيحا بالزجر وكذا إذا أرسل وترك التسمية عمدا فزجره مسلم وسمى لم يحل ولو وجدت التسمية من المرسل فزجره من لم يسم حل وكذا المسلم إذا ذبح فأمر المجوسي السكين بعد الذبح لم يحرم ولو ذبح المجوسي, وأمر المسلم بعده لم يحل لما ذكرنا أن أصل الفعل متى وقع صحيحا لا ينقلب فاسدا ومتى وقع فاسدا لا ينقلب صحيحا, وكذا محرم دل حلالا على الصيد فقتله يحل له نص عليه في الزيادات ; لأن ذبحه حصل بفعل الحلال لا بدلالة المحرم ونص في المنتقى عن أبي حنيفة و محمد رحمهما الله تعالى أنه لا يحل لحديث قتادة حين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"هل أعنتم هل أشرتم؟" فقالوا: لا, فقال: "إذن فكلوا"1 علق الإباحة بعدم الإعانة وفي الدلالة نوع إعانة ولو أرسل مسلم كلبه فرد عليه الصيد كلب غير معلم أو معلم لم يرسله أحد ولم يزجره بعد انبعاثه وأخذه الأول وقتله لم يؤكل وقدمنا ما فيه من الخلاف ولو لم يرد عليه ولكن اشتد عليه بأن كان يتبع أثر المرسل حتى قتله الأول حل أكله ; لأن فعل الثاني أثر في الكلب المرسل لا في الصيد فصار فعله تبعا لفعل المرسل فانضاف الأخذ إلى المرسل لا إلى المحرض والمشد بخلاف ما لو رده عليه لأن فعله أثر في الصيد لا في الكلب فصار الأخذ مضافا إليهما. مجوسي أرسل ثم أسلم فاصطاد كلبه لم يؤكل وكذلك لو زجره بعد الإسلام فانزجر لزجره ولو كان مسلما حالة الإرسال فصار مرتدا حالة الأخذ يحل ; لأن المعتبر وقت الإرسال والرمي لا حالة الأخذ لأن الإرسال والرمي فعل الذكاة بمنزلة الذبح فيعتبر إسلامه وتمجسه وردته عند الذبح لا عند زهوق الروح فكذا هنا يعتبر إسلامه


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه النسائي في سننه "2826" وأحمد في مسنده "22627".

 

 ج / 8 ص -455-     وإن لم يرسله أحد فزجره مسلم فانزجر حل
______
وكفره وقت الإرسال والرمي لا بعده
وفي النوادر ولو ضرب الكلب الصيد فرقده ثم ضربه ثانية فقتله أكل وكذا لو أرسل كلبين فضربه أحدهما فرقده ثم ضربه الآخر فقتله أكل وكذا لو أرسل رجلان كل واحد كلبه فرقده أحدهما وقتله الآخر فإنه يؤكل والصيد لصاحب الأول ; لأن جرح الكلب بعد الجرح فصار كأن القتل حصل بفعل واحد إلا أن الأول لما أخرجه من أن يكون صيدا صار ملكا لصاحبه فلا يزيل ملكه الثاني, وفي الأصل ومن شرائط الإرسال أن لا يكون المرسل محرما, وأن لا يموت في الحرم حتى لا يجوز أكل صيد الحرم ولا ما اصطاده الحلال في الحرم, وذكر زجر المجوسي ليفيد زجر المحرم لأنه أولى قال في الذخيرة الحلال إذا أرسل كلبه على الصيد فزجره المحرم فانزجر حل أكله, وفي السراجية: أن على المحرم الجزاء والله أعلم.
قال رحمه الله "وإن لم يرسله أحد فزجره مسلم فانزجر حل" وهذا استحسان والقياس أن لا يحل ; لأن الإرسال جعل ذكاة عند الاضطرار للضرورة فإذا لم يوجد الإرسال انعدم الذكاة حقيقة وحكما ولا يحل والزجر بناء عليه ولا يعتبر على ما بينا ووجه الاستحسان أن الزجر عند عدم الإرسال يجعل إرسالا ; لأن انزجاره عقيب زجره دليل طاعته فيجب اعتباره فيحل, إذ ليس في اعتباره إبطال السبب بخلاف الفصل الأول ولا يقال الزجر دون الانفلات لأنه بناء عليه فلا يرتفع الانفلات فصار مثل الفصل الأول والجامع أن الزاجر فيهما بناء على الأول ; لأنا نقول الزجر إن كان دون الانفلات من هذا الوجه فهو فوقه من وجه آخر من حيث إنه فعل المكلف واستويا فنسخ الانفلات ; لأن آخر المثلين يصلح ناسخا للأول كما في نسخ الأحكام بخلاف الفصل الأول ; لأن الزجر لا ينافي الإرسال بوجه من الوجوه ; لأن كل واحد منهما فعل المكلف., والزجر بناء على الإرسال فكان دونه من كل وجه فلا يرتفع به, والبازي كالكلب فيما ذكرنا ولو أرسل كلبه المعلم على صيد معين فأخذ غيره وهو على سننه حل, وقال مالك رحمه الله تعالى: لا يحل ; لأنه أخذه بغير إرسال, إذ الإرسال يختص بالمشار والتسمية وقعت عليه فلا تتحول إلى غيره فصار كما لو أضجع شاة وسمى عليها وخلاها فذبح غيرها بتلك التسمية وقال ابن أبي ليلى: يتعين الصيد بالتعيين, مثل قول مالك حتى لا يحل غيره بذلك الإرسال ولو أرسل من غير تعيين يحل ما أصابه خلافا لمالك وهذا بناء على أن التعيين شرط عند مالك وعنده ليس بشرط ولكن إذا عين يتعين وعندنا التعيين ليس بشرط ولا يتعين بالتعيين ; لأن شرط ما يقدر عليه المكلف أن لا يكلف ما لا يقدر عليه والذي في وسعه إيجاد الإرسال دون التعيين ; لأنه لا يمكنه أن يعلم البازي والكلب على وجه لا يأخذ إلا ما عينه له ولأن التعيين غير مفيد في حقه ولا في الكلب فإن الصيود كلها فيما

 

 ج / 8 ص -456-     وإن رمى وسمى وجرح أكل
______
يرجع إلى مقصوده سواء وكذا في حق الكلب ; لأن قصده أخذ كل صيد تمكن من صيده بخلاف ما استشهد به مالك ; لأن التعيين في الشاة ممكن وكذا غرضه متعلق بمعين فتتعلق التسمية هنا بالضجع بالذبح وفيما نحن فيه بالآلة. ومن أرسل فهدا فكمن حتى يتمكن من الصيد ثم أخذ الصيد فقتله ; لأن ذلك عادة له يحتال لأخذه لاستراحته فلا ينقطع به فور الإرسال وكيف ينقطع وقصد صاحبه يتحقق بذلك وعد ذلك منه في الخصال الحميدة
قال الحلواني للفهد خصال حميدة فينبغي لكل عاقل أن يأخذ ذلك منه, منها أن يكمن للصيد حتى يتمكن منه وهكذا ينبغي للعاقل أن لا يجاهر عدوه بالخلاف ولكن يطلب الفرصة حتى يتمكن منه فيحصل مقصوده من غير إتعاب نفسه ومنها أنه لا يعدو خلف صاحبه حتى يريه خلفه وهو يقول هو المحتاج إلي فلا أذل وهكذا ينبغي للعاقل أن لا يذل نفسه فيما يفعل لغيره ومنها أنه لا يتعلم بالضرب ولكن يضرب الكلب بين يديه إذا أكل من الصيد فيتعلم بذلك وهكذا ينبغي للعاقل أن يتعظ بغيره كما قيل السعيد من اتعظ بغيره ومنها أن لا يتناول الخبيث من اللحم وإنما يطلب من صاحبه اللحم الطيب وهكذا ينبغي للعاقل أن لا يتناول إلا الطيب ومنها أن يثب أثلاثا أو خمسا فإن لم يتمكن من أخذه تركه ويقول: لا أقتل نفسي فيما أعمل لغيري وهكذا ينبغي للعاقل وكذا الكلب إذا اعتاد الاختفاء لا ينقطع فور الإرسال لما بينا في الفهد وينقطع الإرسال بمكثه طويلا إذا لم يكن ذلك حيلة منه للأخذ وإنما هو استراحة بخلاف ما تقدم ولو أرسل بازه المعلم على صيد فوقع على شيء ثم اتبع الصيد فأخذه وقتله يؤكل إذا لم يمكث زمانا طويلا للاستراحة وإنما مكث ساعة طويلة للتمكن ولو أن بازيا معلما أخذ صيدا فقتله ولا يدري أرسله إنسان أو لا لا يؤكل لوقوع الشك في الإرسال ولا تثبت الإباحة بدونه ولكن إن كان مرسلا فهو مال الغير فلا يجوز تناوله إلا بإذن صاحبه.
قال رحمه الله: "وإن رمى وسمى وجرح أكل" لما فرغ من بيان حكم الآلة الحيوانية شرع في بيان حكم الآلة الجمادية فتقديم الأول ظاهر يعني إذا رمى بآلة جارحة وسمى إلى صيد فأصابه وجرحه يؤكل إذا جرح لقوله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم:
"إذا رميت سهمك فاذكر اسم الله تعالى عليه فإن وجدته قد قتل فكل إلا أن تجده قد وقع في ماء فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك"1 رواه البخاري ومسلم, وأحمد رحمهم الله تعالى, وشرط لما روي عن إبراهيم عن عدي بن حاتم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا رميت فسميت فجرحت فكل وإن لم تخرق فلا تأكل من المعراض إلا ما


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الحديث: أخرجه مسلم في الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب الصيد بالكلاب المعلمة، "1929"، والترمذي في الصيد عن رسول الله، باب ماجاء فيمن يرمي الصيد فيجده ميتا في الماء "1469".

 

 ج / 8 ص -457-     ...........................................
______
ذكيت ولا تأكل من البندقة إلا ما ذكيت"1 رواه أحمد ولا فرق في ذلك بين أن يصيب المرمي بنفسه أو غيره من الصيد كما في إرسال الكلب على ما بينا وفي إطلاق قوله في المختصر فإن رمى وسمى وجرح أكل إشارة إليه حيث لم يعين المرمي ولا المصاب حتى يدخل تحته ما إذا سمع حسا وظنه صيدا فرماه فأصاب صيدا غير ما سمع حسه ثم تبين أنه حس صيد يحل أكله سواء كان الصيد المسموع حسه مأكولا أو غيره بعد أن كان المصاب مأكولا لأنه وقع اصطيادا مع قصده ذلك. وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه خص من ذلك الخنزير لغلظ حرمته ألا ترى أنه لا تثبت الإباحة في شيء منه بخلاف السباع ; لأنه يورث في جلده وزفر رحمه الله تعالى خص منها ما لا يؤكل لحمه ; لأن الاصطياد لا يفيد الإباحة فيه ووجه الظاهر أن اسم الاصطياد لا يختص بالمأكول فيكون داخلا تحت قوله تعالى {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: من الآية2] فكان اصطياده مباحا, وإباحة التناول ترجع إلى المحل فتثبت بقدر ما يقبلها لحما أو جلدا وقد لا تثبت بالكلية إذا لم يقبلها المحل وإذا وقع اصطيادا صار كأنه رمى إلى صيد فأصاب غيره وإن تبين أنه حس جراد أو سمك ذكر في النهاية معزيا إلى المغني أن المصاب لا يؤكل لأن الذكاة لا تقع عليهما فلا يكون الفعل ذكاة, وأورد على صاحب الهداية أنه حس صيد يحتاج في حل أكله إلى الذبح أو الجرح وقال صاحب الهداية في آخر هذه المسألة: ولو رمى إلى سمك أو جراد وأصاب صيدا يحل في رواية عن أبي يوسف ; لأنه صيد وفي رواية أخرى عنه أنه لا يحل ; لأنه لا ذكاة فيهما فكان يمكنه أن يخرج ما ذكره صاحب الهداية على رواية الحل فلا يرد عليه ما أورده ولا يحتاج إلى زيادة ذلك القيد الذي ذكره وفي فتاوى قاضي خان لو رمى إلى جراد أو سمك وترك التسمية فأصاب طائرا أو صيدا آخر فقتله حل أكله وعن أبي يوسف روايتان. والصحيح أنه يؤكل وهذا أوضح من الكل فلا يرد عليه أصلا وإن تبين أن المسموع حسه آدمي أو حيوان أهلي أو ظبي مستأنس أو موثق لا يحل المصاب ; لأن الفعل لم يقع اصطيادا ولا يقوم مقام الذكاة ولو رمى إلى الطائر فأصاب غيره من الصيود أو فر الطائر ولا يدري أهو وحشي أم لا حل المصاب ; لأن الظاهر فيه التوحش بخلاف ما لو رمى إلى بعير فأصاب صيدا ولا يدري أهو ناد أم لا حيث لا يحل المصاب ; لأن الأصل فيه الاستئناس فيحكم على كل واحد منهما بظاهر حاله ولو أصاب المسموع حسه وقد ظنه آدميا فتبين أنه صيد حل ; لأنه لا عبرة بظنه مع تعينه صيدا ذكره في الهداية وقال في المنتقى: إذا سمع حسا بالليل فظن أنه إنسان أو دابة أو حية فرماه فإذا ذاك الذي سمع حسه صيد فأصاب سهمه ذلك الصيد الذي سمع حسه أو أصاب صيدا آخر فقتله لا


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الحديث: أخرجه أحمد في "مسنده" "18902".

 

 ج / 8 ص -458-     وإن أدركه حيا ذكاه وإن لم يذكه حرم وإن وقع سهم بصيد فتحامل وغاب وهو في طلبه حل وإن قعد عن طلبه ثم أصابه ميتا لا
______
يؤكل ; لأنه رماه وهو لا يدري الصيد ثم قال: ولا يحل الصيد إلا بوجهين أن يرميه وهو يريد الصيد, وأن يكون الذي أراده وسمع حسه ورمى إليه صيدا سواء كان مما يؤكل أو لا وهذا يناقض بما ذكره في الهداية وهذا أوجه ; لأن الرمي إلى الآدمي ونحوه ليس باصطياد فلا يمكن اعتباره ولو أصاب صيدا. وما ذكره صاحب الهداية يناقض ما ذكره هو بنفسه أيضا من قوله وإن تبين أنه حس آدمي لا يحل المصاب وعلى اقتضاء ما ذكره هناك أنه يحل ; لأن المصاب صيد كما في هذه المسألة بل أولى ; لأن مقصوده فيها صيد وفرق بينهما في النهاية بفرق غير مخلص فلا حاجة إلى ذكره وقال فيه لو رمى إلى آدمي أو بقر ونحوه وسمى فأصاب صيدا مأكولا لا رواية لهذا في الأصل ولأبي يوسف رحمه الله تعالى فيه قولان في قول يحل وفي قول لا يحل فيحمل ما ذكره صاحب الهداية على رواية أبي يوسف فيه فيستقيم ولا حاجة إلى الفرق ولو لم يتبين صاحب الحس ما هو لا يحل تناول ما أصابه لاحتمال أن يكون المسموع حسه غير صيد فلا يحل المصاب بالشك, والبازي والفهد في جميع ما ذكرنا كالكلب.
قال رحمه الله "وإن أدركه حيا ذكاه وإن لم يذكه حرم" لما روينا وبينا في الكلب من المعنى ; لأن كل واحد منهما ذكاة اضطرارا فيكون الوارد في أحدهما واردا في الآخر دلالة لاستوائهما من كل وجه.
قال رحمه الله: "وإن وقع سهم بصيد فتحامل وغاب وهو في طلبه حل وإن قعد عن طلبه ثم أصابه ميتا لا" يعني يحرم أكله لقوله عليه الصلاة والسلام لأبي ثعلبة:
"إذا رميت سهمك فغاب ثلاثة أيام, وأدركته فكله ما لم ينتن"1 رواه مسلم, وأحمد وأبو داود والنسائي وورد أنه عليه الصلاة والسلام كره أكل الصيد إذا غاب عن الرامي وقال: "لعل هوام الأرض قتلته"2 فيحمل هذا على ما إذا قعد عن طلبه والأول على ما إذا لم يقعد ولأنه يحتمل أن يموت بسبب آخر فيعتبر فيما يمكن التحرز عنه ; لأن الموهوم في المحرمات كالمتحقق وسقط اعتباره فيما لا يمكن التحرز عنه للضرورة ; لأن الاعتبار فيه يؤدي إلى سد باب الاصطياد وهذا لأن الاصطياد يكون في الصحراء بين الأشجار عادة ولا يمكنه أن يقتله في موضعه من غير انتقال وتوار عن عينه غالبا فيعذر ما لم يقعد عن طلبه للضرورة لعدم إمكان التحرز عنه ولا يعذر فيما إذا قعد عن طلبه ; لأن الاحتراز


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم في الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب إذا غاب عنه الصيد ثم وجده "1931"، وأبو داود في الصيد، باب في اتباع الصيد "2861".
2 أخرجه الطبراني في الكبير "19/214".

 

 ج / 8 ص -459-     ...........................................
______
عن مثله ممكن فلا ضرورة إليه فيحرم وهو القياس في الكل إلا أنا تركناه للضرورة فيما لا يمكن التحرز عنه وبقي على الأصل فيما يمكن, وجعل قاضي خان في فتاويه من شروط حل الصيد أن لا يتوارى عن بصره. وقال: لأن الغالب إذا غاب الصيد عن بصره ربما يكون موت الصيد بسبب آخر فلا يحل لقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كل ما أصميت ودع ما أنميت, والإصماء ما رأيته والإنماء ما توارى عنك وهذا نص على أن الصيد يحرم بالتواري وإن لم يقعد عن طلبه وإليه أشار صاحب الهداية أيضا بقوله والذي رويناه حجة على مالك رحمه الله تعالى في قوله إن ما توارى عنه إذا لم يبت ليلة لا يحل عندنا وإن لم يقعد عن طلبه فيكون مناقضا لقوله في أول المسألة وإذا وقع السهم بالصيد فتحامل حتى غاب عنه ولم يزل في طلبه حتى أصابه ميتا أكل وإن قعد عن طلبه ثم أصابه ميتا لم يؤكل ; فبنى الأمر على الطلب وعدمه لا على التواري وعدمه وعلى هذا التركيب فقهاء أصحابنا رحمهم الله تعالى ولو حمل ما ذكره على ما إذا قعد عن طلبه كان يستقيم ولم يتناقض ولكنه خلاف الظاهر وما روينا من الحديث يبيح ما غاب عنه وبات ليالي فيكون حجة على من منع ذلك قال الزيلعي في شرح الكنز وجعل قاضي خان في فتاويه من شروط حل الصيد أن لا يتوارى عن بصره فقال ; لأنه إذا غاب عن بصره ربما يكون موت الصيد بسبب آخر فلا يحل لقول ابن عباس رضي الله عنهما:
"كل ما أصميت ودع ما أنميت"1. والإصماء ما رأيته والإنماء ما توارى عنك وهذا نص على أن الصيد يحرم بالتواري وإن لم يقعد عن طلبه ا هـ.
أقول: ليس الأمر كما زعمه الزيلعي فإن الإمام قاضي خان لم يجعل في فتاواه من شرط حل الصيد عدم التواري عن بصره وعدم القعود عن طلبه حيث قال: والسابع - يعني الشرط السابع - أن لا يتوارى عن بصره ولا يقعد عن طلبه, فيكون في طلبه ولا يشتغل بعمل آخر حتى يجده ; لأنه إذا غاب عن بصره ربما يكون موت الصيد بسبب آخر فلا يحل لقول ابن عباس رضي الله عنهما كل ما أصميت ودع ما أنميت, والإصماء ما رأيت والإنماء ما توارى عنك ا هـ. ولا شك أن قوله "والسابع أن لا يتوارى عن بصره ولا يقعد عن طلبه نص على أن الصيد لا يحرم بمجرد التواري عن بصره والقعود عن طلبه معا, وأما قوله لأنه إذا غاب عن بصره وقعد عن طلبه بقرينة سياق كلامه وأما إذا لم يقعد عن طلبه فيعذر فيه للضرورة لعدم إمكان التحرز عن تواري الصيد عن بصر الرامي فكان في اعتبار عدم التواري مطلقا حرج عظيم وهو مدفوع بالنص وقد أشار إليه المصنف بقوله إلا أنا أسقطنا اعتباره ما دام في طلبه ضرورة أن لا يعرى الاصطياد عنه ولا


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الطبراني في الكبير "12/27".

 

 ج / 8 ص -460-     ولو رمى صيدا فوقع في ماء أو على سطح أو جبل ثم تردى منه إلى الأرض حرم
______
ضرورة فيما إذا قعد عن طلبه لإمكان التحرز عن قرار يكون بسبب عمله. وذكر في الشرح والكافي أنه صلى الله عليه وسلم مر بالروحاء على حمار وحشي عقير فتبادر أصحابه إليه فقال صلى الله عليه وسلم:
"دعوه فسيأتي صاحبه" فجاء رجل فقال هذه رميتي, وأنا في طلبها وقد جعلتها لك فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه فقسمها بين الرفاق"1 وإن وجد به جراحة سوى جراحة سهمه لا يحل لقوله عليه الصلاة والسلام لعدي: "إذا رميت بسهمك فاذكر اسم الله عليه فإن غاب عنك يوما لم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل إن شئت وإن وجدته غريقا في الماء فلا تأكل"2 رواه مسلم والنسائي. وفي رواية أنه عليه الصلاة والسلام قال: "إذا وجدت سهمك ولم تجد فيه أثر غيره وعلمت أن سهمك قتله فكله"3 رواه أحمد والنسائي. وفي رواية أن عليا رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله أرمي في الصيد فأجد فيه سهمي من الغد قال: "إذا علمت أن سهمك قتله ولم تر فيه أثر سبع فكل"4 رواه الترمذي وصححه ولأنه محتمل تحققت فيه الأمارة فيجوز بخلاف ما إذا كان بلا أمارة على ما بينا وحكم إرسال الكلب والبازي في جميع ما ذكرنا من الأحكام كالرمي.
قال رحمه الله: "ولو رمى صيدا فوقع في ماء أو على سطح أو جبل ثم تردى منه إلى الأرض حرم" لقوله تعالى والمتردية ولما روينا ولقوله عليه الصلاة والسلام لعدي:
"إذا رميت سهمك فاذكر اسم الله تعالى عليه فإن وجدته قتل فكل إلا أن تجده قد وقع في ماء فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك"5 رواه البخاري ومسلم, وأحمد. ولقوله عليه الصلاة والسلام لعدي إذا رميت سهمك فكل وإذا وقع في الماء فلا تأكل رواه البخاري, وأحمد ولأنه احتمل موته بغيره ; لأن هذه الأشياء مهلكة ويمكن الاحتراز عنها فتحرم بخلاف ما إذا كان لا يمكن التحرز عنه فهذا هو الحكم في المحتمل في هذا الباب وهذا فيما إذا كان فيه حياة مستقرة يحرم بالاتفاق ; لأن موته يضاف إلى غير الرمي وإن كانت حياته دون ذلك فهو على هذا الاختلاف الذي مر ذكره في إرسال الكلب ولو رمى إلى الصيد فأمال الريح السهم يمينا أو يسارا أو عدل عن سننه وأصاب صيدا لم يؤكل لأن حكم الرمي قد انقطع بالعدول. وعن أبي يوسف أن حكم الرمي لا يقطع بالتغيير عن سننه, ولو


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه النسائي في الكبرى "3800" ومالك في الموطأ "781".
2 تقدم زتخريجه.
3 أخرجه النسائي في الصيد والذبائح، باب في الذي يرمي الصيد فيغيب عنه "4300"، وأحمد في "مسنده" "18879".
4 أخرجه الترمذي في الصيد عن رسول الله ، باب في الرجل يرمي الصيد فيفيب عنه "1468".
5 تقدم تخريجه.

 

 ج / 8 ص -461-     ...........................................
______
أصاب السهم حائطا أو صخرة فرجع للصيد وقتله لم يؤكل ولو حدد عودا وطوله كالسهم ورمى به فأصاب بحده وخرق يؤكل وإلا فلا ولو رمى إلى صيد سهما فأصاب سهما موضوعا فرفعه فأصاب صيدا فقتله بخرق وجرح يؤكل لأن المرفوع إنما ارتفع بقوة السهم الأول فيكون نفوذه بواسطة الأول ألا ترى أنه لو أصاب آدميا وقتله يجب القصاص على الرامي
ولو رمى بمعراض أو حجر أو بندقة, وأصاب سهما ورفعه, وأصاب السهم الصيد فقتله يحل ولو رمى سهما فعدل به الريح عن سننه يمينا أو يسارا أو أصاب حائطا فعدل عن سننه ثم استقام ومر على سننه فأصاب الصيد وجرحه فلا بأس به ولا عبرة بهذه الزيادة بعد الاستقامة على سننه كذا في المحيط وفي الذخيرة
ولو أن الريح أمالته يمينا أو يسارا أو أماما فردته عن سننه لا إلى ورائه لم يكن بأكله بأس وإذا رمى مسلم صيدا بسهم وسمى ثم رمى مجوسي فأصاب سهمه سهم المسلم فانحرف يمنة ويسرة إلا أنه في سننه ذلك, وأصاب الصيد وقتله فالصيد للمسلم ولكن لا ينبغي أن يأكله. ولو رمى حلال سهما إلى صيد ثم رمى محرم فأصاب سهم المحرم سهم الحلال وزاد في قوته حتى أصاب الصيد فإنه لا يحل أكله وإرسال البازي كإرسال الكلب ولو رمى رجل صيدا بسهم وسمى ثم إن رجلا آخر رمى ذلك الصيد بسهم فسمى فأصاب سهم الثاني الأول, وأمضاه حتى أصاب الصيد وجرحه وقتله فالمسألة على وجهين إن كان السهم الأول بحال يعلم أنه يبلغ الصيد بدون السهم الثاني إلا أن الثاني زاد في قوته فالصيد للأول ولم يذكر في الكتاب ما إذا كان لا يدرى بأن الأول هل يبلغ الصيد لولا الثاني قال مشايخنا: وينبغي أن يكون الصيد للأول ويحل تناول هذا الصيد على كل حال ولو كان الرامي الثاني مجوسيا فأصاب سهمه سهم المسلم فإن علم أن سهم المسلم لا يصيب الصيد لولا سهم المجوسي فالصيد للمجوسي ولا يحل تناوله ولو علم أن سهم المسلم يصيب الصيد إلا أن سهم المجوسي زاد في قوته فالصيد للمسلم ويحل تناوله قياسا ولا يحل استحسانا.
ولو أن قوما من المجوس رموا سهامهم فأقبل الصيد نحو مسلم فارا من سهامهم فرماه المسلم وسمى فأصابه سهم المسلم وقتله فالمسألة على وجهين إن كان سهم المجوسي وقع على الأرض حتى رماه المسلم لم يحل أكله إلا أن يدركه المسلم ويذكيه فحينئذ يحل ; لأنهم أعانوه على الرمي دون حقيقة الذكاة ولم يعتبر بالرمي مع وجود حقيقة الذكاة وإن وقعت سهام المجوسي على الأرض ثم رماه المسلم بعد ذلك وباقي المسألة بحالها حل أكله وكذلك المجوسي إن أرسلوا كلابهم إلى صيد فأقبل الصيد هاربا فرماه المسلم فقتله أو أرسل كلبه إليه فأصابه الكلب فقتله إن كان رمي المسلم أو إرساله الكلب بعد رجوع كلاب المجوسي يحل وإن كان حال اتباع كلابهم لا يحل وكذا لو أرسل المجوسي صقرا له أو بازيا له فهوى الصيد إلى

 

 ج / 8 ص -462-     وإن وقع على الأرض ابتداء حل وما قتله المعراض بعرضه أو البندقة حرم
______
الأرض هاربا فرماه المسلم فقتله فإن كان رمي المسلم وإرساله حال اتباع صقر المجوسي وبازيه لا يحل وإن كان بعد الرجوع حل وكذا لو اتبع الصيد كلب غير معلم فأقبل الصيد فارا منه فرماه المسلم بسهم فهو على التفصيل الذي قلنا.
قال رحمه الله: "وإن وقع على الأرض ابتداء حل" ; لأنه لا يمكنه التحرز عنه فسقط اعتباره لئلا ينسد بابه على ما بينا بخلاف ما إذا أمكن التحرز عنه لأن اعتباره لا يؤدي إلى سد بابه وإلى اعتباره لا يؤدي إلى الجرح فأمكن ترجيح المحرم عند التعارض على ما هو الأصل في الشرع ولو وقع على جبل أو سطح أو آجرة موضوعة فاستقر ولم يترد حل ; لأن وقوعه على هذه الأشياء كوقوعه على الأرض ابتداء ولأنه لا يمكن الاحتراز عنه فسقط اعتباره بخلاف ما إذا وقع على شجر أو حائط أو آجرة ثم وقع على الأرض أو رماه وهو على جبل فتردى منه إلى الأرض أو رماه فوقع على رمح منصوب أو قصبة قائمة أو على حرف آجرة حيث يحرم لاحتمال أن أحد هذه الأشياء قتله بحده أو بترديته وهو ممكن الاحتراز عنه,
وقال في المنتقى: لو رمى صيدا فوقع على صخرة فانفلق رأسه أو انشق بطنه لم يؤكل لاحتمال موته بسبب آخر قال الحاكم أبو الفضل رحمه الله تعالى: وهذا خلاف إطلاق الجواب المذكور في الأصل فيما عدا هذا المفسر ; لأن حصول الموت بانفلاق الرأس وانشقاق البطن ظاهر وبالرمي موهوم فيتردد فالظاهر أولى بالاعتبار من الموهوم فيحرم بخلاف ما إذا لم ينشق ولم ينفلق لأن موته بالرمي هو الظاهر فلا يحرم ولا يحمل إطلاق الجواب في الأصل عليه, وحمل السرخسي ما ذكر في المنتقى على ما إذا أصابه حد الصخرة فانشق كذلك, وحمل المذكور في الأصل على أنه إذا لم يصبه من الصخرة إلا ما يصيبه من الأرض أو وقع عليه فحمل كذلك, فكلا التأويلين صحيح ومعناهما واحد ; لأن كلا منهما يحمل ما ذكره في الأصل على ما إذا مات بالرمي وما ذكره في المنتقى على ما إذا مات بغيره, وفي لفظ المنتقى إشارة إليه ألا ترى أنه قال لاحتمال الموت بسبب آخر أي غير الرمي وهذا يرجع إلى اختلاف اللفظ دون المعنى ولا يبالى به, وإن كان الطير المرمي مائيا فإن لم تنغمس الجراحة في الماء أكل وإن انغمست لا تؤكل لاحتمال الموت به دون الرمي ; لأنه يشرب الجرح الماء فيسبب زيادة الألم فصار كما إذا أصابه السهم.
قال رحمه الله: "وما قتله المعراض بعرضه أو البندقة حرم" لما روينا من حديث إبراهيم ولما روي أن عدي بن حاتم قال للنبي صلى الله عليه وسلم إني أرمي الصيد بالمعراض فأصيب فقال:
"إذا رميت

 

 ج / 8 ص -463-     وإن رمى صيدا فقطع عضوا منه أكل الصيد لا العضو
______
بالمعراض فخزقت فكله وإن أصابه بعرضه فلا تأكله"1 رواه البخاري ومسلم, وأحمد. ولما روي أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن الخذف وقال: "إنها لا تصيد ولكنها تكسر العظم وتفقأ العين"2 رواه البخاري ومسلم, وأحمد. ولأن الجرح لا بد منه لما بينا من قبل والبندقة لا تجرح وكذا عرض المعراض, والمعراض سهم لا ريش ولا نصل له وإنما هو حديد الرأس سمي الحديد معراضا لأنه يذهب معترضا وتارة يصيب بعرضه وتارة يصيب بحده وإن رماه بالسكين أو السيف فإن أصابه بحده أكل وإلا فلا وإن رماه بحجر فإن كان ثقيلا لا يؤكل وإن جرح لاحتمال أنه قتله بثقله, وإن كان الحجر خفيفا وله حد وجرح لتيقن الموت بالحجر حينئذ ولو جعل الحجر طويلا كالسهم وهو خفيف وبه حده ورمى به صيدا فإن جرح حل لقتله بجرحه ولو رماه بمروة حديدة فلم يبضع بضعا لا يحل ; لأنه قتله دقا وكذا إذا رماه بها فقطع أوداجه, وأبان رأسه ; لأن العروق قد تنقطع بالثقل فيقع الشك ويحتمل أنه مات قبل قطع الأوداج ولو رماه بعود مثل العصا ونحوه لا يحل ; لأنه قتله ثقلا لا جرحا إلا إذا كان له حد بضع بضعا فيكون كالسيف والرمح والأصل في جنس هذه المسائل أن الموت إذا حصل بالجرح يتعين حل وإن حصل بالثقل أو شك فيه فلا يحل حتما أو احتياطا وإن جرحه فمات فإن كان الجرح مدميا حل بالاتفاق وإن كان غير مدم اختلفوا فيه قيل لا يحل لانعدام معنى الذكاة وهو إخراج الدم النجس وشرط النبي صلى الله عليه وسلم إخراج الدم بقوله: "أنهر الدم بما شئت"3 رواه أحمد, وأبو داود وغيرهما وقيل يحل لإتيانه ما في وسعه وهو الجرح, وإخراج الدم ليس من وسعه فلا يكون مكلفا به ; لأن الدم قد ينحبس بقتله أو لضيق المنفذ بين العروق وقد قدمنا: وإن ذبح الشاة ولم يخرج منها الدم قيل يحل أكلها وقيل لا يحل فالأول قول أبي بكر الإسكاف والثاني قول إسماعيل الصفار ووجه القولين دخل فيما ذكرنا وإن أصاب السهم ظلف الصيد أو قرنه فإن أدماه حل وإلا فلا وهذا يؤيد قول من يشترط خروج الدم.
قال رحمه الله: "وإن رمى صيدا فقطع عضوا منه أكل الصيد لا العضو" وقال الشافعي رضي الله عنه: أكل إن مات الصيد منه ; لأنه مبان بذكاة الاضطرار فيحل كالمبان بذكاة الاختيار بخلاف ما إذا لم يمت ; لأنه ما أبين بالذكاة ولنا قوله عليه الصلاة والسلام:
"ما قطع من بهيمة


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الحديث: أخرجه البخاري في التوحيد، باب السؤال بأسماء الله تعالى والاستعاذة بها "7397" ومسلم في الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب الصيد بالكلاب المعلمة "1929" واللفظ لمسلم.
2 الحديث: أخرجه البخاري في الأدب، باب النهي عن الخوف "6220" ومسلم في الصيد والذبائح، باب إباحة ما يستعان به على الاصطياد والعدو "1954".
3 الحديث: أخرجه النسائي في الضحايا، باب إباحة الذبح بالعود "4401".

 

 ج / 8 ص -464-     وإن قطعه أثلاثا والأكثر مما يلي العجر أكل كله وحرم صيد المجوسي والوثني والمرتد
______
وهي حية فما قطع منها فهو ميتة"1 رواه ابن ماجه ذكر الحي مطلقا فينصرف إلى الحي حقيقة وحكما والعضو المبان بهذه الصفة ; لأن المبان منه حي حقيقة لقيام الحياة فيه وكذا حكما ; لأنه يتوهم سلامته بعد هذه الجراحة ولهذا اعتبر هذا القدر من الحياة حتى لو وقع في الماء وفيه هذا القدر من الحياة يحرم بخلاف ما إذا أبين بذكاة الاختيار ; لأن المبان منه ميت حكما ألا ترى أنه لو وقع في هذه الحالة في الماء أو تردى من الجبل لا يحرم ; لأن موته قد حصل بالإبانة حكما فلا يضاف إلى غيره وإن كان حصل بذلك حقيقة أقول: المقدمة القائلة إن المطلق ينصرف إلى الكامل شائعة في ألسنة الفقهاء وكتب أصحابنا لكنها مخالفة في الظاهر لما تقرر في أصول أئمتنا من أن المطلق يجري على إطلاقه كما أن المقيد يجري على تقييده فتأمل في التوفيق وفي الأصل: رجل أرسل كلبه على صيد فأخطأ ثم عرض له صيد آخر فقتله يؤكل وإن فاته الصيد فرجع وعرض له صيد آخر في رجوعه فقتله لا يؤكل, وقوله "أبين بالذكاة" قلنا: حال وقوعه لم تقع ذكاة لقيام الحياة في الثاني حقيقة وحكما على ما بينا وإنما تقع ذكاة عند موته وفي ذلك الوقت لا يظهر في المبان لعدم الحياة فيه لزواله بالانفصال فصار الأصل فيه أن المبان من الحي حقيقة وحكما لا يجوز, والمبان من الحي صورة لا حكما بدليل ما ذكرنا من الأحكام من أنه لا يؤثر فيه وقوعه في النهر في هذه الحالة يحل أكله في هذه الحالة وإن كان يكره لما فيها من زيادة الإيلام بقطع لحمه ولا كذلك المبان منه بالاصطياد ; لأنه حي حقيقة وحكما حتى لا يثبت له شيء من هذه الأحكام.
قال رحمه الله "وإن قطعه أثلاثا والأكثر مما يلي العجر أكل كله" لأن المبان منه حي صورة لا حكما, إذ لا يتوهم سلامته وبقاؤه حيا بعد هذه الجراحة فوقع ذكاة في الحال فحل أكله كما إذا أبين رأسه في الذكاة الاختيارية وكذا إذا قد نصفين لما ذكرنا بخلاف ما إذا قطع يدا أو رجلا أو فخذا أو ثلثه مما يلي القوائم أو أقل من نصف الرأس حيث يحرم المبان ويحل المبان منه ; لأنه يتوهم بقاء الحياة في الباقي وإن ضرب عنق شاة فأبان رأسها تحل لقطع الأوداج ويكره لما فيه من زيادة الألم بإبلاغه النخاع وإن ضربها من قبل القفا إن ماتت قبل قطع الأوداج لا تحل وإن لم تمت حتى قطع الأوداج حلت ولو ضرب صيدا فقطع يده أو رجله ولم ينفصل حتى مات إن كان يتوهم التئامه واندماله حل أكله ; لأنه بمنزلة سائر أجزائه وإن كان لا يتوهم بأن يبقى معلقا بجلده حل ما سواه دونه لوجود الإبانة معنى والعبرة للمعاني.
قال رحمه الله: "وحرم صيد المجوسي والوثني والمرتد" لأنهم ليسوا من أهل الذكاة حالة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الحديث: أخرجه الترمذي عن رسول الله، باب ما قطع من الحي فهو ميت "1480" وأبو داود في الصيد، باب في صيد قطع منه قطعة "2858".

 

 ج / 8 ص -465-     وإن رمى صيدا فلم يثخنه فرماه الثاني فقتله فهو للثاني وحل وإن أثخنه فللأول وحرم وضمن الثاني للأول قيمته غير ما نقصته جراحته
______
الاختيار فكذا حالة الاضطرار وكذا المحرم لأنه ليس من أهل ذكاة الاختيار في حق الصيد فلا يكون من أهل ذكاة الاضطرار فيه ويؤكل صيد الكتابي ; لأنه من أهل الذكاة اختيارا فكذا اضطرارا.
قال رحمه الله: "وإن رمى صيدا فلم يثخنه فرماه الثاني فقتله فهو للثاني وحل" لأنه هو الآخذ له وقال عليه الصلاة والسلام
"الصيد لمن أخذه"1 وإنما حل لأنه لما لم يخرج بالأول من حيز الامتناع كان ذكاته ذكاة الاضطرار وهو الجرح في أي موضع كان وقد وجد.
قال رحمه الله: "وإن أثخنه فللأول وحرم" لأنه لما أثخنه الأول قد خرج من حيز الامتناع صار قادرا على ذكاته الاختيارية فوجب عليه ذكاته لما روينا ولم يذكه وصار الثاني قاتلا له فيحرم وهو لو ترك ذكاته مع القدرة عليه يحرم فبالقتل أولى أن يحرم بخلاف الوجه الأول وهذا إذا كان بحال يسلم من الأول لأن موته يضاف إلى الثاني أما إذا كان الرمي الأول بحال لا يسلم منه الصيد بأن لا يبقى فيه من الحياة إلا بقدر ما يبقى من المذبوح كما إذا أبان رأسه يحل ; لأن موته لا يضاف إلى الرمي الثاني فلا اعتبار لوجوده لكونه ميتا حكما ولهذا لو وقع في الماء في هذه الحالة لا يحرم كوقوعه بعد موته ولو كان الرمي الأول بحال لا يعيش به الصيد لكن حياته فوق حياة المذبوح بأن كان يبقى يوما أو دونه فعند أبي يوسف لا يحرم بالرمية الثانية ; لأن هذا القدر من الحياة لا يعتبر عنده وعند محمد يحرم ; لأن هذا القدر من الحياة يعتبر عنده فصار حكمه كحكم ما إذا كان الأول يسلم منه فلا يحل.
قال رحمه الله: "وضمن الثاني للأول قيمته غير ما نقصته جراحته" أي ضمن جميع قيمة الصيد غير ما نقصته جراحته الأولى ; لأنه أتلف صيدا مملوكا للغير ; لأنه ملكه بالإثخان فيلزم قيمة ما أتلفه وقيمته وقت إتلافه كان ناقصا بجراحة الأول فيلزم ذلك ; لأن قيمة المتلف تعتبر وقت الإتلاف فصار كما لو أتلف عبدا مريضا أو شاة مجروحة فإنه يلزمه قيمته متقوما بالمرض أو الجرح وقال صاحب الهداية وغيره: تأويله إذا علم أن القتل حصل بالثاني فإن كان الأول بحال يسلم منه والثاني بحال لا يسلم منه ليكون القتل كله مضافا إلى الثاني وقد قتل حيوانا مملوكا للأول منقوصا بالجراحة فلا يضمنه كاملا وإن علم أن الموت حصل من الجراحتين أو لا يدري قال صاحب الهداية قال في الزيادات: يضمن الثاني ما نقصته جراحته ثم يضمن نصف قيمته مجروحا بجراحتين ثم يضمن نصف قيمته لحما أما الأول وهو ما نقصته جراحته فلأنه جرح حيوانا مملوكا

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكره الزيلعي في نصب الراية "4/318".

 

 ج / 8 ص -466-     ...........................................
______
للغير وقد نقصته فيضمنه أولا. وأما الثاني وهو ضمان نصف قيمته حيا فلأن الموت حصل بالجراحتين فيكون هو متلفا نصفه وهو مملوك لغيره فيضمن نصف قيمته مجروحا بالجراحتين ; لأن الأولى ما كانت بصنعه - يعني: الجراحة الأولى ما كانت بصنع الثاني - فلا يضمنها, والثانية ضمنها مرة فلا يضمنها ثانية أي الجراحة الثانية ومراده ما نقص بجراحته ضمنها مرة وهو ما ضمنه من النقصان بجراحته أولا, وأما الثالث وهو ضمان نصف اللحم فلأن بالرمية الأولى صار بحال يحل بذكاة الاختيار لولا رمي الثاني فهذا بالرمي الثاني أفسد عليه نصف اللحم فيضمنه ولا يضمن نصف القيمة لآخر ; لأنه ضمنه من حيث ضمن نصف قيمته حيا فدخل ضمان اللحم وهذا يوهم أن بين المسألتين فرقا أعني بين ما إذا حصل القتل بالثاني وحده أو بهما وليس كذلك بل لا فرق بينهما ; لأنه في الموضعين يضمن الثاني جميع قيمته غير ما نقصته جراحة الأول إلا أنه بين في المسألة الأولى جميع الحاصل وفي الثانية بين طريق الضمان نقل ذلك عن قاضي خان أي عدم الفرق بين المسألتين بيانه أن الرامي الأول إذا رمى صيدا يساوي عشرة فنقصه درهمين ثم رماه الثاني فنقصه درهمين ثم مات فعلى الطريقة الأولى يضمن الثاني ثمانية ويسقط عنه من قيمته درهمان لأن ذلك تلف بجرح الأول وهو المراد بقوله "غير ما نقصته جراحته ". وعلى الطريقة الثانية يضمن درهمين أولا ; لأن ذلك القدر من النقصان حصل بفعله وهو المراد بقوله في الزيادات يضمن الثاني ما نقصته جراحته بقي من قيمته ستة فيضمن نصفها وهو ثلاثة دراهم وهو المراد بقوله ثم يضمن نصف قيمته مجروحا بجراحتين يعني به نصف قيمته حيا ثم إذا مات يضمن النصف الآخر بعد الموت وإن كان تفويت اللحم فيه موجودا بقتله ; لأنه ضمن ذلك النصف حيا فلو ضمنه بعد الموت كان يتكرر الضمان بأن يضمن قيمته حيا ثم يضمن قيمته لحما بعد الموت وهذا لا يجوز وهذا إذا كانت حياته خفية بقدر المذبوح فلا يضمن الثاني ويؤكل ; لأن موته لا يضاف إلى الثاني ولهذا لو وقع في الماء في هذه الحالة لا يحرم وقد ذكرناه من قبل وعنه وقع الاحتراز بقوله فإن علم أن الموت حصل من الجراحتين أو لا يدري ولو رمياه معا فأصابه أحدهما قبل الآخر فأثخنه ثم أصابه الآخر أو رماه أحدهما أولا ثم رماه الثاني قبل أن يصيبه الأول أو بعدما أصابه قبل أن يثخنه فأصابه الأول فأثخنه أو أثخنه ثم أصابه الثاني فقتله فهو للأول ويؤكل وقال زفر لا يحل أكله لأنه حال إصابة الثاني غير ممتنع فلا يحل بذكاة الاضطرار فصار كما إذا رماه الثاني بعدما أثخنه الأول قلنا: عند رمي الثاني هو صيد ممتنع فوقع رميه ذكاة ولهذا تشترط التسمية عند الرمي فكذا الامتناع يعتبر عنده إلا أن الملك يثبت للأول لأن سهمه أخرجه عن حيز الامتناع فملكه به قبل أن يقتل بسهم الثاني. فحاصله أن المعتبر في حق الحل والضمان وقت الرمي ; لأن الرمي إلى صيد مباح فلا ينعقد سببا لوجوب الضمان فلا ينقلب موجبا بعد ذلك وهو ذكاة فيحل المصاب لأن

 

 ج / 8 ص -467-     وحل اصطياد ما يؤكل لحمه وما لا يؤكل
______
الحل يحصل بفعله, وفعله هو الرمي والإرسال فيعتبر وقته وفي حق الملك يعتبر وقت الإثخان ; لأن به يثبت الملك وزفر يعتبر وقت الإثخان فيهما ولو رمياه معا, وأصاباه معا فمات منهما فهو بينهما لاستوائهما في السبب والبازي والكلب في هذا كالسهم حتى يملكه بإثخانه ولا يعتبر إمساكه بدون الإثخان حتى لو أرسل بازيه فأمسك الصيد بمخلبه ولم يثخنه, وأرسل الآخر بازيه فقتل ذلك الصيد فإن الصيد للثاني وحل ; لأن يد البازي الأول ليست يدا حافظة لتقام مقام يد المالك أما القتل فهو إتلاف والبازي من أهل الإتلاف فينقل إلى صاحبه ولو رمى سهما فأصاب الصيد فأثخنه ثم رماه ثانيا فقتله حرم لما بينا.
قال رحمه الله: "وحل اصطياد ما يؤكل لحمه وما لا يؤكل" لقوله تعالى:
{وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: من الآية2] مطلقا من غير قيد بالمأكول, إذ الصيد لا يختص بالمأكول قال الشاعر:

صيد الملوك أرانب وثعالب                               وإذا ركبت فصيدك الأبطال1


ولأن الاصطياد سبب الانتفاع بجلده أو ريشه أو شعره أو لاستدفاع شره, وكل ذلك مشروع والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لم أعثر علي قائله.