البحر الرائق شرح كنز الدقائق ط دار الكتاب الإسلامي

[كِتَابُ الدِّيَاتِ]
قَالَ فِي الْعِنَايَةِ ذِكْرُ الدِّيَاتِ بَعْدَ الْجِنَايَاتِ ظَاهِرُ الْمُنَاسَبَةِ لِمَا أَنَّ الدِّيَةَ أَحَدُ مُوجِبَيْ الْجِنَايَةِ فِي الْآدَمِيِّ صِيَانَةً لَهُ عَنْ الْقِصَاصِ لَكِنَّ الْقِصَاصَ أَشَدُّ جِنَايَةً فَلِذَا قَدَّمَهُ وَالْكَلَامُ فِيهَا مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ فِي دَلِيلِ مَشْرُوعِيَّتِهَا وَالثَّانِي فِي مَعْنَاهَا لُغَةً وَالثَّالِثُ فِي مَعْنَاهَا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَالرَّابِعُ فِي سَبَبِ وُجُوبِهَا وَالْخَامِسُ فِي فَائِدَتِهَا وَالسَّادِسُ فِي رُكْنِهَا وَالسَّابِعُ فِي شَرْطِهَا وَالثَّامِنُ فِي حُكْمِهَا أَمَّا دَلِيلُ الْمَشْرُوعِيَّةِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] الْآيَةُ.
وَأَمَّا مَعْنَاهَا فِي اللُّغَةِ فَالدِّيَةُ مَصْدَرُ وَدَى الْقَاتِلُ الْمَقْتُولَ أَعْطَى دِيَتَهُ وَأَعْطَى لِوَلِيِّهِ الْمَالَ الَّذِي هُوَ بَدَلُ النَّفْسِ ثُمَّ قِيلَ لِذَلِكَ الْمَالِ الدِّيَةُ تَسْمِيَةً بِالْمَصْدَرِ كَذَا فِي الْمُغْرِبِ قَالَ فِي الْقَامُوسِ الدِّيَةُ حَقٌّ لِلْقَتِيلِ جَمْعُهَا دِيَاتٌ وَفِي الصِّحَاحِ وَدَيْت الْقَتِيلَ أَدِيهِ دِيَةً إذَا أَعْطَيْت دِيَتَهُ وَأَمَّا مَعْنَاهَا شَرْعًا فَالدِّيَةُ عِبَارَةٌ عَمَّا يُؤْدَى وَقَدْ صَارَ هَذَا الِاسْمُ عَلَمًا عَلَى بَدَلِ النُّفُوسِ دُونَ غَيْرِهَا وَهُوَ الْأَرْشُ وَأَمَّا سَبَبُ وُجُوبِهَا فَالْخَطَأُ فَإِنَّ الْآدَمِيَّ لَمَّا خُلِقَ فِي الْأَصْلِ مَعْصُومَ النَّفْسِ

(8/372)


مَحْقُونَ الدَّمِ مَضْمُونًا عَنْ الْهَدَرِ فَيَجِبُ صَوْنُ حَقِّهِ عَنْ الْبُطْلَانِ.

وَأَمَّا الْخَامِسُ وَهُوَ فَائِدَتُهَا فَهُوَ دَفْعُ الْفَسَادِ وَإِطْفَاءُ نَارِ وَلِيِّ الْمَقْتُولِ.

وَأَمَّا رُكْنُهَا فَهُوَ الْأَدَاءُ وَالْإِيتَاءُ وَأَمَّا شَرْطُ وُجُوبِهَا فَكَوْنُ الْمَقْتُولِ مَعْصُومَ الدَّمِ مُتَقَوِّمًا بِعِصْمَةِ الدَّارِ وَمَنَعَةِ الْإِسْلَامِ حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا فَقُتِلَ لَا تَجِبُ الدِّيَةُ.

وَأَمَّا حُكْمُهَا فَتَمْحِيضُ ذَنْبِ التَّقْصِيرِ بِالتَّكْفِيرِ وَفِي الْمَبْسُوطِ يَحْتَاجُ إلَى بَيَانِ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِ الدِّيَةِ وَكَيْفِيَّةِ مِقْدَارِهَا أَمَّا كَيْفِيَّةُ وُجُوبِ الدِّيَةِ فَفِي نَفْسِ الْحُرِّ تَجِبُ دِيَةٌ كَامِلَةٌ يَسْتَوِي فِيهَا الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ وَالْوَضِيعُ وَالشَّرِيفُ وَالْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - دِيَةُ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ وَفِي الْمَجُوسِ ثَمَانُمِائَةٍ وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا رُوِيَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بِدِيَةِ الْمُسْتَأْمَنِينَ اللَّذَيْنِ قَتَلَهُمَا عُمَرُ وَابْنُ أَبِي أُمَيَّةَ كَدِيَةِ حُرَّيْنِ مُسْلِمَيْنِ» وَعَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ قَضَى أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فِي دِيَةِ الذِّمِّيِّ بِمِثْلِ دِيَةِ الْمُسْلِمِ وَلِأَنَّهُمَا يَسْتَوِيَانِ فِي الْعِصْمَةِ وَالْحُرِّيَّةِ وَلِهَذَا قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّمَا بَذَلُوا الْجِزْيَةَ لِتَكُونَ دِمَاؤُهُمْ كَدِمَائِنَا وَأَمْوَالُهُمْ كَأَمْوَالِنَا وَنَقْصُ الْكُفْرِ يُؤَثِّرُ فِي أَحْكَامِ الْعَقَائِدِ فَيَسْتَوِيَانِ فِي الدِّيَةِ قَالَ فِي الْكَافِي الدِّيَةُ الْمَالُ الَّذِي هُوَ بَدَلُ النَّفْسِ وَالْأَرْشُ اسْمٌ لِلْوَاجِبِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ. اهـ.
أَقُولُ: الظَّاهِرُ مِنْ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ كُلِّهَا أَنْ تَكُونَ الدِّيَةُ مُخْتَصَّةً بِمَا هُوَ بَدَلُ النَّفْسِ وَيُنَافِيهِ مَا سَيَجِيءُ فِي الْفَصْلِ الْآتِي مِنْ أَنَّ فِي الْمَارِنِ الدِّيَةَ وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ وَفِي الذَّكَرِ الدِّيَةُ وَفِي اللِّحْيَةِ الدِّيَةُ وَفِي شَعْرِ الرَّأْسِ الدِّيَةُ وَفِي الْحَاجِبَيْنِ الدِّيَةُ وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ وَفِي الْيَدَيْنِ الدِّيَةُ وَفِي الرِّجْلَيْنِ الدِّيَةُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي أُطْلِقَتْ الدِّيَةُ فِيهَا عَلَى مَا هُوَ بَدَلُ مَا دُونَ النَّفْسِ وَكَذَا مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ وَهُوَ مَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «فِي النَّفْسِ وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ وَفِي الْمَارِنِ» وَهَكَذَا هُوَ الْكِتَابُ الَّذِي كَتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَمَا سَيَأْتِي فَالْأَظْهَرُ فِي تَفْسِيرِ الدِّيَةِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ آخِرًا فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْمُغْرِبِ وَعَامَّةِ الشُّرُوحِ قَالَ وَالدِّيَةُ اسْمٌ لِضَمَانٍ يَجِبُ بِمُقَابَلَةِ الْآدَمِيِّ أَوْ طَرَفٍ مِنْهُ سُمِّيَ بِهَا لِأَنَّهُ يُؤَدَّى عَادَةً لِأَنَّهُ قَلَّ مَا يَجْرِي فِيهِ الْعَفْوُ لِعِظَمِ حُرْمَةِ الْآدَمِيِّ. اهـ.
وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْفِقْهِ بَيَانَ الْأَحْكَامِ لَا بَيَانَ الْحَقَائِقِ تَرَكَ الْمُؤَلِّفُ بَيَانَ الْحَقِيقَةِ وَشَرَعَ يُبَيِّنُ أَنْوَاعَهَا.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (دِيَةُ شِبْهِ الْعَمْدِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ أَرْبَاعًا مِنْ بِنْتِ مَخَاضٍ إلَى جَذَعَةٍ) يَعْنِي خَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ جَذَعَةً وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ ثَلَاثُونَ حِقَّةً وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً وَأَرْبَعُونَ ثَنِيَّةً فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَلَا إنَّ قَتِيلَ الْخَطَإِ الْعَمْدِ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا وَالْحَجَرِ وَفِيهِ دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ أَرْبَعُونَ مِنْهَا ثَنِيَّةً إلَى بَازِلِ عَامِهَا كُلُّهُنَّ خَلِفَةٌ» وَلِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ التَّغْلِيظَ فِيهِ وَاجِبٌ لِشِبْهِهِ بِالْعَمْدِ وَمَعْنَى التَّغْلِيظِ يَتَحَقَّقُ بِإِيجَابِ شَيْءٍ لَا يَجِبُ فِي الْخَطَأِ وَلَهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَضَى فِي الدِّيَةِ بِمِائَةٍ مِنْ الْإِبِلِ أَرْبَاعًا» وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْخَطَأَ لِأَنَّهُ تَجِبُ فِيهِ أَخْمَاسًا فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ شِبْهُ الْعَمْدِ ولِأَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُمَّةِ أَنَّ الدِّيَةَ مُقَدَّرٌ بِمِائَةٍ مِنْ الْإِبِلِ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «فِي نَفْسِ الْمُؤْمِنِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ» وَاخْتَلَفُوا فِي صِفَةِ التَّغْلِيظِ فَذَهَبَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى أَنَّهَا أَرْبَاعٌ مِثْلُ مَذْهَبِنَا، وَمَذْهَبُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهَا أَثْلَاثٌ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ حِقَّةً وَثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً وَأَرْبَعَةٌ وَثَلَاثُونَ خَلِفَةً.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلَا تَتَغَلَّظُ الدِّيَةُ إلَّا فِي الْإِبِلِ) لِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِهِ وَعَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ وَالْمُقَدَّرَاتُ لَا تُعْرَفُ إلَّا سَمَاعًا إذْ لَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ فِيهَا فَلَمْ تَتَغَلَّظْ بِغَيْرِهِ حَتَّى لَوْ قَضَى بِهِ الْقَاضِي لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ لِعَدَمِ التَّوْقِيفِ بِالتَّقْدِيرِ بِغَيْرِ الْإِبِلِ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَفِي الْخَطَأِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ أَخْمَاسًا) أَيْ دِيَةُ الْخَطَأِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ أَخْمَاسًا ابْنُ مَخَاضٍ إلَخْ أَيْ عِشْرُونَ ابْنَ مَخَاضٍ وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ وَعِشْرُونَ حِقَّةً وَعِشْرُونَ جَذَعَةً، فَإِذَا كَانَتْ أَخْمَاسًا يَكُونُ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ عِشْرِينَ لِمَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي دِيَةِ الْخَطَأِ عِشْرُونَ حِقَّةً وَعِشْرُونَ جَذَعَةً وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمْ وَالشَّافِعِيُّ أَخَذَ بِمَذْهَبِنَا غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ يَجِبُ عِشْرُونَ ابْنَ لَبُونٍ مَكَانَ ابْنَ مَخَاضٍ وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَا وَلِأَنَّ

(8/373)


مَا قُلْنَاهُ أَخَفُّ لِإِقَامَةِ ابْنِ الْمَخَاضِ مَقَامَ ابْنِ لَبُونٍ فَكَانَ ابْنُ لَبُونٌ أَلْيَقَ بِحَالِ الْمُخْطِئِ وَلِأَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ ابْنَ اللَّبُونِ بِمَنْزِلَةِ بِنْتِ الْمَخَاضِ فِي الزَّكَاةِ حَيْثُ أَخَذَهُ مَكَانَهَا فَإِيجَابُ الْعِشْرِينَ مِنْهُ مَعَ الْعِشْرِينَ مِنْ بِنْتِ الْمَخَاضِ كَإِيجَابِ أَرْبَعِينَ بِنْتَ مَخَاضٍ وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بَلْ لَا يَجُوزُ لِعَدَمِ التَّغَايُرِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يُرِدْ بِتَغْيِيرِ أَسْنَانِ الْإِبِلِ إلَّا التَّخْفِيفَ وَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ التَّخْفِيفُ فَلَا يَجُوزُ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (أَوْ أَلْفُ دِينَارٍ أَوْ عَشْرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ) وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى الدِّيَةُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ لِمَا رَوَيَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ «رَجُلًا قُتِلَ فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دِيَتَهُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَلِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهَا مِنْ الدَّنَانِيرِ أَلْفُ دِينَارٍ وَكَانَتْ قِيمَةُ الدِّينَارِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بِالدِّيَةِ فِي قَتِيلٍ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ» وَمَا قُلْنَا أَوْلَى لِلتَّيَقُّنِ بِهِ لِأَنَّهُ أَقَلُّ أَوْ يُحْمَلُ عَلَى مَا رَوَيَاهُ عَلَى وَزْنِ خَمْسَةٍ وَمَا رَوَيْنَاهُ عَلَى وَزْنِ سِتَّةٍ وَهَكَذَا كَانَتْ دَرَاهِمُهُمْ مِنْ زَمَانِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى زَمَانِ عُمَرَ عَلَى مَا حَكَاهُ الْخَبَّازِيُّ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ فَإِنَّهُ قَالَ كَانَتْ الدَّرَاهِمُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثَةً الْوَاحِدُ مِنْهَا وَزْنُ عَشَرَةٍ أَيْ الْعَشَرَةُ مِنْهُ وَزْنُ عَشَرَةِ دَنَانِيرَ وَهُوَ قَدْرُ الدِّينَارِ وَالثَّانِي وَزْنُ سِتَّةٍ أَيْ الْعَشَرَةُ مِنْهُ وَزْنُ سِتَّةٍ إلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ فَجَمَعَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَيْنَ الثَّلَاثَةِ فَخَلَطَ فَجَعَلَهُ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ فَصَارَ ثُلُثُ الْمَجْمُوعِ دِرْهَمًا فَكَشَفَ هَذَا أَنَّ الدِّينَارَ عِشْرُونَ قِيرَاطًا فَوْقَ الْعَشَرَةِ يَكُونُ مِثْلَهُ عِشْرُونَ قِيرَاطًا ضَرُورَةَ اسْتِوَائِهِمَا وَوَزْنُ السِّتَّةِ يَكُونُ نِصْفَ الدِّينَارِ وَعَشَرَةً فَيَكُونُ اثْنَيْ عَشَرَ قِيرَاطًا وَزْنُ الْخَمْسَةِ يَكُونُ نِصْفَ الدِّينَارِ فَيَكُونُ عَشَرَةَ قَرَارِيطَ فَيَكُونُ الْمَجْمُوعُ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ قِيرَاطًا فَإِنْ جَعَلْتهَا أَثْلَاثًا صَارَ كُلُّ ثُلُثٍ أَرْبَعَةَ عَشَرَ قِيرَاطًا وَهُوَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ دَرَاهِمُهُمْ.
فَإِذَا حُمِلَ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَلَى وَزْنِ خَمْسَةٍ وَمَا رَوَيْنَاهُ عَلَى وَزْنِ سِتَّةٍ اسْتَوَيَا وَاَلَّذِي يُرَجِّحُ مَذْهَبَنَا مَا رُوِيَ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْجَنِينِ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ وَهُوَ عُشْرُ دِيَةِ الْأُمِّ عِنْدَهُ سَوَاءٌ كَانَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى وَعِنْدَنَا عُشْرُ دِيَةِ النَّفْسِ إنْ كَانَ أُنْثَى وَنِصْفُ الْعُشْرِ إنْ كَانَ ذَكَرًا فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ دِيَةَ الْأُمِّ خَمْسَةُ آلَافٍ وَدِيَةَ الرَّجُلِ ضِعْفُ ذَلِكَ وَهُوَ عَشَرَةُ آلَافٍ وَلِأَنَّا أَجْمَعْنَا أَنَّهَا مِنْ الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ وَالدِّينَارُ مُقَوَّمٌ فِي الشَّرْعِ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ أَلَا تَرَى أَنَّ نِصَابَ الْفِضَّةِ فِي الزَّكَاةِ مُقَدَّرٌ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَنِصَابُ الذَّهَبِ فِيهَا بِعِشْرِينَ دِينَارًا فَيَكُونُ غَنِيًّا بِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إذْ الزَّكَاةُ لَا تَجِبُ إلَّا عَلَى الْغَنِيِّ فَيُعْلَمُ بِذَلِكَ عِلْمًا ضَرُورِيًّا أَنَّ الدِّينَارَ مُقَدَّرٌ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ ثُمَّ الْخِيَارُ فِي هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ إلَى الْقَاتِلِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ فَيَكُونُ الْخِيَارُ إلَيْهِ كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَلَا تَثْبُتُ الدِّيَةُ إلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَا يَجِبُ مِنْهَا وَمِنْ الْبَقَرِ مِائَتَا بَقَرَةٍ وَمِنْ الْغَنَمِ أَلْفُ شَاةٍ وَمِنْ الْحُلَلِ مِائَتَا حُلَّةٍ كُلُّ حُلَّةٍ ثَوْبَانِ لِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَضَ فِي الدِّيَةِ عَلَى أَهْلِ الْإِبِلِ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ وَعَلَى أَهْلِ الْبَقَرِ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ وَعَلَى أَهْلِ هَذِهِ الشِّيَاهِ أَلْفَيْ شَاةٍ وَعَلَى أَهْلِ الْحُلَلِ مِائَتَيْ حُلَّةٍ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
وَكَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقْضِي بِذَلِكَ عَلَى أَهْلِ كُلِّ مَالٍ كَمَا ذَكَرْنَا وَكُلُّ حُلَّةٍ ثَوْبَانِ إزَارٌ وَرِدَاءٌ وَهُوَ الْمُخْتَارُ وَفِي النِّهَايَةِ قِيلَ فِي زَمَانِنَا قَمِيصٌ وَسَرَاوِيلُ وَلَهُ أَنَّ التَّقْدِيرَ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ بِشَيْءٍ مَعْلُومِ الْمَالِيَّةِ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ مَجْهُولَةُ الْمَالِيَّةِ وَلِهَذَا لَا يُقَدَّرُ بِهَا ضَمَانُ الْمُتْلَفَاتِ وَالتَّقْدِيرُ بِالْإِبِلِ عُرِفَ بِالْآثَارِ الْمَشْهُورَةِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي غَيْرِهَا فَلَا يُعْدَلُ عَنْ الْقِيَاسِ وَالْآثَارِ الَّتِي وَرَدَتْ فِيهَا تَحْتَمِلُ الْقَضَاءَ فِيهَا بِطَرِيقِ الصُّلْحِ فَلَا يَلْزَمُ حُجَّةٌ وَذَكَرَ فِي الْمَعَاقِلِ أَنَّهُ لَوْ صَالَحَ عَلَى الزِّيَادَةِ عَلَى مِائَتَيْ حُلَّةٍ أَوْ مِائَتِي بَقَرَةٍ لَا يَجُوزُ وَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ قَوْلُهُمَا.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَكَفَّارَتُهُمَا مَا ذُكِرَ فِي النَّصِّ) أَيْ كَفَّارَةُ الْقَتْلِ خَطَأً وَشِبْهِ الْعَمْدِ هُوَ الَّذِي ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ الْإِعْتَاقُ وَالصَّوْمُ عَلَى التَّرْتِيبِ مُتَتَابِعًا كَمَا ذُكِرَ فِي النَّصِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] وَشِبْهُ الْعَمْدِ خَطَأٌ فِي حَقِّ الْقَتْلِ وَإِنْ كَانَ عَمْدًا فِي حَقِّ الضَّرْبِ فَتَتَنَاوَلُهُمَا الْآيَةُ وَلَا يَخْتَلِفَانِ فِيهِ لِعَدَمِ النَّقْلِ بِالِاخْتِلَافِ بِخِلَافِ الدِّيَةِ حَيْثُ تَجِبُ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ مُغَلَّظَةً لِوُجُودِ التَّوْفِيقِ فِي التَّغْلِيظِ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ دُونَ الْخَطَأِ وَالْمَقَادِيرُ لَا تَجِبُ إلَّا سَمَاعًا قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلَا يَجُوزُ الْإِطْعَامُ وَالْجَنِينُ) لِأَنَّ الْإِطْعَامَ لَمْ يَرِدْ بِهِ النَّصُّ وَالْمَقَادِيرُ لَمْ تُعْرَفْ إلَّا سَمَاعًا وَلِأَنَّ الْمَذْكُورَ كُلُّ الْوَاجِبِ إمَّا فِي الْجَوَابِ أَوْ لِكَوْنِهِ كُلَّ الْمَذْكُورِ وَالْجَنِينُ لَمْ تُعْرَفْ حَيَاتُهُ وَلَا سَلَامَتُهُ فَلَا يَجُوزُ وَلِأَنَّهُ

(8/374)


عُضْوٌ مِنْ وَجْهٍ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ مُطْلَقِ النَّصِّ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَيَجُوزُ الرَّضِيعُ لَوْ أَحَدُ أَبَوَيْهِ مُسْلِمًا) لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ تَبَعٌ لَهُ.
وَالظَّاهِرُ سَلَامَةُ أَطْرَافِهِ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْحِيلَةُ وَلَا يُقَالُ كَيْفَ اكْتَفَى هَذَا بِالظَّاهِرِ فِي سَلَامَةِ أَطْرَافِهِ حَتَّى جَازَ التَّكْفِيرُ وَلَمْ يَكْتَفِ بِالظَّاهِرِ فِي حَدِّ وُجُوبِ الضَّمَانِ بِإِتْلَافِ أَطْرَافِهِ لِأَنَّا نَقُولُ الْحَاجَةُ فِي التَّكْفِيرِ إلَى دَفْعِ الْوَاجِبِ وَالظَّاهِرُ يَصْلُحُ حُجَّةً لِلدَّافِعِ وَالْحَاجَةُ فِي الْإِتْلَافِ إلَى دَفْعِ الضَّمَانِ وَهُوَ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً فِيهِ وَلِأَنَّهُ يُظْهِرُ حَالَ الْأَطْرَافِ فِيمَا بَعْدَ التَّكْفِيرِ إذَا عَاشَ وَلَا كَذَلِكَ الْإِتْلَافُ فَافْتَرَقَا.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَدِيَةُ الْمَرْأَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ فِي النَّفْسِ وَفِيمَا دُونَهَا) رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ الثُّلُثُ وَمَا دُونَ الثُّلُثِ لَا يَتَنَصَّفُ لِمَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ السُّنَّةُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ السُّنَّةُ إذَا أُطْلِقَتْ يُرَادُ بِهِ سُنَّةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَنَا مَا رَوَيْنَا وَمَا رَوَاهُ أَنَّ كِبَارَ الصَّحَابَةِ أَفْتَوْا بِخِلَافِهِ وَلَوْ كَانَ سُنَّةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَا خَالَفُوهُ.
وَقَوْلُهُ سُنَّةٌ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ سُنَّةُ زَيْدٍ لِأَنَّهُ لَمْ يُرْوَ إلَّا عَنْهُ مَوْقُوفًا وَلِأَنَّ هَذَا يُؤَدِّي إلَى الْمُحَالِ وَهُوَ أَمَّا إذَا كَانَ أَلَمُهَا أَشَدَّ وَمُصَابُهَا أَكْبَرَ أَنْ يَقِلَّ أَرْشُهَا بَيَانُهُ أَنَّهُ لَوْ قُطِعَ إصْبَعٌ مِنْهَا يَجِبُ عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ، وَإِذَا قُطِعَ إصْبَعَانِ يَجِبُ عِشْرُونَ، وَإِذَا قُطِعَ ثَلَاثَةٌ يَجِبُ ثَلَاثُونَ لِأَنَّهَا تُسَاوِي الرَّجُلَ فِيهِ عَلَى زَعْمِهِ لِكَوْنِهِ مَا دُونَ الثُّلُثِ وَلَوْ قُطِعَ أَرْبَعَةٌ يَجِبُ عِشْرُونَ لِلتَّنْصِيفِ فِيمَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ الثُّلُثِ فَقَطْعُ الرَّابِعَةِ لَا يُوجِبُ شَيْئًا بَلْ يُسْقِطُ مَا وَجَبَ بِقَطْعِ الثَّالِثَةِ، وَحِكْمَةُ الشَّارِعِ تُنَافِي ذَلِكَ فَلَا تَجُوزُ نِسْبَتُهُ إلَيْهِ لِأَنَّ مِنْ الْمُحَالِ أَنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ لَا تُوجِبُ شَيْئًا شَرْعًا وَأَقْبَحُ مِنْهُ أَنْ تَسْقُطَ مَا وَجَبَ لِغَيْرِهَا وَهَذَا مِمَّا تُحِيلُهُ الْعُقَلَاءُ بِالْبَدِيهَةِ وَلِأَنَّ الشَّافِعِيَّ يَعْتَبِرُ الْأَطْرَافَ بِالْأَنْفُسِ وَتَرْكُهُ هُنَا حَيْثُ نَصَّفَ دِيَةَ النَّفْسِ وَلَمْ يُنَصِّفْ دِيَةَ الْأَطْرَافِ إلَّا إذَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَدِيَةُ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ سَوَاءٌ) لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى فِي مُسْتَأْمَنٍ قَتَلَهُ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ بِمِائَةٍ مِنْ الْإِبِلِ» وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «وَدِيَةُ كُلِّ ذِي عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ أَلْفُ دِينَارٍ» وَعَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كَانَا يَجْعَلَانِ دِيَةَ الذِّمِّيِّ مِثْلَ دِيَةِ الْمُسْلِمِ وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّمَا بَذَلُوا الْجِزْيَةَ لِتَكُونَ دِمَاؤُهُمْ كَدِمَائِنَا وَأَمْوَالُهُمْ كَأَمْوَالِنَا وَفِي ظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] دَلَالَةٌ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ ظَاهِرُ مَا هُوَ الْمُرَادُ مَنْ قَوْله تَعَالَى فِي قَتْلِ الْمُؤْمِنِ {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] لِأَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ مُتَقَوِّمُونَ لِإِحْرَازِهِمْ أَنْفُسَهُمْ بِالدَّارِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونُوا مُلْحَقِينَ بِالْمُسْلِمِينَ إذْ يَجِبُ بِقَتْلِهِمْ مَا يَجِبُ بِقَتْلِهِمْ أَنْ لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ.
أَلَا تَرَى أَنَّ أَمْوَالَهُمْ لَمَّا كَانَتْ مَعْصُومَةً مُتَقَوِّمَةً يَجِبُ بِإِتْلَافِهَا مَا يَجِبُ بِإِتْلَافِ مَالِ الْمُسْلِمِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي أَمْوَالِهِمْ فَمَا ظَنُّك فِي أَنْفُسِهِمْ وَلَا يُقَالُ إنَّ نَقْصَ الْكُفْرِ فَوْقَ نَقْصِ الْأُنُوثَةِ وَالرِّقِّ فَوَجَبَ أَنْ تُنْتَقَصَ دِيَتُهُ بِهِ كَمَا تُنْتَقَصُ بِالْأُنُوثَةِ وَالرِّقِّ وَلِأَنَّ الرِّقَّ أَثَرُ الْكُفْرِ، فَإِذَا انْتَقَصَ بِأَثَرِهِ فَأَوْلَى أَنْ يَنْتَقِصَ بِهِ لِأَنَّا نَقُولُ نُقْصَانُ دِيَةِ الْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ لَا بِاعْتِبَارِ نُقْصَانِ الْأُنُوثَةِ وَالرِّقِّ بَلْ بِاعْتِبَارِ نُقْصَانِ صِفَةِ الْمَالِكِيَّةِ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَمْلِكُ النِّكَاحَ وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ الْمَالَ وَالْحُرُّ الذَّكَرُ يَمْلِكُهُمَا وَلِهَذَا زَادَتْ قِيمَتُهُ وَنَقَصَتْ قِيمَتُهُمَا وَالْكَافِرُ يُسَاوِي الْمُسْلِمَ فِي هَذَا الْمَعْنَى فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَدَلُهُ كَبَدَلِهِ وَالْمُسْتَأْمِنُ دِيَتُهُ مِثْلُ دِيَةِ الذِّمِّيِّ فِي الصَّحِيحِ لِمَا رَوَيْنَا.

[فَصْلٌ فِي بَيَانِ مَا يُلْحَقُ بِدِيَةِ النَّفْسِ]
(فَصْلٌ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ دِيَةِ النَّفْسِ شَرَعَ يَذْكُرُ مَا يُلْحَقُ بِهَا فِيهَا قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (فِي النَّفْسِ وَالْمَارِنِ) يَعْنِي تَجِبُ الدِّيَةُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي الْأَنْفِ الدِّيَةُ وَفِي الْمَارِنِ الدِّيَةُ وَالْمَارِنُ مَا لَانَ مِنْ الْأَنْفِ وَفِي الذَّخِيرَةِ فِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ وَفِي الْأَصْلِ وَإِذَا قُطِعَ أَنْفَ رَجُلٍ وَذَهَبَ شَمُّهُ تَجِبُ دِيَةٌ كَامِلَةٌ وَفِي الظَّهِيرِيَّةِ وَبِهِ يُفْتَى وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ تَجِبُ حُكُومَةُ الْعَدْلِ وَفِي الْكَافِي وَلَوْ قُطِعَ الْمَارِنُ مَعَ الْقَصَبَةِ لَا يُزَادُ عَلَى دِيَةٍ وَاحِدَةٍ وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ ذَهَابِ الشَّمِّ أَنْ يُوضَعَ بَيْنَ يَدَيْهِ مَا لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ فَإِنْ نَفَرَ عَنْ ذَلِكَ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ شَمُّهُ وَفِي الْمُنْتَقَى إذَا جَنَى عَلَيْهِ فَصَارَ لَا يَسْتَنْثِرُ مِنْ أَنْفِهِ وَلَكِنْ يَسْتَنْثِرُ مِنْ فَمِهِ فَعَلَيْهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ.
وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ إذَا قُطِعَ الْمَارِنُ ثُمَّ الْأَنْفُ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْبُرْءِ تَجِبُ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْبُرْءِ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي الْمَارِنِ وَحُكُومَةُ الْعَدْلِ فِي الْبَاقِي وَفِي جِنَايَاتِ الْحَسَنِ إذَا كَانَ أَنْفُ الْقَاطِعِ أَصْفَرَ كَانَ الْمَقْطُوعُ أَنْفَهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَطَعَ أَنْفَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ أَرْشَهُ، فَإِنْ كَانَ فِي أَنْفِ الْقَاطِعِ نُقْصَانٌ مِنْ شَيْءٍ أَصَابَهُ أَوْ كَانَ أَخْشَمَ لَا يَجِدُ الرِّيحَ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ وَفِي الْحَاوِي أَخْشَمُ يَعْنِي أَصْغَرَ أَوْ أَخْرَقَ فَالْمَقْطُوعُ أَنْفُهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَطَعَ أَنْفَ

(8/375)


الْقَاطِعِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ دِيَةَ الْأَنْفِ وَفِي الْكُبْرَى: لَوْ قَطَعَ الْأَنْفَ مِنْ أَصْلِ الْعَظْمِ اُقْتُصَّ مِنْهُ وَمَعْنَاهُ مَا يَلِيهِ الْمَارِنُ، فَإِنَّهُ قَالَ لَوْ ضَرَبَ أَنْفَهُ فَوْقَ الْعَظْمِ فَانْكَسَرَ الْعَظْمُ وَتُدَغْدَغ اللَّحْمُ حَتَّى ذَهَبَ بِالْأَنْفِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ قِصَاصٌ وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ الْمَارِنَ وَهِيَ أَرْنَبَتُهُ يُقْتَصُّ مِنْهُ، وَإِنْ قُطِعَ مِنْ أَصْلِهِ فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ عَظْمٌ وَلَيْسَ بِمِفْصَلٍ وَالْجَوَابُ أَمَّا السِّنُّ فَقَدْ قِيلَ إنَّهُ لَيْسَ بِعَظْمٍ، وَإِنَّمَا هُوَ عَصَبٌ يَنْعَقِدُ وَلَوْ كَانَ عَظْمًا لَنَبَتَ إذَا كُسِرَ بِخِلَافِ سَائِرِ الْعِظَامِ وَمُرَادُ مُحَمَّدٍ الْعِظَامُ الَّذِي لَا يُنْتَقَصُ عَلَى حَسَبِ الْمُرَادِ إلَّا أَنَّهُ سَامَحَ وَأَوْجَزَ فِي اللَّفْظِ وَفِي الْقُدُورِيِّ فِي الْأَنْفِ الْمَقْطُوعَةِ أَرْنَبَتُهُ حُكُومَةُ عَدْلٍ وَفِي الْأَصْلِ إذَا انْكَسَرَ أَنْفُ إنْسَانٍ فَفِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ، وَإِذَا قُطِعَ كُلُّ الْمَارِنِ عَمْدًا يَجِبُ الْقِصَاصُ، وَإِذَا قُطِعَ بَعْضُهُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ، وَإِذَا قُطِعَ بَعْضُ عَصَبَةِ الْأَنْفِ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ بِالِاتِّفَاقِ.
وَإِذَا قُطِعَ كُلُّ الْأَنْفِ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَجِبُ هَكَذَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ قَالَ الْقُدُورِيُّ أَرَادَ بِقَوْلِهِ إذَا قُطِعَ كُلُّ الْأَنْفِ يَجِبُ الْفَاضِلُ عَنْ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فِي الْمَارِنِ أَمَّا عَصَبَةُ الْأَنْفِ عَظْمٌ وَلَا قِصَاصَ فِي الْعَظْمِ بِالْإِجْمَاعِ وَقَدَّمْنَا ذَلِكَ بِتَفَاصِيلِهِ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَفِي اللِّسَانِ وَالذَّكَرِ وَالْحَشَفَةِ) يَعْنِي الدِّيَةَ أَمَّا اللِّسَانُ قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ يُرِيدُ بِهِ حَالَةَ الْخَطَأِ، وَإِذَا قُطِعَ بَعْضُ اللِّسَانِ إنْ مَنَعَهُ عَنْ الْكَلَامِ فَفِيهِ كَمَالُ الدِّيَةِ، وَأَمَّا إذَا مَنَعَهُ عَنْ بَعْضِ الْكَلَامِ دُونَ الْبَعْضِ، فَإِنَّهُ تَجِبُ الدِّيَةُ بِقَدْرِ مَا فَاتَ إنْ كَانَ الْفَائِتُ نِصْفًا يَجِبُ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَإِنْ كَانَ رُبْعًا يَجِبُ رُبْعُ الدِّيَةِ وَكَيْفَ نَعْرِفُ مِقْدَارَ الْفَائِتِ مِنْ الْبَاقِي اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ الْمُتَأَخِّرُونَ قَالَ بَعْضُهُمْ يُعْرَفُ بِالتَّهَجِّي بِحُرُوفِ الْمُعْجَمِ الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ كَلَامِ الْعَرَبِ وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ حَرْفًا، فَإِنْ أَمْكَنَهُ التَّكَلُّمُ بِنِصْفِ الْحُرُوفِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ وَعَجَزَ عَنْ النِّصْفِ عُلِمَ أَنَّ الْفَائِتَ نِصْفُ الْكَلَامِ فَتَجِبُ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَإِنْ أَمْكَنَهُ التَّكَلُّمُ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعٍ مِنْهَا وَذَلِكَ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ كَانَ الْفَائِتُ هُوَ الرُّبْعَ فَيَجِبُ رُبْعُ الدِّيَةِ، وَإِنْ أَمْكَنَهُ التَّكَلُّمُ بِرُبْعِهَا وَهُوَ سَبْعَةٌ كَانَ الْفَائِتُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهِ فَيَلْزَمُهُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ وَالْأَصْلُ فِي هَذَا مَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قُطِعَ طَرَفُ لِسَانِهِ فِي زَمَنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَأَمَرَهُ أَنْ يَقْرَأَ: أَبَ تَ ثَ فَمَا قَرَأَ حَرْفًا أَسْقَطَ مِنْ الدِّيَةِ بِقَدْرِ ذَلِكَ وَمَا لَمْ يَقْرَأْهُ أَوْجَبَ الدِّيَةَ بِحِسَابِ ذَلِكَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا يُهَجَّى بِجَمِيعِ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ، وَإِنَّمَا يَتَهَجَّى بِالْحُرُوفِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِاللِّسَانِ اللَّازِمَةِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ التَّهَجِّي بِالنِّصْفِ كَانَ الْفَائِتُ نِصْفًا فَيَلْزَمُهُ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَإِنْ أَمْكَنَهُ التَّكَلُّمِ بِالثُّلُثِ يَلْزَمُهُ ثُلُثَا الدِّيَةِ قَالُوا وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. اهـ.
وَفِي التَّجْرِيدِ الْمُعْتَبَرُ الْحُرُوفُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِاللِّسَانِ فَالْهَوَائِيَّةُ وَالْحَلْقِيَّةُ وَالشَّفَوِيَّةُ لَا تَدْخُلُ فِي الْقِسْمَةِ وَفِي السِّغْنَاقِيِّ الْحُرُوفُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِاللِّسَانِ وَهِيَ الْأَلْفُ وَالتَّاءُ وَالثَّاءُ وَالْجِيمُ وَالدَّالُ وَالذَّالُ وَالرَّاءُ وَالزَّايُ وَالسِّينُ وَالشَّيْنُ وَالصَّادُ وَالضَّادُ وَالطَّاءُ وَالظَّاءُ وَاللَّامُ وَالنُّونُ وَالْيَاءُ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ إتْيَانٌ بِحَرْفٍ مِنْهَا يَلْزَمُهُ حِصَّتُهُ مِنْ الدِّيَةِ فَأَمَّا الْهَوَائِيَّةُ وَالْحَلْقِيَّةُ وَالشَّفَوِيَّةُ فَلَا تَدْخُلُ فِي الْقِسْمَةِ فَالشَّفَوِيَّةُ الْبَاءُ وَالْمِيمُ وَالْوَاوُ وَالْحَلْقِيَّةُ الْهَاءُ وَالْعَيْنُ وَالْغَيْنُ وَالْحَاءُ وَالْخَاءُ وَالْقَافُ هَذَا كُلُّهُ فِي لِسَانِ الْبَالِغِ وَالْكَلَامُ فِي لِسَانِ الصَّبِيِّ يَأْتِي بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِذَا قَطَعَ لِسَانَ غَيْرِهِ عَمْدًا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ بِقَطْعِ الْبَعْضِ أَوْ قَطْعِ الْكُلِّ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا قَطَعَ الْكُلَّ فَفِيهِ الْقِصَاصُ وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ، وَإِذَا قُطِعَ اللِّسَانُ أَنْ لَا قِصَاصَ فِيهِ بِالْإِجْمَاعِ وَفِي الْعُيُونِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي اللِّسَانِ إذَا أُمْكِنَ الْقِصَاصُ يُقْتَصُّ وَفِي الظَّهِيرِيَّةِ وَالْفَتْوَى عَلَى لَا قِصَاصَ فِي اللِّسَانِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ فِيهِ لِأَنَّهُ يَنْقَبِضُ وَيَنْبَسِطُ وَفِي الْوَاقِعَاتِ لَا قِصَاصَ فِي اللِّسَانِ، وَإِنْ قُطِعَ مِنْ وَسَطِ اللِّسَانِ أَوْ مِنْ طَرَفِهِ، فَإِنْ ادَّعَى ذَهَابَ الْكَلَامِ يَشْتَغِلُ عَنْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَهُ أَوْ لَا يَسْمَعَ وَفِي لِسَانِ الْأَخْرَسِ حُكُومَةُ عَدْلٍ وَأَطْلَقَ الْمُؤَلِّفُ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ فِي الذَّكَرِ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ شَابٍّ وَشَيْخٍ وَلَا بَيْنَ مَرِيضٍ وَصَحِيحٍ وَلَا بَيْنَ ذَكَرٍ خَصِيٍّ وَعِنِّينٍ وَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ ذَلِكَ وَلَوْ قَالَ وَيُقْطَعُ ذَكَرٌ يَفُوتُ بِهِ الْإِيلَاجُ لَكَانَ أَوْلَى وَفِي الْمُحِيطِ وَفِي ذَكَرِ الْخَصِيِّ وَالْعِنِّينِ حُكُومَةُ عَدْلٍ وَعَنْ الشَّافِعِيِّ كَمَالُ الدِّيَةِ قُلْنَا ذَكَرُ الْخَصِيِّ وَالْعِنِّينِ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْإِيلَاجُ بِنَفْسِهِ فَلَا تَجِبُ فِيهِ دِيَةٌ.
وَفِي ذَكَرِ الْمَرِيضِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ لِأَنَّهُ بِزَوَالِ الْمَرَضِ يَعُودُ إلَى قُوَّتِهِ الْكَامِلَةِ وَفِي ذَكَرِ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ إنْ كَانَ لَا يَتَحَرَّكُ وَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الْوَطْءِ حُكُومَةُ عَدْلٍ، وَإِنْ كَانَ يَتَحَرَّكُ وَيَقْدِرُ عَلَى الْوَطْءِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ وَفِي قَطْعِ الْحَشَفَةِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ وَفِي قَطْعِ الذَّكَرِ الْمَقْطُوعِ الْحَشَفَةِ حُكُومَةُ عَدْلٍ وَفِي التَّجْرِيدِ وَفِي الْأُنْثَيَيْنِ كَامِلَةٌ كَمَالَ الدِّيَةِ وَفِيهِ أَيْضًا وَفِي قَطْعِ الْحَشَفَةِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، فَإِنْ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَطَعَ بَاقِيَ الذَّكَرِ قَبْلَ

(8/376)


تَخَلُّلِ بُرْءٍ تَجِبُ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ كَامِلَةٌ وَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ قَطَعَ الذَّكَرَ بِدَفْعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنْ تَخَلَّلَ بَيْنَهُمَا بُرْءٌ يَجِبُ كَمَالُ الدِّيَةِ فِي الْحَشَفَةِ وَحُكُومَةُ الْعَدْلِ فِي الْبَاقِي، وَإِذَا قُطِعَ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَيَيْنِ مِنْ الرَّجُلِ الصَّحِيحِ خَطَأً إنْ بَدَأَ بِقَطْعِ الذَّكَرِ فَفِيهِ دِيَتَانِ وَفِي التَّجْرِيدِ وَكَذَا إذَا قَطَعَهُمَا مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ مَعًا فَفِيهِ دِيَتَانِ وَفِي التُّحْفَةِ وَفِي الْأُنْثَيَيْنِ إذَا قَطَعَهُمَا مَعَ الذَّكَرِ جُمْلَةً مَرَّةً وَاحِدَةً فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ يَجِبُ عَلَيْهِ دِيَتَانِ دِيَةٌ بِإِزَاءِ الذَّكَرِ وَدِيَةٌ بِإِزَاءِ الْأُنْثَيَيْنِ، وَإِنْ قُطِعَ الذَّكَرُ أَوَّلًا ثُمَّ الْأُنْثَيَيْنِ يَجِبُ دِيَتَانِ أَيْضًا لِأَنَّ بِقَطْعِ الذَّكَرِ تَفُوتُ مَنْفَعَةُ الْأُنْثَيَيْنِ وَهِيَ إمْسَاكُ الْمَنِيِّ فَأَمَّا إذَا قَطَعَ الْأُنْثَيَيْنِ أَوَّلًا ثُمَّ الذَّكَرَ تَجِبُ الدِّيَةُ بِقَطْعِ الْأُنْثَيَيْنِ وَيَجِبُ بِقَطْعِ الذَّكَرِ حُكُومَةُ الْعَدْلِ وَفِي الْأُنْثَيَيْنِ إذَا قَطَعَهُمَا خَطَأً كَمَالُ الدِّيَةِ وَفِي الظَّهِيرِيَّةِ وَفِي أَحَدِهِمَا نِصْفُ الدِّيَةِ وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ وَفِي الْمُنْتَقَى عَنْ مُحَمَّدٍ إذَا قَطَعَ إحْدَى أُنْثَيَيْهِ فَانْقَطَعَ مَاؤُهُ دِيَةٌ وَنِصْفٌ وَلَا يُعْلَمُ ذَهَابُ الْمَاءِ إلَّا بِإِقْرَارِ الْجَانِي.
فَإِنْ قَطَعَ الْبَاقِيَ مِنْ إحْدَى الْأُنْثَيَيْنِ يَجِبُ نِصْفُ الدِّيَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ إذَا قَطَعَ الْأُنْثَيَيْنِ عَمْدًا هَلْ يَجِبُ الْقِصَاصُ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَجِبُ فِيهِمَا الْقِصَاصُ حَالَةَ الْعَمْدِ، وَإِنْ قَطَعَ الْحَشَفَةَ كُلَّهَا عَمْدًا فَفِيهَا الْقِصَاصُ، وَإِنْ قَطَعَ بَعْضَهَا فَلَا قِصَاصَ فِيهِ وَلَوْ قَطَعَ الذَّكَرَ كُلَّهُ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ لِأَنَّهُ يَنْقَبِضُ وَيَنْبَسِطُ فَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ فِيهِ وَصَارَ كَاللِّسَانِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَفِي الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالشَّمِّ وَالذَّوْقِ) يَعْنِي تَجِبُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دِيَةٌ كَامِلَةٌ أَمَّا الْعَقْلُ فَلِأَنَّ بِذَهَابِهِ تَذْهَبُ مَنَافِعُ الْأَعْضَاءِ كُلِّهَا لِأَنَّ أَفْعَالَ الْمَجْنُونِ تَجْرِي مَجْرَى أَفْعَالِ الْبَهَائِمِ.
وَأَمَّا السَّمْعُ فَلِأَنَّهُ بِفَوَاتِهِ يَفُوتُ جِنْسُ الْمَنْفَعَةِ عَلَى الْكَمَالِ وَهُوَ مَنْفَعَةُ الِاسْتِمَاعِ، وَأَمَّا الشَّمُّ فَلِأَنَّ بِفَوَاتِهِ يَفُوتُ إدْرَاكُ الرَّوَائِحِ الطَّيِّبَةِ وَالتَّفْرِقَةُ بَيْنَ الرَّائِحَةِ الطَّيِّبَةِ وَالْخَبِيثَةِ، وَأَمَّا الذَّوْقُ فَلِأَنَّ بِفَوَاتِهِ يَفُوتُ إدْرَاكُ الْحَلَاوَةِ وَالْمَرَارَةِ وَالْحُمُوضَةِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَضَى لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ بِأَرْبَعِ دِيَاتٍ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَعَتْ عَلَى رَأْسِهِ ذَهَبَ بِهَا عَقْلُهُ وَسَمْعُهُ وَبَصَرُهُ وَكَلَامُهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لَا يُعْرَفُ الذَّهَابُ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْجَانِي لِأَنَّهُ الْمُنْكِرُ وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ إلَّا إذَا صَدَّقَهُ أَوْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ وَقِيلَ ذَهَابُ الْبَصَرِ تَعْرِفُهُ الْأَطِبَّاءُ فَيَكُونُ فِيهِ قَوْلُ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ مِنْهُمْ حُجَّةٌ فِيهِ وَقِيلَ يَسْتَقْبِلُ بِهِ الشَّمْسَ مَفْتُوحَ الْعَيْنَيْنِ، فَإِذَا دَمَعَتْ عَيْنُهُ عَلِمَ أَنَّهَا بَاقِيَةٌ وَإِلَّا فَلَا وَقِيلَ يُلْقِي بَيْنَ يَدَيْهِ حَيَّةً، فَإِنْ هَرَبَ مِنْهَا عُلِمَ أَنَّهَا لَمْ تَذْهَبْ، وَإِنْ لَمْ يَهْرُبْ فَهِيَ ذَاهِبَةٌ وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ ذَهَابِ السَّمْعِ أَنْ يُغَافَلَ ثُمَّ يُنَادَى، فَإِنْ أَجَابَ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ وَإِلَّا فَهُوَ ذَاهِبٌ وَرَوَى إسْمَاعِيلُ بْنُ حَمَّادٍ أَنَّ امْرَأَةً ادَّعَتْ أَنَّهَا لَا تَسْمَعُ وَتَطَارَشَتْ فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ فَاشْتَغَلَ بِالْقَضَاءِ عَنْ النَّظَرِ إلَيْهَا ثُمَّ قَالَ لَهَا فَجْأَةً غَطِّي عَوْرَتَك فَاضْطَرَبَتْ وَتَسَارَعَتْ إلَى جَمْعِ ثِيَابِهَا فَظَهَرَ كَذِبُهَا.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَاللِّحْيَةُ إنْ لَمْ تَنْبُتْ وَشَعْرُ الرَّأْسِ وَالْعَيْنَيْنِ وَالْأُذُنَيْنِ وَالْحَاجِبَيْنِ وَثَدْيَيْ الْمَرْأَةِ الدِّيَةُ وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ نِصْفُ الدِّيَةِ وَفِي أَجْفَانِ الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ وَفِي أَحَدِهِمَا رُبْعُ الدِّيَةِ) يَعْنِي إذَا حَلَقَ اللِّحْيَةَ أَوْ شَعْرَ الرَّأْسِ وَلَمْ يَنْبُتْ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دِيَةٌ كَامِلَةٌ لِأَنَّهُ أَزَالَ جَمَالًا عَلَى الْكَمَالِ وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ لَا تَجِبُ فِيهَا الدِّيَةُ وَتَجِبُ فِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ لِأَنَّ ذَلِكَ زِيَادَةٌ فِي الْآدَمِيِّ وَلِهَذَا يَنْمُو بَعْدَ كَمَالِ الْخِلْقَةِ وَلِهَذَا تُحْلَقُ الرَّأْسُ وَاللِّحْيَةُ وَبَعْضُهَا فِي بَعْضِ الْبِلَادِ فَلَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الدِّيَةُ كَشَعْرِ الصَّدْرِ وَالسَّاقِ إذْ لَا تَتَعَلَّقُ بِهِ مَنْفَعَةٌ وَلِهَذَا لَا تَجِبُ فِي شَعْرِ الْعَبِيدِ نُقْصَانُ الْقِيمَةِ وَلَنَا قَوْلُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الرَّأْسِ إذَا حُلِقَ وَلَمْ يَنْبُتْ الدِّيَةُ كَامِلَةً وَالْمَوْقُوفُ فِي هَذَا كَالْمَرْفُوعِ لِأَنَّهُ مِنْ الْمَقَادِيرِ فَلَا يُهْتَدَى إلَيْهِ بِالرَّأْيِ لِأَنَّ اللِّحْيَةَ فِي أَوَانِهَا جَمَالٌ فَيَلْزَمُهُ كَمَالُ الدِّيَةِ كَمَا لَوْ قَطَعَ الْأُذُنَيْنِ الشَّاخِصَيْنِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ جَمَالٌ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً تَسْبِيحُهُمْ سُبْحَانَ مَنْ زَيَّنَ الرِّجَالَ بِاللِّحَاءِ وَالنِّسَاءَ بِالْقُدُودِ وَالذَّوَائِبِ» بِخِلَافِ شَعْرِ الصَّدْرِ وَالسَّاقِ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْجَمَالُ، وَأَمَّا شَعْرُ الْعَبْدِ فَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ كَمَالُ الْقِيمَةِ فَلَا يَلْزَمُنَا وَالْجَوَابُ عَنْ الظَّاهِرِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْعَبْدِ الِاسْتِخْدَامُ دُونَ الْجَمَالِ وَهُوَ لَا يَفُوتُ بِالْحَلْقِ بِخِلَافِ الْحُرِّ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ فِي حَقِّهِ الْجَمَالُ فَيَجِبُ بِفَوَاتِهِ كَمَالُ الدِّيَةِ وَفِي الشَّارِبِ حُكُومَةُ عَدْلٍ فِي الصَّحِيحِ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِلْحَيَّةِ فَصَارَ طَرَفًا مِنْ أَطْرَافِ اللِّحْيَةِ وَاخْتَلَفُوا فِي لِحْيَةِ الْكَوْسَجِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إنْ كَانَ فِي ذَقَنِهِ شَعَرَاتٌ مَعْدُودَةٌ فَلَيْسَ فِي حَلْقِهَا شَيْءٌ لِأَنَّ وُجُودَهَا يَشِينُهُ وَلَا يَزِينُهُ.
وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ كَانَ عَلَى الْخَدِّ وَالذَّقَنِ جَمِيعًا وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُتَّصِلٍ فَفِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ لِأَنَّ فِيهِ بَعْضَ الْجَمَالِ، وَإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا فَفِيهِ كَمَالُ الدِّيَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِكَوْسَجٍ

(8/377)


وَفِي لِحْيَتِهِ كَمَالُ جَمَالٍ وَهَذَا كُلُّهُ إذَا انْسَدَّ الْمَنْبَتُ، فَإِنْ نَبَتَ حَتَّى اسْتَوَى كَمَا كَانَ لَا يَجِبُ شَيْءٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لِفِعْلِ الْجَانِي أَثَرٌ فِي الْبَدَنِ وَلَكِنَّهُ يُؤَدَّبُ عَلَى ذَلِكَ لِارْتِكَابِهِ الْمُحَرَّمَ، وَإِنْ نَبَتَ أَبْيَضَ فَقَدْ ذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْحُرِّ لِأَنَّ الْجَمَالَ يَزْدَادُ بِبَيَاضِ الشَّعْرِ فِي اللِّحْيَةِ وَعِنْدَهُمَا تَجِبُ حُكُومَةُ عَدْلٍ لِأَنَّ الْبَيَاضَ يَشِينُهُ فِي غَيْرِ أَوَانِهِ فَتَجِبُ حُكُومَةُ عَدْلٍ بِاعْتِبَارِهِ وَفِي الْعَبْدِ تَجِبُ حُكُومَةُ عَدْلٍ عِنْدَهُمْ لِأَنَّهُ تُنْتَقَصُ بِهِ قِيمَتُهُ وَيَسْتَوِي الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ فِي حَلْقِ الشَّعْرِ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَجِبُ فِيهِ لِأَنَّهُ عُقُوبَةٌ فَلَا يَثْبُتُ فِيهَا قِيَاسًا، وَإِذَا ثَبَتَ نَصًّا أَوْ دَلَالَةً وَالنَّصُّ إنَّمَا وَرَدَ فِي النَّفْسِ وَالْجِرَاحَاتِ وَيُؤَجَّلُ فِيهِ سَنَةً، فَإِنْ لَمْ يَنْبُتْ فِيهَا وَجَبَتْ الدِّيَةُ وَيَسْتَوِي فِيهَا الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ تَمَامِ السَّنَةِ وَلَمْ يَنْبُتْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ أَمَّا مَا يَكُونُ مُزْدَوَجًا فِي الْأَعْضَاءِ كَالْعَيْنَيْنِ وَالْيَدَيْنِ فَفِي قَطْعِهِمَا كَمَالُ الدِّيَةِ وَفِي قَطْعِ أَحَدِهِمَا نِصْفُ الدِّيَةِ وَأَصْلُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ «فِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ وَفِي أَحَدِهِمَا نِصْفُ الدِّيَةِ وَفِي الرِّجْلَيْنِ الدِّيَةُ وَفِي أَحَدِهِمَا نِصْفُ الدِّيَةِ» وَلِأَنَّ تَفْوِيتَ اثْنَيْنِ مِنْهَا تَفْوِيتُ الْمَنْفَعَةِ أَوْ تَفْوِيتُ الْجَمَالِ عَلَى الْكَمَالِ.
وَفِي تَفْوِيتِ الرِّجْلَيْنِ تَفْوِيتُ مَنْفَعَةِ الْمَشْيِ وَفِي تَفْوِيتِ الْأُنْثَيَيْنِ تَفْوِيتُ مَنْفَعَةِ الْإِمْنَاءِ وَالنَّسْلِ وَفِي ثَدْيَيْ الْمَرْأَةِ تَفْوِيتُ مَنْفَعَةِ الْإِرْضَاعِ بِخِلَافِ ثَدْيَيْ الرَّجُلِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَفْوِيتُ الْمَنْفَعَةِ وَلَا الْجَمَالُ عَلَى الْكَمَالِ فَيَجِبُ فِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ وَفِي حَلَمَتَيْ الْمَرْأَةِ كَمَالُ الدِّيَةِ وَفِي أَحَدِهِمَا نِصْفُ الدِّيَةِ لِفَوَاتِ مَنْفَعَةِ الْإِرْضَاعِ وَإِمْسَاكِ الصَّبِيِّ لِأَنَّهَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا حَلَمَةٌ يَتَعَذَّرُ عَلَى الصَّبِيِّ الِالْتِقَامُ عِنْدَ الْإِرْضَاعِ وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ يَجِبُ فِي الْحَاجِبَيْنِ حُكُومَةُ عَدْلٍ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمَا لِأَنَّهُمَا لَا يَرَيَانِ وُجُوبَ الدِّيَةِ فِي الشَّعْرِ وَعِنْدَنَا يَجِبُ فِيهِمَا الدِّيَةُ لِتَفْوِيتِ الْجَمَالِ عَلَى الْكَمَالِ، وَأَمَّا مَا يَكُونُ مِنْ الْأَعْضَاءِ أَرْبَعًا فَهُوَ أَشْفَارُ الْعَيْنَيْنِ فَفِيهَا الدِّيَةُ إذَا قَطَعَهَا وَلَمْ تَنْبُتْ وَفِي أَحَدِهِمَا رُبْعُ الدِّيَةِ لِأَنَّهَا يَتَعَلَّقُ بِهَا الْجَمَالُ عَلَى الْكَمَالِ وَيَتَعَلَّقُ بِهَا دَفْعُ الْأَذَى وَالْقَذَرِ عَنْ الْعَيْنِ وَتَفْوِيتُ ذَلِكَ يُنْقِصُ الْبَصَرَ وَيُورِثُ الْعَمَى، فَإِذَا وَجَبَ فِي الْكُلِّ الدِّيَةُ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ وَجَبَ فِي الْوَاحِدِ مِنْهَا رُبْعُ الدِّيَةِ وَفِي الِاثْنَيْنِ نِصْفُ الدِّيَةِ وَفِي الثَّلَاثِ ثَلَاثُ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي أَشْفَارِ الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ كَامِلَةٌ إذَا لَمْ تَنْبُتْ فَأَرَادَ بِهِ الشَّعْرَ لِأَنَّ الشَّعْرَ هُوَ الَّذِي يَنْبُتُ دُونَ الْجُفُونِ وَأَيُّهُمَا أُرِيدَ كَانَ مُسْتَقِيمًا لِأَنَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّعْرِ دِيَةً كَامِلَةً فَلَا يَخْتَلُّ الْمَعْنَى وَلَوْ قَطَعَ الْجُفُونَ بِأَهْدَابِهَا تَجِبُ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ الْأَشْفَارَ مَعَ الْجُفُونِ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ كَالْمَارِنِ مَعَ الْقَصَبَةِ وَالْمُوضِحَةِ مَعَ الشَّعْرِ.
وَأَمَّا مَا يَكُونُ مِنْ الْأَعْضَاءِ أَعْشَارًا كَالْأَصَابِعِ فَفِي قَطْعِ الْيَدَيْنِ أَوْ الرِّجْلَيْنِ كُلُّ الدِّيَةِ وَفِي قَطْعِ وَاحِدٍ مِنْهَا عُشْرُ الدِّيَةِ وَفِي قَطْعِ الْجُفُونِ الَّتِي لَا شَعْرَ فِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ، وَإِذَا كَانَ الْجَانِي عَلَى الْأَهْدَابِ وَاحِدًا وَعَلَى الْجُفُونِ وَاحِدًا آخَرَ كَانَ عَلَى الَّذِي جَنَى عَلَى الْأَهْدَابِ تَمَامُ الدِّيَةِ وَعَلَى الَّذِي جَنَى عَلَى الْجُفُونِ حُكُومَةُ عَدْلٍ وَفِي الظَّهِيرِيَّةِ وَلَوْ حَلَقَ نِصْفَ اللِّحْيَةِ فَلَمْ تَنْبُتْ وَحَلَقَ رُبْعَ الرَّأْسِ أَوْ نِصْفَ الرَّأْسِ تَجِبُ نِصْفُ الدِّيَةِ لِأَنَّهُ مَا زَالَ الْجَمَالُ عَلَى الْكَمَالِ لِأَنَّ الشَّيْنَ إنَّمَا يَكْمُلُ بِفَوَاتِ الْكُلِّ وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَجِبُ كَمَالُ الدِّيَةِ لِأَنَّ نِصْفَ الْحَلْقِ لَا يَبْقَى زِينَةً فَتَفُوتُ الزِّينَةُ بِالْكُلِّيَّةِ بِفَوَاتِ نِصْفِ اللِّحْيَةِ فَفِيهِ كَمَالُ الدِّيَةِ كَمَا لَوْ قَطَعَ الشَّارِبَ وَفِي لِحْيَةِ الْعَبْدِ حُكُومَةُ عَدْلٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْعَبْدِ الْخِدْمَةُ كَالْجَمَالِ لِأَنَّ لِحْيَةَ الْعَبْدِ جَمَالٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ آدَمِيٌّ نُقْصَانٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ لِأَنَّهُ مِمَّا يُوجِبُ نُقْصَانًا فِي الْمَالِيَّةِ، فَإِنَّهُ لَا يُسَاوِي غَيْرَ الْمُلْتَحِي فِي الْجَمَالِ فَلَمْ يُوجَدْ إزَالَةُ الْجَمَالِ عَلَى الْكَمَالِ وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ تَجِبُ كَمَالُ الدِّيَةِ لَا الْقِيمَةُ لِأَنَّ الْجَمَالَ فِي حَقِّهِ مَقْصُودٌ أَيْضًا، وَإِنْ نَبَتَ مَكَانَهَا أُخْرَى مِثْلَ الْأُولَى فَلَا شَيْءَ فِيهَا كَمَا فِي السِّنِّ، فَإِنْ كَانَتْ الْأُولَى سَوْدَاءَ فَنَبَتَتْ مَكَانَهَا بَيْضَاءُ ذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْحُرِّ لَا يَجِبُ شَيْءٌ وَفِي الْعَبْدِ حُكُومَةُ عَدْلٍ لِأَنَّ الْبَيَاضَ فِي الشَّعْرِ مِمَّا يُنْقِصُ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّ الْبَيَاضَ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ عَيْبٌ وَشَيْنٌ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَفِي كُلِّ إصْبَعٍ مِنْ أَصَابِعِ الْيَدِ أَوْ الرِّجْلِ عُشْرُ الدِّيَةِ وَمَا فِيهَا ثَلَاثُ مَفَاصِلَ فَفِي أَحَدِهَا ثُلُثُ الدِّيَةِ وَنِصْفُهَا لَوْ فِيهَا مِفْصَلَانِ) يَعْنِي مَا يَكُون مِنْ الْأَعْضَاءِ أَعْشَارًا كَالْأَصَابِعِ فَفِي كُلِّ إصْبَعٍ عُشْرُ الدِّيَةِ وَلَوْ قَطَعَ أَصَابِعَ الْيَدَيْنِ أَوْ الرِّجْلَيْنِ فَعَلَيْهِ كُلُّ الدِّيَةِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «وَفِي كُلِّ إصْبَعٍ عَشَرَةٌ مِنْ الْإِبِلِ» وَفِي قَطْعِ الْكُلِّ تَفْوِيتُ مَنْفَعَةِ الْمَشْيِ أَوْ الْبَطْشِ وَفِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ وَهِيَ عَشَرَةٌ فَتُقْسَمُ الدِّيَةُ عَلَيْهَا وَالْأَصَابِعُ كُلُّهَا سَوَاءٌ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا وَلِأَنَّ الْكُلَّ سَوَاءٌ فِي أَصْلِ الْمَنْفَعَةِ

(8/378)


فَلَا تُعْتَبَرُ الزِّيَادَةُ أَمَّا مَا فِيهَا ثَلَاثُ مَفَاصِلَ فَفِي أَحَدِهَا ثُلُثُ دِيَةِ الْإِصْبَعِ لِأَنَّهَا ثُلُثُهَا وَمَا فِيهَا مِفْصَلَانِ كَالْإِبْهَامِ فَفِي أَحَدِهِمَا نِصْفُ دِيَةِ الْإِصْبَعِ لِأَنَّهُ نِصْفُهَا وَهُوَ نَظِيرُ انْقِسَامِ دِيَةِ الْيَدِ عَلَى الْأَصَابِعِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي الْمُخْتَصَرِ وَمَا فِيهَا ثَلَاثُ مَفَاصِلَ فَفِي أَحَدِهَا ثُلُثُ دِيَةِ الْإِصْبَعِ وَنِصْفُهَا لَوْ فِيهَا مِفْصَلَانِ، وَإِذَا قَطَعَ الرَّجُلُ أُذُنَ الرَّجُلِ خَطَأً فَأَثْبَتَهَا الْمَقْطُوعَةُ أُذُنُهُ فِي مَكَانِهَا فَثَبَتَتْ فَعَلَى الْقَاطِعِ أَرْشُ الْأُذُنِ كَامِلًا قَالَ الشَّيْخُ أَحْمَدُ الطَّوَاوِيسِيُّ هَذَا الْجَوَابُ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ الْأُذُنَ لَا يُتَصَوَّرُ إثْبَاتُهَا بِالِاحْتِيَالِ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ بِاتِّصَالِ الْعُرُوقِ، فَإِذَا ثَبَتَتْ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ اتَّصَلَ الْعُرُوقُ وَزَالَتْ الْجِنَايَةُ فَيَزُولُ مُوجِبُهَا وَفِي الْكُبْرَى، وَإِنْ جَذَبَ أُذُنَهُ فَانْتَزَعَ شَحْمَتَهُ فَعَلَيْهِ الْأَرْشُ فِي مَالِهِ دُونَ الْقِصَاصِ لِتَعَذُّرِ مُرَاعَاةِ التَّسَاوِي فِي الْقِصَاصِ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَنْ قَطَعَ أُذُنَ عَبْدٍ أَوْ أَنْفَهُ فَعَلَيْهِ مَا نَقَصَهُ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَفِي كُلِّ سِنٍّ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ أَوْ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ) يَعْنِي فِي كُلِّ سِنٍّ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ وَهُوَ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ أَوْ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «وَفِي كُلِّ سِنٍّ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ» وَالْأَسْنَانُ وَالْأَضْرَاسُ سَوَاءٌ وَهِيَ كُلُّهَا سَوَاءٌ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا وَلِمَا رُوِيَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ وَالْأَسْنَانُ كُلُّهَا لِأَنَّ الْكُلَّ فِي أَصْلِ الْمَنْفَعَةِ سَوَاءٌ فَلَا يُعْتَبَرُ التَّفَاوُتُ فِيهِ كَالْأَيْدِي وَالْأَصَابِعِ وَلَئِنْ كَانَ فِي بَعْضِهَا زِيَادَةُ مَنْفَعَةٍ فَفِي الْآخَرِ زِيَادَةُ الْجَمَالِ فَاسْتَوَيَا فَزَادَتْ دِيَةُ هَذَا الطَّرَفِ عَلَى دِيَةِ النَّفْسِ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ الدِّيَةِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَهُ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ سِنًّا عِشْرُونَ ضِرْسًا وَأَرْبَعَةُ أَنْيَابٍ وَأَرْبَعُ ثَنَايَا وَأَرْبَعُ ضَوَاحِكَ، فَإِذَا وَجَبَ فِي الْوَاحِدَةِ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ يَجِبُ فِي الْكُلِّ دِيَةٌ وَثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ الدِّيَةِ وَذَلِكَ سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ هَذَا إذَا كَانَ خَطَأً، وَأَمَّا إنْ كَانَ عَمْدًا فَفِيهِ الْقِصَاصُ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ. قَوْلُهُمْ: وَالْأَسْنَانُ وَالْأَضْرَاسُ سَوَاءٌ قَالَ فِي الْعِنَايَةِ قَالُوا فِيهِ نَظَرٌ وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ وَالْأَسْنَانُ كُلُّهَا سَوَاءٌ وَيُقَالُ وَالْأَنْيَابُ وَالْأَضْرَاسُ كُلُّهَا سَوَاءٌ لِأَنَّ السِّنَّ اسْمُ جِنْسٍ يَدْخُلُ تَحْتَهُ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ أَرْبَعٌ مِنْهَا ثَنَايَا وَهِيَ الْأَسْنَانُ الْمُتَقَدِّمَةُ اثْنَانِ فَوْقُ وَاثْنَانِ أَسْفَلُ وَمِثْلُهَا رُبَاعِيَّاتٌ وَهِيَ مَا يَلِي الثَّنَايَا وَمِثْلُهَا أَنْيَابٌ تَلِي الرَّبَاعِيَاتِ وَمِثْلُهَا ضَوَاحِكُ تَلِي الْأَنْيَابَ وَاثْنَيْ عَشَرَ سِنًّا تُسَمَّى بِالطَّوَاحِينِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ثَلَاثٌ فَوْقُ وَثَلَاثٌ أَسْفَلُ وَبَعْدَهَا سِنٌّ وَهُوَ آخِرُ الْأَسْنَانِ يُسَمَّى ضِرْسَ الْحُلُمِ لِأَنَّهُ يَنْبُتُ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَقْتَ كَمَالِ الْعَقْلِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ الْأَسْنَانُ وَالْأَضْرَاسُ سَوَاءٌ لِعَوْدِهِ إلَى مَعْنَى أَنْ يُقَالَ الْأَسْنَانُ وَبَعْضُهَا سَوَاءٌ. اهـ.
أَقُولُ: فِي هَذَا النَّظَرِ مُبَالَغَةٌ مَرْدُودَةٌ حَيْثُ قِيلَ فِي أَوَّلِهِ وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ مَا فِي الْكِتَابِ خَطَأٌ وَقَالَ فِي آخِرِهِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ الْأَسْنَانُ وَالْأَضْرَاسُ سَوَاءٌ وَفِيهِ تَصْرِيحٌ بِعَدَمِ صِحَّةِ مَا فِي الْكِتَابِ مَعَ أَنَّ تَصْحِيحَهُ عَلَى طَرِيقِ التَّمَامِ، فَإِنَّ عَطْفَ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ طَرِيقَةٌ مَعْرُوفَةٌ قَدْ ذُكِرَتْ مُرَتَّبَةً فِي عِلْمِ الْبَلَاغَةِ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ فِي التَّنْزِيلِ قَوْله تَعَالَى {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ قَبِيلِ ذَلِكَ وَيَعُودُ حَاصِلُ مَعْنَاهُ إلَى أَنَّهُ يُقَالُ الْأَضْرَاسُ وَمَا عَدَاهَا مِنْ الْأَسْنَانِ سَوَاءٌ، فَإِنَّهُ إذَا عُطِفَ الْخَاصُّ عَلَى الْعَامِّ يُرَادُ بِالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ مَا عَدَا الْمَعْطُوفَ مِنْ أَفْرَادِ الْعَامِّ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فَلَا يَلْزَمُ الْمَحْذُوفُ ثُمَّ إنَّ قَوْلَهُ أَوْ يُقَالُ وَالْأَنْيَابُ وَالْأَضْرَاسُ كُلُّهَا سَوَاءٌ مِثْلُ مَا ذُكِرَ فِي الْإِيرَادِ عَلَى مَا فِي الْكِتَابِ فَلَا مَعْنَى لَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ صَوَابًا دُونَ مَا فِي الْكِتَابِ نَعَمْ الْأَظْهَرُ فِي إفَادَةِ الْمُرَادِ هَاهُنَا أَنْ يُقَالَ وَالْأَسْنَانُ كُلُّهَا سَوَاءٌ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ لَفْظُ الْحَدِيثِ أَوْ أَنْ يُقَالَ فِي الْأَضْرَاسِ وَالثَّنَايَا كُلُّهَا سَوَاءٌ بِالْجَمْعِ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ كَمَا ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَكُلُّ عُضْوٍ ذَهَبَ مَنْفَعَتُهُ فَفِيهِ دِيَةٌ كَيَدٍ شُلَّتْ وَعَيْنٍ ذَهَبَ ضَوْءُهَا) أَيْ إذَا ضَرَبَ عُضْوًا فَذَهَبَ نَفْعُهُ بِضَرْبِهِ فَفِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ كَمَا إذَا ضَرَبَ يَدَهُ فَشُلَّتْ بِهِ أَوْ عَيْنُهُ فَذَهَبَ ضَوْءُهَا لِأَنَّ وُجُوبَ الدِّيَةِ يَتَعَلَّقُ بِتَفْوِيتِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ، فَإِذَا زَالَتْ مَنْفَعَتُهُ كُلُّهَا وَجَبَ عَلَيْهِ أَرْشُ مُوجِبِهِ كُلِّهِ وَلَا عِبْرَةَ لِلصُّورَةِ بِدُونِ الْمَنْفَعَةِ لِكَوْنِهَا تَابِعَةً فَلَا يَكُونُ لَهَا حِصَّةٌ مِنْ الْأَرْشِ إلَّا إذَا تَجَرَّدَتْ عِنْدَ الْإِتْلَافِ بِأَنْ أَتْلَفَ عُضْوًا ذَهَبَ مَنْفَعَتُهُ فَحِينَئِذٍ يَجِبُ فِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ إنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ جَمَالٌ كَالْيَدِ الشَّلَّاءِ أَوْ أَرْشُهُ كَامِلًا إنْ كَانَ فِيهِ جَمَالٌ كَالْأُذُنِ الشَّاخِصَةِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ اعْتِبَارِ الصُّورَةِ وَالْجَمَالِ عِنْدَ انْفِرَادِهِ عَنْ الْمَنْفَعَةِ اعْتِبَارُهُمَا مَعًا بَلْ يَكُونُ تَبَعًا لَهَا فَيَكُونُ الْمَنْظَرُ إلَيْهِ هِيَ الْمَنْفَعَةَ فَقَطْ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ وَكَمْ مِنْ شَيْءٍ يَكُونُ تَبَعًا لِغَيْرِهِ عِنْدَ الْإِتْلَافِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَرْشٌ ثُمَّ إذَا انْفَرَدَ عِنْدَ الْإِتْلَافِ يَكُونُ لَهُ أَرْشٌ أَلَا تَرَى أَنَّ

(8/379)


الْأَعْضَاءَ كُلَّهَا تَبَعٌ لِلنَّفْسِ فَلَا يَكُونُ لَهَا أَرْشٌ إذَا تَلِفَتْ مَعَهَا، وَإِذَا انْفَرَدَتْ بِالْإِتْلَافِ كَانَ لَهَا أَرْشٌ وَمَنْ ضَرَبَ صُلْبَ رَجُلٍ فَانْقَطَعَ مَاؤُهُ تَجِبُ الدِّيَةُ لِأَنَّ فِيهِ تَفْوِيتَ مَنْفَعَةِ الْجَمَالِ عَلَى الْكَمَالِ لِأَنَّ جَمَالَ الْآدَمِيِّ فِي كَوْنِهِ مُنْتَصِبَ الْقَامَةِ وَقِيلَ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] وَلَوْ زَالَتْ الْحُدُوبَةُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِزَوَالِهَا لَا عَنْ أَثَرٍ وَلَوْ بَقِيَ أَثَرُ الضَّرْبَةِ فَفِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ لِبَقَاءِ الشَّيْنِ بِبَقَاءِ أَثَرِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[فَصْلٌ فِي الشِّجَاجِ]
(فَصْلٌ فِي الشِّجَاجِ) الشِّجَاجُ عَشَرَةٌ الْخَارِصَةُ وَهِيَ الَّتِي تَخْرُصُ الْجِلْدَ أَيْ تَخْدِشُهُ وَلَا تُخْرِجُ الدَّمَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ خَرَصَ الْقَصَّارُ الثَّوْبَ إذَا شَقَّهُ فِي الدَّقِّ وَالدَّامِعَةُ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الدَّمْعِ سُمِّيَتْ بِهَا لِأَنَّ الدَّمَ يَخْرُجُ مِنْهَا بِقَدْرِ الدَّمْعِ مِنْ الْقِلَّةِ وَقِيلَ لِأَنَّ عَيْنَيْهِ تَدْمَعُ بِسَبَبِ أَلَمٍ يَحْصُلُ لَهُ مِنْهَا وَفِي الْمُحِيطِ الدَّامِعَةُ هِيَ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْهَا مَا يُشْبِهُ الدَّمْعَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ دَمْعِ الْعَيْنِ وَالدَّامِيَةُ وَهِيَ الَّتِي يَسِيلُ مِنْهَا الدَّمُ وَذَكَرَ الْمَرْغِينَانِيُّ أَنَّ الدَّامِيَةَ هِيَ الَّتِي تُدْمِي مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسِيلَ مِنْهَا دَمٌ هُوَ الصَّحِيحُ يُرْوَى عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ وَالدَّامِعَةُ وَهِيَ الَّتِي يَسِيلُ مِنْهَا الدَّمُ كَدَمْعِ الْعَيْنِ وَمَنْ قَالَ: إنَّ صَاحِبَهَا تَدْمَعُ عَيْنَاهُ مِنْ الْأَلَمِ فَقَدْ أَبْعَدَ وَالْبَاضِعَةُ وَهِيَ الَّتِي تُبْضِعُ الْجِلْدَ أَيْ تَقْطَعُهُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْبَضْعِ وَهُوَ الشَّقُّ وَالْقَطْعُ وَمِنْهُ مُبَضِّعُ الْفِصَادِ أَقُولُ: فِي تَفْسِيرِ الْبَاضِعَةِ بِمَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ فُتُورٌ، وَإِنْ تَابَعَهُ صَاحِبُ الْكَافِي وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ فِيهِ لِأَنَّ قَطْعَ الْجِلْدِ مُتَحَقِّقٌ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى مِنْهَا لَا سِيَّمَا فِي الدَّامِعَةِ وَالدَّامِيَةِ إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ شَيْئًا مِنْ إظْهَارِ الدَّمِ وَأَصَالَتِهِ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ قَطْعِ الْجِلْدِ وَقَدْ صَرَّحَ الشُّرَّاحُ بِتَحَقُّقِ قَطْعِ الْجِلْدِ فِي كُلِّ الْأَنْوَاعِ الْعَشَرَةِ لِلشَّجَّةِ فَكَانَ التَّفْسِيرُ الْمَذْكُورُ شَامِلًا لِلْكُلِّ غَيْرَ مُخْتَصٍّ بِالْبَاضِعَةِ فَالظَّاهِرُ فِي تَفْسِيرِ الْبَاضِعَةِ هُوَ مَا ذُكِرَ فِي الْمُحِيطِ وَالْبَدَائِعِ حَيْثُ قَالَ فِي الْمُحِيطِ ثُمَّ الْبَاضِعَةُ وَهِيَ تُبْضِعُ اللَّحْمَ أَيْ تَقْطَعُهُ وَقَالَ فِي الْبَدَائِعِ وَالْبَاضِعَةُ هِيَ الَّتِي تُبْضِعُ اللَّحْمَ أَيْ تَقْطَعُهُ. اهـ. وَيُعَضِّدُ ذَلِكَ مَا وَقَعَ فِي مُعْتَبَرَاتِ كُتُبِ اللُّغَةِ قَالَ فِي الْمُغْرِبِ وَفِي الشِّجَاجِ الْبَاضِعَةُ وَهِيَ الَّتِي جَرَحَتْ الْجِلْدَ وَشَقَّتْ اللَّحْمَ. اهـ.
وَقَالَ فِي الصِّحَاحِ الْبَاضِعَةُ الشَّجَّةُ الَّتِي تَقْطَعُ الْجِلْدَ وَتَشُقُّ اللَّحْمَ وَتُدْمِي إلَّا أَنَّهَا لَا تُسِيلُ الدَّمَ وَقَالَ فِي الْقَامُوسِ وَالْبَاضِعَةُ الشَّجَّةُ الَّتِي تَقْطَعُ الْجِلْدَ وَتَشُقُّ اللَّحْمَ شَقًّا خَفِيفًا وَتُدْمِي إلَّا أَنَّهَا لَا تُسِيلُ الدَّمَ. اهـ.
لَا يُقَالُ فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُ تَشْبِيهُ الْبَاضِعَةِ بِالْمُتَلَاحِمَةِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا وَالْمُتَلَاحِمَةُ هِيَ الَّتِي تَأْخُذُ فِي اللَّحْمِ وَهَذَا فِي الْمَآلِ غَيْرُ مَا نَقَلْته عَنْ الْمُحِيطِ وَالْبَدَائِعِ فِي تَفْسِيرِ الْبَاضِعَةِ لِأَنَّا نَقُولُ مَنْ فَسَّرَ الْبَاضِعَةَ بِمَا قُلْنَا مِنْ الْمَعْنَى الظَّاهِرِ لَا يَقُولُ بِتَفْسِيرِ الْمُتَلَاحِمَةِ بِمَا ذُكِرَ حَتَّى يَلْزَمَ الِاشْتِبَاهُ بَلْ يَزِيدُ عَلَيْهِ قَيْدًا وَعَنْ هَذَا قَالَ فِي الْمُحِيطِ ثُمَّ الْبَاضِعَةُ وَهِيَ الَّتِي تُبْضِعُ اللَّحْمَ أَيْ تَقْطَعُهُ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَلَا تَنْزِعُ شَيْئًا مِنْ اللَّحْمِ ثُمَّ الْمُتَلَاحِمَةُ وَهِيَ الَّتِي تَقْطَعُ اللَّحْمَ وَتَنْزِعُ شَيْئًا مِنْ اللَّحْمِ إلَى هُنَا لَفْظُ الْمُحِيطِ وَقَالَ فِي الْبَدَائِعِ وَالْبَاضِعَةُ وَهِيَ الَّتِي تُبْضِعُ اللَّحْمَ أَيْ تَقْطَعُهُ وَالْمُتَلَاحِمَةُ هِيَ الَّتِي تَذْهَبُ فِي اللَّحْمِ أَكْثَرُ مِمَّا تَذْهَبُ الْبَاضِعَةُ فِيهِ وَقَالَ فِي الْمُغْرِبِ
وَالْمُتَلَاحِمَةُ مِنْ الشِّجَاجِ هِيَ الَّتِي تَشُقُّ اللَّحْمَ دُونَ الْعَظْمِ ثُمَّ تَتَلَاحَمُ بَعْدَ شَقِّهَا أَيْ تَتَلَاءَمُ. اهـ.
وَقَالَ فِي الصِّحَاحِ وَالْمُتَلَاحِمَةُ الشَّجَّةُ الَّتِي أَخَذَتْ فِي اللَّحْمِ دُونَ الْعَظْمِ ثُمَّ تَتَلَاحَمُ وَلَمْ تَبْلُغْ السِّمْحَاقَ. اهـ.
وَقَالَ فِي الْقَامُوسِ وَشَجَّةٌ مُتَلَاحِمَةٌ أَخَذَتْ فِيهِ وَلَمْ تَبْلُغْ السِّمْحَاقَ وَالْمُتَلَاحِمُ وَهِيَ الَّتِي تَأْخُذُ فِي اللَّحْمِ كُلِّهِ ثُمَّ تَتَلَاحَمُ بَعْدَ ذَلِكَ أَيْ تَلْتَئِمُ وَتَتَلَاصَقُ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ تَفَاؤُلًا عَلَى مَا يَئُولُ إلَيْهِ وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمُتَلَاحِمَةَ قَبْلَ الْبَاضِعَةِ لِأَنَّ الْمُتَلَاحِمَةَ مِنْ قَوْلِهِمْ الْتَحَمَ الشَّيْئَانِ إذَا اتَّصَلَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ فَالْمُتَلَاحِمَةُ هِيَ الَّتِي تُظْهِرُ اللَّحْمَ وَلَا تَقْطَعُهُ وَالْبَاضِعَةُ بَعْدَهَا لِأَنَّهَا تَقْطَعُهُ وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَالْمُتَلَاحِمَةُ تَعْمَلُ فِي قَطْعِ أَكْثَرِ اللَّحْمِ وَهِيَ بَعْدَ الْبَاضِعَةِ وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ الْأَوْجَهُ أَنْ يُقَالَ الْمُتَلَاحِمَةُ أَيْ الْقَاطِعَةُ لِلَّحْمِ وَالِاخْتِلَافُ الَّذِي وُجِدَ فِي الشِّجَاجِ رَاجِعٌ إلَى مَأْخَذِ الِاشْتِقَاقِ لَا إلَى الْحُكْمِ وَالسِّمْحَاقُ وَهِيَ الَّتِي تَصِلُ إلَى السِّمْحَاقِ وَهِيَ الْجِلْدَةُ الرَّقِيقَةُ الَّتِي بَيْنَ اللَّحْمِ وَعَظْمِ الرَّأْسِ وَالْمُوضِحَةُ وَهِيَ الَّتِي تُوضِحُ الْعَظْمَ أَيْ تُبَيِّنُهُ وَالْهَاشِمَةُ وَهِيَ الَّتِي تَهْشِمُ الْعَظْمَ وَالْمُنَقِّلَةُ وَهِيَ الَّتِي تَنْقُلُ الْعَظْمَ بَعْدَ الْكَسْرِ أَيْ تُحَوِّلُهُ وَالْآمَّةُ وَهِيَ الَّتِي تَصِلُ إلَى أُمِّ الدِّمَاغِ وَأُمُّ الدِّمَاغِ هِيَ الْجِلْدَةُ الرَّقِيقَةُ الَّتِي تَجْمَعُ الدِّمَاغَ وَبَعْدَ الْآمَّةِ شَجَّةٌ تُسَمَّى الدَّامِغَةُ بَالِغِينَ الْمُعْجَمَةِ وَهِيَ الَّتِي تَصِلُ إلَى الدِّمَاغِ لَمْ يَذْكُرْهَا مُحَمَّدٌ لِأَنَّ النَّفْسَ لَا تَبْقَى بَعْدَهَا عَادَةً فَتَكُونُ قَتْلًا وَلَا تَكُونُ مِنْ الشِّجَاجِ وَالْكَلَامُ فِي الشِّجَاجِ وَلِذَا لَمْ يَذْكُرْ الْخَارِصَةَ وَالدَّامِغَةَ لِأَنَّهَا لَا يَبْقَى لَهَا فِي الْغَالِبِ أَثَرٌ.

(8/380)


هَذِهِ الشِّجَاجُ تَخْتَصُّ بِالرَّأْسِ وَالْوَجْهِ وَمَا كَانَ فِي غَيْرِهِمَا يُسَمَّى جِرَاحَةً فَهَذَا هُوَ الْحَقِيقَةُ وَالْحُكْمُ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَلَا يَجِبُ بِالْجِرَاحَةِ مَا يَجِبُ بِالشَّجَّةِ مِنْ الْمِقْدَارِ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ بِالنَّقْلِ وَهُوَ إنَّمَا وَرَدَ فِي الشِّجَاجِ وَهِيَ تَخْتَصُّ بِالرَّأْسِ وَالْوَجْهِ فَخَصَّ الْحُكْمَ الْمُقَدَّمَ بِهَا وَلَا يَجُوزُ إلْحَاقُ الْجِرَاحَةِ بِهَا دَلَالَةً وَلَا قِيَاسًا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي مَعْنَاهَا فِي الشَّيْنِ لِأَنَّ الْوَجْهَ وَالرَّأْسَ يَظْهَرَانِ فِي الْغَالِبِ وَغَيْرُهُمَا مَسْتُورٌ غَالِبًا لَا يَظْهَرُ وَاخْتَلَفُوا فِي اللَّحْيَيْنِ فَعِنْدَهُمَا فِي الْوَجْهِ فَيَتَحَقَّقُ الشِّجَاجُ فِيهِمَا فَيَجِبُ فِيهَا مُوجِبُهَا خِلَافًا لِمَا يَقُولُ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فَإِنَّهُ يَقُولُ: إنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ الْوَجْهِ لِأَنَّ الْمُوَاجَهَةَ لَا تَقَعُ بِهِمَا وَنَحْنُ نَقُولُ هُمَا مُتَّصِلَانِ بِالْوَجْهِ مِنْ غَيْرِ فَاصِلٍ وَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْمُوَاجَهَةِ فَصَارَا كَالذَّقَنِ لِأَنَّهُمَا تَحْتَهَا وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَيَجِبُ أَنْ يُفْرَضَ غَسْلُهُمَا فِي الْوُضُوءِ لِأَنَّهُمَا مِنْ الْوَجْهِ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّا تَرَكْنَاهُمَا لِلْإِجْمَاعِ وَلَا إجْمَاعَ هُنَا فَبَقَّيْنَا الْعِبْرَةَ لِلْحَقِيقَةِ وَفِي الْمَبْسُوطِ الشِّجَاجُ فِي الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ أَحَدَ عَشَرَ أَوَّلُهَا الْخَارِصَةُ وَهِيَ تَشُقُّ الْجِلْدَ مَأْخُوذَةً مِنْ قَوْلِهِمْ خَرَصَ الْقَصَّارُ الثَّوْبَ إذَا شَقَّهُ مِنْ الدَّقِّ ثُمَّ الدَّامِعَةُ وَهِيَ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْهَا مَا يُشْبِهُ الدَّمْعَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ دَمْعِ الْعَيْنِ وَلَمْ يَذْكُرْهَا مُحَمَّدٌ لِأَنَّهَا لَمْ يَبْقَ لَهَا أَثَرٌ فِي الْغَالِبِ ثُمَّ الدَّامِيَةُ وَهِيَ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْهَا الدَّمُ ثُمَّ الْبَاضِعَةُ وَهِيَ الَّتِي تُبْضِعُ اللَّحْمَ ثُمَّ الْمُتَلَاحِمَةُ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ جَعَلَ الْمُتَلَاحِمَةَ قَبْلَ الْبَاضِعَةِ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ وَتَفْسِيرُهَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الَّتِي تُقَشِّرُ الْجِلْدَ وَتَجْمَعُ اللَّحْمَ فِي مَوْضِعِ الْجِرَاحَةِ وَلَا تَقْطَعُهُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْتِحَامٍ يُقَالُ الْتَحَمَ الْجَيْشَانِ إذَا اجْتَمَعَا ثُمَّ السِّمْحَاقُ وَهِيَ الَّتِي تَصِلُ إلَى جِلْدَةٍ رَقِيقَةٍ فَوْقَ الْعَظْمِ تُسَمَّى السِّمْحَاقُ ثُمَّ الْمُوضِحَةُ وَهِيَ الَّتِي تُوضِحُ الْعَظْمَ وَاللَّحْمَ ثُمَّ الْهَاشِمَةُ وَهِيَ الَّتِي تَهْشِمُ الْعَظْمَ ثُمَّ الْمُنَقِّلَةُ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْهَا الْعَظْمُ لِأَنَّهَا تَكْسِرُ الْعَظْمَ وَتَنْقُلُهُ عَنْ مَوْضِعِهِ ثُمَّ الْآمَّةُ الَّتِي تَصِلُ إلَى أُمِّ الرَّأْسِ وَهِيَ الْجِلْدَةُ الَّتِي فَوْقَ الدِّمَاغِ ثُمَّ الدَّامِغَةُ الَّتِي تَخْرِقُ الْجِلْدَ وَتَصِلُ إلَى الدِّمَاغِ وَلَمْ يَذْكُرْهَا مُحَمَّدٌ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَعِيشُ مَعَهَا، وَأَمَّا أَحْكَامُهَا، فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الشِّجَاجُ عَمْدًا فَفِي الْمُوضِحَةِ الْقِصَاصُ لِأَنَّ السِّكِّينَ يَنْتَهِي إلَى الْعَظْمِ وَلَا يَخَافُ مِنْهُ الْهَلَاكَ غَالِبًا فَيَجِبُ الْقِصَاصُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ الشِّجَاجِ إلَّا فِي الْقِصَاصِ وَالْمُوضِحَةِ وَلَيْسَ لِهَذِهِ الشِّجَاجِ أُرُوشٌ مُقَدَّرَةٌ وَمُوجِبُ هَذِهِ الشِّجَاجِ لَا يَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ، فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الشِّجَاجُ خَطَأً فَفِيمَا قَبْلَ الْمُوضِحَةِ حُكُومَةُ عَدْلٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ وَفِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ وَفِي الْهَاشِمَةِ عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ.
وَفِي الْمُنَقِّلَةِ خَمْسَةَ عَشْرَةَ وَفِي الْآمَّةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَتَبَ إلَى حَزْمٍ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ وَذَكَرَ فِيهِ أَنَّ فِي النَّفْسِ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ وَفِي الْأَنْفِ الدِّيَةَ وَفِي الشَّفَتَيْنِ الدِّيَةَ وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةَ وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةَ وَفِي الصُّلْبِ الدِّيَةَ وَفِي الذَّكَرِ الدِّيَةَ وَفِي الْأُنْثَيَيْنِ الدِّيَةَ وَفِي الرِّجْلِ نِصْفَ الدِّيَةِ وَفِي الْآمَّةِ ثُلُثَ الدِّيَةِ وَفِي الْجَائِفَةِ ثُلُثَ الدِّيَةِ وَفِي الْمُنَقِّلَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ مِنْ الْإِبِلِ وَفِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ هَكَذَا رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَفِي النَّوَادِرِ رَجُلٌ أَصْلَعُ ذَهَبَ شَعْرُهُ شَجَّهُ إنْسَانٌ مُوضِحَةً عَمْدًا قَالَ مُحَمَّدٌ لَا يُقْتَصُّ وَعَلَيْهِ الْأَرْشُ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ مِنْ مُوضِحَةٍ؛ لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ مُعْتَبَرَةٌ فِي تَنَاوُلِ الْأَطْرَافِ وَلَا مُسَاوَاةَ؛ لِأَنَّ الْمُوضِحَةَ فِي أَحَدِهِمَا مُؤَثِّرَةٌ فِي الْجِلْدِ وَاللَّحْمِ فَتَعَذَّرَ مُرَاعَاةُ الْمُسَاوَاةِ وَصَارَ كَصَحِيحِ الْيَدِ إذَا قَطَعَ يَدَ الْأَشَلِّ لَا يَقْطَعُ فَكَذَا هَذَا.
وَإِنْ قَالَ الشَّارِحُ رَضِيت أَنْ يُقْتَصَّ مِنِّي لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ إذَا لَمْ تُوجِبْ الْقِصَاصَ لَا يُوجِبُ الِاسْتِيفَاءَ بِالرِّضَا، وَإِنْ كَانَ الشَّاجُّ أَيْضًا أَصْلَعَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْمُسَاوَاةِ مُمْكِنٌ فَصَارَ كَالْأَشَلِّ إذَا قَطَعَ يَدَ الْأَشَلِّ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ لِلْجِرَاحَةِ أَثَرٌ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَلْزَمُهُ قَدْرُ مَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ إلَى أَنْ يَبْرَأَ؛ لِأَنَّهُ بِجِنَايَتِهِ اُضْطُرَّ إلَى الْإِنْفَاقِ عَلَى الْجِرَاحَةِ خَوْفًا مِنْ السِّرَايَةِ فَكَانَ الزَّوَالُ مُضَافًا إلَى جِنَايَتِهِ لَهُمَا أَنَّهُ كَانَ مُخْتَارًا فِي الْإِنْفَاقِ وَلَمْ يَكُنْ مُضْطَرًّا فِيهِ؛ لِأَنَّ لُحُوقَ السِّرَايَةِ لَا يُثْبِتُ الِاضْطِرَارَ؛ لِأَنَّ السِّرَايَةَ مَوْهُومَةٌ فَلَا يَثْبُتُ الِاضْطِرَارُ بِالْوَهْمِ وَالِارْتِيَابِ فَلَمْ يَصِرْ مُفَوِّتًا لِشَيْءٍ مِنْ الْمَالِ وَلَا مِنْ الْمَنْفَعَةِ وَالْجَمَالِ فَلَا يَضْمَنُ كَمَا لَوْ لَطَمَهُ فَآلَمَهُ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَفِي الْمُوضِحَةِ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ وَفِي الْهَاشِمَةِ عُشْرُهَا وَفِي الْمُنَقِّلَةِ عُشْرٌ وَنِصْفُ عُشْرٍ وَفِي الْآمَّةِ وَالْجَائِفَةِ ثُلُثُهَا، فَإِنْ نَفَذَ مِنْ الْجَائِفَةِ فَثُلُثَاهَا) لِمَا رُوِيَ وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ وَلِأَنَّهَا إذَا نَفَذَتْ صَارَتْ جَائِفَتَيْنِ فَيَجِبُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا الثُّلُثُ وَهُوَ يَكُونُ فِي الرَّأْسِ وَالْبَطْنِ قَوْلُهُ جَائِفَةٌ قَالَ فِي الْإِيضَاحِ الْجَائِفَةُ مَا يَصِلُ إلَى الْجَوْفِ مِنْ الصَّدْرِ وَالْبَطْنِ وَالظَّهْرِ وَالْجَنْبِ وَمَا

(8/381)


وَصَلَ مِنْ الرَّقَبَةِ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي وَصَلَ إلَيْهِ الشَّرَابُ وَمَا فَوْقَ ذَلِكَ فَلَيْسَ بِجَائِفَةٍ قَالَ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ فَعَلَى هَذَا ذِكْرُ الْجَائِفَةِ هُنَا فِي مَسَائِلِ الشِّجَاجِ وَقَعَ اتِّفَاقًا وَكَذَا فِي الْعِنَايَةِ نَقْلًا عَنْ النِّهَايَةِ أَقُولُ: نَعَمْ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْإِيضَاحِ يَكُونُ الْأَمْرُ كَذَلِكَ إلَّا أَنَّ غَيْرَهُ تَدَارَكَهُ قَالَ فِيمَا بَعْدُ وَقَالُوا الْجَائِفَةُ تَخْتَصُّ بِالْجَوْفِ وَجَوْفِ الرَّأْسِ أَوْ جَوْفِ الْبَطْنِ يَعْنِي أَنَّهَا لَمَّا تَنَاوَلَتْ مَا فِي جَوْفِ الرَّأْسِ أَيْضًا كَانَتْ مِنْ الشِّجَاجِ فِيمَا إذَا وَقَعَتْ فِي الرَّأْسِ فَتَدْخُلُ فِي مَسَائِلِ الشِّجَاجِ بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ ذِكْرُهَا فِي فَصْلِ الشِّجَاجِ فِيمَا وَقَعَ اتِّفَاقًا بِخِلَافِ سَائِرِ الشِّجَاجِ، فَإِنَّهُ حَيْثُ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ وَقِيلَ لَا تَتَحَقَّقُ الْجَائِفَةُ فِيمَا فَوْقَ الْحَلْقِ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَفِي الْخَارِصَةِ وَالدَّامِعَةِ وَالدَّامِيَةِ وَالْبَاضِعَةِ وَالْمُتَلَاحِمَةِ وَالسِّمْحَاقِ حُكُومَةُ عَدْلٍ) ؛ لِأَنَّ هَذِهِ لَيْسَ فِيهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ وَلَا يُمْكِنُ إهْدَارُهَا فَيَجِبُ فِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْحُكُومَةِ قَالَ الطَّحَاوِيُّ تَفْسِيرُهَا أَنْ يَقُومَ مَمْلُوكًا بِدُونِ هَذَا الْأَثَرِ ثُمَّ يَقُومَ وَبِهِ هَذَا الْأَثَرُ ثُمَّ يَنْظُرُ إلَى تَفَاوُتِ مَا بَيْنَهُمَا، فَإِنْ كَانَ ثُلُثَ عُشْرِ الْقِيمَةِ مَثَلًا يَجِبُ ثُلُثُ عُشْرِ الدِّيَةِ، وَإِنْ كَانَ رُبْعَ عُشْرِ الْقِيمَةِ يَجِبُ رُبْعُ عُشْرِ الدِّيَةِ وَقَالَ الْكَرْخِيُّ يَنْظُرُ كَمْ مِقْدَارُ هَذِهِ الشَّجَّةِ مِنْ الْمُوضِحَةِ فَيَجِبُ بِقَدْرِ ذَلِكَ مِنْ نِصْفِ عُشْرِ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ مَا لَا نَصَّ فِيهِ يُرَدُّ إلَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَكَانَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ اعْتَبَرَ ذَلِكَ الطَّرِيقَ فَرُبَّمَا يَكُونُ نُقْصَانُ الْقِيمَةِ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ فَيُؤَدِّي إلَى أَنْ يُوجِبَ فِي هَذِهِ الشِّجَاجِ وَهُوَ دُونَ الْمُوضِحَةِ أَكْثَرُ مِمَّا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ فِي الْمُوضِحَةِ وَأَنَّهُ مُحَالٌ بَلْ الصَّحِيحُ الِاعْتِبَارُ بِالْمِقْدَارِ وَقَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ يَنْظُرُ الْمُفْتِي فِي هَذَا إنْ أَمْكَنَهُ الْفَتْوَى بِالثَّانِي بِأَنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ فِي الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ يُفْتِي بِالثَّانِي، وَإِنْ لَمْ يَتَيَسَّرْ عَلَيْهِ ذَلِكَ يُفْتِي بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ الْأَيْسَرُ قَالَ وَكَانَ الْمَرْغِينَانِيُّ يُفْتِي بِهِ وَقَالَ فِي الْمُحِيطِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَنْظُرُ كَمْ مِقْدَارُ هَذِهِ الشَّجَّةِ مِنْ أَقَلِّ شَجَّةٍ لَهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ، فَإِنْ كَانَ مِقْدَارُهُ مِثْلَ نِصْفِ شَجَّةٍ لَهَا أَرْشٌ أَوْ ثُلُثُهَا وَجَبَ نِصْفُ أَوْ ثُلُثُ أَرْشِ تِلْكَ الشَّجَّةِ، وَإِنْ رُبْعًا فَرُبْعٌ ذَكَرَهُ بَعْدَ ذِكْرِ الْقَوْلَيْنِ فَكَأَنَّهُ جَعَلَهُ قَوْلًا ثَالِثًا وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا تَفْسِيرًا لِقَوْلِ الْكَرْخِيِّ وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: وَقَوْلُ الْكَرْخِيِّ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ عَلِيًّا اعْتَبَرَهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ فِيمَنْ قَطَعَ طَرَفَ لِسَانِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلَا قِصَاصَ فِي غَيْرِ الْمُوضِحَةِ) ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْمُسَاوَاةِ فِيهِ؛ لِأَنَّ مَا دُونَ الْمُوضِحَةِ لَيْسَ لَهُ حَدٌّ يَنْتَهِي إلَيْهِ السِّكِّينُ وَمَا فَوْقَهَا كَسْرُ الْعَظْمِ وَلَا قِصَاصَ فِيهِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا قِصَاصَ فِي الْعَظْمِ» وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْأَصْلِ وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ مُمْكِنٌ فِيهِ اعْتِبَارُ الْمُسَاوَاةِ فِيهِ إذْ لَيْسَ فِيهِ كَسْرُ الْعَظْمِ وَلَا خَوْفُ التَّلَفِ فَيَسْتُرُ قَدْرَهَا اعْتِبَارًا ثُمَّ يَتَّخِذُ حَدِيدَةً بِقَدْرِ ذَلِكَ فَيَقْطَعُ بِهَا مِقْدَارَ مَا قَطَعَ فَيَتَحَقَّقُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ بِذَلِكَ وَفِي الْمُوضِحَةِ الْقِصَاصُ إنْ كَانَتْ عَمْدًا لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «قَضَى بِالْقِصَاصِ فِي الْمُوضِحَةِ» ؛ لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ فِيهَا مُمْكِنَةٌ بِانْتِهَاءِ السِّكِّينِ إلَى الْعَظْمِ فَيَتَحَقَّقُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَفِي أَصَابِعِ الْيَدِ نِصْفُ الدِّيَةِ) أَيْ أَصَابِعُ الْيَدِ الْوَاحِدَةِ؛ لِأَنَّ فِي كُلِّ إصْبَعٍ عَشَرَةً مِنْ الْإِبِلِ لِمَا رَوَيْنَا فَيَكُونُ فِي الْخَمْسَةِ خَمْسُونَ ضَرُورَةً وَهُوَ النِّصْفُ وَلِأَنَّ بِقَطْعِ الْأَصَابِعِ تَفُوتُ مَنْفَعَةُ الْبَطْشِ وَهُوَ الْمُوجِبُ عَلَى مَا مَرَّ أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لِمَنْ ذَكَرَ فِيمَا مَرَّ أَنَّ فِي كُلِّ إصْبَعٍ مِنْ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ عُشْرَ الدِّيَةِ كَانَ ذِكْرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُنَا مُسْتَدْرِكًا إذْ لَا شَكَّ أَنَّ خَمْسَةَ أَعْشَارِ الدِّيَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ وَعُلِمَ قَطْعًا مِمَّا مَرَّ أَنَّ فِي أَصَابِعِ الْيَدِ الْوَاحِدَةِ وَهِيَ خَمْسُ أَصَابِعَ نِصْفَ الدِّيَةِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الِاسْتِلْزَامُ وَالِاقْتِضَاءُ فِي حُصُولِ الْعِلْمِ بِمِثْلِهِ بَلْ كَانَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ التَّصْرِيحِ بِهَا لَلَزِمَ أَنْ يَذْكُرَ أَيْضًا أَنَّ فِي الْإِصْبَعَيْنِ عُشْرَيْ الدِّيَةِ وَفِي ثَلَاثِ أَصَابِعَ ثَلَاثَةَ أَعْشَارِ الدِّيَةِ وَفِي أَرْبَعَةِ أَصَابِعَ أَرْبَعَةَ أَعْشَارِ الدِّيَةِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ الْمَتْرُوكِ ذِكْرُهَا صَرَاحَةً فِي الْكِتَابِ وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْهُ بِأَنَّ ذِكْرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُنَا لَيْسَ بِبَيَانِ نَفْسِهَا أَصَالَةً حَتَّى يُتَوَهَّمَ الِاسْتِدْرَاكُ بَلْ لِيَكُونَ ذِكْرُهَا تَوْطِئَةً لِلْمَسْأَلَةِ الْمُعَاقِبَةِ إيَّاهَا وَهِيَ قَوْلُهُ: فَإِنْ قَطَعَهَا مَعَ الْكَفِّ فَفِيهِ أَيْضًا نِصْفُ الدِّيَةِ فَالْمَقْصُودُ فِي الْبَيَانِ هُنَا أَنَّ قَطْعَ الْأَصَابِعِ وَحْدَهَا وَقَطْعَهَا مَعَ الْكَفِّ سِيَّانِ فِي الْحُكْمِ وَعَنْ هَذَا قَالَ فِي الْوِقَايَةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَفِي أَصَابِعِ

(8/382)


يَدٍ بِلَا كَفٍّ وَمَعَهَا نِصْفُ الدِّيَةِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلَوْ مَعَ الْكَفِّ) هَذَا مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ أَيْ فِي أَصَابِعِ الْيَدِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَإِنْ قَطَعَهَا مَعَ الْكَفِّ وَلَا يَزِيدُ الْأَرْشُ بِسَبَبِ الْكَفِّ؛ لِأَنَّ الْكَفَّ سَبَبٌ لِلْأَصَابِعِ فِي حَقِّ الْبَطْشِ، فَإِنَّ قُوَّةَ الْبَطْشِ بِهَا وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «فِي الْيَدَيْنِ الدِّيَةُ وَفِي أَحَدِهِمَا نِصْفُ الدِّيَةِ» وَالْيَدُ اسْمٌ لِجَارِحَةٍ يَقَعُ بِهَا الْبَطْشُ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْيَدِ يَدُلُّ عَلَى الْقُدْرَةِ وَالْقُوَّةِ وَالْبَطْشُ يَقَعُ بِالْأَصَابِعِ وَالْكَفِّ فَيَجِبُ فِيهَا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَتَهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ فَيَكُونُ الْكَفُّ تَبَعًا لِلْأَصَابِعِ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَمَعَ نِصْفِ السَّاعِدِ نِصْفُ الدِّيَةِ وَحُكُومَةُ) عَدْلٍ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي الْكَفِّ وَالْأَصَابِعِ وَالْحُكُومَةُ فِي نِصْفِ السَّاعِدِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَعَنْهُ مَا زَادَ عَلَى الْأَصَابِعِ مِنْ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ مِنْ أَصْلِ السَّاعِدِ وَالْفَخِذُ هُوَ تَبَعٌ فَلَا يَزِيدُ عَلَى الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ أَوْجَبَ فِي الْوَاحِدَةِ مِنْهُمَا نِصْفَ الدِّيَةِ وَالْيَدُ اسْمٌ لِهَذِهِ الْجَارِحَةِ إلَى الْمَنْكِبِ وَالرِّجْلُ إلَى الْفَخِذِ فَلَا يَزِيدُ عَلَى تَقْدِيرِ الشَّارِعِ وَلِأَنَّ السَّاعِدَ لَيْسَ لَهُ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ فِيهِ كَالْكَفِّ وَوَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الْيَدَ اسْمٌ لِآلَةٍ بَاطِشَةٍ، وَوُجُوبُ الْأَرْشِ بِاعْتِبَارِ مَنْفَعَةِ الْبَطْشِ وَكَذَا فِي الْأَرْشِ وَلَا يَقَعُ الْبَطْشُ بِالسَّاعِدِ أَصْلًا وَلَا تَبَعًا فَلَا يَدْخُلُ فِي أَرْشِهِ وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ وَلَهُمَا أَنَّ الْيَدَ آلَةٌ بَاطِشَةٌ وَالْبَطْشُ يَتَعَلَّقُ بِالْكَفِّ وَالْأَصَابِعِ دُونَ الذِّرَاعِ أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ الظَّاهِرُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْكَفِّ وَالْأَصَابِعِ مَدْخَلٌ فِي الْبَطْشِ وَمَدْلُولُ قَوْلِهِ فِيمَا قَبْلُ وَلِأَنَّ الْكَفَّ تَبَعٌ لِلْأَصَابِعِ؛ لِأَنَّ الْبَطْشَ بِهَا أَنْ يَكُونَ الْبَاطِشُ هُوَ الْأَصَابِعَ لَا غَيْرُ فَبَيْنَ كَلَامَيْهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ نَوْعُ تَدَافُعٍ وَكَأَنَّ صَاحِبَ الْكَافِي تَفَطَّنَ لَهُ حَيْثُ غَيَّرَ تَحْرِيرَهُ هَاهُنَا فَقَالَ لَهَا: إنَّ أَرْشَ الْيَدِ إنَّمَا يَجِبُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ آلَةٌ بَاطِشَةٌ وَالْأَصْلُ فِي الْبَطْشِ الْأَصَابِعُ وَالْكَفُّ تَبَعٌ لَهَا أَمَّا السَّاعِدُ فَلَا يَتْبَعُهَا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّصِلٍ بِهَا فَلَمْ يُجْعَلْ تَبَعًا لَهَا فِي حَقِّ التَّضْمِينِ. اهـ.
ثُمَّ أَقُولُ: يُمْكِنُ التَّوْفِيقُ بَيْنَ كَلَامَيْهِ أَيْضًا بِنَوْعِ عِنَايَةٍ وَهُوَ أَنْ يُقَدَّرَ الْمُضَافُ فِي قَوْلِهِ فِيمَا قَبْلُ؛ لِأَنَّ الْبَطْشَ بِهَا فَلَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ بِالْكَفِّ أَيْضًا بَطْشٌ فِي الْجُمْلَةِ بِالتَّبَعِيَّةِ فَيَرْتَفِعُ التَّدَافُعُ وَلِأَنَّهُ لَوْ جُعِلَ تَبَعًا لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُجْعَلَ تَبَعًا لِلْأَصَابِعِ أَوْ الْكَفِّ وَلَا وَجْهَ إلَى الْأَوَّلِ لِوُقُوعِ الْفَصْلِ بَيْنَهُمَا بِالْكَفِّ وَلَا إلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْكَفَّ تَبَعٌ لِلْأَصَابِعِ وَلَا تَبَعَ لِلتَّبَعِ وَلَا نُسَلِّمُ الْيَدَ اسْمٌ لِهَذِهِ الْجَارِحَةِ إلَى الْمَنْكِبِ بَلْ هِيَ اسْمٌ إلَى الزَّنْدِ إذَا ذُكِرَتْ فِي مَوْضِعِ الْقَطْعِ بِدَلِيلِ آيَةِ السَّرِقَةِ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَفِي قَطْعِ الْكَفِّ وَفِيهَا إصْبَعٌ أَوْ إصْبَعَانِ عُشْرُهَا أَوْ خُمُسُهَا وَلَا شَيْءَ فِي الْكَفِّ) أَيْ إذَا كَانَ فِي الْكَفِّ إصْبَعٌ أَوْ إصْبَعَانِ فَقَطَعَهُمَا يَجِبُ عُشْرُ الدِّيَةِ فِي الْإِصْبَعِ الْوَاحِدَةِ وَخُمُسُهَا فِي إصْبَعَيْنِ: وَلَا يَجِبُ فِي الْكَفِّ شَيْءٌ وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا يُنْظَرُ إلَى أَرْشِ الْكَفِّ وَإِلَى أَرْشِ مَا فِيهَا مِنْ الْأَصَابِعِ فَيَجِبُ أَكْثَرُهَا وَيَدْخُلُ الْقَلِيلُ فِي الْكَثِيرِ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَرْشَيْنِ مُتَعَذَّرٌ إجْمَاعًا؛ لِأَنَّ الْكُلَّ شَيْءٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْأَصَابِعِ هُوَ ضَمَانُ الْكَفِّ وَضَمَانُ الْكَفِّ فِيهِ ضَمَانُ الْإِصْبَعِ وَكَذَا إهْدَارُ أَحَدِهِمَا مُتَعَذِّرٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْلٌ مِنْ وَجْهٍ أَمَّا الْكَفُّ فَلِأَنَّ الْأَصَابِعَ قَائِمَةٌ بِهِ، وَأَمَّا الْأَصَابِعُ فَلِأَنَّهَا هِيَ الْأَصْلُ فِي مَنْفَعَةِ الْبَطْشِ، فَإِذَا كَانَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا أَصْلًا مِنْ وَجْهٍ وَرَجَّحْنَا بِالْكَثْرَةِ كَمَا قُلْنَا فِيمَنْ شَجَّ رَأْسَ إنْسَانٍ وَتَنَاثَرَ بَعْضُ شَعْرِ رَأْسِهِ يَدْخُلُ الْقَلِيلُ فِي الْكَثِيرِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْأَصَابِعَ أَصْلٌ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْيَدِ وَهِيَ الْبَطْشُ وَالْقَبْضُ وَالْبَسْطُ قَائِمَةٌ بِهَا وَكَذَا حُكْمًا؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - جَعَلَ الْيَدَ بِمُقَابَلَةِ الْأَصَابِعِ حَيْثُ أَوْجَبَ فِي الْيَدِ نِصْفَ الدِّيَةِ ثُمَّ جَعَلَ فِي كُلِّ إصْبَعٍ عَشْرًا مِنْ الْإِبِلِ وَمِنْ ضَرُورَتِهِ أَنْ تَكُونَ كُلُّهَا بِمُقَابَلَةِ الْأَصَابِعِ دُونَ الْكَفِّ وَالْأَصْلُ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ، وَإِنْ قَلَّ وَلَا يَظْهَرُ التَّتَابُعُ بِمُقَابَلَةِ الْأَصْلِ فَلَا يُعَارَضُ حَتَّى يُصَارَ إلَى التَّرْجِيحِ بِالْكَثْرَةِ وَلَئِنْ تَعَارَضَا فَالتَّرْجِيحُ بِالْأَصْلِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا أَوْلَى مِنْ التَّرْجِيحِ بِالْكَثْرَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الصِّغَارَ إذَا اخْتَلَطَتْ مَعَ الْكِبَارِ تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ تَبَعًا، وَإِنْ كَانَ الصِّغَارُ أَكْثَرَ تَرْجِيحًا لِلْأَصْلِ بِخِلَافِ مَا اُسْتُشْهِدَ بِهِ مِنْ الشَّجَّةِ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَيْسَ بِتَبَعٍ لِلْآخَرِ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ أَنَّ الْبَاقِيَ إذَا كَانَ دُونَ الْإِصْبَعِ يُعْتَبَرُ أَكْثَرَهُمَا إرْشَادًا؛ لِأَنَّ أَرْشَ مَا دُونَ الْإِصْبَعِ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِاعْتِبَارِهِ بِالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ بِنَوْعِ اجْتِهَادٍ وَكَوْنِهِ أَصْلًا بِاعْتِبَارِ النَّصِّ، فَإِذَا لَمْ يَرِدْ النَّصُّ بِأَرْشِ مِفْصَلٍ وَلَا مِفْصَلَيْنِ اعْتَبَرْنَا فِيهِ الْكَثْرَةَ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ أَرْشَهُ ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ وَهُوَ كَالنَّصِّ وَلَوْ لَمْ يَبْقَ فِي الْكَفِّ

(8/383)


إصْبَعٌ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ يَجِبُ عَلَيْهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ لَا يَبْلُغُ بِهَا أَرْشَ الْأَصَابِعِ وَلَا يَجِبُ فِيهِ الْأَرْشُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الْأَصَابِعَ أَصْلٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ فَاسْتُتْبِعَتْ الْكَفُّ كَمَا إذَا كَانَتْ كُلُّهَا قَائِمَةً قَوْلُهُ وَفِي قَطْعِ الْكَفِّ إلَخْ لَا يَخْفَى أَنَّهُ مُكَرَّرٌ مَعَ قَوْلِهِ وَفِي كُلِّ إصْبَعٍ عُشْرُ الدِّيَةِ وَقَوْلُهُ وَلَا شَيْءَ فِي الْكَفِّ إلَخْ لَا يَخْفَى أَنَّهُ مُكَرَّرٌ مَعَ قَوْلِهِ وَلَوْ مَعَ الْكَفِّ؛ لِأَنَّهُ إذَا عُلِمَ أَنَّ الْكَفَّ لَا شَيْءَ فِيهِ مَعَ كُلِّ الْأَصَابِعِ عُلِمَ بِالْأَوْلَى مَعَ بَعْضِهَا.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَفِي الْإِصْبَعِ الزَّائِدَةِ وَعَيْنِ الصَّبِيِّ وَذَكَرِهِ وَلِسَانِهِ إنْ لَمْ يُعْرَفْ صِحَّتُهُ بِنَظَرٍ وَحَرَكَةٍ وَكَلَامٍ حُكُومَةُ) عَدْلٍ أَمَّا الْإِصْبَعُ الزَّائِدَةُ فَلِأَنَّهَا جُزْءُ الْآدَمِيِّ فَيَجِبُ الْأَرْشُ فِيهَا تَشْرِيفًا لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا نَفْعٌ وَلَا زِينَةٌ كَمَا فِي السِّنِّ الزَّائِدَةِ وَلَا يَجِبُ فِيهَا الْقِصَاصُ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْطُوعُ إصْبَعًا زَائِدَةً وَلِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الطَّرَفِ وَلَمْ يُعْلَمْ تَسَاوِيهِمَا إلَّا بِالظَّنِّ فَصَارَ كَالْعَبْدِ يَقْطَعُ طَرَفَ الْعَبْدِ، وَإِنْ تَعَذَّرَ الْقِصَاصُ لِلشُّبْهَةِ وَجَبَ أَرْشُهَا وَلَيْسَ لَهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ فِي الشَّرْعِ فَيَجِبُ فِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ بِخِلَافِ لِحْيَةِ الْكَوْسَجِ حَيْثُ لَا يَجِبُ فِيهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّ اللِّحْيَةَ لَا يَبْقَى فِيهَا أَثَرُ الْحَلْقِ فَلَا يَلْحَقُهُ الشَّيْنُ بَلْ بِبَقَاءِ الشَّعَرَاتِ يَلْحَقُهُ ذَلِكَ فَيَكُونُ نَظِيرَ مَنْ قَلَّمَ ظُفْرَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَفِي قَطْعِ الْإِصْبَعِ الزَّائِدَةِ يَبْقَى أَثَرٌ وَيَشِينُهُ ذَلِكَ فَيَجِبُ الْأَرْشُ، وَأَمَّا عَيْنُ الصَّبِيِّ وَذَكَرُهُ وَلِسَانُهُ فَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمَنْفَعَةُ، فَإِذَا لَمْ يُعْلَمْ صِحَّتُهَا لَا يَجِبُ أَرْشُهَا كَامِلًا بِالشَّكِّ بِخِلَافِ الْمَارِنِ وَالْأُذُنِ الشَّاخِصَةِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا الْجَمَالُ وَقَدْ فَوَّتَهُ وَتُعْرَفُ الصِّحَّةُ بِاللِّسَانِ فِي الْكَلَامِ وَفِي الذَّكَرِ بِالْحَرَكَةِ وَفِي الْعَيْنِ بِمَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الرُّؤْيَةِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ إنْ لَمْ تُعْرَفْ صِحَّتُهُ بِنَظَرٍ وَحَرَكَةٍ وَكَلَامٍ فَيَكُونُ بَعْدَ مَعْرِفَةِ صِحَّةِ ذَلِكَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْبَالِغِ فِي الْخَطَأِ وَالْعَمْدِ إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِإِقْرَارِ الْجَانِي، فَإِنْ أَنْكَرَ وَلَمْ يُقِمْ بِهِ بَيِّنَةً فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْجَانِي وَكَذَا إذَا قَالَ لَا أَعْرِفُ صِحَّتَهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْأَرْشُ كَامِلًا إلَّا بِالْبَيِّنَةِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ تَجِبُ الدِّيَةُ كَامِلَةً كَيْفَمَا كَانَ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيهِ الصِّحَّةُ فَأَشْبَهَ الْأُذُنَ وَالْمَارِنَ قُلْنَا الظَّاهِرُ لَا يَصْلُحُ لِلِاسْتِحْقَاقِ، وَإِنَّمَا يَصْلُحُ لِلدَّفْعِ وَحَاجَتُنَا الِاسْتِحْقَاقُ وَقَدْ ذَكَرْنَا الْفَرْقَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَبَيْنَ الْأُذُنِ وَالْأَنْفِ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَمَنْ شَجَّ رَجُلًا مُوضِحَةً فَذَهَبَ عَقْلُهُ أَوْ شَعْرُ رَأْسِهِ دَخَلَ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ فِي الدِّيَةِ) فَصَارَ كَمَا إذَا أَوْضَحَهُ فَمَاتَ؛ لِأَنَّ تَفْوِيتَ الْعَقْلِ يُبْطِلُ مَنْفَعَةَ جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ قُيِّدَ بِالْمُوضِحَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَطَعَ يَدَهُ فَذَهَبَ عَقْلُهُ لَا يَدْخُلُ كَمَا سَيَأْتِي أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ إذْ لَوْ كَانَ فَوَاتُ الْعَقْلِ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ وَكَانَ هَذَا مَدَارَ دُخُولِ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ فِي الدِّيَةِ لِمَا تَمَّ مَا سَبَقَ فِي فَصْلٍ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مِنْ أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَضَى بِأَرْبَعِ دِيَاتٍ فِي ضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ ذَهَبَ فِيهَا الْعَقْلُ وَالْكَلَامُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ، فَإِنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَوْ مَاتَ مِنْ الشَّجَّةِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ فَيُتَأَمَّلُ وَأَرْشُ الْمُوضِحَةِ يَجِبُ بِفَوَاتِ جُزْءٍ مِنْ الشَّعْرِ حَتَّى لَوْ لَمْ يَنْبُتْ تَجِبُ الدِّيَةُ بِفَوَاتِ كُلِّ الشَّعْرِ قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ أَيْ لَوْ نَبَتَ الشَّعْرُ وَالْتَأَمَتْ الشَّجَّةُ فَصَارَ كَمَا كَانَ لَا يَجِبُ شَيْءٌ فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ وُجُوبَ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ بِسَبَبِ فَوَاتِ الشَّعْرِ. اهـ.
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ قَوْلُهُ وَأَرْشُ الْمُوضِحَةِ تَجِبُ بِفَوَاتِ جُزْءٍ مِنْ الشَّعْرِ لِبَيَانِ الْجُزْئِيَّةِ قَوْلُهُ حَتَّى لَوْ نَبَتَ يَعْنِي الشَّعْرَ يَسْقُطُ يَعْنِي أَرْشَ الْمُوضِحَةِ لِبَيَانِ أَنَّ الْأَرْشَ يَجِبُ بِالْفَوَاتِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَلَيْسَ بِمُفْتَقِرٍ إلَيْهِ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا. اهـ.
أَقُولُ: إنَّ قَوْلَهُ وَلَيْسَ بِمُفْتَقِرٍ إلَيْهِ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا لَيْسَ بِشَيْءٍ إذْ لَا رَيْبَ أَنَّ كَوْنَ وُجُوبِ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ بِفَوَاتِ جُزْءٍ مِنْ الشَّعْرِ لَا بِمُجَرَّدِ تَفْرِيقِ الِاتِّصَالِ وَالْإِيلَامُ الشَّدِيدُ أَمْرٌ خَفِيٌّ جِدًّا غَيْرُ مَعْلُومٍ بِدُونِ الْبَيَانِ وَالْإِعْلَامِ إذَا كَانَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادَرُ مِمَّا ذَكَرَهُ فِي فَصْلِ الشِّجَاجِ إذْ لَا يُشْتَرَطُ فِي وُجُوبِ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ فَوَاتُ جُزْءٍ مِنْ الشَّعْرِ بِالْكُلِّيَّةِ بِأَنْ لَا يَنْبُتَ مِنْ بَعْدُ أَصْلًا، فَإِنَّهُمْ قَالُوا الْمُوضِحَةُ مِنْ الشِّجَاجِ هِيَ الَّتِي تُوضِحُ الْعَظْمَ أَيْ تُبِينُهُ ثُمَّ بَيَّنُوا حُكْمَهَا بِأَنَّهُ الْقِصَاصُ إنْ كَانَتْ عَمْدًا وَنِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ إنْ كَانَتْ خَطَأً وَلَا شَكَّ أَنَّ اسْمَ الْمُوضِحَةِ وَحْدَهَا الْمَذْكُورَةَ يَتَحَقَّقَانِ فِيمَا نَبَتَ فِيهِ الشَّعْرُ أَيْضًا فَكَانَ اشْتِرَاطُ أَنْ لَا يَنْبُتَ الشَّعْرُ بَعْدَ الْبُرْءِ أَصْلًا فِي وُجُوبِ أَرْشِهَا أَمْرًا خَفِيًّا مُحْتَاجًا إلَى الْبَيَانِ بَلْ إلَى الْبُرْهَانِ وَلِهَذَا قَالُوا وَأَرْشُ الْمُوضِحَةِ يَجِبُ بِفَوَاتِ جُزْءٍ مِنْ الشَّعْرِ حَتَّى لَوْ نَبَتَ يَسْقُطُ وَقَالَ فِي الْكَافِي وَأَرْشُ الْمُوضِحَةِ بِاعْتِبَارِ ذَهَابِ الشَّعْرِ وَلِهَذَا لَوْ نَبَتَ الشَّعْرُ عَلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَاسْتَوَى لَا يَجِبُ شَيْءٌ وَقَالَ فِي الْمَبْسُوطِ وُجُوبُ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ بِاعْتِبَارِ ذَهَابِ الشَّعْرِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ نَبَتَ الشَّعْرُ عَلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَاسْتَوَى كَمَا كَانَ لَا يَجِبُ شَيْءٌ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْبَيَانَاتِ الْوَاقِعَةِ مِنْ الثِّقَاتِ وَقَدْ

(8/384)


تَعَلَّقَا بِسَبَبٍ وَاحِدٍ وَهُوَ فَوَاتُ الشَّعْرِ فَيَدْخُلُ الْجُزْءُ فِي الْجُمْلَةِ فَصَارَ كَمَا إذَا قَطَعَ إصْبَعَ رَجُلٍ فَشُلَّتْ يَدُهُ كُلُّهَا فَحَاصِلُهُ أَنَّ الْجِنَايَةَ مَتَى وَقَعَتْ عَلَى عُضْوٍ وَأَتْلَفَتْ شَيْئَيْنِ وَأَرْشُ أَحَدِهِمَا أَكْثَرُ دَخَلَ الْأَقَلُّ فِيهِ.
وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، فَإِنْ وَقَعَتْ عَلَى عُضْوَيْنِ لَا يَدْخُلُ وَيَجِبُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَرْشُهُ سَوَاءٌ كَانَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِسُقُوطِ الْقِصَاصِ بِهِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ لِلْأَوَّلِ الْقِصَاصُ إنْ كَانَ عَمْدًا وَأَمْكَنَ الِاسْتِيفَاءُ وَإِلَّا فَكَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَقَالَ زُفَرُ لَا يَدْخُلُ أَرْشُ الْأَعْضَاءِ بَعْضُهُمَا فِي بَعْضٍ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا جِنَايَةٌ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فَلَا يَتَدَاخَلَانِ كَسَائِرِ الْجِنَايَاتِ وَجَوَابُهُ مَا بَيَّنَّاهُ وَفِي الْمَبْسُوطِ أَصْلُهُ أَنَّ الْجِنَايَاتِ مَتَى وَقَعَتْ عَلَى عُضْوٍ وَاحِدٍ وَأَتْلَفَتْ شَيْئَيْنِ وَأَرْشُ أَحَدِهِمَا أَكْثَرُ، فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ الْأَقَلُّ فِي الْأَكْثَرِ أَصْلُهُ فِي الْمُوضِحَةِ مَتَى كَانَتْ فِي الرَّأْسِ لَا بُدَّ أَنْ يَتَنَاثَرَ الشَّعْرُ مِقْدَارَ الْمُوضِحَةِ وَتَنَاثُرُ الشَّعْرِ مِقْدَارُ الْمُوضِحَةِ يُوجِبُ الْأَرْشَ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْجَبَ فِي الْمُوضِحَةِ خَمْسًا مِنْ الْإِبِلِ وَلَمْ يُوجِبْ فِي تَنَاثُرِ الشَّعْرِ شَيْئًا فَعُلِمَ أَنَّ أَرْشَ مَا تَنَاثَرَ مِنْ الشَّعْرِ وَهُوَ أَقَلُّ مِنْ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ دَخَلَ فِي أَرْشِ الْمُوضِحَةِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى عُضْوٍ وَاحِدٍ وَأَتْلَفَتْ شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ وَالْآخَرُ يُوجِبُ الْمَالَ، فَإِنَّهُ يَجِبُ الْمَالُ وَأَصْلُهُ الْخَاطِئُ مَعَ الْعَامِدِ مَتَى اشْتَرَكَا فِي قَتْلٍ وَاحِدٍ يَجِبُ الْمَالُ، وَإِنْ وَقَعَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى عُضْوَيْنِ أَحَدُهُمَا يُوجِبُ الْقَوَدَ وَالْآخَرُ يُوجِبُ الْمَالَ إنْ كَانَ خَطَأً لَا يَدْخُلُ أَرْشُ الْأَقَلِّ فِي الْأَكْثَرِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ عَلَى قَضِيَّةِ الْقِيَاسِ، وَإِنْ كَانَ عَمْدًا يَجِبُ الْمَالُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا الْقِصَاصُ لِمَا يَأْتِي وَلَوْ شَجَّهُ مُوضِحَةً فَذَهَبَ شَعْرُ رَأْسِهِ فَلَمْ يَنْبُتْ غَرِمَ الدِّيَةَ وَيَدْخُلُ فِيهَا أَرْشُ الْمُوضِحَةِ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ وَقَعَتْ عَلَى عُضْوٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ وَقَعَتْ عَلَى الرَّأْسِ وَالشَّعْرُ بِالرَّأْسِ.
وَلَوْ ذَهَبَ بَعْضُ الشَّعْرِ دَخَلَ الْأَقَلُّ فِي الْأَكْثَرِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ الْمُوضِحَةُ فِي الْحَاجِبِ وَقَدْ ذَهَبَ شَعْرُ الْحَاجِبِ وَلَوْ ذَهَبَ سَمْعُهُ وَبَصَرُهُ فَلَا يَخْلُو إنْ كَانَتْ الشَّجَّةُ خَطَأً أَوْ عَمْدًا، فَإِنْ كَانَتْ خَطَأً لَا يَدْخُلُ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ فِي دِيَةِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ بَلْ يَجِبُ كِلَاهُمَا وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ قَالَ يَدْخُلُ أَرْشُ الشَّجَّةِ فِي دِيَةِ السَّمْعِ وَلَا يَدْخُلُ فِي دِيَةِ الْبَصَرِ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ السَّمْعِ الْأُذُنَانِ وَالْأُذُنَانِ مِنْ الرَّأْسِ حُكْمًا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْأُذُنَانِ مِنْ الرَّأْسِ» فَصَارَتْ الْجِنَايَةُ وَاقِعَةً عَلَى عُضْوٍ وَاحِدٍ وَأَتْلَفَتْ شَيْئَيْنِ فَيَدْخُلُ الْأَقَلُّ فِي الْأَكْثَرِ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْجِنَايَةَ وَقَعَتْ عَلَى عُضْوَيْنِ؛ لِأَنَّ الْأُذُنَيْنِ لَيْسَتَا مِنْ الرَّأْسِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا وَلَكِنَّهُمَا جُعِلَا مِنْ الرَّأْسِ فِي حَقِّ حُكْمِ كُلِّ الْأَحْكَامِ حَتَّى لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى الْمَسْحِ عَلَى الْأُذُنَيْنِ لَمْ يَجُزْ عَنْ مَسْحِ الرَّأْسِ فَيَتَيَقَّنُ أَنَّ الْأُذُنَيْنِ مَعَ الرَّأْسِ عُضْوَانِ مُخْتَلِفَانِ مُتَبَايِنَانِ فِي حَقِّ الْجِنَايَةِ فَلَا يَدْخُلُ أَرْشُ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ، وَإِنْ ذَهَبَ عَقْلُهُ بِالشَّجَّةِ يَدْخُلُ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ فِي دِيَةِ الْعَقْلِ خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ وَالْحَسَنِ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ وَقَعَتْ عَلَى عُضْوَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، فَإِنَّ مَحَلَّ الشَّجَّةِ الرَّأْسُ وَمَحَلَّ الْعَقْلِ الصَّدْرُ فَكَانَ كَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ وَقَعَتْ عَلَى عُضْوٍ وَاحِدٍ مَعْنًى؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ وَإِنْ كَانَ نُورًا وَجَوْهَرًا مُضِيئًا فِي الصَّدْرِ يُبْصِرُ بِهِ الْإِنْسَانُ عَوَاقِبَ الْأُمُورِ وَحُسْنَ الْأَشْيَاءِ وَقُبْحَهَا إلَّا أَنَّ الدِّمَاغَ كَالْفَتِيلَةِ لِهَذَا النُّورِ يَقْوَى وَيَضْعُفُ بِقُوَّةِ الدِّمَاغِ وَضَعْفِهِ وَيَزُولُ وَيَذْهَبُ بِفَسَادِ الدِّمَاغِ
فَإِنْ كَانَ الْعَقْلُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ لِتَعَلُّقِهِ بِالدِّمَاغِ بَقَاءً وَذَهَابًا فَكَانَتْ الْجِنَايَةُ وَاقِعَةً عَلَى عُضْوٍ وَاحِدٍ وَقَدْ أَتْلَفَتْ شَيْئَيْنِ فَيَدْخُلُ الْأَقَلُّ فِي الْأَكْثَرِ، وَأَمَّا الْبَصَرُ، فَإِنَّهُ يَنْظُرُ إلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ، فَإِنْ قَالُوا بِذَهَابِهِ وَجَبَتْ الدِّيَةُ، وَإِنْ قَالُوا لَا نَدْرِي تُعْتَبَرُ الدَّعْوَى وَالْإِنْكَارُ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الضَّارِبِ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ، وَأَمَّا الشَّمُّ فَيُخْتَبَرُ بِالرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ الْمُنْتِنَةِ، فَإِنْ ظَهَرَ فِيهِ تَغَيُّرٌ عُلِمَ أَنَّهُ كَاذِبٌ هَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ خَطَأً، فَإِنْ كَانَتْ الشَّجَّةُ مُوضِحَةً عَمْدًا فَذَهَبَ سَمْعُهُ وَبَصَرُهُ أَوْ قَطَعَ إصْبَعًا فَتَلِفَتْ الْأُخْرَى بِجَنْبِهَا أَوْ قَطَعَ الْيَمِينَ فَشُلَّتْ الْيُسْرَى تَجِبُ دِيَةُ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَيَجِبُ أَرْشُ الْإِصْبَعَيْنِ وَالْيَدَيْنِ فِي مَالِهِ وَلَا يُقْتَصُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يُقْتَصُّ فِي الشَّجَّةِ وَالْقَطْعِ وَيَغْرَمُ دِيَةً أُخْرَى فِي مَالِهِ وَلَوْ شَجَّهُ مُوضِحَةً فَصَارَتْ مُنَقِّلَةً أَوْ كَسَرَ بَعْضَ سِنِّهِ فَاسْوَدَّ مَا بَقِيَ أَوْ قَطَعَ مِفْصَلًا فَشُلَّ مَا بَقِيَ ضَمِنَ الْأَرْشَ عِنْدَهُمَا وَلَا يُقْتَصُّ لَهُمَا أَنَّهُمَا لَاقَتَا مَحَلَّيْنِ مُتَبَايِنَيْنِ، فَإِنَّ الْفِعْلَ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالْأَثَرِ فَيَتَقَدَّرُ بِتَقَدُّرِ الْأَثَرِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ رَمَى إلَى إنْسَانٍ فَأَصَابَهُ وَنَفَذَ مِنْهُ فَأَصَابَ آخَرَ، فَإِنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ لِلْأَوَّلِ وَالدِّيَةُ لِلثَّانِي وَكَذَا إذَا قَطَعَ إصْبَعًا فَاضْطَرَبَ السِّكِّينُ فَأَصَابَ إصْبَعًا أُخْرَى خَطَأً يُقْتَصُّ فِي الْأُولَى وَيَجِبُ

(8/385)


الْأَرْشُ فِي الثَّانِيَةِ، وَإِذَا صَارَتْ الْجِنَايَةُ بِمَنْزِلَةِ الْجِنَايَتَيْنِ ثُمَّ تَعَذَّرَتْ الشُّبْهَةُ فِي أَحَدِهِمَا إلَى الْأُخْرَى لَهُ أَنَّ السِّرَايَةَ لَا تَنْفَصِلُ إلَى الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ أَثَرَ الْجِنَايَةِ لَا يَنْفَصِلُ عَنْهَا فَيَكُونُ الْفِعْلُ مُعَدًّا لَهُ أَثَرَانِ فِي مَحَلَّيْنِ فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ وَيُتَصَوَّرُ سِرَايَةُ الْجِنَايَةِ إلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ فَيُتَصَوَّرُ سِرَايَتُهَا، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ آخِرُ الْفِعْلِ مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ لَا يَكُونُ أَوَّلُهُ مُوجِبًا بِخِلَافِ الْمُسْتَشْهِدِ بِهِمَا؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَيْسَ مِنْ سِرَايَةِ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ سِرَايَةُ الْفِعْلِ مِنْ شَخْصٍ إلَى شَخْصٍ فَاخْتَلَفَ الْفِعْلُ بِاخْتِلَافِ الْمَحَلَّيْنِ فِي شَخْصَيْنِ وَلَوْ قَطَعَ إصْبَعًا فَسَقَطَتْ أُخْرَى إلَى جَنْبِهَا لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ فِيهِمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِمَا بَيَّنَّا وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَجِبُ فِي الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَجَبَ الْقِصَاصُ فِيهِمَا رَوَاهُ ابْنُ سِمَاعَةَ؛ لِأَنَّ سِرَايَةَ الْفِعْلِ تُنْسَبُ إلَى الْفَاعِلِ وَيَجِبُ الْفِعْلُ مُبَاشِرًا لِلسِّرَايَةِ فَصَارَ كَمَا لَوْ بَاشَرَ إسْقَاطَهُمَا وَكَمَا لَوْ سَرَى إلَى النَّفْسِ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَإِنْ ذَهَبَ سَمْعُهُ أَوْ بَصَرُهُ أَوْ كَلَامُهُ) أَيْ لَوْ شَجَّهُ مُوضِحَةً فَذَهَبَ أَحَدُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِهَا لَا يَدْخُلُ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ فِي أَرْشِ أَحَدِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ سَوَاءٌ كَانَتْ عَمْدًا أَوْ خَطَأً وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَدْخُلُ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ فِي دِيَةِ السَّمْعِ وَالْكَلَامِ وَلَا يَدْخُلُ فِي دِيَةِ الْبَصَرِ؛ لِأَنَّهُ ظَاهِرٌ فَلَا يُلْحَقُ بِالْعَقْلِ فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ، وَأَمَّا السَّمْعُ وَالْكَلَامُ فَبَاطِنَانِ فَيُلْحَقَانِ بِالْعَقْلِ فَيَدْخُلُ فِيهِمَا أَرْشُ الْمُوضِحَةِ كَمَا يَدْخُلُ فِي أَرْشِ الْعَقْلِ وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ بِفُرُوعِهِ وَلَهُمَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَنَافِعِ أَصْلٌ بِنَفْسِهَا فَيَتَعَدَّدُ حُكْمُ الْجِنَايَةِ بِتَعَدُّدِهَا وَلَا يَدْخُلُ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِتَعَدُّدِ أَثَرِ الْفِعْلِ لَا لِاتِّحَادِ الْفِعْلِ بِخِلَافِ الْعَقْلِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ تَعُودُ إلَى كُلِّ الْأَعْضَاءِ إذْ لَا يُنْتَفَعُ بِالْأَعْضَاءِ بِدُونِهِ فَصَارَ كَالنَّفْسِ قَالَ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ
قَالَ الْهِنْدُوَانِيُّ كُنَّا نُفَرِّقُ بِهَذَا الْفَرْقِ حَتَّى رَأَيْت مَا يَنْقُضُهُ وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ يَدَهُ فَذَهَبَ عَقْلُهُ أَنَّ عَلَيْهِ دِيَةَ الْعَقْلِ وَأَرْشَ الْيَدِ بِلَا خِلَافٍ مِنْ أَحَدٍ وَلَوْ كَانَ زَوَالُ الْعَقْلِ كَزَوَالِ الرُّوحِ لَمَا وَجَبَ أَرْشُ الْيَدِ كَمَا لَوْ مَاتَ وَالصَّحِيحُ مِنْ الْفَرْقِ أَنَّ الْجِنَايَةَ وَقَعَتْ عَلَى عُضْوٍ وَاحِدٍ فِي الْعَقْلِ وَوَقَعَتْ فِي السَّمْعِ وَالْبَصَرِ عَلَى عُضْوَيْنِ فَلَا يَدْخُلُ. اهـ.
أَقُولُ: كَمَا يُنْتَقَضُ الْفَرْقُ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ بِالْمَسْأَلَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْهِنْدُوَانِيُّ كَذَلِكَ يُنْتَقَضُ مَا عَدَّهُ صَحِيحًا مِنْ الْفَرْقِ بِتِلْكَ الْمَسْأَلَةِ عُضْوًا مُغَايِرًا لِعُضْوِ الْيَدِ فَتَكُونُ الْجِنَايَةُ فِيهَا وَاقِعَةً عَلَى الْعُضْوَيْنِ بِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ الْعَقْلُ فِي مَسْأَلَةِ الشَّجَّةِ أَيْضًا عُضْوًا مُغَايِرًا لِمَحَلِّ الشَّجَّةِ حَتَّى تَكُونَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أَيْضًا بِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ مِنْ قَبِيلِ مَا لَوْ وَقَعَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى عُضْوَيْنِ فَلَا يَدْخُلُ الْأَرْشُ فِي الدِّيَةِ كَمَا فِي السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَبِالْجُمْلَةِ مَا عَدَّهُ الْهِنْدُوَانِيُّ صَحِيحًا مِنْ الْفَرْقِ هُنَا لَا يَخْلُو عَنْ الِانْتِقَاضِ مِنْهُ أَيْضًا فَتَأَمَّلْ أَوْ نَقُولُ ذَهَابُ الْعَقْلِ فِي مَعْنَى تَبْدِيلِ النَّفْسِ وَإِلْحَاقُهُ بِالْبَهَائِمِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ وَلَا كَذَلِكَ سَائِرُ الْأَعْضَاءِ أَوْ نَقُولُ إنَّ الْعَقْلَ لَيْسَ لَهُ مَوْضِعٌ يُشَارُ إلَيْهِ فَصَارَ كَالرُّوحِ لِلْجَسَدِ وَقَالَ الْحَسَنُ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ بِخِلَافِ الْمُوضِحَةِ مَعَ الشَّعْرِ وَالْحُجَّةُ عَلَى مَا بَيَّنَّا قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: وَوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ السَّمْعَ وَالْكَلَامَ مُبْطِنٌ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ قِيلَ يُرِيدُ بِهِ الْكَلَامَ النَّفْسِيَّ بِحَيْثُ لَا تَرْتَسِمُ فِيهِ الْمَعَانِي وَلَا يَقْدِرُ عَلَى نَظْمِ التَّكَلُّمِ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ ذَلِكَ كَانَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَهَابِ السَّمْعِ وَالْعَقْلِ عَسِرًا جِدًّا، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ التَّكَلُّمَ بِالْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ فَفِي جَعْلِهِ مُبْطِنًا نَظَرٌ. اهـ.
أَقُولُ: يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ بِهِ هُوَ الثَّانِي وَالْمُرَادُ بِكَوْنِ السَّمْعِ وَالْكَلَامِ مُبْطَنَيْنِ كَوْنُ مَحَلِّهِمَا مَسْتُورًا غَائِبًا عَنْ الْحَسَنِ بِخِلَافِ الْبَصَرِ، فَإِنَّ مَحَلَّهُ ظَاهِرٌ مُشَاهَدٌ فَيَنْدَفِعُ النَّظَرُ كَمَا تَرَى.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلَوْ شَجَّهُ مُوضِحَةً فَذَهَبَتْ عَيْنَاهُ أَوْ قَطَعَ إصْبَعًا فَشُلَّتْ أُخْرَى أَوْ قَطَعَ الْمِفْصَلَ الْأَعْلَى فَشُلَّ مَا بَقِيَ أَوْ كُلُّ الْيَدِ أَوْ كَسَرَ نِصْفَ سِنِّهِ فَاسْوَدَّ مَا بَقِيَ فَلَا قَوَدَ) وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ مُطْلَقًا وَقَالَا يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْمُوضِحَةِ وَالدِّيَةُ فِي الْعَيْنَيْنِ فِيمَا إذَا شَجَّهُ مُوضِحَةً فَذَهَبَتْ عَيْنَاهُ وَكَذَا إذَا قَطَعَ إصْبَعًا فَشُلَّتْ أُخْرَى بِجَنْبِهَا يُقْتَصُّ لِلْأُولَى وَيَجِبُ الْأَرْشُ لِلْأُخْرَى وَعِنْدَهُ لَمَّا لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ فِي الْعُضْوَيْنِ يَجِبُ أَرْشُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَامِلًا، وَإِنْ كَانَ عُضْوًا وَاحِدًا كَقَطْعِ الْإِصْبَعِ مِنْ الْمِفْصَلِ الْأَعْلَى فَشُلَّ مَا بَقِيَ مِنْهَا يُكْتَفَى بِأَرْشٍ وَاحِدٍ إنْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِمَا بَقِيَ، وَإِنْ كَانَ يُنْتَفَعُ بِهِ يَجِبُ دِيَةُ الْمَقْطُوعِ وَتَجِبُ حُكُومَةُ عَدْلٍ فِي الْبَاقِي بِالْإِجْمَاعِ وَكَذَا إذَا كَسَرَ نِصْفَ السِّنِّ وَاسْوَدَّ مَا بَقِيَ أَوْ اصْفَرَّ أَوْ احْمَرَّ يَجِبُ السِّنُّ كُلُّهُ بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ قَالَ اقْطَعْ الْمِفْصَلَ الْأَعْلَى وَاتْرُكْ مَا بَقِيَ أَوْ قَالَ اكْسِرْ الْقَدْرَ الْمَكْسُورَ مِنْ السِّنِّ وَاتْرُكْ الْبَاقِيَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ فِي نَفْسِهِ لَمْ يَقَعْ مُوجِبًا لِلْقَوَدِ فَصَارَ كَمَا إذَا شَجَّهُ مُنَقِّلَةً فَقَالَ

(8/386)


أَشُجُّهُ مُوضِحَةً وَأَتْرُكُ الْبَاقِيَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَالْأَصْلُ عِنْدَهُ أَنَّ الْفِعْلَ الْوَاحِدَ إذَا أَوْجَبَ مَالًا فِي الْبَعْضِ سَقَطَ الْقِصَاصُ سَوَاءٌ كَانَا عُضْوَيْنِ أَوْ عُضْوًا وَاحِدًا لَا يَجِبُ لَهُمَا وَفِي الْخُلَاصَةِ أَنَّ الْفِعْلَ فِي مَحَلَّيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَيَكُونُ جِنَايَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ يَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ أَثَرِهِ فَصَارَ كَجِنَايَتَيْنِ مُبْتَدَأَتَيْنِ فَالشُّبْهَةُ فِي أَحَدِهِمَا لَا يَتَعَدَّى إلَى الْآخَرِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْجَزَاءَ بِالْمِثْلِ وَالْجُرْحُ الْأَوَّلُ سَارٍ وَلَيْسَ وَسِعَهُ السَّارِي فَيَسْقُطُ الْقِصَاصُ وَيَجِبُ الْمَالُ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ سَارٍ أَنَّ فِعْلَهُ أَثَّرَ فِي نَفْسٍ وَاحِدَةٍ.
وَالسِّرَايَةُ عِبَارَةٌ عَنْ إيلَامٍ يَتَعَاقَبُ عَنْ الْجِنَايَةِ عَلَى الْبَدَنِ وَيَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْهُمَا كَمَا يَتَحَقَّقُ فِي الْأَطْرَافِ مَعَ النَّفْسِ بِأَنْ مَاتَ مِنْ الْجِنَايَةِ بِخِلَافِ نَفْسَيْنِ، فَإِنَّ الْفِعْلَ فِي النَّفْسِ الثَّانِيَةِ مُبَاشَرَةٌ عَلَى حِدَةٍ لَيْسَ بِسِرَايَةِ الْأُولَى، أَوْ نَقُولُ إنَّ ذَهَابَ الْبَصَرِ وَنَحْوِهِ جُعِلَ بِطَرِيقِ التَّسَبُّبِ، فَإِنَّ الْفِعْلَ بَاقٍ عَلَى اسْمِهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ وَالْأَصْلُ فِي سِرَايَةِ الْأَفْعَالِ أَنْ لَا يَبْقَى الْأَوَّلُ بَعْدَ حُدُوثِ السِّرَايَةِ كَالْقَطْعِ إذَا سَرَى إلَى النَّفْسِ صَارَ قَتْلًا فَلَمْ يَبْقَ قَطْعًا وَهَاهُنَا الشَّجَّةُ أَوْ الْقَطْعُ لَمْ يَنْعَدِمْ بِذَهَابِ الْبَصَرِ وَنَحْوِهِ فَكَانَ الْفِعْلُ الْأَوَّلُ تَسَبُّبًا إلَى فَوَاتِ الْبَصَرِ وَنَحْوِهِ بِمَنْزِلَةِ حَفْرِ الْبِئْرِ وَالتَّسَبُّبُ لَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ وَعَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَهِيَ مَا إذَا شَجَّهُ مُوضِحَةً فَذَهَبَ بَصَرُهُ أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ مِنْهُمَا رِوَايَةُ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْهُ.
وَوَجْهُهُ أَنَّ سِرَايَةَ الْفِعْلِ اُنْتُسِبَ إلَى فَاعِلِهِ شَرْعًا حَتَّى يُجْعَلَ الْفَاعِلَ مُبَاشِرًا لِلسِّرَايَةِ فَيُؤْخَذُ بِهِ كَمَا لَوْ سَرَى إلَى النَّفْسِ فَإِنَّهُ يَجِبُ وَيُعْتَبَرُ قَتْلًا بِطَرِيقِ الْمُبَاشَرَةِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَطَعَ إصْبَعًا فَشُلَّتْ بِجَنْبِهَا أُخْرَى أَوْ شَجَّهُ مُوضِحَةً فَذَهَبَ عَقْلُهُ أَوْ كَلَامُهُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي السَّمْعِ وَالْكَلَامِ وَالشَّلَلِ لِعَدَمِ الْإِمْكَانِ وَفِي الْبَصَرِ يَجِبُ لِإِمْكَانِ الِاسْتِيفَاءِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَذْهَبَهُ وَحْدَهُ بِفِعْلٍ مَقْصُودٍ مِنْهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْبَصَرِ دُونَ الشَّلَلِ وَالسَّمْعِ وَالْكَلَامِ فَافْتَرَقَا وَلَوْ كَسَرَ بَعْضَ السِّنِّ فَسَقَطَتْ فَفِيهَا الْقِصَاصُ عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ لَا قِصَاصَ فِيهَا وَلَوْ شَجَّهُ فَأَوْضَحَهُ ثُمَّ شَجَّهُ أُخْرَى فَأَوْضَحَهُ فَتَكَامَلَتَا حَتَّى صَارَتَا شَيْئًا وَاحِدًا فَلَا قِصَاصَ فِيهِمَا كَمَا فِي الْمَشْهُورِ عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ يَجِبُ الْقِصَاصُ وَالْوَجْهُ فِيهِمَا مَا بَيَّنَّاهُ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَإِنْ قَلَعَ سِنَّهُ فَنَبَتَ مَكَانَهَا أُخْرَى سَقَطَ الْأَرْشُ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَا عَلَيْهِ الْأَرْشُ كَامِلًا؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ وَقَعَتْ مُوجِبَةً لَهُ وَاَلَّتِي نَبَتَتْ نِعْمَةٌ مُبْتَدَأَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَصَارَ كَمَا لَوْ أَتْلَفَ مَالَ إنْسَانٍ فَحَصَلَ لِلْمُتْلَفِ عَلَيْهِ مَالٌ آخَرُ وَلِهَذَا يُسْتَأْنَى حَوْلًا بِالْإِجْمَاعِ أَيْ يُؤَجَّلُ سَنَةً بِالْإِجْمَاعِ وَذَكَرَ فِي التَّتِمَّةِ أَنَّ سِنَّ الْبَالِغِ إذَا سَقَطَ يُنْتَظَرُ حَتَّى يَبْرَأَ مَوْضِعُ السِّنِّ لَا الْحَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ نَبَاتَ سِنِّ الْبَالِغِ نَادِرٌ فَلَا يُفِيدُ التَّأْجِيلَ إلَّا أَنَّ قَبْلَ الْبُرْءِ لَا يُقْتَصُّ وَلَا يُؤْخَذُ الْأَرْشُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي عَاقِبَتَهُ. اهـ.
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ إجْمَالًا وَذَلِكَ لَيْسَ بِظَاهِرٍ، وَإِنَّمَا الظَّاهِرُ مَا قَالُوهُ؛ لِأَنَّ الْحَوْلَ يَشْتَمِلُ عَلَى الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ وَلَهَا تَأْثِيرٌ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِبَدَنِ الْإِنْسَانِ فَكُلُّ فَصْلٍ مِنْهَا يُوَافِقُ مِزَاجَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فَيُؤَثِّرُ فِي إنْبَاتِهِ قَالَ وَلَكِنَّ قَوْلَهُ بِالْإِجْمَاعِ فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا قَالَ: الِاسْتِيفَاءُ حَوْلًا مِنْ فَصْلِ الْقَلْعِ فِي الْبَالِغِ وَالصَّغِيرِ جَمِيعًا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الْجِرَاحَاتِ كُلِّهَا يُسْتَأْنَى حَوْلًا وَهُوَ كَمَا تَرَى يُنَافِي الْإِجْمَاعَ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَإِنْ أُقِيدَ فَنَبَتَتْ سِنُّ الْأَوَّلِ تَجِبُ الدِّيَةُ) مَعْنَاهُ إذَا قَلَعَ سِنَّ رَجُلٍ فَأُقِيدَ أَيْ أُقْتَصُّ مِنْ الْقَالِعِ ثُمَّ نَبَتَ سِنُّ الْأَوَّلِ الْمُقْتَصِّ لَهُ يَجِبُ عَلَى الْمُقْتَصِّ لَهُ أَرْشُ سِنِّ الْمُقْتَصِّ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ اسْتَوْفَى بِغَيْرِ حَقٍّ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ فَسَادُ الْمَنْبَتِ وَلَمْ يَفْسُدْ حَيْثُ نَبَتَ مَكَانَهَا أُخْرَى فَانْعَدَمَتْ الْجِنَايَةُ وَلِهَذَا يُسْتَأْنَى حَوْلًا وَيَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ الْقِصَاصِ خَوْفًا مِنْ مِثْلِهِ إلَّا أَنَّ فِي اعْتِبَارِ ذَلِكَ تَضْيِيعَ الْحُقُوقِ فَاكْتَفَيْنَا بِالْحَوْلِ؛ لِأَنَّهُ يَنْبُتُ فِيهِ ظَاهِرًا عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ الْفَسَادِ، فَإِذَا مَضَى الْحَوْلُ وَلَمْ تَنْبُتْ فِيهِ قَضَيْنَا بِالْقِصَاصِ ثُمَّ إذَا تَبَيَّنَ أَنَّا أَخْطَأْنَا فِيهِ كَانَ الِاسْتِيفَاءُ بِغَيْرِ حَقٍّ إلَّا أَنَّ الْقِصَاصَ سَقَطَ لِلشُّبْهَةِ فَيَجِبُ الْمَالُ وَلَوْ ضَرَبَ سِنَّ إنْسَانٍ فَتَحَرَّكَتْ يُسْتَأْنَى حَوْلًا لِيَظْهَرَ فِعْلُهُ، فَإِنْ سَقَطَتْ سِنُّهُ وَاخْتَلَفَا قَبْلَ الْحَوْلِ فَالْقَوْلُ لِلْمَضْرُوبِ لِتَيَقُّنِ التَّأْجِيلِ بِخِلَافِ مَا لَوْ شَجَّهُ مُوضِحَةً ثُمَّ جَاءَ وَقَدْ صَارَتْ مُنَقِّلَةً حَيْثُ يَكُونُ الْقَوْلُ لِلضَّارِبِ؛ لِأَنَّ الْمُوضِحَةَ لَا تُورِثُ الْمُنَقِّلَةَ وَالتَّحْرِيكُ يُورِثُ السُّقُوطَ وَلَوْ اخْتَلَفَا بَعْدَ الْقَوْلِ كَانَ الْقَوْلُ لِلضَّارِبِ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ وَقَصْد مُضِيَّ الْأَجَلِ الَّذِي ضُرِبَ لِلثَّانِي وَلَوْ لَمْ يَسْقُطْ فَلَا شَيْءَ لِلضَّارِبِ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي حُصُولِ الِاسْوِدَادِ بِضَرْبِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الضَّارِبِ قِيَاسًا؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُنْكِرُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الضَّرْبِ الِاسْوِدَادُ فَصَارَ إنْكَارُهُ لَهُ كَإِنْكَارِهِ أَصْلَ الْفِعْلِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَضْرُوبِ

(8/387)


لِأَنَّ مَا يَظْهَرُ عَقِيبَ فِعْلٍ مِنْ الْأَثَرِ يُحَالُ عَلَى الْفِعْلِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ السَّبَبُ الظَّاهِرُ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الضَّارِبُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ بِغَيْرِهِ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَإِنْ شَجَّ رَجُلًا فَالْتَحَمَ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ أَثَرٌ أَوْ ضَرَبَ فَجَرَحَ فَبَرَأَ أَوْ ذَهَبَ أَثَرُهُ فَلَا أَرْشَ) وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَيْهِ أَرْشُ الْأَلَمِ وَهُوَ حُكُومَةُ عَدْلٍ؛ لِأَنَّ الشَّيْنَ الْمُوجِبَ إنْ زَالَ فَالْأَلَمُ الْحَاصِلُ لَمْ يَزُلْ وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَيْهِ أُجْرَةُ الطَّبِيبِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَثَرُ فِعْلِهِ فَكَانَ لَهُ أَخْذُ ذَلِكَ مِنْ مَالِهِ وَإِعْطَاؤُهُ الطَّبِيبَ وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ فَسَّرَ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ عَلَيْهِ أَرْشُ الْأَلَمِ بِأُجْرَةِ الطَّبِيبِ وَالْمُدَاوَاةِ فَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافُ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْمُوجِبَ هُوَ الشَّيْنُ الَّذِي يَلْحَقُهُ بِفِعْلِهِ وَزَوَالُ مَنْفَعَتِهِ وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِزَوَالِ أَثَرِهِ وَالْمَنَافِعُ لَا تَتَقَوَّمُ إلَّا بِالْعَقْدِ كَالْإِجَارَةِ وَالْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَيْنِ أَوْ مَا يُشْبِهُ الْعَقْدَ كَالْفَاسِدِ مِنْهُمَا وَلَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْجَانِي فَلَا يَلْزَمُ الْغَرَامَةُ وَكَذَلِكَ مُجَرَّدُ الْأَلَمِ لَا يُوجِبُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهُ بِمُجَرَّدِ الْأَلَمِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ ضَرَبَ إنْسَانًا ضَرْبًا مُؤْلِمًا مِنْ غَيْرِ جُرْحٍ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْأَرْشِ وَكَذَا لِأَنَّهُ لَوْ شَتَمَهُ شَتْمًا يُؤْلِمُ نَفْسَهُ لَا يَضْمَنُ شَيْئًا.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلَا قَوَدَ بِجُرْحٍ حَتَّى يَبْرَأَ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُقْتَصُّ مِنْهُ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ قَدْ تَحَقَّقَ فَلَا يُؤَخَّرُ كَمَا فِي الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ وَلَنَا مَا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «نَهَى أَنْ يُقْتَصَّ مِنْ جُرْحٍ حَتَّى يَبْرَأَ صَاحِبُهُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَلِأَنَّ الْجِرَاحَاتِ يُعْتَبَرُ فِيهَا مَآلُهُمَا لِاحْتِمَالِ أَنْ تَسْرِيَ إلَى النَّفْسِ فَيَظْهَرَ أَنَّهُ قَتْلٌ فَلَا يُعْلَمُ أَنَّهُ جُرْحٌ إلَّا بِالْبُرْءِ فَيَسْتَقِرُّ بِهِ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَكُلُّ عَمْدٍ سَقَطَ فِيهِ قَوَدُهُ لِشُبْهَةٍ كَقَتْلِ الْأَبِ ابْنَهُ عَمْدًا فَفِيهِ دِيَةٌ فِي مَالِ الْقَاتِلِ وَكَذَا مَا وَجَبَ صُلْحًا أَوْ اعْتِرَافًا أَوْ لَمْ يَكُنْ نِصْفَ الْعُشْرِ) أَيْ نِصْفَ عُشْرِ الدِّيَةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا «لَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ عَمْدًا وَلَا عَبْدًا وَلَا صُلْحًا وَلَا اعْتِرَافًا» وَلِأَنَّ الْعَاقِلَةَ تَتَحَمَّلُ عَنْ الْقَاتِلِ تَخْفِيفًا عَنْهُ وَذَلِكَ يَلِيقُ بِالْمُخْطِئِ؛ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ دُونَ الْمُتَعَمِّدِ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ التَّغْلِيظَ وَاَلَّذِي وَجَبَ بِالصُّلْحِ إنَّمَا وَجَبَ بِعَقْدِهِ وَالْعَاقِلَةُ لَا تَتَحَمَّلُ مَا يَجِبُ بِالْعَقْدِ، وَإِنَّمَا تَتَحَمَّلُ مَا يَجِبُ بِالْقَتْلِ وَكَذَا مَا لَزِمَهُ بِالْإِقْرَارِ لَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ؛ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةً عَلَى نَفْسِهِ دُونَ عَاقِلَتِهِ فَيَلْزَمُهُ دُونَهُمْ، وَإِنَّمَا لَا تَتَحَمَّلُ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ عُشْرِ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي إلَى الْإِجْحَافِ وَالِاسْتِئْصَالِ بِالْجَانِي وَالتَّأْجِيلِ تَحَرُّزًا عَنْهُ فَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ ثُمَّ الْكُلُّ يَجِبُ مُؤَجَّلًا إلَى ثَلَاثِ سِنِينَ إلَّا مَا وَجَبَ بِالصُّلْحِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ حَالًّا؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ بِالْعَقْدِ فَيَكُونُ حَالًّا بِخِلَافِ غَيْرِهِ وَمَا دُونَهُ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ يَجِبُ فِي سَنَةٍ لَا مَا دُونَ ثُلُثِ الدِّيَةِ وَالثُّلُثُ وَمَا دُونَهُ يَجِبُ فِي سَنَةٍ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا وَجَبَ بِقَتْلِ الْأَبِ ابْنَهُ يَجِبُ حَالًّا؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ سَقَطَ شَرْعًا إلَى بَدَلٍ فَيَكُونُ ذَلِكَ الْبَدَلُ حَالًّا كَسَائِرِ الْمُتْلِفَاتِ وَلَنَا أَنَّ الْمُتْلِفَ لَيْسَ بِمَالٍ وَمَا لَيْسَ بِمَالٍ لَا يُضْمَنُ بِالْمَالِ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقِيمَةٍ إذْ لَا تَقُومُ مَقَامَهُ وَقِيمَةُ الشَّيْءِ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ، وَإِنَّمَا عَرَفْنَا تَقَوُّمَهُ بِالْمَالِ بِالشَّرْعِ وَالشَّرْعُ إنَّمَا قَوَّمَهُ بِدِيَةٍ مُؤَجَّلَةٍ إلَى ثَلَاثِ سِنِينَ وَإِيجَابُ الْمَالِ حَالًّا زِيَادَةٌ عَلَى مَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ وَصْفًا كَمَا لَا يَجُوزُ إيجَابُ الزِّيَادَةِ عَلَى مَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ قَدْرًا.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَعَمْدُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ خَطَأٌ وَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَلَا تَكْفِيرَ فِيهِ وَلَا حِرْمَانَ فِيهِ) أَيْ عَنْ الْمِيرَاثِ، وَالْمَعْتُوهُ كَالصَّبِيِّ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَمْدُهُ عَمْدٌ فَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّ الْعَمْدَ هُوَ الْقَصْدُ وَهُوَ ضِدُّ الْخَطَأِ فَمَنْ يَتَحَقَّقُ مِنْهُ الْخَطَأُ يَتَحَقَّقُ مِنْهُ الْعَمْدُ وَلِهَذَا يُؤَدَّبُ وَيُعَزَّرُ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ لِلشُّبْهَةِ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْعُقُوبَةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِمْ مُوجَبُهُ الْآخَرُ وَهُوَ الْمَالُ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلٌ لِوُجُوبِهِ عَلَيْهِمْ فَصَارَ نَظِيرَ السَّرِقَةِ، فَإِنَّهُمْ إذَا سَرَقُوا لَا يَقْطَعُ أَيْدِيَهُمْ وَيَجِبُ عَلَيْهِمْ ضَمَانُ الْمَالِ الْمَسْرُوقِ لِمَا قُلْنَا وَلِهَذَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّهُ أَهْلٌ لِفَوَاتِ الْمَالِيَّةِ دُونَ الصَّوْمِ لِعَدَمِ الْخِطَابِ وَكَذَا يَحْرُمُ الْمِيرَاثُ عِنْدَهُ بِالْقَتْلِ وَلَنَا أَنَّ مَجْنُونًا صَالَ عَلَى رَجُلٍ بِسَيْفٍ فَضَرَبَهُ فَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَجَعَلَ عَقْلَهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَقَالَ عَمْدُهُ وَخَطَؤُهُ سَوَاءٌ وَلِأَنَّ الصَّبِيَّ مَظِنَّةُ الْمَرْحَمَةِ «قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَلَمْ يُوَقِّرْ كَبِيرَنَا فَلَيْسَ مِنَّا» وَالْعَاقِلُ الْمُخْطِئُ لَمَّا اسْتَحَقَّ التَّخْفِيفَ حَتَّى وَجَبَتْ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ فَهَؤُلَاءِ أَوْلَى بِهَذَا التَّخْفِيفِ فَيَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ إذَا كَانَ الْوَاجِبُ قَدْرَ نِصْفِ الْعُشْرِ أَوْ أَكْثَرَ بِخِلَافِ مَا دُونَهُ؛ لِأَنَّهُ يَسْلُكُ بِهِ مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ كَمَا فِي الْبَالِغِ الْعَاقِلِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ الْعَمْدُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ الْقَصْدِ وَهُوَ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْعِلْمِ وَالْعِلْمُ بِالْعَقْلِ وَهَؤُلَاءِ عُدِمُوا الْعَقْلَ فَكَيْفَ يَتَحَقَّقُ مِنْهُمْ الْقَصْدُ وَصَارُوا كَالنَّائِمِ وَحِرْمَانُ الْإِرْثِ عُقُوبَةٌ وَهُمْ

(8/388)


لَيْسُوا مِنْ أَهْلِهَا وَالْكَفَّارَةُ كَاسْمِهَا سَاتِرَةٌ وَلَا ذَنْبَ لَهُمْ تَسْتُرُهُ؛ لِأَنَّهُمْ مَرْفُوعٌ عَنْهُمْ الْقَلَمُ وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ دَائِرَةٌ بَيْنَ الْعِبَادَةِ وَالْعُقُوبَةِ يَعْنِي أَنَّ فِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَمَعْنَى الْعُقُوبَةِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ عِبَادَةٌ وَلَا عُقُوبَةٌ وَكَذَا سَبَبُ الْكَفَّارَةِ تَكُونُ دَائِرَةً بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ لِكَوْنِ الْعُقُوبَةِ مُتَعَلِّقَةً بِالْحَظْرِ وَفِعْلُهُمْ لَا يُوصَفُ بِالْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّهَا اسْمٌ لِفِعْلٍ مَحْظُورٍ وَكُلُّ ذَلِكَ يُنْبِئُ عَنْ الْخِطَابِ وَهُمْ لَيْسُوا بِمُخَاطَبِينَ فَكَيْفَ تَجِبُ عَلَيْهِمْ الْكَفَّارَةُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[فَصْلٌ فِي الْجَنِينِ]
(فَصْلٌ فِي الْجَنِينِ) لَمَّا ذَكَرَ أَحْكَامَ الْجِنَايَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْآدَمِيِّ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامِهَا الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْآدَمِيِّ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ وَهُوَ الْجَنِينُ بَيَانُ ذَلِكَ مَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ فِي أُصُولِهِ أَنَّ الْجَنِينَ مَا دَامَ مُجْتَنًّا فِي الْبَطْنِ لَيْسَ لَهُ ذِمَّةٌ صَالِحَةٌ لِكَوْنِهِ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْ الْأُمِّ لَكِنَّهُ مُنْفَرِدٌ بِالْحَيَاةِ بَعْدُ إلَّا أَنْ يَكُونَ نَفْسًا لَهُ ذِمَّةٌ فَبِاعْتِبَارِ هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ أَهْلًا لِوُجُوبِ الْحَقِّ لَهُ مِنْ عِتْقٍ أَوْ إرْثٍ أَوْ نَسَبٍ أَوْ وَصِيَّةٍ وَبِاعْتِبَارِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لَا يَكُونُ أَهْلًا لِوُجُوبِ الْحَقِّ عَلَيْهِ فَأَمَّا بَعْدَمَا يُولَدُ فَلَهُ ذِمَّةٌ صَالِحَةٌ وَلِهَذَا لَوْ انْقَلَبَ عَلَى مَالِ إنْسَانٍ أَتْلَفَهُ يَكُونُ ضَامِنًا لَهُ وَيَلْزَمُهُ مَهْرُ امْرَأَتِهِ بِعَقْدِ الْوَلِيِّ، جَنِينٌ عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ وَهِيَ مَجْنُونٌ أَيْ مَسْتُورٌ مِنْ جَنَّهُ إذَا سَتَرَهُ مِنْ بَابِ طَلَبَ وَالْجَنِينُ اسْمٌ لِلْوَلَدِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ مَا دَامَ فِيهِ وَالْجَمْعُ أَجِنَّةٌ، فَإِذَا وُلِدَ يُسَمَّى وَلَيَدًا ثُمَّ رَضِيعًا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (ضَرَبَ بَطْنَ امْرَأَةٍ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا تَجِبُ غُرَّةُ نِصْفِ عُشْرِ الدِّيَةِ) الْغُرَّةُ الْخِيَارُ غُرَّةُ الْمَالِ خِيَارُهُ كَالْفَرَسِ وَالْبَعِيرِ الْبَخْتِ وَالْعَبْدِ وَالْأَمَةِ أَلْفَا دِرْهَمٍ وَقِيلَ: إنَّمَا سُمِّيَ مَا يَجِبُ فِي الْجَنِينِ غُرَّةً؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مِقْدَارٍ ظَهَرَ فِي بَابِ الدِّيَةِ وَغُرَّةُ الشَّيْءِ أَوَّلُهُ كَمَا سُمِّيَ أَوَّلُ الشَّهْرِ غُرَّةً وَسُمِّيَ وَجْهُ الْإِنْسَانِ غُرَّةً؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ شَيْءٍ يَظْهَرُ مِنْهُ وَالْمُرَادُ بِنِصْفِ عُشْرِ الدِّيَةِ دِيَةُ الرَّجُلِ لَوْ كَانَ الْجَنِينُ ذَكَرًا وَفِي الْأُنْثَى دِيَةُ عُشْرِ الْمَرْأَةِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا خَمْسُمِائَةٍ دِرْهَمٍ.
وَلِهَذَا لَمْ يُبَيِّنْ فِي الْمُخْتَصَرِ أَنَّهُ ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى؛ لِأَنَّ دِيَةَ الْمَرْأَةِ نِصْفُ دِيَةِ الرَّجُلِ فَالْعُشْرُ مِنْ دِيَتِهَا قَدْرُ نِصْفِ الْعُشْرِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجِبَ شَيْءٌ فِي الْجَنِينِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ جِنَايَةً وَالظَّاهِرُ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ وَلِهَذَا لَا يَجِبُ فِي جَنِينِ الْبَهِيمَةِ إلَّا نُقْصَانُ الْأُمِّ إنْ نَقَصَتْ وَإِلَّا فَلَا يَجِبُ شَيْءٌ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجِبَ كَمَالُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ بِضَرْبِهِ مَنَعَ حُدُوثَ الْحَيَاةِ فِيهِ فَيَكُونُ بِذَلِكَ كَالْمُزْهِقِ لِلرُّوحِ وَلِهَذَا الْمَعْنَى وَجَبَتْ قِيمَةُ وَلَدِ الْمَغْرُورِ، فَإِنَّهُ مَنَعَ مِنْ حُدُوثِ الرِّقِّ فِيهِ وَكَذَلِكَ وَجَبَ عَلَى الْمُحْرِمِ قِيمَةُ بَيْضِ الصَّيْدِ فِي كَسْرِهِ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا رُوِيَ «أَنَّ امْرَأَةً مِنْ هُذَيْلٍ ضَرَبَتْ بَطْنَ امْرَأَةٍ بِحَجَرٍ فَقَتَلَتْهَا وَمَا فِي بَطْنِهَا فَاخْتَصَمُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَضَى أَنَّ دِيَةَ جَنِينِهَا غُرَّةُ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ قِيمَتُهُ خَمْسُمِائَةٍ» كَذَا وَجَدْته بِخَطِّ شَيْخِي وَفِي الْمُنْتَقَى رَجُلٌ ضَرَبَ بَطْنَ امْرَأَتِهِ فَأَلْقَتْ جَنِينًا حَيًّا ثُمَّ مَاتَ ثُمَّ أَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا ثُمَّ مَاتَتْ الْأُمُّ بَعْدَ ذَلِكَ وَلِلرَّجُلِ الضَّارِبِ بِنْتٌ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ وَلَيْسَ لَهُ وَلَدٌ مِنْ هَذِهِ الَّتِي وَلَدَتْ وَلَهَا إخْوَةٌ مِنْ أَبِيهَا وَأُمِّهَا فَعَلَى عَاقِلَةِ الْأَبِ دِيَةُ الْوَلَدِ الَّذِي وَقَعَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ تَرِثُ مِنْ ذَلِكَ أُمُّهُ السُّدُسَ وَمَا بَقِيَ فَلِأُخْتِ هَذَا الْوَلَدِ مِنْ أَبِيهِ وَعَلَى وَالِدِهِ كَفَّارَتَانِ فِي الْوَلَدِ الْوَاقِعِ حَيًّا وَكَفَّارَةٌ فِي أُمِّهِ وَالْوَلَدُ الَّذِي سَقَطَ مَيِّتًا فَفِيهِ غُرَّةٌ عَلَى عَاقِلَةِ الْأَبِ خَمْسُمِائَةٍ وَيَكُونُ لِلْأُمِّ مِنْ ذَلِكَ السُّدُسُ أَيْضًا وَمَا بَقِيَ فَلِأُخْتِ هَذَا الْوَلَدِ مِنْ أَبِيهِ أَيْضًا فَلَوْ كَانَ الرَّجُلُ ضَرَبَ بَطْنَهَا بِالسَّيْفِ عَمْدًا فَقَطَعَ الْبَطْنَ وَوَقَعَ أَحَدُ الْوَلَدَيْنِ حَيًّا وَبِهِ جِرَاحَةُ السَّيْفِ ثُمَّ مَاتَ وَوَقَعَ الْآخَرُ مَيِّتًا وَبِهِ جِرَاحَةُ السَّيْفِ أَيْضًا ثُمَّ مَاتَتْ الْأُمُّ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَى الرَّجُلِ الْقَوَدُ فِي الْأُمِّ وَعَلَى عَاقِلَتِهِ دِيَةُ الْوَلَدِ الْحَيِّ وَغُرَّةُ الْجَنِينِ الْمَيِّتِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَأَطْلَقَ فِي قَوْلِهِ امْرَأَةٌ قَالَ فِي السِّرَاجِيَّةِ فَشَمَلَ الْحُرَّةَ مُسْلِمَةً كَانَتْ أَوْ كَافِرَةً وَيَكُونُ بَدَلُ الْجَنِينِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَفِي الْكَافِي هَذَا إذَا تَبَيَّنَ خَلْقُهُ أَوْ بَعْضُ خَلْقِهِ وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ أَوْ كَانَتْ أَمَةً عُلِّقَتْ مِنْ سَيِّدِهَا وَالْكَفَّارَةُ فِي الْجَنِينِ تَجِبُ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ وَلَوْ أَلْقَتْ جَنِينَيْنِ تَجِبُ غُرَّتَانِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا خَرَجَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ وَالْآخَرُ خَرَجَ مَيِّتًا تَجِبُ غُرَّةٌ وَدِيَةٌ وَعَلَى الضَّارِبِ الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ مَاتَتْ الْأُمُّ ثُمَّ خَرَجَ الْجَنِينَانِ تَجِبُ دِيَةُ الْأُمِّ وَحْدَهَا إلَّا إذَا خَرَجَ الْجَنِينَانِ ثُمَّ مَاتَا تَجِبُ عَلَيْهِ ثَلَاثُ دِيَاتٍ فَاعْتُبِرَ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ، وَإِنْ كَانَ فِي بَطْنِهَا جَنِينَانِ فَخَرَجَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ مَوْتِ الْأُمِّ وَخَرَجَ الْآخَرُ بَعْدَ مَوْتِ الْأُمِّ وَهُمَا مَيِّتَانِ تَجِبُ الْغُرَّةُ فِي الَّذِي خَرَجَ قَبْلَ مَوْتِ الْأُمِّ وَلَا يَرِثُ مِنْ دِيَةِ أُمِّهِ شَيْئًا وَتَرِثُ الْأُمُّ مِنْ دِيَتِهِ وَالْجَنِينُ الْآخَرُ وَهُوَ الَّذِي خَرَجَ بَعْدَ مَوْتِ أُمِّهِ لَا يَرِثُ مِنْ أَحَدٍ وَلَا يُورَثُ عَنْهُ قَالَ: وَإِنْ كَانَ الَّذِي خَرَجَ بَعْدَ مَوْتِ الْأُمِّ خَرَجَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ

(8/389)


فَفِيهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ وَلَوْ خَرَجَ الْوَلَدُ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ تَجِبُ دِيَتَانِ قَالَ وَيَرِثُ هَذَا الْجَنِينُ مِنْ دِيَةِ أُمِّهِ وَهَلْ يَرِثُ هَذَا الْجَنِينُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الَّذِي خَرَجَ مَيِّتًا قَبْلَ مَوْتِ الْأُمِّ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الْآخَرُ حَيًّا لَا يَرِثُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَيًّا يَرِثُ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَإِنْ أَلْقَتْهُ حَيًّا فَمَاتَ فَدِيَةٌ) أَيْ تَجِبُ دِيَةٌ كَامِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ آدَمِيًّا خَطَأً أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ فَتَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (فَإِنْ أَلْقَتْ مَيِّتًا فَمَاتَتْ الْأُمُّ فَدِيَةٌ وَغُرَّةٌ) لِمَا رَوَيْنَا وَلِأَنَّهُمَا جِنَايَتَانِ فَيَجِبُ فِيهِمَا مُوجِبُهُمَا وَهَذَا لِمَا عُرِفَ أَنَّ الْفِعْلَ يَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ دَائِرِهِ فَصَارَ كَمَا إذَا رَمَى فَأَصَابَ شَخْصًا وَنَفَذَتْ مِنْهُ إلَى آخَرَ فَقَتَلَهُ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ دِيَتَانِ إنْ كَانَ خَطَأً، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ عَمْدًا يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْأَوَّلِ وَفِي الثَّانِي الدِّيَةُ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَإِنْ مَاتَتْ فَأَلْقَتْهُ مَيِّتًا فَدِيَةٌ فَقَطْ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ تَجِبُ الْغُرَّةُ مَعَ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الْجَنِينَ مَاتَ بِضَرْبَتِهِ ظَاهِرًا فَصَارَ كَمَا إذَا أَلْقَتْهُ مَيِّتًا وَهِيَ بِالْحَيَاةِ وَلَنَا أَنَّ مَوْتَ الْأُمِّ سَبَبٌ لِمَوْتِهِ ظَاهِرًا؛ لِأَنَّ حَيَاتَهُ بِحَيَاتِهَا وَتَنَفُّسَهُ بِتَنَفُّسِهَا فَيَتَحَقَّقُ بِمَوْتِهَا فَلَا يَكُونُ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ إذْ الِاحْتِمَالُ فِيهِ أَقَلُّ فَلَا يَجِبُ شَيْءٌ بِالشَّكِّ، وَإِنْ أَلْقَتْهُ حَيًّا بَعْدَمَا مَاتَتْ تَجِبُ دِيَتَانِ دِيَةُ الْأُمِّ وَدِيَةُ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ كَمَا إذَا أَلْقَتْهُ حَيًّا وَمَاتَتْ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَمَا يَجِبُ فِيهِ يُورَثُ عَنْهُ وَلَا يَرِثُ الضَّارِبُ فَلَوْ ضَرَبَ بَطْنَ امْرَأَتِهِ فَأَلْقَتْ ابْنَهُ مَيِّتًا فَعَلَى عَاقِلَةِ الْأَبِ غُرَّةٌ وَلَا يَرِثُ مِنْهَا) ، وَإِنَّمَا يُورَثُ؛ لِأَنَّهُ نَفْسٌ مِنْ وَجْهٍ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَالْغُرَّةُ بَدَلُهُ فَيَرِثُهَا وَارِثُهُ وَلَا يَرِثُ الضَّارِبُ مِنْ الْغُرَّةِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ قَاتِلٌ مُبَاشَرَةً ظُلْمًا وَلَا مِيرَاثَ لِلْقَاتِلِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَفِي جَنِينِ الْأَمَةِ لَوْ ذَكَرًا نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهِ لَوْ كَانَ حَيًّا وَعُشْرُ قِيمَتِهِ لَوْ أُنْثَى) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَجِبُ فِيهِ عُشْرُ قِيمَةِ الْأُمِّ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ وَجْهٍ وَضَمَانُ الْأَجْزَاءِ يَوْمَئِذٍ بِمِقْدَارِهَا مِنْ الْأَصْلِ وَلِهَذَا وَجَبَ فِي جَنِينِ الْحُرَّةِ عُشْرُ دِيَتِهَا بِالْإِجْمَاعِ وَهُوَ الْغُرَّةُ وَلَنَا أَنَّهُ بَدَلُ نَفْسِهِ فَلَا يُقَدَّرُ بِغَيْرِهِ إذْ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الشَّرْعِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ بَدَلُ نَفْسِهِ أَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ نُقْصَانُ الْأَصْلِ وَلَوْ كَانَ ضَمَانُ الطَّرَفِ لَمَا وَجَبَ إلَّا عِنْدَ نُقْصَانِ الْأَصْلِ وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ مَا يَجِبُ فِي جَنِينِ الْحُرَّةِ مَوْرُوثٌ وَلَوْ كَانَ بَدَلَ الطَّرَفِ لِمَا وُرِثَ وَالْحُرُّ وَالْعَبْدُ لَا يَخْتَلِفَانِ فِي ضَمَانِ الطَّرَفِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُورَثُ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ فِي ضَمَانِ النَّفْسِ وَلَوْ كَانَ ضَمَانُ الطَّرَفِ لَمَا وُرِثَ فِي الْحُرِّ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ ضَمَانُ النَّفْسِ كَانَ دِيَةً مُقَدَّرَةً بِنَفْسِ الْجَنِينِ لَا بِنَفْسِ غَيْرِهِ كَمَا فِي سَائِرِ الْمَضْمُونَاتِ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْغُرَّةَ مُقَدَّرَةٌ بِدِيَةِ الْأُمِّ بَلْ بِدِيَةِ نَفْسِ الْجَنِينِ إذْ لَوْ كَانَ حَيًّا تَجِبُ نِصْفُ عُشْرِ دِيَتِهِ إنْ كَانَ ذَكَرًا وَعُشْرُ دِيَتِهِ إنْ كَانَ أُنْثَى فَكَذَا فِي جَنِينِ الْأَمَةِ يَجِبُ بِتِلْكَ النِّسْبَةِ مِنْ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ بِقَدْرِ دِيَةِ الْحُرِّ فَهُوَ مُقَدَّرٌ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ فَيَجِبُ نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهِ إنْ كَانَ ذَكَرًا وَعُشْرُ قِيمَتِهِ إنْ كَانَ أُنْثَى هَذَا دِيَةُ الْحُرِّ إذَا كَانَ الْجَنِينُ مِنْ غَيْرِ مَوْلَاهَا وَمِنْ غَيْرِ مَغْرُورٍ.
وَأَمَّا إذَا كَانَ مِنْ أَحَدِهِمَا فَفِيهِ الْغُرَّةُ الْمَذْكُورَةُ فِي جَنِينِ الْحُرَّةِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى كَمَا تَقَدَّمَ وَفِي نَوَادِرِ ابْنِ سِمَاعَةَ رَجُلٌ قَالَ لِأَمَتِهِ الْحُبْلَى: أَحَدُ الْوَلَدَيْنِ اللَّذَيْنِ فِي بَطْنِك حُرٌّ فَضَرَبَ إنْسَانٌ بَطْنَهَا فَأَلْقَتْ جَنِينَيْنِ مَيِّتَيْنِ غُلَامٌ وَجَارِيَةٌ قَالَ عَلَى الْجَانِي غُرَّةٌ وَذَلِكَ خَمْسُمِائَةٍ وَعَلَيْهِ أَيْضًا فِي الْغُلَامِ رُبْعُ عُشْرِ قِيمَتِهِ لَوْ كَانَ حَيًّا وَعَلَيْهِ فِي الْجَارِيَةِ نِصْفُ خَمْسِمِائَةٍ وَنِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهَا وَفِي الْعُيُونِ هِشَامٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي رَجُلٍ اشْتَرَى أَمَةً حَامِلًا فَلَمْ يَقْبِضْهَا حَتَّى أَعْتَقَ مَا فِي بَطْنِهَا ثُمَّ ضَرَبَ إنْسَانٌ بَطْنَهَا فَأَلْقَتْ غُلَامًا مَيِّتًا فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَمَةَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَأَتْبَعَ الْجَانِيَ بِأَرْشِ الْجَنِينِ أَرْشَ حُرٍّ فَيَكُونُ لَهُ الْفَضْلُ طَيِّبًا، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ فِي الْأَمَةِ وَلَزِمَهُ الْوَلَدُ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ وَلَوْ كَانَ لِلْجَنِينِ أَبٌ حُرٌّ كَانَ أَرْشُ الْجَنِينِ لِوَالِدِهِ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا وَلَا شَيْءَ لِلْمُشْتَرِي وَفِي التَّتِمَّةِ وَسُئِلَ يُوسُفُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبِلَالِيُّ عَنْ رَجُلٍ زَنَى بِجَارِيَةِ الْغَيْرِ فَأَحْبَلَهَا ثُمَّ احْتَالَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ فَأَسْقَطَا الْحَمْلَ مِنْ الْجَارِيَةِ وَمَاتَتْ الْجَارِيَةُ بِذَلِكَ السَّبَبِ مَا الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ وَمَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا فَقَالَ: أَمَّا الْجَارِيَةُ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُهَا إذَا مَاتَتْ بِذَلِكَ السَّبَبِ وَفِي الْحَمْلِ الْغُرَّةُ إنْ كَانَ مَيِّتًا، وَإِنْ سَقَطَ وَهُوَ حَيٌّ ثُمَّ مَاتَ فَإِنَّهُ يَجِبُ قِيمَتُهُ، وَإِنْ كَانَ الْحَمْلُ مَاءً وَدَمًا فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ فِيهِ شَيْءٌ وَفِي الْمُنْتَقَى قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إذَا ضَرَبَ الرَّجُلُ بَطْنَ امْرَأَتِهِ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَلَا يَرِثُ مِنْهُ.
وَإِنْ أَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا قَدْ اسْتَبَانَ مِنْ خَلْقِهِ شَيْءٌ ثُمَّ مَاتَتْ هِيَ مِنْ تِلْكَ الضَّرْبَةِ ثُمَّ أَلْقَتْ جَنِينًا حَيًّا وَمَاتَ فَفِي الْأَوَّلِ الْغُرَّةُ وَفِي الْأُمِّ الدِّيَةُ وَفِي الْجَنِينِ الثَّانِي الدِّيَةُ كَامِلَةً وَفِي النَّسَفِيَّةِ سُئِلَ عَنْ مُخْتَلِعَةٍ حَامِلٍ مَضَتْ عِدَّتُهَا بِإِسْقَاطِ الْوَلَدِ هَلْ لِلزَّوْجِ أَنْ يُخَاصِمَهَا فِي هَذَا الْحَمْلِ فَقَالَ إنْ أَسْقَطَتْهُ بِفِعْلِهَا وَجَبَ عَلَيْهَا لِلزَّوْجِ غُرَّةٌ قِيمَتُهَا

(8/390)


خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ نُقْرَةً خَالِصَةً وَلَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لِمِيرَاثِهَا؛ لِأَنَّهَا قَاتِلَةٌ فَلَا تَرِثُ وَسُئِلَ أَبُو الْقَاسِمِ عَنْ امْرَأَةٍ شَرِبَتْ الدَّوَاءَ فَأَلْقَتْ جَنِينَهَا مَيِّتًا أَوْ حَمَلَتْ حَمْلًا ثَقِيلًا فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا أَنَّ عَلَى عَاقِلَتِهَا خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ لِوَارِثِ الْحَمْلِ أَبًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا عَاقِلَةٌ فَهِيَ فِي مَالِهَا فِي سَنَةٍ وَفِي الْحَاوِي وَذَلِكَ لِزَوْجِهَا؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْوَارِثُ قَالَهُ يُوسُفُ بْنُ عِيسَى وَفِي جَامِعِ الْفَتَاوَى وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى يُؤْخَذُ بِالْمُتَيَقَّنِ كَالْخُنْثَى الْمُشْكِلِ، ضَاعَ الْجَنِينُ وَلَا يُمْكِنُهَا تَقْوِيمُهُ بِاعْتِبَارِ قِيمَتِهِ وَهَيْئَاتِهِ وَوَقَعَ التَّنَازُعُ فِي قِيمَتِهِ الْقَوْلُ لِلضَّارِبِ؛ لِأَنَّهُ الْمُنْكِرُ كَمَا لَوْ قَتَلَ عَبْدًا خَطَأً وَوَقَعَ التَّنَازُعُ فِي قِيمَتِهِ وَعَجَزَ الْقَاضِي عَنْ تَقْوِيمِهِ بِاعْتِبَارِ حَالِهِ كَانَ الْقَوْلُ لِلضَّارِبِ كَذَا فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ لِلْعَيْنِيِّ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (فَإِنْ حَرَّرَهُ سَيِّدُهُ بَعْدَ ضَرْبِهِ فَأَلْقَتْهُ فَمَاتَ فَفِيهِ قِيمَتُهُ حَيًّا) .
وَلَا تَجِبُ الدِّيَةُ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ بِالضَّرْبِ وَالضَّرْبُ صَادَفَهُ وَهُوَ رَقِيقٌ فَتَجِبُ قِيمَتُهُ حَيًّا؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَاتِلًا لَهُ وَهُوَ حَيٌّ فَاعْتَبَرْنَا حَالَتَيْ السَّبَبِ وَالتَّلَفِ فَأَوْجَبْنَا عَلَيْهِ الْقِيمَةَ بِاعْتِبَارِ حَالَتَيْ السَّبَبِ وَهُوَ الضَّرْبُ؛ لِأَنَّهُ رَقِيقٌ حِينَئِذٍ وَأَوْجَبْنَا عَلَيْهِ جَمِيعَ قِيمَتِهِ بِاعْتِبَارِ حَالَةِ التَّلَفِ كَأَنَّهُ ضَرَبَهُ فِي الْحَالِ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ مَا نَقَصَ بِضَرْبِهِ إلَى أَنْ يُوجَدَ الْعِتْقُ كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ أَوْ جَرَحَهُ فَأَعْتَقَهُ الْمَوْلَى ثُمَّ مَاتَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَرْشُ الْيَدِ وَالْجُرْحُ وَمَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ إلَى الْعِتْقِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَقْطَعُ السِّرَايَةَ لَكِنْ اُعْتُبِرَ فِيهِ الْحَالَتَانِ فَجُعِلَ كَأَنَّ الضَّرْبَ لَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّ الْجَنِينِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالضَّرْبِ الْأُمُّ فَأَوْجَبْنَا الْقِيمَةَ دُونَ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَاتِلًا لَهُ بِالضَّرْبِ الْأَوَّلِ فَصَارَ كَمَا لَوْ رَمَى عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ الْمَوْلَى ثُمَّ وَقَعَ عَلَيْهِ السَّهْمُ فَمَاتَ، فَإِنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِ الْقِيمَةُ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الرَّمْيَ لَيْسَ بِجِنَايَةٍ مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِالْمَحَلِّ فَلَا يَجِبُ فِيهِ شَيْءٌ بِدُونِ الِاتِّصَالِ بِخِلَافِ الْقَطْعِ وَالْجُرْحِ؛ لِأَنَّهُ جِنَايَةٌ فِي الْحَالِ وَالْعِتْقُ يَقْطَعُ السِّرَايَةَ وَمَعَ هَذَا تَجِبُ الْقِيمَةُ دُونَ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ قَاتِلًا لَهُ مِنْ وَقْتِ الرَّمْيِ؛ لِأَنَّهُ الْفِعْلُ الْمَمْلُوكُ لَهُ وَقَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا مَعْنَى قَوْلِهِ ضَمِنَ أَيْ الدِّيَةَ وَقَوْلُهُ وَلَا تَجِبُ الدِّيَةُ لَيْسَ هُوَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَوُجِّهَ أَنَّ الضَّرْبَ وَقَعَ عَلَى الْأُمِّ فَلَمْ يُعْتَبَرْ جِنَايَةً فِي الْجَنِينِ إلَّا بَعْدَ الِانْفِصَالِ حَيًّا وَلِذَلِكَ لَمْ تَنْقَطِعْ سِرَايَتُهُ بِخِلَافِ مَنْ جُرِحَ فَأَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ الْمُرَادُ بِهِ حَقِيقَةُ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ قَدْ تَمَّتْ مِنْهُ لَكِنْ لَا يُعْتَبَرُ فِي حَقِّ الْجَنِينِ مَقْصُودًا إلَّا بَعْدَ الِانْفِصَالِ فَأَشْبَهَ الرَّمْيَ الَّذِي تَمَّ مِنْ الرَّامِي وَلَا يُعْتَبَرُ فِي حَقِّ الْمُرْمَى إلَيْهِ إلَّا بَعْدَ الْإِصَابَةِ وَقِيلَ هَذَا عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَجِبُ قِيمَتُهُ مَا بَيْنَ كَوْنِهِ مَضْرُوبًا إلَى كَوْنِهِ غَيْرَ مَضْرُوبٍ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ قَاطِعُ السِّرَايَةِ وَقَيَّدَ بِقَوْلِهِ بَعْدَ ضَرْبِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ حَرَّرَهُ قَبْلَ الضَّرْبِ فَأَلْقَتْهُ حَيًّا فَالْوَاجِبُ الدِّيَةُ عَلَى قَوْلِهِمَا وَعَلَى قَوْلِ الْإِمَامِ تَجِبُ قِيمَتُهُ مَا بَيْنَ كَوْنِهِ مَضْرُوبًا إلَى كَوْنِهِ غَيْرَ مَضْرُوبٍ وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ لِمَنْ يَكُونُ هَذَا الْمِقْدَارُ قَالَ بَعْضُهُمْ لِوَرَثَةِ هَذَا الْجَنِينِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِلْمَوْلَى كَذَا فِي التَّتَارْخَانِيَّة.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلَا كَفَّارَةَ فِي الْجَنِينِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَجِبُ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّهُ نَفْسٌ مِنْ وَجْهٍ فَتَجِبُ احْتِيَاطًا لِمَا فِيهَا مِنْ الْعِبَادَةِ وَلَنَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ فِيهَا مَعْنَى الْعُقُوبَةِ؛ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ زَاجِرَةً وَفِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ؛ لِأَنَّهَا تَتَأَدَّى بِالصَّوْمِ وَقَدْ عُرِفَ وُجُوبُهَا فِي النَّفْسِ الْمُطْلَقَةِ فَلَا تَتَعَدَّاهَا؛ لِأَنَّ الْعُقُوبَةَ لَا يَجْرِي فِيهَا الْقِيَاسُ وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ تَنَاقُضٌ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَبِرُهُ جُزْءًا حَتَّى أَوْجَبَ عَلَيْهِ عُشْرَ قِيمَةِ الْأُمِّ وَهَاهُنَا اعْتَبَرَهُ نَفْسًا حَتَّى أَوْجَبَ فِيهِ الْكَفَّارَةَ وَنَحْنُ اعْتَبَرْنَاهُ جُزْءًا مِنْ وَجْهٍ وَلِهَذَا لَمْ يَجِبْ فِيهِ كُلُّ الْبَدَلِ فَكَذَا لَا تَجِبُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّ الْأَعْضَاءَ لَا كَفَّارَةَ فِيهَا إلَّا إذَا تَبَرَّعَ بِهَا هُوَ؛ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ مَحْظُورًا، فَإِذَا تَقَرَّبَ بِهَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى كَانَ أَفْضَلَ وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى مِمَّا صَنَعَ مِنْ الْجَرِيمَةِ الْعَظِيمَةِ.
وَالْجَنِينُ الَّذِي اسْتَبَانَ بَعْضُ خَلْقِهِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَحْكَامِ كَالتَّامِّ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا وَلِأَنَّهُ وَلَدٌ فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ كَأُمُومِيَّةِ الْوَلَدِ وَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِهِ وَالنِّفَاسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَكَذَا فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ وَلِأَنَّهُ يَتَمَيَّزُ مِنْ الْعَلَقَةِ وَالدَّمِ فَلَا بُدَّ مِنْهُ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَإِنْ شَرِبَتْ دَوَاءً لِتَطْرَحَهُ أَوْ عَالَجَتْ فَرْجَهَا حَتَّى أَسْقَطَتْهُ ضَمِنَ عَاقِلَتُهَا الْغُرَّةُ إنْ فَعَلَتْ بِلَا إذْنٍ) ؛ لِأَنَّهَا أَلْقَتْهُ مُتَعَدِّيَةً فَيَجِبُ عَلَيْهَا ضَمَانُهُ وَتَتَحَمَّلُ عَنْهَا الْعَاقِلَةُ لِمَا بَيَّنَّا وَلَا تَرِثُ هِيَ مِنْ الْغُرَّةِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهَا قَاتِلَتُهُ بِغَيْرِ حَقٍّ وَالْقَاتِلُ لَا يَرِثُ بِخِلَافِ مَا إذَا فَعَلَتْ ذَلِكَ بِإِذْنِ الزَّوْجِ حَيْثُ لَا تَجِبُ الْغُرَّةُ لِعَدَمِ التَّعَدِّي وَلَوْ فَعَلَتْ أُمُّ الْوَلَدِ ذَلِكَ بِنَفْسِهَا حَتَّى أَسْقَطَتْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا لِاسْتِحَالَةِ وُجُوبِ الدَّيْنِ عَلَى الْمَمْلُوكِ لِسَيِّدِهِ وَلَوْ اسْتَحَقَّتْ وَجَبَ لِلْمَوْلَى غُرَّةٌ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ لَهُمَا وَأَنَّهُ مَغْرُورٌ وَوَلَدُ الْمَغْرُورِ حُرُّ الْأَصْلِ وَهِيَ مُتَعَدِّيَةٌ بِذَلِكَ الْفِعْلِ فَصَارَتْ قَاتِلَةً لِلْجَنِينِ فَتَجِبُ الْغُرَّةُ لَهُ وَيُقَالُ لِلْمُسْتَحِقِّ إنْ شِئْت سَلِّمْ الْجَارِيَةَ، وَإِنْ شِئْت

(8/391)


افْدِهَا؛ لِأَنَّهُ الْحُكْمُ فِي جِنَايَةِ الْمَمْلُوكِ وَفِي جَامِعِ الْفَتَاوَى وَفِي نَوَادِرِ رُسْتُمَ امْرَأَةٌ شَرِبَتْ دَوَاءً لِتُسْقِطَ وَلَدَهَا عَمْدًا فَأَلْقَتْ جَنِينًا حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فَعَلَى الْعَاقِلَةِ الدِّيَةُ وَلَا تَرِثُ مِنْهُ شَيْئًا وَعَلَيْهَا الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ أَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا فَعَلَى عَاقِلَتِهَا غُرَّةٌ وَلَا تَرِثُ مِنْهُ شَيْئًا وَعَلَيْهَا الْكَفَّارَةُ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ: إنَّهَا إذَا أَسْقَطَتْ سِقْطًا لَيْسَ عَلَيْهَا إلَّا التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ، وَإِنْ كَانَ جَنِينًا فَعَلَيْهَا غُرَّةٌ وَتَأْوِيلُهُ إذَا شَرِبَتْ دَوَاءً يُوجِبُ سُقُوطَ الْوَلَدِ وَتَعَمَّدَتْ ذَلِكَ وَفِي الْمُنْتَقَى رِوَايَةٌ مَجْهُولَةٌ امْرَأَةٌ شَرِبَتْ دَوَاءً فَأَسْقَطَتْ وَكَانَتْ شَرِبَتْ لِغَيْرِ ذَلِكَ يَعْنِي لِغَيْرِ إسْقَاطِ الْوَلَدِ فَعَلَيْهَا الْغُرَّةُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَلَا تَرِثُهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ عَلَيْهَا الْكَفَّارَةُ وَهَذَا الْجَوَابُ مِنْ زِيَادَاتِ الْحَاوِي وَفِي الْمُنْتَقَى سُئِلَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ حَامِلٍ أَرَادَتْ أَنْ تُلْقِيَ الْعَلَقَةَ لِغَلَبَةِ الدَّمِ قَالَ يُسْأَلُ أَهْلُ الطِّبِّ عَنْ ذَلِكَ إنْ قَالُوا يَضُرُّ بِالْحَمْلِ لَا تَفْعَلْ، وَإِنْ قَالُوا لَا يَضُرُّ تَفْعَلُ وَكَذَا الْحِجَامَةُ وَالْفَصْدُ قَالَ الْفَقِيهُ وَسَمِعْت مِمَّنْ يَعْرِفُ ذَلِكَ الْأَمْرَ قَالَ لَا يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تَفْعَلَ مَا لَمْ يَتَحَرَّكْ الْوَلَدُ، فَإِذَا تَحَرَّكَ فَلَا بَأْسَ بِالْحِجَامَةِ مَا لَمْ تَقْرُبْ الْوِلَادَةُ، فَإِذَا قَرُبَتْ فَلَا يُفْعَلْ، وَأَمَّا الْفَصْدُ فَالِامْتِنَاعُ فِي حَالِ الْحَبَلِ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ يُخَافُ عَلَى الْوَلَدِ إلَّا أَنْ يَدْخُلَ الْأُمَّ ضَرَرٌ بَيِّنٌ فِي تَرْكِهِ.

وَفِي فَتَاوَى النَّسَفِيِّ سُئِلَ عَنْ مُخْتَلِعَةٍ وَهِيَ حَامِلٌ احْتَالَتْ لِإِسْقَاطِ الْعِدَّةِ بِإِسْقَاطِ الْوَلَدِ قَالَ إنْ سَقَطَ بِفِعْلِهَا وَجَبَ عَلَيْهَا الْغُرَّةُ وَيَكُونُ ذَلِكَ لِلزَّوْجِ وَفِي الْحَاوِي وَهِيَ لَا تَرِثُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهَا قَاتِلَةٌ.

قَالَ الْأَبُ إذَا ضَرَبَ ابْنَهُ الصَّغِيرَ تَأْدِيبًا فَعَطِبَ مِنْ ذَلِكَ يُنْظَرُ إنْ ضَرَبَهُ حَيْثُ لَا يُضْرَبُ لِلتَّأْدِيبِ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَفِي نَوَادِرِ بِشْرٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَةً وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْوَصِيُّ إذَا ضَرَبَ الصَّغِيرَ تَأْدِيبًا وَفِي الْكُبْرَى، وَإِنْ كَانَ ضَرَبَهُ الْمُعَلِّمُ فِي الْمَوْضِعِ الْمُعْتَادِ فَمَاتَ لَا يَضْمَنُ هُوَ وَلَا الْأَبُ وَلَا الْوَصِيُّ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا وَكَذَا الْمُؤَدِّبُ الَّذِي يُعَلِّمُهُ الْكِتَابَةَ إذَا ضَرَبَهُ بِإِذْنِ وَالِدِهِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ فِي قَوْلِهِمَا وَهَذَا إذَا كَانَ ضَرَبَهُ الْمُعَلِّمُ فِي مَوْضِعٍ مُعْتَادٍ وَفِي رِوَايَةٍ مَجْهُولَةٍ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِمَا وَالْفَتْوَى عَلَى الْأَوَّلِ وَالزَّوْجُ إذَا ضَرَبَ زَوْجَتَهُ حَيْثُ تُضْرَبُ لِلتَّأْدِيبِ مِثْلَ مَا تُضْرَبُ حَالَ نُشُوزِهَا يَضْمَنُ بِالْإِجْمَاعِ وَالْأَبُ وَالْوَصِيُّ إذَا سَلَّمَا الصَّغِيرَ إلَى مُعَلِّمٍ يُعَلِّمُهُ الْقُرْآنَ أَوْ عِلْمًا آخَرَ فَضَرَبَهُ الْمُعَلِّمُ لِلتَّعْلِيمِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُعَلِّمِ وَلَا عَلَى الْأَبِ وَالْوَصِيِّ وَفِي الْمُنْتَقَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ، وَإِنْ ضَرَبَهُ حَيْثُ لَا يُضْرَبُ أَوْ فَوْقَ ضَرْبِ التَّعْلِيمِ فَالْمُعَلِّمُ ضَامِنٌ قَالَ هِشَامٌ فِي نَوَادِرِهِ قُلْتُ: لِمُحَمَّدٍ إنْ لَمْ يَكُنْ الْأَبُ قَالَ لَهُ فِي أَمْرِ الضَّرْبِ شَيْئًا قَالَ يَضْمَنُ الْمُعَلِّمُ وَفِي رِوَايَةٍ فِي بَعْضِ النُّسَخِ إنَّ ضَرْبَ الصَّغِيرِ إنَّمَا يُضْمَنُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا كَانَ لِلتَّأْدِيبِ أَمَّا إذَا ضَرَبَهُ لِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ لَا يَضْمَنُ كَالْمُعَلِّمِ، فَإِذًا لَا فَرْقَ بَيْنَ ضَرْبِ الْمُعَلِّمِ بِإِذْنِ الْأَبِ وَبَيْنَ ضَرْبِ الْأَبِ إذَا كَانَ لِلتَّعْلِيمِ وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ فِي شَرْحِ كِتَابِ الْإِجَارَاتِ أَنَّ فِي ضَرْبِ الْأَبِ ابْنَهُ وَفِي ضَرْبِ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ رِوَايَتَيْنِ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي رِوَايَةٍ يَضْمَنُ وَفِي رِوَايَةٍ لَا يَضْمَنُ، وَأَمَّا الْوَالِدَةُ إذَا ضَرَبَتْ وَلَدَهَا الصَّغِيرَ لِلتَّأْدِيبِ فَلَا شَكَّ أَنَّهَا تَضْمَنُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ عَلَى قَوْلِهِمَا قَالَ بَعْضُهُمْ لَا تَضْمَنُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ هِيَ ضَامِنَةٌ؛ لِأَنَّ الضَّرْبَ تَصَرُّفٌ فِي النَّفْسِ وَلَيْسَ لَهَا وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ فِي النَّفْسِ أَصْلًا وَفِي كِتَابِ الْعِلَلِ لِلزَّوْجِ أَنْ يَضْرِبَ امْرَأَتَهُ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ وَلِلْأَبِ أَنْ يَضْرِبَ ابْنَهُ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ وَذَكَرَ مَسْأَلَةَ الْمُعَلِّمِ إذَا ضَرَبَ الصَّغِيرَ بِإِذْنِ الْأَبِ عَلَى الِاتِّفَاقِ قَالَ نَحْوَ مَا ذَكَرْنَا قَالَ مُحَمَّدٌ ثَمَّةَ وَهَذَا عِنْدَنَا.

وَفِي الْعُيُونِ إذَا قَالَ لِرَجُلَيْنِ اضْرِبَا مَمْلُوكِي هَذَا مِائَةَ سَوْطٍ فَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَضْرِبَهُ الْمِائَةَ كُلَّهَا، فَإِنْ ضَرَبَهُ أَحَدُهُمَا تِسْعَةً وَتِسْعِينَ وَضَرَبَهُ الْآخَرُ سَوْطًا وَاحِدًا فَفِي الْقِيَاسِ يَضْمَنُ ضَارِبُ الْأَكْثَرِ وَفِي رِوَايَةٍ لَا يَضْمَنُ وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ إنْ أَكَلْتُمَا هَذَا الْخُبْزَ فَأَنْتُمَا طَالِقَتَانِ فَأَكَلَتَاهُ، وَإِنْ أَكَلَتْ إحْدَاهُمَا عَامَّتَهُ وَالْأُخْرَى بَقِيَّتَهُ لَا تَطْلُقُ اسْتِحْسَانًا.

وَفِي الْكُبْرَى الْمُحْتَرِفُ إذَا ضَرَبَ التِّلْمِيذَ فَمَاتَ إنْ كَانَ ضَرَبَهُ بِأَمْرِ أَبِيهِ أَوْ وَصِيِّهِ لَا يَضْمَنُ إذَا كَانَ فِي الْمَوْضِعِ الْمُعْتَادِ لَوْ ضَرَبَ امْرَأَتَهُ عَلَى الْمَضْجَعِ أَوْ فِي أَدَبٍ فَمَاتَتْ يَضْمَنُ إجْمَاعًا وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ هُمَا فَرَّقَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأَبِ، فَإِنَّ ضَرْبَ الْأَبِ لِمَنْفَعَةِ الِابْنِ وَضَرْبَ الْمَرْأَةِ لِمَنْفَعَةِ الزَّوْجِ.

وَفِي السِّرَاجِيَّةِ رَجُلٌ ضَرَبَ رَجُلًا سِيَاطًا فَجَرَحَهُ فَبَرَأَ مِنْهُ فَعَلَيْهِ أَرْشُ الضَّرْبِ إنْ بَقِيَ أَثَرُ الضَّرْبِ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ سِوَى التَّعْزِيرِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ تَجِبُ حُكُومَةُ عَدْلٍ وَقَالَ مُحَمَّدٌ أُجْرَةُ الطَّبِيبِ وَثَمَنُ الْأَدْوِيَةِ وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ الْخَامِسَةُ وَهَذَا إذَا جُرِحَ ابْتِدَاءً فَأَمَّا إذَا لَمْ يَجْرَحْ فِي الِابْتِدَاءِ لَا يَجِبُ

(8/392)


بِالِاتِّفَاقِ.

وَفِي الْمُنْتَقَى رَجُلٌ قَتَلَ عَمْدًا وَلَهُ أَخٌ مَعْرُوفٌ فَأَقَرَّ أَخُوهُ بِابْنِ الْمَقْتُولِ وَادَّعَى ذَلِكَ الِابْنَ وَهُوَ كَبِيرٌ، فَإِنَّ لِلْمُقِرِّ بِهِ الْقَوَدَ وَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ هَذَا الْجَوَابُ خِلَافُ مَا فِي الْأَصْلِ وَفِي نَوَادِرِ هِشَامٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَجُلٌ ادَّعَى أَنَّهُ عَبْدُهُ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ وَشَهِدَ الشُّهُودُ أَنَّهُ كَانَ عَبْدَهُ فَأَعْتَقَهُ وَهُوَ حُرٌّ الْيَوْمَ، فَإِنْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ قُضِيَ لِوَارِثِهِ بِالْقِصَاصِ فِي الْعَمْدِ وَبِالدِّيَةِ فِي الْخَطَأِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ فَلِمَوْلَاهُ قِيمَتُهُ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ.

وَفِي نَوَادِرِ ابْنِ سِمَاعَةَ قَالَ سَمِعْت أَبَا يُوسُفَ يَقُولُ فِي رَجُلٍ فِي يَدِهِ صَبِيٌّ صَغِيرٌ فَقَطَعَ الرَّجُلُ يَدَ الصَّبِيِّ عَمْدًا ثُمَّ قَالَ الْقَاطِعُ هُوَ عَبْدُك وَقَالَ الَّذِي فِي يَدِهِ هُوَ ابْنِي لَا أُصَدِّقُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَوْ قَالَ هَذِهِ الْمَقَالَةُ قَبْلَ مَوْتِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فَعَلَى الْجَانِي الْقَوَدُ.

وَفِي الْمُنْتَقَى رَجُلٌ جُرِحَ فَقَالَ فُلَانٌ قَتَلَنِي ثُمَّ أَقَامَ وَارِثُهُ بَيِّنَةً عَلَى رَجُلٍ آخَرَ أَنَّهُ قَتَلَهُ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ وَذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَجُلٌ قَالَ فُلَانٌ جَرَحَنِي فَأَقَامَ ابْنٌ لَهُ بَيِّنَةً عَلَى ابْنٍ لَهُ آخَرَ أَنَّهُ جَرَحَهُ خَطَأً، فَإِنِّي أَقْبَلُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الِابْنِ وَأَحْرِمُهُ عَنْ الْمِيرَاثِ بِذَلِكَ فَلَمَّا أَجَزْنَا ذَلِكَ فِي الْمِيرَاثِ جَعَلْنَا الدِّيَةَ عَلَى عَاقِلَتِهِ قَالَ هِشَامٌ سَمِعْت مُحَمَّدًا يَقُولُ فِي رَجُلٍ أَدْخَلَ نَائِمًا أَوْ مُغْمًى عَلَيْهِ فِي بَيْتِهِ فَسَقَطَ الْبَيْتُ عَلَيْهِ قَالَ لَا يَضْمَنُ إلَّا فِي الْمَعْتُوهِ وَالصَّبِيِّ.

وَفِي الْمُنْتَقَى رَجُلٌ فَقَأَ عَيْنَيْ عَبْدٍ وَقَطَعَ الْآخَرُ رِجْلَهُ أَوْ يَدَهُ فَبَرَأَ وَكَانَتْ الْجِنَايَةُ مِنْهُمَا مَعًا فَعَلَيْهِمَا قِيمَتُهُ أَثْلَاثًا وَيَأْخُذَانِ الْعَبْدَ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ كُلُّ جَارِحَةٍ مِنْ اثْنَيْنِ مَعًا جِرَاحَةُ هَذَا فِي عُضْوٍ وَجِرَاحَةُ الْآخَرِ فِي عُضْوٍ تَسْتَغْرِقُ ذَلِكَ الْقِيمَةَ كُلَّهَا، فَإِنَّهُ يَدْفَعُهُ إلَيْهِمَا وَيَغْرَمَانِ قِيمَتَهُ عَلَى قَدْرِ أَرْشِ جِرَاحَتِهِمَا وَيَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ مَاتَ مِنْهُمَا وَالْجِرَاحَةُ خَطَأٌ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَعَلَى الْجَارِحِ الْأَوَّلِ أَرْشُ جِرَاحَتِهِ مِنْ قِيمَتِهِ مَجْرُوحًا بِالْجِرَاحَةِ الْأُولَى وَمَا بَقِيَ مِنْ قِيمَتِهِ فَعَلَيْهِمَا نِصْفَانِ، وَإِنْ بَرَأَ مِنْهُمَا وَالْجِرَاحَةُ الْأَخِيرَةُ تَسْتَغْرِقُ الْقِيمَةَ وَالْجِرَاحَةُ الْأُولَى لَا تَسْتَغْرِقُ فَعَلَى الْأَوَّلِ أَرْشُ جِرَاحَتِهِ وَعَلَى الثَّانِي قِيمَتُهُ مَجْرُوحًا بِالْجُرْحِ الْأَوَّلِ وَيَدْفَعُ الْعَبْدَ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ الْجِرَاحَةُ الْأُولَى هِيَ الَّتِي تَسْتَغْرِقُ الْقِيمَةَ فَعَلَى الْجَارِحِ الثَّانِي أَرْشُ جِرَاحَتِهِ.

وَمَنْ أَمْسَكَ رَجُلًا حَتَّى جَاءَ آخَرُ وَقَتَلَهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُمْسِكِ عِنْدَنَا وَعَلَى الْقَاتِلِ الْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ وَالدِّيَةُ فِي الْخَطَأِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ كِتَابِ الدِّيَاتِ وَعَلَى هَذَا مَنْ أَمْسَكَ رَجُلًا حَتَّى جَاءَ آخَرُ وَأَخَذَ دَرَاهِمَهُ فَضَمَانُ الدَّرَاهِمِ عَلَى الْآخِذِ عِنْدَنَا لَا عَلَى الْمُمْسِكِ.

وَفِي الْخَانِيَّةِ لَوْ وَطِئَ جَارِيَةَ إنْسَانٍ بِشُبْهَةٍ أَوْ أَزَالَ بَكَارَتَهَا فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يُنْظَرُ إلَى مَهْرِ مِثْلِهَا فَيُزَادُ إلَى نُقْصَانِ بَكَارَتِهَا إنْ كَانَ أَكْثَرَ يَجِبُ ذَلِكَ وَيَدْخُلُ الْأَقَلُّ فِي الْأَكْثَرِ وَلَوْ أَنَّ صَبِيًّا زَنَى فِي صَبِيَّةٍ وَأَذْهَبَ عُذْرَتَهَا كَانَ عَلَيْهِ الْمَهْرُ بِإِزَالَةِ الْبَكَارَةِ لَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ بَالِغَةً مُسْتَكْرَهَةً، وَإِنْ كَانَتْ مُطَاوِعَةً لَا يَجِبُ الْمَهْرُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ عَلَى الصَّبِيِّ كَانَ لِوَلِيِّ الصَّبِيِّ أَنْ يَرْجِعَ بِذَلِكَ عَلَيْهَا كَمَا لَوْ أَمَرَ صَبِيًّا بِشَيْءٍ يَلْحَقُهُ ضَمَانُهُ كَانَ لِوَلِيِّ الصَّغِيرِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْآمِرِ فَلَا يُفِيدُ تَضْمِينُ الصَّغِيرِ وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً بَالِغَةً غَصَبَهَا فَزَنَى بِهَا وَأَذْهَبَ عُذْرَتَهَا بِأَمْرِهَا كَانَ عَلَى الصَّبِيِّ مَهْرُهَا؛ لِأَنَّ أَمْرَ الْأَمَةِ لَمْ يَصِحَّ فِي حَقِّ مَوْلَى الْأَمَةِ، حَرِيقٌ وَقَعَ فِي مَحَلَّةٍ فَهَدَمَ رَجُلٌ دَارَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِ صَاحِبِهِ وَبِغَيْرِ أَمْرِ السُّلْطَانِ حَتَّى يَنْقَطِعُ عَنْ دَارِهِ ضَمِنَ وَلَمْ يَأْثَمْ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ حُرٌّ مَعَهُ سَيْفٌ وَعَبْدٌ مَعَهُ عَصَا فَالْتَقَيَا وَضَرَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ حَتَّى قَتَلَهُ وَمَاتَا وَلَا يَدْرِي أَيُّهُمَا بَدَأَ بِالضَّرْبِ فَلَيْسَ عَلَى وَرَثَةِ الْحُرِّ وَلَا عَلَى مَوْلَى الْعَبْدِ شَيْءٌ، وَإِنْ كَانَ السَّيْفُ بِيَدِ الْعَبْدِ وَالْعَصَا بِيَدِ الْحُرِّ فَعَلَى عَاقِلَةِ الْحُرِّ نِصْفُ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَلَا شَيْءَ لِوَرَثَةِ الْحُرِّ عَلَى مَوْلَى الْعَبْدِ، وَإِنْ كَانَ بِيَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَصًا وَضَرَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْآخَرَ وَشَجَّهُ مُوضِحَةً ثُمَّ مَاتَا وَلَا يَدْرِي مَنْ الَّذِي بَدَأَ بِالضَّرْبِ فَعَلَى عَاقِلَةِ الْحُرِّ قِيمَةُ الْعَبْدِ صَحِيحًا لِمَوْلَاهُ ثُمَّ يُقَالُ لِمَوْلَاهُ ادْفَعْ مِنْ ذَلِكَ قِيمَةَ الشَّجَّةِ إلَى وَلِيِّ الْحُرِّ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ شَيْءٌ مِنْهُ بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي رَجُلٍ ضَرَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ هَذَا بِالسَّيْفِ وَهَذَا مَعَهُ عَصًا فَمَاتَا وَلَا يَدْرِي أَيُّهُمَا بَدَأَ قَالَ عَلَى صَاحِبِ الْعَصَا نِصْفُ دِيَةِ صَاحِبِ السَّيْفِ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْعَصَا شَيْءٌ، وَإِذَا جَرَحَ الرَّجُلُ عَمْدًا بِالسَّيْفِ فَأَشْهَدَ الْمَجْرُوحُ بِالسَّيْفِ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّ فُلَانًا لَمْ يَجْرَحْهُ ثُمَّ مَاتَ الْمَجْرُوحُ مِنْ ذَلِكَ هَلْ يَصِحُّ هَذَا الْإِشْهَادُ قَالُوا هَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ تَكُونَ جِرَاحَةُ فُلَانٍ مَعْرُوفَةً عِنْدَ الْقَاضِي وَعِنْدَ النَّاسِ أَوْ غَيْرَ مَعْرُوفَةٍ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً كَانَ الْإِشْهَادُ صَحِيحًا وَفِي الذَّخِيرَةِ، وَإِنْ أَقَامَ الْوَرَثَةُ بَيِّنَةً بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ فُلَانًا جَرَحَهُ لَمْ تُقْبَلْ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ.

وَفِي التَّجْرِيدِ وَلَوْ أَمَرَ رَجُلٌ عَشَرَةَ رِجَالٍ أَنْ يَضْرِبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَبْدَهُ سَوْطًا فَفَعَلُوا ثُمَّ إنَّ آخَرَ ضَرَبَ سَوْطًا وَلَمْ يَأْمُرْهُ فَمَاتَ الْعَبْدُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فَعَلَى

(8/393)


الَّذِي لَمْ يُؤْمَرْ أَرْشُ مَا نَقَصَ بِضَرْبِهِ مَضْرُوبًا عَشَرَةَ أَسْوَاطٍ وَعَلَيْهِ أَيْضًا جُزْءٌ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ قِيمَتِهِ مَضْرُوبًا أَحَدَ عَشَرَ سَوْطًا وَلَوْ أَنَّ الْمَوْلَى ضَرَبَهُ بِيَدِهِ عَشَرَةَ أَسْوَاطٍ ثُمَّ ضَرَبَهُ هَذَا الرَّجُلُ سَوْطًا وَمَاتَ فَعَلَيْهِ نُقْصَانُ سَوْطِهِ وَنِصْفُ قِيمَتِهِ مَضْرُوبًا أَحَدَ عَشَرَ سَوْطًا وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ الصِّبْيَانُ أَوْ الْمَجَانِينُ يُرِيدُونَ قَتْلَهُ وَفِي الْحَاوِي أَوْ أَخْذَ مَالِهِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهِمْ إلَّا بِالْقَتْلِ قَالَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُمْ وَلَوْ قَتَلَ تَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ قَالَ الْمُعَلَّى قُلْتُ: لِمُحَمَّدٍ إنَّ صَاحِبَنَا يَقُولُ بِالضَّمَانِ وَعَنَى أَنَّهُ أَبُو مُطِيعٍ قَالَ الْمُعَلَّى كُنْت فِي الطَّوَافِ، فَإِذَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فَقَالَ يَا خُرَاسَانِيُّ الْقَوْلُ مَا قَالَ صَاحِبُكُمْ قَالَ الشَّيْخُ وَبِهِ يُفْتِي، وَكَانَ نُصَيْرٌ يَقْضِي بِالضَّمَانِ فِي الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْبَهِيمَةِ إذَا قَتَلَهُ الرَّجُلُ دَافِعًا وَكَانَ الْفَقِيهُ أَبُو بَكْرٍ يُفْتِي بِعَدَمِ الضَّمَانِ قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ هَذَا الْقَوْلُ يُخَالِفُ مَا قِيلَ فِي الرِّوَايَاتِ الظَّاهِرَةِ وَفِي فَتَاوَى الذَّخِيرَةِ أَمَةُ الرَّجُلِ إذَا ارْتَدَّتْ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَقَتَلَهَا رَجُلٌ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْقَاتِلِ هَكَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ وَفِي غَيْرِهَا أَنَّ عَلَى الْقَاتِلِ قِيمَتَهَا وَفِي النَّسَفِيَّةِ سُئِلَ عَمَّنْ سَعَى فِيهِ إلَى السُّلْطَانِ وَأَخَذَ مِنْ الرَّجُلِ مَالًا ظُلْمًا هَلْ يَضْمَنُ لِلسَّاعِي قَالَ نَعَمْ وَرُوِيَ هَذَا عَنْ زُفَرَ وَأَخَذَ بِهِ كَثِيرٌ مِنْ مَشَايِخِنَا لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ فَتَاوَى الْخُلَاصَةِ.
مَنْ سَعَى بِرَجُلٍ إلَى السُّلْطَانِ حَتَّى غَرَّمَهُ لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا إنْ كَانَتْ السِّعَايَةُ بِحَقٍّ بِأَنْ كَانَ يُؤْذِيهِ وَلَا يُمْكِنُهُ دَفْعُ الْأَذَى إلَّا بِالرَّفْعِ إلَى السُّلْطَانِ أَوْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَمْتَنِعُ عَنْ الْفِسْقِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَفِي مِثْل هَذَا لَا يَضْمَنُ السَّاعِي. الثَّانِي: أَنْ يَقُولَ إنَّ فُلَانًا وَجَدَ كَنْزًا أَوْ لُقْطَةً وَظَهَرَ أَنَّهُ كَاذِبٌ ضَمِنَ إلَّا إذَا كَانَ السُّلْطَانُ عَادِلًا لَا يَغْرَمُ بِمِثْلِ هَذِهِ السِّعَايَاتِ أَوْ قَدْ يَغْرَمُ وَقَدْ لَا يَغْرَمُ لَا يَضْمَنُ السَّاعِي الثَّالِثُ إذَا وَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّ فُلَانًا يَجِيءُ إلَى امْرَأَتِهِ فَرَفَعَ إلَى السُّلْطَانِ فَغَرَّمَهُ السُّلْطَانُ ثُمَّ ظَهَرَ كَذِبُهُ فَعِنْدَهُمَا لَا يَضْمَنُ السَّاعِي وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَضْمَنُ وَقَالَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ فِي كِتَابِ اللُّقَطَةِ وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ لِغَلَبَةِ السِّعَايَةِ فِي زَمَانِنَا وَقِيلَ سَوَاءٌ قَالَ صِدْقًا أَوْ كَذِبًا إنْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَسِبًا وَلَيْسَ لِلسُّلْطَانِ حَقُّ الْأَخْذِ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ إذَا أَمَرَ الْأَعْوَانَ بِأَخْذِ الْمَالِ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ لَا يَجِبُ وَاعْتِبَارُ السِّعَايَةِ يَجِبُ أَمَّا إذَا لَمْ يَأْمُرْ الْأَعْوَانَ وَلَكِنْ أَرَاهُ بَيْتَهُ وَأَخَذَ مِنْ بَيْتِهِ شَيْئًا لَا يَضْمَنُ وَقَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ لَا يَضْمَنُ الْجَانِي مُطْلَقًا قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ السَّاعِي لَا يَضْمَنُ أَيْضًا وَالْمَشَايِخُ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْهُمْ الْقَاضِي الْإِمَامُ عَلِيٌّ السُّغْدِيُّ وَالْحَاكِمُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَغَيْرُهُمَا أَفْتَوْا بِوُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى السَّاعِي هَكَذَا اخْتَارَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ وَهُوَ أَصَحُّ وَلَوْ قَالَ عِنْدَ السُّلْطَانِ: إنَّ لِفُلَانٍ قَوْسًا جَيِّدًا أَوْ جَارِيَةً حَسْنَاءَ وَالسُّلْطَانُ يَأْخُذُ فَأَخَذَ يَضْمَنُ وَلَوْ كَانَ السَّاعِي عَبْدًا يَطْلُبُ بَعْدَ الْعِتْقِ وَلَوْ اشْتَرَى شَيْئًا فَقِيلَ لَهُ اشْتَرَيْت بِثَمَنٍ غَالٍ فَسَعَى عِنْدَ ظَالِمٍ وَأَخَذَهُ إنْ كَانَ قَالَ صِدْقًا لَا يَضْمَنُ، وَإِنْ كَانَ كَذِبًا يَضْمَنُ.
وَقَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَالَ أَبُو نَصْرٍ الدَّبُوسِيُّ فِيمَنْ قَطَعَ يَدَ عَبْدِهِ أَوْ قَتَلَهُ أَنَّ عَلَيْهِ التَّعْزِيرَ وَفِي الْفَتَاوَى عَنْ خَلْفٍ قَالَ سَأَلْت أَسَدَ بْنَ عَمْرٍو عَمَّنْ ضَرَبَهُ بِيَدِهِ أَوْ رِجْلِهِ وَمَاتَ مِنْهُ قَالَ هَذَا شِبْهُ الْعَمْدِ.

وَفِي الْمُنْتَقَى عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ فِي رَجُلٍ قَصَدَ أَنْ يَضْرِبَ آخَرَ بِالسَّيْفِ فَأَخَذَ الْمَضْرُوبُ السَّيْفَ مِنْ يَدِهِ فَقَطَعَ السَّيْفُ أَصَابِعَ الْآخَرِ قَالَ إنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ الْمِفْصَلِ فَعَلَى الْجَاذِبِ الدِّيَةُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْمِفْصَلِ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ.

وَفِي الْمُنْتَقَى رَجُلٌ قُتِلَ عَمْدًا وَلَهُ ابْنَانِ وَامْرَأَةٌ فَعَفَتْ الْمَرْأَةُ عَنْ الدَّمِ ثُمَّ إنَّ أَحَدَ الِابْنَيْنِ قَتَلَ الْقَاتِلَ وَهُوَ يَعْلَمُ الْعَفْوَ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ يَدْفَعُ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ لَهُ عَلَى قَاتِلِ الْأَبِ، وَأَمَّا إذَا قَتَلَ أَحَدُهُمَا أَبًا عَمْدًا وَقَتَلَ الْآخَرُ أُمَّهُ عَمْدًا فَلِلْأَوَّلِ أَنْ يَقْتُلَ الثَّانِيَ بِالْأُمِّ وَيَسْقُطَ الْقِصَاصُ عَنْ الْأَبِ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ الْأَوَّلَ لَمَّا قُتِلَ صَارَ الْقِصَاصُ مَوْرُوثًا بَيْنَ الِابْنِ الْآخَرِ وَبَيْنَ الْأُمِّ لِلْأُمِّ مِنْ ذَلِكَ الثُّمُنُ، فَإِنْ قَتَلَ الْآخَرُ الْأُمَّ صَارَ الثُّمُنُ الَّذِي وَرِثَتْهُ الْأُمُّ مِنْ الْأَبِ مِيرَاثَ الْأَوَّلِ فَسَقَطَ ضَرُورَةً، وَإِذَا جَنَى عَلَى مُكَاتَبِ إنْسَانٍ ثُمَّ دَبَّرَهُ مَوْلَاهُ لِانْهِدَارِ السِّرَايَةِ بَلْ تَكُونُ السِّرَايَةُ مَضْمُونَةً عَلَى الْجَانِي بَعْدَ التَّدْبِيرِ وَلَوْ كَاتَبَهُ أَوْ أَعْتَقَهُ هُدِرَتْ السِّرَايَةُ أَيْضًا، وَإِذَا جَنَى عَلَى مُكَاتَبِ إنْسَانٍ ثُمَّ أَدَّى الْمُكَاتَبُ فَعَتَقَ ثُمَّ مَاتَ الْمُكَاتَبُ مِنْ تِلْكَ الْجِنَايَةِ فَعَلَى الْجَانِي قِيمَةُ الْمُكَاتَبِ لَا الدِّيَةُ، وَإِنْ مَاتَ حُرًّا.

وَقَالَ فِي الْمُنْتَقَى رَجُلٌ شَهِدَ لَهُ رَجُلَانِ أَنَّهُ قَتَلَ ابْنَ هَذَا فُلَانًا وَشَهِدَ آخَرَانِ لِهَذَا الرَّجُلِ أَيْضًا أَنَّهُ قَتَلَ ابْنَ هَذَا فُلَانًا وَسَمَّيَا ابْنًا آخَرَ لَهُ غَيْرَ الَّذِي سَمَّيَاهُ الْأَوَّلَانِ وَزُكِّيَ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ وَلَمْ يُزَكَّ الْفَرِيقُ الثَّانِي فَدُفِعَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ إلَى الْمَشْهُودِ لَهُ لِيَقْتُلَهُ فَقَالَ الْمَشْهُودُ لَهُ أَنَا أَقْتُلُك بِابْنِي الَّذِي لَمْ تُزَكَّ الشُّهُودُ عَلَى قَتْلِهِ وَلَا أَقْتُلُك بِابْنِي الَّذِي زَكِّي الشُّهُودُ عَلَى قَتْلِهِ ثُمَّ قَتَلَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
وَإِنْ قَالَ لَمْ يُقْتَلْ

(8/394)


ابْنِي الَّذِي زُكِّيَ الشُّهُودُ عَلَى قَتْلِهِ، وَإِنَّمَا قُتِلَ ابْنٌ آخَرُ لِي فَقَتَلَهُ كَانَ عَلَيْهِ الدِّيَةُ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ عَلَيْهِ الْقَتْلُ.

وَفِي الْمُنْتَقَى قَالَ مُحَمَّدٌ فِي نَصْرَانِيٍّ شَهِدَ عَلَيْهِ نَصْرَانِيَّانِ أَنَّهُ قَتَلَ ابْنَ هَذَا النَّصْرَانِيِّ عَمْدًا فَقُضِيَ عَلَيْهِ بِالْقِصَاصِ وَدُفِعَ إلَيْهِ لِيَقْتُلَهُ فَأَسْلَمَ، فَإِنِّي أَدْرَأُ عَنْهُ الْقَتْلَ وَأَجْعَلُ عَلَيْهِ الدِّيَةَ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي مُسْلِمٍ قَطَعَ يَدَ عَبْدِ النَّصْرَانِيِّ عَمْدًا فَأَقَامَ الْعَبْدُ بَيِّنَةً عَلَى النَّصْرَانِيِّ أَنَّ مَوْلَاهُ كَانَ أَعْتَقَهُ قَبْلَ أَنْ يَقْطَعَ هَذَا الْمُسْلِمُ يَدَهُ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ عَلَى الْعِتْقِ وَلَا يُقْضَى لَهُ بِالْقِصَاصِ وَلَهُ نِصْفُ الْقِيمَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

[بَابُ مَا يُحْدِثُ الرَّجُلُ فِي الطَّرِيقِ]
(بَابُ مَا يُحْدِثُ الرَّجُلُ فِي الطَّرِيقِ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ الْقَتْلِ مُبَاشَرَةً شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامِهِ تَسَبُّبًا وَقَدَّمَ الْأَوَّلَ لِكَوْنِهِ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ قَتْلٌ بِلَا وَاسِطَةٍ وَلِكَوْنِهِ أَكْثَرَ وُقُوعًا فَكَانَ أَمَسَّ حَاجَةً إلَى مَعْرِفَةِ أَحْكَامِهِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَمَنْ أَخْرَجَ إلَى طَرِيقِ الْعَامَّةِ كَنِيفًا أَوْ مِيزَابًا أَوْ جُرْصُنًا أَوْ دُكَّانًا فَلِكُلٍّ نَزْعُهُ) أَيْ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْمُرُورِ الْخُصُومَةُ مُطَالَبَةً بِالنَّقْضِ كَالْمُسْلِمِ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ الْحُرِّ وَكَالذِّمِّيِّ؛ لِأَنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمْ الْمُرُورَ بِنَفْسِهِ وَبِدَوَابِّهِ فَتَكُونُ لَهُ الْخُصُومَةُ بِنَفْسِهِ كَمَا فِي الْمِلْكِ الْمُشْتَرَكِ بِخِلَافِ الْعَبِيدِ وَالصِّبْيَانِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِمْ حَيْثُ لَا يُؤْمَرُ بِالْهَدْمِ بِمُطَالَبَتِهِمْ؛ لِأَنَّ مُخَاصَمَةَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِمْ لَا تُعْتَبَرُ فِي مَالِهِ بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ هَذَا إذَا بَنَى لِنَفْسِهِ قُيِّدَ بِمَا ذُكِرَ لِيَحْتَرِزَ عَمَّا إذَا بَنَى لِلْمُسْلِمِينَ كَالْمَسْجِدِ وَنَحْوِهِ فَلَا يُنْتَقَضُ كَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وَقَالَ إسْمَاعِيلُ الصَّفَّارُ إنَّمَا يُنْقَضُ بِخُصُومَتِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مِثْلُهُ لَا يُلْتَفَتُ إلَى خُصُومَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ بِهِ إزَالَةَ الضَّرَرِ عَنْ النَّاسِ لَبَدَأَ بِنَفْسِهِ وَحَيْثُ لَمْ يَزُلْ مَا فِي قُدْرَتِهِ عُلِمَ أَنَّهُ مُتَعَنِّتٌ قَالَ فِي الْعِنَايَةِ الْكَنِيفُ الْمُسْتَرَاحُ وَالْمِيزَابُ وَالْجُرْصُنُ قِيلَ هُوَ الْبُرْجُ وَقَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ جِذْعٌ يُخْرِجُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ الْحَائِطِ لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ ثُمَّ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ أَحَدُهَا فِي أَنَّهُ هَلْ يَحِلُّ لَهُ إحْدَاثُهُ فِي الطَّرِيقِ أَمْ لَا وَالثَّانِي فِي الْخُصُومَةِ فِي مَنْعِهِ مِنْ الْإِحْدَاثِ فِيهِ وَرَفْعُهُ بَعْدَهُ وَالثَّالِثُ فِي ضَمَانِ مَا تَلِفَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَمَّا الْإِحْدَاثُ فَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ إنْ كَانَ الْإِحْدَاثُ يَضُرُّ بِأَهْلِ الطَّرِيقِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُحْدِثَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّ بِأَحَدٍ لِسَعَةِ الطَّرِيقِ جَازَ لَهُ إحْدَاثُهُ فِيهِ مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ فِي الطَّرِيقِ بِغَيْرِ أَنْ يَضُرَّ بِأَحَدٍ جَائِزٍ فَكَذَا مَا هُوَ مِثْلُهُ فَيُلْحَقُ بِهِ إذَا احْتَاجَ إلَيْهِ، فَإِذَا أَضَرَّ بِالْمَارِّ لَا يَحِلُّ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارِ فِي الْإِسْلَامِ» وَهَذَا نَظِيرُ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ، فَإِنَّهُ لَا يَسَعُهُ التَّأْخِيرُ إذَا طَالَبَهُ صَاحِبُهُ فَلَوْ لَمْ يُطَالِبْهُ جَازَ لَهُ تَأْخِيرُهُ وَعَلَى هَذَا الْقُعُودُ فِي الطَّرِيقِ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ يَجُوزُ إنْ لَمْ يَضُرَّ بِأَحَدٍ، وَإِنْ أَضَرَّ لَمْ يَجُزْ لِمَا قُلْنَا، وَأَمَّا الْخُصُومَةُ فِيهِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ عُرْضِ النَّاسِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الْوَضْعِ وَأَنْ يُكَلِّفَهُ الرَّفْعَ بَعْدَ الْوَضْعِ سَوَاءٌ كَانَ فِيهِ ضَرَرًا وَلَمْ يَكُنْ إذَا وَضَعَ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ لِافْتِيَاتِهِ عَلَى رَأْيِهِ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ فِي أُمُورِ الْعَامَّةِ إلَى الْإِمَامِ الْعُرْضُ بِالضَّمِّ النَّاحِيَةُ وَالْمُرَادُ وَاحِدٌ مِنْ النَّاسِ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لِكُلِّ وَاحِدٍ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَمْنَعَهُ قَبْلَ الْوَضْعِ وَلَا بَعْدَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرُ النَّاسِ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ لَهُ فِي إحْدَاثِهِ شَرْعًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ إنْ لَمْ يَمْنَعْهُ أَحَدٌ وَالْمَانِعُ مِنْهُ مُتَعَنِّتٌ فَلَا يُمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ.
فَصَارَ كَمَا لَوْ أَذِنَ لَهُ الْإِمَامُ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ إذْنَ الشَّارِعِ أَحْرَى وِلَايَةً وَأَقْوَى كَالْمُرُورِ حَتَّى لَا يَجُوزَ لِأَحَدٍ أَنْ يَمْنَعَهُ وَجَوَابُهُ أَنَّ هَذَا انْتِفَاعٌ بِمَا لَمْ تُوضَعْ لَهُ الطَّرِيقُ فَكَانَ لَهُمْ مَنْعُهُ، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فِي نَفْسِهِ بِخِلَافِ الْمُرُورِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ انْتِفَاعٌ بِمَا وُضِعَ لَهُ فَلَا يَكُونُ لِأَحَدٍ مَنْعُهُ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلَهُ التَّصَرُّفُ فِي النَّافِذِ إلَّا إذَا أَضَرَّ) أَيْ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ بِإِحْدَاثِ الْجُرْصُنِ وَغَيْرِهِ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الطَّرِيقِ النَّافِذِ إذَا لَمْ يَضُرَّ بِالْعَامَّةِ مَعْنَاهُ إذَا لَمْ يَمْنَعْهُ أَحَدٌ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ وَالْخِلَافَ الَّذِي فِيهِ فَلَا نُعِيدُهُ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَفِي غَيْرِهِ لَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ إلَّا بِإِذْنِهِمْ) أَيْ فِي غَيْرِ النَّافِذِ مِنْ الطَّرِيقِ لَا يَتَصَرَّفُ أَحَدٌ بِإِحْدَاثِ مَا ذَكَرْنَا إلَّا بِإِذْنِ أَهْلِهِ؛ لِأَنَّ الطَّرِيقَ الَّتِي لَيْسَتْ بِنَافِذَةٍ مَمْلُوكَةٌ لِأَهْلِهَا فَهُمْ فِيهَا شُرَكَاءُ وَلِهَذَا يَسْتَحِقُّونَ بِهَا الشُّفْعَةَ وَالتَّصَرُّفَ فِي الْمِلْكِ الْمُشْتَرَكِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي لَمْ يُوضَعْ لَهُ لَا يُمْلَكُ إلَّا بِإِذْنِ الْكُلِّ أَضَرَّ بِهِمْ أَوْ لَمْ يَضُرَّ بِخِلَافِ النَّافِذِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهِ مِلْكٌ فَيَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَا لَمْ يَضُرَّ بِأَحَدٍ وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ حَقُّ الْعَامَّةِ فَيَتَعَذَّرُ الْوُصُولُ إلَى إذْنِ الْكُلِّ فَجُعِلَ كُلُّ وَاحِدٍ كَأَنَّهُ هُوَ الْمَالِكُ وَحْدَهُ فِي حَقِّ الِانْتِفَاعِ مَا لَمْ يَضُرَّ بِأَحَدٍ وَلَا كَذَلِكَ غَيْرُ النَّافِذِ؛ لِأَنَّ الْوُصُولَ إلَى إرْضَائِهِمْ مُمْكِنٌ فَيَبْقَى عَلَى

(8/395)


شَرِكَتِهِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا وَفِي الْمُنْتَقَى إنَّمَا يُؤْمَرُ بِرَفْعِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إذَا عُلِمَ حُدُوثُهَا فَلَوْ كَانَتْ قَدِيمَةً فَلَيْسَ لِأَحَدٍ حَقُّ الرَّفْعِ، وَإِنْ لَمْ يُدْرَ حَالُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ تُجْعَلُ قَدِيمَةً وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (فَإِنْ مَاتَ أَحَدٌ بِسُقُوطِهَا فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ كَمَا لَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي طَرِيقٍ أَوْ وَضَعَ حَجَرًا فَتَلِفَ بِهِ إنْسَانٌ) أَيْ إذَا مَاتَ إنْسَانٌ بِسُقُوطِ مَا ذَكَرَهُ مِنْ كَنِيفٍ أَوْ مِيزَابٍ أَوْ جَرْصَنٍ فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ مَنْ أَخْرَجَهُ إلَى الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّهُ تَسَبَّبَ لِلْهَلَاكِ مُتَعَدِّيًا فِي إحْدَاثِ مَا تَضَرَّرَ بِهِ الْمَارَّةُ بِإِشْغَالِ هَوَاءِ الطَّرِيقِ بِهِ أَوْ بِإِحْدَاثِ مَا يَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الطَّرِيقِ وَكَذَا إذَا عَثَرَ بِنَقْضِهِ إنْسَانٌ وَلَوْ عَثَرَ بِمَا أَحْدَثَ بِهِ هُوَ رَجُلٌ فَوَقَعَ عَلَى آخَرَ فَمَاتَا فَدِيَتُهُمَا عَلَى عَاقِلَةِ مَنْ أَحْدَثَهُ؛ لِأَنَّ الْوَاقِعَ كَالْمَدْفُوعِ عَلَى الْآخَرِ وَلَوْ سَقَطَ الْمِيزَابُ فَأَصَابَ مَا كَانَ فِي الدَّاخِلِ رَجُلًا فَقَتَلَهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى أَحَدٍ؛ لِأَنَّهُ وَضَعَ ذَلِكَ فِي مِلْكِهِ فَلَا يَكُونُ مُتَعَدِّيًا فِيهِ، وَإِنْ أَصَابَهُ مَا كَانَ خَارِجًا فِيهِ يَضْمَنُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَخَارِجًا أَمْ دَاخِلًا؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ خَارِجًا ضَمِنَ، وَإِنْ كَانَ دَاخِلًا لَا يَضْمَنُ فَفِي الْقِيَاسِ لَا يَضْمَنُ بِالشَّكِّ؛ لِأَنَّ فَرَاغَ ذِمَّتِهِ ثَابِتٌ بِيَقِينٍ وَفِي الشُّغْلِ شَكٌّ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَضْمَنُ النِّصْفَ؛ لِأَنَّهُ فِي حَالٍ يَضْمَنُ الْكُلَّ وَفِي حَالٍ لَا يَضْمَنُ شَيْئًا فَيَضْمَنُ النِّصْفَ وَلَا يُقَالُ يَنْبَغِي أَنْ يَضْمَنَ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ يَضْمَنُ فِي حَالَةِ النِّصْفِ وَهُوَ مَا إذَا أَصَابَهُ الطَّرَفَانِ فَيَنْتَصِفُ فَيَكُونُ مَعَ النِّصْفِ الْأَوَّلِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعٍ؛ لِأَنَّ أَحْوَالَ الْإِصَابَةِ حَالَةٌ وَاحِدَةٌ فَلَا تَتَعَدَّدُ لِاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِهِمَا بِخِلَافِ حَالَةِ الْجُرْحَيْنِ.

وَلَوْ أَشْرَعَ جَنَاحًا إلَى الطَّرِيقِ ثُمَّ بَاعَ الْكُلَّ فَأَصَابَ الْجَنَاحُ رَجُلًا فَقَتَلَهُ أَوْ وَضَعَ خَشَبَةً فِي الطَّرِيقِ ثُمَّ بَاعَ الْخَشَبَةَ وَتَرَكَهَا الْمُشْتَرِي حَتَّى عَطِبَ بِهَا إنْسَانٌ فَالضَّمَانُ عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ لَمْ يَنْفَسِخْ بِزَوَالِ مِلْكِهِ وَهُوَ الْمُوجِبُ بِخِلَافِ الْحَائِطِ الْمَائِلِ إذَا بَاعَهُ بَعْدَ الْإِشْهَادِ عَلَيْهِ ثُمَّ سَقَطَ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي عَلَى إنْسَانٍ حَيْثُ لَا يَضْمَنُ الْبَائِعُ وَلَا الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ وَهُوَ شَرْطُ الْحَائِطِ الْمَائِلِ وَفِي حَقِّ الْبَائِعِ قَدْ بَطَلَ الْإِشْهَادُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْإِشْهَادِ فَيَبْطُلُ بِخُرُوجِهِ عَنْ مِلْكِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ نَقْضِ مِلْكِ الْغَيْرِ وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ إنَّمَا يَضْمَنُ بِإِشْغَالِ الطَّرِيقِ لَا بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ وَالْإِشْغَالُ بَاقٍ بَعْدَ الْبَيْعِ أَلَا تَرَى أَنَّ ذَلِكَ الْإِشْغَالَ لَوْ حَصَلَ مِنْ غَيْرِ مَالِكٍ كَالْمُسْتَأْجِرِ أَوْ الْمُعِيرِ أَوْ الْغَاصِبِ يَضْمَنُ وَفِي الْحَائِطِ لَا يَضْمَنُ غَيْرُ الْمَالِكِ.

وَلَوْ اسْتَأْجَرَ رَبُّ الدَّارِ الْفَعَلَةَ لِإِخْرَاجِ الْجَنَاحِ أَوْ الظُّلَّةِ فَوَقَعَ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغُوا مِنْ الْعَمَلِ فَقَتَلَ إنْسَانًا فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ بِفِعْلِهِمْ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ لَا يَكُونُ مُسَلَّمًا إلَى رَبِّ الدَّارِ قَبْلَ فَرَاغِهِمْ مِنْهُ فَانْقَلَبَ فِعْلُهُمْ قَتْلًا حَتَّى وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ الْكَفَّارَةُ وَيُحْرَمُونَ مِنْ الْإِرْثِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْمَسَائِلِ مِنْ إخْرَاجِ الْجُنَاحِ أَوْ الْمِيزَابِ أَوْ الْكَنِيفِ إلَى الطَّرِيقِ فَقَتَلَ إنْسَانًا بِسُقُوطِهِ حَيْثُ لَا تَجِبُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ وَلَا يَحْرُمُ الْإِرْثُ؛ لِأَنَّهُ تَسَبُّبٌ وَهُنَا مُبَاشَرَةُ الْقَتْلِ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي عَقْدِهِ فَلَمْ يَسْتَنِدْ فِعْلُهُمْ إلَيْهِ فَاقْتَصَرَ عَلَيْهِمْ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هَذَا عَلَى وُجُوهٍ أَمَّا إنْ قَالَ لَهُمْ ابْنُوا لِي جَنَاحًا عَلَى فِنَاءِ دَارِي، فَإِنَّهُ مِلْكِي وَلِي مِنْهُ حَقُّ إشْرَاعِ الْجَنَاحِ إلَيْهِ مِنْ الْقَدِيمِ وَلَمْ تَعْلَمْ الْفَعَلَةُ ثُمَّ ظَهَرَ بِخِلَافِ مَا قَالَ ثُمَّ سَقَطَ فَأَصَابَ شَيْئًا فَالضَّمَانُ عَلَى الْآجِرِ وَيَرْجِعُونَ بِالضَّمَانِ عَلَى الْآمِرِ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا سَوَاءٌ سَقَطَ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ أَوْ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ وَجَبَ عَلَى الْفَاعِلِ بِأَمْرِ الْآمِرِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ شَخْصًا لِيَذْبَحَ لَهُ شَاةً ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ الشَّاةُ بَعْدَ الذَّبْحِ كَانَ لِلْمُسْتَحِقِّ أَنْ يُضَمِّنَ الذَّابِحَ وَيَرْجِعَ الذَّابِحُ بِهِ عَلَى الْآمِرِ فَكَذَا هَذَا، وَأَمَّا إذَا قَالَ لَهُمْ اشْرَعُوا لِي جَنَاحًا عَلَى فِنَاءِ دَارِي وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَقُّ الشَّرْعِ فِي الْقَدِيمِ أَوْ لَمْ يُخْبِرْهُمْ حَتَّى بَنَوْا ثُمَّ سَقَطَ فَأَتْلَفَ شَيْئًا إنْ سَقَطَ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَرْجِعُوا بِهِ عَلَى الْآمِرِ قِيَاسًا، وَإِنْ سَقَطَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ فَكَذَلِكَ فِي جَوَابِ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ أَمَرَهُمْ بِمَا لَا يَمْلِكُ مُبَاشَرَتَهُ بِنَفْسِهِ وَقَدْ عَلِمُوا فَسَادَ أَمْرِهِ فَلَمْ يَحْكُمْ بِالضَّمَانِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَذْبَحَ شَاةَ جَارٍ لَهُ وَأَعْلَمَهُ فَذَبَحَ ثُمَّ ضَمِنَ الذَّابِحُ لِلْجَارِّ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى الْآمِرِ وَكَذَا لَوْ اسْتَأْجَرَهُمْ لِيَبْنُوا لَهُ بَيْتًا فِي وَسَطِ الطَّرِيقِ ثُمَّ سَقَطَ وَأَتْلَفَ شَيْئًا لَمْ يَرْجِعُوا بِهِ عَلَى الْآمِرِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَكُونُ الضَّمَانُ عَلَى الْآمِرِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْأَمْرَ صَحِيحٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ فَمِنْ حَيْثُ إنَّ الْأَمْرَ صَحِيحٌ يَكُونُ إقْرَارُ الضَّمَانِ عَلَى الْآمِرِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْفِعْلِ وَمِنْهُ حَيْثُ إنَّهُ فَاسِدٌ يَكُونُ الضَّمَانُ عَلَى الْعَامِلِ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ عَمَلًا بِهَا وَإِظْهَارُ شُبْهَةِ الصِّحَّةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ أَوْلَى مِنْ إظْهَارِهِ قَبْلَ الْفَرَاغِ؛ لِأَنَّ أَمْرَ الْآمِرِ إنَّمَا لَا يَصْلُحُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يَمْلِكُ الِانْتِفَاعَ بِفِنَاءِ دَارِهِ، وَإِنَّمَا حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ بَعْدَ الْفَرَاغِ

(8/396)


مِنْ الْعَمَلِ.

قَوْلُهُ كَمَا لَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي طَرِيقٍ فَتَلِفَ بِهِ إنْسَانٌ أَيْ الْقَتْلُ بِسُقُوطِ الْمِيزَابِ وَنَحْوِهِ كَالْقَتْلِ بِحَفْرِ الْبِئْرِ وَوَضْعِ الْحَجَرِ فِي الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَتْلٌ بِسَبَبٍ حَتَّى لَا تَجِبَ فِيهِ الْكَفَّارَةُ وَلَا يُحْرَمَ الْمِيرَاثَ فَيَكُونَ حُكْمُهُ كَحُكْمِهِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ قَوْلُهُ: حَفَرَ إلَى آخِرِهِ حَفَرَ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ فَجَاءَ آخَرُ وَحَفَرَ طَائِفَةٌ فِي أَسْفَلِهَا ثُمَّ وَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ وَمَاتَ فِي الْقِيَاسِ يَضْمَنُ الْأَوَّلُ وَبِهِ أَخَذَ مُحَمَّدٌ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا أَثْلَاثًا.

وَلَوْ حَفَرَ بِئْرًا ثُمَّ جَاءَ آخَرُ وَوَسَّعَ رَأْسَهَا فَسَقَطَ فِيهَا إنْسَانٌ وَمَاتَ كَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا أَثْلَاثًا قَالُوا تَأْوِيلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الثَّانِيَ وَسَّعَ رَأْسَهَا بِحَيْثُ يَعْلَمُ النَّاسُ أَنَّ الْوَاقِعَ إنَّمَا وَقَعَ فِي مَوْضِعٍ بَعْضُهُ مِنْ حَفْرِ الْأَوَّلِ وَبَعْضُهُ مِنْ حَفْرِ الثَّانِي أَمَّا إذَا وَسَّعَ الثَّانِي رَأْسَهَا بِحَيْثُ إنَّهُ إنَّمَا وَقَعَ فِي مَوْضِعِ حَفْرِ الثَّانِي كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الثَّانِي، وَإِنْ لَمْ يَدْرِ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا قَاضِي خَانْ قَوْلُهُ حَفَرَ إلَى آخِرِهِ سَقَطَ إنْسَانٌ فَقَالَ الْحَافِرُ إنَّهُ أَلْقَى نَفْسَهُ وَكَذَّبَهُ الْوَرَثَةُ فِي ذَلِكَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْحَافِرِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ آخِرًا وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْبَصِيرَ يَرَى مَوْضِعَ قَدَمَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُوقِعُ نَفْسَهُ إلَّا إذَا وَقَعَتْ لَهُ شِدَّةٌ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ بِالشَّكِّ قَوْلُهُ حَفَرَ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ ثُمَّ كَسَاهَا بِالتُّرَابِ أَوْ بِخُضَرٍ أَوْ بِمَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ يَضْمَنُ الْأَوَّلُ وَلَوْ غَطَّى رَأْسَهَا وَجَاءَ آخَرُ وَرَفَعَ الْغِطَاءَ فَوَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ ضَمِنَ الْأَوَّلُ وَقَالَ قَاضِي خَانْ قَيَّدَ بِقَوْلِهِ فَتَلِفَ فِيهِ فَلَوْ لَمْ يَمُتْ مِنْ ذَلِكَ بَلْ مَاتَ جُوعًا أَوْ عَطَشًا أَوْ غَمًّا هَلْ يَضْمَنُ الْحَافِرُ لَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ هَذَا وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْإِمْلَاءِ خِلَافًا فَقَالَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَضْمَنُ الْحَافِرُ إذَا مَاتَ جُوعًا فَالْجَوَابُ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فَأَمَّا إذَا مَاتَ غَمًّا، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ الْحَافِرُ وَفِي الْكُبْرَى وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي الذَّخِيرَةِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ يَضْمَنُ فِي الْحَالَتَيْنِ هَذَا إذَا كَانَ الْحَفْرُ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ فَأَمَّا إذَا كَانَ الْحَفْرُ فِي فِنَاءِ دَارِهِ فَوَقَعَ فِيهِ إنْسَانٌ فَمَاتَ هَلْ يَضْمَنُ إنْ كَانَ الْفِنَاءُ لِغَيْرِهِ يَكُونُ ضَامِنًا، وَأَمَّا إذَا حَفَرَ فِي مِلْكِهِ أَوْ كَانَ لَهُ حَقُّ الْحَفْرِ فِي الْقَدِيمِ فَكَذَا الْجَوَابُ لَا يَضْمَنُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِلْكًا لَهُ وَلَكِنْ كَانَ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ كَانَ شِرْكًا بِأَنْ كَانَ فِي سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ قَالَ فِي الْمُنْتَقَى فِنَاءُ دَارِ الرَّجُلِ مَا كَانَ فِي دَارِهِ يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَإِنْ كَانَ فِي عُرْضِ سِكَّتِهِ أَوْ أَعْرَضَ مِنْهَا فَأَمَّا إذَا أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَحْفِرَ لَهُ بِئْرًا فِي أَصْلِ حَائِطِ جَارِهِ وَفِنَائِهِ فَهَذَا كُلُّهُ فِنَاءُ الْآمِرِ وَفِنَاءُ جَارِهِ الَّذِي هُوَ فِنَاءٌ لَهُ فَهُوَ فِنَاؤُهُمَا، وَإِنْ كَانَتْ السِّكَّةُ غَيْرَ نَافِذَةٍ فَأَمَرَ بِالْحَفْرِ فِي مَوْضِعٍ لَيْسَ لَهُ فِيهِ مَنْفَعَةٌ وَلَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الدَّارُ وَهَذَا لَيْسَ بِفِنَائِهِ، وَإِذَا أَوْقَعَ إنْسَانٌ نَفْسَهُ فِي الْبِئْرِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْحَافِرِ شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ.

وَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ فَوَقَعَ فِيهَا دَابَّةٌ أَوْ إنْسَانٌ فَتَلِفَ فَالضَّمَانُ عَلَى الْحَافِرِ وَلَوْ جَاءَ إنْسَانٌ فَدَفَعَهُ وَأَلْقَاهُ فِي الْبِئْرِ وَهَلَكَ فَالضَّمَانُ عَلَى الدَّافِعِ دُونَ الْحَافِرِ.

وَفِي الْخَانِيَّةِ رَجُلٌ حَفَرَ بِئْرًا فِي مِلْكِهِ ثُمَّ سَقَطَ إنْسَانٌ فَقَتَلَ السَّاقِطُ ذَلِكَ الْإِنْسَانَ أَوْ الدَّابَّةَ كَانَ السَّاقِطُ ضَامِنًا دِيَةَ أَوْ قِيمَةَ مَنْ كَانَ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ الْبِئْرُ فِي الطَّرِيقِ كَانَ الضَّمَانُ عَلَى حَافِرِ الْبِئْرِ، فَإِذَا حَفَرَ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ فَسُقُوطُهُ لَا يَكُونُ ضَامِنًا إلَى الْحَافِرِ وَكَانَ تَلَفُ السُّقُوطِ عَلَيْهِ مُضَافًا إلَى السَّاقِطِ، وَإِذَا حَفَرَ الرَّجُلُ بِئْرًا فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ آخَرُ حَفَرَ طَائِفَةٌ أُخْرَى فِي أَسْفَلِهَا ثُمَّ وَقَعَ إنْسَانٌ وَمَاتَ، فَإِنَّهُ يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ أَنْ يَضْمَنَ الْأَوَّلُ وَبِهِ أَخَذَ مُحَمَّدٌ وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي جَوَابِ الِاسْتِحْسَانِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ جَوَابُ الِاسْتِحْسَانِ أَنْ يَكُونَ الضَّمَانُ عَلَى الْأَوَّلِ وَالثَّانِي وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ جَوَابُ الِاسْتِحْسَانِ أَنْ يَكُونَ الضَّمَانُ عَلَى الثَّانِي خَاصَّةً إلَّا أَنَّ أَصْحَابَنَا أَخَذُوا بِالْقِيَاسِ وَكَانَ كَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ فَجَاءَ إنْسَانٌ وَوَضَعَ فِي الْبِئْرِ سِلَاحًا ثُمَّ جَاءَ إنْسَانٌ وَوَقَعَ عَلَى السِّلَاحِ وَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ الضَّمَانَ عَلَى الْحَافِرِ وَسُئِلَ بَعْضُهُمْ عَمَّنْ حَفَرَ فِي صَحْرَاءِ قَرْيَةٍ الَّتِي هِيَ لِأَهْلِ الْقَرْيَةِ وَهِيَ مَبِيتُ دَوَابِّهِمْ حَفِيرَةً يَضَعُ فِيهَا الْحِنْطَةَ وَالشَّعِيرَ بِغَيْرِ إذْنِ الْبَاقِينَ فَجَاءَ رَجُلٌ وَأَوْقَدَ فِي الْحَفِيرَةِ نَارًا كَسَتْهَا وَذَلِكَ أَيْضًا بِغَيْرِ إذْنِ الْبَاقِينَ فَوَقَعَ فِيهَا حِمَارٌ فَاحْتَرَقَ بِالنَّارِ فَالضَّمَانُ عَلَى مَنْ يَجِبُ فَقَالَ عَلَى الْحَافِرِ قَالَ وَهَذَا قِيَاسُ مَا نُقِلَ عَنْ أَصْحَابِنَا فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ أَنَّ مَنْ حَفَرَ بِئْرًا عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ وَأَلْقَى رَجُلٌ فِيهَا حَجَرًا بَعْدَمَا وَقَعَ فِي الْبِئْرِ رَجُلٌ فَأَصَابَهُ الْحَجَرُ الَّذِي فِي الْبِئْرِ فَمَاتَ إنَّ الدِّيَةَ عَلَى الْحَافِرِ وَمِثْلُهُ لَوْ وَضَعَ رَجُلٌ حَجَرًا عَلَى الْأَرْضِ بِقُرْبِ الْبِئْرِ فَتَعَقَّلَ فِيهَا إنْسَانٌ وَوَقَعَ فَهَلَكَ فَالدِّيَةُ عَلَى مَنْ وَضَعَ الْحَجَرَ كَأَنَّهُ أَلْقَاهُ فِي الْبِئْرِ فَمَاتَ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الدَّافِعِ وَكَذَلِكَ هَاهُنَا هَذَا إذَا وَضَعَ الْحَجَرَ وَاضِعٌ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَضَعْهُ أَحَدٌ وَلَكِنْ كَانَ الْحَجَرُ رَاسِخًا فَتَعَقَّلَ بِهِ إنْسَانٌ وَوَقَعَ فِي الْبِئْرِ وَمَاتَ فَالضَّمَانُ عَلَى الْحَافِرِ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي التَّسَبُّبِ وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ

(8/397)


الْمَاشِي إذَا وَقَعَ فِي الْبِئْرِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِالْبِئْرِ فَالضَّمَانُ عَلَى الْحَافِرِ، وَإِنْ كَانَ الْمَاشِي دَافِعًا نَفْسَهُ فِي الْبِئْرِ وَأَنَّهُ مُبَاشِرٌ وَالْحَافِرُ مُتَسَبِّبٌ وَفِي الظَّهِيرِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ الْحَجَرُ لَمْ يَضَعْهُ أَحَدٌ لَكِنَّهُ حَمِيلُ السَّيْلِ جَاءَ بِهِ فَالضَّمَانُ عَلَى الْحَافِرِ وَمِنْ هَذَا الْجِنْسِ مَا ذُكِرَ فِي الْمُنْتَقَى رَجُلٌ حَفَرَ بِئْرًا عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ فَجَاءَ إنْسَانٌ وَزَلَقَ بِمَاءٍ صَبَّهُ رَجُلٌ آخَرُ عَلَى الطَّرِيقِ وَوَقَعَ فِي الْبِئْرِ وَمَاتَ فَالضَّمَانُ عَلَى الَّذِي صَبَّ الْمَاءَ، فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ مَاءَ السَّمَاءِ فَعَلَى صَاحِبِ الْبِئْرِ.

وَإِذَا حَفَرَ الرَّجُلُ بِئْرًا فِي طَرِيقِ مَكَّةَ فِي الْفَيَافِيِ وَالْمَفَازَاتِ فِي غَيْرِ مَمَرِّ النَّاسِ فَوَقَعَ فِيهِ إنْسَانٌ، فَإِنَّهُ لَا ضَمَانَ لَهُ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ حَفَرَ فِي الطَّرِيقِ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ ضَامِنًا، فَإِذَا حَفَرَ بِئْرًا عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ فَوَقَعَ إنْسَانٌ فَسَلِمَ مِنْ الْوَقْعَةِ وَطَلَبَ الْخُرُوجَ مِنْهَا فَتَعَلَّقَ حَتَّى إذَا كَانَ فِي وَسَطِهَا سَقَطَ وَعَطِبَ فَلَا ضَمَانَ وَلَوْ مَشَى فِي أَسْفَلِهَا فَعَطِبَ بِصَخْرَةٍ فِيهَا فَإِنْ كَانَتْ الصَّخْرَةُ فِي مَوْضِعِهَا مِنْ الْأَرْضِ فَلَا ضَمَانَ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الْبِئْرِ قَلَعَهَا مِنْ مَوْضِعِهَا وَوَضَعَهَا فِي نَاحِيَةِ الْبِئْرِ فَعَلَى صَاحِبِ الْبِئْرِ هَكَذَا ذُكِرَ فِي الْمُنْتَقَى شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ.

وَإِذَا حَفَرَ الرَّجُلُ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ فَسَقَطَ فِيهِ رَجُلٌ فَتَعَلَّقَ بِهِ آخَرُ وَتَعَلَّقَ الثَّانِي بِثَالِثٍ وَسَقَطُوا جَمِيعًا وَمَاتُوا جَمِيعًا فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إنْ مَاتُوا مِنْ وُقُوعِهِمْ وَلَمْ يَقَعْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ أَوْ مِنْ وُقُوعِهِمْ وَوَقَعَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَقَدْ عُلِمَ كَيْفِيَّةُ الْمَوْتِ أَوْ لَمْ يُعْلَمْ كَيْفَ مَاتُوا، فَإِنْ مَاتُوا مِنْ وُقُوعِهِمْ وَلَمْ يَقَعْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فَدِيَةُ الْأَوَّلِ عَلَى الْحَافِرِ؛ لِأَنَّهُ كَالدَّافِعِ وَدِيَةُ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ مُبَاشِرٌ وَدِيَةُ الثَّالِثِ عَلَى الثَّانِي، وَإِذَا خَرَجُوا أَحْيَاءَ وَأَخْبَرُوا عَنْ حَالِهِمْ ثُمَّ مَاتُوا فَمَوْتُ الْأَوَّلِ عَلَى سَبْعَةِ أَوْجُهٍ إمَّا إنْ مَاتَ مِنْ وُقُوعِهِ لَا غَيْرُ فَدِيَتُهُ عَلَى الْحَافِرِ، وَإِنْ مَاتَ مِنْ وُقُوعِ الثَّانِي عَلَيْهِ فَدِيَتُهُ هَدَرٌ؛ لِأَنَّهُ قَاتِلٌ لِنَفْسِهِ بِجَرِّهِ، وَإِنْ مَاتَ مِنْ وُقُوعِ الثَّالِثِ عَلَيْهِ فَدِيَتُهُ عَلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ هُوَ جَرَّ الثَّالِثَ، وَإِنْ مَاتَ مِنْ وُقُوعِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ فَنِصْفُ دِيَتِهِ هَدَرٌ وَنِصْفُهَا عَلَى الثَّانِي، وَإِنْ مَاتَ مِنْ وُقُوعِهِ وَوُقُوعِ الثَّالِثِ عَلَيْهِ فَالنِّصْفُ عَلَى الْحَافِرِ وَالنِّصْفُ عَلَى الثَّانِي، وَإِنْ مَاتَ مِنْ وُقُوعِهِ وَوُقُوعِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ فَالثُّلُثُ هَدَرٌ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ نَفْسَهُ بِجَرِّ الثَّانِي عَلَيْهِ وَالثُّلُثُ عَلَى الْحَافِرِ؛ لِأَنَّهُ كَالدَّافِعِ وَالثُّلُثُ عَلَى الثَّانِي بِجَرِّ الثَّالِثِ مُبَاشَرَةً، وَأَمَّا الْحُكْمُ فِي الثَّانِي، فَإِنْ مَاتَ بِوُقُوعِ الثَّالِثِ عَلَيْهِ فَدِيَتُهُ هَدَرٌ؛ لِأَنَّهُ جَرَّهُ إلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ مَاتَ مِنْ وُقُوعِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ فَدِيَتُهُ عَلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ كَالدَّافِعِ لِلثَّانِي فِي الْبِئْرِ، وَإِنْ مَاتَ مِنْ وُقُوعِ الْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ مَعًا فَنِصْفُ دِيَتِهِ هَدَرٌ لِجَرِّهِ الثَّالِثَ إلَى نَفْسِهِ وَنِصْفُهَا عَلَى عَاقِلَةِ الْأَوَّلِ لِجَرِّ الْأَوَّلِ لَهُ وَإِيقَاعِهِ فِي الْبِئْرِ،.
وَأَمَّا دِيَةُ الثَّالِثِ فَعَلَى الثَّانِي لِجَرِّ الثَّانِي لَهُ هَذَا إذَا كَانَ يُدْرَى حَالُ وُقُوعِهِمْ فَأَمَّا إذَا كَانَ لَا يُدْرَى فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ أَوْ وُجِدُوا مُتَفَرِّقِينَ، فَإِنْ كَانُوا مُتَفَرِّقِينَ فَدِيَةُ الثَّالِثِ عَلَى الثَّانِي وَدِيَةُ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ وَدِيَةُ الثَّالِثِ عَلَى الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لَمْ يُبَيِّنْ مُحَمَّدٌ قَائِلَهُ فِي الْأَصْلِ وَيُقَالُ هُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ الِاسْتِحْسَانُ أَنَّ دِيَةَ الْأَوَّلِ أَثْلَاثًا ثُلُثٌ عَلَى صَاحِبِ الْبِئْرِ وَثُلُثٌ عَلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ جَرَّ الثَّالِثَ عَلَيْهِ وَثُلُثٌ هَدَرٌ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الَّذِي جَرَّ الثَّانِيَ وَدِيَةُ الثَّانِي نِصْفَانِ نِصْفٌ عَلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي جَرَّهُ وَنِصْفٌ هَدَرٌ؛ لِأَنَّهُ جَرَّ الثَّالِثَ إلَى نَفْسِهِ وَدِيَةُ الثَّالِثِ عَلَى الثَّانِي عَبْدٌ حَفَرَ بِئْرًا عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ فَجَاءَ إنْسَانٌ وَوَقَعَ فِيهَا فَعَفَا عَنْهُ الْوَلِيُّ ثُمَّ وَقَعَ فِيهَا آخَرُ فَعَلَى الْمَوْلَى أَنْ يَدْفَعَ كُلَّهُ أَوْ يَفْدِيَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يُدْفَعُ إلَيْهِ نِصْفٌ؛ لِأَنَّهُمَا وَقَعَا مَعًا فَعَفَا عَنْهُ أَحَدُ الْوَلِيَّيْنِ رَجُلٌ مَاتَ وَتَرَكَ دَارًا وَعَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ مَا يَسْتَغْرِقُ قِيمَتَهَا فَحَفَرَ فِيهَا وَرَثَتُهُ فَهُوَ ضَامِنٌ لِنُقْصَانِ الْحَفْرِ لِلْغُرَمَاءِ، فَإِنْ وَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ ذَلِكَ عَلَى عَاقِلَتِهِ.

وَفِي الْمُنْتَقَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي عَبْدٍ حَفَرَ بِئْرًا ثُمَّ أَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ ثُمَّ وَقَعَ الْعَبْدُ الْمُعْتَقُ فِي الْبِئْرِ وَمَاتَ قَالَ عَلَى الْمَوْلَى قِيمَتُهُ لِوَرَثَتِهِ قَالَ مُحَمَّدٌ لَا أَرَى عَلَيْهِ شَيْئًا وَلَوْ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى أَوَّلًا ثُمَّ حَفَرَ وَوَقَعَ فِيهَا فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمَوْلَى بِلَا خِلَافٍ.

وَفِي نَوَادِرِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ مُكَاتَبٌ حَفَرَ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ ثُمَّ قَتَلَ إنْسَانًا فَقُضِيَ عَلَيْهِ بِقِيمَتِهِ ثُمَّ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ إنْسَانٌ وَمَاتَ قَالَ يُشَارِكُ السَّاقِطُ فِي الْبِئْرِ الَّذِي أَخَذَ الْقِيمَةَ فِيهَا قَالَ وَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرُ قَالَ، وَإِذَا جَاءَ وَلِيُّ السَّاقِطِ فِي الْبِئْرِ فَأَخَذَ الَّذِي أَخَذَ قِيمَةَ الْمُدَبَّرِ مِنْ مَوْلَاهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ خُصُومَةٌ وَلَا أَقْبَلُ بَيِّنَةً عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا أَقْبَلُ بَيِّنَةً عَلَى مَوْلَى الْمُدَبَّرِ، فَإِذَا زَكَّتْ كَذَا عَلَى الْمَوْلَى يَرْجِعُ عَلَى الَّذِي أَخَذَ الْقِيمَةَ بِنِصْفِهَا وَفِي التَّجْرِيدِ وَلَوْ كَانَ الْحَافِرُ مُدَبَّرًا أَوْ أُمَّ وَلَدٍ وَقُضِيَ عَلَى الْمَوْلَى بِقِيمَةٍ وَاحِدَةٍ تُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ يَوْمَ الْحَفْرِ وَلَا يُعْتَبَرُ بِزِيَادَةِ الْقِيمَةِ وَنُقْصَانِهَا، وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَتَلْزَمُهُ الْجِنَايَاتُ وَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْحَفْرِ وَلَوْ كَانَ الْحَافِرُ عَبْدًا

(8/398)


فَالْجِنَايَاتُ كُلُّهَا فِي رَقَبَتِهِ وَيُخَاطَبُ الْمَوْلَى بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ بِجَمِيعِ الْأُرُوشِ، فَإِنْ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى بَعْدَ الْحَفْرِ قَبْلَ الْوُقُوعِ ثُمَّ لَحِقَتْهُ الْجِنَايَاتُ فَعَلَى الْمَوْلَى قِيمَتُهُ يَوْمَ عِتْقٍ يَشْتَرِكُ فِيهَا أَصْحَابُ الْجِنَايَاتِ الَّتِي كَانَتْ بَعْدَ الْعِتْقِ وَقَبْلَهُ يَضْرِبُ فِي ذَلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ بِقَدْرِ أَرْشِ جِنَايَتِهِ وَلَوْ لَمْ يُعْتَقْ وَلَكِنْ وَقَعَ وَاحِدٌ وَمَاتَ فَيُدْفَعُ بِهِ ثُمَّ وَقَعَ ثَانٍ وَثَالِثٌ فَيَشْتَرِكُوا مَعَ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ الْأَوَّلِ فِي رَقَبَتِهِ بِقَدْرِ حُقُوقِهِمْ وَلَوْ أَنَّ عَبْدًا قَتَلَ إنْسَانًا وَدَفَعَهُ الْمَوْلَى بِهِ ثُمَّ وَقَعَ إنْسَانٌ فِي بِئْرٍ كَانَ حَفَرَهَا الْعَبْدُ قَبْلَ ذَلِكَ عِنْدَ الدَّافِعِ فَالْعَبْدُ يُدْفَعُ نِصْفُهُ إلَى وَلِيِّ السَّاقِطِ فِي الْبِئْرِ أَوْ يَفْدِيهِ بِالدِّيَةِ وَلَوْ عَفَا وَلِيُّ السَّاقِطِ فِي الْبِئْرِ لَمْ يُدْفَعْ إلَى الْمَوْلَى شَيْءٌ مِنْ الْعَبْدِ وَلَا خُصُومَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ الْمَوْلَى الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا يُخَاصَمُ الَّذِي فِي يَدِهِ الْعَبْدُ.

وَفِي الْخَانِيَّةِ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا حَفَرَ بِئْرًا فِي سُوقِ الْعَامَّةِ أَوْ بَنَى فِيهِ دُكَّانًا فَعَطِبَ بِهِ شَيْءٌ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ لَا يَكُونُ ضَامِنًا وَبِغَيْرِ إذْنِهِ يَكُونُ ضَامِنًا كَمَا لَوْ أَوْقَفَ دَابَّتَهُ فِي السُّوقِ فِي مَوْضِعٍ مُعَدٍّ لِلدَّابَّةِ فَأَوْقَفَ الدَّابَّةَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ إنْ عَيَّنُوا ذَلِكَ الْمَوْضِعَ بِإِذْنِ السُّلْطَانِ فَعَطِبَ لَا يَكُونُ ضَامِنًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِإِذْنِ السُّلْطَانِ كَانَ ضَامِنًا؛ لِأَنَّ السُّلْطَانَ إذَا أَذِنَ بِذَلِكَ يَخْرُجُ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ عَنْ أَنْ يَكُونَ طَرِيقًا فَتَعَيَّنَ لِإِيقَافِ الدَّوَابِّ وَبِغَيْرِ إذْنِ السُّلْطَانِ لَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ طَرِيقًا وَلَوْ أَنَّ مُدَبَّرًا حَفَرَ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى أَوْ مَاتَ الْمَوْلَى حَتَّى عَتَقَ الْمُدَبَّرُ بِمَوْتِهِ ثُمَّ أَوْقَعَ نَفْسَهُ كَانَ لِلْمُشْتَرِي قِيمَتُهُ عَلَى الْبَائِعِ وَكَذَا لَوْ كَانَ الْمُدَبَّرُ عَبْدًا وَأَعْتَقَهُ الْمَوْلَى وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى الْخِلَافِ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ.

وَإِذَا حَفَرَ الرَّجُلُ نَهْرًا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ فَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ النَّهْرِ مَاءً يُغْرِقُ أَرْضًا أَوْ قَرْيَةً كَانَ ضَامِنًا وَلَوْ كَانَ فِي مِلْكِهِ فَلَا ضَمَانَ رَجُلٌ سَقَى أَرْضَهُ مِنْ نَهْرِ الْعَامَّةِ وَكَانَ عَلَى نَهْرِ الْعَامَّةِ أَنْهَارٌ صِغَارٌ مَفْتُوحَةٌ فُوَّهَاتُهَا وَدَخَلَ الْمَاءُ فِي الْأَنْهَارِ الصِّغَارِ وَفَسَدَ بِذَلِكَ أَرْضُ قَوْمٍ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الْأَجَلُّ ظَهِيرُ الدِّينِ يَكُونُ ضَامِنًا؛ لِأَنَّهُ أَجْرَى الْمَاءَ فِيهَا.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلَوْ بَهِيمَةً فَضَمَانُهَا فِي مَالِهِ) أَيْ لَوْ كَانَ الْهَالِكُ فِي الْبِئْرِ أَوْ بِسُقُوطِ الْجُرْصُنِ بَهِيمَةً يَكُونُ ضَمَانُهَا فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَتَحَمَّلُ ضَمَانَ الْمَالِ وَإِبْقَاءُ الْمِيزَابِ وَاتِّخَاذُ الطِّينِ فِي الطَّرِيقِ بِمَنْزِلَةِ إلْقَاءِ الْحَجَرِ وَالْخَشَبَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ مُسَبِّبٌ بِطَرِيقٍ مِنْ التَّعَدِّي بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ فِي مِلْكِهِ لِعَدَمِ التَّعَدِّي وَبِخِلَافِ مَا إذَا كَنَسَ الطَّرِيقَ فَعَطِبَ بِمَوْضِعِ كَنْسِهِ إنْسَانٌ حَيْثُ لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَعَدٍّ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُحْدِثْ فِيهِ شَيْئًا، وَإِنَّمَا قَصَدَ إمَاطَةَ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ حَتَّى لَوْ جَمَعَ الْكُنَاسَةَ فِي الطَّرِيقِ فَعَطِبَ بِهَا إنْسَانٌ ضَمِنَ لِوُجُودِ التَّعَدِّي بِشُغْلِهِ الطَّرِيقَ وَلَوْ وَضَعَ حَجَرًا فَنَحَّاهُ غَيْرُهُ عَنْ مَوْضِعِهِ فَتَلِفَ بِهِ نَفْسٌ أَوْ مَالٌ كَانَ ضَمَانُهُ عَلَى مَنْ نَحَّاهُ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْأَوَّلِ قَدْ انْتَسَخَ وَكَذَا إذَا صَبَّ الْمَاءَ فِي الطَّرِيقِ أَوْ رَشَّ أَوْ تَوَضَّأَ فَعَطِبَ بِهِ نَفْسٌ أَوْ مَالٌ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِيهِ بِخِلَافِ مَا إذَا فَعَلَ ذَلِكَ فِي سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ وَهُوَ مِنْ أَهْلِهَا أَوْ قَعَدَ فِيهِ أَوْ وَضَعَ خَشَبَةً أَوْ مَتَاعَهُ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِهِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ مِنْ ضَرُورَاتِ السَّكَنِ كَمَا فِي الدَّارِ الْمُشْتَرَكَةِ بِخِلَافِ الْحَفْرِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَاتِ السَّكَنِ فَيَضْمَنُ مَا عَطِبَ بِهِ كَالدَّارِ الْمُشْتَرَكَةِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ فِي السِّكَّةِ مَا نَقَصَ بِالْحَفْرِ وَفِي الدَّارِ الْمُشْتَرَكَةِ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ لِشَرِيكِهِ مِلْكًا حَقِيقَةً فِي الدَّارِ حَتَّى يَبِيعَ نَصِيبَهُ وَيَقْسِمَ بِخِلَافِ السِّكَّةِ قَالُوا هَذَا إذَا رَشَّ مَاءً كَثِيرًا بِحَيْثُ يُزْلَقُ مِنْهُ عَادَةً، وَأَمَّا إذَا لَمْ يُجَاوِزْ الْمُعْتَادَ لَا يَضْمَنُ وَلَوْ تَعَمَّدَ الْمُرُورَ فِي مَوْضِعِ الصَّبِّ مَعَ عِلْمِهِ بِهِ لَا يَضْمَنُ الرَّاشُّ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي خَاطَرَ بِنَفْسِهِ فَصَارَ كَمَنْ وَثَبَ فِي الطَّرِيقِ مِنْ جَانِبٍ إلَى جَانِبٍ فَوَقَعَ فِيهَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ بِغَيْرِ عِلْمِهِ بِأَنْ كَانَ لَيْلًا أَوْ أَعْمَى وَقِيلَ يَضْمَنُ مَعَ الْعِلْمِ أَيْضًا إذَا رَشَّ جَمِيعَ الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ إلَى الْمُرُورِ فِيهِ وَكَذَا الْحُكْمُ فِي الْخَشَبَةِ الْمَوْضُوعَةِ فِي الطَّرِيقِ فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ الطَّرِيقِ أَوْ بَعْضِهِ وَلَوْ رَشَّ فِنَاءَ حَانُوتٍ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ فَضَمَانُ مَا عَطِبَ عَلَى الْآمِرِ اسْتِحْسَانًا.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَمَنْ) (جَعَلَ بَالُوعَةً فِي طَرِيقٍ بِأَمْرِ السُّلْطَانِ أَوْ فِي مِلْكِهِ أَوْ وَضَعَ خَشَبَةً فِيهَا) أَيْ فِي الطَّرِيقِ (أَوْ قَنْطَرَةً بِلَا إذْنِ الْإِمَامِ فَتَعَمَّدَ الرَّجُلُ الْمُرُورَ عَلَيْهَا) (لَمْ يَضْمَنْ) أَمَّا بِنَاءُ الْبَالُوعَةِ بِأَمْرِ الْإِمَامِ أَوْ فِي مِلْكِهِ وَوَضْعُ الْخَشَبَةِ فَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَعَدٍّ، وَأَمَّا بِنَاءُ الْقَنْطَرَةِ فَلِأَنَّ الْبَانِيَ فَوَّتَ حَقًّا عَلَى غَيْرِهِ، فَإِنَّ التَّدْبِيرَ فِي وَضْعِ الْقَنْطَرَةِ مِنْ حَيْثُ تَعْيِينُ الْمَكَانِ لِلْإِمَامِ فَكَانَتْ جِنَايَةً بِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَتَعَمَّدَ رَجُلٌ الْمُرُورَ عَلَيْهَا لَمْ يَضْمَنْ وَوَضْعُ الْخَشَبَةِ وَالْقَنْطَرَةِ وَإِنْ وُجِدَ التَّعَدِّي مِنْهُ فِيهِمَا لَكِنَّ تَعَمُّدَهُ الْمُرُورَ عَلَيْهِمَا يُسْقِطُ النِّسْبَةَ إلَى الْوَاضِعِ؛ لِأَنَّ الْوَاضِعَ مُتَسَبِّبٌ وَالْمَارَّ مُبَاشِرٌ فَصَارَ هُوَ صَاحِبَ عِلَّةٍ فَلَا

(8/399)


يُعْتَبَرُ التَّسَبُّبُ مَعَهُ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا مَضَى، وَإِنْ اسْتَأْجَرَ أُجَرَاءَ يَحْفِرُونَ لَهُ فِي غَيْرِ فِنَائِهِ فَضَمَانُهُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْآجِرِ إنْ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ فِي غَيْرِ فِنَائِهِ؛ لِأَنَّ أَمْرَهُ قَدْ صَحَّ إذَا لَمْ يَعْلَمُوا فَنُقِلَ فِعْلُهُمْ إلَى الْآمِرِ؛ لِأَنَّهُمْ مَغْرُورُونَ مِنْ جِهَتِهِ فَصَارَ كَمَا إذَا أَمَرَ أَجِيرًا بِذَبْحِ هَذِهِ الشَّاةِ فَذَبَحَهَا ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ الشَّاةَ لِغَيْرِهِ يَضْمَنُ الْمَأْمُورُ وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْآمِرِ لِكَوْنِهِ مَغْرُورًا مِنْ جِهَتِهِ وَهُنَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ ابْتِدَاءً؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَسَبِّبٌ وَالْأَجِيرُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ وَالْمُسْتَأْجِرُ مُتَعَدٍّ فَتَرَجَّحَ جَانِبُهُ، فَإِنْ عَلِمُوا بِذَلِكَ فَالضَّمَانُ عَلَى الْآجِرِ؛ لِأَنَّ أَمْرَهُ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَفْعَلَ بِنَفْسِهِ وَلَا غُرُورَ مِنْ جِهَتِهِ لِعِلْمِهِمْ بِذَلِكَ فَبَقِيَ الْفِعْلُ مُضَافًا إلَيْهِمْ وَلَوْ قَالَ لَهُمْ هَذَا فِنَائِي وَلَيْسَ لِي حَقُّ الْحَفْرِ فِيهِ فَحَفَرُوا فَمَاتَ فِيهِ إنْسَانٌ فَالضَّمَانُ عَلَى الْأُجَرَاءِ قِيَاسًا؛ لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا بِفَسَادِ الْأَمْرِ فَلَمْ يَغُرَّهُمْ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ الضَّمَانُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ فِنَاءً لَهُمْ بِمَنْزِلَةِ كَوْنِهِ مَمْلُوكًا لَهُ لِانْطِلَاقِ يَدِهِ بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ مِنْ إلْقَاءِ الطِّينِ وَالْحَطَبِ وَرَبْطِ الدَّابَّةِ وَالرُّكُوبِ وَبِنَاءِ الدُّكَّانِ فَكَانَ آمِرًا بِالْحَفْرِ فِي مِلْكِهِ ظَاهِرًا بِالنَّظَرِ إلَى مَا ذَكَرْنَا فَكَذَا يُنْقَلُ إلَيْهِ وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ إذَا كَانَ الطَّرِيقُ مَعْرُوفًا أَنَّهُ لِلْعَامَّةِ ضَمِنُوا سَوَاءٌ قَالَ لَهُمْ أَوْ لَا، وَإِذَا اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ أَجِيرًا لِيَحْفِرَ لَهُ بِئْرًا فَحَفَرَ لَهُ الْأَجِيرُ وَوَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ وَمَاتَ فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الْأَجِيرَ لِيَحْفِرَ لَهُ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ، فَإِنَّهُ عَلَى وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ طَرِيقًا مَعْرُوفًا لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ وَفِي هَذَا الْوَجْهِ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْأَجِيرِ سَوَاءٌ عَلِمَهُ الْمُسْتَأْجِرُ بِذَلِكَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْهُ، وَإِنْ كَانَ الطَّرِيقُ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا أَنَّهُ طَرِيقٌ غَيْرُ مَشْهُورٍ، فَإِنْ أَعْلَمَ الْمُسْتَأْجِرُ الْأَجِيرَ بِأَنَّ هَذَا الطَّرِيقَ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَكَذَا الْجَوَابُ أَيْضًا فَأَمَّا إذَا لَمْ يُعْلِمْ فَالضَّمَانُ عَلَى الْآمِرِ لَا عَلَى الْأَجِيرِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرُ الذَّبْحِ شَاةً فَذَبَحَهَا ثُمَّ عَلِمَ أَنَّ الشَّاةَ لِغَيْرِ الْآمِرِ فَإِنَّ الضَّمَانَ عَلَى الْأَجِيرِ أَعْلَمَهُ الْمُسْتَأْجِرُ بِأَنَّ الشَّاةَ لِغَيْرِهِ أَوْ لَمْ يُعْلِمْهُ ثُمَّ يَرْجِعُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ، الْوَجْهُ الثَّانِي إذَا اسْتَأْجَرَهُ لِيَحْفِرَ لَهُ بِئْرًا فِي الْفِنَاءِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَفِي الْفَتَاوَى وَالْخُلَاصَةِ إذَا اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَبْنِيَ لَهُ أَوْ لِيُحْدِثَ لَهُ شَيْئًا فِي الطَّرِيقِ أَوْ يُخْرِجَ حَائِطًا فَمَا عَطِبَ بِهِ مِنْ نَفْسٍ أَوْ مَالٍ فَذَلِكَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ دُونَ الْأَجِيرِ اسْتِحْسَانًا إلَّا إذَا سَقَطَ مِنْ يَدِهِ لَبِنٌ فَأَصَابَ إنْسَانًا فَقَتَلَهُ تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الَّذِي سَقَطَ مِنْ يَدِهِ وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَفِي السِّغْنَاقِيِّ مَنْ حَفَرَ بِئْرًا عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ فَجَاءَ آخَرُ وَخَاطَرَ بِنَفْسِهِ وَوَثَبَ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ إلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ وَوَقَعَ فِيهِ وَمَاتَ لَمْ يَضْمَنْ الْحَافِرُ شَيْئًا.

وَفِي الْمُنْتَقَى رَجُلٌ جَاءَ بِقَوْمٍ إلَى طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْمُسْلِمِينَ وَقَالَ احْفِرُوا لِي هُنَا بِئْرًا أَوْ قَالَ ابْنُوا لِي هُنَا وَلَمْ يَقُلْ غَيْرَهُ، فَإِنَّ ضَمَانَ مَا عَطِبَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الْآمِرِ دُونَ الْفَاعِلِ ذَكَرَ الْمَسْأَلَةَ مُطْلَقًا وَتَأْوِيلُهَا مَا إذَا لَمْ يَكُنْ الطَّرِيقُ مَشْهُورًا لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَعْلَمْهُ الْمُسْتَأْجِرُ بِذَلِكَ كَمَا ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَذَكَرَ عَقِيبَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ رَجُلٌ جَاءَ لِقَوْمٍ وَقَالَ احْفِرُوا فِي هَذَا الطَّرِيقِ بِئْرًا وَلَمْ يَقُلْ لِي وَلَمْ يَقُلْ أَسْتَأْجِرُ عَلَى ذَلِكَ وَظَنُّوا أَنَّهُ الْآمِرُ وَكَذَلِكَ لَوْ أَدْخَلَهُمْ دَارًا وَقَالَ لَهُمْ احْفِرُوا فِيهَا فَحَفَرُوا وَظَنُّوا أَنَّهَا دَارُ الْآمِرِ فَهُوَ عَلَى أَنْ يَقُولَ إنْ اسْتَأْجَرَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَذَكَرَ بَعْدَ هَذَا بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَجُلٌ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا فَحَفَرَ لَهُ فِي غَيْرِ فِنَائِهِ فَالضَّمَانُ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ عَلِمَ الْعَبْدُ بِذَلِكَ أَمْ لَا.

وَلَوْ اسْتَأْجَرَ مُكَاتَبًا أَوْ عَبْدًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ لِحَفْرِ بِئْرٍ فَوَقَعَتْ الْبِئْرُ عَلَيْهِمَا وَمَاتَا فَالضَّمَانُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ فِي الْحُرِّ لَا فِي الْمُكَاتَبِ وَيَضْمَنُ قِيمَةَ الْعَبْدِ لِمَوْلَاهُ، فَإِذَا أَخَذَ الْقِيمَةَ دَفَعَ الْمَوْلَى الْقِيمَةَ إلَى وَرَثَةِ الْحُرِّ وَالْمُكَاتَبِ فَيَضْرِبُ وَرَثَةُ الْحُرِّ فِي قِيمَتِهِ بِثُلُثِ الدِّيَةِ وَوَرَثَةُ الْمُكَاتَبِ بِثُلُثِ قِيمَةِ الْمُكَاتَبِ ثُمَّ يَرْجِعُ الْمَالِكُ عَلَى الْمُسْتَأْجَرِ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ مَرَّةً فَيُسَلِّمُ لَهُ وَلِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى عَاقِلَةِ الْحُرِّ بِثُلُثِ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَيَأْخُذُ أَوْلِيَاءُ الْمُكَاتَبِ مِنْ الْحُرِّ ثُلُثَ قِيمَةِ الْمُكَاتَبِ ثُمَّ يُؤْخَذُ مِنْ الْمُكَاتَبِ مِقْدَارُ قِيمَتِهِ فَيَكُونُ بَيْنَ وَرَثَةِ الْحُرِّ وَالْمُسْتَأْجِرِ يَضْرِبُ وَرَثَةُ الْحُرِّ بِثُلُثِ دِيَتِهِ وَالْمُسْتَأْجِرُ بِثُلُثِ قِيمَةِ الْعَبْدِ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَمَنْ حَمَلَ شَيْئًا فِي الطَّرِيقِ فَسَقَطَ عَلَى إنْسَانٍ ضَمِنَ) سَوَاءٌ تَلِفَ بِالْوُقُوعِ أَوْ بِالْعَثْرَةِ بِهِ بَعْدَ الْوُقُوعِ؛ لِأَنَّ حَمْلَ الْمَتَاعِ فِي الطَّرِيقِ عَلَى رَأْسِهِ أَوْ عَلَى ظَهْرِهِ مُبَاحٌ لَهُ لَكِنَّهُ مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ بِمَنْزِلَةِ الرَّمْيِ إلَى الْهَدَفِ أَوْ الصَّيْدِ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (فَلَوْ كَانَ رِدَاءً قَدْ لَبِسَهُ فَسَقَطَ لَا) أَيْ لَوْ كَانَ الْمَحْمُولُ رِدَاءً قَدْ لَبِسَهُ فَسَقَطَ عَلَى إنْسَانٍ فَعَطِبَ بِهِ لَا يَضْمَنُ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّيْءِ الْمَحْمُولِ أَنَّ الْحَامِلَ يَقْصِدُ حِفْظَهُ فَلَا يَخْرُجُ بِالتَّقْيِيدِ بِوَصْفِ السَّلَامَةِ وَاللَّابِسُ يَقْصِدُ حِفْظَ مَا يَلْبَسُهُ فَيَخْرُجُ بِالتَّقْيِيدِ بِوَصْفِ السَّلَامَةِ فَجُعِلَ فِي حَقِّهِ مُبَاحًا مُطْلَقًا وَعَنْ

(8/400)


مُحَمَّدٍ إذَا لَبِسَ زِيَادَةً عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ وَمَا لَا يُلْبَسُ عَادَةً كَاللِّبْدِ وَالْجُوَالِقِ وَالدِّرْعِ مِنْ الْحَدِيدِ فِي غَيْرِ الْحَرْبِ ضَمِنَ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ إلَى لُبْسِهِ وَسُقُوطُ الضَّمَانِ بِاعْتِبَارِهِمَا لِعُمُومِ الْبَلْوَى.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (مَسْجِدٌ لِعَشِيرَةٍ فَعَلَّقَ رَجُلٌ مِنْهُمْ قِنْدِيلًا أَوْ جَعَلَ فِيهَا بَوَارِي أَوْ حَصَاةً فَعَطِبَ بِهِ رَجُلٌ لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِمْ ضَمِنَ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَا لَا يَضْمَنُ فِي الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ قُرْبَةٌ يُثَابُ عَلَيْهَا الْفَاعِلُ فَصَارَ كَأَهْلِ الْمَسْجِدِ وَكَمَا لَوْ كَانَ بِإِذْنِهِمْ وَهَذَا؛ لِأَنَّ بَسْطَ الْحَصِيرِ وَتَعْلِيقَ الْقِنْدِيلِ مِنْ بَابِ التَّمْكِينِ مِنْ إقَامَةِ الصَّلَاةِ فِيهِ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى فَيَسْتَوِي فِيهِ أَهْلُ الْمَسْجِدِ وَغَيْرُهُمْ وَلَهُ أَنَّ التَّدْبِيرَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَسْجِدِ لِأَهْلِهِ دُونَ غَيْرِهِمْ كَنَصْبِ الْإِمَامِ وَاخْتَارَ الْمُتَوَلِّي رَفْعَ بَابِهِ وَإِغْلَاقَهُ وَتَكْرَارَ الْجَمَاعَةِ حَتَّى لَا يَعْتَدَّ بِمَنْ سَبَقَهُمْ فِي حَقِّ الْكَرَاهَةِ وَبَعْدَهُمْ يُكْرَهُ فَكَانَ فِعْلُهُمْ مُبَاحًا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ وَفِعْلُ غَيْرِهِمْ مُقَيَّدٌ بِهَا وَقَضِيَّةُ الْقُرْبَةِ لَا تُنَافِي الْغَرَامَةَ إذَا أَخْطَأَ الطَّرِيقَ كَمَا إذَا انْفَرَدَ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا وَكَمَا إذَا وَقَفَ عَلَى الطَّرِيقِ لِإِمَاطَةِ الْأَذَى وَلِدَفْعِ الْمَظَالِمِ فَعَثَرَ بِهِ غَيْرُهُ يُؤْجَرُ عَلَى ذَلِكَ وَيَغْرَمُ وَالطَّرِيقُ فِيهِ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَهْلِهِ وَقَالَ الْحَلْوَانِيُّ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ أَخَذُوا بِقَوْلِهِمَا وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى وَعَنْ ابْنِ سَلَّامٍ بَانِي الْمَسْجِدِ أَوْلَى بِالْعِمَارَةِ وَالْقَوْمُ أَوْلَى بِنَصْبِ الْإِمَامِ وَالْمُؤَذِّنِ.
وَعَنْ الْإِسْكَافِيِّ أَنَّ الْبَانِيَ أَحَقُّ بِهِ قَالَ أَبُو اللَّيْثِ وَبِهِ نَأْخُذُ إلَّا أَنْ يَنْصِبَ شَخْصًا وَالْقَوْمُ يَرَوْنَ مَنْ هُوَ أَصْلَحُ لِذَلِكَ وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَوْ حَصِيرًا وَفِي الذَّخِيرَةِ أَوْ حَفَرَ بِئْرًا فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الْحَافِرُ مِنْ غَيْرِ الْعَشِيرَةِ ضَمِنَ ذَلِكَ كُلَّهُ هَذَا هُوَ لَفْظُ هَذَا الْكِتَابِ وَفِي الْأَصْلِ يَقُولُ، وَإِذَا احْتَفَرَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ فِي مَسْجِدِهِمْ بِئْرًا لِمَاءِ الْمَطَرِ أَوْ عَلَّقُوا فِيهِ قَنَادِيلَ أَوْ جَعَلُوا فِيهِ حَبًّا يُصَبُّ فِيهِ الْمَاءُ أَوْ طَرَحُوا فِيهِ حَصَا أَوْ رَكَّبُوا فِيهِ بَابًا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ فِيمَنْ عَطِبَ بِذَلِكَ فَأَمَّا إذَا أَحْدَثَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مَنْ هُوَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَفْعَلُوا بِغَيْرِ إذْنِ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ إنْ أَحْدَثُوا شَيْئًا أَوْ حَفَرُوا بِئْرًا فَعَطِبَ فِيهَا إنْسَانٌ، فَإِنَّهُمْ يَضْمَنُونَ بِالْإِجْمَاعِ فَأَمَّا إذَا وَضَعُوا حَبًّا لِيَشْرَبُوا مِنْهُ الْمَاءَ أَوْ بَسَطُوا حَصِيرًا أَوْ عَلَّقُوا قَنَادِيلَ بِغَيْرِ إذْنِ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ فَتَعَقَّلَ إنْسَانٌ بِالْحَصِيرِ فَعَطِبَ أَوْ وَقَعَ الْقِنْدِيلُ وَأَحْرَقَ ثَوْبَ إنْسَانٍ أَوْ أَفْسَدَهُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنَّهُمْ يَضْمَنُونَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا يَضْمَنُونَ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ وَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا أَخَذُوا بِقَوْلِهِمَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى قَالَ فِيهِ أَيْضًا إذَا قَعَدَ الرَّجُلُ فِي الْمَسْجِد لِحَدِيثٍ أَوْ نَامَ فِيهِ أَوْ قَامَ فِيهِ بِغَيْرِ الصَّلَاةِ أَوْ مَرَّ فِيهِ مَارٌّ لِحَاجَةٍ مِنْ الْحَوَائِجِ فَعَثَرَ بِهِ إنْسَانٌ فَمَاتَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِأَنَّهُ ضَامِنٌ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ بِأَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَمْشِيَ فِيهِ عَلَى إنْسَانٍ فَأَمَّا إذَا قَعَدَ لِعِبَادَةٍ بِأَنْ كَانَ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ أَوْ كَانَ قَعَدَ لِلتَّدْرِيسِ وَتَعْلِيمِ الْقَضَاءِ وَلِلِاعْتِكَافِ أَوْ قَعَدَ لِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَسْبِيحِهِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فَعَثَرَ بِهِ إنْسَانٌ فَمَاتَ هَلْ يَضْمَنُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا رِوَايَةَ لِهَذَا فِي الْكِتَابِ وَالْمَشَايِخُ الْمُتَأَخِّرُونَ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ يَضْمَنُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا يَضْمَنُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجُرْجَانِيُّ فَأَمَّا إذَا كَانَ يُصَلِّي فَعَثَرَ بِهِ إنْسَانٌ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ يُصَلِّي الْفَرْضَ أَوْ التَّطَوُّعَ السِّغْنَاقِيُّ قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ سَمِعْت أَبَا بَكْرٍ الْبَلْخِيّ يَقُولُ إنْ جَلَسَ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ مُعْتَكِفًا فِي الْمَسْجِدِ لَا يَضْمَنُ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا وَذَكَرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَالصَّدْرُ الشَّهِيدُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إنْ جَلَسَ لِلْحَدِيثِ فَعَطِبَ بِهِ رَجُلٌ يَضْمَنُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُبَاحٍ لَهُ الذَّخِيرَةِ وَفِي الْمُنْتَقَى رِوَايَةٌ مَجْهُولَةٌ.

وَإِذَا فَرَشَ الرَّجُلُ فِرَاشًا فِي الْمَسْجِدِ وَنَامَ عَلَيْهِ فَعَثَرَ رَجُلٌ بِالنَّائِمِ فَلَا ضَمَانَ وَلَوْ عَثَرَ بِالْفِرَاشِ فَهُوَ ضَامِنٌ وَفِيهِ أَيْضًا رِوَايَةٌ مَجْهُولَةٌ.

إذَا بَنَى مَسْجِدًا فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ أَمْر السُّلْطَانِ فَعَطِبَ بِحَائِطِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ إذَا كَانَ فِي طَرِيقِ الْأَمْصَارِ حَيْثُ يَكُونُ تَضْيِيقًا أَوْ إضْرَارًا، وَإِنْ كَانَ فِي الصَّحْرَاءِ بِحَيْثُ لَا يَضُرُّ بِالطَّرِيقِ غَيْرَ أَنَّهُ فِي أَفَنِيَّة الْمِصْرِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ اسْتِحْسَانًا وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَخْرَجَ مِنْ دَارِهِ مَسْجِدًا وَبَنَى كَانَ أَوْلَى النَّاسِ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ وَغَيْرُهُمْ بِإِصْلَاحِهِ وَالْإِسْرَاجِ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُشْرِكَهُ فِيهِ إلَّا بِإِذْنِهِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ بِرِوَايَةِ بِشْرٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَهْلِ الْمَسْجِدِ أَنْ يَهْدِمُوا مَسْجِدَهُمْ وَيَهْدِمُوا بِنَاءَهُ وَلَيْسَ لِغَيْرِهِمْ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ إلَّا بِرِضَاهُمْ.

قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي رَجُلٍ جَعَلَ قَنْطَرَةً عَلَى نَهْرٍ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ فَمَرَّ عَلَيْهَا رَجُلٌ مُتَعَمِّدًا فَوَقَعَ فَعَطِبَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ هَكَذَا ذَكَرَ الْمَسْأَلَةَ هُنَا وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ

(8/401)


الْمَسْأَلَةَ عَلَى وَجْهَيْنِ أَمَّا إذَا كَانَ النَّهْرُ مَمْلُوكًا لَهُ أَوْ لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا فَلَوْ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ فَلَا ضَمَانَ وَإِنْ صَارَ مُسَبِّبًا لِلتَّلَفِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي هَذَا السَّبَبِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ النَّهْرُ مَمْلُوكًا لَهُ فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ إنْ كَانَ نَهْرًا خَاصًّا لِأَقْوَامٍ مَخْصُوصِينَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إنْ كَانَ تَعَمَّدَ الْمُرُورَ عَلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ يَتَعَمَّدْ الْمُرُورَ عَلَيْهَا وَفِي الْكَافِي بِأَنْ كَانَ أَعْمَى أَوْ مَرَّ لَيْلًا فَهُوَ ضَامِنٌ وَصَارَ الْجَوَابُ فِيهِ كَالْجَوَابِ فِيمَا إذَا حَفَرَ بِئْرًا فِي مِلْكِ إنْسَانٍ فَوَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ أَمَّا إذَا كَانَ نَهْرًا عَامًّا لِجَمَاعَةٍ مُسْلِمِينَ وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ فَالْجَوَابُ فِيهِ كَالْجَوَابِ فِيمَا لَوْ نَصَبَ جِسْرًا أَوْ قَنْطَرَةً عَلَى نَهْرٍ خَاصٍّ لِأَقْوَامٍ مُعَيَّنِينَ هَكَذَا ذَكَرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ بِشْرٍ إلَّا إذَا كَانَ النَّهْرُ عَامًّا لِجَمَاعَةٍ مُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى وَاضِعِ الْقَنْطَرَةِ وَالْجِسْرِ سَوَاءٌ، عَلِمَ الْمَاشِي عَلَيْهِ فَانْخَرَقَ بِهِ فَمَاتَ إنْ تَعَمَّدَ الْمُرُورَ عَلَيْهَا لَا ضَمَانَ عَلَى وَاضِعِ الْقَنْطَرَةِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْمَارُّ بِهِ ضَمِنَ كَمَنْ نَصَبَ خَشَبَةً فِي طَرِيقٍ فَمَرَّ بِهِ كَانَ ضَامِنًا قَالُوا إنْ كَانَتْ الْخَشَبَةُ الْمَوْضُوعَةُ صَغِيرَةً بِحَيْثُ لَا يُوطَأُ عَلَى مِثْلِهَا لَا يَضْمَنُ وَاضِعُهَا؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْخَشَبَةِ بِمَنْزِلَةِ تَعَمُّدِ الزَّلَقِ، وَإِنْ كَانَتْ الْخَشَبَةُ كَبِيرَةً يُوطَأُ عَلَى مِثْلِهَا يَضْمَنُ وَاضِعُهَا هَذَا إذَا كَانَ النَّهْرُ خَاصًّا لِأَقْوَامٍ مَخْصُوصِينَ، فَإِنْ كَانَ النَّهْرُ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَكُونُ ضَامِنًا وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَكُونُ ضَامِنًا قَالَ التُّمُرْتَاشِيُّ لَوْ ضَاقَ الْمَسْجِدُ بِأَهْلِهِ لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوا مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ مِنْ الصَّلَاةِ وَفِي الْعَيْنِيِّ عَلَى الْهِدَايَةِ وَلَا يُمْتَنَعُ أَنْ يَكُونَ الْمَسْجِدُ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَيَخْتَصُّ أَهْلُهُ بِتَدْبِيرِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَ مَفَاتِيحَ الْكَعْبَةِ مِنْ بَنِي شَيْبَةَ فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَرُدَّهَا إلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] .

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَإِنْ) (جَلَسَ فِيهِ) أَيْ فِي الْمَسْجِدِ (رَجُلٌ مِنْهُمْ فَعَطِبَ بِهِ آخَرُ) (ضَمِنَ إنْ كَانَ فِي غَيْرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا لَا) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَا لَا يَضْمَنُ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ لَهُمَا أَنَّ الْمَسَاجِدَ بُنِيَتْ لِلصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: 36] وَقَالَ تَعَالَى {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] ، فَإِذَا بُنِيَتْ لَهَا لَا يُمْكِنُهُ أَدَاءُ الصَّلَاةِ مَعَ الْجَمَاعَةِ إلَّا بِاسْتِنْظَارِهَا فَكَانَ الْجُلُوسُ فِيهِ مِنْ ضَرُورَتِهَا فَيُبَاحُ لَهُ وَلِأَنَّ الْمُنْتَظِرَ لِلصَّلَاةِ فِي الصَّلَاةِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْمُنْتَظِرُ لِلصَّلَاةِ فِي الصَّلَاةِ مَا دَامَ يَنْتَظِرُهَا» وَتَعْلِيمُ الْفِقْهِ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عِبَادَةٌ كَالذِّكْرِ وَلَهُ أَنَّ الْمَسْجِدَ بُنِيَ لِلصَّلَاةِ وَغَيْرُهَا مِنْ الْعِبَادَةِ تَبَعٌ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمَسْجِدَ إذَا ضَاقَ عَلَى الْمُصَلِّي كَانَ لَهُ أَنْ يُزْعِجَ الْقَاعِدَ عَنْ مَوْضِعِهِ حَتَّى يُصَلِّيَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ الْقَاعِدُ مُشْتَغِلًا بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِالتَّدْرِيسِ أَوْ مُعْتَكِفًا، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُزْعِجَ الْمُصَلِّيَ مِنْ مَكَانِهِ الَّذِي سَبَقَ إلَيْهِ لِمَا أَنَّهُ بُنِيَ لَهَا وَاسْمُهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ اسْمٌ لِمَوْضِعِ السُّجُودِ وَفِي الْعَادَةِ أَيْضًا لَا يُعْرَفُ بِنَاءُ الْمَسْجِدِ إلَّا لِلصَّلَاةِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ إظْهَارِ التَّفَاوُتِ بَيْنَهُمَا فَكَانَ الْكَوْنُ فِيهِ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ مُبَاحًا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ وَفِي حَقِّ غَيْرِهَا مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ لِيَظْهَرَ التَّفَاوُتُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَبَيْنَ التَّبَعِ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ قُرْبَةً مُقَيَّدًا بِشَرْطِ السَّلَامَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ وَقَفَ فِي الطَّرِيقِ لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ قُرْبَةٌ فِي نَفْسِهِ وَمَعَ هَذَا مُقَيَّدٌ بِالسَّلَامَةِ فِي الصَّحِيحِ وَذَكَرَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ أَنَّ الْأَظْهَرَ مَا قَالَاهُ؛ لِأَنَّ الْجُلُوسَ مِنْ ضَرُورَةِ الصَّلَاةِ فَيَكُونُ مُلْحَقًا بِهَا؛ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ ضَرُورَةً لِشَيْءٍ يَكُونُ حُكْمُهُ كَحُكْمِهِ وَفِي الْعَيْنِيِّ عَلَى الْهِدَايَةِ وَبِهِ أَخَذَ مَشَايِخُنَا وَفِي الذَّخِيرَةِ بِقَوْلِهِمَا يُفْتَى وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْجَالِسَ لِانْتِظَارِ الصَّلَاةِ لَا يَضْمَنُ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي عَمَلٍ لَا يَكُونُ لَهُ اخْتِصَاصٌ بِالْمَسْجِدِ كَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَدَرْسِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[فَصْلٌ فِي الْحَائِطِ الْمَائِلِ]
(فَصْلٌ) فِي الْحَائِطِ الْمَائِلِ لَمَا ذَكَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَحْكَامَ الْقَتْلِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالْإِنْسَانِ مُبَاشَرَةً وَتَسَبُّبًا شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ الْقَتْلِ الَّذِي يَتَعَلَّق بِالْجَمَادِ وَهُوَ الْحَائِطُ الْمَائِلُ وَكَانَ مِنْ حَقِّهَا أَنْ تُؤَخَّرَ عَنْ مَسَائِلِ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ تَقْدِيمًا لِلْحَيَوَانِ عَلَى الْجَمَادِ إلَّا أَنَّ الْحَائِطَ الْمَائِلَ لَمَّا نَاسَبَ الْجُرْصُنَ وَالرَّوْشَنَ وَالْجَنَاحَ وَالْكَنِيفَ وَغَيْرَهَا أَلْحَقَ مَسَائِلَهُ بِهَا وَلِهَذَا عَبَّرَ بِلَفْظِ الْفَصْلِ لَا بِلَفْظِ الْبَابِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (حَائِطٌ مَالَ إلَى طَرِيقِ الْعَامَّةِ ضَمِنَ رَبُّهُ مَا تَلِفَ بِهِ مِنْ نَفْسٍ أَوْ مَالٍ إنْ طَالَبَ بِنَقْضِهِ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ وَلَمْ يَنْقُضْهُ فِي مُدَّةٍ يَقْدِرُ عَلَى نَقْضِهِ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَضْمَنَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ صُنْعٌ هُوَ فِعْلٌ وَلَا مُبَاشَرَةُ عِلَّةٍ وَلَا مُبَاشَرَةُ

(8/402)


شَرْطٍ أَوْ سَبَبٍ وَالضَّمَانُ بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ فَصَارَ كَمَا إذَا لَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ وَبَطَلَ نَقْضُهُ مِنْهُ وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعَنْ شُرَيْحٍ وَالنَّخَعِيِّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ التَّابِعِينَ مَا قُلْنَاهُ وَلِأَنَّ الْحَائِطَ لَمَّا مَالَ فَقَدْ أَشْغَلَ هَوَاءَ الطَّرِيقِ بِمِلْكِهِ وَرَفْعِهِ فِي قُدْرَتِهِ، فَإِذَا طُولِبَ بِرَفْعِهِ لَزِمَهُ ذَلِكَ، فَإِذَا امْتَنَعَ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ صَارَ مُتَعَدِّيًا فَيَلْزَمُهُ مُوجِبُهُ وَلِأَنَّ الضَّرَرَ الْخَاصَّ يَجِبُ تَحَمُّلُهُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ الْعَامِّ كَالْكُفَّارِ إذَا تَتَرَّسُوا بِالْمُسْلِمِينَ ثُمَّ مَا تَلِفَ بِهِ مِنْ النُّفُوسِ تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى الْإِجْحَافِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ لَا تَتَحَمَّلُ الْعَاقِلَةُ حَتَّى يَشْهَدَ الشُّهُودُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ عَلَى التَّقَدُّمِ فِي النَّقْضِ وَعَلَى أَنَّهُ مَاتَ بِالسُّقُوطِ عَلَيْهِ وَعَلَى أَنَّ الدَّارَ لِفُلَانٍ وَمَا تَلِفَ بِهِ مِنْ الْأَمْوَالِ فَضَمَانُهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَتَحَمَّلُ الْمَالَ.
وَالشَّرْطُ الطَّلَبُ لِلنَّقْضِ مِنْهُ دُونَ الْإِشْهَادِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْإِشْهَادَ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ إثْبَاتِهِ عِنْدَ الْجُحُودِ أَوْ جُحُودِ الْعَاقِلَةِ فَكَانَ مِنْ بَابِ الِاحْتِيَاطِ وَيَفْتَحُ الطَّلَبَ بِكُلِّ لَفْظٍ يُفْهَمُ مِنْهُ طَلَبُ النَّقْضِ مِنْ أَنْ يَقُولَ حَائِطُك هَذِهِ مَخُوفٌ أَوْ مَائِلٌ فَاهْدِمْهُ حَتَّى لَا يَسْقُطَ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ اشْهَدُوا أَنِّي تَقَدَّمْت إلَى هَذَا الرَّجُلِ فِي هَدْمِ حَائِطِهِ هَذَا يَصِحُّ أَيْضًا وَلَوْ قَالَ يَنْبَغِي لَك أَنْ تَهْدِمَهُ فَلَيْسَ هَذَا بِطَلَبٍ وَلَا إشْهَادٍ وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ طَلَبُ التَّفْرِيغِ إلَى مَنْ لَهُ وِلَايَةُ النَّقْضِ كَالْمَالِكِ وَالْأَبِ وَالْجَدِّ وَالْوَصِيِّ فِي مِلْكِ الصَّغِيرِ وَالْعَبْدِ التَّاجِرِ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَا وَإِلَى الرَّاهِنِ فِي الدَّارِ الْمَرْهُونَةِ؛ لِأَنَّهُ الْقَادِرُ عَلَى الْهَدْمِ وَإِلَى الْمُكَاتَبِ ثُمَّ إنْ تَلِفَ حَالَ بَقَاءِ الْكِتَابَةِ تَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِتَعَذُّرِ الدَّفْعِ وَبَعْدَ الْعِتْقِ عَلَى عَاقِلَةِ الْمَوْلَى وَبَعْدَ الْحَجْرِ لَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ لِعَدَمِ قُدْرَةِ الْمُكَاتَبِ وَلِعَدَمِ الْإِشْهَادِ عَلَى الْمَوْلَى وَلَوْ تَقَدَّمَ إلَى مَنْ يَسْكُنُ أَوْ لِلْمُرْتَهِنِ أَوْ لِلْمَوْلَى لَا يُعْتَبَرُ حَتَّى لَوْ سَقَطَ وَأَتْلَفَ شَيْئًا لَا يَضْمَنُ السَّاكِنُ وَلَا الْمَالِكُ وَيُشْتَرَطُ دَوَامُ الْقُدْرَةِ إلَى وَقْتِ السُّقُوطِ حَتَّى لَوْ خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ بِالْبَيْعِ بَعْدَ الْإِشْهَادِ بَرِئَ عَنْ الضَّمَانِ لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى النَّقْضِ وَلَا يَصِحُّ الْإِشْهَادُ قَبْلَ أَنْ يَمِيلَ لِانْعِدَامِ سَبَبِهِ وَسَوَّى فِي الْمُخْتَصَرِ بَيْنَ أَنْ يُطَالِبَ بِالنَّقْضِ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُرُورِ لِلْكُلِّ بِخِلَافِ الْعَبِيدِ وَالصِّبْيَانِ لِعَدَمِ قُدْرَتِهِمْ عَلَى النَّقْضِ إلَّا إذَا أَذِنَ لَهُمْ الْمَوْلَى فِي الْخُصُومَةِ فَحِينَئِذٍ جَازَ طَلَبُهُمْ وَإِشْهَادُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ الْتَحَقُوا بِالْبَالِغِ ثُمَّ بَعْدَ الْإِشْهَادِ تَكُونُ الْخُصُومَةُ عِنْدَ سُلْطَانٍ أَوْ نَائِبِهِ.
وَلَوْ جُنَّ بَعْدَ الْإِشْهَادِ مُطْبَقًا أَوْ ارْتَدَّ وَلَحِقَ فَقَضَى الْقَاضِي بِهِ ثُمَّ عَادَ مُسْلِمًا وَرَدَّ عَلَيْهِ الدَّارَ ثُمَّ سَقَطَ الْحَائِطُ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَتْلَفَ إنْسَانًا كَانَ هَدَرًا وَكَذَا لَوْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ وَكَذَا إذَا رُدَّتْ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ أَوْ خِيَارِ شَرْطٍ أَوْ خِيَارِ رُؤْيَةٍ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ إلَّا بِإِشْهَادٍ مُسْتَقْبَلٍ وَلَوْ كَانَ بَعْضُ الْحَائِطِ صَحِيحًا وَبَعْضُهُ وَاهٍ فَأَشْهَدَ عَلَيْهِ فَسَقَطَ الْوَاهِي وَغَيْرُ الْوَاهِي وَقَتَلَ إنْسَانًا يَضْمَنُ صَاحِبُ الْحَائِطِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَائِطُ طَوِيلًا بِحَيْثُ وَهِيَ بَعْضُهُ وَلَمْ يُوهَ الْبَعْضُ فَحِينَئِذٍ يَضْمَنُ مَا أَصَابَ الْوَاهِي وَلَا يَضْمَنُ مَا أَصَابَهُ الَّذِي لَمْ يُوهَ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ كَذَلِكَ صَارَ بِمَنْزِلَةِ حَائِطَيْنِ أَحَدُهُمَا صَحِيحٌ وَالْآخَرُ مَائِلٌ وَأَشْهَدَ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَسْقُطْ الْمَائِلُ وَسَقَطَ الصَّحِيحُ فَيَكُونُ هَدَرًا وَفِيهِ أَيْضًا اللَّقِيطُ لَهُ حَائِطٌ مَائِلٌ وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ فَسَقَطَ الْحَائِطُ وَأَتْلَفَ إنْسَانًا كَانَ دِيَةُ الْقَتِيلِ فِي بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ مِيرَاثَهُ يَكُونُ لِبَيْتِ الْمَالِ.

وَكَذَا الْكَافِرُ إذَا أَسْلَمَ، وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ عَلَى حَائِطٍ لَهُ وَالْحَائِطُ مَائِلٌ أَوْ غَيْرُ مَائِلٍ فَسَقَطَ الرَّجُلُ بِالْحَائِطِ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ وَأَصَابَ إنْسَانًا فَقَتَلَهُ كَانَ ضَامِنًا لِمَا هَلَكَ بِالْحَائِطِ إنْ كَانَ أَشْهَدَ عَلَيْهِ فِي نَقْضِهِ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا سِوَاهُ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي سَقَطَ مِنْ أَعْلَى الْحَائِطِ عَلَى إنْسَانٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْقُطَ بِهِ الْحَائِطُ وَقَتَلَ إنْسَانًا كَانَ هُوَ ضَامِنًا دِيَةَ الْمَقْتُولِ، وَإِنْ مَاتَ السَّاقِطُ بِمَنْ كَانَ فِي الطَّرِيقِ، فَإِنْ كَانَ يَمْشِي فِي الطَّرِيقِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي الْمَشْيِ، وَإِنْ كَانَ وَاقِفًا فِي الطَّرِيقِ قَائِمًا أَوْ قَاعِدًا كَانَتْ دِيَةُ السَّاقِطِ عَلَيْهِ قُيِّدَ بِقَوْلِهِ طُولِبَ بِنَقْضِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ سَقَطَ وَأَتْلَفَ قَبْلَ أَنْ يُطَالِبَ بِنَقْضِهِ لَا يَضْمَنُ وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ وَلَوْ أَنْكَرَتْ الْعَاقِلَةُ أَنْ تَكُونَ الدَّارُ لَهُ لَا عَقْلَ عَلَيْهِمْ وَلَا يَضْمَنُ حَتَّى يُشْهِدُوا عَلَى التَّقْوِيمِ عَلَيْهِ وَعَلَى أَنَّهُ مَاتَ مِنْ سُقُوطِ الْحَائِطِ عَلَيْهِ وَأَنَّ الدَّارَ لَهُ، فَإِذَا أَنْكَرَتْ الْعَاقِلَةُ وَاحِدًا مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ فَلَا تَعْقِلُ وَلَوْ أَقَرَّ رَبُّ الدَّارِ بِهَذَا الْإِشْهَادِ الثَّلَاثَةُ تَلْزَمُ فِي مَالِهِ وَلَا تَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ.

وَفِي الْمُنْتَقَى رَجُلٌ ادَّعَى دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ وَفِيهَا حَائِطٌ مَائِلٌ يُخَافُ سُقُوطُهُ مِنْ الَّذِي يَقْدُمُ إلَيْهِ فِيهِ وَيَشْهَدُ عَلَيْهِ بَعْدَ بَيِّنَةِ الْمُدَّعِي قَالَ يُؤْخَذُ الَّذِي فِي يَدِهِ الدَّارُ بِنَقْضِهِ وَيَشْهَدُ عَلَيْهِ بِمَيْلِهِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ دَارٍ ادَّعَاهَا وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ لَمْ يَتْرُكْ الْبَيِّنَةَ، فَإِنَّهُ يَتَقَدَّمُ بِنَقْضِهِ الَّذِي فِي يَدِهِ ثُمَّ زُكِّيَتْ الْبَيِّنَةُ ضَمِنَ تُقَدَّمُ لَهُ الْقِيمَةُ قَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَشْهَدَ عَلَيْهِ فِي

(8/403)


حَائِطٍ مَائِلٍ لَهُ فَذَهَبَ يَطْلُبُ مَنْ يَهْدِمُهُ وَكَانَ فِي ذَلِكَ حَتَّى سَقَطَ الْحَائِطُ لَا يَضْمَنُ شَيْئًا وَفِيهِ أَيْضًا رَجُلٌ أَشْهَدَ عَلَيْهِ فِي حَائِطٍ مَائِلٍ إلَى دَارِ رَجُلٍ فَسَأَلَ صَاحِبُ الْحَائِطِ الْمَائِلِ مِنْ الْقَاضِي أَنْ يُؤَجِّلَهُ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَفَعَلَ الْقَاضِي ذَلِكَ ثُمَّ سَقَطَ الْحَائِطُ وَأَتْلَفَ شَيْئًا كَانَ الضَّمَانُ وَاجِبًا عَلَى صَاحِبِ الْحَائِطِ وَلَوْ وُجِدَ التَّأْجِيلُ مِنْ صَاحِبِ الدَّارِ فَوَقَعَ الْحَائِطُ فِي مُدَّةِ التَّأْجِيلِ وَأَفْسَدَ شَيْئًا لَا يَجِبُ الضَّمَانُ وَلَوْ سَقَطَ الْحَائِطُ بَعْدَ مُدَّةِ التَّأْجِيلِ كَانَ ضَامِنًا وَفِيهِ أَيْضًا رَجُلٌ أَشْهَدَ عَلَيْهِ فِي حَائِطٍ مَائِلٍ فِي الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ وَطَلَبَ صَاحِبُ الْحَائِطِ مِنْ الْقَاضِي أَنْ يُؤَجِّلَهُ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً فَفَعَلَ الْقَاضِي ذَلِكَ ثُمَّ سَقَطَ الْحَائِطُ الْمَائِلُ فَأَتْلَفَ شَيْئًا كَانَ الضَّمَانُ وَاجِبًا وَكَذَلِكَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَوْ لَمْ يُؤَخِّرْهُ الْقَاضِي وَلَكِنْ أَخَّرَهُ الَّذِي أَشْهَدَ عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ لَا فِي حَقِّ غَيْرِهِ وَلَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَفِي نَوَادِرِ ابْنِ رُسْتُمَ مَسْجِدٌ مَائِلٌ حَائِطُهُ فَأَشْهَدَ عَلَى الَّذِي بَنَاهُ، فَإِنْ وَقَعَ ذَلِكَ عَلَى رَجُلٍ فَقَتَلَهُ فَالدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ.

وَلَوْ أَشْرَعَ الْمُكَاتَبُ كَنِيفًا أَوْ جَنَاحًا مِنْ حَائِطٍ مَائِلٍ إلَى طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ أَدَّى الْكِتَابَةَ وَعَتَقَ ثُمَّ وَقَعَ ذَلِكَ عَلَى إنْسَانٍ فَقَتَلَهُ كَانَ عَلَى الْمُكَاتَبِ الْأَقَلُّ مِنْ دِيَةِ الْمَقْتُولِ وَمِنْ قِيمَتِهِ يَوْمَ الْإِشْرَاعِ قَالَ فِي الْكِتَابِ لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ لِعَتَاقَةِ رَجُلٍ وَأَبُوهُ عَبْدٌ أَشْهَدَ عَلَيْهِ فِي حَائِطٍ مَائِلٍ فَلَمْ يَنْقُضْهُ حَتَّى عَتَقَ الْأَبُ ثُمَّ سَقَطَ الْحَائِطُ وَقَتَلَ إنْسَانًا فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الْأَبِ وَلَوْ سَقَطَ قَبْلَ عِتْقِ الْأَبِ فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْأُمِّ بِمِثْلِهِ وَلَوْ أَشْرَعَ كَنِيفًا ثُمَّ عَتَقَ أَبُوهُ ثُمَّ وَقَعَ الْكَنِيفُ عَلَى إنْسَانٍ وَقَتَلَهُ فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْأُمِّ رَجُلٌ أَشْهَدَ عَلَيْهِ فِي حَائِطٍ مَائِلٍ فَسَقَطَ فِي الطَّرِيقِ وَعَثَرَ رَجُلٌ بِنَقْضِ الْحَائِطِ وَمَاتَ فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ صَاحِبِ الْحَائِطِ وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ وَلَوْ أَشْهَدَ عَلَى حَائِطٍ فَسَقَطَ فَمَا سَقَطَ بِنَقْضِهِ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ مَا تَلِفَ بِالنَّقْضِ لَا يُضْمَنُ إلَّا إذَا أَشْهَدَ عَلَى النَّقْضِ وَلَوْ سَقَطَ الْحَائِطُ عَلَى رَجُلٍ فَقَتَلَهُ أَوْ عَثَرَ رَجُلٌ بِنَقْضِ الْحَائِطِ وَمَاتَ ثُمَّ عَثَرَ رَجُلٌ بِالْقَتِيلِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى عَاقِلَةِ صَاحِبِ الْحَائِطِ وَلَوْ كَانَ مَكَانُ الْحَائِطِ جَنَاحٌ أَخْرَجَهُ إلَى الطَّرِيقِ فَوَقَعَ عَلَى الطَّرِيقِ فَعَثَرَ إنْسَانٌ بِنَقْضِهِ فَمَاتَ وَعَثَرَ رَجُلٌ آخَرُ بِالْقَتِيلِ وَمَاتَ أَيْضًا فَدِيَةُ الْقَتِيلَيْنِ جَمِيعًا عَلَى صَاحِبِ الْجَنَاحِ حَائِطٌ مَائِلٌ لِرَجُلٍ أَشْهَدَ عَلَيْهِ فِي الْحَائِطِ ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْحَائِطِ وَضَعَ جُرَّةً لِغَيْرَةِ عَلَى الْحَائِطِ فَسَقَطَ الْحَائِطُ وَرُمِيَتْ الْجُرَّةُ وَأَصَابَتْ إنْسَانًا فَقَتَلَتْهُ فَدِيَةُ الْمَقْتُولِ عَلَى صَاحِبِ الْحَائِطِ وَلَوْ عَثَرَ بِالْجُرَّةِ وَبِنَقْضِهَا أَحَدٌ فَلَا ضَمَانَ عَلَى أَحَدٍ وَلَوْ بَاعَ الدَّارَ بِيَدِ الْإِشْهَادِ عَلَيْهِ فِي الْحَائِطِ ثُمَّ رَدَّ الْمُشْتَرِي الدَّارَ بِخِيَارِ رُؤْيَةٍ أَوْ بِخِيَارِ شَرْطٍ أَوْ بِخِيَارِ عَيْبٍ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَفِي الْخَانِيَّةِ أَوْ غَيْرِهِ ثُمَّ سَقَطَ الْحَائِطُ عَلَى إنْسَانٍ وَقَتَلَهُ، فَإِنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَفِي الْخَانِيَّةِ إلَّا بِإِشْهَادٍ مُسْتَقْبَلٍ بَعْدَ الرَّدِّ وَلَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ ثُمَّ سَقَطَ الْحَائِطُ وَأَتْلَفَ شَيْئًا كَانَ ضَامِنًا؛ لِأَنَّ خِيَارَ الْبَائِعِ لَا يُبْطِلُ وِلَايَةَ الْإِصْلَاحِ فَلَا يُبْطِلُ الْإِشْهَادَ وَلَوْ أَسْقَطَ الْبَائِعُ خِيَارَهُ وَأَوْجَبَ الْبَيْعَ بَطَلَ الْإِشْهَادُ؛ لِأَنَّهُ أَزَالَ الْحَائِطَ عَنْ مِلْكِهِ وَفِي إخْرَاجِ الْكَنِيفِ وَالْجَنَاحِ وَالْمِيزَابِ لَا يَبْطُلُ الضَّمَانُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَفِي الْكَافِي لَا ضَمَانَ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُشْهِدْ عَلَيْهِ فِي الْهَدْمِ، فَإِذَا أَشْهَدَ عَلَى الْمُشْتَرِي بَعْدَ شِرَائِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ وَلَوْ مَالَ إلَى سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ فَالْخُصُومَةُ إلَى وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ السِّكَّةِ وَلَوْ مَالَ إلَى دَارِ جَارِهِ فَالْخُصُومَةُ إلَى صَاحِبِ تِلْكَ الدَّارِ، وَإِنْ مُسْتَعِيرًا أَوْ مُسْتَأْجِرًا فَالْإِشْهَادُ إلَى السُّكَّانِ وَلَيْسَ إلَى غَيْرِهِمْ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَإِنْ بَنَاهُ مَائِلًا ابْتِدَاء ضَمِنَ مَا تَلِفَ بِسُقُوطِهِ بِلَا طَلَبٍ) ؛ لِأَنَّهُ تَعَدَّى بِالْبِنَاءِ فَصَارَ كَإِشْرَاعِ الْجَنَاحِ وَوَضْعِ الْحَجَرِ وَحَفْرِ الْبِئْرِ فِي الطَّرِيقِ أَطْلَقَ الْمُؤَلِّفُ فِي الْمَيَلَانِ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ يَسِيرِهِ وَفَاحِشِهِ وَفِي الْمُنْتَقَى إنْ كَانَ يَسِيرًا وَقْتَ الْبِنَاءِ لَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ الْجِدَارَ لَا يَخْلُو عَنْ يَسِيرِ الْمَيَلَانِ، وَإِنْ كَانَ فَاحِشًا يَضْمَنُ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَتَقَدَّمْ أَحَدٌ يَطْلُبُ مِنْهُ النَّقْضَ وَلَوْ شَغَلَ الطَّرِيقَ بِأَنْ أَخْرَجَ جِذْعًا فِيهَا فَهُوَ عَلَى التَّفْصِيلِ وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ لَا يُفَصِّلُ فِي الْجِذْعِ وَلَا فِي الْمَيَلَانِ وَفِي الْمُنْتَقَى قَالَ مُحَمَّدٌ حَائِطٌ مَائِلٌ تَقَدَّمَ إلَى صَاحِبِهِ فِيهِ فَلَمْ يَهْدِمْهُ حَتَّى أَلْقَتْهُ الرِّيحُ فَهُوَ ضَامِنٌ وَلَيْسَ هَذَا كَحَجَرٍ وَضَعَهُ إنْسَانٌ عَلَى الطَّرِيقِ وَقَلَبَهُ الرِّيحُ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ فَعَثَرَ بِهِ إنْسَانٌ، فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ، وَإِذَا أَقَرَّتْ الْعَاقِلَةُ أَنَّ الدَّارَ لَهُ ضَمِنُوا الدِّيَةَ كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِجِنَايَةٍ خَطَأٍ وَصَدَّقَتْهُ الْعَاقِلَةُ فِي ذَلِكَ وَكَذَلِكَ الْجَنَاحُ وَالْمِيزَابُ يَشْرَعُهُ الرَّجُلُ مِنْ دَارِهِ فِي الطَّرِيقِ فَوَقَعَ عَلَى إنْسَانٍ وَمَاتَ وَأَنْكَرَتْ الْعَاقِلَةُ أَنْ تَكُونَ الدَّارُ لَهُ وَقَالُوا إنَّمَا أَمَرَ رَبُّ الدَّارِ بِإِخْرَاجِ الْجَنَاحِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ إلَّا أَنْ تُقَامَ الْبَيِّنَةُ أَنَّ الدَّارَ

(8/404)


لَهُ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ إخْرَاجَ الْجَنَاحِ مِنْ الدَّارِ الَّتِي فِي يَدِهِ إنَّمَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى الْعَاقِلَةِ إذَا أَخْرَجَهُ مِنْ دَارِهِ إلَى الطَّرِيقِ لَا بِالْبَيِّنَةِ وَلَا بِإِقْرَارِ الْعَاقِلَةِ كَأَنْ أَقَرَّ رَبُّ الدَّارِ أَنَّ الدَّارَ لَهُ وَكَذَّبَتْهُ الْعَاقِلَةُ لَا يُعْقَلُ وَفِي قَاضِي خَانْ رَجُلٌ تَقَدَّمَ إلَيْهِ فِي حَائِطٍ مَائِلٍ لَهُ فَلَمْ يَنْقُضْهُ حَتَّى وَقَعَ عَلَى حَائِطِ جَارِهِ وَهَدَمَهُ فَهُوَ ضَامِنٌ لِحَائِطِ الْجَارِ وَيَكُونُ رَبُّهَا بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ حَائِطِهِ وَالنَّقْضُ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ النَّقْضَ وَضَمَّنَهُ النُّقْصَانَ وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَجْبُرَهُ عَلَى الْبِنَاءِ كَمَا كَانَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَفِي الْكَافِي وَمَا تَلِفَ بِوُقُوعِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي فَعَلَى مَالِكِ الْأَوَّلِ وَلَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قِيمَةَ الْحَائِطِ حُكِيَ عَنْ الشَّيْخِ الْإِمَامِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيِّ قَالَ تُقَوَّمُ الدَّارُ وَحِيطَانُهَا مُحِيطَةٌ بِهَا.

وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْمُنْتَقَى إنْ أَرْسَلَ دَابَّتَهُ فِي زَرْعِ غَيْرِهِ وَأَفْسَدَ ضَمِنَ قِيمَةَ الزَّرْعِ وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ قِيمَتِهِ أَنْ تُقَوَّمَ الْأَرْضُ مَعَ الزَّرْعِ الثَّابِتِ فَيَضْمَنُ حِصَّةَ الزَّرْعِ، وَإِذَا ضَمِنَ قِيمَةَ حَائِطِهِ كَانَ النَّقْضُ لِلضَّامِنِ فَلَوْ جَاءَ إنْسَانٌ وَعَثَرَ بِنَقْضِ الْحَائِطِ فَالضَّمَانُ عَلَى عَاقِلَتِهِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَيْهِ وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَإِنْ عَثَرَ بِنَقْضِ الْحَائِطِ الثَّانِي قِيلَ يَضْمَنُ صَاحِبُ الْحَائِطِ الْأَوَّلِ وَلَوْ أَنَّ الْحَائِطَ الْأَوَّلَ حِينَ وَقَعَ عَلَى الْحَائِطِ الثَّانِي وَهَدَمَهُ وَقَعَ الْحَائِطُ الثَّانِي عَلَى رَجُلٍ وَقَتَلَهُ لَا ضَمَانَ عَلَى صَاحِبِ الْحَائِطِ الثَّانِي، وَإِنَّمَا الضَّمَانُ عَلَى عَاقِلَةِ صَاحِبِ الْحَائِطِ الْأَوَّلِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَإِنْ مَالَ إلَى دَارِ رَجُلٍ فَالطَّلَبُ إلَى رَبِّهَا) ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ عَلَى الْخُصُوصِ، وَإِذَا كَانَ يَسْكُنُهَا غَيْرُهُ كَانَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ؛ لِأَنَّ لَهُ الْمُطَالَبَةَ بِإِزَالَةِ مَا شَغَلَ هَوَاهَا قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (فَإِنْ أَجَّلَهُ أَوْ أَبْرَأَهُ صَحَّ) بِخِلَافِ الطَّرِيقِ إنْ أَجَّلَهُ صَاحِبُ الدَّارِ أَوْ أَبْرَأَهُ جَازَ تَأْجِيلُهُ وَإِبْرَاؤُهُ حَتَّى لَوْ سَقَطَ فِي الْإِبْرَاءِ وَقَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ فِي التَّأْجِيلِ لَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ بِخِلَافِ مَا إذَا مَالَ لِلطَّرِيقِ الْعَامِّ فَأَجَّلَهُ الْقَاضِي أَوْ مَنْ أَشْهَدَ عَلَيْهِ أَوْ أَبْرَأَهُ لَا يَصِحُّ التَّأْجِيلُ وَالْإِبْرَاءُ لِمَا ذَكَرْنَا وَقَوْلُهُ إلَى دَارِ رَجُلٍ مِثَالٌ وَلَيْسَ بِقَيْدٍ حَتَّى لَوْ مَالَ الْعُلُوُّ إلَى الْأَسْفَلِ أَوْ الْأَسْفَلُ إلَى الْعُلُوِّ فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ كَذَا فِي قَاضِي خَانْ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (حَائِطٌ بَيْنَ خَمْسَةٍ أَشْهَدَ عَلَى أَحَدِهِمْ فَسَقَطَ عَلَى رَجُلٍ ضَمِنَ خُمُسَ الدِّيَةِ دَارٌ بَيْنَ ثَلَاثَةٍ حَفَرَ أَحَدُهُمْ فِيهَا بِئْرًا أَوْ بَنَى حَائِطًا فَعَطِبَ بِهِ رَجُلٌ ضَمِنَ ثُلْثَيْ الدِّيَةِ) وَهَذَا عِنْدَ الْإِمَامِ وَقَالَا يَضْمَنُ النِّصْفَ فِي الصُّورَتَيْنِ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ بِنَصِيبِ مَنْ أَشْهَدَ عَلَيْهِ يُعْتَبَرُ وَبِنَصِيبِ مَنْ لَمْ يُشْهِدْ عَلَيْهِ هَدَرٌ وَفِي الْحَفْرِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ غَيْرُ مُتَعَدٍّ بِاعْتِبَارِ مِلْكِ شَرِيكِهِ مُتَعَدٍّ وَكَانَا قِسْمَيْنِ فَانْقَسَمَا نِصْفَيْنِ عَلَيْهِمَا وَلِلْإِمَامِ أَنَّ الْمَوْتَ حَصَلَ بِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ الْقَتْلُ فَيُضَافُ التَّلَفُ إلَى الْعِلَّةِ الْوَاحِدَةِ ثُمَّ يُقْسَمُ عَلَى أَرْبَابِهَا بِقَدْرِ الْمِلْكِ، فَإِنْ قِيلَ الْوَاحِدُ مِنْ الشُّرَكَاءِ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَهْدِمَ شَيْئًا مِنْ الْحَائِطِ فَكَيْفَ يَصِحُّ تَقَدُّمُهُ إلَيْهِ قُلْنَا إنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ هَدْمِ نَصِيبِهِ يَتَمَكَّنُ مِنْ إصْلَاحِهِ بِالْمُرَافَعَةِ إلَى الْحَاكِمِ وَبِهِ يَحْصُلُ الْغَرَضُ وَهُوَ إزَالَةُ الضَّرَرِ وَفِي الْمُحِيطِ قَالَ يَقْدِرُ عَلَى هَدْمِ نَصِيبِهِ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ وَمُطَالَبَةِ الْبَاقِينَ بِالنَّقْضِ فَيَكُونُ قَادِرًا عَلَى النَّقْضِ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْفَرْقَ لِلْإِمَامِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ حَيْثُ يَضْمَنُ خُمُسَ الدِّيَةِ وَفِي الْحَائِطِ وَيَضْمَنُ ثُلُثَيْ الدِّيَةِ فِيمَا إذَا حَفَرَ وَبَنَى فِي دَارٍ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلَّ حَجَرٍ وَضَعَهُ أَوْ حَفَرَهُ فَهُوَ مُتَعَدٍّ فِي ثُلُثَيْ الْوَضْعِ وَالْحَفْرِ وَلَيْسَ مُتَعَدِّيًا فِي الثُّلُثِ فَلِهَذَا يَضْمَنُ الثُّلُثَيْنِ وَقَوْلُهُ حَائِطٌ بَيْنَ خَمْسَةٍ وَدَارٌ بَيْنَ ثَلَاثَةٍ مِثَالٌ وَلَيْسَ بِقَيْدٍ وَفِي الظَّهِيرِيَّةِ وَالْحَائِطُ إذَا كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ اثْنَيْنِ فَأَشْهَدَ عَلَى أَحَدِهِمَا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَشْهَدَ عَلَى أَحَدِ الْوَرَثَةِ.

وَفِي الْمُنْتَقَى رَجُلٌ مَاتَ وَتَرَكَ دَارًا وَعَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ مَا يَسْتَغْرِقُ قِيمَتَهَا وَفِيهَا حَائِطٌ مَائِلٌ إلَى الطَّرِيقِ وَلَا وَارِثَ لِلْمَيِّتِ غَيْرَ هَذَا الِابْنِ فَالتَّقَدُّمُ فِي حَائِطِهِ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَمْلِكُهَا، فَإِنْ وَقَعَ التَّقَدُّمُ بَعْدَ التَّقَدُّمِ إلَيْهِ كَانَتْ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْأَبِ دُونَ عَاقِلَةِ الِابْنِ، فَإِنْ كَانَ الْحَائِطُ الْمَائِلُ بَيْنَ خَمْسَةِ نَفَرٍ أَخْمَاسًا وَتَقَدَّمَ إلَى أَحَدِهِمْ بِالنَّقْضِ ثُمَّ سَقَطَ عَلَى إنْسَانٍ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ الْمُتَقَدِّمُ إلَيْهِ خُمُسَ الدِّيَةِ وَيَجِبُ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَيَهْدُرُ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسٍ وَهُوَ حِصَّةُ شُرَكَائِهِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ بِأَنَّ الشَّرِيكَ الْحَاضِرَ الْمُتَقَدِّمَ إلَيْهِ يَضْمَنُ نِصْفَ الدِّيَةِ فَتَجِبُ ذَلِكَ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَيَهْدُرُ النِّصْفُ ذَكَرَ الْمَسْأَلَةَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي الْأَصْلِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهَا خِلَافًا.

قَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَيْضًا إذَا كَانَتْ الدَّارُ بَيْنَ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ حَفَرَ أَحَدُهُمْ فِي هَذِهِ الدَّارِ الْمُشْتَرَكَةِ بِئْرًا وَوَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ وَمَاتَ قَالَ عَلَى عَاقِلَةِ الْحَافِرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ثُلُثُ دِيَةِ الْمَقْتُولِ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَجِبُ عَلَى الْحَافِرِ نِصْفُ الدِّيَةِ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَذْكُورَةٌ فِي الْأَصْلِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ وَالْخِلَافُ فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ مِنْ

(8/405)


خَصَائِصِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.

وَفِي السِّغْنَاقِيِّ، وَإِذَا وَضَعَ الرَّجُلُ عَلَى حَائِطِهِ شَيْئًا فَوَقَعَ ذَلِكَ الشَّيْءُ فَأَصَابَ إنْسَانًا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ وَضَعَهُ عَلَى مِلْكِهِ وَهُوَ لَا يَكُونُ مُتَعَدِّيًا فِيمَا يُحْدِثُهُ فِي مِلْكِهِ سَوَاءٌ كَانَ الْحَائِطُ مَائِلًا أَوْ غَيْرَ مَائِلٍ وَفِي الْمُنْتَقَى وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا بَنَى حَائِطًا مَائِلًا بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَثْلَاثًا تَقَدَّمَ إلَى صَاحِبِ الثُّلُثِ فِيهِ ثُمَّ سَقَطَ عَلَى رَجُلٍ وَقَتَلَهُ صَرْعًا فَعَلَيْهِ ثُلُثُ الدِّيَةِ بِلَا خِلَافٍ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ حِمَارٍ حَمَلَ عَلَيْهِ إنْسَانٌ عَشْرَةَ أَقْفِزَةٍ وَحَمَلَ الْآخَرُ عَلَيْهِ خَمْسَةَ أَقْفِزَةٍ وَكُلُّ ذَلِكَ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى فَمَاتَ الْحِمَارُ مِنْ ذَلِكَ تَجِبُ الْقِيمَةُ أَثْلَاثًا وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ أَخَذَ بِنَفَسِ إنْسَانٍ وَأَخَذَ آخَرُ بِنَفَسِهِ الْآخَرِ فَمَاتَ الْمَأْخُوذُ مِنْ ذَلِكَ وَهُنَاكَ يَجِبُ الضَّمَانُ كَذَا هُنَا هَذَا إذَا وَقَعَ الْحَائِطُ عَلَى حُرٍّ وَلَوْ وَقَعَ الْحَائِطُ عَلَى عَبْدٍ إنْ قَتَلَهُ غَمًّا، فَإِنَّ قِيمَتَهُ عَلَيْهِمَا أَثْلَاثًا.
وَإِنْ جَرَحْته الْحَائِطُ وَمَاتَ الْعَبْدُ مِنْ الْجِرَاحَةِ فَالْجِرَاحَةُ عَلَيْهِمَا أَثْلَاثًا وَالنَّفْسُ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ، فَإِنْ جَرَحَهُ الْحَائِطُ ثُمَّ مَاتَ مِنْ الْغَمِّ وَالْجِرَاحَةِ، فَإِنَّ الْجِرَاحَةَ عَلَيْهِمَا أَثْلَاثًا نِصْفُ مَا بَقِيَ مِنْ النَّفْسِ وَهُوَ حِصَّةُ الْغَمِّ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا أَيْضًا وَالنِّصْفُ الْآخَرُ وَهُوَ حِصَّةُ الْجِرَاحَةِ بَيْنهمَا نِصْفَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي حَائِطٍ مَائِلٍ لِرَجُلَيْنِ أَشْهَدَ عَلَيْهِمَا وَحَائِطٍ مَائِلٍ لِرَجُلٍ أَشْهَدَ عَلَيْهِ سَقَطَا عَلَى إنْسَانٍ فَقَتَلَاهُ فَنِصْفُ الدِّيَةِ عَلَى الرَّجُلِ الَّذِي لَهُ الْحَائِطُ وَنِصْفُ الدِّيَةِ عَلَى رَجُلَيْنِ وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ فَسَقَطَا عَلَى الرَّجُلَيْنِ فَمَاتَا فَالدِّيَةُ عَلَيْهِمَا مُطْلَقًا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إنْ مَاتَ مِنْ جُرْحٍ جَرَحَهُ الْحَائِطُ فَالدِّيَةُ عَلَيْهِمْ أَثْلَاثًا، وَإِنْ مَاتَ مِنْ ثِقَلِهِمَا فَالدِّيَةُ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ وَلَا يَضْمَنُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا فَأَمَّا إذَا وَضَعَ فِي مِلْكِهِ عَرَضًا حَتَّى خَرَجَ طَرَفُهُ مِنْهُ إلَى الطَّرِيقِ إنْ سَقَطَ فَأَصَابَ الطَّرَفَ الْخَارِجَ مِنْهُ شَيْئًا، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ.
وَكَانَ الْجَوَابُ فِيهِ كَالْجَوَابِ فِي إخْرَاجِ الْمِيزَابِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْحَائِطُ مَائِلًا وَكَانَ مُمْكِنٌ وَضْعَ الْجِذْعِ عَلَيْهِ طُولًا حَتَّى لَمْ يَخْرُجْ شَيْءٌ مِنْهُ إلَى الطَّرِيقِ ثُمَّ سَقَطَ ذَلِكَ الْجِذْعُ عَلَى إنْسَانٍ وَمَاتَ، فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ هَكَذَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ وَأَطْلَقَ الْجَوَابَ إطْلَاقًا وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ هَذَا إذَا كَانَ الْحَائِطُ مَائِلًا إلَى الطَّرِيقِ مَيْلًا يَسِيرًا غَيْرَ فَاحِشٍ فَأَمَّا إذَا مَالَ مَيْلًا فَاحِشًا، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَيَلَانَ إذَا كَانَ غَيْرَ فَاحِشٍ بِحَيْثُ يُوجَدُ ذَلِكَ الْقَدْرُ وَقْتَ الْبِنَاءِ يَكُونُ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ بِمَنْزِلَةٍ؛ لِأَنَّ الْجِدَارَ قَلَّمَا يَخْلُو عَنْ قَلِيلِ مَيَلَانٍ يَكُونُ لَهُ إلَى الطَّرِيقِ فَأَمَّا إذَا كَانَا مَيْلًا فَاحِشًا بِحَيْثُ يُحْتَرَزُ مِنْهُ عِنْدَ الْبِنَاءِ فِي الْأَصْلِ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ إذَا سَقَطَ ذَلِكَ عَلَى إنْسَانٍ إنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ إلَيْهِ بِالرَّفْعِ؛ لِأَنَّهُ مَتَى وَضَعَ الْجِذْعَ طُولًا عَلَى الْحَائِطِ الْمَائِلِ فَيُعْتَبَرُ بِمَا لَوْ شَغَلَ الْهَوَاءَ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ وَلَوْ شَغَلَ هَوَاءَ الطَّرِيقِ بِوَاسِطَةٍ بِأَنْ أَخْرَجَ الْجِذْعَ عَنْ الْحَائِطِ فَسَقَطَ فَأَصَابَ إنْسَانًا كَذَا هَذَا.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْجَوَابُ فِيهِ كَمَا أَطْلَقَهُ مُحَمَّدٌ لَا يَضْمَنُ فِي الْحَالَتَيْنِ وَلَوْ كَانَ الْوَضْعُ بَعْدَمَا تَقَدَّمَ إلَيْهِ فِي الْحَائِطِ ثُمَّ سَقَطَ الْجِذْعُ فَأَصَابَ إنْسَانًا يَقُولُ بِأَنَّهُ يَضْمَنُ كَذَا فِي الْمُنْتَقَى وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

[بَابُ جِنَايَةِ الْبَهِيمَةِ وَالْجِنَايَةُ عَلَيْهَا وَغَيْرُ ذَلِكَ]
(بَابُ جِنَايَةِ الْبَهِيمَةِ وَالْجِنَايَةُ عَلَيْهَا وَغَيْرُ ذَلِكَ) لَمَّا فَرَغَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ جِنَايَةِ الْإِنْسَانِ شَرَعَ فِي بَيَانِ جِنَايَةِ الْبَهِيمَةِ وَلَا شَكَّ فِي تَقَدُّمِ جِنَايَةِ الْإِنْسَانِ عَلَى الْبَهِيمَةِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَيَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَفْرُغْ مِنْ بَيَانِ جِنَايَةِ الْإِنْسَانِ مُطْلَقًا بَلْ بَقِيَ مِنْهَا جِنَايَةُ الْمَمْلُوكِ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مِنْ الْإِنْسَانِ فَيُقَدَّمُ عَلَى الْبَهِيمَةِ وَكَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يُقَدَّمَ عَلَى جِنَايَةِ الْبَهِيمَةِ كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (ضَمِنَ الرَّاكِبُ مَا أَوْطَأَتْ دَابَّتُهُ بِيَدٍ وَرِجْلٍ أَوْ رَأْسٍ أَوْ كَدَمَتْ أَوْ خَبَطَتْ أَوْ صَدَمَتْ لَا مَا نَفَحَتْ بِرِجْلٍ أَوْ ذَنَبٍ إلَّا إذَا أَوْقَفَهَا فِي الطَّرِيقِ) وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ الْمُرُورَ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ مُبَاحٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّهِ وَفِي حَقِّ غَيْرِهِ مِنْ وَجْهٍ لِكَوْنِهِ مُشْتَرَكًا بَيْنَ كُلِّ النَّاسِ إذْ الْإِبَاحَةُ مُقَيَّدَةٌ بِالسَّلَامَةِ، وَالِاحْتِرَازُ عَنْ الْإِيطَاءِ وَالْكَدْمِ وَالصَّدْمِ وَالْخَبْطِ مُمْكِنٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ السَّيْرِ وَقَيَّدْنَاهُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ وَفِي الْعَيْنِيِّ عَلَى الْهِدَايَةِ الْكَدْمُ بِمُقَدَّمِ الْإِنْسَانِ وَالْخَبْطُ بِالْيَدِ وَالصَّدْمُ هُوَ أَنْ تَطْلُبَ الشَّيْءَ بِجَسَدِك، وَلَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْ النَّفْحَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْ الْإِيقَافِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ إلَّا إذَا أَوْقَفَهَا فِي الطَّرِيقِ أَطْلَقَ فِيمَا ذَكَرَهُ وَهُوَ مُقَيَّدٌ بِأَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ.
أَمَّا إذَا كَانَ فِي مِلْكِهِ لَا يَضْمَنُ إلَّا فِي الْإِيطَاءِ وَهُوَ رَاكِبُهَا؛ لِأَنَّهُ فِعْلٌ مِنْهُ مُبَاشَرَةً حَتَّى يُحْرَمَ بِهِ عَنْ الْمِيرَاثِ، وَتَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ بِشَرْطِ التَّعَدِّي فَصَارَ كَحَفْرِ الْبِئْرِ وَفِي الْمُبَاشَرَةِ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ تَسَبَّبَ فِيهِ بِإِذْنِ مَالِكِهِ فَهُوَ كَمَا لَوْ كَانَ فِي مِلْكِهِ، فَإِنْ كَانَ

(8/406)


بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهِ فَإِنْ دَخَلَتْ الدَّابَّةُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُدْخِلَهَا مَالِكُهَا وَلَمْ يَكُنْ مَعَهَا لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا، فَإِنْ أَدْخَلَهَا هُوَ ضَمِنَ الْجَمِيعَ سَوَاءٌ كَانَ مَعَهَا أَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا لِوُجُودِ التَّعَدِّي بِالْإِدْخَالِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ، وَالْمِلْكُ الْمُشْتَرَكُ كَمِلْكِهِ الْخَاصِّ بِهِ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَحْكَامِ وَالْمَسْجِدُ كَالطَّرِيقِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْأَحْكَامِ وَلَوْ جَعَلَ الْإِمَامُ مَوْضِعًا لِوُقُوفِ الدَّوَابِّ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ فَلَا ضَمَانَ فِيمَا يَحْدُثُ مِنْ الْوُقُوفِ فِيهِ وَكَذَا إيقَافُ الدَّوَابِّ فِي سُوقِ الدَّوَابِّ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ مِنْ جِهَةِ السُّلْطَانِ وَكَذَا إذَا أَوْقَفَهَا فِي طَرِيقٍ مُتَّسَعَةٍ لَا يَضُرُّ وُقُوفُهَا بِالنَّاسِ فَلَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى إذْنِ الْإِمَامِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ غَيْرَ مُتَّسَعَةٍ وَفِي الْخُلَاصَةِ دَابَّةٌ مَرْبُوطَةٌ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ، فَإِنْ ذَهَبَ وَحَلَّ الرِّبَاطَ فَقَدْ زَالَتْ الْجِنَايَةُ فَمَا عَطِبَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ هَدَرٌ فَلَوْ جَالَتْ الدَّابَّةُ فِي رِبَاطِهَا فَمَا أَصَابَ شَيْئًا وَأَتْلَفَهُ فَهُوَ مَضْمُونٌ سَوَاءٌ ضَرَبَتْ بِيَدِهَا أَوْ بِرِجْلِهَا أَوْ بِرَأْسِهَا فَلَوْ رَبَطَهَا فِي مَكَان فَذَهَبَتْ إلَى مَكَان آخَرَ فَمَا أَصَابَتْ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ فَهُوَ هَدَرٌ وَفِيهَا أَيْضًا الرَّاكِبُ إذَا كَانَتْ الدَّابَّةُ تَسِيرُ بِهِ فَنَخَسَهَا رَجُلٌ فَأَلْقَتْ الرَّاكِبَ إنْ كَانَ الرَّاكِبُ أَذِنَ لَهُ فِي النَّخْسِ لَا يَجِبُ عَلَى النَّاخِسِ شَيْءٌ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهِ ضَمِنَ الدِّيَةَ، وَإِنْ ضَرَبَتْ النَّاخِسَ فَمَاتَ فَدَمُهُ هَدَرٌ، وَإِنْ أَصَابَتْ رَجُلًا آخَرَ بِالذَّنَبِ أَوْ الرِّجْلِ أَوْ كَيْفَمَا أَصَابَتْ إنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِ الرَّاكِبِ فَالضَّمَانُ عَلَى النَّاخِسِ، وَإِنْ كَانَ بِإِذْنِهِ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا إلَّا فِي النَّفْحَةِ بِالرِّجْلِ أَوْ الذَّنَبِ، فَإِنَّهُ جُبَارٌ إلَّا إذَا كَانَ الرَّاكِبُ وَاقِفًا بِغَيْرِ مِلْكِهِ فَأَمَرَ رَجُلًا فَنَخَسَهَا فَنَفَحَتْ بِرِجْلِهَا فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا.
وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَالضَّمَانُ عَلَى النَّاخِسِ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ فِيمَا نَفَحَتْ بِرِجْلِهَا قَالَ عَامَّةُ الشُّرَّاحِ نَفَحَتْ الدَّابَّةُ إذَا ضَرَبَتْ بِحَافِرِهَا قَالَ فِي النِّهَايَةِ وَمِثْلُ هَذَا فِي الصِّحَاحِ وَالْمُغْرِبِ وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ أَقُولُ: كَوْنُ الْمَذْكُورِ فِي الصِّحَاحِ كَذَا مَمْنُوعٌ إذَا لَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ كَوْنُ الضَّرْبِ بِحَدِّ الْحَافِرِ بَلْ قَالَ فِيهِ وَنَفَحَتْ النَّاقَةُ ضَرَبَتْ بِرِجْلِهَا ثُمَّ أَقُولُ: بَقِيَ إشْكَالٌ فِي عِبَارَةِ الْكِتَابِ وَهُوَ أَنَّ الَّذِي يَظْهَرُ مِمَّا ذُكِرَ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ وَمِمَّا ذَكَرَهُ الشُّرَّاحُ هَاهُنَا أَنْ لَا تَكُونَ النَّفْحَةُ إلَّا بِالرِّجْلِ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَصِحَّ قَوْلُهُ وَلَا يَضْمَنَ بِالنَّفْحَةِ مَا نَفَحَتْ بِرِجْلِهَا أَوْ ذَنَبِهَا؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ النَّفْحَةُ بِالذَّنَبِ أَيْضًا بَلْ يَلْزَمُ أَيْضًا اسْتِدْرَاكُ قَوْلِهِ بِرِجْلِهَا؛ لِأَنَّ الضَّرْبَ بِالرِّجْلِ كَانَ دَاخِلًا فِي مَفْهُومِ النَّفْحَةِ لَا يُقَالُ ذِكْرُ الرِّجْلِ مَحْمُولٌ عَلَى التَّأْكِيدِ وَذِكْرُ الذَّنَبِ عَلَى التَّحْدِيدِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ اعْتِبَارُ التَّأْكِيدِ وَالتَّحْدِيدِ مَعًا بِالنَّظَرِ إلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ مُتَعَذِّرٌ لِلتَّنَافِي بَيْنَهُمَا كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ بَلْ التَّأْوِيلُ الصَّحِيحُ أَنْ تُحْمَلَ النَّفْحَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي عِبَارَةِ الْكِتَابِ عَلَى مُطْلَقِ الْجَمْعِ بِطَرِيقِ عُمُومِ الْمَجَازِ فَيَصِحُّ ذِكْرُ الرِّجْلِ وَالذَّنَبِ كِلَيْهِمَا بِلَا إشْكَالٍ فَتَأَمَّلْ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَإِنْ أَصَابَتْ بِيَدِهَا أَوْ رِجْلِهَا حَصَاةٌ أَوْ نَوَاةً أَوْ أَثَارَ غُبَارًا أَوْ حَجَرًا صَغِيرًا فَفَقَأَ عَيْنًا لَمْ يَضْمَنْ وَلَوْ كَبِيرًا ضَمِنَ) ؛ لِأَنَّ التَّحَرُّزَ عَنْ الْحِجَارَةِ الصِّغَارِ وَالْغُبَارِ مُتَعَذِّرٌ؛ لِأَنَّ سَيْرَ الدَّابَّةِ لَا يَخْلُو عَنْهُ وَعَنْ الْكِبَارِ مِنْ الْحِجَارَةِ مُمْكِنٌ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ عَادَةً مِنْ قِلَّةِ هِدَايَةِ الرَّاكِبِ فَيَضْمَنُ.
وَفِي الذَّخِيرَةِ قِيلَ لَوْ عَنَّفَ الدَّابَّةَ فَأَثَارَتْ حَجَرًا صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا يَضْمَنُ وَفِي الظَّهِيرِيَّةِ لَوْ أَوْقَفَ دَابَّةً فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَرْبِطْهَا فَسَارَتْ إلَى مَكَان آخَرَ وَأَتْلَفَتْ شَيْئًا فَلَا ضَمَانَ عَلَى صَاحِبِهَا كَذَا فِي الْكُبْرَى وَكُلُّ بَهِيمَةٍ مِنْ سَبُعٍ أَوْ غَيْرِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ عَنْ حَالِهِ، وَإِذَا سَارَ الرَّجُلُ عَلَى دَابَّتِهِ فِي الطَّرِيقِ فَضَرَبَهَا وَكَبَحَهَا بِاللِّجَامِ فَضَرَبَتْ بِرِجْلِهَا أَوْ بِذَنَبِهَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَفِي السِّغْنَاقِيِّ وَمِنْ هَذَا الْجِنْسِ مَا قَالُوا فِيمَنْ سَاقَ دَابَّةً عَلَيْهَا وَقْرٌ مِنْ الْحِنْطَةِ فَأَتْلَفَتْ شَيْئًا مِنْ الطَّرِيقِ نَفْسًا أَوْ مَالًا فَهُوَ عَلَى وُجُوهٍ أَمَّا إنْ قَالَ السَّائِقُ أَوْ الْقَائِدُ أَوْ الرَّاكِبُ إلَيْك، فَإِنْ سَمِعَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ وَلَمْ يَذْهَبْ فَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ أَمَّا إنْ لَمْ يَبْرَحْ مِنْ مَكَانِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَكَانِ أَوْ لَمْ يَجِدْ مَكَانًا آخَرَ لِيَذْهَبَ فَمَكَثَ فِي مَكَانِهِ ذَلِكَ حَتَّى تَخَرَّقَ ثِيَابُهُ فَفِي هَذَا الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لَا يَضْمَنُ صَاحِبُ الدَّابَّةِ وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي يَضْمَنُ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ إلَيْك رَكِبَ الدَّابَّةَ ضَمِنَ وَفِي الْفَتَاوَى رَجُلٌ سَاقَ حِمَارًا عَلَيْهِ وَقْرُ حَطَبٍ فَقَالَ السَّائِقُ بِالْفَارِسِيَّةِ (كوسيت أَوْ يَرِثهُ) فَلَمْ يَسْمَعْ الْوَاقِفُ حَتَّى أَصَابَهُ الْحَطَبُ فَخَرَقَ ثَوْبَهُ أَوْ سَمِعَ لَكِنْ لَمْ يَتَهَيَّأْ لَهُ أَنْ يَتَنَحَّى عَنْ الطَّرِيقِ لِقِصَرِ الْمُدَّةِ ضَمِنَ، وَإِنْ سَمِعَ وَتَهَيَّأَ وَلَمْ يَنْتَقِلْ لَا يَضْمَنُ وَنَظِيرُ هَذَا مَنْ أَقَامَ حِمَارًا عَلَى الطَّرِيقِ وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ فَجَاءَ رَاكِبٌ وَكَرَّ شَلَّا وَخَرَقَ الثِّيَابَ إنْ كَانَ الرَّاكِبُ يُبْصِرُ الْحِمَارَ وَأَرْسُوَن يَضْمَنُ، وَإِنْ لَمْ يُبْصِرْ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَضْمَنُوا الثِّيَابَ عَلَى الطَّرِيقِ فَجَعَلَ النَّاسُ يَمُرُّونَ عَلَيْهِ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ لَا يَضْمَنُ وَكَذَا رَجُلٌ جَلَسَ عَلَى الطَّرِيقِ فَوَقَعَ عَلَيْهِ إنْسَانٌ فَلَمْ يَرُدَّهُ

(8/407)


فَمَاتَ الْجَالِسُ لَا يَضْمَنُ ثُمَّ الَّذِي سَاقَ الْحِمَارَ إذَا كَانَ لَا يُنَادِي يَا رَبِّ أَيْ لَوْ شِئْت حَتَّى تَعَلَّقَ الْحَطَبُ بِثَوْبِ رَجُلٍ فَتَخَرَّقَ يَضْمَنُ إنْ مَشَى الْحِمَارُ إلَى صَاحِبِ الثَّوْبِ.
وَإِنْ مَشَى إلَى الْحِمَارِ وَهُوَ يَرَاهُ أَوْ لَمْ يَتَبَاعَدْ عَلَيْهِ لَا يَضْمَنُ وَلَوْ وَثَبَ مِنْ نَخْسِهِ عَلَى رَجُلٍ فَقَتَلَهُ أَوْ وَطِئَتْ رَجُلًا فَقَتَلَتْهُ فَالضَّمَانُ عَلَى النَّاخِسِ دُونَ الرَّاكِبِ وَفِي الْكَافِي فِدْيَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ النَّاخِسِ كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (فَإِنْ رَاثَتْ أَوْ بَالَتْ فِي الطَّرِيقِ لَمْ يَضْمَنْ مَا عَطِبَ بِهِ إنْ أَوْقَفَهَا لِذَلِكَ، وَإِنْ أَوْقَفَهَا لِغَيْرِهِ ضَمِنَ) ؛ لِأَنَّ سَيْرَ الدَّابَّةِ لَا يَخْلُو عَنْ رَوْثٍ وَبَوْلٍ فَلَا يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فَلَا يَضْمَنُ مَا تَلِفَ بِهِ فِيمَا إذَا رَاثَتْ أَوْ بَالَتْ وَهِيَ تَسِيرُ وَكَذَا إذَا أَوْقَفَهَا لِذَلِكَ؛ لِأَنَّ مِنْ الدَّوَابِّ مَنْ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إلَّا وَاقِفًا وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ، وَإِنْ أَوْقَفَهَا لِغَيْرِهِ فَبَالَتْ أَوْ رَاثَتْ فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ ضَمِنَ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي الْإِيقَافِ إذْ هُوَ لَيْسَ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ السَّيْرِ وَهُوَ أَكْثَرُ ضَرَرًا أَيْضًا مِنْ السَّيْرِ لِكَوْنِهِ أَدْوَمَ مِنْهُ فَلَا يُلْحَقُ بِهِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ، وَإِنْ أَوْقَفَهَا لِذَلِكَ، وَإِنْ أَوْقَفَهَا لِغَيْرِهِ ضَمِنَ.

وَفِي الْمُنْتَقَى رَجُلٌ وَاقِفٌ عَلَى دَابَّتِهِ فِي الطَّرِيقِ فَأَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَنْخُسَ دَابَّتَهُ فَنَخَسَهَا فَقَتَلَتْ رَجُلًا فَدِيَةُ الرَّجُلِ الْأَجْنَبِيِّ عَلَى النَّاخِسِ وَالرَّاكِبِ جَمِيعًا وَدَمُ الْآمِرِ بِالنَّخْسِ هَدَرٌ وَلَوْ سَارَتْ عَنْ مَوْضِعِهَا ثُمَّ نَفَحَتْ مِنْ فَوْرِ النَّخْسِ فَالضَّمَانُ عَلَى النَّاخِسِ دُونَ الرَّاكِبِ وَلَوْ لَمْ تَسِرْ وَنَفَحَتْ النَّاخِسَ وَرَجُلًا آخَرَ وَقَتَلَهُمَا فَدِيَةُ الْأَجْنَبِيِّ عَلَى النَّاخِسِ وَالرَّاكِبِ وَنِصْفُ دِيَةِ النَّاخِسِ عَلَى الرَّاكِبِ.
وَلَوْ لَمْ يُوقِفْهَا الرَّاكِبُ عَلَى الطَّرِيقِ وَلَكِنْ حَرَنَتْ فَوَقَفَتْ فَنَخَسَهَا هُوَ وَغَيْرُهُ لِتَسِيرَ فَنَفَحَتْ إنْسَانًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمَا وَفِيهِ أَيْضًا رَجُلٌ اكْتَرَى مِنْ آخَرَ دَابَّةً لِيَذْهَبَ عَلَيْهَا فِي حَاجَةٍ لَهُ فَأَتْبَعَهُ صَاحِبُهَا فَلَهُ أَنْ يَسُوقَهَا، فَإِنْ وَقَفَ الرَّاكِبُ فِي الطَّرِيقِ عَلَى أَهْلِ مَجْلِسٍ فَحَرَنَتْ فَنَخَسَهَا صَاحِبُ الدَّابَّةِ أَوْ ضَرَبَهَا أَوْ سَاقَهَا فَنَفَحَتْ الدَّابَّةُ وَهِيَ وَاقِفَةٌ فَقَتَلَتْ إنْسَانًا فَالضَّمَانُ عَلَى الرَّاكِبِ وَالسَّائِقِ جَمِيعًا وَفِيهِ أَيْضًا صَبِيٌّ رَكِبَ دَابَّةً بِأَمْرِ أَبِيهِ ثُمَّ إنَّ الصَّبِيَّ الرَّاكِبَ أَمَرَ صَبِيًّا فَنَخَسَهَا فَالْقَوْلُ فِيهِ إذَا كَانَ مَأْذُونًا كَالْقَوْلِ فِي الْكَبِيرِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي ذَلِكَ فَأَمَرَ صَبِيًّا حَتَّى نَخَسَهَا فَسَارَتْ وَنَفَحَتْ مِنْ النَّخْسَةِ فَعَلَى النَّاخِسِ الضَّمَانُ وَلَا شَيْءَ عَلَى الرَّاكِبِ، وَإِنْ أَمَرَ بِذَلِكَ وَوَطِئَتْ إنْسَانًا فَقَتَلَتْهُ وَكَانَ سَيْرُهَا مِنْ النَّخْسَةِ فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ النَّاخِسِ وَلَا يَرْجِعُونَ بِذَلِكَ عَلَى عَاقِلَةِ الرَّاكِبِ وَفِيهِ أَيْضًا رَجُلٌ رَكِبَ دَابَّةَ رَجُلٍ قَدْ أَوْقَفَهَا رَبُّهَا فِي الطَّرِيقِ وَرَبَطَهَا وَغَابَ فَأَمَرَ رَبُّ الدَّابَّةِ رَجُلًا حَتَّى نَخَسَهَا فَنَفَحَتْ رَجُلًا أَوْ نَفَحَتْ الْآمِرَ فَدِيَتُهُ عَلَى النَّاخِسِ، وَإِنْ كَانَ الْآمِرُ أَوْقَفَهَا فِي الطَّرِيقِ ثُمَّ أَمَرَ رَجُلًا حَتَّى نَخَسَهَا فَقَتَلَتْ رَجُلًا فَدِيَتُهُ عَلَى الْآمِرِ وَالنَّاخِسِ نِصْفَيْنِ رَجُلٌ أَذِنَ رَجُلًا أَنْ يَدْخُلَ دَارِهِ وَهُوَ رَاكِبٌ فَدَخَلَهَا رَاكِبًا فَوَطِئَتْ دَابَّتُهُ عَلَى شَيْءٍ كَانَ ضَامِنًا لَهُ، وَإِنْ كَانَ سَائِقًا أَوْ قَائِدًا فَلَا ضَمَانَ أَدْخَلَ بَعِيرًا بِرَحْلِهِ فَوَقَعَ عَلَيْهِ الْمُتَعَلِّمُ فَقَتَلَهُ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَا ضَمَانَ عَلَى صَاحِبِ الْمُتَعَلِّمِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ إنْ أَدْخَلَ صَاحِبُ الْمُتَعَلِّمِ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِ الدَّارِ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَإِنْ كَانَ دَخَلَهَا بِإِذْنِهِ فَلَا ضَمَانَ وَبِهِ أَخَذَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى وَفِي فَتَاوَى الْخُلَاصَةِ وَلَوْ كَانَ الْبَعِيرُ غَيْرَ مُتَعَلِّمٍ فَحُكْمُهُ حُكْمُ مُتَعَلِّمٍ.

وَفِي الْفَتَاوَى رَبَطَ حِمَارَهُ فِي أَرْضِهِ لِيَأْكُلَ عَلَفًا فَجَاءَ حِمَارُ رَجُلٍ فَعَقَرَهُ فَجَعَلَهُ مَعْيُوبًا عَيْبًا فَاحِشًا قَالَ لَا يَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ عَلَى صَاحِبِ الْحِمَارِ قُلْتُ: قَالَ الْقَاضِي بَدِيعُ الدِّينِ إنْ كَانَ صَاحِبُهُ مَعَهُ يَضْمَنُ وَإِلَّا فَلَا يَضْمَنُ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَمَا ضَمِنَهُ الرَّاكِبُ ضَمِنَ السَّائِقُ وَالْقَائِدُ) أَيْ كُلُّ شَيْءٍ يَضْمَنُهُ الرَّاكِبُ يَضْمَنَانِ؛ لِأَنَّهُمَا سَبَبَانِ كَالرَّاكِبِ فِي غَيْرِ الْإِيطَاءِ فَيَجِبُ عَلَيْهِمَا الضَّمَانُ بِالتَّعَدِّي فِيهِ كَالرَّاكِبِ وَقَوْلُهُ وَمَا ضَمِنَهُ الرَّاكِبُ ضَمِنَهُ السَّائِقُ وَالْقَائِدُ يَطَّرِدُ وَيَنْعَكِسُ فِي الصَّحِيحِ وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّ السَّائِقَ يَضْمَنُ النَّفْحَةَ بِالرِّجْلِ؛ لِأَنَّهُ بِمَرْأَى عَيْنِهِ فَيُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ عَنْهَا مَعَ السَّيْرِ وَغَائِبَةٌ عَنْ بَصَرِ الرَّاكِبِ وَالْقَائِدِ فَلَا يُمْكِنُهُمَا الِاحْتِرَازُ عَنْهَا بِخِلَافِ الْكَدْمِ وَالصَّدْمِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَضْمَنُونَ كُلُّهُمْ النَّفْحَةَ وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَا وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الرِّجْلُ جُبَارٌ» وَمَعْنَاهُ النَّفْحَةُ بِالرِّجْلِ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَعَلَى الرَّاكِبِ الْكَفَّارَةُ لَا عَلَيْهِمَا) أَيْ لَا عَلَى السَّائِقِ وَالْقَائِدِ وَمُرَادُهُ فِي الْإِيطَاءِ؛ لِأَنَّ الرَّاكِبَ مُبَاشِرٌ فِيهِ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ بِثِقَلِهِ وَثِقَلُ دَابَّتِهِ تَبَعٌ، فَإِنَّ سَيْرَ الدَّابَّةِ مُضَافٌ إلَيْهِ وَهِيَ الْعِلَّةُ وَهُمَا مُسَبَّبَانِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَّصِلُ مِنْهُمَا شَيْءٌ بِالْمَحَلِّ وَكَذَلِكَ الرَّاكِبُ فِي غَيْرِ الْإِيطَاءِ وَالْكَفَّارَةِ حُكْمُ الْمُبَاشَرَةِ لَا حُكْمُ التَّسَبُّبِ وَكَذَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِيطَاءِ فِي حَقِّ الرَّاكِبِ حِرْمَانُ الْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ دُونَ السَّائِقِ وَالْقَائِدِ؛ لِأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْمُبَاشِرِ وَلَوْ كَانَ سَائِقٌ وَرَاكِبٌ قِيلَ لَا يَضْمَنُ السَّائِقُ مَا فَعَلَتْ الدَّابَّةُ

(8/408)


لِأَنَّ الرَّاكِبَ مُبَاشِرٌ فِيهِ كَمَا ذَكَرْنَا وَالسَّائِقَ مُسَبِّبٌ وَالْإِضَافَةُ إلَى الْمُبَاشَرَةِ أَوْلَى وَقِيلَ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ سَبَبُ الضَّمَانِ أَلَا تَرَى أَنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّ الرَّاكِبَ إذَا أَمَرَ إنْسَانًا فَنَخَسَ الْمَأْمُورُ الدَّابَّةَ وَوَطِئَتْ إنْسَانًا كَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا فَاشْتَرَكَا فِي الضَّمَانِ وَالنَّاخِسُ سَائِقٌ وَالْآمِرُ رَاكِبٌ فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّهُمَا مُسْتَوِيَانِ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ لِمَا ذَكَرْنَا وَالْجَوَابُ عَمَّا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّ الْمُسَبِّبَ إنَّمَا يَضْمَنُ مَعَ الْمُبَاشَرَةِ إذَا كَانَ السَّبَبُ شَيْئًا لَا يَعْمَلُ بِانْفِرَادِهِ فِي الْإِتْلَافِ كَالْحَفْرِ مَعَ الْإِلْقَاءِ، فَإِنَّ الْحَفْرَ لَا يَعْمَلُ شَيْئًا بِدُونِ الْإِلْقَاءِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ السَّبَبُ يَعْمَلُ بِانْفِرَادِهِ فِي الْإِتْلَافِ فَيَشْتَرِكَانِ وَهَذَا مِنْهُ.
وَفِي الْأَصْلِ يَقُولُ رَجُلٌ قَادَ قِطَارًا مِنْ الْإِبِلِ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ فَمَا وَطِئَ أَوَّلُ الْقِطَارِ وَآخِرُهُ مَالًا أَوْ رَجُلًا فَقَتَلَهُ فَالْقَائِدُ ضَامِنٌ وَلَا كَفَّارَةَ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ سَائِقٌ يَسُوقُ الْإِبِلَ إلَّا أَنَّهُ تَارَةً يَتَقَدَّمُ وَتَارَةً يَتَأَخَّرُ، فَإِنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي الضَّمَانِ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُمَا ثَالِثٌ يَسُوقُ الْإِبِلَ وَسَطَ الْقِطَارِ فَمَا أَصَابَ مِمَّا خَلْفَ هَذَا الَّذِي فِي وَسَطِ الْقِطَارِ أَوْ مِمَّا قَبْلَهُ فَضَمَانُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ أَثْلَاثًا يُرِيدُ بِهِ إذَا كَانَ هَذَا الَّذِي يَمْشِي فِي وَسَطِ الْقِطَارِ وَلَا يَمْشِي فِي جَانِبٍ مِنْ الْقِطَارِ وَلَا يَأْخُذُ بِزِمَامِ بَعِيرٍ يَقُودُ مَا خَلْفَهُ؛ لِأَنَّهُ سَائِقٌ لِوَسَطِ الْقِطَارِ فَيَكُونُ سَائِقًا لِلْكُلِّ بِحُكْمِ اتِّصَالِ الْأَزِمَّةِ فَأَمَّا إذَا كَانَ الَّذِي فِي وَسَطِ الْقِطَارِ آخِذًا بِزِمَامٍ يَقُودُ مَا خَلْفَهُ وَلَا يَسُوقُ مَا قَبْلَهُ فَمَا أَصَابَ مِمَّا خَلْفَ هَذَا الَّذِي فِي هَذَا الْقِطَارِ فَضَمَانُ ذَلِكَ عَلَى الْقَائِدِ الْأَوَّلِ وَلَا شَيْءَ فِيهِ عَلَى هَذَا الَّذِي فِي وَسَطِ الْقِطَارِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقَائِدٍ لِمَا قَبْلَهُ وَلَا سَائِقٍ حَتَّى لَوْ كَانَ سَائِقًا لَهُ يُشَارِكُ الْأَوَّلَ فِي الضَّمَانِ كَذَا فِي الْمُغْنِي وَفِي الْيَنَابِيعِ، وَإِنْ كَانَ السَّائِقُ فِي وَسَطِ الْقِطَارِ فَمَا أَصَابَ مِنْ خَلْفِهِ أَوْ بَيْنَ يَدَيْهِ فَهُوَ عَلَيْهِمَا، وَإِنْ كَانُوا ثَلَاثَةَ نَفَرٍ أَحَدُهُمْ فِي مُقَدَّمِ الْقِطَارِ وَالْآخَرُ فِي مُؤَخَّرِ الْقِطَارِ وَالثَّالِثُ فِي وَسَطِ الْقِطَارِ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي فِي الْوَسَطِ وَالْمُؤَخَّرِ يَسُوقَانِ وَالْمُقَدَّمُ يَقُودُ الْقِطَارَ فَمَا عَطِبَ بِمَا أَمَامَ الَّذِي فِي الْوَسَطِ فَذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى الْقَائِدِ وَمَا تَلِفَ مِمَّا هُوَ خَلْفَهُ فَهُوَ كُلُّهُ عَلَى الْقَائِدِ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُؤَخَّرِ إلَّا أَنْ يَكُونَ سَائِقًا.
وَإِنْ كَانُوا يَسُوقُونَ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا السِّغْنَاقِيِّ وَلَوْ كَانَ الرَّجُلُ رَاكِبًا وَسَطَ الْقِطَارِ عَلَى بَعِيرِهِ وَلَا يَسُوقُ مِنْهَا شَيْئًا لَمْ يَضْمَنْ مَا تَعِيبُ الْإِبِلُ الَّتِي بَيْنَ يَدَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِسَائِقٍ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ مَعَهُمْ فِي الضَّمَانِ مِمَّا أَصَابَ الْبَعِيرُ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ أَوْ مَا خَلْفَهُ وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ هَذَا الَّذِي ذُكِرَ إذَا كَانَ زِمَامُ مَا خَلْفَهُ بِيَدِهِ يَقُودُهُ، وَأَمَّا إذَا كَانَ نَائِمًا عَلَى بَعِيرِهِ أَوْ قَاعِدًا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ فَهُوَ فِي حَقِّ مَا خَلْفَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَتَاعِ الْمَوْضُوعِ عَلَى الْبَعِيرِ الظَّهِيرِيَّةِ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا يَقُودُ قِطَارًا وَآخَرُ مِنْ خَلْفِ الْقِطَارِ يَسُوقُهُ وَعَلَى الْإِبِلِ قَوْمٌ فِي الْمَحَالِّ نِيَامٌ أَوْ غَيْرُ نِيَامٍ فَوَطِئَ بَعِيرٌ مِنْهَا إنْسَانًا فَقَتَلَهُ فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَائِدِ وَالسَّائِقِ وَالرَّاكِبِينَ الَّذِينَ قُدَّامَ الْبَعِيرِ عَلَى عَوَاقِلِهِمْ عَلَى عَدَدِ رُءُوسِهِمْ وَالْكَفَّارَةُ عَلَى رَاكِبِ الْبَعِيرِ الَّذِي وَطِئَ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُبَاشِرِ.

قَالَ فِي الْمُنْتَقَى إذَا قَادَ الرَّجُلُ قِطَارًا وَخَلْفَهُ سَائِقٌ وَأَمَامَهُ رَاكِبٌ فَوَطِئَ الرَّاكِبُ إنْسَانًا فَالدِّيَةُ عَلَيْهِمْ أَثْلَاثًا وَكَذَلِكَ إذَا وَطِئَ بَعِيرٌ مِمَّا خَلْفَ الرَّاكِبِ إنْسَانًا، وَإِنْ كَانَ وَطِئَ بِغَيْرِ أَمَامٍ فَهُوَ عَلَى الْقَائِدِ وَالسَّائِقِ نِصْفَيْنِ وَلَا شَيْءَ عَلَى الرَّاكِبِ وَذَكَرَ فِي الْمُنْتَقَى مَسْأَلَةَ الْقِطَارِ بَعْدَ هَذَا فِي صُورَةٍ أُخْرَى وَأَوْجَبَ الضَّمَانَ عَلَى الْقَائِدِ وَعَلَى مَنْ كَانَ قُدَّامَ الْبَعِيرِ الَّذِي أَوْطَأَ مِنْ الرُّكْبَانِ قَالَ وَلَيْسَ عَلَى مَنْ خَلْفَهُ مِنْ الرُّكْبَانِ شَيْءٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ إنْسَانًا مُؤَجَّرًا وَيَسُوقَ فَيَكُونَ عَلَيْهِ وَعَلَى السَّائِقِ الَّذِي خَلْفَهُ يَشْتَرِكُونَ جَمِيعًا فِيهِ الْخَانِيَّةُ.
رَجُلٌ يَقُودُ دَابَّةً فَسَقَطَ شَيْءٌ مِمَّا يُحْمَلُ عَلَى الْإِبِلِ عَلَى إنْسَانٍ أَوْ سَقَطَ سَرْجُ الدَّابَّةِ أَوْ لِجَامُهَا عَلَى إنْسَانٍ فَقَتَلَهُ أَوْ سَقَطَ ذَلِكَ فِي الطَّرِيقِ فَعَثَرَ بِهِ إنْسَانٌ وَمَاتَ يَضْمَنُ الْقَائِدُ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ سَائِقٌ كَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا الْقَاضِي وَسُئِلَ أَيْضًا عَنْ صَاحِبِ زَرْعٍ سَلَّمَ الْحِمَارَ إلَى الْمُزَارِعِ فَرَبَطَ الدَّابَّةَ عَلَيْهِ وَشَدَّ الْحِمَارَ فِي الدَّالِيَةِ بِأَمْرِهِ فَانْقَطَعَ خَيْطٌ مِنْ خُيُوطِهَا فَوَقَعَ الْحِمَارُ فِي حُفْرَةِ الدَّالِيَةِ فَعَطِبَ الْحِمَارُ هَلْ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْمُزَارِعِ فَقَالَ لَا قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ رَجُلٌ قَادَ قِطَارًا فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ فَجَاءَ رَجُلٌ بَعْدُ بِبَعِيرٍ وَرَبَطَهُ بِالْقِطَارِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ فَأَصَابَ ذَلِكَ الْبَعِيرُ إنْسَانًا فَضَمَانُهُ عَلَى الْقَائِدِ دُونَ الرَّابِطِ، وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا سَبَبًا لِلْإِتْلَافِ فَهَلْ يَرْجِعُ عَلَى عَاقِلَةِ الرَّابِطِ قَالَ لَا يَرْجِعُ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ وَلَمْ يَفْصِلْ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بَيْنَ مَا إذَا رَبَطَ الْبَعِيرَ بِالْقِطَارِ وَالْقِطَارُ يَسِيرُ.
وَفِي بَعْضِ كُتُبِ النَّوَادِرِ أَنَّ الْقِطَارَ إنْ كَانَ لَا يَسِيرُ حَالَةَ الرَّبْطِ فَقَادَهَا الْقَائِدُ بَعْدَ الرَّبْطِ لَا يَرْجِعُ الْقَائِدُ عَلَى عَاقِلَةِ الرَّابِطِ عَلِمَ الْقَائِدُ بِرَبْطِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، فَإِنْ كَانَ الْقِطَارُ يَسِيرُ حَالَةَ الرَّبْطِ فَالْقَائِدُ يَرْجِعُ

(8/409)


عَلَى عَاقِلَةِ الرَّابِطِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِرَبْطِهِ.

وَفِي الْمُنْتَقَى، وَإِذَا سَارَ الرَّجُلُ عَلَى دَابَّةٍ وَخَلْفَهُ رَدِيفٌ وَخَلْفَ الدَّابَّةِ سَائِقٌ وَأَمَامَهَا قَائِدٌ فَوَطِئَتْ إنْسَانًا فَالدِّيَةُ عَلَيْهِمْ أَرْبَاعًا وَعَلَى الرَّاكِبِ وَالرَّدِيفِ الْكَفَّارَةُ، وَإِذَا سَارَ الرَّجُلُ عَلَى دَابَّتِهِ فِي الطَّرِيقِ فَعَثَرَتْ بِحَجَرٍ وَضَعَهُ رَجُلٌ أَوْ بِدُكَّانٍ بَنَاهُ رَجُلٌ أَوْ بِمَاءٍ صَبَّهُ رَجُلٌ فَوَقَعَتْ عَلَى إنْسَانٍ وَأَتْلَفَتْهُ فَالضَّمَانُ عَلَى الَّذِي وَضَعَ الْحَجَرَ وَبَنَى الدُّكَّانَ وَصَبَّ الْمَاءَ؛ لِأَنَّهُ مُسَبَّبُ الْإِتْلَافِ وَهُوَ مُتَعَدٍّ فِي هَذَا السَّبَبِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الرَّاكِبِ وَفِي الْكَفَّارَةِ إذَا أَرْسَلَ كَلْبًا أَوْ دَابَّةً أَوْ طَيْرًا فَأَصَابَ فِي فَوْرِهِ شَيْئًا ضَمِنَ فِي الدَّابَّةِ دُونَ الْكَلْبِ وَالطَّيْرِ وَفِي الصُّغْرَى الطَّحَاوِيُّ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَضْمَنُ الْكُلَّ كَذَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلَوْ اصْطَدَمَ فَارِسَانِ أَوْ مَاشِيَانِ فَمَاتَا ضَمِنَ عَاقِلَةُ كُلٍّ دِيَةَ الْآخَرِ) وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَجِبُ عَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ نِصْفُ دِيَةِ الْآخَرِ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَاتَ بِفِعْلِهِ وَفِعْلِ صَاحِبِهِ فَيُعْتَبَرُ نِصْفُهُ وَيُهْدَرُ النِّصْفُ كَمَا إذَا كَانَ الِاصْطِدَامُ عَمْدًا وَجَرَحَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَفْسَهُ وَصَاحِبَهُ أَوْ حَفَرَا عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ بِئْرًا فَانْهَدَمَ عَلَيْهِمَا أَوْ وَقَفَا فِيهِ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النِّصْفُ فَكَذَا هَذَا وَلَنَا أَنَّ قَتْلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُضَافٌ إلَى فِعْلِ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ فِي نَفْسِهِ مُبَاحٌ كَالْمَشْيِ فِي الطَّرِيقِ فَلَا يُعْتَبَرُ فِي حَقِّ الضَّمَانِ بِالنِّسْبَةِ إلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ مُطْلَقًا فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَلَوْ اُعْتُبِرَ ذَلِكَ لَوَجَبَ نِصْفُ الدِّيَةِ فِيمَا إذَا وَقَعَ فِي بِئْرٍ فِي قَارِعَةِ الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّهُ لَوْلَا مَشْيُهُ وَثِقَلُهُ فِي نَفْسِهِ لَمَا هَوَى فِي الْبِئْرِ وَفِعْلُ صَاحِبِهِ، وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا لَكِنَّهُ مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ فَيَكُونُ سَبَبًا لِلضَّمَانِ عِنْدَ وُجُودِ التَّلَفِ بِهِ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أَوْجَبَ كُلَّ الدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَتَعَارَضَتْ رِوَايَتَانِ فَرَجَّحْنَا مَا ذَكَرْنَا وَيُحْتَمَلُ مَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ أَوْجَبَ كُلَّ الدِّيَةِ عَلَى الْخَطَأِ تَوْفِيقًا بَيْنَهُمَا، وَأَمَّا مَا اسْتَشْهَدَا بِهِ مِنْ الِاصْطِدَامِ وَجَرِحَ كُلٍّ مِنْهُمَا نَفْسَهُ وَصَاحِبَهُ وَحَفْرِ الْبِئْرِ فِي الطَّرِيقِ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مَحْظُورٌ مُطْلَقًا فَيُعْتَبَرُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ أَيْضًا فَيَكُونُ قَاتِلًا لِنَفْسِهِ وَهَذَا الْحُكْمُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ فِي الْحُرَّيْنِ وَلَوْ كَانَا عَبْدَيْنِ هُدِرَ الدَّمُ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى فِيهِ غَيْرُ مُخْتَارٍ لِلْفِدَاءِ وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا حُرًّا وَالْآخَرُ عَبْدًا يَجِبُ عَلَى عَاقِلَةِ الْحُرِّ قِيمَةُ الْعَبْدِ كُلُّهَا فِي الْخَطَأِ وَنِصْفُهَا فِي الْعَبْدِ فَيَأْخُذُهَا وَرَثَةُ الْحُرِّ الْمَقْتُولِ وَيَبْطُلُ مَا زَادَ عَلَيْهِ لِعَدَمِ الْخَلْفِ وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ قِيمَةَ الْعَبْدِ الْمَقْتُولِ تَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ عَلَى أَصْلِهِمَا؛ لِأَنَّهُ ضَمَانُ الْآدَمِيِّ.
وَإِذَا تَجَاذَبَ رَجُلَانِ حَبْلًا فَانْقَطَعَ الْحَبْلُ فَسَقَطَا أَوْ مَاتَا يُنْظَرُ، فَإِنْ وَقَعَا عَلَى الْقَفَا لَا تَجِبُ لَهُمَا دِيَةٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَاتَ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ، وَإِنْ وَقَعَا عَلَى الْوَجْهِ وَجَبَ عَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دِيَةُ الْآخَرِ، وَإِنْ قَطَعَ إنْسَانٌ الْحَبْلَ بَيْنَهُمَا فَوَقَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْقَفَا فَدِيَتُهُمَا عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاطِعِ وَكَذَا عَلَى هَذَا سَائِرُ الضَّمَانَاتِ وَقَدْ قَدَّمْنَا شَيْئًا مِنْ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ وَلَوْ ضَرَبَ بَطْنَ امْرَأَتِهِ فَرَاجِعْهُ قَالَ فِي النِّهَايَةِ وَفِي تَقْيِيدِ الْفَارِسَيْنِ فِي الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ، وَإِذَا اصْطَدَمَ الْفَارِسَانِ لَيْسَتْ زِيَادَةَ فَائِدَةٍ، فَإِنَّ الْحُكْمَ فِي اصْطِدَامِ الْمَاشِيَيْنِ وَمَوْتِهِمَا بِذَلِكَ كَذَلِكَ ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ سِوَى أَنَّ مَوْتَ الْمُصْطَدِمَيْنِ فِي الْغَالِبِ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْفَارِسَيْنِ. اهـ.
وَقَالَ فِي الْعِنَايَةِ آخِذًا مِنْ النِّهَايَةِ حُكْمُ الْمَاشِيَيْنِ حُكْمُ الْفَارِسَيْنِ لَكِنْ لَمَّا كَانَ مَوْتُ الْمُصْطَدِمَيْنِ غَالِبًا فِي الْفَارِسَيْنِ خَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ. اهـ.
وَقَالَ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ وَكَذَا الْحُكْمُ إذَا اصْطَدَمَ الْمَاشِيَانِ وَالتَّقْيِيدُ بِالْفَارِسَيْنِ اتِّفَاقِيٌّ أَوْ بِحَسَبِ الْغَالِبِ. اهـ.
وَتَبِعَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ أَقُولُ: عَجِيبٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الشُّرَّاحِ مِثْلُ هَذِهِ التَّعَسُّفَاتِ مَعَ كَوْنِ وَجْهِ التَّقْيِيدِ بِالْفَارِسَيْنِ بَيِّنًا؛ لِأَنَّ الْبَابَ الَّذِي عَرَفْته بَابُ جِنَايَةِ الْبَهِيمَةِ وَالْجِنَايَةُ عَلَيْهَا وَلَا يَخْفَى أَنَّ اصْطِدَامَ الْمَاشِيَيْنِ لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ فَكَانَ خَارِجًا عَنْ مَسَائِلِ هَذَا الْبَابِ رَجُلٌ وَجَدَ فِي زَرْعِهِ فِي اللَّيْلِ ثَوْرَيْنِ فَظَنَّ أَنَّهُمَا لِأَهْلِ الْقَرْيَةِ فَبَانَا أَنَّهُمَا لِغَيْرِهِمْ فَأَرَادَ أَنْ يُدْخِلَهُمَا فَدَخَلَ وَاحِدٌ وَفَرَّ آخَرُ فَتَبِعَهُ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ فَجَاءَ صَاحِبُهُ يَضْمَنُهُ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ إنْ كَانَ نِيَّتُهُ عِنْدَ الْأَخْذِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ صَاحِبِهِ يَضْمَنُ
وَإِنْ كَانَ نِيَّتُهُ أَنْ يَرُدَّ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَقْدِرْ لَمْ يَضْمَنْ فَقِيلَ إنْ كَانَ ذَلِكَ بِالنَّهَارِ قَالَ إنْ كَانَ لِغَيْرِ أَهْلِ الْقَرْيَةِ كَانَ لُقَطَةً، فَإِنْ تَرَكَ الْإِشْهَادَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ يَضْمَنُ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ شُهُودًا يَكُونُ عُذْرًا، وَإِنْ كَانَ لِأَهْلِ الْقَرْيَةِ فَكَمَا أَخْرَجَهُ يَكُونُ ضَامِنًا وَقَالَ الْقَاضِي عَلِيٌّ السُّغْدِيُّ، وَإِنْ وَجَدَ فِي زَرْعِهِ دَابَّةً فَسَاقَهَا بِقَدْرِ مَا يُخْرِجُهَا عَنْ مِلْكِهِ؛ لَا يَكُونَ ضَامِنًا، فَإِذَا سَاقَ وَزَادَ وَرَاءَ ذَلِكَ الْقَدْرِ

(8/410)


يَصِيرُ غَاصِبًا بِالسُّوقِ وَالصَّحِيحُ مَا قَالَهُ الْقَاضِي عَلِيٌّ السُّغْدِيُّ عَبْدَانِ الْتَقَيَا وَمَعَ كُلِّ وَاحِدٍ عَصًا فَضَرَبَا وَبَرِئَا خُيِّرَ مَوْلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ وَلَا يَتَرَاجَعَانِ بِشَيْءٍ سِوَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَلَكَ عَبْدَهُ مِنْ صَاحِبِهِ وَلَا يُفِيدُ التَّرَاجُعُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ رَجَعَ أَحَدُهُمَا لَرَجَعَ الْآخَرُ؛ لِأَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَبَتَ فِي رَقَبَةٍ كَامِلَةٍ فَمَا يَأْخُذُ أَحَدُهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ فَذَاكَ بَدَلُ الْآخَرِ وَتَعَلَّقَ بِهِ حَقُّهُ فَلَا يُفِيدُ الرُّجُوعَ، وَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَدَى كُلُّ وَاحِدٍ بِجَمِيعِ أَرْشِ جِنَايَتِهِ لِأَنَّهُمَا لَمَّا ضَرَبَا مَعًا فَقَدْ جَنَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى عَبْدٍ صَحِيحٍ فَتَعَلَّقَ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَوْلَيَيْنِ بِعَبْدٍ صَحِيحٍ فَيَجِبُ بَدَلُ عَبْدٍ صَحِيحٍ، وَإِنْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا بِالضَّرْبَةِ خُيِّرَ الْمَوْلَى مَوْلَى الْبَادِئِ؛ لِأَنَّ الْبِدَايَةَ مِنْ مَوْلَى اللَّاحِقِ لَا تُفِيدُ، لِأَنَّ حَقَّ اللَّاحِقِ فِي عَبْدٍ صَحِيحٍ كَامِلِ الرَّقَبَةِ، فَإِذَا دَفَعَ إلَى الْبَادِئِ عَبْدًا مَشْجُوجًا كَانَ لِلَّاحِقِ أَنْ يَسْتَرِدَّ مِنْهُ ثَانِيًا؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ عَبْدُك شَجَّ عَبْدِي وَهُوَ صَحِيحٌ وَدَفَعْتَ إلَيَّ عَبْدَكَ بَدَلَ تِلْكَ الشَّجَّةِ فَيَكُونُ لِي وَالْبِدَايَةُ مِنْ مَوْلَى الْبَادِئِ بِالدَّفْعِ مُفِيدَةٌ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْبَادِئِ ثَبَتَ فِي عَبْدٍ مَشْجُوجٍ فَمَتَى دَفَعَهُ مَشْجُوجًا لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ فَكَانَ دَفْعُهُ مُفِيدًا.
فَإِنْ دَفَعَهُ فَالْعَبْدُ لِلْمَدْفُوعِ إلَيْهِ وَلَا شَيْءَ لِلدَّافِعِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ رَجَعَ الْبَادِئُ بِشَيْءٍ كَانَ لِلْمَدْفُوعِ إلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ ثَانِيًا؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي رَقَبَةِ عَبْدٍ صَحِيحٍ فَلَا يُفِيدُ رُجُوعُ الْبَادِئِ، وَإِنْ فَدَاهُ خُيِّرَ مَوْلَى اللَّاحِقِ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ عِنْدَ الْبَادِئِ عَنْ الْجِنَايَةِ بِالْفِدَاءِ وَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَجْنِ، وَإِنْ جَنَى عَلَيْهِ الْعَبْدُ اللَّاحِقُ فَإِنْ مَاتَ الْبَادِئُ كَانَتْ قِيمَتُهُ فِي عُنُقِ الثَّانِي يَدْفَعُ بِهَا أَوْ الْفِدَاءَ، فَإِنْ فَدَاهُ بِقِيمَةِ الْمَيِّتِ رَجَعَ فِي تِلْكَ الْقِيمَةِ بِأَرْشِ جِرَاحَتِهِ عَبْدًا؛ لِأَنَّ بِالْفِدَاءِ أَظْهَرَ عَبْدًا لِلَّاحِقِ عَنْ الْجِنَايَةِ وَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَجْنِ، وَإِنَّمَا جَنَى عَلَيْهِ الْبَادِئُ وَالْبَادِئُ وَإِنْ مَاتَ فَالْقِيمَةُ قَامَتْ مَقَامَهُ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ قَائِمٌ مَقَامَهُ، وَإِنْ دَفَعَهُ رَجَعَ بِأَرْشِ شَجَّةِ عَبْدِهِ فِي عُنُقِهِ وَيُخَيَّرُ الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ؛ لِأَنَّ الْمَدْفُوعَ قَامَ مَقَامَ الْمَيِّتِ الشَّاجِّ، وَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ الْقَاتِلُ خُيِّرَ مَوْلَى الْعَبْدِ الْبَادِئِ، وَإِنْ فَدَاهُ أَوْ دَفَعَ بَطَلَ حَقُّهُ فِي شَجَّةِ عَبْدِهِ؛ لِأَنَّهُ حِينَ شَجَّ اللَّاحِقُ الْبَادِئَ كَانَ اللَّاحِقُ مَشْجُوجًا فَثَبَتَ حَقُّ مَوْلَى الْبَادِئِ فِي عَبْدٍ مَشْجُوجٍ فَثَبَتَ حَقُّهُ فِيمَا وَرَاءَ الشَّجَّةِ فَمَاتَ لَا إلَى خَلْفٍ لَمَّا مَاتَ الْعَبْدُ الْقَاتِلُ فَبَطَلَ حَقُّ مَوْلَى الْبَادِئِ فِي شَجَّةِ عَبْدِهِ وَلَوْ مَاتَ الْبَادِئُ مِنْ شَيْءٍ آخَرَ سِوَى الْجِنَايَةِ وَبَقِيَ اللَّاحِقُ خُيِّرَ مَوْلَى الْبَادِئِ وَيُقَالُ لَهُ إنْ شِئْت فَاعْفُ عَنْ مَوْلَى اللَّاحِقِ وَلَا سَبِيلَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَإِنْ شِئْت ادْفَعْ أَرْشَ شَجَّةِ اللَّاحِقِ وَطَالِبْهُ بِحَقِّك وَإِنْ دَفَعَ إلَى صَاحِبِهِ أَرْشَ عَبْدِهِ يَرْجِعُ بِأَرْشِ جِنَايَةِ عَبْدِهِ فَيَدْفَعُ مَوْلَى اللَّاحِقِ عَبْدَهُ بِهَا أَوْ يَفْدِيهِ أَمَّا الْمَفْهُومُ فَلِأَنَّ مَوْلَى الْبَادِئِ بِجِنَايَتِهِ إذَا دَفَعَ كَانَ لِمَوْلَى اللَّاحِقِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِأَرْشِ شَجَّةِ عَبْدِهِ وَكَانَ لِمَوْلَى الْبَادِئِ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ الْعَبْدَ الْمَدْفُوعَ ثَانِيًا إلَيْهِ عَنْ حَقِّهِ فَلَا يُفِيدُهُ الدَّفْعُ.
وَإِنَّمَا دَفَعَ أَرْشَ شَجَّةِ اللَّاحِقِ؛ لِأَنَّهُ مَتَى دَفَعَ أَرْشَ عَبْدِ اللَّاحِقِ فَقَدْ طَهُرَ الْبَادِئُ عَنْ الْجِنَايَةِ وَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَجْنِ، وَإِنَّمَا جَنَى عَلَيْهِ الْعَبْدُ اللَّاحِقُ فَيُخَاطَبُ مَوْلَى اللَّاحِقِ بِالدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ وَأَيَّ ذَلِكَ اخْتَارَ لَا يَبْقَى لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ سَبِيلٌ؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقُّهُ، وَإِنْ أَبَى مَوْلَى الْبَادِئِ أَنْ يَدْفَعَ الْأَرْشَ فَلَا شَيْءَ لَهُ فِي عِتْقِ الْآخَرِ، فَإِنَّ مَوْلَى الْبَادِئِ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْعَفْوِ وَبَيْنَ دَفْعِ الْأَرْشِ وَالْمُطَالَبَةِ شَجَّةً لِعَبْدِهِ، فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْ دَفْعِ الْأَرْشِ صَارَ مُخْتَارًا لِلْعَفْوِ وَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ عَفَوْتُك عَنْ حَقِّي فَيَبْطُلُ حَقُّهُ وَلَوْ مَاتَ اللَّاحِقُ وَبَقِيَ الْبَادِئُ خُيِّرَ مَوْلَاهُ، فَإِنْ دَفَعَهُ بَطَلَ حَقُّهُ، وَإِنْ فَدَاهُ بِأَرْشِ عَبْدِهِ وَفِي الْفِدَاءِ؛ لِأَنَّ الْبَادِئَ طَاهِرٌ عَنْ الْجِنَايَةِ لِعَفْوِ أَحَدِهِمَا عَنْ جِنَايَتِهِ نِصْفَ الْعَبْدِ وَلَا يَزْدَادُ حَقُّهُ فَكَذَا هَذَا.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلَوْ سَاقَ دَابَّةً فَوَقَعَ السَّرْجُ عَلَى رَجُلٍ فَقَتَلَهُ ضَمِنَ) يَعْنِي إذَا سَاقَ دَابَّةً وَلَهَا سَرْجٌ فَوَقَعَ السَّرْجُ عَلَى رَجُلٍ فَقَتَلَهُ ضَمِنَ عَاقِلَتُهُ الدِّيَةَ وَقَدْ قَدَّمْنَاهَا بِفُرُوعِهَا.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَإِنْ قَادَ قِطَارًا فَوَطِئَ بَعِيرٌ إنْسَانًا ضَمِنَ عَاقِلَةُ الْقَائِدِ الدِّيَةَ) ؛ لِأَنَّ الْقَائِدَ عَلَيْهِ حِفْظُ الْقِطَارِ كَالسَّائِقِ وَقَدْ أَمْكَنَهُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فَصَارَ مُتَعَدِّيًا بِالتَّقْصِيرِ فِيهِ وَالتَّسَبُّبُ بِلَفْظِ التَّعَدِّي سَبَبٌ لِلضَّمَانِ غَيْرَ أَنَّ ضَمَانَ النَّفْسِ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَضَمَانَ الْمَالِ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ رَجُلٌ لَهُ مَزْرَعَةٌ فَأَكَلَهَا جَمَلُ غَيْرِهِ فَأَخَذَهُ وَحَبَسَهُ فِي الْإِصْطَبْلِ ثُمَّ وُجِدَ الْجَمَلُ مَكْسُورَ الرِّجْلِ كَيْفَ الْحُكْمُ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ فَقَالَ إنْ لَمْ يُكْسَرْ رِجْلُهُ فِي حَبْسِهِ قَالُوا لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ.
وَقَدْ قَالُوا الضَّمَانُ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُسَلِّمْهُ إلَى صَاحِبِهِ وَالرَّأْيُ فِيهِ إلَى الْقَاضِي قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَإِنْ كَانَ مَعَهُ سَائِقٌ فَعَلَيْهِمَا) أَيْ إذَا كَانَ مَعَ الْقَائِدِ سَائِقٌ تَجِبُ عَلَى عَاقِلَتِهِمَا الضَّمَانُ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي التَّسَبُّبِ؛ لِأَنَّ قَائِدَ الْوَاحِدِ قَائِدُ الْكُلِّ وَكَذَا

(8/411)


سَائِقُهُ لِاتِّصَالِ اللَّازِمَةِ أَمَّا الْبَعِيرُ الَّذِي هُوَ رَاكِبُهُ فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا أَصَابَهُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ وَعَلَى الْقَائِدِ غَيْرُ مَا أَصَابَهُ بِالْإِيطَاءِ، فَإِنَّ ذَلِكَ ضَمَانُهُ عَلَى الرَّاكِبِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ جُعِلَ فِيهِ مُبَاشِرًا حَتَّى جَرَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُبَاشَرَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَإِنْ رَبَطَ بَعِيرًا عَلَى قِطَارٍ رَجَعَ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَائِدِ بِدِيَةِ مَا تَلِفَ بِهِ عَلَى عَاقِلَةِ الرَّابِطِ) أَيْ إذَا رَبَطَ رَجُلٌ بَعِيرًا عَلَى قِطَارٍ وَالْقَائِدُ لِذَلِكَ الْقِطَارِ لَا يَعْلَمُ فَوَطِئَ الْبَعِيرُ الْمَرْبُوطُ إنْسَانًا فَقَتَلَهُ فَعَلَى عَاقِلَةِ الْقَائِدِ دِيَتُهُ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَصُونَ قِطَارَهُ عَنْ رَبْطِ غَيْرِهِ بِهِ، فَإِذَا تَرَكَ صِيَانَتَهُ صَارَ مُتَعَدِّيًا بِالتَّقْصِيرِ وَهُوَ مُتَسَبِّبٌ وَفِيهِ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ كَمَا فِي قَتْلِ الْخَطَأِ ثُمَّ يَرْجِعُونَ بِهَا عَلَى عَاقِلَةِ الرَّابِطِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَوْقَعَهُمْ فِيهِ، وَإِنَّمَا لَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْقَائِدِ وَالرَّابِطِ ابْتِدَاءً مَعَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَسَبِّبٌ؛ لِأَنَّ الْقَوَدَ بِمَنْزِلَةِ الْمُبَاشَرَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الرَّبْطِ لِاتِّصَالِ التَّلَفِ بِهِ دُونَ الرَّبْطِ فَيَجِبُ فِيهِ الضَّمَانُ وَحْدَهُ ثُمَّ يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ قَالُوا هَذَا إذَا رَبَطَ وَالْقِطَارُ يَسِيرُ؛ لِأَنَّ الرَّبْطَ أَمْرٌ بِالْقَوَدِ دَلَالَةً، وَإِذَا لَمْ يُعْلَمْ لَا يُمْكِنُهُ التَّحَفُّظُ عَنْهُ وَلَكِنَّ جَهْلَهُ لَا يَنْفِي وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ لِتَحَقُّقِ الْإِتْلَافِ مِنْهُ، وَإِنَّمَا يَنْفِي الْإِثْمَ فَيَكُونُ قَرَارُ الضَّمَانِ عَلَى الرَّابِطِ.
وَأَمَّا إذَا رَبَطَ وَالْإِبِلُ وَاقِفَةٌ ضَمِنَهَا عَاقِلَةُ الْقَائِدِ وَلَا يَرْجِعُونَ عَلَى عَاقِلَةِ الرَّابِطِ بِمَا لَحِقَهُمْ مِنْ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ الْقَائِدَ رَضِيَ بِذَلِكَ وَالتَّلَفُ قَدْ اتَّصَلَ بِفِعْلِهِ فَلَا يَرْجِعُ بِهِ وَهُوَ الْقِيَاسُ فِيمَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ؛ لِأَنَّ الْجَهْلَ لَا يُنَافِي التَّسَبُّبَ وَلَا الضَّمَانَ إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا الرُّجُوعَ لِمَا ذَكَرْنَا.

وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ رَجُلٌ قَادَ قِطَارًا فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ فَجَاءَ بَعِيرٌ آخَرُ وَرَبَطَهُ وَالْقَائِدُ لَا يَعْلَمُ بِهِ أَوْ عَلِمَ فَأَصَابَ ذَلِكَ الْبَعِيرُ إنْسَانًا فَضَمَانُهُ عَلَى الْقَائِدِ دُونَ الرَّابِطِ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَسَبِّبًا لِلْإِتْلَافِ وَهَلْ يَرْجِعُ عَلَى عَاقِلَةِ الرَّابِطِ إنْ عَلِمَ لَا يَرْجِعُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ يَرْجِعُ وَلَمْ يُفَصِّلْ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بَيْنَ مَا إذَا رَبَطَ الْبَعِيرَ بِالْقِطَارِ وَالْقِطَارُ يَسِيرُ وَفِي بَعْضِ كُتُبِ النَّوَادِرِ، وَإِنْ كَانَ الْقِطَارُ لَا يَسِيرُ حَالَةَ الرَّبْطِ فَقَادَهَا الْقَائِدُ بَعْدَ الرَّبْطِ لَا يَرْجِعُ الْقَائِدُ عَلَى عَاقِلَةِ الرَّابِطِ عَلِمَ الْقَائِدُ بِرَبْطِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، وَإِنْ كَانَ الْقِطَارُ يَسِيرُ حَالَةَ الرَّبْطِ فَالْقَائِدُ يَرْجِعُ عَلَى عَاقِلَةِ الرَّابِطِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِرَبْطِهِ.

وَفِي الْمُنْتَقَى: وَإِذَا سَارَ الرَّجُلُ عَلَى دَابَّتِهِ وَخَلْفَهُ رَدِيفٌ وَخَلْفَ الدَّابَّةِ سَائِقٌ وَأَمَامَهَا قَائِدٌ فَوَطِئَتْ إنْسَانًا فَالدِّيَةُ عَلَيْهِمْ أَرْبَاعًا وَعَلَى الرَّاكِبِ وَالرَّدِيفِ الْكَفَّارَةُ، وَإِذَا سَارَ الرَّجُلُ عَلَى دَابَّتِهِ فِي الطَّرِيقِ فَعَثَرَتْ بِحَجَرٍ وَضَعَهُ رَجُلٌ أَوْ قَدْ كَانَ بَنَاهُ رَجُلٌ أَوْ بِمَاءٍ قَدْ صَبَّهُ رَجُلٌ فَوَقَعَتْ عَلَى إنْسَانٍ وَأَتْلَفَتْهُ فَالضَّمَانُ عَلَى الَّذِي وَضَعَ الْحَجَرَ فِي الْمَكَانِ أَوْ صَبَّ الْمَاءَ؛ لِأَنَّهُ مُسَبِّبٌ فِي هَذَا الْإِتْلَافِ وَهُوَ مُتَعَدٍّ فِي هَذَا السَّبَبِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الرَّاكِبِ قَالُوا وَلَوْ نَخَسَ الدَّابَّةَ رَجُلٌ فَوَطِئَتْ إنْسَانًا فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا إنْ وَطِئَتْ فِي فَوْرِ النَّخْسِ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ حَصَلَ بِثِقَلِ الرَّاكِبِ وَفِعْلِ النَّاخِسِ فَيَكُونُ مُضَافًا إلَيْهِمَا أَقُولُ: وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ الرَّاكِبُ مُبَاشِرٌ فِيمَا أَتْلَفَتْ بِالْوَطْءِ لِحُصُولِ التَّلَفِ بِثِقَلِهِ وَثِقَلِ الدَّابَّةِ جَمِيعًا كَمَا صَرَّحُوا بِهِ وَالنَّاخِسُ مُسَبِّبٌ كَمَا مَرَّ فِي الْكِتَابِ.
وَإِذَا اجْتَمَعَ الْمُبَاشِرُ وَالْمُسَبِّبُ فَالْإِضَافَةُ إلَى الْمُبَاشِرِ أَوْلَى كَمَا صَرَّحُوا بِهِ لَا سِيَّمَا فِي مَسْأَلَةِ الرَّاكِبِ وَالسَّائِقِ فَمَا بَالُهُمْ صَرَّحُوا هُنَا بِإِضَافَةِ الْفِعْلِ إلَى الرَّاكِبِ وَالنَّاخِسِ مَعًا وَحَكَمُوا بِوُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا فَتَدَبَّرْهُ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَمَنْ أَرْسَلَ بَهِيمَةً وَكَانَ سَائِقَهَا فَمَا أَصَابَتْ فِي فَوْرِهَا ضَمِنَ) يَعْنِي إذَا أَرْسَلَ إنْسَانٌ بَهِيمَةً وَسَاقَهَا فَكُلُّ شَيْءٍ أَصَابَتْهُ فِي فَوْرِهَا، فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَإِنْ أَرْسَلَ طَيْرًا أَوْ كَلْبًا وَلَمْ يَكُنْ سَائِقًا أَوْ انْفَلَتَتْ دَابَّتُهُ فَأَصَابَتْ مَالًا أَوْ آدَمِيًّا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا لَا يَضْمَنُ) أَيْ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ كُلِّهَا أَمَّا الطَّيْرُ فَلِأَنَّ بَدَنَهُ لَا يَحْتَمِلُ السَّوْقَ فَصَارَ وُجُودُ السَّوْقِ وَعَدَمِهِ سَوَاءً فَلَا يَضْمَنُ مُطْلَقًا بِخِلَافِ الدَّابَّةِ، فَإِنَّ بَدَنَهَا يَحْمِلُ السَّوْقَ فَيُعْتَبَرُ فِيهَا السَّوْقُ وَمِنْ ثَمَّ قَالُوا وَلَوْ أَرْسَلَ بَازِيًا فِي الْحَرَمِ فَقَتَلَ لَا يَضْمَنُ الْمُرْسِلُ، وَأَمَّا الْكَلْبُ فَلِأَنَّهُ، وَإِنْ كَانَ يَحْتَمِلُ السَّوْقَ لَكِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ السَّوْقُ حَقِيقَةً بِأَنْ يَمْشِيَ خَلْفَهُ وَلَا حُكْمًا بِأَنْ يُصِيبَ عَلَى فَوْرِ الْإِرْسَالِ وَالتَّعَدِّي يَكُونُ بِالسَّوْقِ فَلَا يَضْمَنُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْفِعْلَ الِاخْتِيَارِيَّ يُضَافُ إلَى فِعْلِ صَاحِبِهِ وَلَا يَجُوزُ إضَافَتُهُ إلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّا تَرَكْنَا ذَلِكَ فِي فِعْلِ الْبَهِيمَةِ إذَا وُجِدَ مِنْهُ السَّوْقُ فَأَضَفْنَاهُ إلَيْهِ اسْتِحْسَانًا صِيَانَةً لِلْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ السَّوْقُ بَقِيَ عَلَى الْأَصْلِ وَلَا يَجُوزُ إضَافَتُهُ إلَيْهِ لِعَدَمِ الْفِعْلِ مِنْهُ مُبَاشَرَةً وَتَسَبُّبًا بِخِلَافِ مَا إذَا أَرْسَلَ الْكَلْبَ عَلَى صَيْدٍ حَيْثُ يُؤْكَلُ مَا أَصَابَهُ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَائِقًا لَهُ حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ مَسَّتْ إلَى الِاصْطِيَادِ بِهِ فَأُضِيفَ إلَى الْمُرْسَلِ مَا دَامَ الْكَلْبُ فِي تِلْكَ الْجِهَةِ وَلَمْ يَفْتَرِ عَنْهَا إذْ لَا طَرِيقَ لِلِاصْطِيَادِ سِوَاهُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ

(8/412)


الِاصْطِيَادَ بِهِ مَشْرُوعٌ وَلَوْ شَرَطَ السَّوْقَ لَاسْتَدَّ بَابُهُ وَهُوَ مَفْتُوحٌ فَأُضِيفَ إلَيْهِ وَلَوْ غَابَ عَنْ بَصَرِهِ مَعَ الصَّيْدِ وَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ فِي حَقِّ ضَمَانِ الْعُدْوَانِ فَبَقِيَ عَلَى الْأَصْلِ فَكَانَ مُضَافًا إلَى الْكَلْبِ؛ لِأَنَّهُ مُخْتَارٌ فِي فِعْلِهِ وَلَا يَصْلُحُ نَائِبًا عَنْ الْمُرْسَلِ فَلَا يُضَافُ فِعْلُهُ إلَى غَيْرِهِ وَقَوْلُهُ سَائِقًا قَيْدٌ فِي الْكَلْبِ دُونَ الطَّيْرِ وَقَيْدٌ فِي الدَّابَّةِ بِالِانْفِلَاتِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَرْسَلَهَا يَضْمَنُ.

وَفِي الْمَبْسُوطِ إذَا أَرْسَلَ دَابَّةً فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ فَمَا أَصَابَتْ فِي فَوْرِهَا فَالْمُرْسِلُ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّ سَيْرَهَا مُضَافٌ إلَيْهِ مَا دَامَتْ تَسِيرُ عَلَى سُنَّتِهَا وَلَوْ انْعَطَفَتْ عَنْهُ يَمْنَةً أَوْ يَسْرَةً انْقَطَعَ حُكْمُ الْإِرْسَالِ إلَّا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ طَرِيقٌ آخَرُ سِوَاهُ وَكَذَا إذَا وَقَفَتْ ثُمَّ سَارَتْ أَيْ يَنْقَطِعُ حُكْمُ الْإِرْسَالِ بِالْوَقْفَةِ أَيْضًا كَمَا يَنْقَطِعُ بِالْعَطْفَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا وَقَفَ الْكَلْبُ بَعْدَ الْإِرْسَالِ فِي الِاصْطِيَادِ ثُمَّ سَارَ فَأَخَذَ الصَّيْدَ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْوَقْفَةَ تُحَقِّقُ مَقْصُودَ الْمُرْسِلِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الصَّيْدِ وَهَذِهِ تُنَافِي مَقْصُودَ الْمُرْسِلِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ السَّيْرُ فَيَنْقَطِعُ بِهِ حُكْمُ الْإِرْسَالِ وَبِخِلَافِ مَا إذَا أَرْسَلَهُ إلَى صَيْدٍ فَأَصَابَ نَفْسًا أَوْ مَالًا فِي فَوْرِهِ حَيْثُ لَا يَضْمَنُ مَنْ أَرْسَلَهُ وَفِي إرْسَالِ الْبَهِيمَةِ فِي الطَّرِيقِ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ شَغَلَ الطَّرِيقَ تَعَدِّيًا فَيَضْمَنُ مَا تَوَلَّدَ مِنْهُ.
وَأَمَّا الْإِرْسَالُ لِلِاصْطِيَادِ فَمُبَاحٌ وَلَا يُنْسَبُ بِوَصْفِ التَّعَدِّي كَذَا ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ وَظَاهِرُهُ سَوَاءٌ كَانَ سَائِقًا لَهَا أَوْ لَا وَذَكَرَ قَاضِي خَانْ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَرْسَلَ بَهِيمَةً وَكَانَ سَائِقًا لَهَا ضَمِنَ مَا أَصَابَتْ فِي فَوْرِهَا وَكَذَا لَوْ أَرْسَلَ كَلْبَهُ وَكَانَ سَائِقًا لَهُ يَضْمَنُ مَا أَتْلَفَ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ سَائِقًا لَا يَضْمَنُ وَكَذَا لَوْ أَشْلَى كَلْبَهُ عَلَى رَجُلٍ فَعَقَرَهُ أَوْ مَزَّقَ ثِيَابَهُ لَا يَضْمَنُ إلَّا أَنْ يَسُوقَهُ وَقِيلَ إذَا أَرْسَلَ كَلْبَهُ وَهُوَ لَا يَمْشِي خَلْفَهُ فَعَقَرَ إنْسَانًا أَوْ أَتْلَفَ غَيْرَهُ إنْ لَمْ يَكُنْ مُعَلَّمًا لَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْمُعَلَّمِ يَذْهَبُ بِطَبْعِ نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ مُعَلَّمًا ضَمِنَ إنْ مَرَّ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَرْسَلَهُ؛ لِأَنَّهُ ذَهَبَ بِإِرْسَالِ صَاحِبِهِ أَمَّا إذَا أَخَذَ يَمْنَةً أَوْ يَسْرَةً فَلَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ مَالَ عَنْ سُنَنِ الْإِرْسَالِ إلَّا إذَا كَانَ خَلْفَهُ وَلَوْ أَشْلَى كَلْبَهُ حَتَّى عَضَّ رَجُلًا لَا يَضْمَنُ كَمَا لَوْ أَرْسَلَ بَازِيًا وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ يَضْمَنُ سَوَاءٌ كَانَ يَسُوقُهُ أَوْ يَقُودُهُ أَوْ لَا يَقُودُهُ وَلَا يَسُوقُهُ كَمَا لَوْ أَرْسَلَ الْبَهِيمَةَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إنْ كَانَ سَائِقًا أَوْ قَائِدًا يَضْمَنُ وَإِلَّا فَلَا وَبِهِ أَخَذَ الطَّحَاوِيُّ وَالْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ كَانَ يُفْتِي بِقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَفِي الزِّيَادَاتِ أَشَارَ إلَى ذَلِكَ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى.

وَفِي الْخُلَاصَةِ وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ كَلْبٌ عَقُورٌ يُؤْذِي مَنْ مَرَّ بِهِ فَلِأَهْلِ الْبَلَدِ أَنْ يَقْتُلُوهُ، وَإِنْ أَتْلَفَ شَيْئًا عَلَى صَاحِبِهِ الضَّمَانُ إنْ كَانَ تَقَدَّمَ إلَيْهِ قَبْلَ الْإِتْلَافِ وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ كَالْحَائِطِ الْمَائِلِ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا طَرَحَ رَجُلًا قُدَّامَ سَبُعٍ فَقَتَلَهُ السَّبُعُ فَلَيْسَ عَلَى الطَّارِحِ شَيْءٌ إلَّا التَّعْزِيرَ وَالْحَبْسَ حَتَّى يَتُوبَ.
وَإِنَّمَا قُلْنَا بِعَدَمِ الضَّمَانِ فِي انْفِلَاتِ الْبَهِيمَةِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ» أَيْ فِعْلُهَا هَدَرٌ وَقَالَ مُحَمَّدٌ الْمُنْفَلِتَةُ وَهَذَا صَحِيحٌ ظَاهِرٌ وَلِأَنَّ الْفِعْلَ مُقْتَصِرٌ عَلَيْهَا وَغَيْرُ مُضَافٍ إلَى صَاحِبِهَا لِعَدَمِ مَا يُوجِبُ النِّسْبَةَ إلَيْهِ مِنْ الرُّكُوبِ وَأَخَوَاتِهِ.

وَفِي الْخَانِيَّةِ رَجُلٌ بَعَثَ غُلَامًا صَغِيرًا فِي حَاجَةِ نَفْسِهِ بِغَيْرِ إذْنِ أَهْلِ الصَّغِيرِ فَرَأَى الْغُلَامُ غِلْمَانًا صِغَارًا يَلْعَبُونَ فَانْتَهَى إلَيْهِمْ وَارْتَقَى وَمَاتَ ضَمِنَ الَّذِي أَرْسَلَهُ فِي حَاجَتِهِ وَلَوْ أَنَّ عَبْدًا حَمَلَ صَبِيًّا عَلَى دَابَّةٍ فَوَقَعَ الصَّبِيُّ مِنْهَا وَمَاتَ فَدِيَةُ الصَّبِيِّ تَكُونُ فِي عِتْقِ الْعَبْدِ يَدْفَعُهُ الْمَوْلَى أَوْ يَفْدِيهِ، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ مَعَ الصَّبِيِّ عَلَى الدَّابَّةِ فَسَارَا عَلَيْهَا وَوَطِئَتْ الدَّابَّةُ إنْسَانًا وَمَاتَ فَعَلَى عَاقِلَةِ الصَّبِيِّ نِصْفُ الدِّيَةِ وَفِي عِتْقِ الْعَبْدِ نِصْفُهَا وَلَوْ أَنَّ حُرًّا كَبِيرًا حَمَلَ عَبْدًا صَغِيرًا عَلَى دَابَّةٍ وَمِثْلُهُ يَضْرِبُ الدَّابَّةَ وَيَسْتَمْسِكُ عَلَيْهَا ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَسِيرَ عَلَيْهَا فَوَطِئَ إنْسَانًا فَكَذَلِكَ تَكُونُ فِي عُنُقِ الْعَبْدِ فَيُؤْمَرُ مَوْلَى الْعَبْدِ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ ثُمَّ يَرْجِعُ مَوْلَى الْعَبْدِ عَلَى الْآمِرِ؛ لِأَنَّهُ بِاسْتِعْمَالِ عَبْدِ الْغَيْرِ يَصِيرُ غَاصِبًا، فَإِذَا لَحِقَهُ غُرْمٌ يَرْجِعُ بِذَلِكَ عَلَى الْغَاصِبِ.

وَفِي الْفَتَاوَى أَمَرَ رَجُلًا بِكَسْرِ الْحَطَبِ فَأَعْطَى غُلَامًا الْفَأْسَ فَقَالَ اعْطِنِي الْأُجْرَةَ لِأَكْسِرَ فَأَبَى فَكَسَرَ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَوَقَعَ الْحَطَبُ عَلَى عَيْنِ الْغُلَامِ وَذَهَبَ عَيْنُهُ اتَّفَقَ مَشَايِخُنَا أَنَّهُ لَا يَكُونُ عَلَى صَاحِبِ الْحَطَبِ شَيْءٌ وَفِي التَّتِمَّةِ سُئِلَ أَبُو الْفَضْلِ عَنْ صَغِيرَيْنِ كَانَا يَلْعَبَانِ فَأَوْقَع أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ إلَى الْأَرْضِ فَانْكَسَرَ عَظْمُ فَخِذِهِ هَلْ يَجِبُ عَلَى أَقَارِبِهِ شَيْءٌ فَقَالَ إذَا كَانَ بِحَالٍ لَا يُمْكِنُهُ الْمَشْيُ بِهَا فَنِصْفُ الدِّيَةِ خَمْسُمِائَةِ دِينَارٍ عَلَى أَقَارِبِ الصَّبِيِّ مِنْ جِهَةِ الْأَب.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَفِي فَقْءِ عَيْنِ شَاةٍ لِقَصَّابِ ضَمِنَ النُّقْصَانَ) ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الشَّاةِ اللَّحْمُ فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهَا إلَّا النُّقْصَانُ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَفِي عَيْنِ بَدَنَةِ الْجَزَّارِ وَالْحِمَارِ وَالْفَرَسِ رُبْعُ الْقِيمَةِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ فِيهِ إلَّا النُّقْصَانُ أَيْضًا اعْتِبَارًا بِالشَّاةِ وَلَنَا مَا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «قَضَى فِي عَيْنِ الدَّابَّةِ بِرُبْعِ الْقِيمَةِ» قَالَ فِي الْعِنَايَةِ

(8/413)


فَإِنْ قِيلَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَضَاءُ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِيمَا يُؤْكَلُ فَالْجَوَابُ أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي أَوْجَبَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْمَأْكُولِ مِنْ اللَّحْمِ وَالرُّكُوبِ وَالزِّينَةِ وَالْجَمَالِ وَالْعَمَلُ مَوْجُودٌ فِي مَأْكُولِ اللَّحْمِ فَيُلْحَقُ بِهِ. اهـ.
وَلِأَنَّ فِيهَا مَقَاصِدَ سِوَى اللَّحْمِ كَالرُّكُوبِ وَالزِّينَةِ وَاللَّحْمِ وَالْعَمَلِ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يُشْبِهُ الْآدَمِيَّ وَقَدْ تَمَسَّكَ بِغَيْرِهِ كَالْأَكْلِ وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يُشْبِهُ الْمَأْكُولَاتِ فَعَلِمْنَا بِالشَّبَهَيْنِ بِشَبَهِ الْآدَمِيِّ فِي إيجَابِ الرُّبْعِ وَبِالشَّبَهِ الْآخَرِ فِي نَفْيِ النِّصْفِ وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يُمْكِنُ إقَامَةُ الْعَمَلِ فِيهَا بِأَرْبَعَةِ أَعْيُنٍ عَيْنَاهَا وَعَيْنَا الْفَاعِلِ لَهَا فَصَارَتْ كَأَنَّهَا ذَاتُ أَعْيُنٍ أَرْبَعٍ فَيَجِبُ الرُّبْعُ بِفَوَاتِ أَحَدِهَا، وَإِنْ فَقَأَ عَيْنَهَا فَصَاحِبُهَا بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ تَرَكَهَا عَلَى الْفَاقِئِ وَضَمَّنَهُ الْقِيمَةَ، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا وَضَمَّنَهُ النُّقْصَانَ؛ لِأَنَّ الْمَعْمُولَ بِهِ النَّصُّ وَهُوَ وَرَدَ فِي عَيْنٍ وَاحِدَةٍ فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهِ وَفِي الْعِنَايَةِ، وَإِنَّمَا قَالَ بَدَنَةً لِيَشْمَلَ الْبَقَرَ وَالْإِبِلَ، فَإِنَّ الْحُكْمَ فِيهَا وَاحِدٌ وَهُوَ رُبْعُ الْقِيمَةِ وَفِي الْعَيْنِيِّ عَلَى الْهِدَايَةِ وَفِي فَقْءِ عَيْنِ بَدَنَةِ الْجَزَّارِ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَهُوَ مَا اُتُّخِذَ لِلنَّحْرِ يَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى كَذَا فِي الطَّحَاوِيِّ وَالْجَزْرُ الْقَطْعُ وَجَزْرُ الْجَزُورِ نَحْرُهَا وَالْجَزَّارُ هُوَ الَّذِي يَنْحَرُ الْبَقَرَةَ. اهـ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

[بَابُ جِنَايَةِ الْمَمْلُوكِ وَالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ]
لَمَّا فَرَغَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ بَيَانِ حُكْمِ جِنَايَةِ الْمَالِكِ وَهُوَ الْحُرُّ وَالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ جِنَايَةِ الْمَمْلُوكِ وَهُوَ الْعَبْدُ وَأَخَّرَهُ لِانْحِطَاطِ رُتْبَةِ الْعَبْدِ عَنْ رُتْبَةِ الْحُرِّ كَذَا فِي الشُّرُوحِ أَقُولُ: فِيهِ شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَمَّا وَقَعَ الْفَرَاغُ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ جِنَايَةِ الْحُرِّ عَلَى الْحُرِّ مُطْلَقًا بَقِيَ مِنْهُ بَيَانُ حُكْمِ جِنَايَةِ الْحُرِّ عَلَى الْعَبْدِ فَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ جِنَايَةِ الْحُرِّ عَلَى الْحُرِّ شَرَعَ فِي بَيَانِ جِنَايَةِ الْمَمْلُوكِ وَالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ وَلَمَّا كَانَ فِيهِ تَعَلُّقُ الْمِلْكِ بِالْمَمْلُوكِ أَلْبَتَّةَ مِنْ جَانِبٍ أَخَّرَهُ لِانْحِطَاطِ رُتْبَةِ الْمَمْلُوكِ عَنْ الْمَالِكِ ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ لَا يُقَالُ الْعَبْدُ لَا يَكُونُ أَدْنَى مَنْزِلَةً مِنْ الْبَهِيمَةِ فَكَيْفَ أَخَّرَ بَابَ جِنَايَتِهِ عَنْ بَابِ جِنَايَةِ الْبَهِيمَةِ لِأَنَّ جِنَايَةَ الْبَهِيمَةِ كَانَتْ بِاعْتِبَارِ الرَّاكِبِ أَوْ السَّائِقِ أَوْ الْقَائِدِ وَهُمْ مُلَّاكٌ. اهـ.
أَقُولُ: فِيهِ أَيْضًا شَيْءٌ إذْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إنْ أَرَادَ جِنَايَةَ الْبَهِيمَةِ كَانَتْ بِاعْتِبَارِ الرَّاكِبِ أَوْ السَّائِقِ أَوْ الْقَائِدِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ فَإِنَّ جِنَايَتَهَا بِطَرِيقِ النَّفْحَةِ بِرِجْلِهَا أَوْ ذَنَبِهَا وَهِيَ تَسِيرُ لَا يَكُونُ بِاعْتِبَارِ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَإِلَّا لَوَجَبَ عَلَيْهِمْ الضَّمَانُ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ كَمَا عُرِفَ فِي بَابِهَا وَكَذَا الْحَالُ فِيمَا إذَا أَصَابَتْ بِيَدِهَا أَوْ رِجْلِهَا حَصَاةً أَوْ نَوَاةً أَوْ أَثَارَتْ غُبَارًا أَوْ حَجَرًا صَغِيرًا فَقَأَ عَيْنَ إنْسَانٍ أَوْ أَفْسَدَ ثَوْبَهُ وَكَذَا إذَا انْفَلَتَتْ فَأَصَابَتْ مَالًا أَوْ آدَمِيًّا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا كَمَا عُرِفَ كُلُّ ذَلِكَ أَيْضًا فِي بَابِهَا وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ جِنَايَتَهَا قَدْ تَكُونُ بِاعْتِبَارِ أَحَدٍ مِنْهُمْ فَهُوَ مُسْلِمٌ وَلَكِنْ لَا يَتِمُّ بِهِ تَمَامُ التَّعَرُّفِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ الصُّوَرُ الَّتِي لَا يَجِبُ فِيهَا مِنْ فِعْلِ الْبَهِيمَةِ ضَمَانٌ عَلَى أَحَدٍ بَلْ يَكُونُ فِعْلُهَا هَدَرًا مِمَّا لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الْجِنَايَةِ فِي الشَّرْعِ وَإِنَّمَا ذُكِرَتْ فِي بَابِهَا اسْتِطْرَادًا وَبِنَاءُ الْكَلَامِ هُنَا عَلَى مَا لَهُ حُكْمٌ مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فَيَتِمُّ التَّعْرِيفُ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (جِنَايَةُ الْمَمْلُوكِ لَا تُوجِبُ إلَّا دَفْعًا وَاحِدًا أَوْ مَحَلًّا لَهَا وَإِلَّا قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ) أَيْ جِنَايَةُ الْعَبْدِ لَا تُوجِبُ إلَّا دَفْعَ رَقَبَتِهِ إذَا كَانَ مَحَلًّا لِلدَّفْعِ إذَا كَانَ قِنًّا وَهُوَ الَّذِي لَمْ يَنْعَقِدْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ أَسْبَابِ الْحُرِّيَّةِ كَالتَّدْبِيرِ وَأُمُومِيَّةِ الْوَلَدِ وَالْكِتَابَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ الْجِنَايَةُ وَاحِدَةً أَوْ أَكْثَرَ لَا تُوجِبُ إلَّا دَفْعَ رَقَبَتِهِ إذَا كَانَتْ الْجِنَايَةُ فِي النَّفْسِ مُوجِبَةً لِلْمَالِ وَإِلَّا فَقِيمَةٌ وَاحِدَةٌ إنْ لَمْ يَكُنْ مَحَلًّا لِلدَّفْعِ بِأَنْ انْعَقَدَ لَهُ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا يُوجِبُ جِنَايَتَهُ قِيمَةً وَاحِدَةً وَلَا يَزِيدُ عَلَيْهَا.
وَإِنْ تَكَرَّرَتْ الْجِنَايَةُ وَفِي الْقِنِّ إذَا جَنَى بَعْدَ الْفِدَاءِ تُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ وَأُخْتَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يُوجِبُ إلَّا قِيمَةً وَاحِدَةً عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي أَثْنَاءِ الْمَسَائِلِ وَالْكَلَامُ فِي جِنَايَةِ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ فِي جِنَايَتِهِ عَلَى مَوْلَاهُ وَالثَّانِي فِي سِعَايَتِهِ وَالثَّالِثُ فِي جِنَايَةِ الْمُدَبَّرِ وَالرَّابِعُ فِي جِنَايَةِ الْمُدَبَّرِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ وَدِيَةِ جِنَايَةِ الْمُدَبَّرِ نَفْسًا وَمَا دُونَهَا عَلَى مَوْلَاهُ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ فَإِنْ كَانَتْ الْقِيمَةُ مِثْلَ الدِّيَةِ أَوْ أَكْثَرَ غَرِمَ مِثْلَ الدِّيَةِ إلَّا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ يَوْمَ جَنَى وَقِيمَةُ الْمُدَبَّرِ ثُلُثَا قِيمَتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَهُوَ إذَا جَنَى جِنَايَاتٍ أَوْ جِنَايَةً وَاحِدَةً لَا تُوجِبُ إلَّا قِيمَةً وَاحِدَةً وَلَوْ مَاتَ الْمُدَبَّرُ بَعْدَ الْجِنَايَةِ بِلَا فَصْلٍ وَلَمْ تَنْقُصْ قِيمَتُهُ لَمْ يَسْقُطْ عَنْ الْمَوْلَى شَيْءٌ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَلَوْ قَتَلَ مُدَبَّرٌ رَجُلًا خَطَأً وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ ثُمَّ صَارَتْ قِيمَتُهُ أَلْفَيْنِ فَقَتَلَ آخَرَ خَطَأً فَالْأَلْفُ دِرْهَمٍ لِلثَّانِي وَتَحَاصَّا فِي الْقِيمَةِ الْأُولَى وَهِيَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَلَوْ دَفَعَ الْمَوْلَى الْقِيمَةَ لِلْأَوَّلِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ غَرِمَ لِلثَّانِي أَلْفَ دِرْهَمٍ وَاتَّبَعَ الْأَوَّلَ

(8/414)


فِي نِصْفِ الْقِيمَةِ وَإِنْ دَفَعَ بِقَضَاءٍ لَا يَغْرَمُ شَيْئًا اتِّفَاقًا وَلَوْ قَتَلَ الْمُدَبَّرُ مَوْلَاهُ خَطَأً سَعَى فِي قِيمَتِهِ وَلَوْ جَنَى مُدَبَّرٌ بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ الثُّلُثِ سَعَى فِي قِيمَتِهِ كَالْمُكَاتَبِ إذَا قَتَلَ مَوْلَاهُ خَطَأً سَعَى فِي قِيمَتِهِ.
وَإِنْ خَرَجَ مِنْ الثُّلُثِ كَانَتْ عَلَى الْعَاقِلَةِ اتِّفَاقًا وَمُدَبَّرُ ذِمِّيٍّ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ كَمُدَبَّرِ مُسْلِمٍ وَكَذَا مُدَبَّرُ حَرْبِيٍّ مُسْتَأْمَنٍ مَا دَامَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مَعَهُ فَلَوْ دَبَّرَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ رَجَعَ بِهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَسُبِيَ عَتَقَ الْمُدَبَّرُ وَلَا يَغْرَمُ مَا جَنَى بَعْدَ مَا سَبَى وَيُعْتَقُ الْمُدَبَّرُ بِمَوْتِ الْمَوْلَى حُكْمًا كَمَا يُعْتَقُ بِمَوْتِهِ حَقِيقَةً وَلَوْ جَنَى الْحُرُّ عَلَى الْمُدَبَّرِ فَهُوَ كَمَا لَوْ جَنَى الْحُرُّ عَلَى الْقِنِّ فَلَوْ قَتَلَهُ فَعَلَى عَاقِلَتِهِ الدِّيَةُ وَلَوْ قَطَعَ يَدَهُ فَعَلَيْهِ نِصْفُ قِيمَتِهِ مُدَبَّرٌ قَتَلَ رَجُلًا خَطَأً فَدَفَعَ الْمَوْلَى الْقِيمَةَ ثُمَّ قَتَلَ آخَرَ خَطَأً فَإِنْ شَاءَ الثَّانِي تَبِعَ الْأَوَّلَ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ مِنْ الْمَوْلَى نِصْفَ الْقِيمَةِ وَيَرْجِعُ بِهِ الْمَوْلَى عَلَى الْأَوَّلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَهُمَا لَا يَغْرَمُ الْمَوْلَى شَيْئًا مُدَبَّرٌ حَفَرَ بِئْرًا فَمَاتَ فِيهَا رَجُلٌ فَدَفَعَ الْمَوْلَى قِيمَتَهُ وَهِيَ أَلْفٌ بِقَضَاءٍ ثُمَّ مَاتَ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ وَتَرَكَ أَلْفًا وَعَلَيْهِ أَلْفَانِ دَيْنًا لِرَجُلَيْنِ لِكُلٍّ أَلْفٌ وَوَقَعَ فِي الْبِئْرِ آخَرُ فَمَاتَ فَالْأَلْفُ الَّذِي تَرَكَهُ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى يُقْسَمُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ وَبَيْنَ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ لِلْغُرَمَاءِ أَرْبَعَةٌ وَلَهُ سَهْمٌ لِأَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ فِي الْبِئْرِ ظَهَرَ أَنَّ نِصْفَ قِيمَةِ الْمُدَبَّرِ وَذَلِكَ خَمْسُمِائَةٍ دَيْنٌ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى فَظَهَرَ أَنَّ الْقِيمَةَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا تُقْسَمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ عَبْدٌ لِرَجُلٍ شَجَّهُ رَجُلٌ مُوضِحَةً ثُمَّ دَبَّرَهُ ثُمَّ شَجَّهُ مُوضِحَةً أُخْرَى ثُمَّ كَاتَبَهُ ثُمَّ شَجَّهُ مُوضِحَةً ثَالِثَةً ثُمَّ أَدَّى الْكِتَابَةَ فَعَتَقَ ثُمَّ شَجَّهُ مُوضِحَةً رَابِعَةً فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَهَاهُنَا حُكْمُ الشِّجَاجِ وَحُكْمُ النَّفْسِ أَمَّا حُكْمُ الشِّجَاجِ فَالْأُولَى يَضْمَنُ الشَّاجُّ نِصْفَ عُشْرِ قِيمَتِهِ وَهُوَ عَبْدٌ صَحِيحٌ.
وَأَمَّا حُكْمُ الشَّجَّةِ الثَّالِثَةِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ نِصْفَ عُشْرِ قِيمَتِهِ وَهُوَ مُدَبَّرٌ مُكَاتَبٌ مَشْجُوجٌ شَجَّتَيْنِ وَأَمَّا حُكْمُ الشَّجَّةِ الرَّابِعَةِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ ثُلُثَ الدِّيَةِ وَلَا يَضْمَنُ الْأَرْشَ وَأَمَّا حُكْمُ النَّفْسِ فَلَا شَيْءَ عَلَى الشَّاجِّ بِسِرَايَةِ الشَّجَّةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ لِأَنَّ سِرَايَتَهُمَا مُنْقَطِعَةٌ عَنْ الْجِنَايَةِ بِالْعِتْقِ وَالْكِتَابَةِ وَيَضْمَنُ لِلشَّجَّةِ الثَّالِثَةِ ثُلُثَ قِيمَتِهِ وَهُوَ مُدَبَّرٌ مُكَاتَبٌ مَشْجُوجٌ بِأَرْبَعِ شَجَّاتٍ وَلَا يَضْمَنُ ثُلُثَ الدِّيَةِ وَإِنْ مَاتَ حُرًّا لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الشَّجَّةِ لَاقَى الْكِتَابَةَ وَإِنَّمَا يَضْمَنُ ثُلُثَ قِيمَتِهِ لَا رُبْعَهَا لِأَنَّ الْجِنَايَةَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةَ حُكْمُهُمَا وَاحِدٌ وَالشَّجَّةُ الرَّابِعَةُ لَاقَتْهُ وَهُوَ حُرٌّ وَمُوجِبُهَا الدِّيَةُ فَبَانَ بِهَذَا وَاتَّضَحَ أَنَّ النَّفْسَ إنَّمَا تَلِفَتْ مَعْنًى وَاعْتِبَارًا بِثَلَاثِ جِنَايَاتٍ ثُلُثُهَا بِالْجِنَايَةِ الْأُولَى وَقَدْ هُدِرَتْ سِرَايَتُهَا وَثُلُثُهَا بِالْجِنَايَةِ الثَّالِثَةِ وَسِرَايَتُهَا مُعْتَبَرَةٌ فَيَضْمَنُ ثُلُثَ قِيمَتِهِ مَشْجُوجًا بِأَرْبَعِ شِجَاجٍ لِأَنَّ ثَلَاثَ شِجَاجٍ مِنْهَا ضَمِنَهَا مَرَّةً فَلَا يَضْمَنُ مَرَّةً أُخْرَى وَمَا تَلِفَ بِالشَّجَّةِ الرَّابِعَةِ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى الشَّاجِّ بِالشَّجَّةِ الثَّالِثَةِ لِأَنَّهُ مَاتَ وَهُوَ مَنْقُوصٌ بِأَرْبَعِ شَجَّاتٍ كَذَا فِي الْمُحِيطِ مَعَ اخْتِصَارٍ وَفِي الذَّخِيرَةِ أُمُّ الْوَلَدِ إذَا جَنَتْ جِنَايَةً خَطَأً فَالْجَوَابُ فِيهَا كَالْجَوَابِ فِي الْمُدَبَّرِ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمُتَقَدِّمِ اهـ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (جَنَى عَبْدٌ خَطَأً دَفَعَهُ بِالْجِنَايَةِ فَيَمْلِكُهُ أَوْ فَدَاهُ بِأَرْشِهَا) أَيْ إذَا جَنَى الْعَبْدُ خَطَأً فَمَوْلَاهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ دَفَعَهُ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ فَإِنْ دَفَعَهُ مَلَكَهُ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ وَإِنْ شَاءَ فَدَاهُ بِأَرْشِهَا.
وَقَوْلُهُ خَطَأً يُحْتَرَزُ بِهِ مِنْ الْعَمْدِ وَهَذَا التَّقْيِيدُ إنَّمَا يُفِيدُ إذَا كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى النَّفْسِ لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ عَمْدًا تُوجِبُ الْقِصَاصَ وَأَمَّا إذَا كَانَتْ عَلَى الْأَطْرَافِ لَا يُفِيدُ التَّقْيِيدَ بِهِ إذْ لَا يَجْرِي الْقِصَاصُ فِيهَا بَيْنَ الْعَبِيدِ وَبَيْنَ الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - جِنَايَةُ الْعَبْدِ تَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ يُبَاعُ فِيهَا إلَّا أَنْ يَقْضِيَ الْمَوْلَى الْأَرْشَ وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي اتِّبَاعِ الْجَانِي عِنْدَهُ وَعِنْدَنَا لَا يُتْبَعُ لَا فِي حَالَةِ الرِّقِّ وَلَا بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُ مَذْهَبِنَا وَعَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ مِثْلُ مَذْهَبِهِ لَهُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي مُوجِبِ الْجِنَايَةِ أَنْ يَجِبَ عَلَى الْجَانِي لِأَنَّهُ الْمُتَعَدِّي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] إلَّا أَنَّ الْعَاقِلَةَ تَتَحَمَّلُ عَنْهُ وَلَا عَاقِلَةَ لِلْعَبْدِ فَيَجِبُ فِي ذِمَّتِهِ كَمَا فِي الذِّمِّيِّ وَيَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ وَيُبَاعُ فِيهِ كَمَا فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْمَالِ وَلَنَا أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِالْجِنَايَةِ عَلَى النُّفُوسِ نَفْسُ الْجَانِي إذَا أَمْكَنَ إلَّا أَنَّ اسْتِحْقَاقَ النَّفْسِ قَدْ يَكُونُ بِطَرِيقِ الْإِتْلَافِ عُقُوبَةً وَقَدْ يَكُونُ بِطَرِيقِ التَّمَلُّكِ وَالْعَبْدُ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَسْتَحِقَّ نَفْسَهُ بِالطَّرِيقَيْنِ فَتَصِيرُ نَفْسُهُ مُسْتَحَقَّةً لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ صِيَانَةً عَنْ الْهَدَرِ إلَّا أَنْ يَخْتَارَ الْمَوْلَى الْفِدَاءَ فَيَكُونَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إبْطَالُ حَقِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بَلْ مَقْصُودُ الْمَجْنِيِّ يَحْصُلُ بِذَلِكَ بِخِلَافِ إتْلَافِ الْمَالِ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ نَفْسَ الْجَانِي أَبَدًا وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي مُوجِبِ الْجِنَايَةِ خَطَأً أَنْ يَتَبَاعَدَ عَنْ الْجَانِي لِكَوْنِهِ مَعْذُورًا وَلِكَوْنِ الْخَطَأِ مَرْفُوعًا شَرْعًا وَيَتَعَلَّقُ بِأَقْرَبِ النَّاسِ إلَيْهِ تَخْفِيفًا عَنْ الْمُخْطِئِ وَتَوَقِّيًا عَنْ الْإِجْحَافِ

(8/415)


إلَّا أَنَّ عَاقِلَةَ الْعَبْدِ مَوْلَاهُ لِأَنَّ الْعَبْدَ يَسْتَنْصِرُ بِهِ وَبِاعْتِبَارِ النُّصْرَةِ تَتَحَمَّلُ الْعَاقِلَةُ حَتَّى تَجِبَ الدِّيَةُ عَلَى أَهْلِ الدِّيوَانِ فَيَجِبَ ضَمَانُ جِنَايَتِهِ عَلَى الْمَوْلَى.
بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ فَإِنَّهُمْ لَا يَتَنَاصَرُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ فَلَا عَاقِلَةَ لَهُمْ فَيَجِبُ فِي ذِمَّتِهِ صِيَانَةً عَنْ الْهَدَرِ وَبِخِلَافِ الْجِنَايَةِ عَلَى الْمَالِ لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَعْقِلُ الْمَالَ إلَّا أَنَّ الْمَوْلَى يُخَيَّرُ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ لِأَنَّهُ وَاحِدٌ وَاخْتُلِفَ فِي الْمُوجِبِ الْأَصْلِيِّ قَالَ التُّمُرْتَاشِيُّ الصَّحِيحُ أَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الدِّيَةُ أَوْ الْأَرْشُ لَكِنَّ لِلْمَوْلَى أَنْ يَخْتَارَ الدَّفْعَ وَفِي إثْبَاتِ الْخِيرَةِ نَوْعُ تَخْفِيفٍ فِي حَقِّهِ كَيْ لَا يَسْتَأْصِلَ فَيُخَيَّرُ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ مُفِيدٌ وَقَالَ غَيْرُهُ الْوَاجِبُ الْأَصْلِيُّ هُوَ الدَّفْعُ فِي الصَّحِيحِ وَلِهَذَا يَسْقُطُ الْوَاجِبُ بِمَوْتِ الْعَبْدِ الْجَانِي قَبْلَ الِاخْتِيَارِ لِفَوَاتِ مَحَلِّ الْوَاجِبِ وَإِنْ كَانَ لَهُ حَقُّ النَّقْلِ إلَى الْفِدَاءِ كَمَا فِي مَالِ الزَّكَاةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَإِنَّ الْوَاجِبَ جُزْءٌ مِنْ النِّصَابِ وَلَهُ النَّقْلُ إلَى الْقِيمَةِ فَكَذَا هَذَا بِخِلَافِ الْجَانِي الْحُرِّ فِي الْخَطَأِ حَيْثُ لَا يَبْطُلُ الْمُوجِبُ بِمَوْتِهِ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْوَاجِبُ اسْتِيفَاءً فَصَارَ كَالْعَبْدِ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَإِذَا اخْتَارَ الدَّفْعَ يَلْزَمُهُ حَالًا لِأَنَّهُ عَيْنٌ فَلَا يَجُوزُ التَّأْجِيلُ فِي الْأَعْيَانِ وَإِنْ كَانَ مُقَدَّرًا بِغَيْرِهِ وَهُوَ الْمُتْلِفُ وَلِهَذَا سُمِّيَ فِدَاءً وَأَيُّهُمَا اخْتَارَ فِعْلَهُ فَلَا شَيْءَ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ غَيْرُهُ أَمَّا الدَّفْعُ فَلِأَنَّ حَقَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ فَإِذَا خَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّقَبَةِ سَقَطَ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ عَنْهُ وَأَمَّا الْفِدَاءُ فَلِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ إلَّا الْأَرْشُ فَإِذَا أَوْفَاهُ حَقَّهُ سُلِّمَ الْعَبْدُ لَهُ وَكَذَا إذَا اخْتَارَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يَفْعَلْ أَوْ فَعَلَ وَلَمْ يُخَيِّرْهُ قَوْلًا سَقَطَ حَقُّ الْمَوْلَى فِي الْآخَرِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَعْيِينُ الْمَحَلِّ حَتَّى يَتَمَكَّنَ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ.
وَالتَّعْيِينُ يَحْصُلُ بِالْقَوْلِ كَمَا يَحْصُلُ بِالْفِعْلِ بِخِلَافِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ حَيْثُ لَمْ تَتَعَيَّنْ إلَّا بِالْفِعْلِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الْفِعْلُ وَالْمَحَلُّ تَابِعٌ لِضَرُورَةِ وُجُودِهِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَوْلَى قَادِرًا عَلَى الْأَرْشِ أَوْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّهُ اخْتَارَ أَصْلَ حَقِّهِمْ فَبَطَلَ حَقُّهُمْ فِي الْعَبْدِ لِأَنَّ وِلَايَةَ التَّعْيِينِ لِلْمَوْلَى لَا لِلْأَوْلِيَاءِ وَقَالَا لَا يَصِحُّ اخْتِيَارُهُ الْفِدَاءَ إذَا كَانَ مُفْلِسًا إلَّا بِرِضَا الْأَوْلِيَاءِ لِأَنَّ الْعَبْدَ صَارَ حَقًّا لِلْأَوْلِيَاءِ حَتَّى لَا يُضَمِّنَهُ الْمَوْلَى بِالْإِتْلَافِ فَلَا يَمْلِكُ إبْطَالَ حَقِّهِمْ إلَّا بِرِضَاهُمْ أَوْ بِوُصُولِ الْبَدَلِ إلَيْهِمْ وَهُوَ الدِّيَةُ وَإِنْ لَمْ يَخْتَرْ شَيْئًا حَتَّى مَاتَ الْعَبْدُ بَطَلَ حَقُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لِفَوَاتِ مَحَلِّ حَقِّهِ بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ بَعْدَ اخْتِيَارِهِ الْفِدَاءَ حَيْثُ لَمْ يَبْرَأْ الْمَوْلَى لِتَحَوُّلِ الْحَقِّ مِنْ رَقَبَةِ الْعَبْدِ إلَى ذِمَّةِ الْمَوْلَى قَالَ فِي الْمُحِيطِ وَلَوْ جَنَى عَبْدٌ عَلَى جَمَاعَةٍ فَدُفِعَ إلَيْهِمْ فَكَانَ مَقْسُومًا بَيْنَهُمْ وَإِنْ شَاءَ الْمَوْلَى أَمْسَكَهُ وَغَرِمَ الْجِنَايَاتِ لِأَنَّ تَعَلُّقَ حَقِّ الْأَوَّلِ لَا يَمْنَعُ تَعَلُّقَ حَقِّ الْبَاقِينَ وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَفْدِيَ بَعْضَهُمْ وَيَدْفَعَ إلَى بَعْضٍ مِقْدَارَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّهُ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَتَلَ الْعَبْدُ رَجُلًا خَطَأً وَلَهُ وَلِيَّانِ فَاخْتَارَ الْمَوْلَى الْفِدَاءَ لِأَحَدِهِمَا أَوْ الدَّفْعَ إلَى الْآخَرِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ ثَمَّةَ الْحَقُّ مُتَّحِدٌ يَجِبُ لِلْمَقْتُولِ أَوَّلًا ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى الْوَرَثَةِ بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ عَنْهُ وَهَذَا مُوجِبُ الْجِنَايَةِ الْمُتَّحِدَةِ وَهُنَا الْجِنَايَاتُ مُخْتَلِفَةٌ وَلِلْمَوْلَى خِيَارُ الدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ فَمَلَكَ تَعْيِينَ أَحَدِ الْمُوجِبَيْنِ فِي كُلِّ جِنَايَةٍ.
وَلَوْ قَتَلَ إنْسَانًا وَفَقَأَ عَيْنَ آخَرَ وَقَطَعَ يَدَهُ دُفِعَ الْعَبْدُ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِقَدْرِ الْحَقِّ وَحَقُّ الْمَقْتُولِ فِي كُلِّ الْعَبْدِ وَحَقُّ الْمَفْقُوءَةِ عَيْنُهُ فِي نِصْفِهِ وَكَذَلِكَ الْمَقْطُوعُ يَدُهُ وَكَذَلِكَ إذَا شَجَّ ثَلَاثَةً شِجَاجًا مُخْتَلِفَةً دُفِعَ إلَيْهِمْ وَقُسِمَ بَيْنَهُمْ بِقَدْرِ جِنَايَاتِهِمْ وَلَوْ جَنَى الْعَبْدُ جِنَايَاتٍ فَغَصَبَهُ إنْسَانٌ وَجَنَى فِي يَدِ الْغَاصِبِ جِنَايَاتٍ فَمَاتَ فِي يَدِهِ فَالْقِيمَةُ تُقْسَمُ بَيْنَ أَصْحَابِ الْجِنَايَاتِ كَمَا تُقْسَمُ الرَّقَبَةُ وَلَا خِيَارَ لِلْمَوْلَى فِيهِ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ تَعَيَّنَتْ وَاجِبًا وَهِيَ أَقَلُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ إمْسَاكُهَا مُفِيدًا وَإِنْ كَانَ الْفِدَاءُ أَكْثَرَ مِنْ الْقِيمَةِ وَلَوْ قَتَلَ الْعَبْدُ الْجَانِي عَبْدًا لِرَجُلٍ آخَرَ فَخُيِّرَ مَوْلَى الْعَبْدِ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ فَإِنْ فَدَاهُ بِقِيمَةِ الْمَقْتُولِ قُسِمَتْ الْقِيمَةُ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ الْأُولَى عَلَى قَدْرِ حُقُوقِهِمْ لِأَنَّ الْقِيمَةَ قَائِمَةٌ مَقَامَهُ وَلَوْ دَفَعَهُ إلَى مَوْلَى الْمَقْتُولِ خُيِّرَ مَوْلَى الْمَقْتُولِ فِي الْمَدْفُوعِ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ فَإِنْ فَدَاهُ بِقِيمَةِ الْمَقْتُولِ قُسِمَتْ الْقِيمَةُ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ الْأُولَى عَلَى قَدْرِ حُقُوقِهِمْ لِأَنَّ الثَّانِيَ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَوَّلِ فَكَأَنَّهُ هُوَ وَلَوْ كَانَ حَيًّا قَائِمًا يُخَيَّرُ الْمَوْلَى فَكَذَا فِيمَنْ قَامَ مَقَامَهُ وَكَذَا لَوْ قَطَعَ عَبْدٌ يَدَ الْجَانِي فَدَفَعَ بِهِ خُيِّرَ مَوْلَى الْعَبْدِ الْمَقْطُوعِ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ لِأَنَّ الْعَبْدَ الثَّانِيَ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَوَّلِ وَكَانَ حَقُّ وَلِيِّ الْمَقْتُولِ مُتَعَلِّقًا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ فَيَظْهَرُ حَقُّهُ فِي بَدَلِ الْجُزْءِ وَلَوْ لَمْ يَظْهَرْ حَقُّهُ فِي بَدَلِ الْكُلِّ وَلَوْ اكْتَسَبَ الْعَبْدُ الْجَانِي أَوْ وَلَدَتْ الْأَمَةُ الْجَانِيَةُ لَمْ يُدْفَعْ الْكَسْبُ وَالْوَلَدُ مَعَهَا لِأَنَّ الْمِلْكَ ثَبَتَ لِمَوْلَى الْجِنَايَةِ بِالدَّفْعِ لَا قَبْلَهُ فَكَانَ الدَّفْعُ تَمْلِيكًا لِلْعَبْدِ.
فَإِذَا اقْتَصَرَ الْمِلْكُ عَلَى حَالَةِ الدَّفْعِ لَمْ يَظْهَرْ فِي حَقِّ الْكَسْبِ وَالْوَلَدِ بِخِلَافِ الْأَرْشِ فَإِنَّهُ بَدَلُ الْجُزْءِ فَكَانَ حَقُّ الدَّفْعِ مُتَعَلِّقًا بِذَلِكَ الْجُزْءِ فَيَظْهَرُ اسْتِحْقَاقُ الْأَصْلِ فِي حَقِّ الْبَدَلِ أَمَةٌ قَطَعَتْ يَدَ رَجُلٍ ثُمَّ وَلَدَتْ فَقَتَلَهَا الْوَلَدُ خُيِّرَ الْمَوْلَى فَإِنْ شَاءَ دَفَعَ الْوَلَدَ وَإِنْ

(8/416)


شَاءَ دَفَعَ فِدَاهُ بِالْأَقَلِّ مِنْ دِيَةِ الْيَدِ وَمِنْ قِيمَةِ الْأُمِّ لِأَنَّ جِنَايَةَ الْمَمْلُوكِ عَلَى مَمْلُوكِ مَوْلَاهُ مُعْتَبَرَةٌ إذَا تَعَلَّقَ حَقُّ الْغَيْرِ بِهِ لِأَنَّ الْحَقَّ بِمَنْزِلَةِ الْحَقِيقَةِ فِي حَقِّ إيجَابِ الضَّمَانِ وَقَدْ تَعَلَّقَ بِالْأُمِّ حَقُّ الْمَقْطُوعَةِ يَدُهُ فَكَانَتْ جِنَايَةُ الْوَلَدِ عَلَيْهَا مُعْتَبَرَةً قَضَاءً لِحَقِّ صَاحِبِ الْحَقِّ.

وَأَمَّا الْجِنَايَةُ عَلَى أَطْرَافِ الْعَبْدِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَكُلُّ شَيْءٍ مِنْ الْحُرِّ فِيهِ الدِّيَةُ يَجِبُ فِي الْعَبْدِ الْقِيمَةُ وَكُلُّ شَيْءٍ مِنْ الْحُرِّ فِيهِ نِصْفُ الدِّيَةِ فَفِيهِ مِنْ الْعَبْدِ نِصْفُ الْقِيمَةِ إلَّا إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ عَشَرَةَ آلَافٍ وَأَكْثَرَ يُنْقَصُ عَشَرَةٌ أَوْ خَمْسَةٌ فَفِي رِوَايَةِ الْمَبْسُوطِ وَالْجَامِعِ أَنَّهُ يَجِبُ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ وَعِنْدَهُمَا يُقَوَّمُ صَحِيحًا وَيُقَوَّمُ مَنْقُوصًا بِالْجِنَايَةِ فَيَجِبُ فَضْلُ مَا بَيْنِ الْقِيمَتَيْنِ وَهُوَ رِوَايَةُ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَهُمَا أَنَّ ضَمَانَ أَطْرَافِ الْعَبِيدِ ضَمَانُ أَمْوَالٍ لِأَنَّ أَطْرَافَ الْعَبِيدِ مُعْتَبَرَةٌ بِالْأَمْوَالِ لِأَنَّهَا خُلِقَتْ حَرْبًا لِلنَّفْسِ وَلِهَذَا لَا يَجِبُ ضَمَانُهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ وَضَمَانُ الْأَمْوَالِ مُقَدَّرٌ بِقَدْرِ النُّقْصَانِ وَلَهُ أَنَّ الْأَطْرَافَ مِنْ جُمْلَةِ النُّفُوسِ حَقِيقَةً لِأَنَّ النَّفْسَ مُرَكَّبَةٌ مِنْ الْأَطْرَافِ وَفِي إتْلَافِهَا إتْلَافُ النَّفْسِ وَفِي اسْتِكْمَالِهَا كَمَالُ النَّفْسِ لَكِنْ فِيهَا مَعْنَى الْمَالِيَّةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا خُلِقَتْ لِمَانِعِ النَّفْسِ وَمَصَالِحِهَا فَيَجِبُ اعْتِبَارُهَا فَلَا يَجُوزُ إخْلَاءُ النَّفْسِيَّةِ عَنْ أَطْرَافِ الْعَبِيدِ بِالْكُلِّيَّةِ.
وَبِاعْتِبَارِ النَّفْسِيَّةِ فِيهَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مُقَدَّرًا كَالْأَطْرَافِ وَبِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْمَالِيَّةِ فِيهَا أَوْجَبْنَا ضَمَانَهَا عَلَى الْجَانِي دُونَ الْعَاقِلَةِ لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِإِيجَابِ الضَّمَانِ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي النُّفُوسِ الْمُطْلَقَةِ وَلَمْ يُوجَدْ فَأَمَّا تَقْرِيرُ الضَّمَانِ بِمَا هُوَ مُلْحَقٌ بِالنُّفُوسِ مُلَائِمٌ لِلْأَصْلِ أَلَا تَرَى أَنَّ ضَمَانَ عَيْنِ الْبَقَرِ وَالْفَرَسِ مُقَدَّرٌ بِرُبْعِ قِيمَتِهِ فَصَارَ الْعَبْدُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مُقَدَّرًا وَلَوْ قَطَعَ رَجُلٌ يَدَ عَبْدٍ قِيمَتُهُ أَلْفٌ ثُمَّ بَعْدَ الْقَطْعِ صَارَتْ قِيمَتُهُ أَلْفًا كَمَا كَانَتْ قَبْلَ الْقَطْعِ ثُمَّ قَطَعَ رَجُلٌ آخَرُ رِجْلَهُ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ مَاتَ مِنْهَا ضَمِنَ الْأَوَّلُ سِتَّمِائَةٍ وَخَمْسَةً وَعِشْرِينَ وَالْآخَرُ سَبْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ لِأَنَّ الْأَوَّلَ قَطَعَ يَدَهُ وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ فَغَرِمَ خَمْسَمِائَةٍ لِأَنَّ الْيَدَ مِنْ الْآدَمِيِّ نِصْفُهُ وَبَقِيَتْ قِيمَةُ النِّصْفِ الْآخَرِ خَمْسَمِائَةٍ وَإِذَا زَادَتْ خَمْسَمِائَةٍ أُخْرَى صَارَتْ أَلْفًا فَهَذِهِ الزِّيَادَاتُ لَا تُعْتَبَرُ فِي حَقِّ قَاطِعِ الْيَدِ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً وَقْتَ الْقَطْعِ وَإِنَّمَا حَدَثَتْ بَعْدَهُ فَبَقِيَ فِي حَقِّ قَاطِعِ الْيَدِ قِيمَةُ الْبَاقِي خَمْسُمِائَةٍ ثُمَّ قَاطِعُ الرِّجْلِ أَتْلَفَ النِّصْفَ الْبَاقِيَ وَذَلِكَ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ بَقِيَتْ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ تَلِفَتْ بِسِرَايَةِ جِنَايَتِهِمَا فَيَجِبُ عَلَى قَاطِعِ الْيَدِ نِصْفُ ذَلِكَ وَذَلِكَ مِائَةٌ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ وَقَاطِعُ الرِّجْلِ حِينَ قَطَعَ رِجْلَهُ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفًا ضَمِنَ نِصْفَهُ وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ وَبَقِيَ خَمْسُمِائَةٍ فِي حَقِّهِ وَقَدْ تَلِفَتْ بِسِرَايَةِ جِنَايَتَيْنِ فَضَمِنَ نِصْفَهُ وَذَلِكَ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ يُضَمُّ ذَلِكَ إلَى خَمْسِمِائَةٍ فَتَصِيرُ سَبْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ وَلَوْ صَارَ يُسَاوِي أَلْفَيْنِ وَهُوَ أَقْطَعُ فَعَلَى قَاطِعِ الرِّجْلِ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي حَقِّ قَاطِعِ الْيَدِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فَصَارَ وُجُودُهَا وَعَدَمُهَا بِمَنْزِلَةٍ فَعَلَيْهِ سِتُّمِائَةٍ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ كَمَا وَصَفْنَا فَأَمَّا قَاطِعُ الرِّجْلِ بِالْقَطْعِ أَتْلَفَ نِصْفَهُ فَضَمِنَ قِيمَتَهُ وَهِيَ أَلْفٌ وَأَلْفٌ تَلِفَ بِسِرَايَةِ الْجِنَايَتَيْنِ يَغْرَمُ نِصْفَهُ وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ فَيُضَمُّ خَمْسُمِائَةٍ إلَى الْأَلْفِ فَيَكُونُ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ.
وَفِي النَّوَازِلِ رَوَى الْحَسَنُ فِي الْمُجَرَّدِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رَجُلٌ قَطَعَ أُذُنَ عَبْدٍ أَوْ أَنْفَهُ أَوْ حَلَقَ لِحْيَتَهُ فَلَمْ تَنْبُتْ فَعَلَيْهِ مَا نَقَصَهُ وَرَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ عَلَيْهِ لِلْمَوْلَى قِيمَتَهُ تَامَّةً إنْ دُفِعَ إلَيْهِ الْعَبْدُ وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ الْفَائِتَ مِنْ الْعَبْدِ مُعْتَبَرٌ مِنْ حَيْثُ الْمَالِيَّةُ وَبِفَوَاتِ الْجَمَالِ تَقِلُّ رَغَبَاتُ النَّاسِ فَتُنْتَقَصُ الْمَالِيَّةُ فَيَضْمَنُ النُّقْصَانَ وَجْهُ رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ أَنَّ مَا يَجِبُ بِتَفْوِيتِهِ مِنْ الْحُرِّ كَمَالُ الدِّيَةِ فَيَجِبُ بِتَفْوِيتِهِ مِنْ الْعَبْدِ كَمَالُ الْقِيمَةِ فِي الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ لِأَنَّ دِيَةَ أَطْرَافِ الْعَبْدِ مُقَدَّرَةٌ لِمَا بَيَّنَّا رَجُلٌ فَقَأَ عَيْنَيْ عَبْدٍ ثُمَّ قَطَعَ آخَرُ يَدَهُ كَانَ عَلَى الْفَاقِئِ مَا نَقَصَهُ وَعَلَى الْقَاطِعِ نِصْفُ قِيمَتِهِ مَفْقُوءَ الْعَيْنَيْنِ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا شَيْءَ عَلَى الْفَاقِئِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ عِنْدَهُ لَيْسَ لِلْمَوْلَى إمْسَاكُ الْمَفْقُوءِ وَتَضْمِينُ النُّقْصَانِ وَإِنَّمَا لَهُ كَمَالُ الْقِيمَةِ وَتَمْلِيكُ الْجُثَّةِ مِنْهُ وَبِالْقَطْعِ الطَّارِئِ عَلَى الْمَفْقُوءِ امْتَنَعَ تَضْمِينُ الْقِيمَةِ فَيُقَدَّرُ إيجَابُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْجِنَايَةَ تَقَرَّرَتْ مُوجِبَةً لِلضَّمَانِ قَبْلَ الْقَطْعِ فَلَا يَجُوزُ تَعْطِيلُ السَّبَبِ عَنْ الْحُكْمِ وَإِهْدَارُ الْجِنَايَةِ فَيَغْرَمُ النُّقْصَانَ صَوْنًا لِلذِّمَّةِ عَنْ الْهَدَرِ وَالْبُطْلَانِ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي عَبْدٍ قَتَلَ رَجُلًا عَمْدًا وَلَهُ وَلِيَّانِ فَعَفَا أَحَدُهُمَا ثُمَّ قَتَلَ آخَرُ خَطَأً فَاخْتَارَ الدَّفْعَ فَإِنَّهُ يَدْفَعُ أَرْبَاعًا ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهِ لِوَلِيِّ الْخَطَأِ وَرُبْعَهُ لِوَلِيِّ الْعَمْدِ الَّذِي لَمْ يَعْفُ وَهُوَ قَوْلُهُمَا وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَدْفَعُ إلَيْهِمَا أَثْلَاثًا ثُلُثَاهُ لِصَاحِبِ الْخَطَأِ وَثُلُثٌ لِصَاحِبِ الْعَمْدِ.
وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَدْفَعُ نِصْفَهُ إلَى وَلِيِّ الْخَطَأِ وَرُبْعَهُ إلَى وَلِيِّ الْعَمْدِ وَيَبْقَى رُبْعُهُ لِلْمَوْلَى وَلِزُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -

(8/417)


أَنَّ حَقَّ الْوَلِيَّيْنِ مُتَعَلِّقٌ بِالْعَيْنِ وَبِعَفْوِ أَحَدِهِمَا سَقَطَ حَقُّهُ وَانْتَقَلَ حَقُّ الْآخَرِ إلَى الرَّقَبَةِ أَوْ الْفِدَاءِ فِي النِّصْفِ وَحَقُّ وَلِيِّ الْخَطَأِ فِي الْكُلِّ لِأَنَّهُ لَا يُشَارِكُهُ غَيْرُهُ فِيهِ وَحَقُّ الْوَلِيِّ بِالْعَفْوِ عَادَ إلَى الرُّبْعِ فَيَكُونُ الرُّبْعُ لَهُ بَقِيَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ حَقِّهِمَا وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّهُ إذَا عَفَا أَحَدُ وَلِيَّيْ الْعَمْدِ فَفِي حَقِّ الْآخَرِ الْمُزَاحَمَةُ فِي الرُّبْعِ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ حَقُّ وَلِيَّيْ الْخَطَأِ بِالنِّصْفِ لَا بِالْكُلِّ فَبَقِيَ حَقُّ غَيْرِ الْفَاقِئِ فِيهِ الرُّبْعَ فَانْتَقَلَ إلَى الرَّقَبَةِ أَوْ الْفِدَاءِ فَيَكُونُ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا أَرْبَاعًا وَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّهُ إذَا عَفَا أَحَدُ وَلِيَّيْ الْعَمْدِ بَقِيَ حَقُّ الْآخَرِ فِي النِّصْفِ لِأَنَّ حَقَّهُمَا قَدْ تَعَلَّقَ بِالْكُلِّ لِأَنَّ تَعَلُّقَ الْأَوَّلِ لَا يَمْنَعُ تَعَلُّقَ الثَّانِيَةِ إلَّا أَنَّ بِالْعَفْوِ فَرَغَ نِصْفُ الرَّقَبَةِ عَنْ حُكْمِ الْجِنَايَةِ الْأُولَى فَبَقِيَ حَقُّ الْأَوَّلِ مُتَعَلِّقًا بِالنِّصْفِ وَحَقُّ الثَّانِي فِي الْكُلِّ فَيَكُونُ الْمَدْفُوعُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ مَمْلُوكٌ قَتَلَ مَمْلُوكًا لِرَجُلٍ خَطَأً ثُمَّ قَتَلَ أَخَا مَوْلَاهُ وَلَيْسَ لِأَخِي مَوْلَاهُ وَارِثٌ غَيْرَهُ فَإِنَّهُ يَدْفَعُ نِصْفَ الْعَبْدِ كُلَّهُ إلَى مَوْلَى الْعَبْدِ أَوْ يَفْدِيَهُ، وَالنِّصْفُ الْبَاقِي لِلْمَوْلَى لِأَنَّ حَقَّ أَخِي الْمَوْلَى تَعَلَّقَ بِرَقَبَةِ الْجَانِي بَعْدَمَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْمَوْلَى فَتَقَعُ الْمُزَاحَمَةُ بَيْنَهُمَا فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَإِذَا انْتَقَلَ النِّصْفُ إلَى الْمَوْلَى بِالْإِرْثِ سَقَطَ بَعْدَ الْوُجُوبِ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى عَبْدِهِ شَيْئًا فَبَقِيَ حَقُّ الْأَوَّلِ فِي النِّصْفِ فَإِنْ قَتَلَ أَخَا مَوْلَاهُ أَوَّلًا ثُمَّ قَتَلَ مَمْلُوكَ رَجُلٍ خَطَأً فَإِنَّهُ يَدْفَعُ الْعَبْدَ كُلَّهُ إلَى مَوْلَى الْعَبْدِ الْمَقْتُولِ أَوْ يَفْدِيهِ لِأَنَّهُ لَمَّا انْتَقَلَ الْحَقُّ إلَى الْمَوْلَى بِالْإِرْثِ سَقَطَ عَنْهُ وَإِذَا جَنَى عَلَى الثَّانِي وَلَا يُزَاحِمُهُ الْأَوَّلُ فَقَدْ تَعَلَّقَ حَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ غَيْرِ مُزَاحَمَةٍ.
وَإِنْ كَانَ لِأَخِي مَوْلَاهُ بِنْتٌ وَقَدْ قَتَلَهُ الْعَبْدُ أَوَّلًا فَإِنَّهُ يَضْمَنُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْعَبْدِ لِمَوْلَى الْعَبْدِ الْمَقْتُولِ وَرُبْعَهُ لِلْبِنْتِ لِأَنَّ حَقَّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ تَعَلَّقَ بِالنِّصْفِ وَتَعَلَّقَ حَقُّ الْوَارِثِينَ بِالنِّصْفِ إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ حَقُّ الْمَوْلَى عَنْ الرُّبْعِ وَبَقِيَ حَقُّ الْبِنْتِ فِي الرُّبْعِ فَإِنْ كَانَتْ الضَّرْبَتَانِ مَعًا وَلَيْسَ لَهُ بِنْتٌ فَالْعَبْدُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِأَنَّ الْجِنَايَتَيْنِ افْتَرَقَتَا فَلَمْ تُصَادِفْ إحْدَاهُمَا مَحَلًّا فَارِغًا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَجُلٌ فَقَأَ عَيْنَيْ عَبْدٍ فَمَاتَ الْعَبْدُ مِنْ غَيْرِ الْفَقْءِ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْفَاقِئِ وَإِنْ لَمْ يَمُتْ وَلَكِنَّهُ قَتَلَهُ إنْسَانٌ لَزِمَ الْفَاقِئَ النُّقْصَانُ لِأَنَّ الضَّمَانَ ضَمَانُ تَفْوِيتِ الْمَالِيَّةِ وَالْقَتْلُ تَفْوِيتُ الْمَالِ وَالْمَوْتُ حُكْمُ الْمَالِيَّةِ وَلَا يُفَوِّتُهَا وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَضْمَنُ النُّقْصَانَ فِي الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ تَحَقَّقَتْ فِي الْحَالَيْنِ فَانْعَقَدَتْ مُوجِبَةً لِلضَّمَانِ قَالَ فِي الْهِدَايَةِ وَالْمَوْلَى عَاقِلَتُهُ قَالَ بَعْضُ الْأَفَاضِلِ لَيْسَ هَذَا مُخَالِفًا حَيْثُ لَا تَعْقِلُ الْعَوَاقِلُ عَمْدًا وَلَا عَبْدًا. اهـ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ الْمَوْلَى كَالْعَاقِلَةِ اهـ.
قَالَ فِي الْعِنَايَةِ لَا يُقْضَى عَلَى الْمَوْلَى بِشَيْءٍ حَتَّى يَبْرَأَ الْمَجْنِيُّ أَوْ يَتِمَّ أَمْرُهُ لِأَنَّ الْقَضَاءَ قَبْلَهُ قَضَاءٌ بِالْمَجْهُولِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ وَفِي الْمُنْتَقَى إذَا قَتَلَ الْعَبْدُ رَجُلًا خَطَأً فَقَالَ الْمَوْلَى أَفْدِي نِصْفَهُ وَأَدْفَعَ نِصْفَهُ فَهَذَا اخْتِيَارٌ مِنْهُ لِلْعَبْدِ وَعَلَيْهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (فَإِنْ فَدَاهُ فَجَنَى فَهِيَ كَالْأُولَى فَإِنْ جَنَى جِنَايَتَيْنِ دَفَعَهُ بِهِمَا أَفْدَاهُ بِأَرْشِهِمَا) لِأَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ حُكْمُ الْجِنَايَةِ الْأُولَى بِالْفِدَاءِ جُعِلَ كَأَنَّهُ لَمْ يَجْنِ مِنْ قَبْلُ وَهَذِهِ ابْتِدَاءُ جِنَايَةٍ.
وَلَوْ جَنَى قَبْلَ أَنْ تَخْتَارَ فِي الْأُولَى شَيْئًا أَوْ جَنَى جِنَايَتَيْنِ دَفَعَ دَفْعَةً وَاحِدَةً وَلَوْ جِنَايَاتٍ قِيلَ لِمَوْلَاهُ إمَّا أَنْ تَدْفَعَهُ أَوْ تَفْدِيَة بِأَرْشِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْجِنَايَاتِ لِأَنَّ تَعَلُّقَ الْأُولَى بِرَقَبَتِهِ لَا يَمْنَعُ تَعَلُّقَ الثَّانِيَةِ بِهَا كَالْمَدْيُونِ لِأَقْوَامٍ أَوْ لِوَاحِدٍ أَلَا تَرَى أَنَّ مِلْكَ الْمَوْلَى لَا يَمْنَعُ تَعَلُّقَ الْجِنَايَةِ فَحَقُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَوْلَى أَنْ لَا يُمْنَعَ بِخِلَافِ الرَّهْنِ حَيْثُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ غَيْرِهِ مِنْ الْغُرَمَاءِ وَالْفَرْقُ أَنَّ الرَّهْنَ إيفَاءٌ وَاسْتِيفَاءٌ حُكْمًا فَصَارَ كَالِاسْتِيفَاءِ حَقِيقَةً فَأَمَّا الْجِنَايَةُ فَلَيْسَ فِيهَا إلَّا تَعَلُّقُ الْحَقِّ لِوَلِيِّ الْأُولَى وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ تَعَلُّقَ حَقٍّ آخَرَ بِهِ ثُمَّ إذَا دَفَعَهُ إلَيْهِمْ اقْتَسَمُوهُ عَلَى قَدْرِ حُقُوقِهِمْ وَحَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَرْشُ جِنَايَتِهِ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (فَإِنْ أَعْتَقَهُ غَيْرَ عَالِمٍ بِالْجِنَايَةِ ضَمِنَ الْأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الْأَرْشِ) يَعْنِي لَوْ أَعْتَقَ الْجَانِي وَلَمْ يَعْلَمْ بِهَا ضَمِنَ الْأَقَلَّ مِنْ الْقِيمَةِ وَمِنْ الْأَرْشِ وَإِذَا جَرَحَ الْعَبْدُ رَجُلًا فَاخْتَارَ الْمَوْلَى الْفِدَاءَ ثُمَّ مَاتَ الْمَجْرُوحُ خُيِّرَ مَرَّةً أُخْرَى عِنْدَ مُحَمَّدٍ اسْتِحْسَانًا وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ عَلَيْهِ الدِّيَةُ وَلَا يُخَيَّرُ قِيَاسًا وَهِيَ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي رَجَعَ فِيهَا أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ الِاسْتِحْسَانِ إلَى الْقِيَاسِ وَلَوْ أَعْتَقَهُ وَهُوَ يَعْلَمُ ثُمَّ مَاتَ الْمَجْرُوحُ كَانَ مُخْتَارًا لِلدِّيَةِ إنْ كَانَ خَطَأً وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ اخْتَارَ أَرْشَ الْجِرَاحَةِ فَيَكُونُ اخْتِيَارًا لِأَرْشِهَا وَمَا يَحْدُثُ وَيَتَوَلَّدُ عَنْهَا كَالْعَفْوِ عَنْ الْجِرَاحَةِ وَيَكُونُ عَفْوًا عَنْهَا وَعَمَّا يَحْدُثُ مِنْهَا لِأَنَّ السِّرَايَةَ لَا تَنْفَكُّ عَنْ الْجِنَايَةِ فَيَكُونُ اخْتِيَارُ الْأَصْلِ اخْتِيَارًا لِلتَّبَعِ الْمُتَوَلِّدِ مِنْهُ ضَرُورَةً لِأَنَّهُ صَارَ قَاتِلًا بِتِلْكَ الْجِرَاحَةِ فَظَهَرَ أَنَّهُ اخْتَارَ إمْسَاكَ الْعَبْدِ بَعْدَ الْقَتْلِ وَهُوَ عَالِمٌ بِالْقَتْلِ كَمَا لَوْ أَعْتَقَ الْعَبْدَ بَعْدَ الْجِرَاحَةِ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ

(8/418)


أَنَّ الْمَوْلَى إنَّمَا اخْتَارَ إمْسَاكَ الْعَبْدِ بِمَالٍ قَلِيلٍ عَلَى حِسَابِ أَنَّ الْجِرَاحَةَ لَا تَسْرِي فَبَعْدَ الْمَوْتِ لَوْ لَزِمَهُ لَزِمَهُ حُكْمُ الِاخْتِيَارِ بِمَالٍ كَثِيرٍ وَهُوَ دِيَةٌ.
وَاخْتِيَارُ الْإِنْسَانِ إمْسَاكَ الْعَبْدِ بِمَالٍ قَلِيلٍ لَا يَكُونُ اخْتِيَارًا مِنْهُ بِأَدَاءِ مَالٍ كَثِيرِ لِأَنَّهُ غَيْرُ رَاضٍ بِهِ فَلَوْ لَزِمَهُ تَضَرَّرَ بِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ حُكْمُ الِاخْتِيَارِ بِالدِّيَةِ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَعْتَقَهُ بَعْدَ الْجِرَاحَةِ ثُمَّ مَاتَ لِأَنَّهُ لَمْ يَنُصَّ عَلَى اخْتِيَارِ الْعَبْدِ بِمَالٍ قَلِيلٍ بَلْ اخْتَارَ إمْسَاكَ الْعَبْدِ مُطْلَقًا قَتَلَ عَبْدٌ رَجُلًا عَمْدًا وَلَهُ وَلِيٌّ وَاحِدٌ فَطَلَبَ الْفِدَاءَ فَاخْتَارَ الْمَوْلَى الْفِدَاءَ عَنْ نِصْفِ الْعَبْدِ يَصِيرُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ عَنْ الْكُلِّ لِأَنَّ فِي التَّفْرِيقِ ضَرَرًا عَلَيْهِ فَلَا يَتَمَكَّنُ الْمَوْلَى مِنْ ذَلِكَ فَصَارَ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ عَنْ الْكُلِّ ضَرُورَةً وَإِنْ كَانَ لَهُ وَلِيَّانِ فَاخْتَارَ الْفِدَاءَ فِي نَصِيبِ أَحَدِهِمَا يَصِيرُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ فِي حَقِّ الْآخَرِ فِي عَامَّةِ الرِّوَايَاتِ لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ لِمُوجِبِ الْجِنَايَةِ هُوَ الْمَيِّتُ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ وَرَدَتْ عَلَى حَقِّهِ وَأَمْكَنَ إثْبَاتُ الْمِلْكِ لِمُوجِبِ الْجِنَايَةِ لِأَنَّ بَعْدَ الْمَوْتِ تَبْقَى التَّرِكَةُ عَلَى حُكْمِ الْمِلْكِ وَلِهَذَا لَا تَنْفُذُ وَصَايَاهُ وَتُقْضَى مِنْهَا دُيُونُهُ فَوَقَعَ الْمِلْكُ لِلْمَيِّتِ أَوَّلًا ثُمَّ انْتَقَلَ إلَى الْوَارِثِ وَكَانَ الْمُسْتَحِقُّ لِمُوجِبِ الْجِنَايَةِ هَذَا فَيَصِيرُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ مِنْ الْكُلِّ ضَرُورَةً وَفِي رِوَايَةِ كِتَابِ الدُّرِّ لَا يَصِيرُ مُخْتَارًا لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي مُوجِبِ الْجِنَايَةِ يَثْبُتُ لِلْمَوْلَى ابْتِدَاءً لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْمِلْكِ فَكَانَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْجِنَايَةِ اثْنَيْنِ فَالتَّفْرِيقُ لَا يُلْحِقُ بِأَحَدِهِمَا ضَرَرًا لَمْ يَكُنْ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ وَفِي قَتْلِ الْخَطَأِ لَوْ كَانَ الْوَلِيُّ وَاحِدًا فَاخْتَارَ الْفِدَاءَ فِي النِّصْفِ يَكُونُ اخْتِيَارًا لِلْفِدَاءِ فِي حَقِّ الْآخَرِ مَا دَامَ الْعَبْدُ قَائِمًا لِأَنَّ حَقَّهُمَا ثَبَتَ فِي الْعَبْدِ مُتَفَرِّقًا مُشْتَرَكًا.
وَإِذَا مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ أَنْ يَدْفَعَ النِّصْفَ إلَى الْآخَرِ يَصِيرُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ لِأَنَّ الْحَقَّ ثَبَتَ لِلْمَقْتُولِ وَلَوْ صَالَحَ أَحَدُهُمَا عَلَى نِصْفِ الْعَبْدِ خُيِّرَ الْمَوْلَى وَالْوَلِيُّ الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ بَيْنَ أَنْ يَدْفَعَا نِصْفَ الْعَبْدِ إلَى الثَّانِي أَوْ يَفْدِيَا لِأَنَّ الْجِنَايَةَ انْقَلَبَتْ مَالًا وَالْعَبْدُ فِي مِلْكِهِمَا فَيُعْتَبَرُ بِمَا لَوْ جَنَى جِنَايَةً خَطَأً وَالْعَبْدُ مِلْكُهُمَا يُخَيَّرُ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ فَكَذَا هَذَا لِأَنَّ الْعَبْدَ فَرَغَ مِنْ نِصْفِ الْجِنَايَةِ بِالصُّلْحِ وَبَقِيَ مَشْغُولًا بِالنِّصْفِ فَثَبَتَ لَهُمَا الْخِيَارُ فِي النِّصْفِ وَإِنْ صَالَحَ أَحَدُهُمَا عَنْ جَمِيعِ الْعَبْدِ قِيلَ لِلشَّرِيكِ ادْفَعْ نِصْفَهُ إلَى أَخِيك أَوْ أَفْدِهِ لِأَنَّهُ انْتَقَلَ الْمِلْكُ إلَيْهِ وَنِصْفُهُ مَشْغُولٌ بِالْجِنَايَةِ وَلَوْ قَتَلَتْ أَمَةٌ رَجُلًا عَمْدًا وَلَهُ وَلِيَّانِ فَصَالَحَ الْمَوْلَى أَحَدَهُمَا عَلَى وَلَدِهَا صَارَ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ فَيَفْدِيهِ بِنِصْفِ الدِّيَةِ وَذُكِرَ فِي كِتَابِ الدُّرَرِ لَا يَصِيرُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ وَلَوْ صَالَحَ أَحَدَهُمَا فِي ثُلُثِ الْأَمَةِ كَانَ الثَّانِي لَهُ خِيَارُ أَنْ يَدْفَعَهُ أَوْ يَفْدِيَهُ وَفِي الْجَامِعِ وَالدُّرَرِ لَا يَكُونُ مِنْهُ اخْتِيَارٌ أَوْجُهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ سَوَّى بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ فِي الْبَعْضِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَقَعُ لِلْمَيِّتِ أَوَّلًا ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى الْوَارِثِ لِمَا بَيَّنَّا فَكَانَ مِلْكُ الْمَيِّتِ أَصْلًا وَمِلْكُ الْوَارِثِ بِنَاءً عَلَيْهِ فَيَكُونُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْجِنَايَةِ وَاحِدًا فَاخْتِيَارُ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ فِي الْبَعْضِ يَكُونُ اخْتِيَارًا فِي الْكُلِّ لِئَلَّا يَتَفَرَّقَ الْمِلْكُ عَلَى الْمُسْتَحِقِّ.
وَجْهُ رِوَايَةِ الصُّلْحِ وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُضْطَرُّ إلَى أَنْ يُخْرِجَ بَعْضَ الْعَبْدِ عَنْ مِلْكِهِ لِكَيْ يُعِيدَ الزَّائِلَ إلَى مِلْكِهِ فِي الثَّانِي وَإِذَا وُجِدَ ثَمَنٌ فَلَا يَكُونُ اخْتِيَارُ دَفْعِ النِّصْفِ اخْتِيَارَ دَفْعِ النِّصْفِ الْآخَرِ دَلَالَةً فَأَمَّا اخْتِيَارُ بَعْضِ الْفِدَاءِ يَدُلُّ عَلَى اخْتِيَارِ إمْسَاكِ الْأَمَةِ فِي مِلْكِهِ لِرَغْبَةٍ لِإِمْسَاكِهَا الْمَنَافِعَ تَحْصُلُ لَهُ مِنْهَا لَا تَحْصُلُ لَهُ مِنْ غَيْرِهَا وَتِلْكَ الْمَنَافِعُ تَحْصُلُ مِنْ كُلِّهَا لَا مِنْ بَعْضِهَا فَاخْتِيَارُ إمْسَاكِ الْأَمَةِ يَدُلُّ عَلَى اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ ضَرُورَةُ اخْتِيَارِ الصُّلْحِ أَنْ يَقُولَ الْمَوْلَى اخْتَرْت الْفِدَاءَ أَوْ الدَّلَالَةَ كَمَا لَوْ تَصَرَّفَ فِيهِ بِالْبَيْعِ أَوْ بِالْهِبَةِ أَوْ بِالصَّدَقَةِ أَوْ بِالْعِتْقِ أَوْ بِالتَّدْبِيرِ أَوْ بِالْكِتَابَةِ أَوْ بِعَيْبٍ كَفَقْءِ الْعَيْنِ وَالْجِرَاحَةِ وَقَطْعِ الْيَدِ وَأَمَّا فِي الرَّهْنِ وَالْإِجَارَةِ وَالنِّكَاحِ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ مِنْهُ امْرَأَةً وَكَانَتْ أَمَةً فَتَزَوَّجَهَا فَهَذَا لَا يَكُونُ اخْتِيَارًا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ يَصِيرُ مُخْتَارًا وَلَوْ أَنَّ الْعَبْدَ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَارَ الْمَوْلَى شَيْئًا بَطَلَتْ الْجِنَايَةُ عَمْدًا كَانَتْ أَوْ خَطَأً وَلَا يُؤْخَذُ الْمَوْلَى بِشَيْءٍ فَإِنْ لَمْ يَمُتْ وَلَكِنْ قَتَلَهُ مَوْلَاهُ فَإِنَّهُ يَصِيرُ مُخْتَارًا لِلْأَرْشِ فَإِنْ لَمْ يَقْتُلْهُ مَوْلَاهُ وَلَكِنْ قَتَلَهُ أَجْنَبِيٌّ فَإِنْ كَانَ عَمْدًا بَطَلَتْ الْجِنَايَةُ وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَقْتَصَّ وَإِنْ كَانَ خَطَأً يَأْخُذُ الْقِيمَةَ ثُمَّ يَدْفَعُ تِلْكَ الْقِيمَةَ إلَى أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ حَتَّى لَوْ تَصَرَّفَ فِي تِلْكَ الْقِيمَةِ لَا يَصِيرُ مُخْتَارًا لِلْأَرْشِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَلَهُ عَبْدٌ فَخُيِّرَ الْوَلِيُّ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ وَيُدْفَعُ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ وَلَوْ دُفِعَ الْعَبْدُ إلَى مَوْلَى الْعَبْدِ الْمَقْتُولِ قَامَ مَقَامَهُ لَحْمًا وَدَمًا كَأَنَّهُ هُوَ فَيُخَيَّرُ الْمَوْلَى بِالْفِدَاءِ حَتَّى لَوْ تَصَرَّفَ فِي الْعَبْدِ الْمَدْفُوعِ بِالْبَيْعِ أَوْ بِالْعِتْقِ أَوْ نَحْوِهِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ وَلَوْ لَمْ يَقْتُلْهُ عَبْدُ الْأَجْنَبِيِّ وَلَكِنَّهُ قَتَلَهُ عَبْدٌ آخَرُ لِمَوْلَاهُ فَإِنَّهُ يُخَيَّرُ الْمَوْلَى بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ الْمَقْتُولِ فَإِنْ

(8/419)


دَفَعَهُ الْعَبْدُ إلَيْهِ سُلِّمَ لَهُمْ وَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ يُفْدَى بِقِيمَةِ الْعَبْدِ الْمَقْتُولِ وَلَوْ قَطَعَ الْأَجْنَبِيُّ يَدَ هَذَا وَفَقَأَ عَيْنَهُ أَوْ جِرَاحَهُ فَيُخَيَّرُ الْعَبْدُ الْأَجْنَبِيُّ فَإِنْ دَفَعَ أَوْ فَدَاهُ بِالْأَرْشِ فَإِنَّهُ يُقَالُ لِمَوْلَى الْعَبْدِ الْمَفْقُوءَةِ عَيْنُهُ ادْفَعْ عَبْدَك هَذَا إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ أَوْ افْدِهِ وَقُيِّدَ الضَّمَانُ فِي الْعِتْقِ يَكُونُ لِلْقَتْلِ خَطَأً لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَمْدًا فَأُعْتِقَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ.
وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ قَتَلَ رَجُلًا عَمْدًا وَوَجَبَ الْقِصَاصُ فَأَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ فَلَا يَلْزَمُ الْمَوْلَى شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ لِلْمَقْتُولِ وَلَدَانِ فَعَفَا أَحَدُهُمَا بَطَلَ حَقُّهُ وَانْقَلَبَ نَصِيبُ الْآخَرِ مَالًا فَلَهُ أَنْ يُسْتَسْعَى الْعَبْدُ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى نِصْفُ الْقِيمَةِ هَذَا إذَا جَنَى فَقَطْ.

فَلَوْ جَنَى وَأَتْلَفَ مَالًا قَالَ وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ اسْتَهْلَكَ مَالًا فَوَجَبَ عَلَيْهِ وَقَتَلَ آخَرَ خَطَأً فَحَضَرَ أَصْحَابُ الدُّيُونِ وَأَوْلِيَاءُ الْجِنَايَةِ مَعًا فَإِنَّهُ يُخَيَّرُ الْمَوْلَى بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ فَإِنْ ظَهَرَتْ رَقَبَةُ الْعَبْدِ عَنْ الْجِنَايَةِ فَبَعْدَ ذَلِكَ يُبَاعُ فِي الدَّيْنِ إلَّا إذَا قَضَى السَّيِّدُ الدَّيْنَ وَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ دَفَعَهُ إلَى أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ ثُمَّ يَتَّبِعُونَهُ فِي دَيْنِهِمْ وَإِنْ حَضَرَ أَصْحَابُ الدُّيُونِ أَوَّلًا فَبَاعَ الْمَوْلَى الْعَبْدَ فِي دَيْنِهِمْ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي فَإِنَّهُ يُنْظَرُ إنْ كَانَ عَالِمًا بِالْجِنَايَةِ صَارَ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ عَالِمٍ بِالْجِنَايَةِ يَلْزَمُهُ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ وَإِنْ كَانَ الدَّفْعُ لِلْقَاضِي فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي غَيْرَ عَالِمٍ بِالْجِنَايَةِ فَبَاعَ الْعَبْدَ فِي الدَّيْنِ لَمْ تَبْطُلْ الْجِنَايَةُ وَإِنْ كَانَ الْقَاضِي يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ فَبَاعَهُ فِي الدَّيْنِ بَطَلَتْ الْجِنَايَةُ وَفِي الذَّخِيرَةِ وَفِي الْأَصْلِ إذَا جَنَى جِنَايَةً وَخُيِّرَ الْمَوْلَى بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ فَاخْتَارَ نِصْفَ الْعَبْدِ وَاخْتَارَ الْفِدَاءَ فِي نِصْفِهِ الْآخَرِ فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى وُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ وَاحِدًا بِأَنْ قَتَلَ الْعَبْدُ رَجُلًا خَطَأً وَلَهُ وَلَدٌ وَاحِدٌ وَالْقَتْلُ خَطَأٌ وَفِي هَذَا الْوَجْهِ إذَا اخْتَارَ الْمَوْلَى الْفِدَاءَ فِي نِصْفِ الْعَبْدِ يَصِيرُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ فِي الْكُلِّ لِذَلِكَ.
وَإِذَا اخْتَارَ نِصْفَ الْعَبْدِ يَصِيرُ مُخْتَارًا لِدَفْعِ الْكُلِّ وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُولُ اثْنَيْنِ بِأَنْ قَتَلَ الْعَبْدُ رَجُلَيْنِ خَطَأً وَلِكُلِّ أَحَدٍ مِنْهُمَا ابْنٌ وَاخْتَارَ الْمَوْلَى الْفِدَاءَ فِي أَحَدِهِمَا أَوْ الدَّفْعَ فَإِنَّهُ يَبْقَى عَلَى اخْتِيَارِهِ فِي حَقِّ الْآخَرِ وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ أَيْضًا الثَّالِثُ إذَا كَانَ الْمَقْتُولُ وَاحِدًا وَلَهُ وَلِيَّانِ فَاخْتَارَ الْمَوْلَى الْفِدَاءَ فِي حَقِّ الْآخَرِ فَفِي عَامَّةِ الرِّوَايَاتِ يَكُونُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ وَفِي كِتَابِ الدُّرَرِ لَا يَكُونُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ وَالْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمَوْلَى مَتَى أَحْدَثَ فِي الْعَبْدِ تَصَرُّفًا يُعْجِزُهُ عَنْ الدَّفْعِ وَهُوَ غَيْرُ عَالِمٍ بِالْجِنَايَةِ يَصِيرُ مُخْتَارًا وَإِذَا أَحْدَثَ تَصَرُّفًا لَا يُعْجِزُهُ عَنْ الدَّفْعِ لَا يَصِيرُ مُخْتَارًا وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِالْجِنَايَةِ فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا الْأَصْلُ فَنَقُولُ الْإِعْتَاقُ تَصَرُّفٌ يُعْجِزُهُ عَنْ الدَّفْعِ لِأَنَّ إعْتَاقَهُ نَافِذٌ وَبَعْدَ الْعِتْقِ لَا يُمْكِنُهُ الدَّفْعُ فَإِذَا أُعْتِقَ مَعَ الْعِلْمِ بِالْجِنَايَةِ يَكُونُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ وَلَوْ كَانَتْ أَمَةً فَوَطِئَهَا فَهَذَا لَيْسَ بِاخْتِيَارٍ لِلْفِدَاءِ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَكُونُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ وَكَذَلِكَ إذَا تَزَوَّجَهَا لَا يَكُونُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ وَفِي الظَّهِيرِيَّةِ إلَّا إذَا أَحْبَلَهَا وَفِي التَّهْذِيبِ وَلَوْ كَانَتْ أَمَةً فَتَزَوَّجَهَا لَا يَصِيرُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ وَكَذَلِكَ إذَا وَطِئَهَا لَا يَكُونُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ إلَّا إذَا كَانَتْ بِكْرًا أَوْ عَلِقَتْ وَذُكِرَ فِي الْمُنْتَقَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي مَسْأَلَةِ الْوَطْءِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ قَالَ فِي رِوَايَةِ الْوَطْءُ لَا يَكُونُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ وَإِنْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ بِكْرًا وَهَذِهِ رِوَايَةُ هِشَامٍ وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي مَالِكٍ.
إنْ كَانَ الْوَطْءُ نَقَصَهَا فَهُوَ اخْتِيَارٌ لِلْفِدَاءِ وَإِنْ لَمْ يَنْقُصْهَا فَلَيْسَ بِاخْتِيَارٍ وَبِهِ كَانَ يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَةٌ أُخْرَى إنَّ الْوَطْءَ اخْتِيَارٌ لِلْفِدَاءِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَفِي الذَّخِيرَةِ وَذُكِرَ فِي عَتَاقِ الْأَصْلِ أَنَّهُ يَكُونُ اخْتِيَارًا لِلْفِدَاءِ فَإِنْ اسْتَخْدَمَهَا لَا يَكُونُ اخْتِيَارًا لِلْفِدَاءِ وَفِي السِّغْنَاقِيِّ حَتَّى لَوْ عَطِبَتْ فِي الْخِدْمَةِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَكَذَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَاسْتَخْدَمَهُ الْمَوْلَى لَمْ يَضْمَنْ الْفِدَاءَ.

وَفِي السِّرَاجِيَّةِ الْمَوْلَى إذَا أَذِنَ الْعَبْدَ الْجَانِيَ فِي التِّجَارَةِ وَلَحِقَهُ دَيْنٌ لَمْ يُصَيِّرْهُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ وَفِيهِ أَيْضًا عَبْدٌ قَتَلَ حُرًّا خَطَأً ثُمَّ قَتَلَهُ رَجُلٌ آخَرُ خَطَأً فَأَخَذَ الْمَوْلَى قِيمَتَهُ مِنْ قَاتِلِهِ لَمْ يَكُنْ مُخْتَارًا وَيَضْمَنُ مِثْلَهَا لِمَوْلَى الْحُرِّ السِّغْنَاقِيِّ وَلَوْ ضَرَبَهُ ضَرْبًا أَثَّرَ فِيهِ الضَّرْبُ حَتَّى صَارَ مَهْزُولًا وَقُلْتُ: قِيمَتُهُ بِبَقَاءِ أَثَرِ الضَّرْبِ فَهُوَ مُخْتَارٌ إذَا كَانَ عَالِمًا بِالْجِنَايَةِ وَإِذَا ضَرَبَهُ وَهُوَ غَيْرُ عَالِمٍ بِالْجِنَايَةِ كَانَ عَلَيْهِ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ إلَّا أَنْ يَرْضَى وَلِيُّ الدَّمِ أَنْ يَأْخُذَهُ نَاقِصًا وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمَوْلَى وَلَوْ ضَرَبَ الْمَوْلَى عَيْنَهُ فَابْيَضَّتْ وَهُوَ غَيْرُ عَالِمٍ بِهِ ثُمَّ ذَهَبَ الْبَيَاضُ لَا يَكُونُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ بَلْ يَدْفَعُ وَيَفْدِي وَلَوْ خُوصِمَ فِي حَالَةِ الْبَيَاضِ فَضَمَّنَهُ الْقَاضِي الدِّيَةَ ثُمَّ زَالَ الْبَيَاضُ فَالْقَضَاءُ نَافِذٌ فَلَا يُرَدُّ وَأَطْلَقَ فِي الْعِتْقِ وَالضَّمَانِ فَشَمِلَ مَا إذَا أَعْتَقَهُ بِإِذْنِ وَلِيِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَوَّلًا.
وَفِي نَوَادِرِ ابْنِ سِمَاعَةَ إذَا أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى بِإِذْنِ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ فَهُوَ اخْتِيَارٌ لِلْفِدَاءِ وَعَلَيْهِ الدِّيَةُ وَفِي الْإِمْلَاءِ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ

(8/420)


إجَازَةَ بَيْعِ الْعَبْدِ بَعْدَ جِنَايَتِهِ فِي يَدِهِ لَيْسَ بِاخْتِيَارٍ لِلْفِدَاءِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَيُقَالُ لِلْمُشْتَرِي ادْفَعْ أَوْ رُدَّ وَفِي التَّجْرِيدِ وَأَطْلَقَ فِي الْعِتْقِ فَشَمِلَ مَا إذَا أَعْتَقَ أَوْ أَمَرَ بِهِ قَالَ وَلَوْ أَمَرَ الْمَوْلَى الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ بِإِعْتَاقِهِ فَأَعْتَقَهُ صَارَ الْمَوْلَى مُخْتَارًا عَبْدٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ جَنَى جِنَايَتَيْنِ فَشَهِدَ أَحَدُ الْمَوْلَيَيْنِ عَلَى صَاحِبِهِ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ وَلَوْ بَالِغًا حِينَ شَهِدَ بِهَذَا فَعَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ وَعَلَى الْآخَرِ نِصْفُ الْقِيمَةِ وَفِيهِ رَجُلٌ وَرِثَ عَبْدًا أَوْ اشْتَرَاهُ فَجَنَى جِنَايَةً وَزَعَمَ الْمَوْلَى بَعْدَ جِنَايَتِهِ أَنَّ الَّذِي بَاعَهُ إيَّاهُ كَانَ أَعْتَقَهُ قَبْلَ الْبَيْعِ أَوْ إنَّ أَبَاهُ كَانَ أَعْتَقَهُ فَإِنَّهُ مُخْتَارٌ لِلْفِدَاءِ بِهَذَا الْقَوْلِ.

وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ إذَا قَتَلْت فُلَانًا أَوْ أَدْمَيْتَهُ أَوْ شَجَجْتَهُ أَوْ ضَرَبْتَهُ فَأَنْت حُرٌّ يَصِيرُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ وَفِي الْكَافِي يَكُونُ عَلَى الْمَوْلَى دِيَةُ الْقَتِيلِ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ وَفِي الْكَافِي وَقَالَ زُفَرُ لَا يَصِيرُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ وَعَلَيْهِ قِيمَةُ الْعَبْدِ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ خواهر زاده هَذَا إذَا عَلَّقَ الْعِتْقَ بِضَرْبٍ يُوجِبُ الضَّمَانَ حَتَّى يَكُونَ الْمَوْلَى يُخَيَّرُ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ.
وَأَمَّا إذَا عَلَّقَ الْعِتْقَ بِضَرْبٍ يُوجِبُ الْقِصَاصَ بِأَنْ قَالَ إنْ ضَرَبْت فُلَانًا بِالسَّيْفِ فَأَنْت حُرٌّ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْمَوْلَى شَيْءٌ لَا الْقِيمَةُ وَلَا الْفِدَاءُ وَفِيهِ رَجُلٌ أَذِنَ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ فَلَحِقَهُ دَيْنٌ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ وَجَنَى جِنَايَةً فَأَعْتَقَهُ الْمَوْلَى وَهُوَ لَا يَعْلَمُ فَإِنَّ عَلَيْهِ قِيمَتَيْنِ قَتَلَ الْعَبْدُ الْمَرْهُونُ رَجُلًا خَطَأً وَقِيمَتُهُ مِثْلُ الدَّيْنِ فَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَفْدِيَ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ فَإِنْ قَالَ لَا أَفْدِي كَانَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَدْفَعَ بِالْجِنَايَةِ فَإِنْ أَعْتَقَهُ كَانَ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ وَفِي الْكَافِي وَلَوْ أَقَرَّ مَوْلَى الْجِنَايَةِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْجِنَايَةِ أَنَّ الْعَبْدَ لِهَذَا فَهُوَ اخْتِيَارٌ لِلْفِدَاءِ عِنْدَ زُفَرَ وَعِنْدَنَا لَا يَكُونُ مُخْتَارًا وَفِي السِّغْنَاقِيِّ وَلَوْ أَنَّ عَبْدًا فِي يَدِ رَجُلٍ جَنَى جِنَايَةً فَقَالَ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ هُوَ عَبْدُك وَقَالَ الرَّجُلُ هُوَ وَدِيعَةٌ عِنْدِي لِفُلَانٍ أَوْ عَارِيَّةٌ أَوْ إجَارَةٍ أَوْ رَهْنٌ فَإِنْ أَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً أَجَزْت الْأَمْرَ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يُقِمْ خُوطِبَ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ وَقَالَ زُفَرُ مُخْتَارُ الدِّيَةِ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ إنَّهُ لِفُلَانٍ فَإِنْ فَدَاهُ ثُمَّ قَدِمَ الْغَائِبُ أَخَذَهُ عَبْدُهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَإِنْ كَانَ دَفَعَهُ فَالْغَائِبُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَمْضَى ذَلِكَ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْعَبْدَ وَدَفَعَ الْأَرْشَ وَفِي الْمُنْتَقَى عَبْدٌ قَتَلَ قَتِيلًا وَقَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ بِذَلِكَ ثُمَّ أَقَرَّ الْمَوْلَى أَنَّهُ قَتَلَ قَتِيلًا آخَرَ فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِدَفْعِهِ إلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ ثُمَّ يَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهِ لِصَاحِبِ الْبَيِّنَةِ. الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَجُلٌ أَقَرَّ أَنَّ عَبْدَهُ قَتَلَ رَجُلًا خَطَأً ثُمَّ أَقَرَّ عَلَيْهِ أَيْضًا بِرَجُلٍ آخَرَ أَنَّهُ قَتَلَهُ خَطَأً يُقَالُ لِلْمَوْلَى ادْفَعْ عَبْدَك لِلْأَوَّلِ خَاصَّةً أَوْ افْدِهِ فَإِنْ دَفَعَهُ فَلَا شَيْءَ لِلْآخَرِ.
وَإِنْ فَدَاهُ مِنْ الْأَوَّلِ قِيلَ لَهُ ادْفَعْ إلَى الْآخَرِ نَصِيبَهُ أَوْ افْدِهِ بِنِصْفِ الدِّيَةِ وَرَوَى ابْنُ مَالِكٍ أَنَّهُ يُقَالُ لِلْمَوْلَى ادْفَعْهُ إلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ فَإِنْ دَفَعَهُ غَرِمَ الْأَوَّلُ نِصْفَ قِيمَتِهِ وَإِنْ قَالَ أَنَا أَفْدِيهِ مِنْ الْآخَرِ دَفَعَهُ كُلَّهُ إلَى الْأَوَّلِ فَإِنْ قَالَ أَفْدِيهِ مِنْ الْأَوَّلِ دَفَعَ نِصْفَهُ إلَى الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَذَكَرَ الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْهُ أَنَّهُ إذَا دَفَعَ نِصْفَهُ إلَى الثَّانِي فَهُوَ مُخْتَارُ الدِّيَةِ مِنْ الْأَوَّلِ رَجُلٌ فِي يَدَيْهِ عَبْدٌ لَا يَدْرِي أَنَّهُ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ لَمْ يَدَّعِ صَاحِبُ الْيَدِ أَنَّهُ لَهُ وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْ الْعَبْدِ إقْرَارَهُ أَنَّهُ عَبْدُ صَاحِبِ الْيَدِ إلَّا أَنَّهُ يُقِرُّ بِأَنَّهُ عَبْدٌ فَجَنَى هَذَا الْعَبْدُ جِنَايَةً وَثَبَتَ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِإِقْرَارِ صَاحِبِ الْيَدِ ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْيَدِ أَقَرَّ أَنَّهُ عَبْدُ رَجُلٍ وَصَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ بِذَلِكَ وَكَذَّبَهُ فِي الْجِنَايَةِ فَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ بِبَيِّنَةٍ قِيلَ لِلْمُقَرِّ لَهُ ادْفَعْ أَوْ افْدِهِ وَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ بِإِقْرَارِ الَّذِي كَانَ الْعَبْدُ فِي يَدِهِ أَخَذَ الْمُقَرُّ لَهُ الْعَبْدَ بَطَلَتْ الْجِنَايَةُ وَلَمْ يَكُنْ عَلَى الْمُقِرِّ مِنْ الْجِنَايَةِ شَيْءٌ وَفِيهِ أَيْضًا عَبْدٌ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ خَطَأً فَبَرَأَتْ فَدَفَعَهُ مَوْلَاهُ بِجِنَايَتِهِ ثُمَّ انْتَقَضَ الْجُرْحُ فَمَاتَ مِنْهُ قَالَ يَدْفَعُ قِيمَةَ عَبْدِهِ وَفِي الْعُيُونِ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي عَبْدٍ قَطَعَ أُصْبُعَ رَجُلٍ خَطَأً فَفَدَاهُ الْمَوْلَى بِأَلْفٍ ثُمَّ مَاتَ الْمَقْطُوعُ أُصْبُعُهُ كَانَ ذَلِكَ الْفِدَاءُ بَاطِلًا وَكَانَ عَلَيْهِ تَمَامُ الدِّيَةِ إنْ كَانَ الْفِدَاءُ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أُعْتِقَ وَهُوَ يَعْلَمُ وَفِي الْكَافِي رَجُلٌ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ عَمْدًا فَصَالَحَ الْمَقْطُوعَةُ يَدُهُ عَلَى عَبْدٍ وَدَفَعَ إلَيْهِ فَأَعْتَقَهُ الْمَقْطُوعُ يَدُهُ ثُمَّ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَالْعَبْدُ صَلَحَ بِالْجِنَايَةِ وَإِنْ لَمْ يُعْتِقْهُ رُدَّ عَلَى مَوْلَاهُ.
وَقِيلَ لِلْأَوْلِيَاءِ إمَّا أَنْ تَقْتُلُوهُ وَإِمَّا أَنْ تَعْفُوا وَفِي النَّوَادِرِ عَبْدٌ جَنَى فَأَقَرَّ ابْنُ السَّيِّدِ أَنَّهُ حُرٌّ فَمَاتَ السَّيِّدُ فَوَرِثَهُ هَذَا الِابْنُ فَهُوَ حُرٌّ وَعَلَى الِابْنِ الدِّيَةُ جَارِيَةٌ جَنَتْ وَهِيَ حَامِلٌ فَأَعْتَقَ السَّيِّدُ مَا فِي بَطْنِهَا وَهُوَ يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ صَارَ مُخْتَارًا قَبْلَ أَنْ تَضَعَ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِالْجِنَايَةِ فَإِنْ حَضَرَ الطَّالِبُ قَبْلَ الْوَضْعِ خُيِّرَ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمَوْلَى قِيمَتَهَا حَامِلًا وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهَا حَامِلًا بِجِنَايَتِهَا وَكَانَ وَلَدُهَا حُرًّا وَإِنْ حَضَرَ بَعْدَ مَا وَلَدَتْ خُيِّرَ الْمَوْلَى إنْ شَاءَ دَفَعَ وَإِنْ شَاءَ فَدَى وَلَا سَبِيلَ عَلَى الْوَلَدِ وَفِي نَوَادِرِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ إذَا أَعْتَقَ الرَّجُلُ مَا فِي

(8/421)


بَطْنِ جَارِيَتِهِ ثُمَّ جَنَتْ جِنَايَةً فَدَفَعَهَا بِالْجِنَايَةِ جَازَ وَفِي الْعُيُونِ أَيْضًا بَاعَ جَارِيَةً فَوَلَدَتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَجَنَى عَلَى الْوَلَدِ ثُمَّ ادَّعَاهُ الْبَائِعُ وَهُوَ يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ لِأَصْحَابِ الْجِنَايَةِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَيْهِ الْقِيمَةُ دُونَ الدِّيَةِ وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَفِيهِ أَيْضًا جَارِيَةٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَوَلَدَتْ وَلَدَهَا فَإِنْ ادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا وَهُوَ عَالِمٌ بِالْجِنَايَةِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ الدِّيَةُ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ قَالَ زُفَرُ إذَا عَلِمَ فَعَلَيْهِ نِصْفُ الْقِيمَةِ وَفِي الْعُيُونِ جَارِيَةٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَجَنَى الْوَلَدُ جِنَايَةً فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا فَإِنْ عَلِمَ بِالْجِنَايَةِ فَعَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَعَلَيْهِ نِصْفُ الْقِيمَةِ وَهَذَا قَوْلُ زُفَرَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ عَلِمَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ قَالَ لِعَبْدَيْهِ أَحَدُكُمَا حُرٌّ ثُمَّ جَنَى أَحَدُهُمَا ثُمَّ صَرَفَ الْمَوْلَى الْعِتْقَ إلَيْهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ إنْ عَلِمَ بِالْجِنَايَةِ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ وَقَالَ زُفَرُ عَلَيْهِ الْقِيمَةُ وَفِي الظَّهِيرِيَّةِ وَلَوْ جَنَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ الْإِيجَابِ ثُمَّ بَيَّنَ الْعِتْقَ فِي أَحَدِهِمَا عَتَقَ وَلَزِمَهُ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدِّيَةِ وَبَقِيَ الْآخَرُ مُلْكًا لَهُ يُقَالُ ادْفَعْهُ أَوْ افْدِهِ بِالدِّيَةِ وَلَا يَصِيرُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ وَلَكِنْ لَوْ كَانَتْ جِنَايَةُ أَحَدِهِمَا قَطْعَ يَدِ رَجُلٍ وَجِنَايَةُ الْآخَرِ قَتْلَ نَفْسٍ لَا يَخْتَلِفُ الْجَوَابُ وَفِي التَّجْرِيدِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ إذَا غَصَبَ رَجُلٌ عَبْدًا فَقَتَلَ عِنْدَهُ قَتِيلًا خَطَأً وَرَدَّهُ عَلَى مَوْلَاهُ فَقَتَلَ عِنْدَهُ قَتِيلًا وَدَفَعَهُ الْمَوْلَى بِالْجِنَايَتَيْنِ رَجَعَ الْوَلِيُّ عَلَى الْغَاصِبِ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ وَدَفَعَ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى ثُمَّ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ فَيُسَلَّمُ لَهُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ يَأْخُذُ نِصْفَ الْقِيمَةِ فَيُسَلَّمُ لَهُ وَلَا يَدْفَعُهَا إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ عَبْدٌ جَنَى فَأَوْصَى الْمَوْلَى بِعِتْقِهِ فِي مَرَضِهِ فَأَعْتَقَهُ الْوَارِثُ أَوْ الْوَصِيُّ فَإِنَّ الْوَصِيَّ عَالِمًا بِالْجِنَايَةِ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ قَدْرُ قِيمَتِهِ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ وَالزِّيَادَةُ مِنْ الثُّلُثِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهَا تَجِبُ الْقِيمَةُ فِي مَالِ الْمَيِّتِ فِي قَوْلِ زُفَرَ وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّ الَّذِي أَعْتَقَ هَلْ يَضْمَنُ وَمَاذَا يَضْمَنُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ إنْ عَلِمَ الَّذِي أَعْتَقَهُ بِالْجِنَايَةِ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ أَنْ يَكُونَ هَذَا قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ.
أَمَّا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ الْآخَرِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ مِثْلَ قَوْلِ زُفَرَ كَمَا قَالَ فِي آخِرِ كِتَابِ الْبُيُوعِ لَوْ اشْتَرَى عَبْدًا وَلَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ حَتَّى وَكَّلَ وَكِيلًا بِعِتْقِهِ فَأَعْتَقَهُ الْوَكِيلُ لَا ضَمَانَ عَلَى الْوَكِيلِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا إذَا كَانَتْ الْوَصِيَّةُ بِالْعِتْقِ بَعْدَ مَا جَنَى أَمَّا إذَا أَوْصَى بِعِتْقِهِ قَبْلَ الْجِنَايَةِ ثُمَّ جَنَى فَمَاتَ الْمُوصِي فَأَعْتَقَهُ الْوَصِيُّ وَهُوَ يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِلْجِنَايَةِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَهُوَ ضَامِنُ الْقِيمَةِ وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْوَرَثَةِ إذَا وَكَّلَ رَجُلَيْنِ بِعِتْقِ عَبْدِهِ ثُمَّ إنَّ الْعَبْدَ جَنَى جِنَايَةً ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْوَكِيلُ وَهُوَ يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ فَالْمَوْلَى ضَامِنٌ لِقِيمَةِ الْعَبْدِ إنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِالْجِنَايَةِ وَفِي الْمُنْتَقَى وَفِي نَوَادِرِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ إذَا أَوْصَى بِعِتْقِ عَبْدِهِ ثُمَّ مَاتَ وَقَدْ كَانَ أَوْصَى إلَى رَجُلٍ فَجَنَى الْعَبْدُ جِنَايَةً بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْوَصِيُّ وَهُوَ يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ فَهُوَ مُخْتَارُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَعَلَيْهِ الْقِيمَةُ وَفِي الظَّهِيرِيَّةِ وَلَوْ قَالَ لِعَبْدَيْهِ وَقِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفٌ أَحَدُكُمَا حُرٌّ ثُمَّ قَتَلَ أَحَدُهُمَا إنْسَانًا خَطَأً ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى قَبْلَ الْبَيَانِ وَهُوَ عَالِمٌ بِالْجِنَايَةِ عَتَقَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ وَيَسْعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ وَيَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى قِيمَةُ الْعَبْدِ الْجَانِي فَيُسْتَوْفَى مِنْ جَمِيعِ تَرِكَتِهِ وَلَا يَصِيرُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ بِالْمَوْتِ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ وَاحِدٍ مِنْ الْعَبْدَيْنِ وَفِي التَّجْرِيدِ وَلَوْ قُتِلَ الْعَبْدُ الْمَغْصُوبُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ وَمَاتَ وَقَدْ كَانَ جَنَى قَبْلَ الْغَصْبِ جِنَايَاتٍ فَالْقِيمَةُ لِأَصْحَابِ الْجِنَايَاتِ وَلَا خِيَارَ لِلْمَوْلَى فِي ذَلِكَ.
وَلَا يَجُوزُ إقْرَارُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ وَلَا يَسْعَى بَعْدَ الْعِتْقِ وَلَوْ أَقَرَّ بَعْدَ الْعِتْقِ أَنَّهُ كَانَ جَنَى فِي حَالَةِ الرِّقِّ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ وَلَوْ قَتَلَ الْعَبْدُ قَتِيلًا خَطَأً ثُمَّ قُطِعَتْ يَدُ الْعَبْدِ ثُمَّ آخَرَ خَطَأً فَأَرْشُ يَدِهِ يُسَلَّمُ لِأَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ الْأُولَى ثُمَّ يَدْفَعُهُ الْعَبْدُ فَيَكُونُ بَيْنَ وَلِيِّ الْجِنَايَتَيْنِ وَلَوْ اخْتَلَفَ الْمَوْلَى وَوَلِيُّ الْجِنَايَةِ فَادَّعَى الْمَوْلَى أَنَّ الْقَتْلَ كَانَ قَبْلَ الْجِنَايَةِ وَادَّعَى وَلِيُّ الْجِنَايَةِ أَنَّهُ كَانَ بَعْدَهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَلِيِّ وَلَوْ شَجَّ إنْسَانًا مُوضِحَةً وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ ثُمَّ قَالَ قَتَلَ آخَرَ وَقِيمَتُهُ أَلْفَانِ فَإِنَّ الْمَوْلَى يَدْفَعُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَحَدٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا لِصَاحِبِ الْمُوضِحَةِ سَهْمٌ وَعِشْرُونَ لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ عَمِيَ بَعْدَ الْقَتْلِ قَبْلَ الشَّجَّةِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فَهُوَ عَلَى الشَّرِكَةِ وَفِي الْعُيُونِ إذَا أَوْصَى بِعِتْقِ عَبْدٍ لَهُ فَجَنَى الْعَبْدُ جِنَايَةً أَرْشِهَا دِرْهَمٌ فَقَالَتْ الْوَرَثَةُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي لَا نَفْدِي فَلَهُمْ ذَلِكَ فَإِذَا تَرَكُوا الْفِدَاءَ يُدْفَعُ بِالْجِنَايَةِ وَتَبْطُلُ بِالْوَصِيَّةِ إلَّا أَنْ يُؤَدِّيَ الْعَبْدُ مِنْ غَيْرِ مَا اكْتَسَبَهُ بِأَنْ يَقُولَ لِلْإِنْسَانِ أَدِّ عَنِّي دِرْهَمًا فَفَعَلَ يَصِحُّ وَيَصِيرُ ذَلِكَ الدِّرْهَمُ دَيْنًا عَلَى الْعَبْدِ يُطَالَبُ بِهِ إذَا عَتَقَ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلَوْ عَالِمًا بِهَا لَزِمَهُ الْأَرْشُ كَبَيْعِهِ وَتَعْلِيقِ عِتْقِهِ بِقَتْلِ فُلَانٍ وَرَمْيِهِ وَشَجِّهِ إنْ

(8/422)


فَعَلَ ذَلِكَ) يَعْنِي لَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَالِمًا بِالْجِنَايَةِ صَارَ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ بِهَذَا الْعِتْقِ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ يَمْنَعُ مِنْ الدَّفْعِ فَالْإِقْدَامُ عَلَيْهِ اخْتِيَارٌ فَإِذَا أَعْتَقَهُ وَهُوَ يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ صَارَ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ لِمَا قُلْنَا وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ كَبَيْعِهِ يَعْنِي لَوْ بَاعَهُ عَالِمًا بِالْجِنَايَةِ وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ الْهِبَةُ وَالتَّدْبِيرُ وَالِاسْتِيلَادُ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمْنَعُ مِنْ الدَّفْعِ لِزَوَالِ الْمِلْكِ وَالتَّمْلِيكِ بِهِ بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ لِغَيْرِهِ بِالْعَبْدِ الْجَانِي عَلَى رِوَايَةِ الْأَصْلِ لِأَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِهِ حَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ فَإِنَّ الْمُقَرَّ لَهُ يُخَاطَبُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ.
وَلَيْسَ فِيهِ نَقْلُ الْمِلْكِ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ مِنْ جِهَةِ الْمُقِرِّ وَإِنَّمَا إظْهَارُ الْحَقِّ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا بِذَلِكَ فَإِذَا لَمْ يَصِرْ مُخْتَارًا لَا يَلْزَمُهُ الْفِدَاءُ وَتَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ عَنْهُ إنْ أَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهُ لِلْمُقَرِّ لَهُ وَإِنْ لَمْ تَقُمْ فَيُقَالُ لَهُ إمَّا أَنْ تَفْدِيَهُ أَوْ تَدْفَعَهُ فَإِنْ فَدَاهُ صَارَ مُتَطَوِّعًا بِالْفِدَاءِ حَتَّى لَا يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الْمُقَرِّ لَهُ إذَا حَضَرَ وَصَدَّقَهُ أَنَّهُ لَهُ وَإِنْ دَفَعَهُ كَانَ الْمُقَرُّ لَهُ بِالْخِيَارِ إذَا حَضَرَ إنْ شَاءَ أَجَازَ دَفْعَهُ وَإِنْ شَاءَ فَدَاهُ وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا الْمَعْنَى بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ فِي نَفْسٍ أَوْ فِي الْأَطْرَافِ لِأَنَّ الْكُلَّ مُوجِبٌ لِلْفِدَاءِ فَلَا يَخْتَلِفُ وَكَذَا لَا فَرْقَ فِي الْبَيْعِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ بَتًّا وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ خِيَارُ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ الْكُلَّ يُزِيلُ الْمِلْكَ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ ثُمَّ نَقَضَهُ أَوْ الْعَرْضُ عَلَى الْبَيْعِ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَمْ يَزُلْ بِهِ وَلَا يُقَالُ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إذَا بَاعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لَهُ يَصِيرُ مُخْتَارًا لِلْإِجَازَةِ بِهِ فَوَجَبَ هُنَا أَنْ يَكُونَ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ لِأَنَّا نَقُولُ لَوْ لَمْ يَكُنْ الْمُشْتَرِي مُخْتَارًا لَلَزِمَ مِنْهُ مِلْكُ غَيْرِهِ وَهُنَا لَا يَلْزَمُ وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ فِي الْبَيْعِ بَيْعُ الْغَرَرِ وَهُنَا لَا يَلْزَمُ وَلَوْ بَاعَهُ بَيْعًا فَاسِدًا لَمْ يَصِرْ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ حَتَّى يُسَلِّمَهُ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يَزُولُ إلَّا بِهِ بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ حَيْثُ يَكُونُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ بِهَا لِأَنَّ حُكْمَ الْكِتَابَةِ تَعَلُّقُ الْعِتْقِ بِأَدَاءِ الْمَالِ وَفَكِّ الْحَجْرِ عَنْ الْعَبْدِ فِي الْحَالِ وَهُوَ ثَابِتٌ بِنَفْسِ الْكِتَابَةِ وَلَا كَذَلِكَ الْبَيْعُ الْفَاسِدُ لِأَنَّ حُكْمَهُ وَهُوَ الْمِلْكُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالْقَبْضِ وَلَوْ كَانَتْ الْكِتَابَةُ صَحِيحَةً ثُمَّ عَجَزَ كَانَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ بِالْجِنَايَةِ.
فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ وَبَعْدَهَا لَا يَدْفَعُهُ لِتَقَرُّرِ الْقِيمَةِ بِالْقَضَاءِ وَلَوْ بَاعَهُ مِنْ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ كَانَ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ بِخِلَافِ مَا إذَا وَهَبَهُ مِنْهُ لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ لَهُ أَخْذُهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَهُوَ مُتَحَقِّقٌ فِي الْهِبَةِ دُونَ الْبَيْعِ وَإِعْتَاقُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بِأَمْرِ الْمَوْلَى بِمَنْزِلَةِ إعْتَاقِ الْمَوْلَى فِيمَا ذَكَرْنَا لِأَنَّ فِعْلَ الْمَأْمُورِ بِهِ يَنْتَقِلُ إلَى الْآمِرِ وَلَوْ ضَرَبَهُ فَنَقَصَهُ كَانَ مُخْتَارًا بَعْدَ الْعِلْمِ لِأَنَّهُ جِنْسُ جُزْءٍ مِنْهُ فَإِنْ أَزَالَ النُّقْصَانَ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِالْقِيمَةِ كَانَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ بِهَا لِزَوَالِ الْمَانِعِ مِنْ الدَّفْعِ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الْقِيمَةِ وَيَصِيرُ مُخْتَارًا بِالْإِجَارَةِ وَالرَّهْنِ فِي رِوَايَةِ كِتَابِ الْإِعْتَاقِ لِأَنَّهُمَا لَازِمَانِ فَيَكُونُ مُحْدِثًا فِيهِ مَا يَعْجِزُ عَنْ الدَّفْعِ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُخْتَارًا بِهِمَا لِلْفِدَاءِ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْجِزْهُ عَنْ الدَّفْعِ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ وَالرَّهْنَ لِحَقِّ الْمَجْنِيِّ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِ بِعَيْنِ الْعَبْدِ سَابِقًا عَلَى حَقِّهِمَا فَيُفْسَخَانِ صَوْنًا لِحَقِّهِ عَنْ الْبُطْلَانِ وَكَذَا لَا يَصِيرُ مُخْتَارًا بِالْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ وَإِنْ رَكِبَهُ دَيْنٌ لِأَنَّ الْإِذْنَ لَا يُفَوِّتُ الدَّفْعَ وَلَا يُنْقِصُ الرَّقَبَةَ إلَّا أَنَّ لِمَوْلَى الْجِنَايَةِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الْقَبُولِ لِأَنَّ الدَّيْنَ لِحَقِّهِ مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى بَعْدَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّهُ فَلَزِمَ الْمَوْلَى قِيمَتُهُ وَلَوْ جَنَى جِنَايَتَيْنِ فَعَلِمَ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْأُخْرَى وَتَصَرَّفَ بِهِ تَصَرُّفًا يَصِيرُ بِهِ تَصَرُّفًا مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ فِيمَا عُلِمَ وَفِيمَا لَا يُعْلَمُ يَلْزَمُهُ حِصَّتُهُ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ.
وَقَوْلُهُ كَبَيْعِهِ وَتَعْلِيقِ عِتْقِهِ بِقَتْلِ فُلَانٍ أَوْ رَمْيِهِ وَشَجِّهِ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَيْ يَصِيرُ مُخْتَارًا بِبَيْعِهِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهَا وَبِتَعْلِيقِ عِتْقِهِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْقَتْلِ وَالرَّمْيِ وَالشَّجِّ يَصِيرُ مُخْتَارًا كَمَا يَصِيرُ مُخْتَارًا بِالْإِعْتَاقِ بَعْدَ الْإِعْلَامِ بِهَا وَإِنَّمَا يَصِيرُ مُخْتَارًا بِالتَّعْلِيقِ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ وَقَالَ زُفَرُ لَا يَصِيرُ مُخْتَارًا كَمَا لَا يَصِيرُ مُخْتَارًا بِالْإِعْتَاقِ بَعْدَ الْإِعْلَامِ بِهَا وَإِنَّمَا يَصِيرُ مُخْتَارًا بِمَا ذَكَرْنَا لِأَنَّ أَوَانَ تَكَلُّمِهِ بِهِ لَا جِنَايَةَ مِنْ الْعَبْدِ وَلَا عِلْمَ لِلْمَوْلَى بِمَا سَيُوجَدُ بَعْدُ وَبَعْدَ الْجِنَايَةِ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ فِعْلٌ يَصِيرُ بِهِ مُخْتَارًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ أَوْ الْعَتَاقَ بِالشَّرْطِ ثُمَّ حَلَفَ أَنْ لَا يُطَلِّقَ أَوْ لَا يُعْتِقَ ثُمَّ وُجِدَ الشَّرْطُ وَثَبَتَ الْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ لَا يَحْنَثُ بِذَلِكَ فِي يَمِينِهِ فَكَذَا هَذَا وَلَنَا أَنَّهُ عَلَّقَ الْإِعْتَاقَ بِالْجِنَايَةِ وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ يُنَزَّلُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَالْمُنَجَّزِ عِنْدَهُ فَصَارَ كَمَا إذَا أَعْتَقَهُ بَعْدَ الْجِنَايَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إذَا دَخَلْت الدَّارَ فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ يَصِيرُ ابْتِدَاءُ الْإِيلَاءِ مِنْ وَقْتِ الدُّخُولِ وَكَذَا إنْ قَالَ لَهَا إذَا مَرِضْت فَأَنْت طَالِقٌ ثَلَاثًا وَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ يَصِيرُ فَارًّا لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُطَلِّقًا بَعْدَ الدُّخُولِ وَوُجُودُ الْمَرَضِ بِخِلَافِ مَا أَوْرَدَهُ لِأَنَّ غَرَضَهُ طَلَاقٌ أَوْ عَتَاقٌ يُمْكِنُهُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَهُ مَا لَا يُمْكِنُهُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ وَلِأَنَّهُ حِرْصُهُ عَلَى مُبَاشَرَةِ الشَّرْطِ بِتَعْلِيقِ أَقْوَى الدَّوَاعِي إلَى الْقَتْلِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَفْعَلُهُ وَهَذَا دَلَالَةُ الِاخْتِيَارِ هَذَا إذَا عَلَّقَهُ بِجِنَايَةٍ تُوجِبُ الْمَالَ

(8/423)


كَالْخَطَأِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ وَإِنْ عَلَّقَهُ بِجِنَايَةٍ تُوجِبُ الْقِصَاصَ بِأَنْ قَالَ لَهُ إنْ ضَرَبْته بِالسَّيْفِ فَأَنْت حُرٌّ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى شَيْءٌ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالْحُرِّ فِي الْقِصَاصِ فَلَمْ يَكُنْ الْمَوْلَى مُفَوِّتًا حَقَّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ بِالْعِتْقِ وَبِكُلِّ قَتْلٍ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِيهِ يَصِيرُ الْمَوْلَى مُخْتَارًا كَالْقَتْلِ بِالْمُبَاشَرَةِ وَإِنْ لَمْ تَجِبْ الْكَفَّارَةُ فِيهِ لَا يَصِيرُ مُخْتَارًا وَهُوَ الْقَتْلُ تَسَبُّبًا كَمَا لَوْ وَقَعَ فِي بِئْرٍ حَفَرَهَا الْمَوْلَى لِأَنَّ الْقَتْلَ تَسَبُّبًا لَيْسَ بِقَتْلٍ حَقِيقَةً لِأَنَّ الْقَتْلَ فِعْلٌ فِي الْحُرِّ وَيُؤَثِّرُ فِي إزْهَاقِ الرُّوحِ وَالتَّسَبُّبُ لَيْسَ بِفِعْلٍ فِي الْحُرِّ لِأَنَّهُ لَمْ يُوصِلْ إلَّا إلَى الدِّيَةِ وَلِهَذَا لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ وَلَا يَحْرُمُ الْإِرْثُ فَلَمْ يَصِرْ مُتَمَلِّكًا لِلْعَبْدِ وَبِالْقَتْلِ مُبَاشَرَةً صَارَ مُسْتَدْعِيًا لِلْعَمْدِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ صَارَ مُتْلِفًا لِلْعَبْدِ يَضْمَنُ الْفِدَاءَ لِمَا بَيَّنَّا.
وَلَوْ أَخْبَرَهُ عَبْدُهُ بِالْجِنَايَةِ فَأَعْتَقَهُ الْمَوْلَى وَقَالَ لَمْ أُصَدِّقْهُ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَضْمَنُ مَا لَمْ يُخْبِرْهُ رَجُلٌ حُرٌّ عَدْلٌ وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ الدِّيَةَ وَإِنْ كَانَ الْمُخْبِرُ فَاسِقًا أَوْ كَافِرًا وَقَدْ مَرَّتْ فِي الْوَكَالَةِ وَالشُّفْعَةِ وَلَوْ بِهِ لِغَيْرِهِ فَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ إمَّا أَنْ أَقَرَّ بِالْجِنَايَةِ أَوَّلًا ثُمَّ بِالْمِلْكِ أَوْ عَلَى عَكْسِهِ وَكُلُّ قِسْمٍ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمِلْكُ فِي الْعَبْدِ مَعْرُوفًا لِلْمُقِرِّ أَوْ كَانَ مَجْهُولًا أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّل لَوْ أَقَرَّ بِالْجِنَايَةِ ثُمَّ بِالْمِلْكِ لِغَيْرِهِ وَالْمِلْكُ فِي الْعَبْدِ مَعْرُوفٌ لِلْمُقِرِّ فَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ فِي الْمِلْكِ وَالْجِنَايَةِ جَمِيعًا يُقَالُ لِلْمُقَرِّ لَهُ ادْفَعْ الْعَبْدَ أَوْ افْدِهِ لِأَنَّهُ صَحَّ الْإِقْرَارُ لِأَنَّ حَقَّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لَا يَمْنَعُ نُفُوذَ تَصَرُّفِ الْمَوْلَى لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الدَّافِعِ أَوْ الْفِدَاءِ وَهُوَ بَاقٍ بَعْدَ الْإِقْرَارِ وَالثَّابِتُ بِالْإِقْرَارِ كَالثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ الْعَادِلَةِ وَمَتَى ظَهَرَ الْمِلْكُ لِلْمُقَرِّ لَهُ بِالْإِقْرَارِ ظَهَرَ أَنَّ الْجِنَايَةَ صَدَرَتْ مِنْ مِلْكِهِ وَإِنْ كَانَ كَذَّبَهُ فِيهَا لَا يَكُونُ الْمُقِرُّ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ خِلَافًا لِزُفَرَ لَهُ أَنَّ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى تَصْدِيقِ الْمُقَرِّ لَهُ وَلِهَذَا لَوْ مَاتَ الْمُقِرُّ قَبْلَ التَّصْدِيقِ يَصِيرُ الْمُقَرُّ بِهِ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ فَقَدْ زَالَ الْعَبْدُ عَنْ مِلْكِهِ بِنَفْسِ الْإِقْرَارِ وَهُوَ عَالِمٌ بِالْجِنَايَةِ فَيَصِيرُ مُخْتَارًا وَلَنَا أَنَّ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ لَا تُوجِبُ عَلَى التَّصْدِيقِ وَالْبُطْلَانُ يَتَوَقَّفُ عَلَى التَّكْذِيبِ وَإِذَا اتَّصَلَ بِهِ التَّكْذِيبُ بَطَلَ مِنْ الْأَصْلِ فَلَوْ صَدَّقَهُ فِي الْمِلْكِ وَكَذَّبَهُ فِي الْجِنَايَةِ صَارَ الْمُقِرُّ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْجِنَايَةِ عَلَى الْعَبْدِ صَادَفَ مِلْكَهُ فِي الْعَبْدِ فَصَحَّ.
ثُمَّ إذَا أَقَرَّ بِالْمِلْكِ لِغَيْرِهِ وَصَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ صَارَ مُزِيلًا لِلْعَبْدِ عَنْ مِلْكِهِ فَصَارَ كَمَا لَوْ بَاعَهُ أَوْ وَهَبَهُ وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي لَوْ أَقَرَّ بِالْمِلْكِ أَوَّلًا ثُمَّ بِالْجِنَايَةِ إنْ صَدَّقَهُ فِيهِمَا فَالْخَصْمُ هُوَ الْمُقَرُّ لَهُ وَإِنْ كَذَّبَهُ فِيهِمَا فَالْخَصْمُ هُوَ الْمُقِرُّ وَإِنْ صَدَّقَهُ فِي الْمِلْكِ وَكَذَّبَهُ فِي الْجِنَايَةِ هُدِرَتْ الْجِنَايَةُ لِأَنَّهُ لَمَّا صَدَّقَهُ الْمُقِرُّ فِي الْمِلْكِ ظَهَرَ أَنَّ إقْرَارَهُ بِجِنَايَةِ الْعَبْدِ صَادِقٌ فَلَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالْجِنَايَةِ مَتَى كَذَّبَهُ الْمُقِرُّ لَهُ فَلَمْ تَثْبُتْ الْجِنَايَةُ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْعَبْدُ مَجْهُولًا لَا يَدْرِي أَنَّهُ لِلْمُقِرِّ أَمْ لِغَيْرِهِ فَأَقَرَّ بِالْجِنَايَةِ أَوَّلًا ثُمَّ بِالْمِلْكِ أَوْ بِالْمِلْكِ أَوَّلًا ثُمَّ بِالْجِنَايَةِ لِأَنَّ الْمِلْكَ ثَابِتٌ لِلْمُقِرِّ بِظَاهِرِ الْيَدِ لَا يَسْتَنِدُ إلَى دَلِيلٍ وَالْمِلْكُ الثَّابِتُ بِظَاهِرِ الْيَدِ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ وَاخْتِيَارِ الْفِدَاءِ فَلَمْ يَصِرْ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ الْمِلْكُ لَهُ مَعْرُوفًا لِأَنَّ مِلْكَهُ ثَابِتٌ مُسْتَنِدٌ إلَى دَلِيلٍ سِوَى ظَاهِرِ الْيَدِ فَصَلُحَ حُجَّةً لِإِثْبَاتِ مَا لَمْ يَكُنْ وَلَوْ قَالَ كُنْت بِعْته مِنْ فُلَانٍ قَبْلَ الْجِنَايَةِ وَصَدَّقَهُ فُلَانٌ يُخَيَّرُ الْمُشْتَرِي بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ لِأَنَّهُ ثَبَتَ الْمِلْكُ بِتَصَادُقِهِمَا.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (عَبْدٌ قَطَعَ يَدَ حُرٍّ عَمْدًا وَدَفَعَ إلَيْهِ فَحَرَّرَهُ فَمَاتَ مِنْ الْيَدِ فَالْعَبْدُ صَلُحَ بِالْجِنَايَةِ وَإِنْ لَمْ يُحَرِّرْهُ رُدَّ عَلَى سَيِّدِهِ وَيُقَادُ) لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُعْتِقْهُ وَسَرَى ظَهَرَ أَنَّ الصُّلْحَ كَانَ بَاطِلًا لِأَنَّ الصُّلْحَ وَقَعَ عَلَى الْمَالِ وَهُوَ لِعَبْدٍ عَنْ دِيَةِ الْيَدِ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَجْرِي بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ فِي الْأَطْرَافِ وَبِالسِّرَايَةِ ظَهَرَ أَنَّ دِيَةَ الْيَدِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْقَوَدُ فَصَارَ الصُّلْحُ بَاطِلًا لِأَنَّ الصُّلْحَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُصَالَحٍ عَنْهُ.
وَالْمُصَالَحُ عَنْهُ الْمَالُ وَلَمْ يُوجَدْ فَبَطَلَ الصُّلْحُ وَالْبَاطِلُ لَا يُورِثُ شُبْهَةً كَمَا لَوْ وَطِئَ مُطَلَّقَتَهُ ثَلَاثًا فِي عِدَّتِهَا مَعَ الْعِلْمِ بِحُرْمَتِهَا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ فَكَذَا هَذَا فَوَجَبَ الْقِصَاصُ أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا أَرَادَ أَنَّ الْبُطْلَانَ لَا يُورِثُ الشُّبْهَةَ فِيمَا إذَا عُلِمَ بُطْلَانُهُ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِمَّا ذَكَرَهُ فِي نَظِيرِهِ حَيْثُ قَالَ فِيهِ مَعَ الْعِلْمِ بِحُرْمَتِهَا عَلَيْهِ فَهُوَ مُسْلِمٌ لَكِنْ لَا يُجْدِي نَفْعًا هَاهُنَا لِأَنَّ الدَّافِعَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْقَطْعَ يَسْرِي فَيَكُونُ مُوجِبُهُ الْقَوَدَ بَلْ ظَنَّ أَنْ لَا يَسْرِيَ وَكَانَ مُوجِبُهُ الْمَالَ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الْبَاطِلَ لَا يُورِثُ الشُّبْهَةَ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ بُطْلَانُهُ فَهُوَ مَمْنُوعٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا وَطِئَ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا فِي عِدَّتِهَا وَلَمْ يَعْلَمْ بِحُرْمَتِهَا عَلَيْهِ بَلْ ظَنَّ أَنَّهَا تَحِلُّ لَهُ فَإِنَّهُ يُورِثُ الشُّبْهَةَ فَيُدْرَأُ الْحَدُّ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ وَيُفْهَمُ أَيْضًا هَاهُنَا مِنْ قَوْلِهِ مَعَ الْعِلْمِ بِحُرْمَتِهَا عَلَيْهِ وَأَمَّا إذَا أَعْتَقَهُ فَقَدْ قَصَدَ صِحَّةَ الْإِعْتَاقِ ضَرُورَةً لِأَنَّ الْعَاقِلَ يَقْصِدُ تَصْحِيحَ تَصَرُّفِهِ وَلَا صِحَّةَ لَهُ إلَّا بِالصُّلْحِ عَنْ الْجِنَايَةِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا ابْتِدَاءً وَلِهَذَا لَوْ نَصَّ عَلَيْهِ وَرَضِيَ بِهِ جَازَ فَكَانَ مُصَالِحًا عَنْ الْجِنَايَةِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا عَلَى الْعَبْدِ مُقْتَضَى الْإِقْدَامِ عَلَى الْإِعْتَاقِ

(8/424)


وَالْمَوْلَى أَيْضًا مُصَالِحًا مَعَهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ رَاضِيًا بِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا رَضِيَ بِكَوْنِ الْعَبْدِ عِوَضًا عَنْ الْقَلِيلِ كَانَ رَاضِيًا بِكَوْنِهِ عِوَضًا عَنْ الْكَثِيرِ فَإِذَا أَعْتَقَهُ صَحَّ الصُّلْحُ فِي ضِمْنِ الْإِعْتَاقِ ابْتِدَاءً وَإِذَا لَمْ يُعْتِقْهُ لَمْ يُوجَدْ الصُّلْحُ ابْتِدَاءً وَالصُّلْحُ الْأَوَّلُ وَقَعَ بَاطِلًا فَيُرَدُّ الْعَبْدُ إلَى الْمَوْلَى وَالْأَوْلِيَاءُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءُوا عَفَوْا عَنْهُ وَإِنْ شَاءُوا قَتَلُوهُ.
وَذُكِرَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ رَجُلٌ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ عَمْدًا فَصَالَحَ الْمَقْطُوعَ يَدُهُ عَلَى عَبْدٍ وَدَفَعَهُ إلَيْهِ فَأَعْتَقَهُ الْمَقْطُوعُ يَدُهُ ثُمَّ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَالْعَبْدُ صُلْحٌ بِالْجِنَايَةِ وَإِنْ لَمْ يُعْتِقْهُ رُدَّ عَلَى مَوْلَاهُ وَقِيلَ لِلْأَوْلِيَاءِ إمَّا أَنْ تَقْتُلُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْهُ وَالْوَجْهُ مَا بَيَّنَّاهُ فَاتَّحَدَ الْحُكْمُ وَالْعِلَّةُ وَاخْتَلَفَا صُورَةً ثُمَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الصُّلْحِ تَرُدُّ إشْكَالًا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا إذَا عَفَا عَنْ الْيَدِ ثُمَّ سَرَى إلَى النَّفْسِ وَمَاتَ حَيْثُ يَبْطُلُ الْعَفْوُ وَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ هُنَاكَ وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَالَ يَبْطُلُ الصُّلْحُ وَيَجِبُ الْقِصَاصُ فِيمَا إذَا لَمْ يُعْتَقْ الْعَبْدُ وَإِنْ أَعْتَقَهُ فَالصُّلْحُ بَاقٍ عَلَى حَالِهِ فَالْجَوَابُ أَمَّا إذَا لَمْ يُعْتِقْهُ فَقَدْ قِيلَ مَا ذُكِرَ فِي مَسْأَلَةِ الصُّلْحِ جَوَابُ الْقِيَاسِ وَمَا ذُكِرَ فِي مَسْأَلَةِ الصُّلْحِ جَوَابُ الِاسْتِحْسَانِ فَيَكُونَانِ عَلَى الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ وَقِيلَ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَوَجْهُهُ أَنَّ الصُّلْحَ عَنْ الْجِنَايَةِ عَلَى مَالٍ يُقَرِّرُ الْجِنَايَةَ وَلَا يُبْطِلُهَا لِأَنَّ الصُّلْحَ عَنْ الْجِنَايَةِ اسْتِيفَاءٌ لِلْجِنَايَةِ مَعْنًى بِاسْتِيفَاءِ بَدَلِهَا وَلِهَذَا تَعَيَّنَتْ الْجِنَايَةُ وَتُوَفِّرُ عَلَيْهِ عُقُوبَتَهَا وَهُوَ الْقِصَاصُ أَقُولُ: يَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِقَوْلِهِمْ الصُّلْحُ لَا يَبْطُلُ الْجِنَايَةُ بَلْ يُقَرِّرُهَا أَنَّ الصُّلْحَ لَا يُسْقِطُ مُوجِبَ الْجِنَايَةِ يُبْقِيهِ عَلَى حَالِهِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ كَيْفَمَا كَانَ وَقَدْ صَرَّحُوا فِي صَدْرِ كِتَابِ الْجِنَايَاتِ بِأَنَّ مُوجِبَ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْقَوَدُ إلَّا أَنْ يَعْفُوَ الْأَوْلِيَاءُ أَوْ يُصَالِحُوا فَقَدْ جَعَلُوا الصُّلْحَ كَالْعَفْوِ وَفِي إسْقَاطِ مُوجَبِ الْجِنَايَاتِ وَإِنْ أُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّ الصُّلْحَ لَا يُنَافِي ثُبُوتَ مُوجَبِ الْجِنَايَةِ فِي الْأَصْلِ بَلْ يُقَرِّرُ ذَلِكَ حَيْثُ وَقَعَ الصُّلْحُ عَنْهُ عَلَى مَالٍ وَأَنَّ سُقُوطَهُ بَعْدَ تَحَقُّقِ الصُّلْحِ فَهُوَ مُسَلَّمٌ لَكِنْ لَا يَتِمُّ حِينَئِذٍ قَوْلُهُمْ فَإِذَا لَمْ تَبْطُلْ الْجِنَايَةُ لَمْ يَمْنَعْ الْعُقُوبَةَ إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ بُطْلَانِ الْجِنَايَةِ بِمَعْنَى ثُبُوتِهَا فِي الْأَصْلِ عَدَمُ امْتِنَاعِ الْعُقُوبَةِ بَعْدَ تَحَقُّقِ الصُّلْحِ عَنْهَا كَمَا هُوَ الْحَالُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ بَلْ لَا يَتِمُّ حِينَئِذٍ الْفَرْقُ رَأْسًا بَيْنَ صُورَتَيْ الْغَدْرِ وَالصُّلْحِ.
وَالْعَفْوُ أَيْضًا لَا يُنَافِي فِي ثُبُوتِ مُوجِبِ الْجِنَايَةِ فِي الْأَصْلِ قَبْلَ الْعَفْوِ كَمَا لَا يَخْفَى وَأَمَّا الْعَفْوُ فَهُوَ مُعْدِمٌ لِلْجِنَايَةِ وَالْعَفْوِ عَنْ الْقَطْعِ وَإِنْ بَطَلَ بِالسِّرَايَةِ إلَى النَّفْسِ لَكِنْ بَقِيَتْ شُبْهَتُهُ لِوُجُودِ صُورَةِ الْعَفْوِ وَهِيَ كَافِيَةٌ لِدَرْءِ الْحَدِّ وَأَمَّا إذَا أَعْتَقَهُ فَجَوَابُهُ هُوَ الْفَرْقُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الْعِتْقَ يَحْصُلُ صُلْحًا ابْتِدَاءً بِخِلَافِ الْعَفْوِ وَعَلَى قَوْلِهِمَا أَيْضًا يُرَدُّ فِي الصُّورَتَيْنِ لِأَنَّهُمَا كَانَا يَجْعَلَانِ الْعَفْوَ عَنْ الْقَطْعِ عَفْوًا عَمَّا يَحْدُثُ مِنْهُ وَفِي الصُّلْحِ لَمْ يَجْعَلَا كَذَلِكَ بَلْ أَوْجَبَا الْقِصَاصَ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يُعْتِقْهُ وَجَعَلَاهُ صُلْحًا مُبْتَدَأً إذَا أَعْتَقَهُ وَقَدْ قَدَّمْنَا مَسَائِلَ سِرَايَةِ الْجُرْحِ فَلَا نُعِيدُهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (جَنَى مَأْذُونٌ مَدْيُونٌ خَطَأً فَحَرَّرَهُ سَيِّدُهُ بِلَا عِلْمٍ عَلَيْهِ قِيمَتَانِ قِيمَةٌ لِرَبِّ الدَّيْنِ وَقِيمَةٌ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ) لِأَنَّهُ أَتْلَفَ حَقَّيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَضْمُونٌ بِكُلِّ الْقِيمَةِ عَلَى الِانْفِرَادِ، الدَّفْعُ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ وَالْبَيْعَ عَلَى الْغُرَمَاءِ فَكَذَا عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقَّيْنِ أَيْضًا مِنْ الرَّقَبَةِ الْوَاحِدَةِ بِأَنْ يَدْفَعَ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ أَوَّلًا ثُمَّ يُبَاعُ لِلْغُرَمَاءِ فَيَضْمَنُهُمَا بِالتَّفْوِيتِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَتْلَفَهُ أَجْنَبِيٌّ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا حَيْثُ يَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ لِلْمَوْلَى بِحُكْمِ الْمِلْكِ فِي رَقَبَتِهِ فَلَا يَظْهَرُ حَقُّ الْفَرِيقَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مِلْكِ الْمَالِكِ لِأَنَّهُ دُونَ الْمِلْكِ فَصَارَ كَأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَقٌّ ثُمَّ الْغَرِيمُ أَحَقُّ بِتَمْلِيكِ الْقِيمَةِ لِأَنَّهَا مَالِيَّةُ الْعَبْدِ وَالْغَرِيمُ مُقَدَّمٌ فِي الْمَالِيَّةِ عَلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ ثُمَّ يُبَاعُ لِلْغَرِيمِ فَكَانَ مُقَدَّمًا مَعْنًى وَالْقِيمَةُ هِيَ الْمَعْنَى فَنُسَلِّمُ إلَيْهِ.
وَفِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ كَانَ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْحَقَّيْنِ وَهُمَا مُتَسَاوِيَانِ فَيَضْمَنُهُمَا فَيَظْهَرَانِ وَقُيِّدَ بِعَدَمِ الْعِلْمِ لِأَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَهُ وَهُوَ عَالِمٌ بِالْجِنَايَةِ كَانَ عَلَيْهِ الدِّيَةُ إذَا كَانَتْ الْجِنَايَةُ فِي النَّفْسِ لِأَوْلِيَائِهِ وَقِيمَةُ الْعَبْدِ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ بَعْدَ الْعِلْمِ مُوجِبُ الْأَرْشِ وَالْأَصْلُ أَنَّ الْعَبْدَ إذَا جَنَى وَعَلَيْهِ دَيْنٌ خُيِّرَ الْمَوْلَى بَيْنَ الدَّفْعِ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ وَالْفِدَاءِ فَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ دُفِعَ ثُمَّ يُبَاعُ فِي الدَّيْنِ فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَهُوَ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ لِأَنَّهُ بَدَلُ مِلْكِهِ وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ لَهُ وَإِنْ بَدَأَ بِالدَّفْعِ جَمْعًا بَيْنَ الْحَقَّيْنِ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ بَيْعُهُ بَعْدَ الدَّفْعِ وَلَوْ بَدَأَ بَيْعَهُ فِي الدَّيْنِ لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ بِالْجِنَايَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي جِنَايَةٌ وَلَا يُقَالُ لَا فَائِدَةَ فِي الدَّفْعِ إذَا كَانَ يُبَاعُ عَلَيْهِ لِأَنَّا نَقُولُ فَائِدَتُهُ ثُبُوتُ اسْتِخْلَاصِ الْعَبْدِ لِأَنَّ وَلِيَّ الْجِنَايَةِ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الِاسْتِخْلَاصِ وَلِلْإِنْسَانِ أَغْرَاضٌ فِي الْعَيْنِ فَإِذَا كَانَ الْوَاجِبُ هُوَ الدَّفْعُ فَلَوْ أَنَّ لِلْمَوْلَى دَفْعَهُ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ لَا يَضْمَنُ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّهُ فَعَلَ عَيْنَ مَا يَفْعَلُهُ

(8/425)


الْقَاضِي وَفِي الْقِيَاسِ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ لِوُجُودِ التَّمْلِيكِ كَمَا لَوْ بَاعَهُ أَوْ وَهَبَهُ وَلَوْ دَفَعَهُ إلَى أَصْحَابِ الدَّيْنِ صَارَ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ كَمَا لَوْ بَاعَهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ بَلْ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ الدَّفْعُ بِالْجِنَايَةِ أَوَّلًا وَلَوْ أَنَّ الْقَاضِيَ بَاعَهُ فِي الدَّيْنِ بِبَيِّنَةٍ قَامَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ حَضَرَ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ وَلَمْ يَفْضُلْ مِنْ الثَّمَنِ شَيْءٌ سَقَطَ حَقُّهُ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا تَلْزَمُهُ الْعُهْدَةُ فِيمَا فَعَلَ وَلَوْ فُسِخَ الْبَيْعُ وَدُفِعَ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ لَاحْتِيجَ إلَى بَيْعِهِ ثَانِيًا لِمَا ذَكَرْنَا فَلَا فَائِدَةَ فِي الْفَسْخِ وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِفُرُوعِهَا.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (مَأْذُونَةٌ مَدْيُونَةٌ وَلَدَتْ بِيعَتْ مَعَ وَلَدِهَا فِي الدَّيْنِ وَإِنْ جَنَتْ فَوَلَدَتْ لَمْ يُدْفَعْ الْوَلَدُ لَهُ) وَالْفَرْقُ أَنَّ الدَّيْنَ مُتَعَلِّقٌ بِرَقَبَتِهَا لِأَنَّ الدَّيْنَ عَلَيْهَا وَهُوَ وَصْفٌ لَهَا حُكْمِيٌّ فَسَرَى إلَى الْوَلَدِ لِأَنَّ الصِّفَاتِ الشَّرْعِيَّةَ الثَّابِتَةَ فِي الْأَصْلِ تَسْرِي إلَى الْفُرُوعِ كَالْمِلْكِ وَالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ وَأَمَّا الدَّفْعُ فِي الْجِنَايَةِ فَوَاجِبٌ فِي ذِمَّةِ الْمَوْلَى لَا فِي ذِمَّتِهَا وَإِنَّمَا يُلَاقِيهَا أَثَرُ الْفِعْلِ الْحَقِيقِيِّ وَهُوَ الدَّفْعُ وَقَبْلَ الدَّفْعِ كَانَتْ رَقَبَتُهَا خَالِيَةً عَنْ حَقِّ الْجِنَايَةِ فَكَذَلِكَ لَا يَجْرِي الْقِصَاصُ عَلَى الْأَوْلَادِ وَلَا الْحَدُّ لِأَنَّهُمَا فِعْلَانِ مَحْسُوسَانِ كَالدَّفْعِ وَلَا يَبِيعُهَا فِيهِ فَإِنْ قِيلَ إذَا كَانَ الدَّيْنُ عَلَيْهِمَا فَلِمَاذَا يَضْمَنُ الْمَوْلَى إذَا أَعْتَقَهَا وَالْإِنْسَانُ إذَا أَتْلَفَ الْمَدْيُونَ لَا يَضْمَنُ شَيْئًا قُلْنَا وُجُوبُ الضَّمَانِ بِاعْتِبَارِ تَفْوِيتِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّهُمْ اسْتِيفَاءً لَا بِاعْتِبَارِ وُجُوبِ الدَّيْنِ عَلَى الْمَوْلَى أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَضْمَنُ الْقِيمَةَ لَا غَيْرُ وَلَوْ كَانَ بِاعْتِبَارِ الْوُجُوبِ عَلَيْهِ يَضْمَنُ كُلَّ الدَّيْنِ كَالْعَبْدِ الْجَانِي إذَا أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْجِنَايَةِ وَلِهَذَا يَتْبَعُ الْغَرِيمُ بِالْفَاضِلِ الْعَبْدَ الْمَدْيُونَ بَعْدَ الْعِتْقِ وَلَوْ كَانَ عَلَى الْمَوْلَى لَمَا اتَّبَعَهُ كَالْعَبْدِ الْجَانِي وَلَا يُرَدُّ عَلَيْنَا وُجُوبُ دَفْعِ الْأَرْشِ مَعَهَا إذَا جَنَى عَلَيْهَا قَبْلَ الدَّفْعِ وَأَخَذَ الْمَوْلَى الْأَرْشَ لِأَنَّ الْأَرْشَ بَدَلُ جُزْئِهَا وَهُوَ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ مُتَعَلِّقٌ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا فَإِذَا فَاتَ جُزْءٌ مِنْهَا وَأَخْلَفَ بَدَلًا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّهُ كَمَا إذَا قَتَلْت وَأَخْلَفْت بَدَلًا اعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُلِّ بِخِلَافِ الْوَلَدِ وَقَوْلُهُ مَأْذُونَةٌ وَلَدَتْ شَرْطُ السِّرَايَةِ إلَى الْوَلَدِ أَنْ تَكُونَ الْوِلَادَةُ بَعْدَ لُحُوقِ الدَّيْنِ لِأَنَّهَا إذَا وَلَدَتْ ثُمَّ لَحِقَهَا الدَّيْنُ لَا يَتَعَلَّقُ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِالْوَلَدِ.
بِخِلَافِ الِاكْتِسَابِ حَيْثُ يَتَعَلَّقُ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِمَا كَسَبَتْ قَبْلَ الدَّيْن وَبَعْدَهُ لِأَنَّ لَهَا يَدًا مُعْتَبَرَةً فِي الْكَسْبِ حَتَّى لَوْ نَازَعَهَا فِيهِ أَحَدٌ كَانَتْ هِيَ الْخَصْمُ فِيهِ فَبِاعْتِبَارِ الْيَدِ كَانَتْ هِيَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ سَيِّدِهَا لِقَضَاءِ دَيْنِهَا بِخِلَافِ الْوَلَدِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يُسْتَحَقُّ بِالسِّرَايَةِ وَذَلِكَ قَبْلَ الِانْقِضَاءِ لَا بَعْدَهُ كَوَلَدِ الْمُكَاتَبَةِ وَوَلَدِ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرَةِ وَكَوَلَدِ الْأُضْحِيَّةِ لِأَنَّهَا حُقُوقٌ مُسْتَقِرَّةٌ فِي الرَّقَبَةِ حَتَّى صَارَ صَاحِبُهَا مَمْنُوعًا عَنْ التَّصَرُّفِ وَإِذَا جَنَى الْعَبْدُ جِنَايَةً ثُمَّ أَذِنَ لَهُ الْمَوْلَى فِي التِّجَارَةِ فَلَحِقَهُ دَيْنٌ دُفِعَ بِجِنَايَتِهِ فَإِنَّ الدَّائِنَ يَتْبَعُهُ فَإِذَا بِيعَ لَهُمْ رَجَعَ أَوْلِيَاءُ الْجِنَايَةِ عَلَى الْمَوْلَى بِقِيمَةِ الْعَبْدِ وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ عَلَيْهِ بِدَيْنٍ ثُمَّ دَفَعَهُ بِجِنَايَتِهِ فِي دَيْنِهِ وَرَجَعَ أَوْلِيَاءُ الْجِنَايَةِ بِقِيمَتِهِ عَلَى الْمَوْلَى وَذَكَرَ بَعْدَ هَذَا إذَا وَجَبَ الدَّيْنُ عَلَى الْعَبْدِ بِبَيِّنَةٍ ثُمَّ أَقَرَّ الْمَوْلَى عَلَيْهِ بِجِنَايَتِهِ خَطَأً بِيعَ الْعَبْدُ فِي الدَّيْنِ وَلَمْ يُلْتَفَتْ إلَى الْجِنَايَةِ وَفِيهِ أَيْضًا رَجُلٌ فِي يَدِهِ عَبْدٌ لَا يَدْرِي أَنَّهُ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ وَلَمْ يَدَّعِ صَاحِبُ الْيَدِ أَنَّهُ لَهُ وَلَمْ يُسْمَعْ مِنْ الْعَبْدِ إقْرَارٌ أَنَّهُ عَبْدُ صَاحِبِ الْيَدِ إلَّا أَنَّهُ يُقِرُّ بِأَنَّهُ عَبْدٌ فَجَنَى هَذَا الْعَبْدُ جِنَايَةً وَثَبَتَ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِإِقْرَارِ صَاحِبِ الْيَدِ ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْيَدِ أَقَرَّ أَنَّهُ لِرَجُلٍ وَصَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ بِذَلِكَ وَكَذَّبَهُ فِي الْجِنَايَةِ فَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ بِبَيِّنَةٍ قِيلَ لِلْمُقَرِّ لَهُ ادْفَعْ أَوْ افْدِهِ وَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ بِإِقْرَارِ الَّذِي كَانَ الْعَبْدُ فِي يَدِهِ أَخَذَ الْمُقَرُّ لَهُ الْعَبْدَ وَبَطَلَتْ الْجِنَايَةُ وَلَمْ يَكُنْ عَلَى الْمُقِرِّ مِنْ الْجِنَايَةِ شَيْءٌ وَقَدْ قَدَّمْنَاهَا بِغَيْرِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (عَبْدٌ زَعَمَ رَجُلٌ أَنَّ سَيِّدَهُ حَرَّرَهُ وَقَتَلَ وَلِيَّهُ خَطَأً لَا شَيْءَ لَهُ عَلَيْهِ) مَعْنَاهُ إذَا كَانَ الْعَبْدُ لِرَجُلٍ فَزَعَمَ رَجُلٌ أَنَّ مَوْلَاهُ أَعْتَقَهُ فَقَتَلَ الْعَبْدُ خَطَأً وَلِيَّ ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي زَعَمَ أَنَّ مَوْلَاهُ أَعْتَقَهُ وَلِيُّهُ فَلَا شَيْءَ لَهُ لِأَنَّهُ لَمَّا زَعَمَ أَنَّ مَوْلَاهُ أَعْتَقَهُ فَقَدْ أَقَرَّ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَى الْمَوْلَى دَفْعَ الْعَبْدِ وَلَا الْفِدَاءَ بِالْأَرْشِ وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الدِّيَةَ عَلَيْهِ وَعَلَى الْعَاقِلَةِ لِأَنَّهُ حُرٌّ فَيُصَدَّقُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَيَسْقُطُ الدَّفْعُ وَالْفِدَاءُ عَنْ الْمَوْلَى وَلَا يُصَدَّقُ فِي دَعْوَاهُ الدِّيَةَ عَلَيْهِمْ إلَّا بِحُجَّةٍ وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ وَضْعُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا جَنَى جِنَايَةً ثُمَّ أَقَرَّ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ حَرَّرَهُ قَبْلَ الدَّفْعِ وَجَعَلَ فِي الْكِتَابِ الْإِقْرَارَ بِالْحُرِّيَّةِ قَبْلَ الْجِنَايَةِ وَهُمَا لَا يَتَفَاوَتَانِ وَكَذَا إذَا أَقَرَّ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بَعْدَ الدَّفْعِ إلَيْهِ أَنَّهُ حُرٌّ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالدَّفْعِ وَقَدْ أَقَرَّ لَهُ بِحُرِّيَّتِهِ فَيُعْتَقُ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ وَصَارَ نَظِيرَ مَنْ اشْتَرَى عَبْدًا ثُمَّ أَقَرَّ بِتَحْرِيرِهِ مَوْلَاهُ قَبْلَ الدَّفْعِ وَفِي الْأَصْلِ جَعَلَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَمَّا إنْ أَقَرَّ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ أَنَّ الْعَبْدَ حُرُّ الْأَصْلِ أَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ حُرٌّ أَوْ أَقَرَّ أَنَّ مَوْلَاهُ أَعْتَقَهُ فَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ حُرُّ الْأَصْلِ فَلَا ضَمَانَ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ لَا عَلَى الْعَبْدِ وَلَا عَلَى الْمَوْلَى وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ حُرٌّ

(8/426)


أَوْ أَقَرَّ أَنَّ مَوْلَاهُ أَعْتَقَهُ فَأَمَّا إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ فَإِنْ أَقَرَّ بِهِ قَبْلَ الْجِنَايَةِ فَالْجَوَابُ كَالْجَوَابِ فِيمَا إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ حُرُّ الْأَصْلِ وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ بَعْدَ الْجِنَايَةِ فَقَدْ أَقَرَّ بِبَرَاءَةِ الْعَبْدِ وَادَّعَى عَلَى الْمَوْلَى الْفِدَاءَ إنْ ادَّعَى أَنَّهُ أَعْتَقَهُ وَهُوَ عَالِمٌ بِالْجِنَايَةِ.
وَإِنْ ادَّعَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا ادَّعَى عَلَى الْمَوْلَى ضَمَانَ الْقِيمَةِ وَأَنْكَرَ الْمَوْلَى مَا ادَّعَى عَلَيْهِ مِنْ ضَمَانِ الْفِدَاءِ أَوْ الْقِيمَةِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَوْلَى مَعَ يَمِينِهِ وَعَلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ وَفِي الْمَسْأَلَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ لَا يَدَّعِي عَلَى الْمَوْلَى ضَمَانًا فَلَا يَكُونُ بَيْنَ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ وَبَيْنَ الْمَوْلَى خُصُومَةٌ وَيَكُونُ الْعَبْدُ عَلَى حَالِهِ هَذَا إذَا كَانَ الْإِقْرَارُ مِنْ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ قَبْلَ الدَّفْعِ فَأَمَّا إذَا كَانَ الْإِقْرَارُ مِنْ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ وَبَيْنَ الْمَوْلَى خُصُومَةٌ وَيَكُونُ الْمَوْلَى بَعْدَ الدَّفْعِ إلَيْهِ أَقَرَّ أَنَّهُ حُرُّ الْأَصْلِ أَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ حُرٌّ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى الْمَوْلَى سَبِيلٌ وَلَا عَلَى الْعَبْدِ إلَّا أَنَّ الْعَبْدَ يُعْتَقُ وَلَا يَكُونُ لِأَحَدٍ عَلَى الْعَبْدِ وَلَاءٌ وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ أَعْتَقَهُ قَبْلَ الْجِنَايَةِ فَإِنَّهُ يَحْكُمُ بِحُرِّيَّةِ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِحُرِّيَّتِهِ وَالْعَبْدُ فِي مِلْكِهِ وَيَكُونُ وَلَاؤُهُ مَوْقُوفًا لِأَنَّهُ لِمَوْلَى الْعَبْدِ وَمَوْلَى الْعَبْدِ يَبْرَأُ مِنْ ذَلِكَ وَأَقَرَّ بِأَنَّهُ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ فَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُ أُعْتِقَ مِنْ جِهَتِهِ فَيَكُونُ وَلَاؤُهُ مَوْقُوفًا.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (قَالَ مُعْتِقٌ لِرَجُلٍ قَتَلْتُ أَخَاكَ خَطَأً وَأَنَا عَبْدٌ وَقَالَ بَعْدَ الْعِتْقِ فَالْقَوْلُ لِلْعَبْدِ) مَعْنَاهُ إذَا أُعْتِقَ الْعَبْدُ ثُمَّ قَالَ لِرَجُلٍ بَعْدَ الْعِتْقِ قَتَلْتُ أَخُوكَ خَطَأً وَأَنَا عَبْدٌ وَقَالَ الرَّجُلُ قَتَلْتَهُ وَأَنْتَ حُرٌّ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلضَّمَانِ لِمَا أَنَّهُ أَسْنَدَ إلَى الْعِتْقِ حَالَةً مَعْهُودَةً مُنَافِيَةً لِلضَّمَانِ إذْ الْكَلَامُ فِيمَا إذَا كَانَ رِقُّهُ مَعْرُوفًا وَالْوُجُوبُ فِي جِنَايَةِ الْعَبْدِ عَلَى الْمَوْلَى دَفْعًا أَوْ فِدَاءً فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ طَلَّقْتُ امْرَأَتِي وَأَنَا صَبِيٌّ أَوْ بِعْتُ دَارِي وَأَنَا صَبِيٌّ وَقَالَ طَلَّقْت امْرَأَتِي وَأَنَا مَجْنُونٌ وَقَدْ كَانَ جُنُونُهُ مَعْرُوفًا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ لِمَا ذَكَرْنَا.
وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَصْلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الِانْتِسَابَ إلَى عَادَةٍ مَعْهُودَةٍ مُتَنَافِيَةٍ لِلضَّمَانِ تُوجِبُ سُقُوطَ الْمُقَرِّ بِهِ وَالْآخَرُ أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِسَبَبِ الضَّمَانِ ثُمَّ ادَّعَى مَا يُبْرِئُهُ لَا يُسْمَعُ مِنْهُ إلَّا بِحُجَّةٍ فَإِنْ قِيلَ إنَّ الْعَبْدَ قَدْ ادَّعَى تَارِيخًا سَابِقًا فِي إقْرَارِهِ وَالْمُقَرُّ لَهُ مُنْكِرٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَأُجِيبَ بِأَنَّ اعْتِبَارَ التَّارِيخِ لِلتَّرْجِيحِ بَعْدَ الْوُجُوبِ كَأَنْ قَالَ لَهَا قَطَعْتُ يَدَكِ لِأَصْلِهِ وَهُنَا هُوَ مُنْكِرٌ لِأَصْلِهِ فَصَارَ كَمَنْ يَقُولُ لِعَبْدِهِ أَعْتَقْتُك قَبْلَ أَنْ تُخْلَقَ أَوْ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَإِنْ قَالَ لَهَا قَطَعْت يَدَك وَأَنْتِ أَمَتِي وَقَالَتْ بَعْدَ الْعِتْق فَالْقَوْلُ لَهَا وَكَذَا كُلُّ مَا أُخِذَ مِنْهَا إلَّا الْجِمَاعَ وَالْغَلَّةَ) وَهَذَا عِنْدَهُمَا وَقَالَ مُحَمَّدٌ لَا يَضْمَنُ إلَّا شَيْئًا قَائِمًا بِعَيْنِهِ يُؤْمَرُ بِرَدِّهِ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ وُجُوبَ الضَّمَانِ لِإِسْنَادِ الْفِعْلِ إلَى حَالَةٍ مَعْهُودَةٍ مُنَافِيَةٍ لَهُ كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَكَمَا فِي الْوَطْءِ وَالْغَلَّةِ وَفِي الْقَائِمِ أَقَرَّ لِلضَّمَانِ حَيْثُ اعْتَرَفَ بِالْأَخْذِ مِنْهَا ثُمَّ ادَّعَى التَّمَلُّكَ عَلَيْهَا وَهِيَ تُنْكِرُ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ وَلِهَذَا يُؤْمَرُ بِالرَّدِّ عَلَيْهِمَا وَلَهُمَا أَنَّهُ أَقَرَّ بِسَبَبٍ ظَاهِرٍ ثُمَّ ادَّعَى مَا يُبْرِئُهُ فَلَا يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ كَمَا إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ أَذْهَبْت عَيْنَك الْيُمْنَى وَعَيْنِي الْيُمْنَى صَحِيحَةٌ ثُمَّ فُقِئَتْ فَقَالَ الْمُقِرُّ لَا بَلْ أَذْهَبْتَهَا وَعَيْنُك الْيُمْنَى مَفْقُوءَةٌ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُقَرِّ لَهُ وَهَذَا إذَا لَمْ يُسْنِدْهُ إلَى حَالَةٍ مُنَافِيَةٍ لِلضَّمَانِ لِأَنَّهُ لَا يَضْمَنُ يَدَهَا إذَا قَطَعَهَا وَهِيَ مَدْيُونَةٌ.
بِخِلَافِ الْوَطْءِ وَالْغَلَّةِ لِأَنَّ وَطْءَ الْمَوْلَى أَمَتَهُ الْمَدْيُونَةَ لَا يُوجِبُ الْعُقْرَ وَإِذَا أَخَذَهُ مِنْ غَلَّتِهَا أَوْ إنْ كَانَتْ مَدْيُونَةً لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَيْهِ فَحَصَلَ الْإِسْنَادُ إلَى حَالَةٍ مَعْهُودَةٍ مُنَافِيَةٍ لِلضَّمَانِ فِي حَقِّهَا أَيْ فِي حَقِّ الْغَلَّةِ وَالْوَطْءِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ لَوْ قَالَ رَجُلٌ لِرَجُلٍ حَرْبِيٍّ أَسْلَمَ أَخَذْت مَالَك وَأَنْتَ حَرْبِيٌّ فَقَالَ بَلْ أَخَذْتَهُ بَعْدَ مَا أَسْلَمْت وَفِي الْعِنَايَةِ وَمِثْلُهَا مَسْأَلَةُ الْحَرْبِيِّ وَصُورَتُهَا مُسْلِمٌ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَأَخَذَ مَالَ حَرْبِيٍّ ثُمَّ أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ ثُمَّ خَرَجَا إلَيْنَا فَقَالَ الْمُسْلِمُ أَخَذْت مِنْك وَأَنْتَ حَرْبِيٌّ وَقَالَ الْحَرْبِيُّ الَّذِي أَسْلَمَ أَخَذْتَ مِنِّي وَأَنَا مُسْلِمٌ فَالْقَوْلُ لِلْحَرْبِيِّ عَلَى الْخِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ أَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ إذَا قَالَ أَخَذْت مِنْك أَلْفَ دِرْهَمٍ مِنْ كَسْبِك وَأَنْتَ عَبْدِي وَقَالَ الْعَبْدُ لَا بَلْ أَخَذْته بَعْدَ الْعِتْقِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ مَا إذَا أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ أَوْ صَارَ ذِمِّيًّا فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ قَطَعْت يَدَك وَأَنْتَ حَرْبِيٌّ وَأَخَذْت كَذَا وَكَذَا وَأَنْتَ حَرْبِيٌّ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَقَالَ الْحَرْبِيُّ لَا بَلْ فَعَلْت بَعْدَ مَا أَسْلَمْت أَوْ قَالَ بَعْدَمَا صِرْت إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْقَوْلُ قَوْلُ الْحَرْبِيِّ وَالْمُسْلِمُ ضَامِنٌ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْلِمِ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَإِذَا أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ فَقَالَ لِرَجُلٍ مُسْلِمٍ قَطَعْت يَدَك وَأَنَا حَرْبِيٌّ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَقَالَ الْمُسْلِمُ فَعَلْت مَا فَعَلْت وَأَنْتَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ مِنْ الْأَصْلِ أَنَّهُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ.
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا قَالَ لِجَارِيَتِهِ بَعْدَ مَا عَتَقَهَا وَطِئْتُك قَبْلَ الْعِتْقِ وَقَالَتْ الْجَارِيَةُ لَا بَعْدَ الْعِتْقِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ

(8/427)


الْمَوْلَى وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ فَقَالَ الْعَبْدُ لِرَجُلٍ آخَرَ قَطَعْت يَدَك وَأَنَا عَبْدٌ وَقَالَ ذَلِكَ الرَّجُلُ لَا بَلْ بَعْدَ مَا أُعْتِقْت أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُقِرِّ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (عَبْدٌ مَحْجُورٌ أَمَرَ صَبِيًّا حُرًّا بِقَتْلِ رَجُلٍ فَقَتَلَهُ فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الصَّبِيِّ) لِأَنَّ الصَّبِيَّ هُوَ الْمُبَاشِرُ لِلْقَتْلِ وَعَمْدُهُ وَخَطَؤُهُ سَوَاءٌ تَجِبُ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْعَبْدِ الْآمِرِ وَكَذَا الْحُكْمُ إذَا أَمَرَهُ بِذَلِكَ صَبِيٌّ وَالْأَصْلُ أَنَّ الْأَمْرَ بِمَا لَا يَمْلِكُهُ الْآمِرُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ الْمَأْمُورُ بِفَسَادِ الْأَمْرِ صَحِيحٌ فِي حَقِّ الْآمِرِ وَالْمَأْمُورِ حَتَّى يَثْبُتَ لِلْمَأْمُورِ الرُّجُوعُ عَنْ الْأَمْرِ إذَا لَحِقَهُ غُرْمٌ فِي ذَلِكَ بَيَانُ ذَلِكَ أَمَرَ رَجُلًا بِأَنْ يَذْبَحَ هَذِهِ الشَّاةَ وَهِيَ لِجَارِهِ وَلَمْ يَعْلَمْ الْمَأْمُورُ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ يَصِحُّ الْأَمْرُ فِي حَقِّهِمَا حَتَّى إذَا ضَمِنَ الذَّابِحُ لِلْجَارِ قِيمَةَ الشَّاةِ يَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْآمِرِ فَإِنْ عَلِمَ أَنَّ الشَّاةَ لِغَيْرِهِ وَهُوَ حُرٌّ بَالِغٌ لَا يَصِحُّ الْأَمْرُ حَتَّى لَا يَرْجِعَ بِمَا لَحِقَهُ مِنْ مَغْرَمٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ عَامِلًا لِلْآمِرِ وَإِنْ كَانَ الْمَأْمُورُ صَبِيًّا يَصِحُّ الْأَمْرُ سَوَاءٌ كَانَ عَالِمًا بِفَسَادِ الْأَمْرِ حَتَّى لَا يَرْجِعَ بِمَا لَحِقَهُ مِنْ مَغْرَمٍ أَوْ لَا لِنُقْصَانِ عَقْلٍ وَيُلْحَقُ بِهِ الْمَجْنُونُ وَأَمَّا مَسْأَلَتُنَا فَالْأَصْلُ أَنَّ الصَّبِيَّ مُؤَاخَذٌ بِضَمَانِ الْأَفْعَالِ دُونَ الْأَقْوَالِ فِيمَا يَتَنَوَّعُ إلَى صَحِيحٍ وَفَاسِدٍ أَمَّا صِحَّةُ فِعْلِهِ فَلِصُدُورِهِ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ النَّوَادِرِ أَمَرَ صَبِيًّا بِقَتْلِ دَابَّةٍ أَوْ بِمَزْقِ ثَوْبٍ أَوْ بِأَكْلِ طَعَامٍ لِغَيْرِهِ.
فَالضَّمَانُ عَلَى الصَّبِيِّ فِي مَالِهِ وَيَرْجِعُ بِذَلِكَ عَلَى الْآمِرِ وَلَوْ أَمَرَ الصَّبِيُّ بَالِغًا فَفَعَلَ لَمْ يَضْمَنْ الصَّبِيُّ وَلَوْ أَمَرَ الْحُرُّ الْبَالِغُ بِذَلِكَ فَالضَّمَانُ عَلَى الْفَاعِلِ وَفِي الْمُحِيطِ لَوْ قَالَ اُقْتُلْ ابْنِي أَوْ اقْطَعْ يَدَهُ أَوْ اُقْتُلْ أَخِي فَقَتَلَهُ اقْتَصَّ مِنْ الْقَاتِلِ قِيَاسًا وَتَجِبُ الدِّيَةُ اسْتِحْسَانًا وَلَا رُجُوعَ لِعَاقِلَةِ الصَّبِيِّ عَلَى الصَّبِيِّ الْآمِرِ أَبَدًا وَيَرْجِعُونَ عَلَى الْعَبْدِ الْآمِرِ بَعْدَ الْعِتْقِ لِأَنَّ عَدَمَ الِاعْتِبَار كَانَ لِحَقِّ الْمَوْلَى لَا بِنُقْصَانِ أَهْلِيَّةِ الْعَبْدِ وَقَدْ زَالَ حَقُّ الْمَوْلَى بِالْإِعْتَاقِ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ لِأَنَّهُ قَاصِرُ الْأَهْلِيَّةِ وَفِي شَرْحِ الزِّيَادَاتِ لَا تَرْجِعُ الْعَاقِلَةُ عَلَى الْعَبْدِ أَيْضًا أَبَدًا لِأَنَّ هَذَا ضَمَانُ جِنَايَةٍ وَهُوَ عَلَى الْمَوْلَى لَا عَلَى الْعَبْدِ وَقَدْ تَعَذَّرَ إيجَابُهُ عَلَى الْمَوْلَى لَمَّا كَانَ عَلَى الْعَبْدِ الْحَجْرُ وَهَذَا أَوْفَقُ لِلْقَوَاعِدِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ إذَا أَقَرَّ بَعْدَ الْعِتْقِ بِالْقَتْلِ قَبْلَهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ لِكَوْنِهِ أَسْنَدَهُ إلَى حَالَةٍ مُنَافِيَةٍ لِلضَّمَانِ عَلَى مَا بَيَّنَّا قَبْلَ هَذَا وَلِهَذَا لَوْ حَفَرَ الْعَبْدُ بِئْرًا فَأَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ ثُمَّ وَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ فَهَلَكَ لَا يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ شَيْءٌ وَإِنَّمَا يُوجِبُ عَلَى الْمَوْلَى فَيَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَوْ مَاتَ فِيهَا أَلْفُ نَفْسٍ فَيَقْسِمُوهَا بِالْحِصَصِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَكَذَا إنْ أَمَرَ عَبْدًا) مَعْنَاهُ أَنْ يَكُونَ الْآمِرُ عَبْدًا وَالْمَأْمُورُ أَيْضًا عَبْدًا مَحْجُورًا عَلَيْهِمَا فَيُخَاطَبُ مَوْلَى الْقَاتِلِ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ وَلَا رُجُوعَ لَهُ عَلَى الْآمِرِ فِي الْحَالِ وَيَرْجِعُ بَعْدَ الْعِتْقِ بِالْأَقَلِّ مِنْ الْفِدَاءِ وَقِيمَةُ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُضْطَرٍّ فِي دَفْعِ الزِّيَادَةِ.
وَعَلَى قِيَاسِ مَا ذَكَرَهُ الْعَتَّابِيُّ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ لِمَا بَيَّنَّا وَهَذَا إذَا كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً وَكَذَا إذَا كَانَ عَمْدًا وَالْعَبْدُ الْقَاتِلُ صَغِيرًا لِأَنَّ عَمْدَهُ خَطَأٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَأَمَّا إذَا كَانَ كَبِيرًا يَجِبُ الْقِصَاصُ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْعُقُوبَةِ وَلَوْ أَمَرَ رَجُلٌ حُرٌّ صَبِيًّا حُرًّا فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الصَّبِيِّ لِأَنَّهُ الْمُبَاشِرُ ثُمَّ تَرْجِعُ الْعَاقِلَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الصَّبِيِّ لِأَنَّهُ الْمُتَسَبِّبُ إذْ لَوْلَا أَمْرُهُ لَمَا قَتَلَ لِضَعْفٍ فِيهِ وَلَا يُقَالُ كَيْفَ تَعْقِلُ عَاقِلَةُ الرَّجُلِ مَا لَزِمَ بِسَبَبِ الْقَتْلِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَالْإِقْرَارِ لِأَنَّا نَقُولُ هَذَا قَوْلٌ لَا يَحْتَمِلُ الْكَذِبَ وَهُوَ تَسَبُّبٌ فَيُعَلِّقُهُ بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِالْقَتْلِ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْكَذِبَ فَلَا تَعْقِلُهُ الْعَاقِلَةُ وَلَوْ كَانَ الْمَأْمُورُ عَبْدًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ كَبِيرًا أَوْ صَغِيرًا يُخَيَّرُ الْمَوْلَى بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ وَأَيُّهُمَا اخْتَارَ يَرْجِعُ بِالْأَقَلِّ عَلَى الْآمِرِ فِي مَالِهِ لِأَنَّ الْآمِرَ صَارَ غَاصِبًا لِلْعَبْدِ بِالْأَمْرِ كَمَا إذَا اسْتَخْدَمَهُ وَضَمَانُ الْغَصْبِ فِي مَالِهِ لَا عَلَى الْعَاقِلَةِ وَإِنْ كَانَ الْمَأْمُورُ حُرًّا بَالِغًا عَاقِلًا فَعَلَى عَاقِلَتِهِ الدِّيَةُ وَلَا تَرْجِعُ الْعَاقِلَةُ عَلَى الْآمِرِ بِحَالٍ لِأَنَّ أَمْرَهُ لَمْ يَصِحَّ وَلَا يُؤَثِّرُ وَهُوَ أَيْضًا يَأْمُرُ مِثْلَهُ لَا سِيَّمَا فِي الدَّمِ وَإِنْ كَانَ الْآمِرُ عَبْدًا مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ كَبِيرًا كَانَ أَوْ صَغِيرًا وَالْمَأْمُورُ عَبْدًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ أَوْ مَأْذُونًا يُخَيَّرُ مَوْلَى الْمَأْمُورِ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ وَأَيُّهُمَا فَعَلَ يَرْجِعُ عَلَى الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ لِأَنَّ هَذَا ضَمَانُ غَصْبٍ.
وَإِنَّهُ مِنْ جِنْسِ ضَمَانِ التِّجَارَةِ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى تَمَلُّكِ الْمَضْمُونِ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ وَالْمَأْذُونُ لَهُ يُؤْخَذُ بِضَمَانِ التِّجَارَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمَأْمُورُ حُرًّا حَيْثُ لَا تَرْجِعُ عَاقِلَةُ الْمَأْمُورِ عَلَى الْآمِرِ فِي الْحَالِ وَلَا بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الْغَصْبِ فِي الْحُرِّ وَلَوْ كَانَ الْمَأْمُورُ صَبِيًّا حُرًّا مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ حَتَّى يَرْجِعَ عَلَيْهِ فِيمَا إذَا كَانَ الْمَأْمُورُ عَبْدًا لِتَحَقُّقِ الْغَصْبِ فِيهِ وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي مَالِهِ دُونَ الْعَاقِلَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِضَمَانِ جِنَايَةٍ وَإِنَّمَا هُوَ ضَمَانُ تِجَارَةٍ وَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ إذَا كَانَ الْمَأْمُورُ حُرًّا لِعَدَمِ تَصَوُّرِ الْغَصْبِ فِيهِ فَصَارَ الصَّبِيُّ الْآمِرُ فِي حَقِّهِ كَالصَّبِيِّ الْمَحْجُورِ

(8/428)


وَلَوْ كَانَ الْآمِرُ مُكَاتَبًا صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا وَالْمَأْمُورُ صَبِيٌّ حُرٌّ تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الصَّبِيِّ وَتَرْجِعُ الْعَاقِلَةُ عَلَى الْمُكَاتَبِ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ لِأَنَّ هَذَا حُكْمُ جِنَايَةِ الْمُكَاتَبِ بِخِلَافِ الْقِنِّ فَإِنَّ حُكْمَ جِنَايَتِهِ عَلَى الْمَوْلَى فَيَجِبُ عَلَيْهِ إنْ أَمْكَنَ وَإِلَّا سَقَطَ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَإِنْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ بَعْدَ مَا قَضَى الْقَاضِي عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ تُبَاعُ رَقَبَتُهُ إلَّا أَنْ يَفْدِيَ الْمَوْلَى بِدِيَتِهِمْ وَالْقِيَاسُ أَنْ يَبْطُلَ حُكْمُ جِنَايَتِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ بِالْعَجْزِ صَارَ قِنًّا وَأَمْرُهُ لَا يَصْلُحُ وَهُمَا يَقُولَانِ لَمَّا قُضِيَ عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ صَارَ دَيْنًا عَلَيْهِ وَتَقَرَّرَ فَلَا يَسْقُطُ حَتَّى لَوْ عَجَزَ قَبْلَ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ بَطَلَ حُكْمُ جِنَايَتِهِ لِأَنَّ حُكْمَ جِنَايَتِهِ إنَّمَا يَصِيرُ دَيْنًا عَلَيْهِ بِالْقَضَاءِ وَلَمْ يُوجَدْ.
وَإِنْ عَجَزَ بَعْدَمَا أَدَّى كُلَّ الْقِيمَةِ لَا يَبْطُلُ وَإِنْ كَانَ الْمَأْمُورُ عَبْدًا يُخَيَّرُ مَوْلَاهُ بَيْنَ الدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَى الْمُكَاتَبِ بِقِيمَةِ الْمَأْمُورِ إلَّا إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ الدِّيَةِ فَنَقَصَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ بَقِيَ إشْكَالٌ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ إنَّ هَذَا ضَمَانُ الْغَصْبِ فَفِيهِ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ فَكَيْفَ يَنْقُصُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ كَضَمَانِ الْجِنَايَةِ فَجَوَابُهُ هَذَا الْغَصْبُ لَكِنْ يَحْصُلُ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ فَاعْتُبِرَ بِهَا فِي حَقِّ التَّقْدِيرِ وَإِنْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ فَمَوْلَى الْمَأْمُورِ يُطَالِبُ مَوْلَى الْمُكَاتَبِ بِبَيْعِهِ لِأَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ لَا يَسْقُطُ بِعَجْزِ الْمُكَاتَبِ وَإِنْ أَعْتَقَ الْمَوْلَى الْمُكَاتَبَ فَالْمَأْمُورُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رَجَعَ بِجَمِيعِ قِيمَةِ الْمَأْمُورِ عَلَى الْمُعْتِقِ وَبِالْفَضْلِ عَلَى الْمُعْتَقِ لِأَنَّهُ ضَمَانُ غَصْبٍ فَلَا يَبْطُلُ بِالْإِعْتَاقِ وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ عَلَى الْمَوْلَى بِقَدْرِ قِيمَةِ الْمُعْتِقِ إلَى تَمَامِ قِيمَةِ الْمَأْمُورِ وَإِنْ كَانَ الْمَأْمُورُ مُكَاتَبًا يَجِبُ عَلَى الْمَأْمُورِ ضَمَانُ قِيمَةِ نَفْسِهِ وَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْآمِرِ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ أَنْ يُجْعَلَ ضَمَانَ غَصْبٍ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ حُرٌّ مِنْ وَجْهٍ فَلَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلْغَصْبِ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ الصَّغِيرَ مُلْحَقٌ بِالْكَبِيرِ فَصَارَ كَالْحُرِّ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ إنْ كَانَ مَأْمُورًا قُيِّدَ بِقَوْلِهِ عَجَزَ لِأَنَّهُ لَوْ جَنَى قَبْلَ الْعَجْزِ لَا يُبَاعُ بَلْ يُخَيَّرُ الْمَوْلَى.

قَالَ فِي الْمُحِيطِ مُكَاتَبٌ جَنَى جِنَايَاتٍ أَوْ وَاحِدَةً كَانَ عَلَى الْمَوْلَى الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَاتِ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ مَمْلُوكٌ رَقَبَةً حُرٌّ يَدًا مُطْلَقًا وَتَصَرُّفًا فَبِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَمْلُوكٌ رَقَبَةً تَكُونُ جِنَايَتُهُ عَلَى الْمَوْلَى.
وَبِاعْتِبَارِ أَنَّهُ حُرٌّ يَدًا وَكَسْبًا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُوجِبُ جِنَايَتِهِ عَلَيْهِ عَلَى أَنَّ أَكْسَابَهُ حَقٌّ لَهُ وَقَدْ تَعَذَّرَ دَفْعُهُ بِمُوجِبِ الْجِنَايَةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْأَقَلُّ مِنْ الْقِيمَةِ وَمِنْ الْأَرْشِ وَإِنْ تَكَرَّرَتْ الْجِنَايَاتُ قَبْلَ الْقَضَاءِ لَزِمَهُ قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَوْ جَنَى فَقُضِيَ عَلَيْهِ ثُمَّ جَنَى أُخْرَى يُقْضَى عَلَيْهِ بِقِيمَةٍ أُخْرَى خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ وَلَوْ قَتَلَ رَجُلًا وَلَمْ يُقْضَ عَلَيْهِ حَتَّى عَجَزَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ دَفَعَ بِالْجِنَايَةِ ثُمَّ يُبَاعُ فِي الدَّيْنِ وَإِنْ فَدَاهُ بِيعَ بِالدَّيْنِ وَلَوْ مَاتَ عَنْ مَالٍ قُضِيَ فِي مَالِهِ بِالْجِنَايَةِ ثُمَّ بِالْكِتَابَةِ ثُمَّ بِالْإِرْثِ لِأَنَّهُ مَاتَ عَنْ وَفَاءٍ فَلَا تَنْفَسِخُ الْكِتَابَةُ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَجِنَايَةٌ فَقُضِيَ عَلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ فَالدَّيْنُ وَالْجِنَايَةُ سَوَاءٌ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ صَارَتْ دَيْنًا بِالْقَضَاءِ وَإِنْ لَمْ يُقْضَ بِالْجِنَايَةِ فَحُكْمُ مَا تَقَدَّمَ مُكَاتَبَةٌ جَنَتْ ثُمَّ وَلَدَتْ وَلَمْ يُقْضَ دَفَعَتْ وَحْدَهَا وَلَوْ قُضِيَ عَلَيْهَا ثُمَّ وَلَدَتْ بِيعَتْ فَإِنْ وَفَّى ثَمَنَهَا بِالْجِنَايَةِ وَإِلَّا بِيعَ وَلَدُهَا لِأَنَّ الْوَلَدَ الْمَوْلُودَ فِي الْكِتَابَةِ حُكْمُهُ حُكْمُ أُمِّهِ وَلَوْ كَاتَبَ نِصْفَ أَمَتِهِ فَجَنَى أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ لَزِمَ الْجَانِيَ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ نِصْفِ الْجِنَايَةِ وَجِنَايَةُ عَبْدِ الْمُكَاتَبِ كَجِنَايَةِ عَبْدِ الْحُرِّ وَلَوْ جَنَى الْمُكَاتَبُ عَلَى مَوْلَاهُ أَوْ عَلَى عَبْدِ مَوْلَاهُ أَوْ عَلَى ابْنِ مَوْلَاهُ كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَيْهِمْ كَالْجِنَايَةِ عَلَى غَيْرِهِمْ لِأَنَّ جِنَايَةَ الْمُكَاتَبِ عَلَيْهِمَا مُعْتَبَرَةٌ وَإِذَا كَانَ مُكَاتَبٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ يُعْتَبَرُ كُلُّ نِصْفٍ مِنْهُ عَلَى حِدَةٍ فِي الْأَحْكَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْكِتَابَةَ تَتَجَزَّأُ.
وَلَوْ كَانَتْ أَمَةً مُشْتَرَكَةً فَكَاتَبَهَا أَحَدُهُمَا بِغَيْرِ إذْنِ شَرِيكِهِ فَوَلَدَتْ وَكَاتَبَ الْآخَرُ نَصِيبَهُ مِنْ الْوَلَدِ ثُمَّ جَنَى الْوَلَدُ عَلَى الْأُمِّ أَوْ الْأُمُّ عَلَيْهِ لَزِمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ قِيمَةِ الْمَقْتُولِ عِنْدَ الْإِمَامِ وَلَوْ أَقَرَّ الْمُكَاتَبُ بِالْجِنَايَةِ الْمَبْسُوطِ أَصْلُهُ أَنَّ الْمُكَاتَبَ فِي حَقِّ جِنَايَةٍ تُوجِبُ الْمَالَ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ لِأَنَّهُ اسْتِيجَابُ الْمَالِ عَلَى نَفْسِهِ وَالْمُكَاتَبُ مِنْ أَهْلِ اسْتِيجَابِ الْمَالِ عَلَى نَفْسِهِ بِخِلَافِ الْعَبْدِ لَوْ أَقَرَّ بِجِنَايَةٍ تُوجِبُ الْمَالَ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ مُوجِبَهَا يَجِبُ عَلَى مَوْلَاهُ فَجُعِلَ مُقِرًّا عَلَى مَوْلَاهُ فَلَمْ يَصِحَّ وَإِذَا أَقَرَّ الْمُكَاتَبُ بِجِنَايَةٍ عَمْدًا أَوْ خَطَأً لَزِمَهُ لِأَنَّهُ فِي حَقِّ الْجِنَايَةِ مُلْحَقٌ بِالْحُرِّ وَلَوْ قُضِيَ عَلَيْهِ بِجِنَايَةٍ خَطَأً ثُمَّ عَجَزَ هَدَرَ مُوجِبُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يُؤْخَذُ وَيُبَاعُ فِيهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُكَاتَبَ لَوْ أَقَرَّ بِجِنَايَةٍ مُوجِبَةٍ لِلْمَالِ لَا يُؤَاخَذُ بِهِ وَلَوْ عَجَزَ عِنْدَهُ وَصَارَ دَيْنًا عَلَيْهِ أَوْ لَا وَعِنْدَهُمَا يُؤْخَذُ بِهِ إذَا صَارَ دَيْنًا عَلَيْهِ بِالْقَضَاءِ وَلَوْ أُعْتِقَ ضَمِنَ قُضِيَ بِهَا أَوْ لَا وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَ وَلِيُّ الْعَمْدِ وَقَدْ أَقَرَّ بِهِ ثُمَّ عَجَزَ هُدِرَتْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَهُمَا يُبَاعُ فِيهِ لِأَنَّ الْقِصَاصَ بَعْدَ الصُّلْحِ صَارَ مُوجِبًا لِلْمَالِ وَأَصْلُ الْجِنَايَةِ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ وَمَنْ أَقَرَّ بِجِنَايَةٍ

(8/429)


مُوجِبَةٍ لِلْمَالِ لَا يُؤَاخَذُ بِهِ بَعْدَ الْعَجْزِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يُؤَاخَذُ بِهِ إذَا صَارَ دَيْنًا عَلَيْهِ بِالصُّلْحِ وَلَوْ أَقَرَّ الْوَلَدُ عَلَى أُمِّهِ بِجِنَايَةٍ لَمْ يَثْبُتْ.
فَإِنْ مَاتَتْ الْأُمُّ لَزِمَهُ الْأَقَلُّ مِنْ الدَّيْنِ وَالْكِتَابَةِ لِأَنَّ الْفَاضِلَ مِنْ الدَّيْنِ الْمَوْرُوثِ يَكُونُ لَهُ فَيُقَدَّرُ الْفَضْلُ مِنْ دَيْنِهِ جُعِلَ مُقِرًّا عَلَى نَفْسِهِ وَصَارَ كَالْحُرِّ إذَا أَقَرَّ عَلَى مُوَرِّثِهِ بِدَيْنٍ ثُمَّ مَاتَ الْمُوَرِّثُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ صَحَّ الْإِقْرَارُ بِالْفَاضِلِ مِنْ دَيْنِهِ فَكَذَا هَذَا وَإِذَا عَجَزَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ لِأَنَّهُ صَارَ قِنًّا وَإِنْ كَانَ أَدَّى ثُمَّ عَجَزَ لَا يَسْتَرِدُّ مِنْ الْمُقَرِّ لَهُ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِذَلِكَ قَدْ صَحَّ وَلَوْ أَقَرَّتْ الْأُمُّ عَلَى ابْنِهَا بِجِنَايَةٍ ثُمَّ قُتِلَ الِابْنُ خَطَأً وَأَخَذَتْ قِيمَتَهُ قُضِيَ بِمَا أَقَرَّتْ فِي الْقِيمَةِ لِأَنَّ بَدَلَ الْوَلَدِ يَكُونُ لِلْأُمِّ كَكَسْبِهِ فَصَارَتْ مُقِرَّةً عَلَى نَفْسِهَا وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّتْ عَلَى ابْنِهَا بِدَيْنٍ وَفِي يَدِهِ مَالٌ وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ جَازَ إقْرَارُهَا بِالدَّيْنِ فِي كَسْبِهِ لِأَنَّ كَسْبَ وَلَدِهَا لَهَا فَصَارَتْ مُقِرَّةً عَلَى نَفْسِهَا عَبْدٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَقَأَ الْعَبْدُ عَيْنَ أَحَدِهِمَا ثُمَّ جَرَحَهُ ثُمَّ كَاتَبَ الْمَفْقُوءَةُ عَيْنُهُ نَصِيبَهُ مِنْهُ ثُمَّ جَرَحَهُ جُرْحًا آخَرَ فَمَاتَ مِنْهَا سَعَى الْمُكَاتَبُ فِي الْأَقَلِّ مِنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ وَرُبْعِ الدِّيَةِ وَعَلَى الْمَوْلَى الَّذِي لَمْ يُكَاتَبْ نِصْفُ قِيمَةِ الْعَبْدِ لِوَرَثَةِ الْمَقْتُولِ لِأَنَّهُ قُتِلَ بِجِنَايَتَيْنِ لِأَنَّهُ جَنَى عَلَيْهِ قَبْلَ الْكِتَابَةِ وَبَعْدَهَا فَمَا تَلِفَ بِالْجِنَايَةِ قَبْلَ الْكِتَابَةِ وَهُوَ الرُّبْعُ هَدَرٌ لِأَنَّهُ جِنَايَةُ عَبْدٍ عَلَى مَوْلَاهُ وَمَا تَلِفَ بِالْجِنَايَةِ بَعْدَ الْكِتَابَةِ وَهُوَ الرُّبْعُ مُعْتَبَرَةٌ لِأَنَّهُ جِنَايَةُ مُكَاتَبٍ عَلَى مَوْلَاهُ فَيَضْمَنُ الْمُكَاتَبُ الْأَقَلَّ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ وَمِنْ رُبْعِ الدِّيَةِ لِأَنَّهُ لَمَّا هُدِرَتْ بِالْجِنَايَةِ قَبْلَ الْكِتَابَةِ صَارَ كَأَنَّهُ جَنَى نِصْفَ الْمُكَاتَبِ عَلَى رُبْعِ مَوْلَاهُ لَا غَيْرُ.
وَأَمَّا نِصْفُ السَّاكِتِ فَلِأَنَّهُ قَتَلَ الْحُرَّ بِجِنَايَتَيْنِ لِأَنَّهُ جَنَى عَلَيْهِ قَبْلَ الْكِتَابَةِ بَعْدَهَا فَمَا تَلِفَ بِالْجِنَايَةِ قَبْلَ الْكِتَابَةِ وَهُوَ الرُّبْعُ هَدَرٌ لِأَنَّهُ جِنَايَةُ عَبْدِ الْغَيْرِ عَلَى أَجْنَبِيٍّ فَضَمِنَ السَّاكِتُ نِصْفَ الْقِيمَةِ مَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ نَصِيبُهُ بِضَمَانٍ أَوْ سِعَايَةٍ لِأَنَّ قِيمَةَ نَصِيبِهِ بِالْكِتَابَةِ وَجَبَتْ عَلَى الْمُكَاتَبِ حَالَ حَيَاتِهِ فَمَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ حَقُّهُ مِنْ تَرِكَتِهِ لَا يَلْزَمُهُ أَيْضًا نِصْفُ الْقِيمَةِ عَبْدٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَجَنَى عَلَى أَحَدِهِمَا ثُمَّ بَاعَ الْآخَرُ نِصْفَ نَصِيبِهِ مِنْ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَهُوَ يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ ثُمَّ جَنَى عَلَيْهِ بِجِنَايَةٍ أُخْرَى ثُمَّ إنَّ الَّذِي بَاعَ نِصْفَهُ اشْتَرَى الرُّبْعَ وَكَاتَبَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ نَصِيبَهُ مِنْهُ ثُمَّ جَنَى عَلَيْهِ ثَلَاثَ جِنَايَاتٍ ثُمَّ أَدَّى الْكِتَابَةَ فَعَتَقَ ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى مِنْ الْجِنَايَاتِ فَعَلَى الْمُكَاتَبِ بِجِنَايَتِهِ وَهُوَ مُكَاتَبٌ الْأَقَلُّ مِنْ نِصْفِ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَمِنْ سُدُسِ وَرُبْعِ سُدُسِ الدِّيَةِ لِأَنَّ نِصْفَ الْمُكَاتَبِ قَبْلَ نِصْفِ الْحُرِّ بِثَلَاثِ جِنَايَاتٍ جِنَايَتَانِ قَبْلَ الْكِتَابَةِ وَهُمَا مُهْدَرَتَانِ لِأَنَّهُمَا جِنَايَةُ عَبْدٍ عَلَى مَوْلَاهُ وَجِنَايَةٌ بَعْدَ الْكِتَابَةِ وَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ لِأَنَّهَا جِنَايَةُ الْمُكَاتَبِ عَلَى مَوْلَاهُ فَالْمُهْدَرَتَانِ صَارَتَا كَجِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّ حُكْمَهُمَا وَاحِدٌ فَبَقِيَتْ جِنَايَتَانِ أَحَدُهُمَا مُهْدَرَةٌ وَالْأُخْرَى مُعْتَبَرَةٌ فَيَضْمَنُ الْمُكَاتَبُ رُبْعَ الدِّيَةِ وَأَمَّا نِصْفُ السَّاكِتِ فَرُبْعُهُ الْمَبِيعُ قَبْلَ رُبْعِ الْحُرِّ بِثَلَاثِ جِنَايَاتٍ جِنَايَةٌ قَبْلَ الْبَيْعِ وَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ لِأَنَّهَا جِنَايَةُ مَمْلُوكٍ عَلَى مَوْلَاهُ وَجِنَايَةٌ بَعْدَ الْكِتَابَةِ وَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ لِأَنَّهَا جِنَايَةُ مَمْلُوكٍ عَلَى أَجْنَبِيٍّ فَسَهْمَانِ مِنْ هَذَا الرُّبْعِ مَضْمُونٌ وَسَهْمٌ مُهْدَرَةٌ وَصَارَ كُلُّ رُبْعٍ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ وَالْكُلُّ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ وَالرُّبْعُ الَّذِي لَمْ يَبِعْهُ قَبْلَ رُبْعِ الْحُرِّ بِثَلَاثِ جِنَايَاتٍ جِنَايَةٌ قَبْلَ الْبَيْعِ وَقَدْ تَلِفَ بِهَا سَهْمٌ مِنْ الْحُرِّ.
وَقَدْ صَارَ الْمَوْلَى مُخْتَارًا لِذَلِكَ السَّهْمِ مِنْ الدِّيَةِ بِالْبَيْعِ وَجِنَايَةٌ بَعْدَ الْبَيْعِ وَجِنَايَةٌ بَعْدَ الْكِتَابَةِ وَهُمَا مُعْتَبَرَتَانِ لِأَنَّهُمَا جِنَايَةُ مَمْلُوكٍ عَلَى أَجْنَبِيٍّ فَهَاتَانِ الْجِنَايَتَانِ حُكْمُهُمَا وَاحِدٌ فَيُعْتَبَرَانِ كَجِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ فَصَارَ كَأَنَّ هَذَا الرُّبْعَ جَنَى جِنَايَتَيْنِ فَصَارَ الْمَوْلَى مُخْتَارًا لِسَهْمَيْنِ وَنِصْفٍ مِنْ النِّصْفِ الَّذِي لِلسَّاكِتِ فَيَكُونُ سُدُسًا وَرُبْعَ سُدُسٍ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ وَلَمْ يَصِرْ مُخْتَارًا لِسَهْمَيْنِ وَنِصْفِ سَهْمٍ، نِصْفٌ مِنْ الرُّبْعِ وَسَهْمَانِ مِنْ الرُّبْعِ الَّذِي بَاعَهُ وَهُوَ هَدَرَ نِصْفَ سُدُسِ الدِّيَةِ وَذَلِكَ سَهْمٌ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ وَلَوْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ ثُمَّ بَاعَهُ أَحَدُهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ فَقَطَعَ يَدَ آخَرَ وَفَقَأَ عَيْنَ الْأَوَّلِ فَمَاتَا قِيلَ لِلْمُشْتَرِي ادْفَعْ نِصْفَك إلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ أَوْ افْدِهِ بِعَشَرَةِ آلَافٍ بَيْنَهُمَا وَقِيلَ لِلْبَائِعِ افْدِ الْأَوَّلَ بِرُبْعِ الدِّيَةِ أَوْ ادْفَعْ نِصْفَك إلَيْهِمَا أَثْلَاثًا ثُلُثَهُ لِلْأَوَّلِ وَثُلُثَهُ لِلثَّانِي أَوْ افْدِهِ مِنْ الْأَوَّلِ بِرُبْعِ الدِّيَةِ وَمِنْ الثَّانِي بِنِصْفٍ لِأَنَّ النِّصْفَ الَّذِي لَمْ يُبَعْ قَبْلَ نِصْفِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا أَنَّ نِصْفَ أَحَدِهِمَا بِجِنَايَتَيْنِ وَالْأُخْرَى بِجِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ وَكِلَاهُمَا مُعْتَبَرَتَانِ فَيُخَاطَبُ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ وَالنِّصْفُ الَّذِي بَاعَ قَبْلَ نِصْفِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا أَنَّ نِصْفَ أَحَدِهِمَا بِجِنَايَتَيْنِ بِجِنَايَةٍ قَبْلَ الْبَيْعِ وَهِيَ الْقَطْعُ وَقَدْ صَارَ مُخْتَارًا لِلْبَيْعِ الَّذِي تَلِفَ بِهَذِهِ الْجِنَايَةِ بِالْبَيْعِ فَعَلَيْهِ رُبْعُ الدِّيَةِ وَبِجِنَايَةٍ بَعْدَ الْبَيْعِ وَهِيَ الْفَقْءُ وَلَمْ يَصِرْ مُخْتَارًا لِمَا تَلِفَ بِهَذِهِ الْجِنَايَةِ فَتَيَقَّنَ فِي نَصِيبِهِ رُبْعُ دِيَةِ أَحَدِهِمَا وَنِصْفُ

(8/430)


دِيَةِ الْآخَرِ فَيَدْفَعُ نَصِيبَهُ إلَيْهِمَا أَثْلَاثًا أَوْ الْفِدَاءَ كَذَا فِي الْمُحِيطِ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (عَبْدٌ قَتَلَ رَجُلَيْنِ عَمْدًا وَلِكُلٍّ وَلِيَّانِ فَعَفَا أَحَدُ وَلِيَّيْ كُلٍّ مِنْهُمَا دَفَعَ سَيِّدُهُ نِصْفَهُ إلَى الْآخَرِينَ أَوْ فَدَاهُ بِالدِّيَةِ) أَيْ لِلْمَوْلَى الْخِيَارُ إنْ شَاءَ دَفَعَ نِصْفَ الْعَبْدِ إلَى الَّذِي لَمْ يَعْفُ مِنْ وَلِيَّيْ الْقَتِيلَيْنِ وَإِنْ شَاءَ فَدَاهُ بِدِيَةٍ كَامِلَةٍ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَتِيلَيْنِ يَجِبُ لَهُ قِصَاصٌ كَامِلٌ عَلَى حِدَةٍ فَإِذَا سَقَطَ الْقِصَاصُ وَجَبَ أَنْ يَنْقَلِبَ كُلُّهُ مَالًا وَذَلِكَ دِيَتَانِ فَيَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى عِشْرُونَ أَلْفًا وَدُفِعَ الْعَبْدُ غَيْرَ أَنَّ نَصِيبَ الْعَافِينَ سَقَطَ مَجَّانًا فَانْقَلَبَ نَصِيبُ السَّاكِتِينَ مَالًا وَذَلِكَ دِيَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ أَوْ دُفِعَ نِصْفُ الْعَبْدِ لَهُمَا فَيُخَيَّرُ الْمَوْلَى بَيْنَهُمَا كَذَا ذَكَرَ الشَّارِحُ قَالَ فِي الْمُحِيطِ عَبْدَانِ الْتَقَيَا وَمَعَ كُلِّ وَاحِدٍ عَصًا فَاضْطَرَبَا وَبَرِئَا دَفَعَ مَوْلَى كُلِّ وَاحِدٍ بِالْآخَرِ وَلَا يَرْجِعَانِ بِشَيْءٍ سِوَى ذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَلَكَ عَبْدَهُ مِنْ صَاحِبِهِ وَلَا يُفِيدُ التَّرَاجُعَ لِأَنَّهُ لَوْ رَجَعَ أَحَدُهُمَا لَرَجَعَ الْآخَرُ لِأَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَبَتَ فِي رَقَبَةٍ كَامِلَةٍ فَمَا يَأْخُذُ أَحَدُهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ فَذَاكَ بَدَلٌ آخَرُ وَتَعَلَّقَ بِهِ حَقُّهُ فَلَا يُفِيدُ الرُّجُوعَ وَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَدَى كُلَّ وَاحِدٍ بِجَمِيعِ أَرْشِ جِنَايَتِهِ لِأَنَّهُمَا لَمَّا اضْطَرَبَا مَعًا فَقَدْ جَنَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى عَبْدٍ صَحِيحٍ فَتَعَلَّقَ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَوْلَيَيْنِ بِعَبْدٍ صَحِيحٍ فَيَجِبُ بَدَلُ عَبْدٍ صَحِيحٍ وَإِنْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا بِالضَّرْبَةِ خُيِّرَ مَوْلَى الْبَادِئِ لِأَنَّ الْبِدَايَةَ مِنْ مَوْلَى اللَّاحِقِ لَا تُفِيدُ لِأَنَّ حَقَّ اللَّاحِقِ فِي عَبْدٍ صَحِيحٍ كَامِلِ الرَّقَبَةِ فَإِذَا دَفَعَ إلَى الْبَادِئِ عَبْدَهُ مَشْجُوجًا كَانَ لِلَّاحِقِ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مِنْهُ فَكَانَ دَفْعُهُ مُفِيدًا.
فَإِنْ دَفَعَهُ فَالْعَبْدُ لِلْمَدْفُوعِ إلَيْهِ وَلَا شَيْءَ لِلدَّافِعِ لِأَنَّهُ لَوْ رَجَعَ الْبَادِئُ بِشَيْءٍ كَانَ لِلْمَدْفُوعِ إلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ ثَانِيًا لِأَنَّ حَقَّهُ فِي رَقَبَةِ عَبْدٍ صَحِيحٍ فَلَا يُفِيدُ رُجُوعُ الْبَادِئِ وَإِنْ فَدَاهُ خُيِّرَ الْمَوْلَى اللَّاحِقُ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ لِأَنَّهُ بَرِئَ عَبْدُ الْبَادِئِ عَنْ الْجِنَايَةِ بِالْفِدَاءِ وَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَجْنِ وَإِنْ جَنَى عَلَيْهِ الْعَبْدُ اللَّاحِقُ فَإِنْ مَاتَ الْبَادِئُ كَانَتْ قِيمَتُهُ فِي عُنُقِ الثَّانِي يَدْفَعُ بِهَا أَوْ يَفْدِي فَإِنْ فَدَاهُ بِقِيمَةِ الْمَيِّتِ يَرْجِعُ فِي تِلْكَ الْقِيمَةِ بِأَرْشِ جِرَاحَةِ عَبْدٍ وَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَجْنِ وَإِنَّمَا جَنَى عَلَيْهِ الْبَادِئُ وَالْبَادِئُ إنْ مَاتَ فَالْقِيمَةُ قَائِمَةٌ مَقَامَهُ لِأَنَّهُ حَيٌّ قَائِمٌ وَإِنْ دَفَعَهُ رَجَعَ بِأَرْشِ شَجَّةِ عَبْدِهِ فِي عُنُقِهِ وَيُخَيَّرُ الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ لِأَنَّ الْمَدْفُوعَ قَامَ مَقَامَ الْمَيِّتِ الشَّاجِّ وَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ الْقَاتِلُ خُيِّرَ مَوْلَى الْعَبْدِ الْبَادِئِ فَإِنْ فَدَاهُ أَوْ دَفَعَ بَطَلَ حَقُّهُ فِي شَجَّتِهِ لِأَنَّهُ حِينَ شَجَّ اللَّاحِقُ الْبَادِئَ كَانَ اللَّاحِقُ مَشْجُوجًا فَثَبَتَ حَقُّ مَوْلَى الْبَادِئِ فِي شَجَّةِ عَبْدِهِ وَلَوْ مَاتَ الْبَادِئُ مِنْ شَيْءٍ آخَرَ سِوَى الْجِنَايَةِ وَبَقِيَ اللَّاحِقُ خُيِّرَ الْمَوْلَى وَيُقَالُ لَهُ إذَا شِئْت ادْفَعْ وَاعْفُ عَنْ مَوْلَى اللَّاحِقِ وَلَا سَبِيلَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ وَإِنْ شِئْت ادْفَعْ أَرْشَ شَجَّةِ اللَّاحِقِ وَطَالِبْهُ فَإِنْ دَفَعَ إلَى صَاحِبِهِ أَرْشَ عَبْدِهِ يَرْجِعُ بِأَرْشِ جِنَايَةِ عَبْدِهِ فَيَدْفَعُ مَوْلَى اللَّاحِقِ عَبْدَهُ أَوْ يَفْدِهِ أَمَّا الْعَفْوُ فَلِأَنَّهُ مَوْلَى الْبَادِئِ بِجِنَايَتِهِ وَإِذَا دَفَعَ كَانَ لِمَوْلَى اللَّاحِقِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِأَرْشِ شَجَّةِ عَبْدِهِ وَكَانَ لِمَوْلَى الْبَادِئِ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ الْعَبْدَ الْمَدْفُوعَ ثَانِيًا لِيَبْرَأَ عَنْ حَقِّهِ فَلَا يُفِيدُ الدَّفْعُ.
وَإِنَّمَا دَفَعَ أَرْشَ شَجَّةِ اللَّاحِقِ لِأَنَّهُ مَتَى دَفَعَ أَرْشَ عَبْدِ اللَّاحِقِ فَقَدْ طَهُرَ الْبَادِئُ عَنْ الْجِنَايَةِ وَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَجْنِ وَإِنَّمَا جَنَى عَلَيْهِ الْعَبْدُ اللَّاحِقُ فَيُخَاطَبُ مَوْلَى اللَّاحِقِ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ وَأَيُّ ذَلِكَ اخْتَارَ لَا يَبْقَى لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ سَبِيلٌ لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقُّهُ وَإِنْ أَبَى مَوْلَى الْبَادِئِ أَنْ يَدْفَعَ الْأَرْشَ فَلَا تَعَلُّقَ لَهُ فِي عُنُقِ الْحُرِّ لِأَنَّ مَوْلَى الْبَادِئِ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْعَفْوِ وَبَيْنَ دَفْعِ الْأَرْشِ وَالْمُطَالَبَةِ بِشَجَّةِ عَبْدِهِ فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْ دَفْعِ الْأَرْشِ صَارَ مُخْتَارًا لِلْعَفْوِ وَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ عَفَوْتُك عَنْ حَقِّي فَبَطَلَ حَقُّهُ وَلَوْ مَاتَ اللَّاحِقُ وَبَقِيَ الْبَادِئُ خُيِّرَ مَوْلَاهُ فَإِنْ دَفَعَهُ بَطَلَ حَقُّهُ وَإِنْ فَدَاهُ بِأَرْشٍ فَدَاهُ عَبْدُهُ فِي الْفِدَاءِ لِأَنَّ الْبَادِئَ طَهُرَ عَنْ الْجِنَايَةِ فَلَا يَكُونُ لِمَوْلَى اللَّاحِقِ أَنْ يَسْتَرْجِعَ مِنْهُ الْأَرْشَ ثَانِيًا فَأَمَّا الدَّفْعُ لَمْ يَظْهَرْ عَنْ الْجِنَايَةِ فَبَقِيَ حَقُّ مَوْلَى اللَّاحِقِ مُتَعَلِّقًا بِمَا فَاتَ بِالشَّجَّةِ مِنْ الْعَبْدِ الْبَادِئِ وَالْعَبْدِ الْمَدْفُوعِ بَدَلُهُ فَيَتَعَلَّقُ حَقُّهُ بِبَدَلِهِ فَلَوْ رَجَعَ مَوْلَى الْبَادِئِ بِأَرْشِ شَجَّتِهِ كَانَ لِمَوْلَى اللَّاحِقِ أَنْ يَسْتَرْجِعَ مِنْهُ لِأَنَّ حَقَّهُ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِالْفَائِتِ مِنْ الْفَائِتِ الْبَادِئِ فَلَا يُفِيدُ الرُّجُوعُ وَلَوْ بَرِئَا ثُمَّ قَتَلَ الْبَادِئُ اللَّاحِقَ جَرِيحًا كَانَ فِي عُنُقِ الْبَادِئِ أَرْشُ اللَّاحِقِ وَقِيمَتُهُ وَيُخَيَّرُ بَيْنَ دَفْعِهِ وَفِدَائِهِ فَإِنْ دَفَعَهُ فَلَا شَيْءَ لَهُ لِمَا بَيَّنَّا وَإِنْ فَدَاهُ فَدَاهُ بِأَرْشِ الشَّجَّةِ وَقِيمَةِ الْمَقْتُولِ لِأَنَّ الْبَادِئَ شَجَّ اللَّاحِقَ ثُمَّ قَتَلَهُ مَشْجُوجًا فَيَلْزَمُهُ أَرْشُ الشَّجَّةِ وَقِيمَتُهُ مَشْجُوجًا مَتَى اخْتَارَ الْفِدَاءَ وَيُسَلِّمُ أَرْشَ شَجَّةِ الْمَقْتُولِ لِمَوْلَاهُ خَاصَّةً.
وَيَكُونُ أَرْشُ شَجَّةِ الْحَيِّ فِي هَذِهِ الْقِيمَةِ

(8/431)


يَأْخُذُ مَوْلَاهُ مِنْهَا وَمَا بَقِيَ لِمَوْلَى الْمَقْتُولِ لِأَنَّ حَقَّ مَوْلَى الْبَادِئِ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ اللَّاحِقِ وَهُوَ مَشْجُوجٌ لِأَنَّهُ حِينَ جَنَى عَلَى الْبَادِئِ وَهُوَ مَشْجُوجٌ فَيَأْخُذُ مِنْ قِيمَتِهِ مَشْجُوجًا أَرْشَ شَجَّةِ الْبَادِئِ فَإِنْ فَضَلَ مِنْهُ شَيْءٌ يَكُونُ لِمَوْلَى اللَّاحِقِ لِأَنَّهُ بَدَلُ عَبْدِهِ وَقَدْ فَرَغَ عَنْ حَقِّ الْغَيْرِ وَلَوْ قَتَلَ الْبَادِئُ اللَّاحِقَ فَإِنْ لَمْ يَطْلُبْ وَلِيُّ الْمَقْتُولِ الْجِنَايَةَ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا عَلَى صَاحِبِهِ شَيْءٌ لِأَنَّ مَوْلَى الْمَقْتُولِ يُخَيَّرُ بَيْنَ الْعَفْوِ وَالْفِدَاءِ بِأَرْشِ الشَّجَّةِ الثَّانِيَةِ وَإِنْ طَلَبَ الْجِنَايَةَ بَدَأَ عَنْهُ بِأَرْشِ الْحَيِّ ثُمَّ خُيِّرَ مَوْلَى الْحَيِّ بَيْنَ أَنْ يَدْفَعَ عَبْدَهُ أَوْ يَفْدِيَهُ بِقِيمَةِ الْمَقْتُولِ وَيُسَلِّمُ ذَلِكَ لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ لِأَنَّ الْعَبْدَ اللَّاحِقَ قَبْلَ الْبَادِئِ مَشْجُوجًا فَيُخَيَّرُ مَوْلَاهُ بَيْنَ دَفْعِهِ وَفِدَائِهِ بِقِيمَتِهِ مَشْجُوجًا وَأَيُّ ذَلِكَ فَعَلَ لَا يَبْقَى لِأَحَدِهِمَا عَلَى صَاحِبِهِ سَبِيلٌ لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقُّهُ وَلَوْ قَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ بَعْدَ مَا بَرِئَا وَلَا يُعْلَمُ الْبَادِئُ بِالشَّجَّةِ خُيِّرَ مَوْلَى الْقَاتِلِ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَتْ الْبُدَاءَةُ بِالْبَادِئِ لِلْجَهَالَةِ وَلَوْ تَعَذَّرَتْ الْبُدَاءَةُ بِسَبَبِ مَوْتِ الْبَادِئِ تَعَذَّرَ الْقَتْلُ فَكَذَا هَذَا فَإِنْ دَفَعَ عَبْدَهُ كَانَ لَهُ نِصْفُ أَرْشِ شَجَّةِ الْمَقْتُولِ وَعَلَى قِيمَتِهِ مَشْجُوجًا فَيَأْخُذُ الَّذِي دَفَعَهُ مِنْ حِصَّتِهِ قِيمَتَهُ مَشْجُوجًا مِنْ الْعَبْدِ الْمَدْفُوعِ أَوْ يَفْدِيَهُ لِأَنَّ الْقَاتِلَ بِالدَّفْعِ قَامَ مَقَامَ الْمَقْتُول لَحْمًا وَدَمًا فَصَارَ كَأَنَّ الْمَقْتُولَ بَقِيَ حَيًّا لَوْلَاهُ يَرْجِعُ بِنِصْفِ أَرْشِ شَجَّةِ عَبْدِهِ مَتَى اخْتَارَ الدَّفْعَ.
فَكَذَا إذَا دَفَعَ بَدَلَهُ وَإِنْ اخْتَارَ مَوْلَى الْقَاتِلِ فَدَاهُ بِقِيمَةِ الْمَقْتُولِ صَحِيحًا لِأَنَّ الْقَاتِلَ هُوَ الْبَادِئُ بِالشَّجَّةِ شَجَّ عَبْدًا صَحِيحًا ثُمَّ قَتَلَهُ فَعَلَيْهِ قِيمَةُ عَبْدٍ صَحِيحٍ وَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ هُوَ اللَّاحِقُ فَقَدْ شَجَّ الْبَادِئَ وَهُوَ صَحِيحٌ ثُمَّ قَتَلَهُ كَانَ عَلَى الْمَوْلَى الْقَاتِلِ أَنْ يَفْدِيَ عَبْدَهُ بِقِيمَةِ الْمَقْتُولِ صَحِيحًا وَيَرْجِعَ بِأَرْشِ الشَّجَّةِ فِي الْفِدَاءِ بَعْدَمَا يَدْفَعُ إلَى مَوْلَى الْعَبْدِ الْمَقْتُولِ نِصْفَ أَرْشِ شَجَّتِهِ لِأَنَّ الْقِيمَةَ قَامَتْ مَقَامَ الْمَقْتُولِ وَلَوْ كَانَ الْمَقْتُولُ حَيًّا وَقَدْ شَجَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ وَلَا يُعْلَمُ الْبَادِئُ مِنْهُمَا يَرْجِعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا دَفَعَ إلَى صَاحِبِهِ بِنِصْفِ أَرْشِ شَجَّةِ عَبْدِهِ وَالْمَدْفُوعُ إلَيْهِ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الْفِدَاءِ وَبَيْنَ مَا يَخُصُّ نِصْفَ أَرْشِ الشَّجَّةِ مِنْ الْعَبْدِ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ فَكَذَا تَرِكَتُهُ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَإِنْ قُتِلَ أَحَدُهُمَا عَمْدًا وَالْآخَرُ خَطَأ فَعَفَا أَحَدُ وَلِيَّيْ الْعَمْدِ فَدَى بِالدِّيَةِ لِوَلِيِّ الْخَطَأِ وَبِنِصْفِهَا لِأَحَدِ وَلِيَّيْ الْعَمْدِ) لِأَنَّ حَقَّهُمَا فِي الدِّيَةِ عَشَرَةُ آلَافٍ وَحَقُّ وَلِيَّيْ الْعَمْدِ فِي الْقِصَاصِ فَإِنْ عَفَا أَحَدُهُمَا انْقَلَبَ نَصِيبُ الْآخَرِ مَالًا وَهُوَ نِصْفُ الدِّيَةِ خَمْسَةُ آلَافٍ فَإِذَا فَدَاهُ بَخَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ عَشَرَةُ آلَافٍ لِوَلِيِّ الْخَطَأِ وَخَمْسَةُ آلَافٍ لِغَيْرِ الْعَافِي مِنْ وَلِيَّيْ الْعَمْدِ وَإِنْ دَفَعَهُ إلَيْهِمْ أَثْلَاثًا ثُلُثَاهُ لِوَلِيَّيْ الْخَطَأِ وَثُلُثُهُ لِلسَّاكِتِ مِنْ وَلِيَّيْ الْعَمْدِ بِطَرِيقِ الْعَمْدِ لِأَنَّ حَقَّهُمْ فِي الدِّيَةِ كَذَلِكَ فَيُضْرَبُ وَلِيَّا الْخَطَأِ بِعَشَرَةِ آلَافٍ وَيُضْرَبُ غَيْرُ الْعَافِي مِنْ وَلِيَّيْ الْعَمْدِ بِخَمْسَةِ آلَافٍ وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَدْفَعُهُ أَرْبَاعًا بِطَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ لِوَلِيَّيْ الْخَطَأِ وَرُبْعُهُ لِغَيْرِ الْعَافِي مِنْ وَلِيَّيْ الْعَمْدِ لِأَنَّ نِصْفَهُ سُلِّمَ لِوَلِيَّيْ الْخَطَأِ بِلَا مُنَازَعَةٍ فَاسْتَوَتْ مُنَازَعَتُهُمْ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ فَيَنْتَصِفُ فَإِنْ قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ يُسَلِّمَ لِلْمَوْلَى رُبْعَ الْعَبْدِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهِيَ نَصِيبُ الْعَافِي مِنْ وَلِيَّيْ الْعَمْدِ وَيَدْفَعُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهِ إلَيْهِمْ تُقْسَمُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ حُقُوقِهِمْ كَمَا سُلِّمَ لَهُ النِّصْفُ وَهُوَ نَصِيبُ الْعَافِينَ قُلْنَا لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ هُنَا لِأَنَّ لِوَلِيَّيْ الْخَطَأِ اسْتِحْقَاقَ كُلِّهِ وَلَمْ يَسْقُطْ مِنْ حَقِّهِمَا شَيْءٌ وَهَذَا لِأَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ تَعَلَّقَ بِكُلِّ الرَّقَبَةِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ غَيْرَ أَنَّهُ لَمَّا عَفَا وَلِيُّ كُلِّ قَتِيلٍ سَقَطَ حَقُّ الْعَافِينَ عَلَى الرَّقَبَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَخَلَّى نَصِيبَهُمَا مِنْهُ عَنْ حَقِّهِمَا وَصَارَ ذَلِكَ لِلْمَوْلَى وَهُوَ النِّصْفُ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّ حَقَّ وَلِيَّيْ الْخَطَأِ ثَابِتٌ فِي الْكُلِّ عَلَى حَالِهِ وَكَانَتْ الرَّقَبَةُ كُلُّهَا مُسْتَحَقَّةً لَهُمَا وَالنِّصْفُ لِغَيْرِ الْعَافِي مِنْ وَلِيِّ الْعَمْدِ فَلِهَذَا افْتَرَقَا فَيَقْسِمُونَهَا كُلَّهَا عَلَى قَدْرِ حُقُوقِهِمْ بِطَرِيقِ الْعَوْلِ وَالْمُنَازَعَةِ وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَظَائِرُ ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِ الدَّعْوَى مِنْ هَذَا الْكِتَابِ بِأُصُولِهَا الَّذِي نَشَأَ مِنْهَا الْخِلَافُ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا نُعِيدُهَا وَلَمْ يَتَعَرَّضْ الْمُؤَلِّفُ لِمَا إذَا جَنَى الْقِنُّ عَلَى الْغَاصِبِ وَنَحْنُ نَذْكُرُ ذَلِكَ تَتْمِيمًا لِلْفَائِدَةِ.

قَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ غَصَبَ عَبْدًا فَقَتَلَ عِنْدَ الْغَاصِبِ عَمْدًا رَجُلًا ثُمَّ رَدَّهُ إلَى مَوْلَاهُ فَقَتَلَ عِنْدَهُ رَجُلًا آخَرَ خَطَأً وَاخْتَارَ الْمَوْلَى دَفْعَهُ بِالْجِنَايَتَيْنِ فَإِنَّهُ يَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ثُمَّ يَرْجِعُ الْمَوْلَى عَلَى الْغَاصِبِ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَيَدْفَعُهُ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى.
ثُمَّ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ لَا يَرْجِعُ ذَلِكَ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ جَنَى عِنْدَ الْمَوْلَى أَوَّلًا ثُمَّ عِنْدَ الْغَاصِبِ ثُمَّ رَدَّ الْغَاصِبُ الْعَبْدَ عَلَى الْمَوْلَى وَدَفَعَهُ الْمَوْلَى بِالْجِنَايَتَيْنِ جَمِيعًا رَجَعَ الْمَوْلَى عَلَى الْغَاصِبِ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَيَدْفَعُهَا إلَى وَلِيِّ الْقَتِيلِ وَلَا يَرْجِعُ

(8/432)


بِذَلِكَ مَرَّةً أُخْرَى عَلَى الْغَاصِبِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا أَمَّا دَفْعُهَا إلَى وَلِيِّ الْقَتِيلَيْنِ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ثُمَّ يَرْجِعُ الْمَوْلَى عَلَى الْغَاصِبِ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَيَدْفَعُهَا إلَى وَلِيِّ الْقَتِيلِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَكَانَ الْعَبْدِ مُدَبَّرٌ كَانَ الْجَوَابُ فِيهِ كَالْجَوَابِ فِي الْعَبْدِ مِنْ الْوِفَاقِ وَالْخِلَافِ وَصُورَتُهُ رَجُلٌ غَصَبَ مُدَبَّرَ رَجُلٍ وَقَدْ كَانَ الْمُدَبَّرُ قَتَلَ قَتِيلًا خَطَأً عِنْدَ الْمَوْلَى فَقَتَلَ قَتِيلًا آخَرَ عِنْدَ الْغَاصِبِ فَرَدَّ الْغَاصِبُ الْمُدَبَّرَ عَلَى الْمَوْلَى فَعَلَى الْمَوْلَى قِيمَةُ الْمُدَبَّرِ بَيْنَ وَلِيِّ الْقَتِيلَيْنِ نِصْفَيْنِ ثُمَّ يَرْجِعُ الْمَوْلَى عَلَى الْغَاصِبِ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْمُدَبَّرِ وَلَا يَرْجِعُ بِجَمِيعِ قِيمَةِ الْمُدَبَّرِ فَإِذَا رَجَعَ الْمَوْلَى عَلَى الْغَاصِبِ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ فَإِنَّ لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ أَنْ يَأْخُذَ ذَلِكَ مِنْ الْمَوْلَى عِنْدَهُمْ جَمِيعًا وَلَوْ كَانَ جَنَى أَوَّلًا عِنْدَ الْغَاصِبِ وَجَنَى ثَانِيًا عِنْدَ الْمَوْلَى وَحَصَرَ الْمَوْلَى قِيمَتَهُ وَرَجَعَ عَلَى الْغَاصِبِ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ هَلْ يُسَلَّمُ ذَلِكَ لِلْمَوْلَى فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ لَا يُسَلَّمُ وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ يُسَلَّمُ.

قَالَ فِي الْأَصْلِ وَإِذَا غَصَبَ الرَّجُلُ عَبْدًا مِنْ رَجُلٍ فَقَتَلَ عِنْدَهُ قَتِيلًا خَطَأً ثُمَّ اجْتَمَعَ الْمَوْلَى وَأَوْلِيَاءُ الْقَتِيلِ.
فَإِنَّ الْعَبْدَ يُرَدُّ عَلَى مَوْلَاهُ وَإِذَا رُدَّ عَلَيْهِ الْعَبْدُ يُقَالُ لَهُ جَنَى وَهُوَ بِمَحَلِّ الدَّفْعِ فَتَخَيَّرَ فَإِنْ دَفَعَ أَوْ فَدَاهُ رَجَعَ عَلَى الْغَاصِبِ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَمِنْ الْأَرْشِ وَإِنْ كَانَ زَادَ عِنْدَ الْغَاصِبِ زِيَادَةً مُتَّصِلَةً وَاخْتَارَ الدَّفْعَ فَإِنَّهُ يَدْفَعُ الْعَبْدَ مَعَ الزِّيَادَةِ سَوَاءٌ حَدَثَتْ الزِّيَادَةُ قَبْلَ الْجِنَايَةِ أَوْ بَعْدَهَا ثُمَّ لَا يَرْجِعُ الْمَوْلَى عَلَى الْغَاصِبِ بِقِيمَةِ الزِّيَادَةِ وَإِنْ اُسْتُحِقَّتْ الزِّيَادَةُ بِسَبَبٍ أَحْدَثَهُ الْعَبْدُ عِنْدَ الْغَاصِبِ وَلَوْ هَلَكَتْ الزِّيَادَةُ مِنْ حَيْثُ الْقِيمَةُ لَا يَضْمَنُهَا الْغَاصِبُ هَذَا إذَا زَادَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَإِنْ أَعْوَرَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ وَقَدْ جَنَى عِنْدَهُ جِنَايَةً فَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ إمَّا إنْ أَعْوَرَ بَعْدَ الْجِنَايَتَيْنِ أَوْ قَبْلُ فَإِنْ أَعْوَرَ بَعْدَ الْجِنَايَةِ وَقَدْ اخْتَارَ الْمَوْلَى الدَّفْعَ فَإِنَّهُ يَدْفَعُهَا إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ ثُمَّ يَرْجِعُ الْمَوْلَى عَلَى الْغَاصِبِ ثَانِيًا بِنِصْفِ قِيمَةِ الْعَبْدِ صَحِيحًا حِينَ جَنَى وَكَّلَ لَهُ قِيمَةَ الْعَبْدِ وَإِنْ أَعْوَرَ قَبْلَ الْجِنَايَةِ وَاخْتَارَ الْمَوْلَى الدَّفْعَ فَإِنَّهُ يَدْفَعُ الْعَبْدُ أَعْوَرَ ثُمَّ يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ صَحِيحًا عَلَى الْغَاصِبِ فَإِذَا أَخَذَ ذَلِكَ سُلِّمَ لَهُ وَلَمْ يَكُنْ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا الْعَبْدُ الْمَغْصُوبُ إذَا جَنَى عَلَى مَوْلَاهُ جِنَايَةً مُوجِبَةً لِلْمَالِ بِأَنْ قَتَلَهُ خَطَأً أَوْ جَنَى عَلَى رَقِيقِهِ خَطَأً أَوْ عَلَى مَالِهِ بِأَنْ أَتْلَفَ شَيْئًا مِنْ مِلْكِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنَّهُ تُعْتَبَرُ جِنَايَتُهُ حَتَّى يَضْمَنَ الْغَاصِبُ قِيمَةَ الْعَبْدِ الْمَغْصُوبِ لِمَوْلَاهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَرْشُ أَوْ قِيمَةُ الْعَبْدِ الْمُتْلِفِ أَقَلَّ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ الْمَغْصُوبِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ بِأَنَّ جِنَايَةَ الْمَغْصُوبِ عَلَى مَوْلَاهُ وَعَلَى رَقِيقِهِ وَعَلَى مَالِهِ هَدَرٌ فَأَمَّا الْعَبْدُ الْمَرْهُونُ إذَا جَنَى عَلَى الرَّاهِنِ أَوْ عَلَى مَالِهِ هَلْ تُعْتَبَرُ جِنَايَتُهُ.
قَالُوا ذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الرَّهْنِ وَقَالَ تُهْدَرُ جِنَايَتُهُ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ خِلَافًا إلَّا أَنَّ الْمَشَايِخَ قَالُوا مَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ الرَّهْنِ إنَّهُ يُهْدَرُ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ تُعْتَبَرُ عَلَى الرَّاهِنِ بِقَدْرِ الدَّيْنِ كَمَا تُعْتَبَرُ جِنَايَةُ الْمَغْصُوبِ هُنَا عَلَى الْغَاصِبِ وَعَلَى رَقِيقِهِ هَذَا إذَا جَنَى الْمَغْصُوبُ عَلَى مَوْلَاهُ أَوْ عَلَى مَالِ مَوْلَاهُ فَأَمَّا إذَا جَنَى عَلَى الْغَاصِبِ أَوْ عَلَى رَقِيقِ الْغَاصِبِ فَجِنَايَتُهُ مُوجِبَةٌ لِلْمَالِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فَيَكُونُ هَدَرًا حَتَّى لَا يُخَاطَبُ مَوْلَى الْعَبْدِ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ وَكَذَلِكَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ لِلْعَبْدِ الْمَرْهُون إذَا جَنَى جِنَايَةً عَلَى الْمُرْتَهِنِ أَوْ عَلَى مَالِهِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تُعْتَبَرُ الْجِنَايَةُ بِقَدْرِ الدَّيْنِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ بِأَنْ يُعْتَبَرَ.

الْحُرُّ وَالْعَبْدَانِ إذَا تَضَارَبَا وَتَشَاحَّا وَفِي الْمَبْسُوطِ حُرٌّ جَنَى عَلَى عَبْدٍ وَجَنَى الْعَبْدُ عَلَى رَجُلٍ آخَرَ وَعَلَى الْجَانِي فَاخْتَارَ مَوْلَاهُ الدَّفْعَ ثُمَّ اخْتَلَفَا فَقَالَ الْمَوْلَى جَنَى عَلَى عَبْدِي أَوَّلًا فَأَرْشُهُ لِي وَدِيَةُ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ فَالْقَوْلُ لِلْمَوْلَى مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّ الْحُرَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ لَمَّا ادَّعَى أَنَّ الْبَادِئَ بِالْجِنَايَةِ هُوَ الْعَبْدُ فَقَدْ ادَّعَى عَلَى الْمَوْلَى شَيْئَيْنِ الْعَبْدَ وَأَرْشَ الْعَبْدِ مَعَ اخْتِيَارِ دَفْعِ الْعَبْدِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ ادَّعَى أَنَّ حَقَّهُ ثَبَتَ فِي عَبْدٍ صَحِيحِ الْيَدَيْنِ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَمَّا بَدَأَ بِقَطْعِ يَدِ الْحُرِّ كَانَتْ يَدَاهُ صَحِيحَةً فَإِذَا تَعَلَّقَ حَقُّهُ بِيَدِ الْعَبْدِ تَعَلَّقَ بِبَدَلِهَا أَيْضًا وَالْمَوْلَى أَقَرَّ لَهُ بِالْعَبْدِ وَأَنْكَرَ الْأَرْشَ فَيَكُونُ الْقَوْلُ لَهُ فَصَارَ كَمَا لَوْ تَصَادَقَا عَلَى الْبَادِئِ فِي الْجِنَايَةِ هُوَ الْحُرُّ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِقَوْلِ مَنْ جَعَلَ لَهُ شَرْعًا كَالثَّابِتِ بِالتَّصَادُقِ وَمَتَى تَصَادَقَا أَنَّ الْبَادِئَ بِالْجِنَايَةِ هُوَ الْحُرُّ يَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَةِ الْعَبْدِ.
وَالْمَوْلَى يُخَيَّرُ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ وَلَهُ أَنْ يَدْفَعَ الْعَبْدَ دُونَ الْأَرْشِ لِأَنَّ حَقَّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ تَعَلَّقَ بِعَبْدٍ مَقْطُوعِ الْيَدِ فَأَمَّا مَقْطُوعُ الْيَدِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِبَدَلِهَا وَهُوَ الْأَرْشُ وَإِنْ تَصَادَقَا أَنَّهُمَا لَا يَعْلَمَانِ الْبَادِئَ مِنْهُمَا بِالْجِنَايَةِ ضَمِنَ الْحُرُّ الْجَانِي قِيمَةَ الْعَبْدِ وَالْمَوْلَى إنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ يَدْفَعُ الْعَبْدَ وَنِصْفَ أَرْشِ يَدِهِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَادِئًا بِالْجِنَايَةِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَاحِقًا فَإِنْ كَانَ الْحُرُّ هُوَ الْبَادِئُ فَلَيْسَ عَلَى الْمَوْلَى

(8/433)


إلَّا دَفْعُ الْعَبْدِ وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ هُوَ الْبَادِئُ فَعَلَى الْمَوْلَى دَفْعُ الْعَبْدِ مَعَ أَرْشِ يَدِهِ فَلِلْحُرِّ أَرْشُ الْيَدِ فِي حَالَةٍ وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ فِي حَالَةٍ فَيَجِبُ أَنْ يَصْرِفَ الْأَرْشَ حُرٌّ وَعَبْدٌ الْتَقَيَا وَمَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَصًا وَاضْطَرَبَا فَشَجَّ كُلُّ وَاحِدٍ صَاحِبَهُ ثُمَّ اخْتَلَفَ مَوْلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ فِي الْبُدَاءَةِ فَالْقَوْلُ لِلْمَوْلَى أَنَّ الْحُرَّ بَدَأَ وَعَلَيْهِ أَرْشُ جِنَايَتِهِ عَلَى الْعَبْدِ لِلْمَوْلَى ثُمَّ يَدْفَعُ الْعَبْدَ بِجِنَايَتِهِ أَوْ يَفْدِيهِ لِأَنَّ الْحُرَّ أَقَرَّ بِأَرْشِ يَدٍ بِالْجِنَايَةِ لِأَنَّهُ ادَّعَى الْإِبْرَاءَ مَتَى اخْتَارَ الْمَوْلَى دَفْعَ الْعَبْدِ إلَيْهِ وَأَنْكَرَ الْمَوْلَى فَيَكُونُ الْقَوْلُ لَهُ وَلَوْ كَانَ مَعَ الْعَبْدِ سَيْفٌ وَمَعَ الْحُرِّ عَصًا فَمَاتَ الْعَبْدُ وَبَرَأَ الْحُرُّ وَاخْتَلَفَا كَانَ الْقَوْلُ لِلْمَوْلَى وَقِيمَةُ الْعَبْدِ عَلَى عَاقِلَةِ الْحُرِّ يُسَلِّمُ الْمَوْلَى مِنْ مِقْدَارِ مَا نَقَصَهُ الْحُرُّ مِنْ قِيمَتِهِ إلَى يَوْمِ ضَرَبَ الْعَبْدُ الْحُرَّ وَالْبَاقِي قِيمَةُ أَرْشِ جِنَايَتِهِ عَلَى الْحُرِّ فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَهُوَ لِلْمَوْلَى لِأَنَّ الْحُرَّ قُتِلَ بِعَصًا فَيَكُونُ قَتِيلَ خَطَأِ الْعَمْدِ فَيَجِبُ قِيمَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الْحُرِّ.
وَالْقِيمَةُ قَامَتْ مَقَامَ الْعَبْدِ كَأَنَّ الْعَبْدَ حَيٌّ فَيَأْخُذُ الْمَوْلَى قَدْرَ مَا انْتَقَصَ بِجِنَايَةِ الْحُرِّ وَيَأْخُذُ الْحُرُّ مِنْ الْبَاقِي أَرْشَ جِرَاحَتِهِ فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ مِنْهُ فَهُوَ لِلْمَوْلَى لِأَنَّهُ بَدَلُ عَبْدِهِ وَقَدْ فَرَغَ الْعَبْدُ عَنْ حَقِّ الْغَيْرِ وَإِنْ انْتَقَصَ الْبَاقِي لَا يَكُونُ عَلَى الْمَوْلَى شَيْءٌ كَمَا لَوْ دَفَعَ الْعَبْدَ وَقِيمَتُهُ أَقَلُّ مِنْ أَرْشِ الْجِرَاحَةِ وَلَوْ كَانَ السَّيْفُ مَعَ الْحُرِّ وَمَعَ الْعَبْدِ عَصًا فَمَاتَ الْعَبْدُ وَبَرَأَ الْحُرُّ وَلَا يُدْرَى أَيُّهُمَا بَدَأَ بِالْجِنَايَةِ فَلِلْمَوْلَى أَنْ يَقْتُلَ الْحُرَّ وَيُبْطِلَ حَقَّ الْحُرِّ لِأَنَّ الْحُرَّ قَتَلَ بِالسَّيْفِ عَمْدًا فَوَجَبَ الْقَوَدُ فَقَدْ مَاتَ الْعَبْدُ وَلَمْ يُخَلِّفْ بَدَلًا فَيَبْطُلُ حَقُّ الْحُرِّ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْعَبْدُ هُوَ الَّذِي بَدَأَ بِالْجِنَايَةِ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ تَمَلُّكُ الْعَبْدِ بِسَبَبٍ بَعْدَمَا مَاتَ وَلَوْ كَانَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَصًا فَشَجَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ مُوضِحَةً وَبَرِئَا وَاتَّفَقُوا أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْبَادِئَ مَنْ هُوَ خُيِّرَ الْمَوْلَى فَإِنْ دَفَعَ الْعَبْدَ يَرْجِعُ عَلَى الْحُرِّ بِنِصْفِ أَرْشِ عَبْدِهِ لِأَنَّ الْحُرَّ إنْ كَانَ هُوَ الْبَادِئُ بِالْجِنَايَةِ يَجِبُ عَلَيْهِ جَمِيعُ أَرْشِ عَبْدِهِ وَإِنْ كَانَ اللَّاحِقُ فَهُوَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَيَجِبُ نِصْفُهُ وَإِنْ شَاءَ فَدَاهُ بِجَمِيعِ أَرْشِ الْحُرِّ وَرَجَعَ عَلَى الْحُرِّ بِجَمِيعِ أَرْشِ عَبْدِهِ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْحُرِّ جَمِيعُ أَرْشِ الْعَبْدِ تَقَدَّمَتْ جِنَايَتُهُ أَوْ تَأَخَّرَتْ فَإِنْ كَانَا سَوَاءٌ اتَّفَقَا وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَقَلَّ فَالْأَقَلُّ بِمِثْلِهِ يَصِيرُ قِصَاصًا وَيُرَدُّ الْفَضْلُ عَلَى صَاحِبِهِ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (عَبْدُهُمَا قَتَلَ قَرِيبَهُمَا فَعَفَا أَحَدُهُمَا بَطَلَ الْكُلُّ) مَعْنَاهُ إنْ كَانَ عَبْدٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَقَتَلَ قَرِيبًا لَهُمَا كَأُمِّهِمَا أَوْ أَخُوهُمَا فَعَفَا أَحَدُهُمَا بَطَلَ الْجَمِيعُ وَلَا يَسْتَحِقُّ غَيْرُ الْعَافِي مِنْهُمَا شَيْئًا مِنْ الْعَبْدِ غَيْرَ نَصِيبِهِ الَّذِي كَانَ لَهُ مِنْ قَبْلُ.
وَكَذَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ لِقَرِيبٍ لَهُمَا أَوْ لِمُعْتِقِهِمَا فَقَتَلَ مَوْلَاهُ فَرَثَاهُ بَطَلَ الْكُلُّ هَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يَدْفَعُ الَّذِي عَفَا نِصْفَ نَصِيبِهِ إلَى الْآخَرِ إنْ شَاءَ وَإِنْ شَاءَ فَدَاهُ بِرُبْعِ الدِّيَةِ لِأَنَّ حَقَّ الْقِصَاصِ ثَبَتَ لَهُمَا فِي الْعَبْدِ عَلَى الشُّيُوعِ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يُنَافِي اسْتِحْقَاقَ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ لِلْمَوْلَى فَإِذَا عَفَا أَحَدُهُمَا انْقَلَبَ نَصِيبُ الْآخَرِ وَهُوَ النِّصْفُ مَالًا غَيْرَ أَنَّهُ شَائِعٌ فِي كُلِّ الْعَبْدِ فَيَكُونُ نِصْفُهُ فِي نَصِيبِهِ وَنِصْفُهُ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ فَمَا أَصَابَ نَصِيبَهُ سَقَطَ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى عَبْدِهِ مَالًا وَمَا أَصَابَ نَصِيبَ صَاحِبِهِ ثَبَتَ وَهُوَ نِصْفُ النِّصْفِ وَهُوَ الرُّبْعُ فَيَدْفَعُ نِصْفَ نَصِيبِهِ أَوْ يَفْدِيهِ بِرُبْعِ الدِّيَةِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَا يَجِبُ مِنْ الْمَالِ يَكُونُ حَقَّ الْمَوْلَى لِأَنَّهُ بَدَلُ دَمِهِ وَلِهَذَا يُقْضَى مِنْهُ دُيُونُهُ وَتَنْفُذُ مِنْهُ وَصَايَاهُ ثُمَّ الْوَرَثَةُ يَخْلُفُونَهُ فِيهِ عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْ حَاجَتِهِ وَالْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى عَبْدِهِ مَالًا فَلَا تَخْلُفُهُ الْوَرَثَةُ فِيهِ وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ لَمَّا صَارَ مَالًا صَارَ بِمَعْنَى الْخَطَأِ وَفِيهِ لَا يَجِبُ شَيْءٌ فَكَذَا مَا هُوَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ وَفِي الْكَافِي وَمَنْ قَتَلَ وَلِيَّهُ عَمْدًا فَقُطِعَ يَدُ قَاتِلِهِ ثُمَّ عَفَا وَقَدْ قُضِيَ لَهُ بِالْقِصَاصِ أَوْ لَمْ يُقْضَ فَعَلَى قَاطِعِ الْيَدِ دِيَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَكَذَا إذَا عَفَا ثُمَّ سَرَى لَا يَضْمَنُ شَيْئًا وَالْقَطْعُ السَّارِي أَفْحَشُ مِنْ الْمُقْتَصِرِ وَصَارَ كَمَا لَوْ كَانَ لَهُ قِصَاصٌ فِي الْيَدِ فَقَطَعَ أَصَابِعَهُ ثُمَّ عَفَا عَنْ الْيَدِ فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ أَرْشَ الْأَصَابِعِ وَالْأَصَابِعُ وَالْكَفُّ كَأَطْرَافِ النَّفْسِ وَلَوْ قَطَعَ وَمَا عَفَا ثُمَّ بَرَأَ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ فِي الصَّحِيحِ.
وَلَوْ قَطَعَ ثُمَّ حَزَّ رَقَبَتَهُ قَبْلَ الْبُرْءِ فَهُوَ عَلَى اسْتِيفَاءِ قَتْلٍ يَضْمَنُ حَتَّى لَوْ حَزَّ رَقَبَتَهُ بَعْدَ الْبُرْءِ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ فِي الصَّحِيحِ شَجَّ رَجُلًا مُوضِحَةً عَمْدًا فَعَفَا عَنْهَا وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا ثُمَّ شَجَّهُ شَجَّةً أُخْرَى عَمْدًا فَلَمْ يَعْفُ عَنْهَا فَعَلَى الْجَانِي الدِّيَةُ كَامِلَةً فِي ثَلَاثِ سِنِينَ إذَا مَاتَ مِنْهَا جَمِيعًا مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ عَفَا عَنْ الْأُولَى بَطَلَ عَنْهُ الْقِصَاصُ وَصَارَتْ الثَّانِيَةُ مَالًا وَصَارَتْ الْأُولَى أَيْضًا مَالًا وَلَمْ يَجُزْ لَهُ الْعَفْوُ لِأَنَّهُ لَا وَصِيَّةَ لَهُ وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ أَنَّ عَلَى الْجَانِي الدِّيَةَ رَجُلٌ قَتَلَ عَمْدًا وَقُضِيَ لِوَلِيِّهِ بِالْقِصَاصِ عَلَى الْقَاتِلِ فَأَمَرَ الْوَلِيُّ رَجُلًا بِقَتْلِهِ ثُمَّ إنَّهُ طَلَبَ مِنْ الْوَلِيِّ أَنْ يَعْفُوَ عَنْ الْقَاتِلِ فَعَفَا عَنْهُ فَقَتَلَهُ الْمَأْمُورُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِالْعَفْوِ قَالَ عَلَيْهِ الدِّيَةُ

(8/434)


وَيَرْجِعُ بِذَلِكَ عَلَى الْآمِرِ امْرَأَةٌ قَتَلَتْ رَجُلًا خَطَأً فَتَزَوَّجَهَا وَلِيُّ الْمَقْتُولِ عَلَى الدِّيَةِ الَّتِي وَجَبَتْ عَلَى الْعَاقِلَةِ فَذَلِكَ جَائِزٌ وَالْعَاقِلَةُ بَرَاءٌ فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا رَجَعَ عَلَى الْعَاقِلَةِ بِنِصْفِ الدِّيَةِ رَجُلٌ شَجَّ رَجُلًا مُوضِحَةً عَمْدًا وَمَاتَ مِنْ الْمُوضِحَتَيْنِ فَعَلَى الْآخَرِ الْقِصَاصُ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْأَوَّلِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الصُّلْحُ مَعَ الْأَوَّلِ بَعْدَ مَا شَجَّهُ الْآخَرُ قَالَ أَبُو الْفَضْلِ فَقَدْ اسْتَحْسَنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّهُ لَهُ الْقِصَاصُ عَلَى الْآخَرِ إذَا كَانَ شَجَّهُ بَعْدَ صُلْحِ الْأَوَّلِ رَجُلٌ شَجَّ رَجُلًا مُوضِحَةً عَمْدًا وَصَالَحَهُ عَنْهَا وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا عَلَى عَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ وَقَبَضَهَا ثُمَّ شَجَّهُ آخَرُ خَطَأً وَمَاتَ مِنْهَا فَعَلَى الثَّانِي خَمْسَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ عَلَى عَاقِلَتِهِ.
وَيَرْجِعُ الْأَوَّلُ فِي مَالِ الْمَقْتُولِ بِخَمْسَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَإِنْ كَانَتْ الشَّجَّتَانِ عَمْدًا جَازَ إعْطَاءُ الْأَوَّلِ وَقَتْلُ الْآخَرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[فَصْلٌ بَيَانِ أَحْكَامِ الْجِنَايَةِ عَلَى الْعَبْدِ]
(فَصْلٌ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ جِنَايَةِ الْعَبْدِ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ الْجِنَايَةِ عَلَى الْعَبْدِ وَقَدَّمَ الْأَوَّلَ تَرْجِيحًا لِجَانِبِ الْفَاعِلِيَّةِ كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَهُوَ حَقُّ الْأَدَاءِ وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ وَغَايَةِ الْبَيَانِ إنَّمَا قَدَّمَ جِنَايَةَ الْعَبِيدِ عَلَى الْجِنَايَةِ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ الْفَاعِلَ قَبْلَ الْمَفْعُولِ وُجُودًا فَكَذَا تَرْتِيبًا أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ أَنَّ ذَاتَ الْفَاعِلِ قَبْلَ ذَاتِ الْمَفْعُولِ وُجُودًا فَهُوَ مَمْنُوعٌ إذْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ ذَاتِ الْمَفْعُولِ قَبْلَ وُجُودِ ذَاتِ الْفَاعِلِ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ مَثَلًا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عُمْرُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ سَبْعِينَ سَنَةً أَوْ أَكْثَرَ وَعُمْرُ الْجَانِي عِشْرِينَ سَنَةً أَوْ أَقَلَّ وَإِنْ أُرِيدَ فَاعِلِيَّةُ الْفَاعِلِ قَبْلَ مَفْعُولِيَّةِ الْمَفْعُولِ وُجُودًا فَهُوَ أَيْضًا مَمْنُوعٌ لِأَنَّ الْفَاعِلِيَّةَ وَالْمَفْعُولِيَّةَ يُوجَدَانِ مَعًا فِي آنٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّ تَعَلُّقَ الْفِعْلِ الْمُتَعَدِّي بِالْمَفْعُولِ بِوُقُوعِهِ عَلَيْهِ وَقَبْل ذَلِكَ لَا يَتَّصِفُ الْفَاعِلُ بِالْفَاعِلِيَّةِ وَلَا الْمَفْعُولُ بِالْمَفْعُولِيَّةِ وَكُلُّ ذَلِكَ بِوُقُوعِهِ عَلَيْهِ لَيْسَ خَافٍ عَلَى الْعَارِفِ الْفَطِنِ بِالْقَوَاعِدِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (عَبْدٌ قُتِلَ خَطَأً تَجِبُ قِيمَتُهُ وَنُقِصَ عَشَرَةً لَوْ كَانَتْ عَشَرَةَ آلَافٍ أَوْ أَكْثَرَ وَفِي الْأَمَةِ عَشَرَةٌ مِنْ خَمْسَةِ آلَافٍ وَفِي الْمَغْصُوبِ تَجِبُ قِيمَتُهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ) .
وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقِنِّ تَجِبُ قِيمَتُهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ وَفِي الْغَصْبِ تَجِبُ قِيمَتُهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ بِالْإِجْمَاعِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ أَوْجَبُوا فِي قَتْلِ الْعَبْدِ قِيمَتَهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ لِأَنَّ الضَّمَانَ بَدَلُ الْمَالِيَّةِ وَلِهَذَا يَجِبُ لِلْمَوْلَى وَهُوَ لَا يَمْلِكُ إلَّا مِنْ حَيْثُ الْمَالِيَّةُ وَلَوْ كَانَ بَدَلَ الدَّمِ لَكَانَ لِلْعَبْدِ إذْ هُوَ فِي حَقِّ الدَّمِ مُبْقًى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ فَعُلِمَ أَنَّهُ بَدَلُ الْمَالِيَّةِ.
وَلِهَذَا لَوْ قُتِلَ الْعَبْدُ الْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ يَبْقَى عَقْدُ الْبَيْعِ وَبَقَاؤُهُ بِبَقَاءِ الْمَالِيَّةِ أَصْلًا أَوْ بَدَلًا فِي حَالِ قِيَامِهِ أَوْ هَلَاكِهِ فَصَارَ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ وَكَقَلِيلِ الْقِيمَةِ وَالْغَصْبِ وَلِأَنَّ ضَمَانَ الْمَالِ بِالْمَالِ أَصْلٌ وَضَمَانَ مَا لَيْسَ بِمَالٍ خِلَافُ الْأَصْلِ وَمَهْمَا أَمْكَنَ إيجَابُ الضَّمَانِ عَلَى مُوَافَقَةِ الْقِيَاسِ لَا يُصَارُ إلَى إيجَابِهِ بِخِلَافِ الْأَصْلِ قَالَ الْقُدُورِيُّ فِي كِتَابِهِ التَّقْرِيرُ قَالَ أَبُو يُوسُفَ إذَا قُتِلَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَاخْتَارَ الْمُشْتَرِي إجَازَةَ الْبَيْعِ كَانَ لَهُ الْقِصَاصُ وَكَذَا إنْ اخْتَارَ فَسْخَ الْبَيْعِ كَانَ لِلْبَائِعِ الْقِصَاصُ وَهَذَا حِفْظِي عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لَيْسَ لِلْبَائِعِ الْقِصَاصُ وَرَوَى ابْنُ زِيَادٍ عَنْهُ لَا قِصَاصَ لِلْمُشْتَرِي أَيْضًا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْله تَعَالَى {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ} [النساء: 92] أَوْجَبَهَا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا وَالدِّيَةُ اسْمٌ لِلْوَاجِبِ بِمُقَابَلَةِ الْآدَمِيَّةِ وَهُوَ آدَمِيٌّ فَيَدْخُلُ تَحْتَ النَّصِّ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ حُكْمَانِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ وَالْعَبْدُ دَاخِلٌ فِيهَا فِي حَقِّ الْكَفَّارَةِ بِالْإِجْمَاعِ لِكَوْنِهِ آدَمِيًّا.
فَكَذَا فِي الدِّيَةِ لِأَنَّهُ آدَمِيٌّ وَلِهَذَا يَجِبُ الْقِصَاصُ بِقَتْلِهِ بِالْإِجْمَاعِ وَيَكُونُ مُكَلَّفًا وَلَوْلَا أَنَّهُ آدَمِيٌّ لَمَا وَجَبَ الْقِصَاصُ وَكَانَ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِيهِ مَعْنَى الْمَالِيَّةِ وَالْآدَمِيَّةِ وَجَبَ اعْتِبَارُ أَعْلَاهُمَا وَهِيَ الْآدَمِيَّةُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا بِإِهْدَارِ الْأَدْنَى وَهِيَ الْمَالِيَّةُ لِأَنَّ الْآدَمِيَّةَ أَسْبَقُ وَالرِّقُّ عَارِضٌ بِوَاسِطَةِ الِاسْتِنْكَافِ فَكَانَ اعْتِبَارُ مَا هُوَ الْأَصْلُ أَوْلَى أَلَا تَرَى أَنَّ الْقِصَاصَ يَجِبُ بِقَتْلِهِ عَمْدًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَالْمُتْلَفُ فِي حَالَةِ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ وَاحِدٌ.
فَإِذَا اُعْتُبِرَ فِي إحْدَى حَالَتَيْ الْقَتْلِ آدَمِيًّا وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ فِي الْحَالَةِ الْأُخْرَى كَذَلِكَ إذْ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ لَا يَتَبَدَّلُ جِنْسُهُ بِاخْتِلَافِ حَالَةِ إتْلَافِهِ وَهَذَا أَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ لِأَنَّ فِي الْعَكْسِ إهْدَارَ آدَمِيَّتِهِ وَإِلْحَاقَهُ بِالْبَهَائِمِ وَالْجَمَادِ وَمَا رَوَيَا مِنْ الْأَثَرِ مُعَارَضٌ بِأَثَرِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْغَصْبِ وَضَمَانُ الْغَصْبِ بِمُقَابَلَةِ الْمَالِيَّةِ لِأَنَّهُ لَا تَعَارُضَ لَهَا إذْ الْغَصْبُ لَا يَرِدُ إلَّا عَلَى الْمَالِ وَبَقَاءُ الْعَقْدِ لَا يَعْتَمِدُ الْمَالِيَّةَ وَإِنَّمَا يَعْتَمِدُ الْفَائِدَةَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَبْقَى بَعْدَ قَتْلِهِ

(8/435)


عَمْدًا أَيْضًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْقِصَاصُ مَالًا وَلَا بَدَلًا عَنْ الْمَالِيَّةِ وَفِي قَلِيلِ الْقِيمَةِ الْوَاجِبُ بِمُقَابَلَةِ الْآدَمِيَّةِ إلَّا أَنَّهُ لَا سَمْعَ فِيهِ فَقَدَّرْنَاهُ بِقِيمَتِهِ رَأْيًا بِخِلَافِ كَثِيرِ الْقِيمَةِ لِأَنَّ فِيهِ قَوْلَ ابْنِ مَسْعُودٍ لَا يَبْلُغُ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ دِيَةَ الْحُرِّ وَيُنْقَصُ مِنْهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَالْأَثَرُ فِي الْمُقَدَّرَاتِ كَالْخَبَرِ إذْ لَا يُعْرَفُ إلَّا سَمَاعًا وَلِأَنَّ آدَمِيَّتَهُ أَنْقَصُ وَيَكُونُ بَدَلُهَا أَقَلَّ كَالْمَرْأَةِ وَالْجَنِينِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا كَانَ أَنْقَصَ نُصِّفَتْ النِّعَمُ وَالْعُقُوبَاتُ فِي حَقِّهِ إظْهَارًا لِانْحِطَاطِ رُتْبَتِهِ فَكَذَا فِي هَذَا وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجِبُ فِي الْأَمَةِ خَمْسَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ إلَّا خَمْسَةً لِأَنَّ دِيَةَ الْأُنْثَى نِصْفُ الذَّكَرِ فَيَكُونُ النَّاقِصُ عَنْ دِيَةِ الْأُنْثَى نِصْفَ النَّاقِصِ عَنْ دِيَةِ الذَّكَرِ كَمَا فِي الْأَطْرَافِ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِأَنَّ أَقَلَّ مَالٍ لَهُ خَطَرٌ فِي الشَّرْعِ عَشَرَةٌ كَنِصَابِ السَّرِقَةِ وَالْمَهْرِ وَمَا دُونَهُ لَا يُعْتَبَرُ بِخِلَافِ الْأَطْرَافِ لِأَنَّهُ بَعْضُ الدِّيَةِ فَيَنْقُصُ مِنْ كُلِّ جُزْءٍ بِحِسَابِهِ وَلَوْ نَقَصَ مِنْ كُلِّ جُزْءٍ عَشَرَةٌ لَمَا وَجَبَ أَصْلًا.
وَلَمْ يَتَعَرَّضْ الْمُؤَلِّفُ لِمَسَائِلِ الضَّرْبِ وَنَحْنُ نَذْكُرُهَا تَكْمِيلًا لِلْفَائِدَةِ قَالَ فِي الْجَامِعِ مَسَائِلُ الضَّرْبِ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ أَحَدُهَا فِي ضَرْبِ الْمَوْلَى عَبْدَهُ وَالثَّانِي فِي أَمْر أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ بِضَرْبِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ وَالثَّالِثُ فِي ضَرْبِ الشَّرِيكِ أَوْ أَجْنَبِيٍّ أَصْلُهُ الْعِبْرَةُ فِي الْجِنَايَاتِ لِتَعَدُّدِ الْجَانِي لَا لِتَعَدُّدِ الْجِنَايَةِ لِأَنَّ النَّفْسَ تَبْرَأُ مِنْ جِرَاحَاتٍ كَثِيرَةٍ وَتَمُوتُ مِنْ جِرَاحَاتٍ قَلِيلَةٍ وَلِهَذَا سَقَطَ اعْتِبَارُ طُولِهَا وَعَرْضِهَا وَعُمْقِهَا أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَضْرِبَ عَبْدَهُ سَوْطَيْنِ فَضَرَبَهُ ثَلَاثَةً وَضَرَبَهُ الْمَوْلَى سَوْطًا ثُمَّ ضَرَبَهُ أَجْنَبِيٌّ سَوْطًا ثُمَّ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فَعَلَى عَاقِلَةِ الْمَأْمُورِ بِالسَّوْطَيْنِ أَرْشُ السَّوْطِ الثَّالِثِ مَضْرُوبًا وَهُوَ سُدُسُ قِيمَتِهِ مَضْرُوبًا أَرْبَعَةَ أَسْوَاطٍ وَعَلَى عَاقِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ أَرْشُ السَّوْطِ الْخَامِسِ مَضْرُوبًا أَرْبَعَةَ أَسْوَاطٍ وَهُوَ ثُلُثُ قِيمَتِهِ مَضْرُوبًا بِأَرْبَعَةِ أَسْوَاطٍ.
وَيَبْطُلُ مَا سِوَى ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ ضَرَبَهُ ثَلَاثَةَ أَسْوَاطٍ اثْنَانِ مِنْهَا هَدَرٌ مَعَ السِّرَايَةِ لِلْإِذْنِ وَالثَّالِثُ مُعْتَبَرٌ لِأَنَّهُ ضَرْبٌ بِغَيْرِ إذْنٍ فَيَضْمَنُ أَرْشَهُ مَضْمُونًا بِهِمَا وَالرَّابِعُ هَدَرٌ لِأَنَّ جِنَايَةَ الْمَوْلَى عَلَى مَمْلُوكِهِ هَدَرٌ وَالْخَامِسُ مُعْتَبَرٌ فَيَضْمَنُ الْأَجْنَبِيُّ أَرْشَهُ مَنْقُوصًا بِأَرْبَعَةِ أَسْوَاطٍ وَإِذَا مَاتَ الْعَبْدُ مِنْ هَذِهِ فَقَدْ مَاتَ مِنْ خَمْسِ جِنَايَاتٍ فَانْقَسَمَ تَلَفُ التَّلَفِ عَلَى الْجِنَايَاتِ فَيُقْسَمُ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِعَدَدِ الْجَانِي لَا لِعَدَدِ الْجِنَايَاتِ فَانْقَسَمَ عَلَيْهِمَا أَثْلَاثًا ثُلُثٌ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ وَثُلُثَاهُ تَلِفَ بِجِنَايَةِ الْمَأْمُورِ الْأَوَّلِ فَانْقَسَمَ هَذَا الثُّلُثُ نِصْفَيْنِ، نِصْفُهُ هَدَرٌ وَنِصْفُهُ مُعْتَبَرٌ.
وَالْأَصْلُ الثَّانِي أَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى الْمَمَالِيكِ مَتَى أَتْلَفَتْ نَفْسًا أَوْ عُضْوًا وَأَفْضَى إلَى الْمَوْتِ فَتَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ لِأَنَّهُ ضَمَانُ دَمٍ وَضَمَانُ الدَّمِ تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ وَإِنْ اقْتَصَرَتْ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ يَجِبُ ضَمَانُهُ فِي مَالِ الْجَانِي عَبْدٌ بَيْن رَجُلَيْنِ قَالَ أَحَدُهُمَا اضْرِبْهُ سَوْطًا فَإِنْ زِدْت فَهُوَ حُرٌّ فَضَرَبَهُ ثَلَاثَةً فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فَعَلَى الضَّارِبِ نِصْفُ أَرْشِ السَّوْطَيْنِ مَنْقُوصًا سَوْطًا فِي مَالِهِ وَعَلَى الْمُعْتِقِ لِشَرِيكِهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا نِصْفُ قِيمَتِهِ مَضْرُوبًا سَوْطَيْنِ وَعَلَى الضَّارِبِ أَرْشُ السَّوْطِ الثَّالِثِ مَضْرُوبًا سَوْطَيْنِ وَنِصْفُ قِيمَتِهِ مَضْرُوبًا ثَلَاثَةَ أَسْوَاطٍ فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى عَاقِلَتِهِ فَلِيَسْتَوْفِهَا أَوْلِيَاءُ الْعَبْدِ أَوْ يَأْخُذَ الْمُعْتِقُ مِنْ ذَلِكَ مَا غَرِمَ وَيَكُونُ الْبَاقِي لِوَرَثَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّ السَّوْطَ الْأَوَّلَ كُلَّهُ هَدَرٌ لِأَنَّ نِصْفَهُ فِي مِلْكِهِ وَنِصْفَهُ لَاقَى مِلْكَ شَرِيكِهِ وَلَكِنَّهُ بِإِذْنِهِ وَالسَّوْطُ الثَّانِي نِصْفُهُ هَدَرٌ وَنِصْفُهُ مُعْتَبَرٌ لِأَنَّ نِصْفَهُ لَاقَى مِلْكَهُ وَنِصْفَهُ لَاقَى مِلْكَ شَرِيكِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَيَضْمَنُ أَرْشَ السَّوْطِ الثَّانِي مَضْرُوبًا سَوْطًا فِي مَالِهِ لِشَرِيكِهِ لِأَنَّ سِرَايَتَهُ انْقَطَعَتْ لَمَّا أَعْتَقَهُ فَاقْتَصَرَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ فَتَجِبُ فِي مَالِ الْجَانِي.
وَصَارَ الْعَبْدُ كُلُّهُ مِلْكًا لِلْمُعْتِقِ بِالضَّمَانِ لِأَنَّ الْمُعْتِقَ بِالضَّمَانِ يَمْلِكُ نَصِيبَ الضَّارِبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَيَصِيرُ مُكَاتَبًا لَهُ لِأَنَّهُ يُوقَفُ عِتْقُ هَذَا النِّصْفِ عَلَى أَدَاءِ السِّعَايَةِ إلَيْهِ فَالسَّوْطُ الثَّالِثُ لَاقَى مُكَاتَبَ غَيْرِهِ فَيَكُونُ مُعْتَبَرًا كُلُّهُ فَيَضْمَنُ الضَّارِبُ جَمِيعَ مَا نَقَصَهُ السَّوْطُ الثَّالِثُ مَضْرُوبًا سَوْطَيْنِ لِأَنَّ السَّوْطَ الثَّالِثَ حَلَّ بِهِ وَهُوَ مَنْقُوصٌ سَوْطَيْنِ.
فَلَمَّا مَاتَ الْعَبْدُ فَقَدْ مَاتَ مِنْ ثَلَاثِ جِنَايَاتٍ إلَّا أَنَّ الْجِنَايَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ كَجِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ لِاتِّفَاقِ حُكْمِهَا وَاتِّحَادِهِ وَانْهَدَرَتْ سِرَايَتُهُمَا وَالْجِنَايَةُ الثَّالِثَةُ مُعْتَبَرَةٌ بِأَصْلِهَا وَسِرَايَتَهَا وَإِنْ عَتَقَ الْعَبْدُ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّ إعْتَاقَ الْمُكَاتَبِ لَا يَقْطَعُ السِّرَايَةَ لِمَا بَيَّنَّا فَصَارَتْ النَّفْسُ تَالِفَةً بِجِنَايَتَيْنِ إحْدَاهُمَا مُعْتَبَرَةٌ وَالْأُخْرَى مُهْدَرَةٌ فَيُهْدَرُ نِصْفُ قِيمَتِهِ وَيَضْمَنُ الضَّارِبُ نِصْفَ قِيمَتِهِ مَضْرُوبًا ثَلَاثَةَ أَسْوَاطٍ لِأَنَّهُ مَاتَ مَنْقُوصًا ثَلَاثَةَ أَسْوَاطٍ فَإِنْ ظَفِرَ الْمُعْتِقُ بِمَالِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِهِ مَا ضَمِنَ لِشَرِيكِهِ كَمَا لَهُ وَرَثَةٌ وَلِلْحَالِفِ لِأَنَّ وَلَاءَهُ لَهُ وَلَمْ يُبَاشِرْ قَتْلَهُ وَإِنَّمَا أَمَرَ بِقَتْلِهِ فَيَكُونُ مُسَبِّبًا لِقَتْلِهِ وَالْمُتَسَبِّبُ لِلْقَتْلِ لَا يُحْرَمُ عَنْ الْإِرْثِ وَإِنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُعْسِرًا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ

(8/436)


وَعَلَى الضَّارِبِ الضَّمَانُ كَمَا وَصَفْنَا وَيَكُونُ نِصْفُهُ فِي مَالِهِ وَنِصْفُهُ عَلَى الْعَاقِلَةِ فَيَأْخُذُ الضَّارِبُ مِنْ ذَلِكَ نِصْفَ قِيمَةِ الْعَبْدِ مَضْرُوبًا سَوْطَيْنِ فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ فَلِوَرَثَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّ الْحَالِفَ مَتَى كَانَ مُعْسِرًا لَا يَكُونُ لِلضَّارِبِ تَضْمِينُ الْحَالِفِ وَإِنَّمَا لَهُ اسْتِسْعَاءُ نَصِيبِهِ فَبَقِيَ نَصِيبُ الضَّارِبِ عَلَى مِلْكِهِ.
وَصَارَ نَصِيبُهُ مُكَاتَبًا لَهُ لِأَنَّهُ تَوَقَّفَ عِتْقُ نَصِيبِهِ عَلَى أَدَاءِ السِّعَايَةِ إلَيْهِ وَنَصِيبُ الْمُعْتِقِ صَارَ حُرًّا مَوْلًى لَهُ وَكَانَ السَّوْطُ الْأَوَّلُ هَدَرًا، وَالسَّوْطُ الثَّانِي نِصْفُهُ هَدَرٌ وَنِصْفُهُ مُعْتَبَرٌ لِمَا بَيَّنَّا وَالسَّوْطُ الثَّالِثُ كُلُّهُ مُعْتَبَرٌ لِأَنَّ نِصْفَهُ مُكَاتَبٌ لِلضَّارِبِ وَنِصْفَهُ لِمَوْلَى الْحَالِفِ وَقَدْ مَاتَ الْعَبْدُ بِجِنَايَتَيْنِ إحْدَاهُمَا مُعْتَبَرَةٌ وَالْأُخْرَى مُهْدَرَةٌ فَكَانَ عَلَى الضَّارِبِ نِصْفُ قِيمَةِ الْعَبْدِ مَضْرُوبًا بِثَلَاثَةِ أَسْوَاطٍ نِصْفُهُ عَلَى الْعَاقِلَةِ لِأَنَّ نِصْفَهُ مُكَاتَبٌ وَنِصْفَهُ مُعْتِقُ الْحَالِفِ وَمُوجِبُ جِنَايَتِهِ عَلَى مُكَاتَبِ نَفْسِهِ فِي مَالِهِ.
وَمُوجِبُ جِنَايَتِهِ عَلَى مُعْتِقِ غَيْرِهِ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَيَكُونُ ذَلِكَ كَسْبَ الْمُكَاتَبِ فَيَسْتَوْفِي الضَّارِبُ مِنْهُ مِقْدَارَ نِصْفِ قِيمَتِهِ مَضْرُوبًا سَوْطَيْنِ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ مَالِهِ مَالَ جِنَايَتِهِ لِأَنَّهُ صَارَ دَيْنًا عَلَيْهِ فَيُؤْخَذُ أَيْضًا مِنْ تَرِكَتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ وَلَوْ كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا ثُمَّ ضَرَبَهُ الْآمِرُ سَوْطًا ثُمَّ ضَرَبَهُ الْأَجْنَبِيُّ سَوْطًا وَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فَعَلَى الْمَأْمُورِ نِصْفُ أَرْشِ السَّوْطِ الثَّانِي مَضْرُوبًا سَوْطًا فِي مَالِهِ لِشَرِيكِهِ وَعَلَى عَاقِلَةِ الْمَأْمُورِ إنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا أَرْشُ السَّوْطِ الثَّالِثِ مَضْرُوبًا سَوْطَيْنِ وَهُوَ سُدُسُ قِيمَتِهِ مَضْرُوبًا خَمْسَةَ أَسْوَاطٍ فِي مَالِهِ وَعَلَى عَاقِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ أَرْشُ السَّوْطِ الْخَامِسِ مَضْرُوبًا أَرْبَعَةَ أَسْوَاطٍ وَهُوَ ثُلُثُ قِيمَتِهِ مَضْرُوبًا خَمْسَةَ أَسْوَاطٍ لِأَنَّ السَّوْطَ الْأَوَّلَ كُلَّهُ هَدَرٌ وَالسَّوْطَ الثَّانِيَ نِصْفُهُ مُعْتَبَرٌ لِأَنَّ نِصْفَهُ لَاقَى مِلْكَ شَرِيكِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَيَغْرَمُ الضَّارِبُ نِصْفَ أَرْشٍ فِي مَالِهِ لِشَرِيكِهِ وَسِرَايَةُ الْجِنَايَتَيْنِ مُهْدَرَةٌ لِأَنَّ الْحَالِفَ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ بَعْدَ السَّوْطِ الثَّانِي وَهُوَ مُوسِرٌ فَكَانَ لِلضَّارِبِ أَنْ يَضْمَنَ قِيمَةَ نَصِيبِهِ مَضْرُوبًا سَوْطَيْنِ.
وَصَارَ نَصِيبُ الضَّارِبِ مِلْكًا لِلْحَالِفِ بِالضَّمَانِ وَصَارَ مُكَاتَبًا لَهُ وَالسَّوْطُ الثَّالِثُ مُعْتَبَرٌ كُلُّهُ لِأَنَّهُ لَاقَى شَخْصًا نِصْفُهُ مُعْتَقٌ مُكَاتَبٌ لَهُ وَالْجِنَايَةُ عَلَى الْمُعْتَقِ وَالْمُكَاتَبِ مُعْتَبَرَةٌ وَالسَّوْطُ الرَّابِعُ مِنْ الْمَوْلَى أَيْضًا مُعْتَبَرٌ لِأَنَّهُ لَاقَى شَخْصًا نِصْفُهُ مَوْلًى لِلْآمِرِ وَنِصْفُهُ مُكَاتَبٌ لَهُ وَجِنَايَةُ الْإِنْسَانِ عَلَى مَوْلَاهُ وَمُكَاتَبِهِ مُعْتَبَرَةٌ فَيَغْرَمُ الْآمِرُ مَا نَقَصَهُ السَّوْطُ الرَّابِعُ مَنْقُوصًا ثَلَاثَةَ أَسْوَاطٍ وَالسَّوْطُ الْخَامِسُ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ مُعْتَبَرٌ فَيَغْرَمُ أَرْشَ مَا نَقَصَهُ مَضْرُوبًا أَرْبَعَةَ أَسْوَاطٍ وَإِذَا مَاتَ الْعَبْدُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ يَغْرَمُ الضَّارِبُ سُدُسَ قِيمَتِهِ مَضْرُوبًا خَمْسَةَ أَسْوَاطٍ لِأَنَّهُ قَتْلُ النَّفْسِ ثَلَاثَةً فَقَدْ تَلِفَتْ النَّفْسُ بِجِنَايَاتِ الضَّارِبِ وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَسْوَاطٍ إلَّا أَنَّ السَّوْطَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ حُكْمُهُمَا وَاحِدٌ فَإِنَّ سِرَايَتَهُمَا مُهْدَرَةٌ فَتُجْعَلُ جِنَايَةً وَاحِدَةً.
وَالسَّوْطُ الثَّالِثُ بِأَصْلِهِ وَسِرَايَتُهُ مُعْتَبَرَةٌ فَهَذَا الثُّلُثُ تَلِفَ بِجِنَايَتَيْنِ أَحَدُهُمَا مُعْتَبَرَةٌ وَالْأُخْرَى مُهْدَرَةٌ فَيَغْرَمُ نِصْفَ الثُّلُثِ وَذَلِكَ سُدُسُ الْكُلِّ وَيَجِبُ عَلَى عَاقِلَتِهِ لِأَنَّهُ جَنَى عَلَى مُعْتَقِ وَمُكَاتَبِ غَيْرِهِ وَيَضْمَنُ الْآمِرُ نِصْفَ قِيمَتِهِ مَضْرُوبًا خَمْسَةَ أَسْوَاطٍ فِي مَالِهِ لِأَنَّهُ جَنَى عَلَى الْمُكَاتَبِ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ لِعِتْقِ نَصِيبِهِ أَثَرٌ فِي حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ الْحُرِّيَّةِ فَكَانَ الْكُلُّ مُكَاتَبًا لَهُ حُكْمًا وَاعْتِبَارًا عَلَى عَاقِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ ثُلُثُ قِيمَتِهِ مَضْرُوبًا خَمْسَةَ أَسْوَاطٍ لِأَنَّهُ جَنَى عَلَى مُكَاتَبِ غَيْرِهِ وَمَوْلَى غَيْرِهِ يَكُونُ مِنْ عَاقِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ وَمِنْ الْآمِرِ وَمِنْ الْمَأْمُورِ لِلْعَبْدِ لِأَنَّهُ كَسْبُ الْعَبْدِ وَيَأْخُذُ الْمَأْمُورُ مِنْ الْآمِرِ بِذَلِكَ مِنْ مَالِ الْعَبْدِ لِأَنَّ هَذَا أَرْشٌ لَهُ عَلَى الْعَبْدِ.
وَمَا بَقِيَ فِي مَالِهِ فَلِعَصَبَةِ الْمَوْلَى الْآمِرِ إنْ لَمْ يَكُنْ لِلْعَبْدِ عَصَبَةٌ لِأَنَّ الْوَلَاءَ لَهُمَا إلَّا أَنَّ الْآمِرَ بَاشَرَ قَتْلَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ مُحَرَّمٍ عَنْ الْمِيرَاثِ فَيُجْعَلُ كَالْمَيِّتِ فَيَكُونُ مَا بَقِيَ لِأَقْرَبِ عَصَبَاتِ الْآمِرِ وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ هَذَا بِخِلَافِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ فَفِي طَرَفِ الْمَمْلُوكِ تُعْتَبَرُ بِأَطْرَافِ الْحُرِّ مِنْ الدِّيَةِ إلَى آخِرِهِ فَإِنْ قِيلَ عِنْدَ الْإِمَامِ يُدْفَعُ إلَيْهِ الْعَبْدُ وَيَأْخُذُ قِيمَتَهُ فِي قَطْعِ الْأَطْرَافِ فَأَيُّ تَقْدِيرٍ عَلَى قَوْلِهِ فَالْجَوَابُ أَنَّ التَّقْدِيرَ عَلَى قَوْلِهِ فِيمَا إذَا جَنَى عَلَيْهِ آخَرُ بِقَطْعِ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ فَسَرَى فِيهِ إلَى النَّفْسِ أَوْ فَوَّتَ جِنْسَ الْمَنْفَعَةِ فِي عَدَمِ التَّقْدِيرِ وَالدَّفْعِ فِي غَيْرِهِ وَقِيلَ يَضْمَنُ فِي الْأَطْرَافِ بِحِسَابِهِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ وَلَا يَنْقُصُ مِنْهُ شَيْءٌ لِأَنَّ الْأَطْرَافَ يُسْلَكُ فِيهَا مَسْلَكُ الْأَمْوَالِ.
وَهَذَا يُؤَدِّي إلَى أَمْرٍ شَنِيعٍ وَهُوَ أَنَّ مَا يَجِبُ فِي الْأَطْرَافِ أَكْثَرُ مِمَّا يَجِبُ فِي النُّفُوسِ بِأَنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ مَثَلًا مِائَةَ أَلْفٍ فَإِنَّهُ بِقَطْعِ يَدِهِ يَجِبُ خَمْسُونَ أَلْفًا وَبِقَتْلِهِ يَجِبُ عَشَرَةُ آلَافٍ إلَّا عَشَرَةً.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ فَحَرَّرَهُ سَيِّدُهُ فَمَاتَ مِنْهُ وَلَهُ وَرَثَةٌ غَيْرَهُ لَا يُقْتَصُّ وَإِلَّا اُقْتُصَّ مِنْهُ) وَإِنَّمَا لَا يُقْتَصُّ فِي الْأَوَّلِ لِاشْتِبَاهِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ لِأَنَّ الْقِصَاصَ يَجِبُ عِنْدَ الْمَوْتِ مُسْتَنِدٌ إلَى وَقْتِ الْجُرْحِ فَعَلَى اعْتِبَارِ حَالَةِ الْجُرْحِ

(8/437)


يَكُونُ الْحَقُّ لِلْمَوْلَى وَعَلَى اعْتِبَارِ الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ يَكُونُ لِلْوَرَثَةِ فَتَحَقَّقَ الِاشْتِبَاهُ فَتَعَذَّرَ فَلَا تَجِبُ عَلَى وَجْهٍ يُسْتَوْفَى إذْ الْكَلَامُ فِيمَا إذَا كَانَ لِلْعَبْدِ وَرَثَةٌ أُخْرَى سِوَى الْمَوْلَى وَاجْتِمَاعُهُمَا لَا يُزِيلُ الِاشْتِبَاهَ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي إحْدَى الْحَالَتَيْنِ وَلَا يَثْبُتُ عَلَى الدَّوَامِ فِيهَا فَلَا يَكُونُ الِاجْتِمَاعُ مُقَيَّدًا وَلَا يُقَالُ يَأْذَنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ لِأَنَّ الْإِذْنَ إنَّمَا يَصِحُّ إذَا كَانَ الْآذِنُ يَمْلِكُ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْعَبْدِ الْمُوصَى بِرَقَبَتِهِ لِرَجُلٍ وَبِخِدْمَتِهِ لِآخَرَ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَائِمٌ فَصَارَا بِمَنْزِلَةِ الشَّرِيكَيْنِ فِيهِ فَلَا يُفْرَدُ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّ الْآخَرِ فَيَتَّصِلُ بِاجْتِمَاعِهِمَا لِلرِّضَا بِبُطْلَانِ حَقِّهِ وَأَمَّا فِي الثَّانِي وَهُوَ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَرَثَةٌ غَيْرَ الْمَوْلَى فَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ فِيهِ أَيْضًا لِأَنَّ سَبَبَ الْوِلَايَةِ قَدْ اخْتَلَفَ لِأَنَّ الْمِلْكَ عَلَى اعْتِبَارِ الْعِتْقِ وَالْوَلَاءَ عَلَى اعْتِبَارِ حَالَةِ الْمَوْتِ فَنُزِّلَ اخْتِلَافُ السَّبَبِ مَنْزِلَةَ اخْتِلَافِ الْمُسْتَحَقِّ فِيمَا لَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبْهَةِ أَوْ فِيمَا يُحْتَاطُ فِيهِ فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ لِآخَرَ بِعْتَنِي هَذِهِ الْجَارِيَةَ وَقَالَ لَا بَلْ زَوَّجْتهَا مِنْك لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا لِمَا قُلْنَا.
بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ مِنْ الْقَرْضِ وَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ فَإِنَّهُ يُقْضَى لَهُ عَلَيْهِ بِأَلْفٍ وَإِنْ اخْتَلَفَ السَّبَبُ لِأَنَّ الْأَمْوَالَ تَثْبُتُ بِالشُّبْهَةِ فَلَا يُبَالِي بِاخْتِلَافِ السَّبَبِ عِنْدَ اتِّحَادِ الْحُكْمِ وَلِأَنَّ الْإِعْتَاقَ قَاطِعٌ لِلسِّرَايَةِ وَبِانْقِطَاعِهَا يَبْقَى الْجُرْحُ بِلَا سِرَايَةٍ وَالسِّرَايَةُ بِلَا قَطْعٍ فَيَمْتَنِعُ الْقِصَاصُ وَلَهُمَا أَنَّهُمَا تَيَقَّنَا ثُبُوتَ الْوِلَايَةِ لِلْمَوْلَى فَيَسْتَوْفِيهِ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ لَهُ مَعْلُومٌ وَالْحُكْمُ مُتَّحِدٌ فَأَمْكَنَ الْإِيجَابُ وَالِاسْتِيفَاءُ لِاتِّحَادِ الْمُسْتَوْفَى وَالْمُسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَا مُعْتَبَرَ بِاخْتِلَافِ السَّبَبِ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَسْأَلَةِ الْإِقْرَارِ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ لَهُ مَجْهُولٌ وَبِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْجَارِيَةِ لِأَنَّ الْحُكْمَ مُخْتَلِفٌ لِأَنَّ مِلْكَ الْيَمِينِ يُغَايِرُ مِلْكَ النِّكَاحِ فِي الْحُكْمِ لِأَنَّ النِّكَاحَ يُثْبِتُ الْحَلَّ مَقْصُودًا وَمِلْكُ الْيَمِينِ لَا يُثْبِتُهُ مَقْصُودًا وَقَدْ لَا يَثْبُتُ الْحَلُّ أَصْلًا وَلِأَنَّ مَا ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ السَّبَبِ لِلْحَلِّ انْتَفَى بِإِنْكَارِ الْآخَرِ فَبَقِيَ بِلَا سَبَبٍ فَلَا يَثْبُتُ الْحَلُّ بِدُونِهِ إذْ لَا يَجْرِي فِيهِ الْبَدَلُ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ لِأَنَّ السَّبَبَ مَوْجُودٌ بِيَقِينٍ وَلَا مُنْكِرَ لَهُ فَلَمْ يُوجَدْ مَا يُبْطِلُهُ وَلَا مَا يَحْتَمِلُ الْإِبْطَالَ فَأَمْكَنَ اسْتِيفَاؤُهُ وَالْإِعْتَاقُ لَا يَقْطَعُ السِّرَايَةَ لِذَاتِهِ بَلْ الِاشْتِبَاهُ مَنْ لَهُ الْحَقُّ وَذَلِكَ إذَا كَانَ لَهُ وَارِثٌ آخَرُ غَيْرَ الْمَوْلَى عَلَى مَا بَيَّنَّا أَوْ فِي الْأَطْرَافِ أَوْ فِي الْقَتْلِ خَطَأً لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَصْلُحُ مَالِكًا لِلْمَالِ فَعَلَى اعْتِبَارِ حَالَةِ الْجُرْحِ يَكُونُ الْحَقُّ لِلْمَوْلَى وَعَلَى اعْتِبَارِ حَالَةِ الْمَوْتِ أَوْ زِيَادَةِ الْجُرْحِ فِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ يَكُونُ لِلْعَبْدِ حَتَّى تُقْضَى مِنْهُ دُيُونُهُ وَتَنْفُذُ وَصَايَاهُ فَحَصَلَ الِاشْتِبَاهُ فِيمَنْ لَهُ الْحَقُّ فَسَقَطَ مَا حَدَثَ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ مِنْ ذَلِكَ الْجُرْحِ.
وَأَمَّا الْقَتْلُ عَمْدًا فَمُوجِبُهُ الْقِصَاصُ فَلَا اشْتِبَاهَ فِيهِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ سِوَى الْمَوْلَى لِأَنَّهُ عَلَى اعْتِبَارِ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ لِلْعَبْدِ فَالْمَوْلَى هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّاهُ فَلَا اشْتِبَاهَ فِيمَنْ لَهُ الْحَقُّ فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ مَنْ قَطَعَ يَدَ عَبْدِ غَيْرِهِ فَأَعْتَقَهُ الْمَوْلَى ثُمَّ مَاتَ لَا يَزِيدُ عَلَى أَرْبَعٍ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ قَطَعَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْعَبْدِ وَارِثٌ سِوَى الْمَوْلَى أَوْ لَمْ يَكُنْ فَإِنْ كَانَ يُقْطَعُ الْإِعْتَاقُ السِّرَايَةَ بِالِاتِّفَاقِ فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ لِجَهَالَةِ الْمَقْضِيِّ لَهُ وَالْمَقْضِيِّ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَا يَقْطَعُهَا عِنْدَهُمَا خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَالْإِعْتَاقُ لَا يَقْطَعُهَا فَحَاصِلُهُ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا فِي الْخَطَأِ وَفِي الْعَمْدِ فِيمَا إذَا كَانَ لَهُ وَارِثٌ آخَرُ أَنَّ الْإِعْتَاقَ يَقْطَعُ السِّرَايَةَ فَلَا يَجِبُ إلَّا أَرْشَ الْقَطْعِ وَمَا يَنْقُصُ بِذَلِكَ إلَّا الْإِعْتَاقُ وَيَسْقُطُ الدِّيَةُ وَالْقِصَاصُ وَكَذَا فِي الْقَطْعِ إذَا لَمْ يَمُتْ مِنْهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ سِوَى أَرْشِ الْقَطْعِ وَمَا نَقَصَ إلَى الْإِعْتَاقِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ مَا حَدَثَ مِنْ النُّقْصَانِ بَعْدَ الْإِعْتَاقِ بِالْإِجْمَاعِ فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ لَا يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ يَجِبُ فِيهِ أَرْشُ الْقَطْعِ وَمَا نَقَصَهُ إلَى الْإِعْتَاقِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ وَمَا نَقَصَ مِنْهُ بَعْدَ الْإِعْتَاقِ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (قَالَ أَحَدُكُمَا حُرٌّ فَشُجَّا فَبَيَّنَ فِي أَحَدِهِمَا فَأَرْشُهُمَا لِلسَّيِّدِ) يَعْنِي إذَا قَالَ لِعَبْدَيْهِ أَحَدُكُمَا حُرٌّ ثُمَّ شُجَّا فَبَيَّنَ فِي أَحَدِهِمَا الْعِتْقَ بَعْدَ الشَّجِّ فَأَرْشُهُمَا لِلْمَوْلَى لِأَنَّ الْعِتْقَ غَيْرُ نَازِلٍ فِي الْمُعَيَّنِ فَالشَّجَّةُ تُصَادِفُ الْمُعَيَّنَ فَبَقِيَا مَمْلُوكَيْنِ فِي حَقِّ الشَّجَّةِ.
وَلَوْ قَتَلَهُمَا رَجُلٌ وَاحِدٌ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ مَعًا تَجِبُ دِيَةُ حُرٍّ وَقِيمَةُ عَبْدٍ وَالْفَرْقُ أَنَّ الْبَيَانَ إنْشَاءٌ مِنْ وَجْهٍ وَإِظْهَارٌ مِنْ وَجْهٍ عَلَى مَا عُرِفَ وَبَعْدَ الشَّجَّةِ بَقِيَ مَحَلًّا لِلْبَيَانِ فَاعْتُبِرَ إنْشَاءً فِي حَقِّ الْمَحَلِّ وَبَعْدَ الْمَوْتِ لَمْ يَبْقَ مَحَلًّا لِلْبَيَانِ فَاعْتُبِرَ إظْهَارًا مَحْضًا فَإِذَا قَتَلَهُمَا رَجُلٌ وَاحِدٌ مَعًا فَأَحَدُهُمَا حُرٌّ يَجِبُ عَلَيْهِ دِيَةُ حُرٍّ وَقِيمَةُ عَبْدٍ فَيَكُونُ الْكُلُّ نِصْفَيْنِ بَيْنَ الْمَوْلَى وَالْوَرَثَةِ لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ قِيمَتُهُمَا يَجِبُ نِصْفُ قِيمَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَدِيَةُ حُرٍّ فَيُقْسَمُ مِثْلُ الْأَوَّلِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَتَلَهُمَا عَلَى

(8/438)


التَّعَاقُبِ حَيْثُ تَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَةُ الْأَوَّلِ لِمَوْلَاهُ وَدِيَةُ الثَّانِي لِلْوَرَثَةِ وَبِخِلَافِ مَا إذَا قَتَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَجُلًا مَعًا تَجِبُ قِيمَةُ الْمَمْلُوكِينَ لِأَنَّا لَمْ نَتَيَقَّنْ بِقَتْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُرًّا وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُنْكِرُ ذَلِكَ وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى ثُبُوتَ الْعِتْقِ فِي الْمَجْهُولِ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ فَائِدَتَهُ وَإِنَّمَا صَحَّحْنَاهُ ضَرُورَةَ صِحَّةِ التَّصَرُّفِ وَأَثْبَتْنَا لَهُ وِلَايَةَ النَّقْلِ مِنْ الْمَجْهُولِ إلَى الْمَعْلُومِ فَيُقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ وَهِيَ النَّفْسُ دُونَ الْأَطْرَافِ وَالدِّيَةِ فَبَقِيَ مَمْلُوكًا فِي حَقِّهِمَا فَتَجِبُ الْقِيمَةُ فِيهِمَا فَيَكُونُ نِصْفَيْنِ بَيْنَ الْمَوْلَى وَالْوَرَثَةِ فَيَأْخُذُ هُوَ نِصْفَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَيَتْرُكُ النِّصْفَ لِوَرَثَتِهِ لِأَنَّ مُوجِبَ الْعِتْقِ ثَابِتٌ فِي أَحَدِهِمَا فِي حَقِّ الْمَوْلَى فَلَا بَدَلَ لَهُ فَوُزِّعَ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ.
وَإِنْ قَتَلَاهُمَا عَلَى التَّعَاقُبِ فَعَلَى قَاتِلِ الْأَوَّلِ قِيمَتُهُ لِلْمَوْلَى لِتَعَيُّنِهِ لِلرِّقِّ وَعَلَى قَاتِلِ الثَّانِي دِيَتُهُ لِوَرَثَتِهِ لِتَعَيُّنِهِ لِلْعِتْقِ بَعْدَ مَوْتِ الْأَوَّلِ وَإِنْ كَانَ لَا يَدْرِي أَيَّهُمَا قُتِلَ أَوَّلًا فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قِيمَتُهُ وَلِلْمَوْلَى مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الْقِيمَةِ كَالْأَوَّلِ لِعَدَمِ أَوْلَوِيَّةِ أَحَدِهِمَا بِالتَّقَدُّمِ وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِعَبْدَيْنِ لَهُ فِي صِحَّتِهِ أَحَدُكُمَا حُرٌّ ثُمَّ إنَّ أَحَدَهُمَا قَتَلَ رَجُلًا خَطَأً فَالْقَاضِي يُجْبِرُ الْمَوْلَى عَلَى الْبَيَانِ فَإِنْ أَوْقَع الْعِتْقَ عَلَى غَيْرِ الْجَانِي خُيِّرَ فِي الثَّانِي بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ وَإِنْ أَوْقَعَ الْعِتْقَ عَلَى الْجَانِي صَارَ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ فِي الْجَانِي فَرَّقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا بَاعَ عَبْدًا عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَجَنَى الْعَبْدُ فِي يَدِ الْبَائِعِ جِنَايَةً مُوجِبَةً لِلْمَوْلَى فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ بِأَنْ قَتَلَ رَجُلًا خَطَأً فَأَجَازَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ فِيهِ مَعَ الْعِلْمِ بِالْجِنَايَةِ لَمْ يَصِرْ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ وَإِنْ أَعْجَزَ نَفْسَهُ عَنْ الدَّفْعِ مَعَ الْعِلْمِ بِالْجِنَايَةِ وَكَذَا إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَجَنَى الْعَبْدُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ ثُمَّ رَدَّ الْمُشْتَرِي الْعَبْدَ لَا يَكُونُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ وَإِنْ عَجَزَ نَفْسُهُ عَنْ الدَّفْعِ بِسَبَبِ الرَّدِّ بِالْجِنَايَةِ وَلَوْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَبْدَيْنِ قَتَلَ رَجُلًا خَطَأً بَعْدَ الْعِتْقِ الْمُبْهَمِ ثُمَّ أَوْقَعَ الْمَوْلَى الْعِتْقَ عَلَى أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ يُخَيَّرُ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ فِي الْعَبْدِ الْأَخِيرِ وَعَلَيْهِ قِيمَةُ الْعَبْدِ الَّذِي أَوْقَعَ فِيهِ الْعِتْقَ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ يُرِيدُ إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ الدِّيَةِ وَلَمْ يَصِرْ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ بِصَرْفِ الْعِتْقِ إلَى الْجَانِي فَرَّقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا لَوْ طَلَّقَ إحْدَى امْرَأَتَيْهِ فِي صِحَّتِهِ ثَلَاثًا ثُمَّ مَرِضَ مَرَضَ الْمَوْتِ فَأُجْبِرَ عَلَى الْبَيَانِ فَأَوْقَعَ ذَلِكَ عَلَى أَحَدِهِمَا فَإِنَّهُ يَصِيرُ فَارًّا وَإِنْ كَانَ مُضْطَرًّا إلَى الْبَيَانِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ جِنَايَةُ أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ قَطْعَ يَدٍ وَجِنَايَةُ الْآخَرِ قَتْلَ نَفْسٍ خَطَأً كَانَ الْجَوَابُ كَمَا قُلْنَا وَلَوْ قَالَ فِي صِحَّتِهِ لِعَبْدَيْنِ قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفٌ أَحَدُكُمَا حُرٌّ ثُمَّ قَتَلَ أَحَدُهُمَا رَجُلًا خَطَأً ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى قَبْلَ الْبَيَانِ عَتَقَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ وَسَعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ وَلِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فِي مَالِ الْمَوْلَى قِيمَةُ الْجَانِي يُرِيدُ بِهِ إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ الْأَرْشِ وَيَصِيرُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ وَلَا يَصِيرُ الْمَوْلَى مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ وَلَوْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَبْدَيْنِ قَتَلَ رَجُلًا خَطَأً وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا سَعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَبْدَيْنِ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِمَا فِي مَالِ الْمَوْلَى قِيمَةُ الْعَبْدِ الَّذِي جَنَى عَلَيْهِ وَلَمْ يَصِرْ الْمَوْلَى مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ كُلَّهُ إذَا أَوْقَعَ الْمَوْلَى الْعِتْقَ الْمُبْهَمَ عَلَى أَحَدِ عَبْدَيْهِ قَبْلَ الْجِنَايَةِ أَمَّا إذَا كَانَ إيقَاعُ الْعِتْقِ الْمُبْهَمِ بَعْدَ الْجِنَايَةِ فَقَالَ رَجُلٌ لَهُ عَبْدَانِ قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفٌ فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا قَتِيلًا خَطَأً ثُمَّ قَالَ الْمَوْلَى فِي صِحَّتِهِ أَحَدُكُمَا حُرٌّ وَهُوَ عَالِمٌ بِالْجِنَايَةِ ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى قَبْلَ الْبَيَانِ عَتَقَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ وَسَعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ وَيَصِيرُ الْمَوْلَى مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ فِي الْجَانِي ثُمَّ إذَا صَارَ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ فَمِقْدَارُ الْقِيمَةِ مُعْتَبَرٌ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ وَإِذَا جَنَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَبْدَيْنِ جِنَايَةً وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا سَعَيَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وَصَفْنَاهُ وَصَارَ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ فِي الْجِنَايَتَيْنِ وَلَكِنْ تَجِبُ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ فِي مَالِ الْمَوْلَى وَقِيمَةِ الْعَبْدَيْنِ.
وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ وَمَا زَادَ عَلَى الْقِيمَةِ إلَى تَمَامِ الدِّيَةِ يُعْتَبَرُ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ وَتَكُونُ الْجِنَايَتَانِ نِصْفَيْنِ إذْ لَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ قَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ رَجُلٌ لَهُ عَبْدَانِ سَالِمٌ وَرَابِعٌ فَقَتَلَ سَالِمٌ رَجُلًا خَطَأً فِي صِحَّةِ الْمَوْلَى فَقَالَ الْمَوْلَى أَحَدُكُمَا حُرٌّ ثُمَّ قَتَلَ رَابِعٌ رَجُلًا آخَرَ فِي صِحَّةِ الْمَوْلَى ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى قَبْلَ الْبَيَانِ عَتَقَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ وَسَعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ وَلَزِمَ الْمَوْلَى الْفِدَاءُ فِي قَتْلِ سَالِمٍ وَهَذَا مِنْهُ اخْتِيَارٌ لِلْفِدَاءِ إلَّا أَنَّ فِدَاءَ سَالِمٍ فِي الدِّيَةِ يُعْتَبَرُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ إلَى تَمَامِ الدِّيَةِ يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ وَلَا يَلْزَمُهُ الْفِدَاءُ فِي قَتْلِ رَابِعٍ وَلَوْ أَنَّ الْمَوْلَى لَمْ يَقُلْ مَا ذُكِرَ وَلَكِنَّ الْمَوْلَى أَوْقَعَ الْعِتْقَ عَلَى سَالِمٍ صَارَ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ فِي قَتْلِ سَالِمٍ وَإِنْ أَوْقَعَ الْمَوْلَى الْعِتْقَ عَلَى رَابِعٍ لَمْ يَصِرْ مُخْتَارًا.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (فَقَأَ عَيْنَيْ عَبْدٍ دَفَعَ سَيِّدُهُ عَبْدَهُ وَأَخَذَ

(8/439)


قِيمَتَهُ أَوْ أَمْسَكَهُ وَلَا يَأْخُذُ النُّقْصَانَ) أَيْ إذَا فَقَأَ رَجُلٌ عَيْنَيْ عَبْدٍ فَالْمَوْلَى بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ دَفَعَ الْعَبْدَ الْمَفْقُوءَ إلَى الْفَاقِئِ وَأَخَذَ قِيمَتَهُ كَامِلًا وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهُ وَلَا شَيْءَ لَهُ وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا إنْ شَاءَ أَمْسَكَ الْعَبْدَ وَأَخَذَ مَا أَنْفَقَهُ وَإِنْ شَاءَ دَفَعَ الْعَبْدَ وَأَخَذَ قِيمَتَهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يُضَمِّنُهُ كُلَّ الْقِيمَةِ وَيُمْسِكُ الْجُثَّةَ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ الضَّمَانَ مُقَابَلًا بِالْفَائِتِ فَبَقِيَ الْبَاقِي عَلَى مِلْكِهِ كَمَا إذَا قَطَعَ إحْدَى يَدَيْهِ وَفَقَأَ إحْدَى عَيْنَيْهِ وَنَحْنُ نَقُولُ الْمَالِيَّةُ قَائِمَةٌ فِي الذَّوَاتِ وَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ فِي حَقِّ الْأَطْرَافِ.
فَصَارَ اعْتِبَارُ الْمَالِيَّةِ فِي الذَّوَاتِ دُونَ الْأَطْرَافِ سَاقِطًا بَلْ الْمَالِيَّةُ تُعْتَبَرُ فِي الْأَطْرَافِ أَيْضًا بَلْ اعْتِبَارُ الْمَالِيَّةِ فِي الْأَطْرَافِ أَوْلَى لِأَنَّهَا يُسْلَكُ بِهَا مَسَالِكَ الْأَمْوَالِ فَإِذَا كَانَتْ الْمَالِيَّةُ مُعْتَبَرَةً وَقَدْ وُجِدَ أَيْضًا إتْلَافُ النَّفْسِ مِنْ وَجْهٍ بِتَفْوِيتِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ وَهَذَا الضَّمَانُ مُقَدَّرٌ بِقِيمَةِ الْكُلِّ فَوَجَبَ أَنْ يَتَمَلَّكَ الْجُثَّةَ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ وَرِعَايَةً لِلْمَالِيَّةِ بِخِلَافِ مَا إذَا فَقَأَ عَيْنَيْ حُرٍّ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الْمَالِيَّةِ وَبِخِلَافِ عَيْنَيْ الْمُدَبَّرِ لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ النَّقْلَ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ وَفِي قَطْعِ إحْدَى الْيَدَيْنِ وَفَقْءِ إحْدَى الْعَيْنَيْنِ لَمْ يُوجَدْ تَفْوِيتُ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا جِئْنَا إلَى تَعْلِيلِ مَذْهَبِ الْفَرِيقَيْنِ. لَهُمَا أَنَّ الْعَبْدَ فِي حُكْمِ الْجِنَايَةِ عَلَى أَطْرَافِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِ حَتَّى لَا يَجِبَ الْقَوَدُ فِيهَا وَلَا تَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةُ وَتَجِبُ قِيمَتُهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ فَكَانَ مُعْتَبَرًا بِالْمَالِ فَإِذَا كَانَ مُعْتَبَرًا بِهِ وَجَبَ تَخْيِيرُ الْمَوْلَى عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَاهُ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ فَإِنَّ خَرْقَ ثَوْبِ الْغَيْرِ خَرْقًا فَاحِشًا يُوجِبُ تَخْيِيرَ الْمَالِكِ إنْ شَاءَ دَفَعَ الثَّوْبَ وَضَمِنَ قِيمَتَهُ وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهُ وَضَمَّنَهُ النُّقْصَانَ وَلَهُ أَنَّ الْمَالِيَّةَ وَإِنْ كَانَتْ مُعْتَبَرَةً فِي الذَّاتِ وَالْآدَمِيَّةِ أَيْضًا غَيْرَ مُهْدَرَةٍ فِيهِ وَفِي الْأَطْرَافِ أَلَا تَرَى أَنَّ عَبْدًا لَوْ قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ آخَرَ يُؤْمَرُ مَوْلَاهُ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ وَهَذَا مِنْ أَحْكَامِ الْآدَمِيَّةِ لِأَنَّ مُوجِبَ الْجِنَايَةِ عَلَى الْمَالِ إنْ تَابَعَ رَقَبَتَهُ فِيهَا ثُمَّ مِنْ أَحْكَامِ الْآدَمِيَّةِ أَنْ لَا يَنْقَسِمَ الضَّمَانُ عَلَى الْجُزْءِ الْفَائِتِ وَالْقَائِمِ بَلْ يَكُونُ بِإِزَاءِ الْفَائِتِ لَا غَيْرُ وَلَا يَتَمَلَّكُ الْجُثَّةَ وَمِنْ أَحْكَامِ الْمَالِيَّةِ أَنْ يَنْقَسِمَ عَلَى الْجُزْءِ الْفَائِتِ وَالْقَائِمِ وَيَتَمَلَّكُ الْجُثَّةَ فَوَفَّرْنَا عَلَى الشَّبَهَيْنِ حَظَّهُمَا فَقُلْنَا بِأَنَّهُ لَا يَنْقَسِمُ اعْتِبَارًا لِلْآدَمِيَّةِ وَيَتَمَلَّكُ الْجُثَّةَ اعْتِبَارًا لِلْمَالِيَّةِ.
وَهَذَا أَوْلَى مِمَّا قَالَاهُ إذْ فِيمَا قَالَاهُ اعْتِبَارُ جَانِبِ الْمَالِيَّةِ فَقَطْ وَهُوَ أَدْنَى وَإِهْدَارُ جَانِبِ الْآدَمِيَّةِ وَهُوَ أَعْلَى وَمِمَّا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا لِأَنَّ فِيهِ اعْتِبَارَ الْآدَمِيَّةِ فَقَطْ وَالشَّيْءُ إذَا أَشْبَهَ شَيْئَيْنِ يُوَفَّرُ عَلَيْهِ حَظُّهُمَا.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (جَنَى مُدَبَّرٌ أَوْ أُمُّ وَلَدٍ ضَمِنَ السَّيِّدُ الْأَقَلَّ مِنْ الْقِيمَةِ وَمِنْ الْأَرْشِ) لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَضَى بِجِنَايَةِ الْمُدَبَّرِ عَلَى الْمَوْلَى بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ وَكَانَ يَوْمئِذٍ أَمِيرًا بِالشَّامِ فَكَانَ إجْمَاعًا وَلِأَنَّ الْمَوْلَى صَارَ مَانِعًا مَا ذَكَرْنَا قَالَ الْقُدُورِيُّ فِي التَّقْرِيبِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ يَضْمَنُ الْمَوْلَى قِيمَةَ الْمُدَبَّرِ وَأُمَّ الْوَلَدِ بِالْجِنَايَةِ مُدَبَّرًا وَقَالَ زُفَرُ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ عَبْدًا الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ وَجِنَايَةُ الْمُدَبَّرِ عَلَى سَيِّدِهِ وَفِي مَالِهِ هَدَرٌ بِالتَّدْبِيرِ وَكَذَا بِالِاسْتِيلَادِ وَإِنَّمَا يَصِيرُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِمَا يَحْدُثُ فَصَارَ كَمَا إذَا فَعَلَ بَعْدَ الْجِنَايَةِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ وَإِنَّمَا يَجِبُ الْأَقَلُّ مِنْ الْقِيمَةِ وَمِنْ الْأَرْشِ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ فِي أَكْثَرَ مِنْ الْأَرْشِ وَلَا مَنْعَ مِنْ الْمَوْلَى فِي أَكْثَرَ مِنْ الْعَيْنِ وَقِيمَتُهَا تَقُومُ مَقَامَهَا وَلَا يُخَيَّرُ فِي الْأَكْثَرِ أَوْ الْأَقَلِّ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُهُ فِي جِنْسٍ وَاحِدٍ لِاخْتِيَارِهِ الْأَقَلَّ.
بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْجَانِي قِنًّا حَيْثُ يُخَيَّرُ الْمَوْلَى بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ وَلَا يَجِبُ الْأَقَلُّ لِأَنَّ فِيهِ فَائِدَةً لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ لِأَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَخْتَارُ دَفْعَ الْعَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَخْتَارُ دَفْعَ الْفِدَاءِ عَلَى مَا هُوَ الْأَيْسَرُ عِنْدَهُ أَوْ يَبْقَى مَا اخْتَارَهُ عَلَى مِلْكِهِ وَيَخْرُجُ الْآخَرُ عَنْ مِلْكِهِ ثُمَّ الْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ جِنَايَاتِ الْمُدَبَّرَةِ لَا تُوجِبُ إلَّا قِيمَةً وَاحِدَةً وَإِنْ كَثُرَتْ لِأَنَّهُ لَا يُمْنَعُ مِنْهُ إلَّا رَقَبَةٌ وَاحِدَةٌ وَلِأَنَّ دَفْعَ الْقِيمَةِ فِيهِ كَدَفْعِ الْعَيْنِ فِي الْقِنِّ وَدَفْعُ الْعَيْنِ لَا يَتَكَرَّرُ فَكَذَا مَا قَامَ مَقَامَهَا وَيَتَضَارَبُونَ بِالْحِصَصِ فِي الْقِيمَةِ وَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي حَالِ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ حَتَّى لَوْ قَتَلَ رَجُلًا وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ ثُمَّ قَتَلَ آخَرَ وَقِيمَتُهُ أَلْفَانِ ثُمَّ قَتَلَ آخَرَ وَقِيمَتُهُ خَمْسُمِائَةٍ يَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى أَلْفَا دِرْهَمٍ لِأَنَّهُ جَنَى عَلَى الْوَسَطِ وَقِيمَتُهُ أَلْفَانِ فَيَكُونُ لِلْمَوْلَى الْأَوْسَطِ أَلْفٌ مِنْهَا لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ أَحَدٌ لِأَنَّ وَلِيَّ الْأَوَّلِ لَا حَقَّ لَهُ فِيمَا زَادَ عَلَى الْأَلْفِ وَإِنَّمَا حَقُّهُ فِي قِيمَتِهِ يَوْمَ جَنَى عَلَى وَلِيِّهِ وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَكَذَلِكَ الثَّالِثُ لَا حَقَّ لَهُ فِيمَا زَادَ عَلَى الْخَمْسِمِائَةِ لِمَا ذَكَرْنَا ثُمَّ يُعْطِي خَمْسَمِائَةٍ فَتَنْقَسِمُ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالْأَوْسَطِ فَيَضْرِبُ الْأَوَّلُ بِجَمِيعِ حَقِّهِ وَهُوَ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ وَيَضْرِبُ الْأَوْسَطُ بِمَا بَقِيَ مِنْ حَقِّهِ وَهُوَ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ إلَى آخِرِهِ

(8/440)


لِأَنَّا نَنْتَظِرُ إلَى دِيَةِ الْمَقْتُولِ وَمَا وَصَلَ مِنْهَا وَمَا تَأَخَّرَ مِنْهَا يَضْرِبُ لَهُ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ إلَى آخِرِهِ.
قَالَ فِي الْمُحِيطِ مُدَبَّرٌ قَتَلَ رَجُلًا وَقِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ ثُمَّ صَارَتْ قِيمَتُهُ أَلْفَيْنِ فَقَتَلَ آخَرَ خَطَأً فَالْأَلْفُ دِرْهَمٍ لِلثَّانِي وَتَحَاصَّا فِي الْأَلْفِ الْأُولَى فِي الْمُرْتَهِنِ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (فَإِنْ دَفَعَ الْقِيمَةَ بِقَضَاءٍ فَجَنَى أُخْرَى شَارَكَ الثَّانِي الْأَوَّلَ) يَعْنِي إذَا دَفَعَ الْمَوْلَى الْقِيمَةَ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى بِقَضَاءِ الْقَاضِي ثُمَّ جَنَى جِنَايَةً أُخْرَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمَوْلَى لِأَنَّ جِنَايَاتِهِ كُلَّهَا لَا تُوجِبُ إلَّا قِيمَةً وَاحِدَةً وَلَا تَعَدِّي مِنْ الْمَوْلَى بِدَفْعِهَا إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى لِأَنَّهُ مَجْبُورٌ عَلَيْهِ بِالْقَضَاءِ فَيُتْبَعُ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ وَلِيَّ الْأُولَى فَيُشَارِكُهُ فِيهَا وَيَقْتَسِمَاهَا عَلَى قَدْرِ حَقِّهِمَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ اتَّبَعَ السَّيِّدَ أَوْ وَلِيَّ الْجِنَايَةِ) أَيْ لَوْ دَفَعَ الْمَوْلَى الْقِيمَةَ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى بِغَيْرِ قَضَاءٍ كَانَ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ اتَّبَعَ الْمَوْلَى بِحِصَّتِهِ مِنْ الْقِيمَةِ وَإِنْ شَاءَ اتَّبَعَ وَلِيَّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا لَا شَيْءَ عَلَى الْوَلِيِّ لِأَنَّهُ فَعَلَ عَيْنَ مَا يَفْعَلُهُ الْقَاضِي وَلَا تَعَدِّيَ مِنْهُ بِتَسْلِيمِهِ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ حِينَ دَفَعَ الْحَقَّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ لَمْ تَكُنْ الْجِنَايَةُ الثَّانِيَةُ مَوْجُودَةً وَلَا عِلْمَ لَهُ بِمَا يَحْدُثُ حَتَّى يُجْعَلَ مُتَعَدِّيًا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنَّ جِنَايَاتِ الْمُدَبَّرِ تُوجِبُ قِيمَةً وَاحِدَةً وَهُمْ شُرَكَاءُ فِيهَا وَالْجِنَايَةُ الْمُتَأَخِّرَةُ كَالْمُقَارَنَةِ حُكْمًا وَلِهَذَا يَشْتَرِكُونَ فِيهَا كُلُّهُمْ جَمِيعًا.
ثُمَّ إذَا دَفَعَهَا إلَى الْأَوَّلِ بِاخْتِيَارِهِ صَارَ مُتَعَدِّيًا فِي حَقِّ الثَّانِي لِأَنَّ حِصَّتَهُ وَجَبَتْ عَلَيْهِ وَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَيْهِ فَإِذَا لَمْ يَنْفُذْ دَفَعَ الْمَوْلَى فِي حَقِّ الثَّانِي فَالثَّانِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ تَبِعَ الْأَوَّل لِأَنَّهُ قَبَضَ حَقَّهُ ظُلْمًا فَصَارَ بِهِ ضَامِنًا فَيَأْخُذُهُ مِنْهُ وَإِنْ شَاءَ اتَّبَعَ الْمَوْلَى لِأَنَّهُ دَفَعَ حَقَّهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَإِذَا أُخِذَ مِنْهُ رَجَعَ الْمَوْلَى عَلَى الْأَوَّلِ بِمَا ضَمِنَ لِلثَّانِي وَهُوَ حِصَّتُهُ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَيَسْتَرِدُّهُ مِنْهُ وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ لَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ الْقِيمَةِ وَلِأَنَّ الثَّانِيَةَ مُقَارِنَةٌ مِنْ وَجْهٍ حَتَّى يُشَارِكَهُ وَمُتَأَخِّرَةٌ مِنْ وَجْهٍ فِي حَقِّ اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ فَيُعْتَبَرُ مُقَارِنَةً فِي حَقِّ التَّضْمِينِ أَيْضًا كَيْ لَا يَبْطُلَ حَقُّ وَلِيِّ الثَّانِيَةِ وَإِذَا أُعْتِقَ الْمُدَبَّرُ وَقَدْ جَنَى جِنَايَةً لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ لِمَا ذَكَرْنَا وَسَوَاءٌ أَعْتَقَهُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْجِنَايَةِ أَوْ قَبْلَهُ لِأَنَّ حَقَّ الْمَوْلَى لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْعَبْدِ فَلَمْ يَكُنْ مُفَوِّتًا بِالْإِعْتَاقِ وَأُمُّ الْوَلَدِ كَالْمُدَبَّرِ وَإِذَا أَقَرَّ الْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ بِجِنَايَةٍ تُوجِبُ الْمَالَ لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُ وَجِنَايَتُهُ عَلَى الْمَوْلَى لَا عَلَى نَفْسِهِ وَإِقْرَارُهُ عَلَى الْمَوْلَى غَيْرُ نَافِذٍ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْجِنَايَةُ مُوجِبَةً لِلْقَوَدِ بِأَنْ أَقَرَّ بِالْقَتْلِ عَمْدًا حَيْثُ يَصِحُّ إقْرَارُهُ فَيُقْتَلُ بِهِ لِأَنَّ إقْرَارَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَيَنْفُذُ عَلَيْهِ لِعَدَمِ التُّهْمَةِ.

[بَابُ غَصْبِ الْعَبْدِ وَالْمُدَبَّرِ وَالصَّبِيِّ وَالْجِنَايَةِ فِي ذَلِكَ]
(بَابُ غَصْبِ الْعَبْدِ وَالْمُدَبَّرِ وَالصَّبِيِّ وَالْجِنَايَةِ فِي ذَلِكَ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ لَمَّا ذَكَرَ حُكْمَ الْمُدَبَّرِ فِي الْجِنَايَةِ ذَكَرَ فِي هَذَا الْبَابِ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ وَمَا يَرِدُ مِنْهُ وَذَكَرَ حُكْمَ مَا يُلْحَقُ بِهِ اهـ.
وَقَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ لَمَّا ذَكَرَ جِنَايَةَ الْعَبْدِ وَالْمُدَبَّرِ ذَكَرَ فِي هَذَا الْبَابِ جِنَايَتَهُمَا مَعَ غَصْبِهِمَا لِأَنَّ الْمُفْرَدَ قَبْلَ الْمُرَكَّبِ ثُمَّ جَرَّ كَلَامَهُ إلَى بَيَانِ حُكْمِ غَصْبِ الصَّبِيِّ. اهـ.
وَتَبِعَهُ الْعَيْنِيُّ أَقُولُ: هَذَا أَشْبَهُ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ وَإِنْ أَمْكَنَ التَّقَرُّبُ بِأَحْسَنَ مِنْهُ تَدَبَّرْ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (قَطَعَ يَدَ عَبْدِهِ فَغَصَبَهُ رَجُلٌ وَمَاتَ مِنْهُ ضَمِنَ قِيمَتَهُ أَقْطَعَ وَإِنْ قَطَعَ يَدَهُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَمَاتَ مِنْهُ بَرِئَ) لِأَنَّ الْغَصْبَ يُوجِبُ ضَمَانَ مَا غُصِبَ فَفِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لَمَّا قَطَعَهُ الْمَوْلَى نَقَصَتْ قِيمَتُهُ بِالْقَطْعِ فَيَجِبُ عَلَى الْغَاصِبِ قِيمَتُهُ أَقْطَعَ وَفِي الثَّانِيَةِ حِينَ قَطَعَ الْمَوْلَى الْعَبْدَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ صَارَ مُسْتَرِدًّا لَهُ لِاسْتِيلَائِهِ عَلَيْهِ وَبَرِئَ الْغَاصِبُ مِنْ ضَمَانِهِ لِوُصُولِ مِلْكِهِ إلَى يَدِهِ قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ إنَّ الْغَصْبَ قَاطِعٌ لِلسِّرَايَةِ لِأَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ كَالْبَيْعِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ هَلَكَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ فَتَجِبُ قِيمَتُهُ أَقْطَعَ وَلَوْ لَمْ يُوجَدْ الْقَاطِعُ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي فَكَانَتْ السِّرَايَةُ مُضَافَةً إلَى الْبِدَايَةِ فَصَارَ الْمَوْلَى مُتْلِفًا فَيَصِيرُ مُسْتَرِدًّا وَهَذَا مُشْكِلٌ لِأَنَّ السِّرَايَةَ إنَّمَا تَنْقَطِعُ بِاعْتِبَارِ تَبَدُّلِ الْمِلْكِ لِاخْتِلَافِ الْمُسْتَحِقِّينَ وَالْغَصْبُ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِلْمِلْكِ وَضْعًا وَالْغَاصِبُ لَا يَمْلِكُ إلَّا بِأَدَاءِ الضَّمَانِ ضَرُورَةً كَيْ لَا يَجْتَمِعَ الْبَدَلَانِ فِي مِلْكٍ وَاحِدٍ وَذَلِكَ بَعْدَ مِلْكِ الْمَوْلَى الْبَدَلَ وَلَمْ يُوجَدْ تَحْقِيقُهُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِمْ بِقَطْعِ السِّرَايَةِ أَنَّ مَا حَصَلَ مِنْ التَّلَفِ بِالسِّرَايَةِ يَكُونُ هَدَرًا إلَّا إنْ تَسَبَّبَ ذَلِكَ إلَى غَيْرِ الْجَانِي.
وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ بِأَنَّ هَذَا يُخَالِفُ مَذْهَبَنَا فَإِنَّ الْغَصْبَ لَا يَقْطَعُ السِّرَايَةَ مَا لَمْ يَمْلِكْ الْبَدَلَ عَلَى الْغَاصِبِ بِقَضَاءٍ أَوْ رِضًا لِأَنَّ السِّرَايَةَ إنَّمَا تَنْقَطِعُ بِهِ بِاعْتِبَارِ تَبَدُّلِ الْمِلْكِ وَإِنَّمَا يَتَبَدَّلُ الْمِلْكُ بِهِ إذَا مَلَكَ الْبَدَلَ عَلَى الْغَاصِبِ وَهُوَ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَقْطَعَ أَمَّا قَبْلَهُ فَلَا يَضْمَنُ وَفِي رَهْنِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي الْبَابِ الثَّانِي مِنْ جِنَايَاتِهِ إنَّمَا يَضْمَنُ

(8/441)


الْغَاصِبُ هُنَا قِيمَةَ الْعَبْدِ لِأَنَّ السِّرَايَةَ وَإِنْ لَمْ تَنْقَطِعْ بِالْغَصْبِ وَرَدَتْ عَلَى مَالٍ مُتَقَوِّمٍ فَوَجَبَ سَبَبُ الضَّمَانِ فَلَا يَبْرَأُ عَنْهُ الْغَاصِبُ إلَّا إذَا ارْتَفَعَ الْغَصْبُ وَالشَّيْءُ إنَّمَا يَرْتَفِعُ بِمَا هُوَ فَوْقَهُ أَوْ مِثْلُهُ وَيَدُ الْغَاصِبِ ثَابِتَةٌ عَلَى الْمَغْصُوبِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا وَيَدُ الْمَوْلَى ثَابِتَةٌ عَلَيْهِ حُكْمًا بِاعْتِبَارِ السِّرَايَةِ لَا حَقِيقَةً لِأَنَّ بَعْدَ الْغَصْبِ لَمْ تَثْبُتْ يَدُهُ عَلَى الْعَبْدِ حَقِيقَةً وَالثَّابِتُ حُكْمًا دُونَ الثَّابِتِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَلَمْ يَرْتَفِعْ الْغَصْبُ بِاتِّصَالِ السِّرَايَةِ فَقَصَرَ عَلَيْهِ الضَّمَانَ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ يَدَ الْغَاصِبِ عَلَيْهِ ثَابِتَةٌ حُكْمًا فَإِنَّ يَدَ الْمَوْلَى ثَابِتَةٌ عَلَيْهِ حُكْمًا وَلَا يَثْبُتُ عَلَى الشَّيْءِ الْوَاحِدِ يَدَانِ حُكْمِيَّانِ بِكَمَالِهِمَا أَقُولُ: نَظَرُهُ سَاقِطٌ إذْ لَا وَجْهَ لِمَنْعِ ثُبُوتِ يَدِ الْغَاصِبِ عَلَيْهِ حُكْمًا فَإِنَّ مَعْنَى ثُبُوتِ الْيَدِ عَلَى الشَّيْءِ حُكْمًا أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى تِلْكَ الْيَدِ حُكْمًا مِنْ الْأَحْكَامِ وَقَدْ تَرَتَّبَ عَلَى يَدِ الْغَاصِبِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ وُجُوبُ الضَّمَانِ بِالْإِجْمَاعِ وَأَمَّا يَدُ مَنْعِهِ فَلَيْسَ بِتَامٍّ أَيْضًا إذْ لَا مَحْذُورَ فِي أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الشَّيْءِ الْوَاحِدِ يَدَانِ حُكْمِيَّانِ بِكَمَالِهِمَا مِنْ جِهَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ وَهُنَا كَذَلِكَ فَإِنَّ ثُبُوتَ يَدِ الْمَوْلَى عَلَى الْعَبْدِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ حُكْمًا بِاعْتِبَارِ سِرَايَةِ الْقَطْعِ الَّذِي صَدَرَ مِنْهُ وَثُبُوتُ يَدِ الْغَاصِبِ عَلَيْهِ حُكْمًا بِاعْتِبَارِ ثُبُوتِ يَدِهِ عَلَيْهِ حَقِيقَةً فَاخْتَلَفَتْ الْجِهَتَانِ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (غَصَبَ مَحْجُورٌ مِثْلَهُ فَمَاتَ فِي يَدِهِ ضَمِنَ) يَعْنِي إذَا غَصَبَ عَبْدٌ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ عَبْدًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ فَمَاتَ الْمَغْصُوبُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ ضَمِنَهُ لِأَنَّ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ مُؤَاخَذٌ بِأَفْعَالِهِ وَهَذَا مِنْهَا فَيَضْمَنُ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (مُدَبَّرٌ جَنَى عِنْدَ غَاصِبِهِ ثُمَّ عِنْدَ سَيِّدِهِ ضَمِنَ قِيمَتَهُ لَهُمَا) أَيْ لَوْ غَصَبَ رَجُلٌ مُدَبَّرًا فَجَنَى عِنْدَهُ جِنَايَةً ثُمَّ رَدَّهُ عَلَى مَوْلَاهُ فَجَنَى عِنْدَهُ جِنَايَةً أُخْرَى ضَمِنَ الْمَوْلَى الْقِيمَةَ لِوَلِيِّ الْجِنَايَتَيْنِ فَتَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِأَنَّ مُوجِبَ جِنَايَةِ الْمُدَبَّرِ وَإِنْ كَثُرَتْ قِيمَتُهُ وَاحِدَةٌ فَيَجِبُ ذَلِكَ عَلَى الْمِلْكِ لِلْمَوْلَى لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَعْجَزَ نَفْسَهُ عَنْ الدَّفْعِ بِالتَّدْبِيرِ السَّابِقِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَصِيرَ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ كَمَا فِي الْقِنِّ إذَا أَعْتَقَهُ بَعْدَ الْجِنَايَاتِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمَهَا وَإِنَّمَا كَانَتْ الْقِيمَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي السَّبَبِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَرَجَعَ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ عَلَى الْغَاصِبِ) أَيْ رَجَعَ الْمَوْلَى بِنِصْفِ مَا ضَمِنَ مِنْ قِيمَةِ الْمُدَبَّرِ عَلَى الْغَاصِبِ لِلتَّعَدِّي لِأَنَّهُ ضَمِنَ الْقِيمَةَ بِالْجِنَايَتَيْنِ نِصْفُهَا بِسَبَبٍ كَانَ يَمْتَدُّ لِلْغَاصِبِ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ بِسَبَبٍ عِنْدَهُ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِسَبَبٍ لَحِقَهُ مِنْ جِهَةِ الْغَاصِبِ فَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَرُدَّ نِصْفَ الْعَبْدِ لِأَنَّ رَدَّ الْمُسْتَحَقَّ بِسَبَبٍ وُجِدَ وَعَبْدُهُ عِنْدَ الْغَاصِبِ كَلَا رَدٍّ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَرَدَّهُ لِلْأَوَّلِ) أَيْ دَفَعَ الْمَوْلَى نِصْفَ الْقِيمَةِ الَّذِي أَخَذَهُ مِنْ الْغَاصِبِ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ قَالُوا لَهُمَا إنَّ حَقَّ الْأَوَّلِ فِي جَمِيعِ الْقِيمَةِ لِأَنَّهُ حِينَ جَنَى فِي حَقِّهِ لَا يُزَاحِمُهُ أَحَدٌ وَإِنَّمَا انْتَقَصَ بِاعْتِبَارِ مُزَاحَمَةِ الثَّانِي إلَى آخِرِهِ.
قَالَ فِي الْعِنَايَةِ وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الثَّانِيَةَ مُقَارِنَةٌ لِلْأُولَى حُكْمًا فَكَيْفَ يَكُونُ الْحَقُّ لِلْأَوَّلِ فِي جَمِيعِ الْقِيمَةِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُقَارَنَةَ جُعِلَتْ حُكْمًا فِي حَقِّ الضَّمَانِ لَا غَيْرُ وَالْأُولَى مُقَدَّمَةٌ حَقِيقَةً وَقَدْ انْعَقَدَتْ مُوجِبَةً لِكُلِّ الْقِيمَةِ مِنْ غَيْرِ مُزَاحَمَةٍ وَأَمْكَنَ تَوْفِيرُ مُوجِبِهَا فَلَا يَمْتَنِعُ بِلَا مَانِعٍ أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ بَحْثٌ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُقَارَنَةَ جُعِلَتْ حُكْمًا فِي حَقِّ التَّضْمِينِ لَا غَيْرُ بَلْ جُعِلَتْ حُكْمًا أَيْضًا فِي حَقِّ مُشَارَكَةِ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى كَمَا أَرْشَدَ إلَيْهِ قَوْلُ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ فِي الْفَصْلِ السَّابِقِ لِأَنَّ الثَّانِيَةَ مُقَارِنَةٌ حُكْمًا مِنْ وَجْهٍ وَلِهَذَا يُشَارِكُ وَلِيَّ الْجِنَايَةِ اهـ.
فَإِذَا جُعِلَتْ الْمُقَارَنَةُ حُكْمًا فِي حَقِّ مُشَارَكَتِهِ وَفِي الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ أَيْضًا كَانَ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ مُزَاحِمًا لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى فِي اسْتِحْقَاقِ جَمِيعِ الْقِيمَةِ فَكَيْفَ يَأْخُذُ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى وَحْدَهُ كُلَّ الْقِيمَةِ مَعَ مُزَاحَمَةِ الْأُولَى الثَّانِيَةَ لَهُ فِي اسْتِحْقَاقِهِ إيَّاهُ وَإِنْ كَانَ الِاعْتِبَارُ لِتَقَدُّمِ الْأُولَى حَقِيقَةً دُونَ الْمُقَارَنَةِ الْحُكْمِيَّةِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ وَلِيُّ الثَّانِيَةِ شَيْئًا مِنْ قِيمَةِ الْمُدَبَّرِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ فَلْيُتَأَمَّلْ فِي جَوَابِ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَدْفَعُهَا إلَيْهِ لِأَنَّ الَّذِي يَرْجِعُ بِهِ الْمَوْلَى عَلَى الْغَاصِبِ عِوَضُ مَا سُلِّمَ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى لِأَنَّهُ إنَّمَا يَرْجِعُ عَلَى الْغَاصِبِ فَلَا يَدْفَعُ إلَيْهِ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى اجْتِمَاعِ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ فِي مِلْكِ رَجُلٍ وَكَيْ لَا يَتَكَرَّرَ الِاسْتِحْقَاقُ.
وَقَوْلُهُ عِوَضُ مَا سُلِّمَ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى قُلْنَا هُوَ كَذَلِكَ لَكِنَّ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمَوْلَى وَالْغَاصِبِ لِأَنَّ مَا أَخَذَهُ الْمَوْلَى مِنْ الْغَاصِبِ عِوَضُ الْمَدْفُوعِ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى وَأَمَّا فِي حَقِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فَهُوَ عِوَضُ مَا لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ وَمِثْلُهُ جَائِزٌ كَالذِّمِّيِّ إذَا بَاعَ خَمْرًا وَقَضَى دَيْنَ مُسْلِمٍ يَجُوزُ لَهُ أَخْذُهُ لِأَنَّ تِلْكَ الدَّرَاهِمَ ثَمَنُ الْخَمْرِ فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ وَبَدَلُ الدَّيْنِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ قَوْلُهُ وَدَفَعَ إلَى الْأَوَّلِ فَإِنْ قُلْتُ: هَذَا يُنَاقِضُ قَوْلَهُ أَوَّلًا: جِنَايَةُ الْعَبْدِ لَا تُوجِبُ إلَّا دَفْعًا وَاحِدًا لَوْ مَحَلًّا أَوْ قِيمَةً وَاحِدَةً وَهُنَا

(8/442)


أَوْجَبَتْ قِيمَةً وَنِصْفًا أَوْ دَفَعَ الْعَبْدَ وَنِصْفَ الْقِيمَةِ لِلْأَوَّلِ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْكَلَامَ الْأَوَّلَ فِيمَا إذَا تَعَدَّدَتْ الْجِنَايَةُ فِي يَدِ شَخْصٍ وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِ غَصْبٍ وَرُدَّ يَكُونُ جَامِعًا لَهَا فَلِهَذَا تَجِبُ قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ أَوْ دَفْعٌ وَاحِدٌ وَهُنَا لَمَّا كَانَتْ عِنْدَ شَخْصَيْنِ لَمْ يُمْكِنْ جَمْعُهَا فَلَهَا حُكْمَانِ وَإِنْ كَانَتْ فِي يَدِ وَاحِدٍ لَكِنْ بَعْدَ غَصْبٍ وَرَدٍّ كَمَا سَيَأْتِي فِي قَوْلِهِ وَرَدَّهُ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (ثُمَّ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْغَاصِب) أَيْ يَرْجِعُ الْمَوْلَى بِذَلِكَ الَّذِي دَفَعَهُ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى ثَانِيًا عَلَى الْغَاصِبِ عِنْدَهُمَا لِأَنَّهُ اُسْتُحِقَّ مِنْ يَدِهِ بِسَبَبٍ كَانَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يُرَدَّ وَلَمْ يَضْمَنْ لَهُ شَيْئًا إذَا لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ الْعَبْدِ أَوْ مِنْ بَدَلِهِ فِي يَدِهِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَبِعَكْسِهِ لَا يَرْجِعُ بِهِ ثَانِيًا) أَيْ بِعَكْسِ مَا ذَكَرَهُ لَا يَرْجِعُ غَاصِبُ الْمَوْلَى عَلَى الْغَاصِبِ بِالْقِيمَةِ ثَانِيًا وَصُورَتُهُ أَنَّ الْمُدَبَّرَ جَنَى عِنْدَ مَوْلَاهُ أَوَّلًا فَغَصَبَهُ رَجُلٌ فَجَنَى عِنْدَهُ جِنَايَةً أُخْرَى ثُمَّ رَدَّهُ عَلَى الْمَوْلَى ضَمِنَ قِيمَتَهُ لِوَلِيِّ الْجِنَايَتَيْنِ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ثُمَّ يَرْجِعُ الْمَوْلَى عَلَى الْغَاصِبِ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ لِأَنَّهُ اُسْتُحِقَّ عَلَيْهِ بِسَبَبٍ كَانَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَيَدْفَعُهُ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى بِالْإِجْمَاعِ أَمَّا عِنْدَهُمَا فَظَاهِرٌ لِمَا بَيَّنَّا.
وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ الدَّفْعُ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى كَيْ لَا يَجْتَمِعَ الْبَدَلُ وَالْمُبْدَلُ فِي مِلْكٍ وَاحِدٍ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَهُنَا لَا يَلْزَمُ ذَلِكَ لِأَنَّ مَا أَخَذَهُ مِنْ الْغَصْبِ عِوَضُ مَا دُفِعَ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ فَإِذَا دَفَعَهُ إلَى وَلِيِّ الْأُولَى لَا يَجْتَمِعُ الْبَدَلَانِ فِي مِلْكٍ وَاحِدٍ وَفِي الْأَوَّلِ يَجْتَمِعُ لِأَنَّهُ عِوَضُ مَا أَخَذَهُ هُوَ بِنَفْسِهِ ثُمَّ إذَا دَفَعَهُ إلَى وَلِيِّ الْأُولَى لَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ بِالْإِجْمَاعِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ وَبِعَكْسِهِ لَا يَرْجِعُ ثَانِيًا لِأَنَّ الْمَوْلَى لَمَّا لَمْ يَدْفَعْ مَا أَخَذَهُ مِنْ الْغَاصِبِ إلَى وَلِيِّ الْأُولَى سَلَّمَ لَهُ مَا أَخَذَهُ مِنْ الْغَاصِبِ فَلَمْ يُتَصَوَّرْ الرُّجُوعُ عَلَيْهِ وَهُنَا لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ بِالْإِجْمَاعِ وَمَعَ هَذَا لَا يَرْجِعُ عَلَى الْغَاصِبِ بِالْإِجْمَاعِ بِمَا دَفَعَهُ ثَانِيًا لِأَنَّ الَّذِي دَفَعَهُ الْمَوْلَى إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى ثَانِيًا هُنَا بِسَبَبِ جِنَايَةٍ وُجِدَتْ عِنْدَهُ فَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى أَحَدٍ بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى عِنْدَهُمَا لِأَنَّ دَفْعَ الْمَوْلَى ثَانِيًا إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى فِيهَا بِسَبَبِ جِنَايَةٍ وُجِدَتْ عِنْدَ الْغَاصِبِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ هُنَا كَمَا ذَكَرْنَا.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَالْقِنُّ كَالْمُدَبَّرِ غَيْرَ أَنَّ الْمَوْلَى يَدْفَعُ الْعَبْدَ هُنَا وَثَمَّةَ الْقِيمَةَ) أَيْ: الْعَبْدُ الْقِنُّ فِيمَا ذَكَرْنَا كَالْمُدَبَّرِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا إلَّا أَنَّ الْمَوْلَى يَدْفَعُ الْقِنَّ وَفِي الْمُدَبَّرِ الْقِيمَةَ حَتَّى إذَا غَصَبَ رَجُلٌ عَبْدًا فَجَنَى فِي يَدِهِ ثُمَّ رَدَّهُ عَلَى الْمَوْلَى فَجَنَى عِنْدَهُ جِنَايَةً أُخْرَى فَإِنَّ الْمَوْلَى يَدْفَعُهُ إلَى الْأَوَّلِ ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَى الْغَاصِبِ عِنْدَهُمَا.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَدْفَعُ مَا أَخَذَهُ مِنْ الْغَاصِبِ إلَى الْأَوَّلِ بَلْ يُسَلَّمُ لَهُ فَلَا يُتَصَوَّرُ الرُّجُوعُ عَلَى الْغَاصِبِ ثَانِيًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْمُدَبَّرِ وَإِنْ جَنَى عِنْدَ الْمَوْلَى أَوَّلًا ثُمَّ غَصَبَهُ فَجَنَى فِي يَدِهِ ثُمَّ رَدَّهُ إلَى الْمَوْلَى دَفَعَهُ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَتَيْنِ نِصْفَيْنِ ثُمَّ يَرْجِعُ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ عَلَى الْغَاصِبِ لِمَا ذَكَرْنَا.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (مُدَبَّرٌ جَنَى عِنْدَ غَاصِبِهِ فَرَدَّهُ فَغَصَبَهُ أُخْرَى فَجَنَى فَعَلَى سَيِّدِهِ قِيمَتُهُ لَهُمَا) أَيْ إذَا غَصَبَ رَجُلٌ مُدَبَّرًا فَجَنَى عِنْدَهُ جِنَايَةً فَرَدَّهُ عَلَى الْمَوْلَى ثُمَّ غَصَبَهُ ثَانِيًا فَجَنَى عِنْدَهُ جِنَايَةً أُخْرَى فَعَلَى الْمَوْلَى قِيمَتُهُ بَيْنَ وَلِيِّ الْجِنَايَتَيْنِ نِصْفَيْنِ لِأَنَّ مَنْعَهُ بِالتَّدْبِيرِ فَوَجَبَ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَرَجَعَ بِقِيمَتِهِ عَلَى الْغَاصِبِ) لِأَنَّ الْجِنَايَتَيْنِ كَانَتَا فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَاسْتُحِقَّ كُلٌّ بِسَبَبٍ كَانَ فِي يَدِهِ فَرَجَعَ عَلَيْهِ بِالْكُلِّ بِخِلَافِ الْمَسَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَإِنَّ هُنَالِكَ اُسْتُحِقَّ النِّصْفُ بِسَبَبٍ كَانَ عِنْدَهُ وَالنِّصْفُ بِسَبَبٍ كَانَ فِي يَدِ الْمَالِكِ فَيَرْجِعُ بِالنِّصْفِ لِذَلِكَ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَدَفَعَ نِصْفَهَا إلَى الْأَوَّلِ) أَيْ دَفَعَ الْمَوْلَى نِصْفَ الْقِيمَةِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ الْغَاصِبِ ثَانِيًا إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ كُلَّ الْقِيمَةِ لِعَدَمِ الْمُزَاحَمَةِ عِنْدَ وُجُودِ جِنَايَتِهِ وَإِنَّمَا انْتَقَصَ حَقُّهُ بِحُكْمِ الْمُزَاحَمَةِ مِنْ بَعْدُ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَرَجَعَ بِذَلِكَ النِّصْفِ عَلَى الْغَاصِبِ) أَيْ يَرْجِعُ الْمَوْلَى بِالنِّصْفِ الَّذِي دَفَعَهُ ثَانِيًا إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى عَلَى الْغَاصِبِ لِأَنَّ وَلِيَّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى اسْتَحَقَّ هَذَا النِّصْفَ ثَانِيًا بِسَبَبٍ كَانَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِهِ وَيُسَلَّمُ الْبَاقِي لَهُ وَلَا يَدْفَعُهُ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى حَقَّهُ فِي حَقِّهِ وَلَا إلَى وَلِيِّ الثَّانِيَةِ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ إلَّا فِي النِّصْفِ لِسَبْقِ حَقِّ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ وَقَدْ وَصَلَ ذَلِكَ إلَيْهِ وَهَذَا لِأَنَّ الثَّانِيَ يَسْتَحِقُّ النِّصْفَ لِوُجُودِ الْمُزَاحَمَةِ وَقْتَ جِنَايَتِهِ وَالْمُزَاحَمَةُ مَوْجُودَةٌ فَبَقِيَ عَلَى مَا كَانَ.
بِخِلَافِ وَلِيِّ الْأُولَى لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ الْكُلَّ وَقْتَ الْجِنَايَةِ وَإِنَّمَا رَجَعَ حَقُّهُ إلَى النِّصْفِ لِلْمُزَاحَمَةِ قَالُوا وَكُلَّمَا وَجَدَ شَيْئًا مِنْ بَدَلِ الْعَبْدِ أَخَذَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ ثُمَّ قِيلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى الْخِلَافِ كَالْأُولَى وَقِيلَ عَلَى الِاتِّفَاقِ وَالْفَرْقُ لِمُحَمَّدٍ أَنَّ الَّذِي يَرْجِعُ بِهِ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى عِوَضُ مَا سُلِّمَ لَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ

(8/443)


الْأُولَى لِأَنَّ الثَّانِيَةَ كَانَتْ فِي يَدِ الْمَالِكِ فَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ ثَانِيًا تَكَرَّرَ الِاسْتِحْقَاقُ وَأَمَّا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَيُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَهُ عِوَضًا عَنْ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَلَا يُؤَدِّي إلَى مَا ذَكَرْنَا وَفِي الْمَبْسُوطِ وَإِذَا غَصَبَ رَجُلٌ عَبْدًا وَجَارِيَةً فَقَتَلَ كُلُّ وَاحِدٍ رَجُلًا خَطَأً ثُمَّ قَتَلَ الْعَبْدُ الْجَارِيَةَ وَرُدَّ الْعَبْدُ فَإِنَّهُ يُرَدُّ مَعَهُ قِيمَةُ الْجَارِيَةِ فَيَدْفَعُهَا الْمَوْلَى إلَى وَلِيِّ قَتِيلِ الْجَارِيَةِ وَيَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْغَاصِبِ لِأَنَّ قِيمَةَ الْجَارِيَةِ اُسْتُحِقَّتْ مِنْ يَدِ الْمَوْلَى بِسَبَبٍ كَانَ عِنْدَ الْغَاصِبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَهُمَا لَا يَرْجِعُ وَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ دَفَعَ الْعَبْدَ كُلَّهُ إلَى وَلِيِّ قَتِيلِ الْعَبْدِ فَدَفَعَ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَيَرْجِعُ بِقِيمَتِهِ عَلَى الْغَاصِبِ وَعِنْدَهُمَا يَدْفَعُهُ إلَى وَلِيِّ قَتِيلِ الْعَبْدِ وَإِلَى الْغَاصِبِ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا إذَا كَانَتْ قِيمَةُ الْجَارِيَةِ أَلْفَ دِرْهَمٍ سَهْمٌ لِلْغَاصِبِ وَعَشَرَةٌ لِوَلِيِّ قَتِيلِ الْعَبْدِ ثُمَّ يَرْجِعُ الْمَوْلَى عَلَى الْغَاصِبِ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ فَيَدْفَعُ مِنْهَا إلَى وَلِيِّ قَتِيلِهِ جُزْءًا مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا ثُمَّ يَرْجِعُ بِذَلِكَ عَلَى الْغَاصِبِ وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ الْغَاصِبَ لَمَّا مَلَكَ الْجَارِيَةَ بِالضَّمَانِ مِنْ يَوْمِ الْغَصْبِ ظَهَرَ أَنَّ الْعَبْدَ قَتَلَ جَارِيَةً مَمْلُوكَةً.
وَجِنَايَةُ الْمَغْصُوبِ عَلَى الْغَاصِبِ وَعَلَى مَالِهِ هَدَرٌ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا مُعْتَبَرَةٌ لَمَّا تَبَيَّنَ فَعِنْدَهُ لَمَّا هُدِرَتْ جِنَايَةُ الْعَبْدِ عَلَى الْجَارِيَةِ بَقِيَ فِي رَقَبَتِهِ جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ وَهُوَ دَمُ الْحُرِّ فَيُدْفَعُ كُلُّهُ إلَى وَلِيِّ دَمِ الْحُرِّ وَيَفْدِيهِ كُلَّهُ إلَيْهِ وَهُوَ مُضْطَرٌّ فِي الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ وَقَدْ اُسْتُحِقَّ الْعَبْدُ مِنْ يَدِهِ بِسَبَبٍ كَانَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ وَضَمَانُهُ فَيَرْجِعُ بِقِيمَتِهِ عَلَيْهِ وَعِنْدَهُمَا لَمَّا كَانَتْ جِنَايَةُ الْعَبْدِ عَلَى الْجَارِيَةِ عَشَرَةَ آلَافٍ وَحَقُّ الْغَاصِبِ فِي قِيمَةِ الْجَارِيَةِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَيُقْسَمُ الْعَبْدُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَحَدَ عَشَرَ وَيَرْجِعُ بِقِيمَتِهِ عَلَى الْغَاصِبِ لِأَنَّ جَمِيعَ الْعَبْدِ اُسْتُحِقَّ مِنْ يَدِ الْمَوْلَى بِجِنَايَةٍ كَانَتْ فِي ضَمَانِ الْغَاصِبِ بِخِلَافِ الْفِدَاءِ لِأَنَّهُ وَجَبَ لِلْغَاصِبِ عَلَى الْمَوْلَى قِيمَةُ الْجَارِيَةِ لِأَنَّ جِنَايَةَ عَبْدِهِ عَلَى جَارِيَةِ الْغَاصِبِ مُعْتَبَرَةٌ عِنْدَهُمَا وَلِلْمَوْلَى عَلَى الْغَاصِبِ قِيمَةُ الْعَبْدِ فَوَقَعَتْ الْمُقَاصَصَةُ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا جِنْسًا وَمِقْدَارُ دِيَةِ الْحُرِّ مَعَ قِيمَةِ الْعَبْدِ مُخْتَلِفَانِ جِنْسًا وَقَدْرًا فَلَا يَتَقَاصَّانِ وَلَوْ كَانَ الْغَاصِبُ مُعْسِرًا وَقَالَ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ انْتَظِرْ يَسَارَهُ دَفَعَ الْعَبْدَ إلَى وَلِيِّ قَتِيلِهِ أَوْ فَدَاهُ وَيَرْجِعُ بِقِيمَتِهِ عَلَى الْغَاصِبِ إذَا أَيْسَرَ وَبِقِيمَةِ الْجَارِيَةِ مَرَّتَيْنِ وَاحِدَةً يَدْفَعُهَا إلَى وَلِيِّ قَتِيلِهَا وَوَاحِدَةً تُسَلَّمُ لَهُ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعِنْدَهُمَا يَدْفَعُ مِنْ الْعَبْدِ عَشَرَةَ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا إلَى وَلِيِّ قَتِيلِهِ فَإِذَا أَيْسَرَ الْغَاصِبُ دَفَعَ إلَيْهِ الْجُزْءَ الثَّانِيَ لِجَوَازِ أَنْ يُؤَدِّيَ الْغَاصِبُ قِيمَةَ الْجَارِيَةِ فَيَثْبُتَ لَهُ حَقٌّ فِي الْعَبْدِ عَلَى قَوْلِهِمَا فَمَتَى دَفَعَ جَمِيعَ الْعَبْدِ إلَى وَلِيِّ قَتِيلِ الْعَبْدِ يَبْطُلُ حَقُّ الْغَاصِبِ فِي الْعَبْدِ مَتَى أَدَّى قِيمَةَ الْجَارِيَةِ فَيُوقَفُ جُزْءٌ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِمَّا عَلَيْهِ.
وَإِنْ قَالَ وَلِيُّ قَتِيلِهَا اضْرِبْ بِقِيمَةِ الْجَارِيَةِ فِي الْغُلَامِ دَفَعَ إلَيْهِمَا عَلَى أَحَدَ عَشَرَ لِأَنَّ نِصْفَهُ لَا فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ لِلْحَالِ وَحَقُّ الْغَاصِبِ غَيْرُ ثَابِتٍ لِلْحَالِ وَفِي الثَّانِي عَسَى يَثْبُتُ وَعَسَى لَا يَثْبُتُ ثُمَّ يَرْجِعُ بِقِيمَتِهَا فَيُدْفَعُ إلَى وَلِيِّ قَتِيلِهِمَا تَمَامًا لِأَنَّ حَقَّهُ كَانَ ثَابِتًا فِي جَمِيعِ الْعَبْدِ وَقَدْ وَصَلَ إلَيْهِ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ الْعَبْدِ وَلَمْ يَصِلْ إلَيْهِ جُزْءٌ وَاحِدٌ وَفِي يَدِ الْمَوْلَى بَدَلُهُ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ ذَلِكَ مِنْهُ ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَى الْغَاصِبِ بِمِثْلِ ذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّا وَلِوَلِيِّ قَتِيلِ الْجَارِيَةِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْمَوْلَى عَشَرَةَ أَجْزَاءٍ مِنْ قِيمَتِهَا فِي رِوَايَةٍ لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهِ بَدَلُ جَمِيعِ الْجَارِيَةِ لِأَنَّ الْعَبْدَ قَامَ مَقَامَ الْجَارِيَةِ وَإِذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ لِأَنَّ قَلِيلَ الْقِيمَةِ إذَا قَتَلَ كَثِيرَ الْقِيمَةِ وَدُفِعَ بِهِ قَامَ مَقَامَ جَمِيعِهِ فَإِذَا قَامَ الْعَبْدُ مَقَامَ جَمِيعِ الْجَارِيَةِ فَصَارَ كَأَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهِ جَمِيعُ الْجَارِيَةِ بِخِلَافِ وَلِيِّ قَتِيلِ الْعَبْدِ لِأَنَّ حَقَّهُ كَانَ فِي جَمِيعِ الْعَبْدِ وَلَمْ يَتَحَوَّلْ إلَى بَدَلِهِ وَقَدْ وَصَلَ إلَيْهِ بَعْضُ الْعَبْدِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بَدَلَ مَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ مِنْ الْعَبْدِ وَلَوْ قَتَلَ الْعَبْدُ الْمَغْصُوبُ الْغَاصِبَ هَدَرَ دَمُهُ وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ الْمَرْهُونُ إذَا قَتَلَ الْمُرْتَهِنَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَهُمَا يُعْتَبَرُ حَتَّى يُؤْمَرَ الْمَوْلَى بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ لَهُمَا أَنَّ فِي اعْتِبَارِ جِنَايَتِهِ فَائِدَةً لِأَنَّ الْغَاصِبَ مَلَكَهُ بِالدَّفْعِ بِالْقِيمَةِ وَيُمْلَكُ عَبْدُ الْغَيْرِ بِالْقِيمَةِ مُفِيدًا كَمَا لَوْ اشْتَرَى مِنْهُ وَبِالْفِدَاءِ يَمْلِكُ دِيَةَ نَفْسِهِ وَهِيَ أَكْثَرُ مِنْ الْقِيمَةِ ظَاهِرًا فَيَحْصُلُ لِلْغَاصِبِ زِيَادَةٌ عَلَى الْقِيمَةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ فِي اعْتِبَارِ هَذِهِ الْجَارِيَةِ فَائِدَةً فَوَجَبَ اعْتِبَارُهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْمَوْلَى مَتَى أَخَذَ الضَّمَانَ مِنْ الْغَاصِبِ يَمْلِكُ الْغَاصِبُ الْعَبْدَ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ الْغَصْبِ وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْجِنَايَةَ ظَهَرَتْ مِنْ الْمَمْلُوكِ عَلَى مَالِكِهِ وَجِنَايَةُ الْمَمْلُوكِ عَلَى مَالِكِهِ هَدَرٌ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى مَمْلُوكِهِ شَيْئًا وَجِنَايَةُ الْمَغْصُوبِ عَلَى مَوْلَاهُ مُعْتَبَرَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - خِلَافًا لَهُمَا لِمَا مَرَّ فِي الرَّهْنِ.

(8/444)


قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (غَصَبَ صَبِيًّا حُرًّا فَمَاتَ فِي يَدِهِ فَجْأَةً أَوْ بِحُمَّى لَمْ يَضْمَنْ وَإِنْ مَاتَ بِصَاعِقَةٍ أَوْ نَهْشِ حَيَّةٍ فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الْغَاصِبِ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَضْمَنَ فِي الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ الْغَصْبَ فِي الْحُرِّ لَا يَتَحَقَّقُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمُكَاتَبِ وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا لِكَوْنِهِ حُرًّا يَدًا مَعَ أَنَّهُ رَقِيقُ رَقَبَةٍ فَالْحُرُّ يَدًا وَرَقَبَةً أَوْلَى أَنْ لَا يَضْمَنَ بِهِ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذَا ضَمَانُ إتْلَافٍ لَا ضَمَانُ غَصْبٍ وَالصَّبِيُّ يَضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ وَهَذَا لِأَنَّ نَقْلَهُ إلَى أَرْضٍ مَسْبَعَةٍ أَوْ إلَى مَكَانِ الصَّوَاعِقِ إتْلَافٌ مِنْهُ تَسَبُّبًا وَهُوَ مُتَعَدٍّ فِيهِ بِتَفْوِيتِ يَدِ الْحَافِظِ وَهُوَ الْمَوْلَى فَيَضْمَنُ وَهَذَا لِأَنَّ الْحَيَّاتِ وَالسِّبَاعَ وَالصَّوَاعِقَ لَا تَكُونُ فِي كُلِّ مَكَان فَأَمْكَنَ حِفْظُهُ عَنْهُ فَإِذَا نَقَلَهُ إلَيْهِ وَهُوَ مُتَعَدٍّ فِيهِ فَقَدْ أَزَالَ حِفْظَ الْمَوْلَى عَنْهُ مُتَعَدِّيًا فَيُضَافُ إلَيْهِ لِأَنَّ شَرْطَ الْعِلَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْعِلَّةِ إذَا كَانَ تَعَدِّيًا كَالْحَفْرِ فِي الطَّرِيقِ بِخِلَافِ الْمَوْتِ فَجْأَةً أَوْ بِحُمَّى فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ حَتَّى لَوْ نَقَلَهُ إلَى مَكَان تَغْلِبُ فِيهِ الْحُمَّى وَالْأَمْرَاضُ يَقُولُ إنَّهُ يَضْمَنُ وَتَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ لِكَوْنِهِ قَتْلًا تَسَبُّبًا بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ لِأَنَّهُ فِي يَدِ نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا فَهُوَ يَلْحَقُ بِالْكَثِيرِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُزَوَّجُ إلَّا بِرِضَاهُ كَالْبَالِغِ وَالْحُرِّ الصَّغِيرِ يُزَوِّجُهُ وَلِيُّهُ بِدُونِ رِضَاهُ فَإِذَا أَخْرَجَهُ مِنْ يَدِ الْمَوْلَى فَمَاتَ مِمَّا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ يَضْمَنُ.
وَالْمُكَاتَبُ لَا يَعْجِزُ عَنْ حِفْظِ نَفْسِهِ فَلَا يَضْمَنُ بِالْغَصْبِ كَالْحُرِّ الْكَبِيرِ حَتَّى لَوْ لَمْ يُمْكِنْهُ مِنْ حِفْظِ نَفْسِهِ فَلَا يَضْمَنُ بِالْغَصْبِ مِمَّا صَنَعَ مِنْ قَيْدٍ وَنَحْوِهِ يَضْمَنُ الْمُكَاتَبُ وَكَالْحُرِّ الْكَبِيرِ أَيْضًا كَمَا يَضْمَنُ الصَّغِيرُ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ التَّلَفُ مُضَافًا إلَى الْغَاصِبِ بِتَقْصِيرِ حِفْظِهِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (كَصَبِيٍّ أَوْدَعَ عَبْدًا فَقَتَلَهُ وَإِنْ أَوْدَعَ طَعَامًا وَأَكَلَهُ لَمْ يَضْمَنْ) أَيْ يَضْمَنُ عَاقِلَةُ الْغَاصِبِ كَمَا يَضْمَنُ عَاقِلَةُ الصَّبِيِّ إذَا قَتَلَ عَبْدًا أَوَدَعَ عِنْدَهُ وَهَذَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْعَبْدِ الْمُودَعِ وَالطَّعَامِ الْمُودَعِ هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يُضْمَنُ الصَّبِيُّ الْمُودَعُ فِي الْوَجْهَيْنِ وَعَلَى هَذَا لَوْ أَوْدَعَ الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ مَالًا فَاسْتَهْلَكَهُ لَا يُؤْخَذُ بِالضَّمَانِ فِي الْحَالِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَيُؤْخَذُ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يُؤْخَذُ بِهِ فِي الْحَالِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْإِقْرَارُ فِي الْعَبْدِ وَالصَّبِيِّ وَكَذَا الْإِعَارَةُ فِيهِمَا ثُمَّ إنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - شَرَطَ فِي الْجَامِعِ أَنْ يَكُونَ الصَّبِيُّ عَاقِلًا وَفِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِي الصَّبِيِّ الَّذِي عُمْرُهُ اثْنَيْ عَشْرَ سَنَةً وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْعَاقِلِ يَضْمَنُ بِالِاتِّفَاقِ وَلِأَنَّ التَّسْلِيطَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِيهِ وَفِعْلُهُ مُعْتَبَرٌ لِأَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى إذَا أَتْلَفَ مَالًا مُتَقَوِّمًا مَعْصُومًا حَقًّا لِلْمَالِكِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ كَمَا إذَا كَانَتْ الْوَدِيعَةُ عَبْدًا أَوْ كَانَ الصَّبِيُّ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ أَوْ فِي الْحِفْظِ مِنْ جِهَةِ الْوَلِيِّ وَكَمَا إذَا أَتْلَفَ غَيْرَ مَا فِي يَدِهِ وَلَمْ يَكُنْ مَعْصُومًا لِثُبُوتِ وِلَايَةِ الِاسْتِهْلَاكِ فِيهِ وَلَهُمَا أَنَّهُ أَتْلَفَ مَالًا غَيْرَ مَعْصُومٍ فَلَا يُؤَاخَذُ بِضَمَانِهِ كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ بِإِذْنِهِ وَرِضَاهُ.
وَهَذَا لِأَنَّ الْعِصْمَةَ تَثْبُتُ حَقًّا لَهُ وَقَدْ فَوَّتَهَا عَلَى نَفْسِهِ حَيْثُ وَضَعَهُ فِي يَدٍ غَيْرِ مَانِعَةٍ فَلَا يَبْقَى مَعْصُومًا إلَّا إذَا أَقَامَ غَيْرُهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي الْحِفْظِ وَلَا إقَامَةَ هُنَا لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الصَّبِيِّ حَتَّى يَلْزَمَهُ وَلَا وِلَايَةَ لِلصَّبِيِّ عَلَى نَفْسِهِ حَتَّى يَلْتَزِمَ بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ لَهُ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةً عَلَى نَفْسِهِ كَالْبَالِغِ وَبِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْوَدِيعَةُ عَبْدًا لِأَنَّ عِصْمَتَهُ لِحَقِّ نَفْسِهِ إذْ هُوَ مُبْقًى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ فِي حَقِّ الدَّمِ فَكَانَتْ عِصْمَتُهُ لِحَقِّ نَفْسِهِ لَا لِلْمَالِكِ لِأَنَّ عِصْمَةَ الْمَالِكِ إنَّمَا تُعْتَبَرُ فِيمَا لَهُ وِلَايَةُ اسْتِهْلَاكٍ حَتَّى يُمَكَّنَ غَيْرُهُ مِنْ الِاسْتِهْلَاكِ بِالتَّسْلِيطِ وَلَيْسَ لِلْمَوْلَى وِلَايَةُ اسْتِهْلَاكِ عَبْدِهِ فَلَا يَقْدِرُ أَنْ يُمَكَّنَ غَيْرُهُ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يُعْتَبَرُ تَسْلِيطُهُ فَيَضْمَنُ الصَّبِيُّ بِاسْتِهْلَاكِهِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَمْوَالِ قَالَ فِي الْعِنَايَةِ وَإِذَا اسْتَهْلَكَ الصَّبِيُّ يُنْظَرُ إنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ وَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ لَكِنَّهُ قَبِلَ الْوَدِيعَةَ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ ضَمِنَ بِالْإِجْمَاعِ إنْ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ وَقَبِلَهَا بِغَيْرِ أَمْرِ وَلِيِّهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْإِمَامِ وَمُحَمَّدٍ فِي الْحَالِ وَلَا بَعْدَ الْإِنْزَالِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يَضْمَنُ فِي الْحَالِ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ اسْتَهْلَكَ مَالَ الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ يَضْمَنُ فِي الْحَالِ وَهُوَ تَقْسِيمٌ حَسَنٌ اهـ.

[بَابُ الْقَسَامَةِ]
(بَابُ الْقَسَامَةِ) لَمَّا كَانَ أَمْرُ الْقَتِيلِ يَئُولُ إلَى الْقَسَامَةِ فِيمَا إذَا لَمْ يُعْلَمْ قَاتِلُهُ ذَكَرَ هَاهُنَا فِي بَابٍ عَلَى حِدَةٍ فِي آخِرِ الدِّيَاتِ.
وَالْكَلَامُ فِي الْقَسَامَةِ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ فِي مَعْنَاهَا لُغَةً وَالثَّانِي فِي مَعْنَاهَا شَرْعًا وَالثَّالِثُ فِي رُكْنِهَا وَالرَّابِعُ فِي شَرْطِهَا وَالْخَامِسُ فِي صِفَتِهَا وَالسَّادِسُ فِي دَلِيلِهَا اعْلَمْ أَنَّ الْقَسَامَةَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ وُضِعَ مَوْضِعَ الْأَقْسَامِ كَذَا فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ أَخْذًا مِنْ الْمُغْرِبِ وَقَالَ فِي

(8/445)


مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ الْقَسَامَةُ لُغَةً: مَصْدَرُ أَقْسَمَ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ دِرَايَةٌ بِعِلْمِ الْأَدَبِ وَأَمَّا فِي عِلْمِ الشَّرِيعَةِ فَهِيَ أَيْمَانٌ يَقْسِمُ بِهَا أَهْلُ مَحَلَّةٍ أَوْ دَارٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وُجِدَ فِيهَا قَتِيلٌ بِهِ أَثَرٌ يَقُولُ كُلٌّ مِنْهُمْ وَاَللَّهِ مَا قَتَلْته وَلَا عَلِمْت لَهُ قَاتِلًا كَذَا فِي الْعِنَايَةِ قَالَ فِي النِّهَايَةِ وَأَمَّا تَفْسِيرُهَا شَرْعًا فَمَا رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْقَتِيلِ الَّذِي يُوجَدُ فِي الْمَحَلَّةِ أَوْ دَارِ رَجُلٍ فِي الْمِصْرِ إنْ كَانَ جِرَاحَةً أَوْ أَثَرَ ضَرْبٍ أَوْ أَثَرَ خَنْقٍ وَلَا يُعْلَمُ قَاتِلُهُ يَقْسِمُ خَمْسُونَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ كُلٌّ مِنْهُمْ يَقُولُ بِاَللَّهِ مَا قَتَلْته وَلَا عَلِمْت لَهُ قَاتِلًا. اهـ.
أَقُولُ: مَا ذُكِرَ فِي النِّهَايَةِ إنَّمَا هُوَ مَسْأَلَةُ الْقَسَامَةِ شَرْعًا فَإِنَّ التَّفْسِيرَ مِنْ قَبِيلِ التَّصَوُّرَاتِ وَمَا ذُكِرَ فِيهَا تَصْدِيقٌ مِنْ قَبِيلِ الشَّرْطِيَّاتِ كَمَا تَرَى نَعَمْ يُمْكِنُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ تَفْسِيرُ الْقَسَامَةِ شَرْعًا بِتَدْقِيقِ النَّظَرِ لَكِنَّهُ فِي مَوْضِعِ بَيَانِ مَعْنَى الْقَسَامَةِ شَرْعًا فِي أَوَّلِ الْبَابِ تَعَسُّفٌ خَارِجٌ عَنْ سُنَنِ الطَّرِيقِ وَأَمَّا رُكْنُهَا فَهُوَ أَنَّهُ يَجْرِي مِنْ أَنْ يُقْسِمَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الَّتِي يُقْسِمُ بِهَا عَلَى لِسَانِهِ ثُمَّ قَالَ فِي النِّهَايَةِ.
وَأَمَّا شَرْطُهَا فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُقْسِمُ رَجُلًا بَالِغًا عَاقِلًا حُرًّا فَلِذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْقَسَامَةِ الْمَرْأَةُ وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ وَالْعَبْدُ وَأَنْ يَكُونَ فِي الْمَيِّتِ الْمَوْجُودِ أَثَرُ الْقَتْلِ وَأَمَّا لَوْ وُجِدَ مَيِّتًا لَا أَثَرَ بِهِ فَلَا قَسَامَةَ وَلَا دِيَةَ وَمِنْ شَرْطِهَا أَيْضًا تَكْمِيلُ الْيَمِينِ بِالْخَمْسِينَ. اهـ.
وَفِي غَايَةِ الْبَيَانِ أَيْضًا كَذَلِكَ وَمِنْ شُرُوطِهَا أَيْضًا أَنْ لَا يُعْلَمَ قَاتِلُهُ فَإِنْ عُلِمَ فَلَا قَسَامَةَ فِيهِ وَلَكِنْ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِيهِ أَوْ الدِّيَةُ كَمَا تَقَدَّمَ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْقَتِيلُ مِنْ بَنِي آدَمَ فَلَا قَسَامَةَ فِي بَهِيمَةٍ وُجِدَتْ فِي مَحَلَّةِ قَوْمٍ وَمِنْهَا الدَّعْوَى مِنْ أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ لِأَنَّ الْقَسَامَةَ يَمِينٌ وَالْيَمِينَ لَا تَجِبُ بِدُونِ الدَّعْوَى كَمَا فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى وَمِنْهَا إنْكَارُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِأَنَّ الْيَمِينَ وَظِيفَةُ الْمُنْكِرِ وَمِنْهَا الْمُطَالَبَةُ فِي الْقَسَامَةِ لِأَنَّ الْيَمِينَ حَقُّ الْمُدَّعِي وَحَقُّ الْإِنْسَانِ يُوَفَّى عِنْدَ طَلَبِهِ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ الَّذِي وُجِدَ فِيهِ الْقَتِيلُ مِلْكًا لِأَحَدٍ أَوْ فِي يَدِ أَحَدٍ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِلْكًا لِأَحَدٍ وَلَا فِي يَدِ أَحَدٍ أَصْلًا فَلَا قَسَامَةَ فِيهِ وَلَا دِيَةَ فِي قِنٍّ أَوْ مُدَبَّرٍ أَوْ أُمِّ وَلَدٍ أَوْ مُكَاتَبٍ أَوْ مَأْذُونٍ وُجِدَ مَقْتُولًا فِي دَارِ مَوْلَاهُ نَصَّ فِي الْبَدَائِعِ عَلَى هَاتِيك الشُّرُوطِ كُلِّهَا بِالْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مَعَ زِيَادَةِ تَفْصِيلٍ وَأَوْرَدَ عَلَى اشْتِرَاطِ الْحُرِّيَّةِ.
إذَا وُجِدَ قَتِيلٌ فِي دَارِ مُكَاتَبٍ فَعَلَيْهِ الْقَسَامَةُ وَإِذَا حَلَفَ يَجِبُ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدِّيَةِ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْبَدَائِعِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُكَاتَبَ حُرٌّ يَدًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُرًّا رَقَبَةً كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي الْبَابِ السَّابِقِ فَوُجِدَ فِيهِ الْحُرِّيَّةُ فِي الْجُمْلَةِ فَجَازَ اشْتِرَاطُنَا الْحُرِّيَّةَ فِي الْقَسَامَةِ مُطْلَقًا بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ لَكِنْ لَا يَخْفَى مَا فِيهِ وَأَمَّا صِفَتُهَا فَهِيَ وُجُوبُ الْأَيْمَانِ وَأَمَّا دَلِيلُهَا فَالْأَحَادِيثُ الْمَشْهُورَةُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ وَأَمَّا سَبَبُهَا فَوُجُودُ الْقَتِيلِ فِي الْمَحَلَّةِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (قَتِيلٌ وُجِدَ فِي مَحَلَّةٍ لَمْ يُدْرَ قَاتِلُهُ حَلَفَ خَمْسُونَ رَجُلًا مِنْهُمْ يَتَخَيَّرُهُمْ الْوَلِيُّ بِاَللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ وَلَا عَلِمْنَا لَهُ قَاتِلًا) هَذَا عَلَى سَبِيلِ الْحِكَايَةِ عَنْ الْجَمِيعِ وَأَمَّا عِنْدَ الْحَلِفِ فَيَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِاَللَّهِ مَا قَتَلْته وَلَا عَلِمْت لَهُ قَاتِلًا لِجَوَازِ أَنَّهُ قَتَلَهُ وَحْدَهُ فَيَجْرِي عَلَى يَمِينِهِ مَا قُلْنَا يَعْنِي جَمِيعًا وَلَا يُعْكَسُ لِأَنَّهُ إذَا قَتَلَهُ مَعَ غَيْرِهِ كَانَ قَاتِلًا لَهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا كَانَ هُنَاكَ لَوْثٌ اسْتَحْلَفَ الْأَوْلِيَاءُ خَمْسِينَ يَمِينًا وَيُقْضَى لَهُمْ بِالدِّيَةِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَمْدًا كَانَتْ الدَّعْوَى أَوْ خَطَأً وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُقْضَى بِالْقَوَدِ إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَاللَّوْثُ عِنْدَهُمَا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ عَلَامَةُ الْقَتْلِ عَلَى وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ أَوْ ظَاهِرٌ يَشْهَدُ لِلْمُدَّعِي مِنْ عَدَاوَةٍ ظَاهِرَةٍ أَوْ يَشْهَدُ عَدْلٌ أَوْ جَمَاعَةٌ غَيْرُ عُدُولٍ أَنَّ أَهْلَ الْمَحَلَّةِ قَتَلُوهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثُمَّ لَوْثٌ اُسْتُحْلِفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ.
فَإِنْ حَلَفُوا لَا دِيَةَ عَلَيْهِمْ وَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَحْلِفُوا حَلَفَ الْمُدَّعِي وَاسْتَحَقَّ مَا ادَّعَاهُ لَنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوْ أُعْطِيَ النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ الْحَدِيثَ وَقَوْلُهُ «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الدَّمِ وَالْأَمْوَالِ عَلَى ظَاهِرِ الْأَحَادِيثِ وَمَا رُوِيَ فِي قَتِيلٍ وُجِدَ بَيْنَ قَوْمٍ قَالَ يَسْتَحْلِفُ خَمْسِينَ رَجُلًا مِنْهُمْ فَهُوَ كَقَوْلِ الْمُؤَلِّفِ قَتِيلٌ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ قَالَ فِي الْعِنَايَةِ جُرِحَ رَجُلٌ فِي قَبِيلَةٍ وَلَمْ يُعْلَمْ جَارِحُهُ فَإِمَّا أَنْ يَصِيرَ صَاحِبَ فِرَاشٍ أَوْ يَكُونَ صَحِيحًا بِحَيْثُ يَذْهَبُ وَيَجِيءُ فَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَلَا ضَمَانَ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَفِيهِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى الْقَبِيلَةِ عِنْدَ الْإِمَامِ وَعِنْدَ الثَّانِي لَا شَيْءَ فِيهِ. اهـ.
وَأَطْلَقَ فِي الْقَتِيلِ فَشَمِلَ الْخَطَأَ وَالْعَمْدَ وَالدَّعْوَى بِذَلِكَ قَالَ فِي الْأَصْلِ وَإِذَا وُجِدَ قَتِيلٌ فِي مَحَلَّةِ قَوْمٍ وَادَّعَى وَلِيُّ الْقَتِيلِ الْقَتْلَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا أَنْ يَدَّعِيَ وَلِيُّ الْقَتِيلِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي قَتَلَهُ وَلِيُّهُ فَإِنْ ادَّعَى عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ أَنَّهُمْ قَتَلُوا وَلِيَّهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً وَادَّعَى عَلَى وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ أَنَّهُ هُوَ

(8/446)


الَّذِي قَتَلَهُ وَلِيُّهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً وَأَنْكَرَ أَهْلُ الْمَحَلَّةِ فَإِنَّهُ يَحْلِفُ خَمْسُونَ رَجُلًا مِنْهُمْ كُلُّ وَاحِدٍ بِاَللَّهِ مَا قَتَلْته وَلَا عَلِمْت لَهُ قَاتِلًا فَإِنْ حَلَفُوا غَرِمُوا الدِّيَةَ وَإِنْ نَكَلُوا فَإِنَّهُ يَحْبِسُهُمْ حَتَّى يُحَلِّفَهُمْ وَفِي الذَّخِيرَةِ هَذَا الْحَبْسُ بِدَعْوَى الْعَمْدِ وَإِنْ كَانَ يَدَّعِي الْخَطَأَ فَإِذَا نَكَلُوا عَنْ الْيَمِينِ يُقْضَى عَلَيْهِمْ بِالدِّيَةِ اهـ.
وَقَوْلُهُ يَتَخَيَّرُهُمْ الْوَلِيُّ يَعْنِي يَخْتَارُ الصَّالِحِينَ دُونَ الطَّالِحِينَ وَلَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ.
وَإِنْ كَانَ الْقَتِيلُ مُدَبَّرًا أَوْ مُكَاتَبًا وَجَبَتْ الْقَسَامَةُ وَقِيمَتُهُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ لِأَنَّ الْعَبْدَ بِمَنْزِلَةِ الْأَحْرَارِ فِي حَقِّ الدِّمَاءِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِيهِ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْأَمْوَالِ عِنْدَهُ وَلَا قَسَامَةَ فِي الْجَنِينِ لِأَنَّهُ نَاقِصُ الْخِلْقَةِ اهـ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَإِنْ حَلَفُوا فَعَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ الدِّيَةُ وَلَا يَحْلِفُ الْوَلِيُّ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَحْلِفُ وَقَدْ تَقَدَّمَ وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَحْلِفُ خَمْسُونَ رَجُلًا مِنْكُمْ بِاَللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ وَلَا عَلِمْنَا لَهُ قَاتِلًا ثُمَّ أُغْرِمُوا الدِّيَةَ فَقَالَ الْحَالِفُ يَا رَسُولَ اللَّهِ يَحْلِفُ وَيَغْرَمُ فَقَالَ نَعَمْ الْحَدِيثَ هَذَا إذَا ادَّعَى عَلَيْهِمْ لَا بِأَعْيَانِهِمْ الْقَتْلَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً لِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ لَا يُمَيَّزُونَ عَنْ الْبَاقِينَ وَلَوْ ادَّعَى عَلَى الْبَعْضِ بِأَعْيَانِهِمْ الْقَتْلَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ وَإِطْلَاقُ الْكِتَابِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّ الْقَسَامَةَ وَالدِّيَةَ تَسْقُطُ عَنْ الْبَاقِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ وَيُقَالُ لِلْوَلِيِّ أَلَك بَيِّنَةٌ فَإِنْ قَالَ لَا يُسْتَحْلَفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَمِينًا وَاحِدَةً وَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِثْلَهُ وَوَجْهُهُ أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَاهُ لِاحْتِمَالِ وُجُودِ الْقَتْلِ مِنْ غَيْرِهِمْ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ تَجِبُ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ وَالنُّصُوصُ لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ دَعْوَى وَدَعْوَى فَيُجَابُ بِإِطْلَاقِ النُّصُوصِ لَا بِالْقِيَاسِ بِخِلَافِ مَا إذَا ادَّعَى عَلَى وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِهِمْ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ فَلَوْ أَوْجَبْنَاهُمَا لَأَوْجَبْنَاهُمَا بِالْقِيَاسِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ ثُمَّ إنْ حَلَفَ بَرِئَ وَإِنْ نَكَلَ فَفِي دَعْوَى الْمَالِ يَثْبُتُ وَفِي دَعْوَى الْقِصَاصِ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَإِنْ لَمْ يَتِمَّ الْعَدَدُ كَرَّرَ الْحَلِفَ عَلَيْهِمْ لِيُتِمَّ خَمْسِينَ يَمِينًا) لِأَنَّ الْخَمْسِينَ وَجَبَتْ بِالنَّصِّ فَيَجِبُ تَمَامُهُ مَا أَمْكَنَ وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْوُقُوفُ عَلَى الْفَائِدَةِ فِيمَا يَثْبُتُ بِالنَّصِّ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَضَى بِالدِّيَةِ وَرُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ وَالنَّخَعِيِّ مِثْلُ ذَلِكَ وَلِأَنَّ فِيهِ اسْتِعْظَامًا لِأَمْرِ الدَّمِ فَيَتَكَمَّلُ وَتَكْرَارُ الْيَمِينِ مِنْ وَاحِدٍ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ مُمْكِنٌ شَرْعًا كَمَا فِي كَلِمَاتِ اللِّعَانِ وَإِنْ كَانَ الْعَدَدُ كَامِلًا فَأَرَادَ الْوَلِيُّ أَنْ يُكَرِّرَ عَلَى أَحَدِهِمْ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَصِيرَ إلَى التَّكْرَارِ ضَرُورَةُ الْإِكْمَالِ وَقَدْ كَمُلَ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلَا قَسَامَةَ عَلَى صَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ وَامْرَأَةٍ وَعَبْدٍ) لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ النُّصْرَةِ وَإِنَّمَا هُمْ أَتْبَاعٌ وَالنُّصْرَةُ لَا تَقُومُ بِالِاتِّبَاعِ وَالْيَمِينُ عَلَى أَهْلِ النُّصْرَةِ وَلِأَنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْقَوْلِ الصَّحِيحِ وَالْيَمِينُ قَوْلٌ قَوْلُهُ وَامْرَأَةٍ وَعَبْدٍ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ النُّصْرَةِ وَالْيَمِينُ عَلَى أَهْلِهَا أَقُولُ: يُشْكَلُ إطْلَاقُ هَذَا بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ فِي مَسْأَلَةٍ وَهِيَ أَنَّهُ لَوْ وُجِدَ قَتِيلٌ فِي قَرْيَةٍ لِامْرَأَةٍ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهَا الْقَسَامَةُ تُكَرَّرُ عَلَيْهَا الْأَيْمَانُ وَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهَا وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْقَسَامَةُ أَيْضًا عَلَى الْعَاقِلَةِ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلَا قَسَامَةَ وَلَا دِيَةَ فِي مَيِّتٍ لَا أَثَرَ بِهِ أَوْ يَسِيلُ دَمٌ مِنْ فَمِهِ أَوْ أَنْفِهِ أَوْ دُبُرِهِ بِخِلَافِ عَيْنِهِ وَأُذُنِهِ) لِأَنَّ الْقَسَامَةَ تَجِبُ فِي الْقَتِيلِ.
وَهَذَا لَيْسَ بِقَتِيلٍ وَإِنَّمَا مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ وَفِي مِثْلِهِ لَا قَسَامَةَ وَلَا غَرَامَةَ لِأَنَّ الْغَرَامَةَ تَتْبَعُ فِعْلَ الْعَبْدِ، وَالْقَسَامَةَ لِاحْتِمَالِ الْقَتْلِ مِنْهُمْ فَلَا بُدَّ مِنْ أَثَرٍ يَكُونُ بِالْمَيِّتِ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ قَتِيلٌ بِخِلَافِ مَا إذَا خَرَجَ دَمُهُ مِنْ عَيْنِهِ وَأُذُنِهِ لِأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَادَةً إلَّا مِنْ كَثْرَةِ الضَّرْبِ فَيَكُونُ قَتِيلًا ظَاهِرًا فَتَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُهُ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ بِخِلَافِ عَيْنِهِ وَأُذُنِهِ وَلَوْ وُجِدَ بَدَنُ الْقَتِيلِ كُلُّهُ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِهِ أَوْ النِّصْفُ وَمَعَهُ الرَّأْسُ فِي مَحَلَّةٍ فَعَلَى أَهْلِهَا الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ وَإِنْ وُجِدَ نِصْفُهُ مَشْقُوقًا بِالطُّولِ أَوْ وُجِدَ أَقَلُّ مِنْ النِّصْفِ وَكَانَ مَعَهُ الرَّأْسُ أَوْ لَمْ يَكُنْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ هَذَا حُكْمٌ عُرِفَ بِالنَّصِّ وَقَدْ وَرَدَ بِهِ فِي الْبَدَنِ وَلَكِنْ لِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ فَأَجْرَيْنَا عَلَيْهِ أَحْكَامَهُ تَعْظِيمًا لِلْآدَمِيِّ وَالْأَقَلُّ لَيْسَ مَعْنَاهُ فَلَا يُلْحَقُ بِهِ وَإِلَّا لَوْ اعْتَبَرْنَاهُ لَاجْتَمَعَتْ الدِّيَاتُ وَالْقَسَامَاتُ بِمُقَابَلَةِ شَخْصٍ وَاحِدٍ بِأَنْ تُوجَدَ أَطْرَافُهُ فِي الْقُرَى مُفَرَّقَةً وَهُوَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا صَلَاةُ الْجِنَازَةِ لِأَنَّهَا لَا تَتَكَرَّرُ كَالْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ قَالَ الشَّارِحُ وَلَوْ وُجِدَ فِيهِمْ جَنِينٌ أَوْ سَقَطَ لَيْسَ بِهِ أَثَرُ الضَّرْبِ لَا شَيْءَ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ لِأَنَّهُ لَا يَفُوقُ الْكَبِيرَ حَالًا وَإِنْ كَانَ بِهِ أَثَرُ الضَّرْبِ وَهُوَ تَامُّ الْخَلْقِ وَجَبَتْ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ تَامَّ الْخَلْقِ يَنْفَصِلُ حَيًّا إلَى آخِرِهِ أَقُولُ: فِي تَحْرِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فُتُورٌ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ أَنَّ الْجَنِينَ عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ فِي عَامَّةِ كُتُبِ اللُّغَةِ الْوَلَدُ مَا دَامَ فِي الْبَطْنِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنَّهُ يُوجَدُ فِيهِمْ

(8/447)


جَنِينٌ وَحْدَهُ وَهُوَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ وَأَمَّا وُجُودُهُ مَعَ أُمِّهِ بِمَعْزِلٍ عَمَّا نَحْنُ فِيهِ لِكَوْنِ الْحُكْمِ هُنَاكَ لِلْأُمِّ دُونَ الْجَنِينِ.
وَالثَّانِي أَنَّ ذِكْرَ الْجَنِينِ يُغْنِي عَنْ ذِكْرِ السِّقْطِ لِأَنَّ السِّقْطَ عَلَى مَا صُرِّحَ بِهِ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ الْوَلَدُ الَّذِي يَسْقُطُ قَبْلَ تَمَامِهِ وَالْجَنِينُ يَعُمُّ تَامَّ الْخَلْقِ وَغَيْرَ تَامِّهِ وَالثَّالِثُ أَنَّ قَوْلَهُ لَيْسَ بِهِ أَثَرُ الضَّرْبِ غَيْرُ كَافٍ فِي جَوَابِ الْمَسْأَلَةِ إذْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِهِ أَثَرُ الْجِرَاحَةِ وَالْخَنْقِ كَمَا تَقَرَّرَ فِيمَا سَبَقَ فَالِاقْتِصَارُ هُنَا عَلَى نَفْيِ أَثَرِ الضَّرْبِ تَقْصِيرٌ وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ وَلَوْ وُجِدَ فِيهِمْ وَلَدٌ صَغِيرٌ سَاقِطٌ لَيْسَ فِيهِ أَثَرُ الْقَتْلِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ فَتَدَبَّرْ قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ بِهِ أَثَرُ الضَّرْبِ وَهُوَ تَامُّ الْخَلْقِ وَجَبَتْ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ تَامَّ الْخَلْقِ يَنْفَصِلُ حَيًّا فَإِنْ قِيلَ الظَّاهِرُ يَصْلُحُ لِلدَّفْعِ دُونَ الِاسْتِحْقَاقِ وَلِهَذَا قُلْنَا فِي عَيْنِ الصَّبِيِّ وَلِسَانِهِ وَذَكَرِهِ إذَا لَمْ يُعْلَمْ صِحَّتُهُ حُكُومَةُ عَدْلٍ عِنْدَنَا وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ سَلَامَتُهَا أُجِيبَ بِأَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يَجِبْ فِي الْأَطْرَافِ قَبْلَ أَنْ يُعْلَمَ صِحَّتُهَا مَا يَجِبُ فِي السَّلِيمَةِ لِأَنَّ الْأَطْرَافَ يُسْلَكُ بِهَا مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ وَلَيْسَ تَعْظِيمٌ كَتَعْظِيمِ النَّفْسِ فَلَمْ يَجِبْ فِيهَا قَبْلَ الْعِلْمِ بِالصِّحَّةِ قِصَاصٌ أَوْ دِيَةٌ بِخِلَافِ الْجَنِينِ فَإِنَّهُ نَفْسٌ مِنْ وَجْهٍ عُضْوٌ مِنْ وَجْهٍ فَإِذَا انْفَصَلَ تَامَّ الْخَلْقِ وَبِهِ أَثَرُ الضَّرْبِ وَجَبَ فِيهِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ تَعْظِيمًا لِلنُّفُوسِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ قَتِيلٌ لِوُجُودِ دَلَالَةِ الْقَتْلِ وَهُوَ الْأَثَرُ إذْ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِ تَامِّ الْخَلْقِ أَنْ يَنْفَصِلَ حَيًّا وَأَمَّا إذَا وُجِدَ مَيِّتًا وَلَا أَثَرَ بِهِ لَا يَجِبُ فِيهِ شَيْءٌ فَكَذَا هَذَا قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ.
وَرَدَّ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ جَوَابَهُمْ الْمَزْبُورَ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابُ وَهَذَا كَمَا تَرَى مَعَ تَطْوِيلِهِ لَمْ يَرِدْ السُّؤَالُ وَرُبَّمَا قَوَّاهُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ إذَا لَمْ يَكُنْ حُجَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ فِي الْأَمْوَالِ وَمَا سُلِكَ بِهِ مَسْلَكَهَا فَلَأَنْ يَكُونَ فِيمَا هُوَ أَعْظَمُ خَطَرًا أَوْلَى انْتَهَى وَلِأَنَّ الْجَنِينَ نَفْسٌ فَاعْتَبَرْنَا جِهَةَ النَّفْسِ إنْ انْفَصَلَ حَيًّا فَيُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِتَمَامِ الْخَلْقِ وَعُضْوٌ مِنْ وَجْهٍ فَاعْتَبَرْنَا جِهَةَ الْعُضْوِ إنْ انْفَصَلَ مَيِّتًا فَيُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِنُقْصَانِ الْخَلْقِ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (قَتِيلٌ عَلَى دَابَّةٍ وَمَعَهَا سَائِقٌ أَوْ قَائِدٌ أَوْ رَاكِبٌ فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ) دُونَ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ لِأَنَّهُ فِي يَدِهِ فَصَارَ كَمَا إذَا كَانَ فِي دَارِهِ وَإِنْ اجْتَمَعَ فِيهَا السَّائِقُ وَالْقَائِدُ وَالرَّاكِبُ كَانَتْ الدِّيَةُ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا لِأَنَّ الْقَتِيلَ فِي أَيْدِيهِمْ دُونَ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ فَصَارَ كَمَا إذَا وُجِدَ فِي دَارِهِمْ وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونُوا مَالِكِينَ لِلدَّابَّةِ بِخِلَافِ الدَّارِ وَالْفَرْقُ أَنَّ تَدْبِيرَ الدَّابَّةِ إلَيْهِمْ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مَالِكِينَ لَهَا وَتَدْبِيرُ الدَّارِ إلَى مَالِكِهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَاكِنًا فِيهَا وَقِيلَ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى مَالِكِ الدَّابَّةِ فَعَلَى هَذَا أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الدَّارِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى السَّائِقِ إلَّا إذَا كَانَ يَسُوقُهَا مُخْتَفِيًا لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَنْقُلُ قَرِيبَهُ الْمَيِّتَ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان لِلدَّفْنِ وَأَمَّا إذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الْخُفْيَةِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي قَتَلَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ الدَّابَّةِ أَحَدٌ فَالدِّيَةُ وَالْقَسَامَةُ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ الَّذِينَ وُجِدَ فِيهِمْ الْقَتِيلُ عَلَى الدَّابَّةِ لِأَنَّ وُجُودَهُ وَحْدَهُ عَلَى الدَّابَّةِ كَوُجُودِهِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي فِيهِ الدَّابَّةُ.
وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ أَوْ كَانَ الرَّجُلُ يَحْمِلُهُ عَلَى ظَهْرِهِ فَهُوَ كَاَلَّذِي مَعَ الدَّابَّةِ وَظَاهِرُ عِبَارَةِ الْمُؤَلِّفِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَالِكُ مَعْرُوفًا أَوْ لَا وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَيْهِمْ هَكَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ وَلَمْ يُفَصِّلْ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ لِلدَّابَّةِ مَالِكٌ وَبَيْنَ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ بَلْ أَطْلَقَ الْجَوَابَ وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ لِلدَّابَّةِ مَالِكٌ مَعْرُوفٌ وَإِنَّمَا يَعْرِفُ ذَلِكَ الْقَائِدُ وَالسَّائِقُ فَأَمَّا إذَا كَانَ مَالِكُ الدَّابَّةِ مَعْرُوفًا فَإِنَّمَا تَجِبُ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى مَالِكِ الدَّابَّةِ نَظِيرُ هَذَا مَا قَالَ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا اسْتَوْلَدَ جَارِيَةً فِي يَدِهِ ثُمَّ أَقَرَّ إنَّهَا لِفُلَانٍ إنْ كَانَ الْمُقَرُّ لَهُ مَالِكًا مَعْرُوفًا لِهَذِهِ الْجَارِيَةِ صُدِّقَ الْمُسْتَوْلَدُ وَلَمْ تَصِرْ أُمَّ وَلَدِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمُقَرُّ لَهُ مَالِكًا مَعْرُوفًا لَمْ يُصَدَّقْ لِأَنَّهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ فَكَذَلِكَ هُنَا وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ سَوَاءٌ كَانَ لِلدَّابَّةِ مَالِكٌ مَعْرُوفٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ فَإِنَّ الْقَسَامَةَ تَجِبُ عَلَى الَّذِي فِي يَدِهِ الدَّابَّةُ وَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَلَوْ وَقَعَتْ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ وَبَيْنَ السَّائِقِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ السَّائِقِ أَنَّ الدَّابَّةَ دَابَّتُهُ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (مَرَّتْ دَابَّةٌ عَلَيْهَا قَتِيلٌ بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ فَعَلَى أَقْرَبِهِمَا) لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَمَرَ فِي قَتِيلٍ وُجِدَ بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ بِأَنْ يُذْرَعَ فَوُجِدَ أَحَدُهُمَا أَقْرَبَ بِشِبْرٍ فَقَضَى عَلَيْهِمْ بِالْقَسَامَةِ» قِيلَ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانُوا بِحَيْثُ يُسْمَعُ مِنْهُمْ الصَّوْتُ وَأَمَّا إذَا كَانُوا بِحَيْثُ لَا يُسْمَعُ مِنْهُمْ الصَّوْتُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ إذَا كَانُوا بِحَيْثُ لَا يُسْمَعُ مِنْهُمْ الصَّوْتُ لَا يُمْكِنُهُمْ الْغَوْثُ وَهَذَا قَوْلُ الْكَرْخِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعِبَارَةُ الْمَاتِنِ ظَاهِرُهَا الْإِطْلَاقُ وَأَمَّا إذَا وُجِدَ فِي فَلَاةٍ فِي أَرْضٍ فَإِنْ كَانَتْ مِلْكًا لِإِنْسَانٍ فَهُمَا عَلَى الْمَالِكِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِلْكًا لِأَحَدٍ فَإِنْ كَانَتْ يُسْمَعُ مِنْهَا الصَّوْتُ

(8/448)


مِنْ مِصْرٍ مِنْ الْأَمْصَارِ فَعَلَيْهِمْ الْقَسَامَةُ وَإِنْ كَانَ لَا يُسْمَعُ فَإِنْ كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهَا مَنْفَعَةٌ لِلِاحْتِطَابِ وَالْكَلَأِ فَالدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَإِنْ انْقَطَعَتْ عَنْهَا مَنْفَعَةُ الْمُسْلِمِينَ فَدَمُهُ هَدَرٌ فَظَهَرَ أَنَّ قَوْلَهُ عَلَى أَقْرَبِهَا إذَا لَمْ تَكُنْ الْأَرْضُ مِلْكًا لِأَحَدِكُمَا قَالَ إذَا كَانَ يُسْمَعُ مِنْهَا الصَّوْتُ مِنْ الْمِصْرِ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي الْقَرْيَتَيْنِ إذَا وُجِدَ قَتِيلٌ بَيْنَهُمَا وَقَوْلُهُ بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ مِثَالٌ وَكَذَا لَوْ وُجِدَ بَيْنَ قَبِيلَتَيْنِ أَوْ بَيْنَ مَحَلَّتَيْنِ قَالَ فِي الْمُحِيطِ أَمَّا إذَا وُجِدَ فِي فَلَاةِ مُبَاحٍ فَإِنْ وُجِدَ فِي خَيْمَةٍ أَوْ فُسْطَاطٍ فَالْقَسَامَةُ عَلَى مَالِكِهَا وَالدِّيَةُ عَلَى مَنْ يَسْكُنُهَا لِأَنَّهَا فِي يَدِهِ كَمَا فِي الدَّارِ وَإِنْ كَانَ خَارِجًا عَنْهَا فَعَلَى الْقَبِيلَةِ الَّتِي وُجِدَ فِيهَا الْقَتِيلُ لِأَنَّهُمْ لَمَّا نَزَلُوا قَبَائِلَ فِي أَمَاكِنَ مُخْتَلِفَةٍ صَارَتْ الْأَمْكِنَةُ بِمَنْزِلَةِ الْمَحَالِّ الْمُخْتَلِفَةِ فِي الْمُقِرِّ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَيْسَ لِغَيْرِهِمْ إزْعَاجُهُمْ عَنْ هَذَا الْمَكَانِ.
وَلَوْ وُجِدَ بَيْنَ الْقَبِيلَتَيْنِ فَعَلَى أَقْرَبِهِمَا فَإِنْ اسْتَوَيَا فَعَلَيْهِمَا كَمَا لَوْ وُجِدَ بَيْنَ الْمَحَلَّتَيْنِ وَبَيْنَ الْقَرْيَتَيْنِ هَذَا إذَا نَزَلُوا بَيْنَ قَبَائِلَ مُتَفَرِّقِينَ فَإِنْ نَزَلُوا جُمْلَةً مُخْتَلِطِينَ وَوُجِدَ الْقَتِيلُ خَارِجَ الْخِيَامِ فَعَلَى أَهْلِ الْعَسْكَرِ كُلِّهِمْ لِأَنَّهُمْ لَمَّا نَزَلُوا جُمْلَةً صَارَتْ الْأَمْكِنَةُ كُلُّهَا بِمَنْزِلَةِ مَحَلَّةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّ الْأَمْكِنَةَ كُلَّهَا مَنْسُوبَةٌ إلَى جَمِيعِ الْعَسْكَرِ لَا إلَى الْبَعْضِ وَإِنْ كَانَ الْعَسْكَرُ فِي أَرْضِ رَجُلٍ فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْعَسْكَرَ فِي هَذَا الْمَكَانِ بِمَنْزِلَةِ السُّكَّانِ وَالْقَسَامَةَ وَالدِّيَةَ عَلَى الْمُلَّاكِ دُونَ السُّكَّانِ بِالْإِجْمَاعِ وَهُمَا سَوَّيَا بَيْنَ هَذِهِ وَبَيْنَ الدَّارِ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَرَّقَ فَإِنَّ عِنْدَهُ فِي الدَّارِ تَجِبُ عَلَى السُّكَّانِ دُونَ الْمُلَّاكِ وَالْفَرْقُ أَنَّ الْعَسْكَرَ نَزَلُوا فِي هَذَا الْمَكَانِ لِلِانْتِقَالِ وَالِارْتِحَالِ لَا لِلْقَرَارِ وَمَا لَا قَرَارَ لَهُ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ بِمَنْزِلَةٍ فَأَمَّا السُّكَّانُ فِي الدَّارِ لِلْقَرَارِ لَا لِلِانْتِقَالِ وَالْفِرَارِ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِهِ وَإِنْ كَانَ أَهْلُ الْعَسْكَرِ قَدْ لَقُوا عَدُوَّهُمْ فَلَا قَسَامَةَ وَلَا دِيَةَ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ قَتْلُ الْعَدُوِّ وَلَوْ جُرِحَ فِي مَحَلَّةٍ أَوْ قَبِيلَةٍ فَحُمِلَ مَجْرُوحًا وَمَاتَ فِي مَحَلَّةٍ أُخْرَى مِنْ تِلْكَ الْجِرَاحَةِ فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ الَّتِي جُرِحَ فِيهَا لِأَنَّ الْقَتْلَ حَقِيقَةً وُجِدَ فِي الْمَحَلَّةِ الْأُولَى دُونَ الْأُخْرَى رَجُلٌ جُرِحَ وَحَمَلَهُ إنْسَانٌ مِنْ أَهْلِهِ فَمَكَثَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ ثُمَّ مَاتَ لَمْ يَضْمَنْ الْحَامِلُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ.
وَفِي قِيَاسِ أَبِي حَنِيفَةَ يَضْمَنُ وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى مَا إذَا جُرِحَ فِي قَبِيلَةٍ ثُمَّ مَاتَ فِي أَهْلِ قَبِيلَةٍ أُخْرَى لِأَنَّ يَدَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَحَلَّةِ فَصَارَ وُجُودُهُ مَجْرُوحًا فِي يَدِهِ كَوُجُودِهِ فِي مَحَلَّتِهِ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَإِنْ وُجِدَ فِي دَارِ إنْسَانٍ فَعَلَيْهِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ) لِأَنَّ الدَّارَ فِي يَدِهِ وَتَصَرُّفِهِ وَلَا يَدْخُلُ السُّكَّانُ فِي الْقَسَامَةِ مَعَ الْمَالِكِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ هِيَ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا لِأَنَّ وِلَايَةَ التَّدْبِيرِ تَكُونُ بِالسُّكْنَى كَمَا تَكُونُ بِالْمِلْكِ وَلَنَا أَنَّ الْمُلَّاكَ هُمْ الْمُخْتَصُّونَ بِنُصْرَةِ الْمَنْفَعَةِ عَادَةً دُونَ السُّكَّانِ وَلِأَنَّ تَمْلِيكَ الْمُلَّاكِ أَلْزَمُ وَقَرَارَهُمْ أَدْوَمُ وَكَانَتْ وِلَايَةُ التَّدْبِيرِ إلَيْهِمْ فَتَحَقَّقَ التَّقْصِيرُ مِنْهُمْ وَفِي الْأَصْلِ وَإِذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي الدَّارِ تَجِبُ الْقَسَامَةُ عَلَى صَاحِبِ الدَّارِ وَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الدَّارِ يَعْنِي أَهْلَ الْخُطَّةِ وَفِي الذَّخِيرَةِ بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ وَكَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْأَصْلِ وَذُكِرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ الْأَصْلِ أَنَّ الْقَسَامَةَ وَالدِّيَةَ عَلَى قَوْمِ صَاحِبِ الدَّارِ فَاتَّفَقَتْ الرِّوَايَاتُ أَنَّ الدِّيَةَ عَلَى قَوْمِهِ وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِي الْقَسَامَةِ ذُكِرَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ إنَّمَا تَكُونُ عَلَى الْمُشْتَرِي خَاصَّةً وَذُكِرَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهَا تَكُونُ عَلَى عَاقِلَةِ الْمُشْتَرِي وَحُكِيَ عَنْ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ وَفَّقَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ قَالَ إنَّهَا تَجِبُ عَلَيْهِ خَاصَّةً إذَا كَانَ قَوْمُهُ غُيَّبًا وَمَعْنَى الرِّوَايَةِ الَّتِي قَالَ إنَّهَا تَكُونُ عَلَيْهِ وَعَلَى قَوْمِهِ أَنْ يَكُونَ قَوْمُهُ حُضُورًا حَتَّى لَوْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ فِي الْمَحَلَّةِ ثُمَّ وُجِدَ قَتِيلٌ فِي سِكَّةٍ مِنْ سِكَكِهِمْ أَيْ فِي مَسْجِدٍ مِنْ مَسَاجِدِهِمْ وَفِيهَا سُكَّانٌ وَمُشْتَرُونَ فَإِنَّ الْقَسَامَةَ عَلَى الْمُشْتَرِي وَهَذَا الَّذِي ذُكِرَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ.
فَأَمَّا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ تَجِبُ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى السُّكَّانِ لَا عَلَى الْمُشْتَرِينَ الَّذِينَ هُمْ مُلَّاكٌ وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ يَقُولُ تَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي وَالسُّكَّانِ وَفِي الذَّخِيرَةِ وُجِدَ قَتِيلٌ فِي دَارٍ فَقَالَ صَاحِبُ الدَّارِ أَنَا قَتَلْته لِأَنَّهُ أَرَادَ أَخْذَ مَالِي وَعَلَى الْمَقْتُولِ سِيمَا السُّرَّاقِ وَهُوَ مُبْهَمٌ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَى صَاحِبِ الدَّارِ وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ قَالَ إنَّ عَلَيْهِ الدِّيَةَ لَا الْقِصَاصَ وَإِنْ لَمْ يُقِرَّ صَاحِبُ الدَّارِ بِقَتْلِهِ وَلَا نَقْتُلُهُ وَتُقْسَمُ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَفِي الْيَنَابِيعِ رَجُلٌ وَجَدَ قَتِيلًا فَادَّعَى وَلِيُّ الْجِنَايَةِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَتَلَهُ وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَقْتُولِ عَدَاوَةٌ ظَاهِرَةٌ فَإِنْ أَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَقَالَ الْوَلِيُّ احْلِفْ أَنَّك قَتَلْته وَآخُذُ مِنْك الْجِنَايَةَ أَيْ الدِّيَةَ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ عِنْدَنَا وَقَوْلُهُ دَارُ إنْسَانٍ مِثَالٌ وَكَذَا لَوْ وُجِدَ فِي حَانُوتٍ، وَالْكَرْمُ وَالْأَرْضُ فِي الْحُكْمِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الدَّارِ، وَفِي الْمُحِيطِ وَإِذَا وُجِدَ قَتِيلٌ فِي مَحَلَّةٍ خَرِبَةٍ لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ

(8/449)


وَبِقُرْبِهَا مَحَلَّةٌ عَامِرَةٌ فِيهَا أُنَاسٌ كَثِيرَةٌ تَجِبُ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى أَهْل الْمَحَلَّةِ الْعَامِرَةِ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ الْأَمَاكِنِ إلَيْهَا وَلَوْ وُجِدَ فِي دَارِ مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ أَوْ امْرَأَةٌ فِي دَارِ زَوْجِهَا تَجِبُ فِيهَا الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ وَلَا يُحْرَمُ الْإِرْثَ لِأَنَّهُ حُكْمٌ بِأَنَّهُ قَتَلَهُ حُكْمًا بِتَرْكِ الْحِفْظِ وَلَوْ وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي دَارِ امْرَأَةٍ كَرَّرَ عَلَيْهَا الْيَمِينَ خَمْسِينَ مَرَّةً.
وَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهَا وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ عَلَى أَقْرَبِ الْقَبَائِلِ قَالَ فِي الْمُحِيطِ رَجُلَانِ كَانَا فِي بَيْتٍ لَيْسَ مَعَهُمَا ثَالِثٌ فَوُجِدَ أَحَدُهُمَا مَذْبُوحًا قَالَ أَبُو يُوسُفَ يَضْمَنُ الْآخَرُ الدِّيَةَ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يَقْتُلُ نَفْسَهُ وَإِنَّمَا قَتَلَهُ الْآخَرُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ لَا حُكْمَ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّ الْآخَرَ قَتَلَ نَفْسَهُ وَأَنَّ الْآخَرَ قَتَلَهُ فَلَا أُضَمِّنُهُ بِالشَّكِّ وَلَوْ أَنَّ دَارًا مُغْلَقَةً لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ وَوُجِدَ فِيهَا قَتِيلٌ فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ رَبِّ الدَّارِ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَهِيَ عَلَى أَهْلِ الْخُطَّةِ دُونَ السُّكَّانِ وَالْمُشْتَرِينَ) هَذَا قَوْلُ الْإِمَامِ وَمُحَمَّدٍ وَأَهْلُ الْخُطَّةِ هُمْ الَّذِينَ خَطَّ لَهُمْ الْإِمَامُ الْأَرْضَ بِخَطِّهِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ الْكُلُّ مُشْتَرِكٌ لِأَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا يَجِبُ بِتَرْكِ الْحِفْظِ مِمَّنْ لَهُ وِلَايَةُ الْحِفْظِ وَهُمْ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ فَكَذَا فِي تَرْكِ الْحِفْظِ فَصَارَ كَالدَّارِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْخُطَّةِ وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي وَلَوْ كَانَ لِلْخُطَّةِ تَأْثِيرٌ فِي التَّقْدِيمِ لَمَا شَارَكَهُمْ الْمُشْتَرِي وَلَهُمَا أَنَّ صَاحِبَ الْخُطَّةِ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِنُصْرَةِ الْبُقْعَةِ فِي الْعُرْفِ وَكَذَا فِي الْحِفْظِ وَلِأَنَّ صَاحِبَ الْخُطَّةِ أَصِيلٌ وَالْمُشْتَرِي دَخِيلٌ وَوِلَايَةُ الْحِفْظِ عَلَى الْأَصِيلِ دُونَ الدَّخِيلِ وَفِي الدَّارِ الْمُشْتَرَكَةِ وِلَايَةُ تَدْبِيرِهَا إلَى الْمَالِكِ مُطْلَقًا بِخِلَافِ الْقَرْيَةِ وَالْمَحَلَّةِ وَالدَّارِ فَإِنَّهُ إذَا وُجِدَ قَتِيلٌ فِي دَارٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَ مُشْتَرٍ وَصَاحِبِ خُطَّةٍ فَإِنَّهُمَا يَسْتَوِيَانِ فِي الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ بِالْإِجْمَاعِ وَفِي الْمَحَلَّةِ أَوْجَبَ الْقَسَامَةَ وَالدِّيَةَ عَلَى أَهْلِ الْخُطَّةِ دُونَ الْمُشْتَرِينَ مَعَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَوْ انْفَرَدَ كَانَتْ الْقَسَامَةُ عَلَيْهِ وَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ.
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْعُرْفَ جَارٍ بِأَنَّ تَدْبِيرَ الْمَحَلَّةِ لِأَهْلِهَا دُونَ الْمُشْتَرِي مِنْهُ وَتَدْبِيرَ الدَّارِ لِلْمُشْتَرِي وَلَوْ قَالَ وَهُمَا عَلَى أَهْلِ الْخُطَّةِ لَكَانَ أَوْلَى لِأَنَّ الضَّمِيرَ يَرْجِعُ لِأَقْرَبِ مَذْكُورٍ وَهُوَ الدِّيَةُ وَقَدَّمْنَا أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ مُتَأَخِّرٌ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (فَإِنْ لَمْ يَبْقَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَعَلَى الْمُشْتَرِينَ) يَعْنِي إنْ لَمْ يَبْقَ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ الْخُطَّةِ فَعَلَى الْمُشْتَرِينَ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ انْتَقَلَتْ إلَيْهِمْ لِزَوَالِ مَنْ يُزَاحِمُهُمْ ثُمَّ إذَا وُجِدَ فِي دَارِ إنْسَانٍ تَدْخُلُ الْعَاقِلَةُ فِي الْقَسَامَةِ إنْ كَانُوا حَاضِرِينَ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا تَدْخُلُ لِأَنَّ رَبَّ الدَّارِ أَخَصُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ فَلَا يُشَارِكُهُ غَيْرُهُ فِيهَا كَأَهْلِ الْمَحَلَّةِ لَا يُشَارِكُهُمْ فِيهَا عَوَاقِلُهُمْ فَصَارُوا كَمَا إذَا كَانُوا غَائِبِينَ وَلَهُمَا أَنَّهُمْ فِي الْحُضُورِ لَزِمَتْهُمْ نُصْرَةُ الْبُقْعَةِ كَمَا يَلْزَمُ صَاحِبَ الدَّارِ فَيُشَارِكُونَهُ فِي الْقَسَامَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا قَوْلُ الْكَرْخِيِّ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلَوْ وُجِدَ فِي دَارٍ مُشْتَرَكَةٍ عَلَى التَّفَاوُتِ فَهِيَ عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ) أَيْ إذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي دَارٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَ جَمَاعَةٍ أَنْصِبَاؤُهُمْ فِيهَا مُتَفَاضِلَةٌ بِأَنْ كَانَتْ بَيْنَ ثَلَاثَةٍ مَثَلًا لِأَحَدِهِمْ النِّصْفُ وَلِلْآخَرِ الثُّلُثُ وَلِلثَّالِثِ السُّدُسُ تُقْسَمُ الدِّيَةُ وَالْقَسَامَةُ عَلَى عَدَدِ رُءُوسِهِمْ وَلَا يُعْتَبَرُ بِتَفَاوُتِ الْأَنْصِبَاءِ لِأَنَّ صَاحِبَ الْقَلِيلِ يُزَاحِمُ صَاحِبَ الْكَثِيرِ فِي التَّدْبِيرِ فَكَانُوا سَوَاءً فِي الْحِفْظِ وَالتَّقْصِيرِ فَيَكُونُ عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ بِمَنْزِلَةِ الشُّفْعَةِ وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ دَارٌ نِصْفُهَا لِرَجُلٍ وَعُشْرُهَا لِآخَرَ وَلِآخَرَ مَا بَقِيَ فَوُجِدَ فِيهَا قَتِيلٌ فَهِيَ عَلَى عَدَدِ رُءُوسِ الرِّجَالِ دُونَ تَفَاوُتِ الْمِلْكِ حَتَّى أَنَّ الْقَتِيلَ إذَا وُجِدَ فِي دَارٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَثْلَاثًا فَالدِّيَةُ تَجِبُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَكَذَا دَارٌ بَيْنَ بَكْرٍ وَزَيْدٍ أَثْلَاثًا فَوُجِدَ فِيهَا قَتِيلٌ فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِمْ أَثْلَاثًا.
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَوَاهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ بِخِلَافِ هَذَا فَإِنَّهُ قَالَ عَلَى عَدَدِ الْمِلْكِ وَلَوْ وُجِدَ قَتِيلٌ بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ فَالدِّيَةُ عَلَى أَهْلِ الْقَرْيَتَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ وَلَا يُنْظَرُ إلَى عَدَدِ أَهْلِ الْقَرْيَتَيْنِ وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي دَارٍ بَيْنَ تَمِيمِيٍّ وَبَيْنَ أَرْبَعَةٍ مِنْ هَمْدَانَ وُجِدَ فِيهَا قَتِيلٌ فَالدِّيَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَجِبُ الدِّيَةُ أَخْمَاسًا وَإِذَا وُجِدَ قَتِيلٌ بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ وَهُوَ فِي الْقُرْبِ إلَيْهِمَا عَلَى السَّوَاءِ وَوُجِدَ فِي إحْدَى الْقَرْيَتَيْنِ أُنَاسٌ كَثِيرَةٌ وَفِي الْأُخْرَى أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ فَالدِّيَةُ عَلَى الْقَرْيَتَيْنِ نِصْفَيْنِ بِلَا خِلَافٍ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي قَتِيلٍ وُجِدَ بَيْنَ ثَلَاثِ دُورٍ دَارٌ لِتَمِيمِيِّ وَدَارَانِ لِهَمْدَانَ وَهُوَ فِي الْقُرْبِ مِنْهُمَا جَمِيعًا عَلَى السَّوَاءِ فَالدِّيَةُ نِصْفَانِ وَاعْتَبَرَ الْقَبِيلَةَ دُونَ الْقُرْبِ وَإِذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي دَارٍ بَيْنَ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ فَالْقَسَامَةُ عَلَى عَوَاقِلِهِمْ جَمِيعًا أَثْلَاثًا وَتَمَامُ الْخَمْسِينَ عَلَى الْعَوَاقِلِ وَكَذَا لَوْ وُجِدَ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ الْمَحَلَّةِ فَالْمُعْتَبَرُ عَدَدُ الْقَبَائِلِ وَالْقَبَائِلُ هُنَا ثَلَاثٌ فَالدِّيَةُ أَثْلَاثٌ وَلِهَذَا قُلْنَا بِأَنَّ أَهْلَ الدِّيوَانِ إذَا جَمَعَهُمْ دِيوَانٌ وَاحِدٌ وَقَاتِلٌ وَاحِدٌ مِنْهُمْ كَانَ عَلَى أَهْلِ دِيوَانِهِ لَا عَلَى أَهْلِهِ وَعَشِيرَتِهِ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَإِنْ بِيعَ فَلَمْ يَقْبِضْ

(8/450)


فَهِيَ عَلَى عَاقِلَةِ الْبَائِعِ وَفِي الْخِيَارِ عَلَى ذِي الْيَدِ) أَيْ إذَا بِيعَتْ الدَّارُ وَلَمْ يَقْبِضْهَا الْمُشْتَرِي وَوُجِدَ فِيهَا قَتِيلٌ فَضَمَانُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الْبَائِعِ وَإِنْ كَانَ فِي الْبَيْعِ خِيَارٌ لِأَحَدِهِمَا فَهُوَ عَلَى عَاقِلَةِ الَّذِي فِي يَدِهِ.
وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ خِيَارٌ فَهُوَ عَلَى عَاقِلَةِ الْمُشْتَرِي وَإِنْ كَانَ فِيهِ خِيَارٌ فَهُوَ عَلَى عَاقِلَةِ الَّذِي يَصِيرُ لَهُ لِأَنَّهُ إنَّمَا نُزِّلَ قَاتِلًا بِاعْتِبَارِ التَّقْصِيرِ فِي الْحِفْظِ فَلَا يَجِبُ إلَّا عَلَى مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الْحِفْظِ وَالْوِلَايَةُ تُسْتَفَادُ بِالْمِلْكِ وَلِهَذَا لَوْ كَانَتْ الدَّارُ وَدِيعَةً تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى صَاحِبِ الدَّارِ دُونَ الْمُودِعِ وَالْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي قَبْلَ الْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ الْبَاتِّ وَفِي الَّذِي شُرِطَ فِيهِ الْخِيَارُ يُعْتَبَرُ قَرَارُ الْمِلْكِ كَمَا فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْحِفْظِ بِالْيَدِ دُونَ الْمِلْكِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الْحِفْظِ بِالْيَدِ دُونَ الْمِلْكِ وَلَا يَقْدِرُ بِالْمِلْكِ بِدُونِ الْيَدِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ وَفِي الْبَيْعِ الْبَاتِّ الْيَدُ لِلْبَائِعِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَكَذَا فِيمَا فِيهِ الْخِيَارُ لِأَحَدِهِمَا لِأَنَّهُ دُونَ الْبَاتِّ وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي وَالْخِيَارُ لَهُ فَهُوَ أَخَصُّ النَّاسِ بِهِ تَصَرُّفًا وَإِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَهُوَ فِي يَدِهِ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ كَالْمَغْصُوبِ فَيُعْتَبَرُ يَدُهُ إذْ بِهَا يَقْدِرُ عَلَى الْحِفْظِ بِخِلَافِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ فَإِنَّهَا تَجِبُ عَلَى الْمَالِكِ لَا عَلَى الضَّامِنِ وَهَذِهِ ضَمَانُ جِنَايَةٍ فَتَجِبُ عَلَى الضَّامِنِ لِأَنَّ ضَمَانَ الْجِنَايَةِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْمِلْكُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْغَاصِبَ يَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ جِنَايَةِ الْعَبْدِ الْمَغْصُوبِ وَلَا مِلْكَ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِهِ وَدِيعَةً لِأَنَّ هَذَا الضَّمَانَ ضَمَانُ تَرْكِ الْحِفْظِ وَهُوَ إنَّمَا يَجِبُ عَلَى مَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْحِفْظِ وَهُوَ مَنْ لَهُ يَدُ أَصَالَةٍ لَا يَدُ نِيَابَةٍ وَيَدُ الْمُودَعِ يَدُ نِيَابَةٍ.
وَكَذَا الْمُسْتَعِيرُ وَالْمُرْتَهِنُ وَكَذَا الْغَاصِبُ لِأَنَّ يَدَهُ يَدُ أَمَانَةٍ لِأَنَّ الْعَقَارَ لَا يُضْمَنُ بِالْغَصْبِ عِنْدَنَا ذِكْرُهُ فِي الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الضَّمَانَ عَلَى الْغَاصِبِ فَإِنْ قُلْتُ: لَوْ جَنَى الْعَبْدُ فِي الْبَيْعِ الْبَاتِّ قَبْلَ الْقَبْضِ يُخَيَّرُ الْمُشْتَرِي بَيْنَ الرَّدِّ وَإِمْضَائِهِ وَهُنَا لَا يُخَيَّرُ وَالْفَرْقُ أَنَّ الدَّارَ لَا يَسْتَحِقُّهَا بِوُجُودِ الْقَتِيلِ فِيهَا بِخِلَافِ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَحَقًّا بِالْجِنَايَةِ وَفِي مُخْتَصَرِ خواهر زاده وَإِنْ وُجِدَ فِي دَارِ يَتَامَى الْمُسْلِمِينَ فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْيَتَامَى وَالْأَصْلُ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَعْتَبِرُ لِوُجُودِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ الْيَدَ الْحَقِيقِيَّةَ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الْقُدْرَةَ عَلَى الْحِفْظِ وَهُمَا يَعْتَبِرَانِ الْمِلْكَ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلَا تَعْقِلُ عَاقِلَةٌ حَتَّى تَشْهَدَ الشُّهُودُ أَنَّهَا لِذِي الْيَدِ) أَيْ إذَا كَانَتْ دَارٌ فِي يَدِ رَجُلٍ فَوُجِدَ فِيهَا قَتِيلٌ لَا تَعْقِلُهُ عَاقِلَتُهُ حَتَّى تَشْهَدَ الشُّهُودُ أَنَّهَا لِصَاحِبِ الْيَدِ لِأَنَّ مِلْكَ صَاحِبِ الْيَدِ لَا بُدَّ مِنْهُ حَتَّى تَعْقِلَ عَاقِلَتُهُ عَنْهُ وَالْيَدُ وَإِنْ كَانَتْ تَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ وَلَكِنَّهَا مُحْتَمَلَةٌ فَلَا تَكْفِي إلَّا بِإِيجَابِ الضَّمَانِ عَلَى الْعَاقِلَةِ كَمَا لَا يَخْفَى لِلِاسْتِحْقَاقِ وَتَصْلُحُ لِلدَّفْعِ وَقَدْ عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ وَلَا يَخْتَلِجُ فِي وَهْمِك صُورَةُ تَنَاقُضٍ بِعَدَمِ الِاكْتِفَاءِ بِالْيَدِ مَعَ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِلْيَدِ لِأَنَّ الْيَدَ الْمُعْتَبَرَةَ عِنْدَهُ هِيَ الَّتِي تَكُونُ بِالْأَصَالَةِ لَكِنْ كَيْفَ يَتِمُّ عَلَى أَصْلِهِ التَّعْلِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْمِلْكِ لِصَاحِبِ الْيَدِ حَتَّى تَعْقِلَ الْعَوَاقِلُ عَنْهُ.
وَهَلْ لَا يُنَاقِضُ هَذَا مَا مَرَّ مِنْ أَنَّ الِاعْتِبَارَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِلْيَدِ دُونَ الْمِلْكِ كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ آنِفًا فَإِنَّ الْمِلْكَ هُنَاكَ لِلْمُشْتَرِي مَعَ أَنَّ الدِّيَةَ عِنْدَهُ عَلَى عَاقِلَةِ الْبَائِعِ لِكَوْنِهِ صَاحِبَ الْيَدِ قَبْلَ الْقَبْضِ كَمَا مَرَّ تَفْصِيلُهُ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ وَلَا يَلْزَمُ أَبَا حَنِيفَةَ أَنْ يَعْتَبِرَ الْيَدَ فِي اسْتِحْقَاقِ الدِّيَةِ كَمَا قَالَ فِي الدَّارِ الْمَبِيعَةِ فِي يَدِ الْبَائِعِ يُوجَدُ فِيهَا قَتِيلٌ لِأَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ عَلَى عَاقِلَةِ الْبَائِعِ لِأَنَّهُ يَعْتَبِرُ يَدَ الْمَالِكِ لَا مُجَرَّدَ الْيَدِ فَلَمْ تَثْبُتْ هُنَا يَدُ الْمَالِكِ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ اهـ.
وَذُكِرَ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ مَا يُوَافِقُهُ حَيْثُ قَالَ وَفِي جَامِعِ كَرْبِيسِيٍّ اعْتَبَرَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مُجَرَّدَ الْيَدِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَهُنَاكَ لَا يَثْبُتُ ذَلِكَ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ فَلَا يَرِدُ نَقْضًا عَلَيْهِ. اهـ.
أَقُولُ: هَذَا التَّوْجِيهُ مُشْكِلٌ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ كَانَ لِلْمُشْتَرِي لَا مَحَالَةَ وَعَنْ هَذَا نَشَأَ النِّزَاعُ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَصَاحِبَيْهِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ إذْ لَوْ كَانَ الْمِلْكُ أَيْضًا لِلْبَائِعِ لَمَا صَارَ مَحَلُّ الْخِلَافِ وَإِقَامَةُ الْحُجَّةِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ فَإِذَا كَانَ الْمِلْكُ هُنَا لِلْمُشْتَرِي فَكَيْفَ يَتَحَقَّقُ الْبَائِعُ أَنَّ ذَاكَ يَدُ الْمَالِكِ إذْ ثُبُوتُ يَدِ الْمِلْكِ لَهُ يَقْتَضِي ثُبُوتَ نَفْسِ الْمِلْكِ أَيْضًا لَهُ فَيَلْزَمُ أَنْ يَجْتَمِعَ عَلَى الدَّارِ الْمَبِيعَةِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ مِلْكَانِ وَهُمَا مِلْكُ الْبَائِعِ وَمِلْكُ الْمُشْتَرِي وَهُوَ مُحَالٌ وَإِنْ أُرِيدَ بِيَدِ الْمِلْكِ غَيْرُ مَعْنَاهُ الظَّاهِرِ أَيْ الْيَدُ الَّتِي كَانَتْ لِصَاحِبِهَا مِلْكًا فِي الْأَصْلِ وَإِنْ زَالَ ذَلِكَ الْمِلْكُ فِي الْحَالِ بِالْبَيْعِ فَمَا مَعْنَى اعْتِبَارِ مِثْلِ ذَلِكَ الْأَصْلِ الْمُزِيلِ فِي تَرَتُّبِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ وَهَلْ يَلِيقُ أَنْ يُعَدَّ ذَلِكَ أَصْلًا لِإِمَامِنَا الْأَعْظَمِ فَعَلَيْك بِالتَّأَمُّلِ الصَّادِقِ.
وَظَاهِرُ إطْلَاقِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا أَنْكَرَ الْعَوَاقِلُ

(8/451)


أَنَّ الدَّارَ لَهُ وَأَقَرُّوا بِهَا قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ الْبَزْدَوِيُّ قُصِدَ بِهَذَا الْكَلَامِ إذَا أَنْكَرَ الْعَوَاقِلُ كَوْنَ الدَّارِ لَهُ وَقَالُوا هِيَ وَجِيعَةٌ فِي يَدِهِ فَالْقَوْلُ لَهُمْ إلَّا أَنْ يُقِيمُوا بَيِّنَةً عَلَى الْمِلْكِ كَذَا فِي الْعَيْنِيِّ عَلَى الْهِدَايَةِ وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْقَتِيلُ الْمَوْجُودُ فِيهَا صَاحِبَ الدَّارِ أَوْ غَيْرَهُ عِنْدَ الْإِمَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَفِي الْفُلْكِ عَلَى مَنْ فِيهَا مِنْ الرُّكَّابِ وَالْمَلَّاحِينَ) لِأَنَّهُ فِي أَيْدِيهِمْ فَيَسْتَوِي الْمَالِكُ وَغَيْرُهُ فِي الدَّارِ فِيهِ وَعَلَى هَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ ظَاهِرٌ لِأَنَّ عِنْدَهُ يَسْتَوِي الْمَالِكُ وَالسَّاكِنُ فِي الدَّارِ وَالْفَرْقُ لَهُمَا أَنَّ الْفُلْكَ يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ فَيَكُونُ فِي الْيَدِ حَقِيقَةً بِخِلَافِ الْعَقَارِ فَإِنَّهُ لَا يُنْقَلُ وَلَا يُحَوَّلُ وَفِي الْمُحِيطِ وَقِيلَ يَجِبُ عَلَى سُكَّانِ السَّفِينَةِ دُونَ مَالِكِهَا لِأَنَّ السَّفِينَةَ تَحْتَ يَدِ السَّاكِنِ دُونَ الْمَالِكِ وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ إنَّمَا تَجِبُ عَلَى رَاكِبِ السَّفِينَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا مَالِكٌ مَعْرُوفٌ وَإِنْ كَانَ لَهَا مَالِكٌ مَعْرُوفٌ فَعَلَى مَالِكِ السَّفِينَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ عَلَى الرَّاكِبِ مُطْلَقًا وَإِطْلَاقُ مُحَمَّدٍ فِي النَّوَازِلِ الْجَوَابَ عَلَى هَذَا.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَفِي مَسْجِدِ مَحَلَّةٍ لَهُمْ وَفِي الْجَامِعِ وَالشَّارِعِ لَا قَسَامَةَ وَالدِّيَةُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ) لِلْعَامَّةِ لَا يَخْتَصُّ بِهِ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَالْقَسَامَةُ لِنَفْيِ تُهْمَةِ الْقَتْلِ وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّ الْكُلِّ فَدِيَتُهُ تَكُونُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّهُ مَالُ الْعَامَّةِ.
وَكَذَلِكَ الْجُسُورُ الْعَامَّةُ وَالسُّوقُ الْعَامَّةُ الَّتِي تَكُونُ فِي الشَّوَارِعِ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ فِي هَذَا كُلِّهِ إلَى الْإِمَامِ لِأَنَّهُ نَائِبُ الْمُسْلِمِينَ لَا إلَى أَهْلِ السُّوقِ وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ أَرَادَ بِهِ أَنْ يَكُونَ السُّوقُ الْأَعْظَمُ نَائِبًا عَنْ الْمَحَالِّ وَأَمَّا الْأَسْوَاقُ الَّتِي فِي الْمَحَالِّ فَهِيَ مَحْفُوظَةٌ بِحِفْظِ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ فَتَكُونُ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ وَكَذَا فِي السُّوقِ النَّائِي عَنْ الْمَحَالِّ إذَا كَانَ لَهَا سُكَّانٌ أَوْ كَانَ لِأَحَدٍ فِيهَا دَارٌ مَمْلُوكَةٌ وَأَمَّا كَوْنُ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُمْ الْحِفْظُ بِخِلَافِ الْأَسْوَاقِ الْمَمْلُوكَةِ لِأَهْلِهَا أَوْ الَّتِي فِي الْمَحَالِّ وَالْمَسَاجِدِ الَّتِي فِيهَا حَيْثُ يَجِبُ الضَّمَانُ فِيهَا عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ أَوْ عَلَى الْمَالِكِ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي بَيَّنَّا لِأَنَّهَا مَحْفُوظَةٌ بِحِفْظِ أَرْبَابِهَا أَوْ بِحِفْظِ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ وَفِي الْمُنْتَقَى إذَا وُجِدَ قَتِيلٌ فِي صَفٍّ مِنْ السُّوقِ فَإِنْ كَانَ أَهْلُ ذَلِكَ الصَّفِّ يَبِيتُونَ فِي حَوَانِيتِهِمْ فَدِيَةُ الْقَتِيلِ عَلَيْهِمْ وَإِنْ كَانُوا لَا يَبِيتُونَ فِيهَا فَالدِّيَةُ عَلَى الَّذِينَ لَهُمْ مِلْكُ الْحَوَانِيتِ وَلَوْ وُجِدَ فِي السِّجْنِ فَدِيَتُهُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ عَلَى أَهْلِهِ وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَسْأَلَةِ السُّكَّانِ وَالْمُلَّاكِ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَيُهْدَرُ لَوْ فِي) (بَرِّيَّةٍ أَوْ وَسَطِ الْفُرَاتِ) لِأَنَّ الْفُرَاتَ لَيْسَ فِي يَدِ أَحَدٍ وَلَا فِي مِلْكِهِ إذَا كَانَ يَمُرُّ بِهِ الْمَاءُ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ النَّهْرُ صَغِيرًا بِحَيْثُ يَسْتَحِقُّ رَبُّهُ الشُّفْعَةَ حَيْثُ يَكُونُ ضَمَانُهُ عَلَى أَهْلِهِ لِقِيَامِ يَدِهِمْ عَلَيْهِ.
وَكَذَا الْبَرِّيَّةُ لَا يَدَ لِأَحَدٍ فِيهَا وَلَا مِلْكَ فَيُهْدَرُ مَا وُجِدَ فِيهَا مِنْ الْقَتْلِ حَتَّى لَوْ كَانَتْ الْبَرِّيَّةُ مَمْلُوكَةً لِأَحَدٍ أَوْ كَانَتْ قَرِيبَةً مِنْ الْقَرْيَةِ بِحَيْثُ يُسْمَعُ مِنْهُ الصَّوْتُ تَجِبُ عَلَى الْمَالِكِ وَعَلَى أَهْلِ الْقَرْيَةِ لِمَا بَيَّنَّا وَلَوْ وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِنْ غَيْرِ زِحَامِ النَّاسِ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ بِعَرَفَةَ فَالدِّيَةُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ قَسَامَةٍ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي الْمُنْتَقَى وَفِيهِ أَيْضًا وَكُلُّ قَتِيلٍ يُوجَدُ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ وَلَا يُدْرَى مَنْ قَتَلَهُ أَوْ قَتَلَهُ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَكِنْ لَا يَدْرِي مَنْ هُوَ أَوْ زَحَمَهُ النَّاسُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَتَلُوهُ وَلَا يُدْرَى مَنْ هُوَ فَهُوَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ وَإِذَا وُجِدَ فِي الْمَسْجِدِ لِقَبِيلَةٍ فَهُوَ عَلَى أَقْرَبِ الدُّورِ مِنْهُ إنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ الَّذِي اشْتَرَاهُ وَبَنَاهُ وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ الَّذِي اشْتَرَى الْمَسْجِدَ وَبَنَاهُ كَانَ عَلَى عَاقِلَتِهِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ وَإِنْ كَانَ فِي دَرْبٍ غَيْرِ نَافِذٍ أَوْ مُصَلَّاهُ وَاحِدٌ كَانَ عَلَى عَاقِلَةِ أَصْحَابِ الدُّورِ الَّذِينَ فِي الدَّرْبِ وَفِيهِ أَيْضًا وَإِذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي قَبِيلَةٍ فِيهَا عِدَّةُ مَسَاجِدَ فَهُوَ عَلَى الْقَبِيلَةِ كُلِّهَا وَإِذَا لَمْ يَكُنْ قَبِيلَةٌ فَهُوَ عَلَى أَصْحَابِ الْمَحَلَّةِ وَأَهْلُ كُلِّ مَسْجِدٍ مَحَلَّةٌ وَفِي السِّغْنَاقِيِّ وَإِذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي وَقْفِ الْمَسْجِدِ فَهُوَ كَوُجُودِهِ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ كَانَتْ الدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى قَوْمٍ مَعْلُومِينَ فَالدِّيَةُ وَالْقَسَامَةُ عَلَيْهِمْ وَكَذَلِكَ الْمَحْسُوبُ لِلْعَامَّةِ وَفِي الْمُنْتَقَى إذَا وُجِدَ قَتِيلٌ عَلَى الْجِسْرِ أَوْ عَلَى الْقَنْطَرَةِ فَذَلِكَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ وَشَيْخُ الْإِسْلَامِ وَإِنَّ النَّهْرَ الْعَظِيمَ إذَا كَانَ انْصِبَابُ مَائِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّهُ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ مَوْضِعُ انْصِبَابِ مَائِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَتِيلَ أَهْلِ الْحَرْبِ فَيُهْدَرَ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلَوْ مُحْتَبِسًا بِالشَّاطِئِ فَعَلَى أَقْرَبِ الْقُرَى) أَيْ لَوْ كَانَ الْقَتِيلُ مُحْتَبِسًا بِالشَّاطِئِ فَعَلَى أَقْرَبِ الْقُرَى فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لِأَنَّ الشَّطَّ فِي أَيْدِيهِمْ يَسْتَقُونَ مِنْهُ وَيُورِدُونَ دَوَابَّهُمْ فَكَانُوا أَخَصَّ بِنُصْرَتِهِ وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ وَإِنْ كَانَ الشَّطُّ مِلْكًا لِأَحَدٍ فَإِنْ كَانَ مِلْكًا خَاصًّا فَهُوَ كَالدَّارِ وَإِنْ كَانَ مِلْكًا عَامًّا فَهُوَ كَالْمَحَلَّةِ

(8/452)


فَأَمَّا إذَا كَانَ نَهْرًا صَغِيرًا انْحَدَرَ مِنْ الْفُرَاتِ أَوْ نَحْوِهِ لِأَقْوَامٍ مَعْرُوفِينَ فَإِنَّهُ تَجِبُ الْقَسَامَةُ عَلَى أَصْحَابِ النَّهْرِ وَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِمْ وَفِي الْكَافِي وَالنَّهْرُ الصَّغِيرُ مَا يُسْتَحَقُّ بِالشَّرِكَةِ فِيهِ الشُّفْعَةُ وَإِلَّا فَهُوَ عَظِيمٌ كَالْفُرَاتِ وَجَيْحُونَ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ الْمُؤَلِّفُ لِمَا إذَا وُجِدَ فِي بَيْتِ مَنْ ثَبَتَتْ لَهُ بَعْضُ الْحُرِّيَّةِ وَفِي الْخَانِيَّةِ وَلَوْ وُجِدَ الْمُكَاتَبُ قَتِيلًا فِي دَارٍ اشْتَرَاهَا لَا يَجِبُ فِيهِ شَيْءٌ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا وَفِي الْمُكَاتَبِ سَوَّى أَبُو حَنِيفَةَ أَيْضًا بَيْنَ مَا إذَا وُجِدَ قَتِيلًا فِي دَارِهِ وَبَيْنَ مَا إذَا وُجِدَ غَيْرُهُ قَتِيلًا إلَّا أَنَّهُ إذَا وُجِدَ غَيْرُهُ قَتِيلًا لَا تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ لِأَنَّهُ لَا عَاقِلَةَ لِلْمُكَاتَبِ وَإِنَّمَا تَجِبُ عَلَيْهِ لِأَنَّ عَاقِلَتَهُ نَفْسَهُ وَلَوْ وُجِدَ جَمِيعُ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ فَلَا تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى عَوَاقِلِهِمْ وَتَسْقُطُ الْقَسَامَةُ وَذُكِرَ فِي الْمُنْتَقَى عَنْ ابْنِ أَبِي مَالِكٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَنْ وُجِدَ قَتِيلًا فِي دَارِ نَفْسِهِ فَلَيْسَ فِيهِ قَسَامَةٌ وَلَا دِيَةٌ وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ عَلَى سُكَّانِ الْقَبِيلَةِ وَعَلَى عَاقِلَةِ الْمَقْتُولِ دِيَةٌ قَالُوا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَرِوَايَةُ ابْنِ أَبِي مَالِكٍ تُخَالِفُ رِوَايَةَ الْأُصُولِ وَفِي الذَّخِيرَةِ وَفِي شَرْحِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ إذَا وُجِدَ قَتِيلٌ فِي مَحَلَّةٍ وَزَعَمَ أَهْلُ الْمَحَلَّةِ أَنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ قَتَلَهُ وَلَمْ يَدَّعِ وَلِيُّ الْقَتِيلِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُمْ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ وَرِوَايَةُ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ إذَا وُجِدَ الْعَبْدُ أَوْ الْمُكَاتَبُ أَوْ الْمُدَبَّرُ أَوْ أُمُّ الْوَلَدِ الَّذِي سَعَى فِي بَعْضِ قِيمَتِهِ قَتِيلًا فِي مَحَلَّةٍ فَعَلَيْهِمْ الْقَسَامَةُ وَتَجِبُ الْقِيمَةُ عَلَى عَوَاقِلِ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ فِي الْعَبْدِ وَالْمُكَاتَبِ وَالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ وَهَذَا يُجْعَلُ كَجِنَايَةٍ عَلَى الْبَهَائِمِ وَلِهَذَا قَالَ بِأَنَّهُ تَجِبُ قِيمَتُهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ إذَا كَانَ خَطَأً وَإِذَا كَانَ عَمْدًا يَجِبُ الْقِصَاصُ وَأَمَّا مُعْتَقُ الْبَعْضِ فَإِنَّهُ تَجِبُ فِيهِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالْحُرُّ إذَا وُجِدَ قَتِيلًا فِي مَحَلَّةٍ فَإِنَّهُ تَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ فِي الْحُكْمِ إذَا وُجِدَ قَتِيلًا فِي مَحَلَّةٍ عِنْدَهُ هَذَا وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ وَلَوْ وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي دَارِ الْمُكَاتَبِ فَإِنَّهُ تُكَرَّرُ عَلَيْهِ الْأَيْمَانُ فَإِنْ حَلَفَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدِّيَةِ إلَّا عَشَرَةً لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ عَاقِلَةُ نَفْسِهِ وَفِي التَّجْرِيدِ وَالْأَعْمَى وَالْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ وَالْكَافِرُ الْقَسَامَةُ عَلَيْهِمْ وَإِذَا وُجِدَ الْعَبْدُ قَتِيلًا فِي دَارِ مَوْلَاهُ فَلَا شَيْءَ فِيهِ لِأَنَّ الْمَوْلَى صَارَ قَاتِلًا لَهُ حُكْمًا بِمِلْكِ الدَّارِ فَيُعْتَبَرُ بِمَا لَوْ بَاشَرَ وَلَوْ بَاشَرَ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَوْلَى شَيْءٌ فَكَذَا هَذَا قَالُوا وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَأَمَّا إذَا كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ الْمَوْلَى الْأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ وَقَدْ نَصَّ مُحَمَّدٌ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ فِي كِتَابِ الْمَأْذُونِ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَإِنْ الْتَقَى قَوْمٌ بِالسُّيُوفِ فَأُجْلُوا عَنْ قَتِيلٍ فَعَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ الْوَلِيُّ عَلَى أُولَئِكَ أَوْ عَلَى مُعَيَّنٍ مِنْهُمْ) لِأَنَّ الْقَتِيلَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ وَالْحِفْظَ عَلَيْهِمْ فَتَكُونَ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَيْهِمْ إلَّا إذَا أَبْرَأَهُمْ الْوَلِيُّ بِدَعْوَى الْقَتِيلِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ فَيَبْرَأُ أَهْلُ الْمَحَلَّةِ.
وَلَا يَثْبُتُ عَلَى عَاقِلَتِهِ إلَّا بِحُجَّةٍ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَقَوْلُهُ عَلَى مُعَيَّنٍ مِنْهُمْ إنْ أُرِيدَ بِهِ الْوَاحِدُ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ لِيَسْتَقِيمَ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ أَهْلَ الْمَحَلَّةِ يَبْرَءُونَ بِدَعْوَى الْوَلِيِّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُعَيَّنٍ وَهُوَ الْقِيَاسُ وَعِنْدَهُمَا لَا يَبْرَءُونَ وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ وَبَيَّنَّاهُ فِي أَوَائِلِ الْبَابِ فَلَا يَسْتَقِيمُ وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ وَاحِدٌ مِنْ الَّذِينَ الْتَقَوْا بِالسُّيُوفِ وَيَسْتَقِيمُ بِالْإِجْمَاعِ وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ فِي كَشْفِ الْغَوَامِضِ هَذَا إذَا كَانَ الْفَرِيقَانِ غَيْرَ مُتَنَاوِلَيْنِ اقْتَتَلُوا عُصْبَةً وَإِنْ كَانَ مُشْرِكِينَ أَوْ خَوَارِجَ فَلَا شَيْءَ فِيهِ وَيُجْعَلُ ذَلِكَ مِنْ إصَابَةِ الْعَدُوِّ وَإِذَا كَانَ الْقِتَالُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَا يُدْرَى الْقَاتِلُ يُرَجَّحُ حَالُ قَتْلَى الْمُشْرِكِينَ حَمْلًا لِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الصَّلَاحِ فِي أَنَّهُمْ لَا يَتْرُكُونَ الْمُسْلِمِينَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْحَالِ وَيَقْتُلُونَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنْ قِيلَ الظَّاهِرُ أَنَّ قَاتِلَهُ مِنْ غَيْرِ الْمَحَلَّةِ وَإِنَّهُ مِنْ خُصَمَائِهِ قُلْنَا قَدْ تَعَذَّرَ الْوُقُوفُ عَلَى قَاتِلِهِ حَقِيقَةً فَيَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِالسَّبَبِ الظَّاهِرِ وَهُوَ وُجُودُهُ قَتِيلًا فِي مَحَلَّتِهِمْ كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ أَقُولُ: يُرَدُّ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ مَا بِالْحُكْمِ تَجْعَلُونَ هَذَا الظَّاهِرَ وَهُوَ وُجُودُهُ قَتِيلًا فِي مَحَلَّتِهِمْ مُوجِبًا لِاسْتِحْقَاقِ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ وَلَا يَجْعَلُونَ ذَلِكَ الظَّاهِرَ وَهُوَ كَوْنُ قَاتِلِهِ خُصَمَاؤُهُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ دَفْعًا لِلْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ عَنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ الشَّائِعَ أَنْ يَكُونَ الظَّاهِرُ حُجَّةٌ لِلدَّفْعِ دُونَ الِاسْتِحْقَاقِ فَالْأَظْهَرُ فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ الظَّاهِرُ لَا يَكُونُ حُجَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ فَبَقِيَ حَالُ الْقَتْلِ مُشْكِلًا فَأَوْجَبْنَا الْقَسَامَةَ وَالدِّيَةَ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ لِوُرُودِ النَّصِّ بِإِضَافَةِ الْقَتِيلِ إلَيْهِمْ عِنْدَ الْإِشْكَالِ فَكَانَ الْعَمَلُ بِمَا وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ أَوْلَى وَسَيَأْتِي مِثْلُ هَذَا عَنْ قَرِيبٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الْهِدَايَةِ وَإِنْ كَانَ الْقَوْمُ لَقَوْا قِتَالًا

(8/453)


وَوُجِدَ قَتِيلٌ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ فَلَا قَسَامَةَ وَلَا دِيَةَ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ قَتْلَهُ كَانَ هَدَرًا يُحْوِجُ إلَى ذِكْرِ الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا اقْتَتَلَ الْمُسْلِمُونَ عَصَبِيَّةً فِي مَحَلَّةٍ فَأُجْلُوا عَنْ قَتِيلٍ فَإِنَّ عَلَيْهِمْ الْقَسَامَةَ وَالدِّيَةَ كَمَا مَرَّ آنِفًا.
وَقَالُوا فِي الْفَرْقِ إنَّ الْقِتَالَ إذَا كَانَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ فِي مَكَان فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَا يَدْرِي أَنَّ الْقَاتِلَ مِنْ أَيِّهِمَا يُرَجَّحُ جَانِبُ احْتِمَالِ قَتْلِ الْمُشْرِكِينَ حَمْلًا لِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الصَّلَاحِ فِي أَنَّهُمْ لَا يَتْرُكُونَ الْكُفَّارَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْحَالِ يَقْتُلُونَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمَّا فِي الْمُسْلِمِينَ مِنْ الطَّرَفَيْنِ فَلَيْسَ ثَمَّةَ جِهَةُ الْحَمْلِ عَلَى الصَّلَاحِ حَيْثُ كَانَ الْفَرِيقَانِ مُسْلِمَيْنِ فَبَقِيَ حَالُ الْقَتْلِ مُشْكِلًا فَأَوْجَبْنَا الْقَسَامَةَ وَالدِّيَةَ عَلَى أَهْلِ ذَلِكَ الْمَكَانِ لِوُرُودِ النَّصِّ بِإِضَافَةِ الْقَتْلِ إلَيْهِمْ عِنْدَ الْإِشْكَالِ وَكَانَ الْعَمَلُ بِمَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ أَوْلَى عِنْدَ الِاحْتِمَالِ مِنْ الْعَمَلِ بِاَلَّذِي لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ. اهـ.
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ طَعَنَّا فِي الْمَصِيرِ إلَى الْفَرْقِ الْمَذْكُورِ أَنَّهُ ظَاهِرٌ فَإِنَّ الظَّاهِرَ هُنَا حُجَّةٌ لِلدَّفْعِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ فَيَصْلُحُ حُجَّةً وَثَمَّةَ لَوْ كَانَ حُجَّةً لَكَانَ حُجَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ فَيَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ لِلنَّصِّ. اهـ.
أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا الْفَرْقُ بِتَمَامٍ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ ظَاهِرًا إذْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الظَّاهِرَ ثَمَّةَ لَوْ كَانَ حُجَّةً لَكَانَ حُجَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً لِدَفْعِ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ وَلَا يَكُونُ حُجَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ اقْتَتَلُوا عَصَبِيَّةً فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ هَدَرًا فَلَا بُدَّ مِنْ تَمَامِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ مِنْ الْمَصِيرِ إلَى مَا ذَكَرَهُ الْمَشَايِخُ مِنْ الْبَيَانِ وَنَقَلَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ كَمَا تَحَقَّقْتُهُ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَإِنْ قَالَ الْمُسْتَحْلِفُ قَتَلَهُ زَيْدٌ حَلَفَ بِاَللَّهِ مَا قَتَلْته وَلَا عَرَفْت لَهُ قَاتِلًا غَيْرَ زَيْدٍ) لِأَنَّهُ لَمَّا أَقَرَّ بِالْقَتْلِ عَلَى وَاحِدٍ صَارَ مُسْتَثْنِيًا عَنْ الْيَمِينِ وَبَقِيَ حُكْمُ مَنْ سِوَاهُ عَلَى حَالِهِ فَيَحْلِفُ عَلَيْهِ فَلَا يُقْبَلُ عَلَيْهِ قَوْلُ الْمُسْتَحْلِفِ إنَّهُ قَتَلَهُ لِأَنَّهُ يُرِيدُ بِذَلِكَ إسْقَاطَ الْخُصُومَةِ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا يُقْبَلُ وَيَحْلِفُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَفِي النِّهَايَةِ هَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فَلَا يَحْلِفُ عَلَى الْعِلْمِ لِأَنَّهُ قَدْ عَرَفَ الْقَاتِلَ وَاعْتَرَفَ بِهِ فَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ بِجَوَازِ أَنَّهُ عَرَفَ أَنَّ لَهُ قَاتِلًا آخَرَ مَعَهُ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَبَطَلَ) (شَهَادَةُ بَعْضِ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ عَلَى قَتْلِ غَيْرِهِمْ أَوْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ إذَا شَهِدُوا عَلَى غَيْرِهِمْ لِأَنَّ الْوَلِيَّ لَمَّا ادَّعَى الْقَتْلَ عَلَى غَيْرِهِمْ تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِخُصَمَاءَ غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُمْ كَانُوا عَرْضِيَّةَ أَنَّهُمْ يَصِيرُونَ خَصْمًا بِمَنْزِلَتِهِمْ قَابِلِينَ لِلتَّقْصِيرِ الصَّادِرِ مِنْهُمْ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ وَإِنْ خَرَجُوا مِنْ الْخُصُومَةِ فَحَاصِلُهُ أَنَّ مَنْ صَارَ خَصْمًا فِي حَادِثَةٍ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِيهَا وَمَنْ كَانَ بِعَرْضِيَّةِ أَنْ يَصِيرَ خَصْمًا وَلَمْ يَنْتَصِبْ خَصْمًا بَعْدُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَهَذَانِ أَصْلَانِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا غَيْرَ أَنَّهُمَا يَجْعَلَانِ أَهْلَ الْمَحَلَّةِ مِمَّنْ لَهُ عَرْضِيَّةُ أَنْ يَصِيرَ خَصْمًا وَهُوَ يَجْعَلُهُمْ مِمَّنْ انْتَصَبَ خَصْمًا وَعَلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ يَتَخَرَّجُ كَثِيرٌ مِنْ الْمَسَائِلِ فَمِنْ جِنْسِ الْأَوَّلِ الْوَكِيلُ بِالْخُصُومَةِ إذَا خَاصَمَ عِنْدَ الْحَاكِمِ ثُمَّ عُزِلَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَالشَّفِيعُ إذَا طَلَبَ الشُّفْعَةَ ثُمَّ تَرَكَهَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ بِالْبَيْعِ.
وَمِنْ جِنْسِ الثَّانِي الْوَكِيلُ إذَا لَمْ يُخَاصِمْ وَالشَّفِيعُ إذَا لَمْ يَطْلُبْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا وَلَوْ ادَّعَى الْوَلِيُّ عَلَى رَجُلٍ بِعَيْنِهِ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ وَشَهِدَ شَاهِدَانِ مِنْ أَهْلِهَا عَلَيْهِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا عَلَيْهِ لِأَنَّ الْخُصُومَةَ قَائِمَةٌ مَعَ الْكُلِّ وَالشَّاهِدُ يَقْطَعُهَا عَنْ نَفْسِهِ فَكَانَ مِنْهُمَا فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا قَالَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا الْمَرْأَةُ تَدْخُلُ مَعَ الْعَاقِلَةِ فِي التَّحَمُّلِ لِأَنَّا نَرَاهَا قَاتِلَةً فَيَجِبُ عَلَيْهَا وَهُوَ مُخْتَارُ الطَّحَاوِيِّ وَهُوَ الْأَصَحُّ فَصَارَ كَمَا إذَا بَاشَرَتْ الْقَتْلَ بِنَفْسِهَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.