البناية شرح الهداية

فصل نواقض الوضوء المعاني الناقضة للوضوء كل ما خرج من السبيلين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في نواقض الوضوء] [ما خرج من السبيلين من نواقض الوضوء]
م: (فصل في نواقض الوضوء)
ش: لما فرغ من بيان فرائض الوضوء وسننه وآدابه، شرع في بيان نواقضه، وهو جمع ناقضة لا ناقض؛ لأنه لا يجمع على فواعل إلا المؤنث وشذ " فوارس " " وهوالك " " ونواكس " جمع " فارس " و " هالك " و " ناكس " على تأويل فرقة.
والنقض في اللغة إبطال التأليف في البناء وغيره، ثم استعير لنقض العهد وللوضوء بجامع بطلان ما شرع لأجله، وهو استباحة الصلاة، أو نقول: النقض متى أضيف إلى الأجسام يراد به إبطال تأليفها، ومتى أضيف إلى المعاني يراد به إخراجه عما هو المطلوب، والمطلوب هاهنا من الوضوء استباحة الصلاة.
والفصل في اللغة القطع، وفي الاصطلاح طائفة من المسائل الفقهية تغيرت أحكامها بالنسبة إلى ما قبلها غير مترجمة " بالكتاب " و " الباب ".
فإن قلت: كيف إعراب هذا. قلت: الفصل منها: فصل لا ينون، ومنها فصل ينون؛ لأن الإعراب لا يكون إلا بعد العقد والتركيب، والتقدير، هذا فصل في بيان نواقض الوضوء.
م: (المعاني الناقضة للوضوء كل ما خرج من السبيلين) ش: أي العلل المؤثرة في إخراج الوضوء عما هو المطلوب به، " كل ما خرج " أي خروج كل ما خرج من السبيلين وهما: القبل والدبر، وإنما قدر بالمضاف تصحيحا للحمل يعني لحمل الخبر على المبتدأ ولأن المبتدأ هو قوله: " المعاني " وقوله " كل ما خرج " خبره.
وحمل الذات على المعنى غير صحيح، وهي قضية حملية التي تسميها النحاة جملة إسمية، ولا بد في القضية الحملية من الضمير، وهاهنا تقديره: المعاني التي تنقض الوضوء، وهي: كل ما خرج، وإنما اختار لفظ المعاني على لفظ العلل اقتداء بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قوله: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى معان ثلاث» واحترازا أيضا من عبارة الفلاسفة فإن المتقدمين كرهوا استعمال ألفاظهم إلى أن نشأ الطحاوي فاستعملها فتبعه من بعده، والمراد من السبيلين سبيل الحي، حتى إذا خرج من الميت بعد الغسل لا يعاد الغسل.
فإن قلت: هذه الكلية منتقضة بالريح الخارج من الذكر وقبل المرأة فإن الوضوء لا ينتقض به في أصح الروايتين.

(1/256)


لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء: 43] الآية، «وقيل لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وما الحدث؟ قال: ما يخرج من السبيلين» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: الذي يخرج منها اختلاج وليس بريح، وأيضا الفرج محل الوطء لا النجاسة فلا يجاوز الريح النجاسة والريح طاهر في نفسه، وهو اختيار المصنف لكن قوله: "كل ما" عامة تتناول المعتاد وغيره. وعن محمد: يجب الوضوء منهما بعموم النص، ولأنه يتعقب عن محل النجاسة ظاهرا ولهذا لو وصل إليه شيء ثم عاد نحو الحقنة ففيه الوضوء لا ينفك عن نجاسة كذا في " جامع قاضي خان "، و" التمرتاشي ".
قلت: الحاصل أنه أجمع العلماء على أن الخارج المعتاد من أحد السبيلين كالغائط والريح من الدبر، والبول، والمذي من القبل ناقض للوضوء، واختلفوا في غير المعتاد كالدود والحصاة يخرج من الدبر فعندنا ينقض وهو قول عطاء، والحسن البصري، وحماد بن أبي سليمان، والحاكم، وسفيان الثوري، والأوزاعي، وابن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وقال مالك وقتادة: لا ينقض، وكذا قال مالك في الدم يخرج من الدبر والمذي لا بشهوة غير ناقض، وكذلك سلس البول ودم الاستحاضة، فإنه شرط أن يكون الخارج معتادا م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء: 43] (النساء: الآية 43)) ش: الغائط هو المكان المطمئن من الأرض ينتهي إليه الإنسان عند قضاء الحاجة تستر عن أعين الناس.
ووجه الاستدلال به أن الله تعالى رتب وجوب التيمم على المجيء من الغائط حال عدم الماء وهو لازم بخروج النجس، فكان كناية عن الحدث، لكونه ذكر اللازم وإرادة الملزوم والترتيب يدل على العلية وإذا ثبت ذلك في التيمم يثبت في الوضوء لأن البدل لا يخالف الأصل في السبب.
فإن قلت: الحدث شرط الوضوء، فكيف يكون علة نقضه.
قلت: لأنه علة لنقض ما كان، وشرط لوجوب ما سيكون، ولا تنافي بينهما. م: «وقيل لرسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: وما الحدث؟ قال: ما يخرج من السبيلين» ش: استدل أولا بالآية على مدعاه ثم بالحديث ولكن هذا الحديث بهذه العبارة لا يعرف له أصل، ولكن روى مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ينقض الوضوء إلا ما خرج من قبل أو دبر» ، أخرجه الدارقطني في " غرائب مالك "، وقال: في إسناده أحمد بن اللجلاج

(1/257)


وكلمة "ما" عامة فتتناول المعتاد وغيره
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وهو ضعيف.
فإن قلت: هذا حجة عليكم لأنه يدل على أن الخارج من غير السبيلين ليس بحدث.
قلت: مقصوده أن يأتي بدليل من الحديث على أن الخارج من السبيلين حدث وهو يدل على ذلك قطعا، وأما دلالته على ما ذكرنا، فلنا أحاديث سنذكرها، وحديث مالك وهذا حجة عليه لأنه شرط المعتاد، وكلمة "ما" فيه عامة تتناول المعتاد وغيره، وقال عبد الحق في " الأحكام الكبرى ": أخرج أحمد من حديث داود بن [......] قال: حدثنا شعبة عن قتادة، قال: «سئل أنس مما كان يتوضأ رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: فقال: من الحدث، وأذى المسلم، قيل: وأنتم، قال: ونحن» ثم قال: وهذا لا يرويه عن شعبة غير داود وهو منكر المتن، وقال البخاري: وهو منكر الحديث، ثم قال عبد الحق: وهو ثقة في دينه.
م: (وكلمة "ما" عامة فتتناول المعتاد وغيره) ش: أي كلمة "ما" التي في قوله: "ما يخرج من السبيلين"، وأشار به إلى نفي قول مالك فإنه يقول: لا وضوء بما يخرج نادرا كالحصاة، والدود، ودم الاستحاضة مستدلا بأن الله تعالى كنى بالغائط على الوجه الذي ذكرنا وهو قضاء الحاجة المعتادة فلا يكون غيرهما ناقضا. قلنا: تقييد بلا دليل في مقابلة ما يدل على خلافه وهو عموم كلمة ما، وفي " التوشيح " استدل من قال: بأن غير المعتاد لا ينتقض بقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا وضوء إلا من صوت أو ريح» ، رواه الترمذي وغيره بأسانيد صحيحة من رواية أبي هريرة. وبحديث صفوان بن عباد المراري قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرنا إذا سافرنا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، وفي رواية: إلا من جنابة أو من غائط وبول ونوم» وللجمهور حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في المذي: "يغسل ذكره، ويتوضأ" وفي رواية: "يتوضأ وضوء الصلاة» رواه البخاري ومسلم. وعن ابن مسعود، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قالا. في الودي الوضوء، رواه البيهقي، والمذي والودي غير معتادين، وقد وجب فيهما الوضوء ولأنه خارج من السبيل فينقض كالريح والغائط ولأنه إذا وجب الوضوء بالمعتادة، والذي تعم به البلوى بغيره أولى.
والجواب عن حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنا أجمعنا على أنه ليس المراد حصر نواقض الوضوء في الريح، فإن زوال العقل والنوم من النواقض ولم يذكر فيه بل المراد نفي وجوب الوضوء بالشك في خروج الريح حتى يدل عليه ما يرفع الشك من ريح أو صوت بدليل ما

(1/258)


والدم والقيح إذا خرجا من البدن فتجاوزا إلى موضع يلحقه حكم التطهير
والقيء ملء الفم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
رواه مسلم من رواية أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا وجد واحدكم من بطنه شيئا فأشكل عليه أخرج منه شيء أم لا فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا» .
وثبت عن عبد الله بن زيد بن عاصم «قال: شكي إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال: "لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا» رواه البخاري، ومسلم، والجواب عن حديث صفوان، وهو أنه بين فيه جواز المسح ونقض ما يمسح بسببه ولم يقصد بيان جميع النواقض أو بين فيه جواز المسح من الحدث الأصغر دون الأكبر. .

[خروج الدم والقيح من نواقض الوضوء]
م: (والدم والقيح إذا خرجا من البدن فتجاوزا إلى موضع يلحقه حكم التطهير) ش: هذا معطوف على قوله: "كل ما خرج من السبيلين من المعاني التي تنقض الوضوء " الدم والقيح إن أخرجا من البدن وههنا قيود.
الأول: الخروج لأن نفس النجاسة غير ناقضة ما لم يوصف بالخروج وإلا لما حصلت الطهارة لشخص ما.
والثاني: من البدن وأراد به الحي لأنه إذا خرجت من بدن الميت بعد غسله لا يوجب إعادة غسله بل توجب غسل ذلك الموضع على ما سيأتي.
والثالث: التجاوز إلى موضع يلحقه حكم التطهير وهو احتراز عما يبدو ولم يتجاوز فإنه لا يسمى خارجا، ولكن يسمى باديا وفيه رد لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنه ظن أن البادي خارج فأوجب فيه الوضوء.
والشرط الرابع: أن يلحق ذلك موضع التطهير في الجملة كما في الجنابة حتى لو سال الدم من الرأس إلى قصبة الأنف ينتقض الوضوء بخلاف البول إذا نزل إلى قصبة الذكر ولم تظهر لأن النجاسة هناك لم تصل إلى موضع يلحقه حكم التطهير، وفي الأنف وصلت إلى ذلك إذ الاستنشاق فرض في الجنابة، والفاء في قوله: فتجاوز تفسيرية لأنها تفسر الخروج والإضافة في قوله: "حكم التطهير" من إضافة العام إلى الخاص كقولهم: علم الطب، أي حكمه هو تطهير في الجملة كما ذكرنا.

[القيء والدم من نواقض الوضوء]
م: (والقيء ملء الفم) ش: بالرفع عطفا على قوله: "الدم، والقيح" وسيجيء الكلام في حكم القيء مفصلا إن شاء الله تعالى، واعلم أن الخارج النجس من غير السبيلين ينقض الوضوء عند علمائنا وهو قول العشرة المبشرة بالجنة، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر، وزيد بن ثابت، وأبي موسى الأشعري، وأبي الدرداء وثوبان، وصدور التابعين، وقال ابن عبد البر روي ذلك عن علي وابن مسعود، وعلقمة والأسود وعامر الشعبي وعروة بن الزبير وإبراهيم

(1/259)


وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - الخارج من غير السبيلين لا ينقض الوضوء لما روي «أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قاء فلم يتوضأ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
النخعي، وقتادة، والحكم بن قتيبة وحماد، والثوري والحسن بن حي، والأوزاعي، وإسحاق بن راهويه، وقال الخطابي: وهو قول أكثر الفقهاء.
م: (وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الخارج من غير السبيلين لا ينقض الوضوء) ش: وبه قال مالك وهو قول ابن عمر، وابن عباس، وعبد الله بن أبي أوفى وجابر، وأبي هريرة، وعائشة، وسعيد بن المسيب في رواية، وسالم بن عبد الله، والقاسم بن محمد، وطاووس وعطاء في رواية ومكحول وربيعة، وأبي ثور، وداود م: (لما روي أن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قاء فلم يتوضأ) ش: هذا الحديث غريب لا ذكر له في كتب الحديث واستدل الشافعي ومن تبعه فيما ذهب إليه بأحاديث منها:
ما روي عن «النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قاء فغسل فمه فقيل له: ألا تتوضأ وضوءك للصلاة؟ فقال: "هكذا الوضوء من القيء» ، وروي أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، قال: «لا وضوء إلا من حدث، قيل: وما الحدث، قال: الخارج من السبيلين» .
وروى أبو هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا وضوء إلا من صوت أو ريح» رواه الترمذي.
وروى ثوبان «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احتجم ولم يتوضأ ولم يزد على غسل محاجمه» رواه الدارقطني، وفي رواية «سكت، فقال: "لو كان لوجدته في كتاب الله» .
وعن جابر أن «النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خرج من غزاة ذات الرقاع فقال من يكلؤنا في الليلة فقال رجل من الأنصار ورجل من المهاجرين نحن نعم الشعب فقام الأنصاري واضطجع المهاجري فجاء رجل من المشركين فرماه بسهم فنزعه» ورماه بآخر حتى رماه ثلاثة أسهم فلما خاف على نفسه أيقظ صاحبه، فلما رأى الدم يسيل منه قال: هلا أيقظتني في أول، فقال: كنت أتلو سورة فلم أحب ان أقطعها حتى أنفذها فلما تابع على الرمي ركعت فآذنتك، وأيم الله لولا أني أخاف ان أضيع أمرا أمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بحفظه لما أيقظتك فبلغ ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فدعا

(1/260)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لهما. رواه أبو داود ولم يأمره بالوضوء ولا إعادة الصلاة.
وأخرج هذا أيضا ابن حبان في "صحيحه " والبخاري أيضا معلقا، ورواه الدارقطني والبيهقي في "سننيهما "، إلا أن البيهقي رواه بإيضاح في كتاب " دلائل النبوة "، وقال فيه: «فنام عمار بن ياسر وقام عباد بن بشر يصلي، وقال: كنت أصلي بسورة وهي الكهف، فلم أحب أن أقطعها» .
الجواب عن الحديث الأول أنه غريب فلا يعارض المشهور، والحديث الثاني: لا يعرف له أصلا، والثالث: متروك الظاهر لأن الوضوء يجب من غير الصوت والريح بالاتفاق، والرابع: فيه عتبة بن السكن، قال الدارقطني: هو متروك، والخامس: يحتمل أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لم يعلم بحاله على الفور ثم علم فأمره بالإعادة بغير علم الراوي، ولو وقع التعارض لطلبنا الترجيح وذلك من وجهين:
أحدهما: إجماع الصحابة على مثل مذهبنا ولو كانت الأخبار غير ثابتة لما أجمعوا، والثاني: أن أخبارنا مثبتة وأخباره منفية والمثبت يقدم كذا قاله صاحب " أرباب الإنصاف " من أصحابنا ولا يخلو عن نظر.
وقال صاحب " كتاب اللباب " وقيل هذا لا يصح الاستدلال به فإن الدم حين خرج أصاب بدنه وثوبه فينبغي أن يخرج من الصلاة ولم يخرج فلما لم يدل مضيه في الصلاة على جواز الصلاة مع النجاسة كذلك لا يدل مضيه فيها على أن خروج الدم لا ينقض الوضوء فإن قيل: أصاب الدم شيئا من بدنه، أو ثيابه شك فيه أو شك أنه يصير عمل في الصلاة أو كثير لا يحتمل فيها، وأما خروجه فإنه ينجس به لأنه خارج من بدنه، قيل له، قيل له: هذه مكابرة كيف يحصل له الشك، وقد قال جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فلما رأى المهاجري ما بالأنصاري من الدماء، والمهاجري قد رآه بالليل ويقال: ما رأى الدماء ببدنه وثيابه لأنه قال: ما بالأنصاري من الدماء، ولم يقل ما بالأرض والدم السائل في الليل لا يكون يسيرا فكيف قد جمع الدم في رواية حيث قال: فلما رأى المهاجري ما بالأنصاري من الدماء، قال: سبحان الله وذلك لأنه وقد أصابه بثلاثة أسهم والظاهر أنها في ثلاثة مواضع، ثم إن هذا نقل واحد من الصحابة ولعل هذا كان مذهبا له وكان غيره عالما بحكمه، وقال الخطابي أكثر الفقهاء على انتقاض الوضوء بسيلان الدم وهذا أقوى إلى الاتباع.

(1/261)


ولأن غسل غير موضع الإصابة أمر تعبدي فيقتصر على مورد الشرع وهو المخرج المعتاد، ولنا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الوضوء من كل من كل دم سائل»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولأن غسل غير موضع الإصابة أمر تعبدي فيقتصر على مورد الشرع وهو المخرج المعتاد) ش: هذا دليل الشافعي من جهة العقل، قوله: "تعبدي" أي أمر تعبدنا به حين كلفنا الله به من غير معنى يعقل إذ العقل إنما يقتضي وجوب غسل موضع إصابة النجاسة فيقتصر على مورد الشرع وهو المخرج المعتاد، ويجوز أن يكون معناه أمر تعبدي أن القياس يقتضي وجوب غسل كل الأعضاء كما في المني بل بطريق الأولى لأن الغائط أنجس من المني للاختلاف في نجاسته دون الغائط فالاقتصار على الأعضاء الأربعة أمر تعبدي.
م: (ولنا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الوضوء من كل دم سائل» ش: هذا أخرجه الدارقطني في "سننه " من حديث عمر بن عبد العزيز عن تميم الداري، وقال الدارقطني: عمرو بن عبد العزيز لم يسمع من تميم، ورآه وفي مسنده يزيد بن خالد عن يزيد بن محمد وكلاهما مجهولان.
قلت: الحديث هذا مرسل والمراسيل عندنا حجة لما عرف في أصولنا، ويعزى هذا لزيد بن ثابت نحوه أخرجه ابن عدي في " الكامل " في ترجمة أحمد بن فرج عن بقية حدثنا عن شعبة عن محمد بن سليمان عن عاصم عن عمر بن الخطاب عن عبد الرحمن بن أبان بن عثمان بن عفان عن زيد بن ثابت، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الوضوء من كل دم سائل» ، قال ابن عدي: هذا الحديث لا نعرفه إلا من حديث أحمد لهذا، وهو عمن لا يحتج بحديثه ولكنه يكتب فإن الناس مع ضعفه قد احتملوا حديثه.
وقال ابن أبي حاتم: في كتاب " العلل " كتبنا عنه، ومحمله عندنا الصدق، وجه الاستدلال به أن مثل هذا التركيب يفهم منه الوجوه كما في قوله: «في خمس من الإبل شاة» ولا خلاف في الفرضية، فكان معناه توضأ من كل دم سائل من البدن، وإنما عبر بلفظ الخبر لكونه آكد في الدلالة على الوجوب كأنه أمر فامتثل أمره فأخبر عن ذلك، وهو آية كونه واجبا فإن الأمر إذا كان ممن لا يكذب في كلامه يعبر عن مطلوبه بلفظ الخبر تأكيدا للطلب، كذا قاله الأكمل وأخذه من

(1/262)


وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من قاء أو رعف في صلاته فلينصرف وليتوضأ وليبن على صلاته ما لم يتكلم»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حاصل كلام السغناقي فإنه قال: فإن قلت: هذا مبتدأ وخبره ما اقتضاه الجار والمجرور وهو مستحب، أو سنة، أو واجب فما الوجه في تعيين الواجب؟
قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن هذا إخبار آكد في الدلالة على الوجوب. الوجه الثاني: أنه وصف الدم بالسيلان والدم السائل نجس مطلقا كالغائط فكان ملحقا به بدلالة بالنص.
فإن قلت: لم لا يجوز أن يكون المراد به الوضوء اللغوي لأنه قد ورد ذلك في لسان الشرع الوضوء قبل الطعام ينفي الفقر وبعده ينفي اللمم. قلت: أجاب السغناقي بأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أخرج ذلك على طريق المشاكلة لجواب سائل في قوله: "ألا تتوضأ وضوءك للصلاة" وأجاب الأكمل بأن ذلك مجاز شرعي ولا تترك الحقيقة الشرعية في كلام الشارع بلا دليل.
وقال تاج الشريعة: الوضوء من كل دم سائل واجب لأنه محل صالح لإتمام الكمال، فيصار إليه وغيره من الأحكام غير ثابت بعضها نحو الحرمة والكراهة، وبعضها ثابت بدون سيلان الدم وهو الندب والإباحة، لأن كلمة "من" للجزئية والبعضية أو لبيان أن أحدهما يتفرع من الآخر وبعضه كما يقال الثمرة من النخلة، وهذه الحقيقة غير مرادة ههنا لاستحالة أن يكون الوضوء متفرعا من الدم السائل أو بعضه فيحمل على السببية لأنها من لوازم الحقيقة، إذ المتفرع لا بد له أن يكون سببا فيصير تقدير الحديث، والله أعلم بالصواب، يجب بسبب كل دم سائل، وقد وجد الدم السائل فيجب الوضوء وهذا أدق وأوجه من الوجهين اللذين ذكرهما السغناقي فلذلك قال صاحب " الدراية " فيهما تأمل.

م: (وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من قاء أو رعف في صلاته فلينصرف وليتوضأ وليبن على صلاته ما لم يتكلم» ش: قال الأكمل: رواه ابن أبي مليكة عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكره

(1/263)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الرازي في " شرح الطحاوي "، ولذا قال الأترازي: وهذا عجز منهما، بل رواه ابن ماجه في "سننه " من حديث إسماعيل بن عياش عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن عائشة ولفظه قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أصابه قيء أو رعاف أو قلس فلينصرف ثم يبن على صلاته وهو في ذلك» .
ورواه الدارقطني في "سننه " ولفظه: «إذا قاء أحدكم في صلاته أو قلس فلينصرف ثم يبن على ما مضى من صلاته ما لم يتكلم» . وروى الدارقطني أيضا من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قاء أحدكم أو رعف وهو في الصلاة أو أحدث فلينصرف فليتوضأ ثم ليجيء فليبن على ما مضى» .
فإن قلت: قد طعنوا في الحديثين: أما حديث عائشة، فقال الدارقطني: أصحاب ابن جريج يروونه عن ابن جريج عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرسلا، وقال ابن عدي: رواه ابن عياش مرة هكذا، ومرة عن ابن جريج عن أبيه عن عائشة وكلاهما غير محفوظ. وأخرجه البيهقي من حديث البزار عن ابن جريج عن أبيه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإن صحت فتحمل على سبيل غسل الدم لا على الوضوء. وأما حديث أبي سعيد فهو معلول بأبي بكر الداهري الذي في سنده قال ابن الجوزي عن أحمد: إنه ليس بشيء، وقال ابن حبان: يضع الحديث.
والجواب عن الأول: أن إسماعيل بن عياش وثقه ابن معين وغيره، وقال يعقوب بن سفيان ثقة عدل، وقال يزيد بن هارون: ما رأيت أحفظ منه، وما يضر الحديث إذا رواه الثقة بإسنادين مرسل ومسند في حالة واحدة، ومن رواه بالإسنادين جميعا الربيع بن نافع وداود بن رشيد وهذه المقالة تفيد الخطأ على ابن عياش فإنه لو رفع ما وقفه الناس ربما يتطرق الوهم إليه، فأما إذا وافق الناس على المرسل وزاد عليهم بالمسند فهو مشعر بتحفظ وتثبت الزيادة عن الثقة بقوله، ولئن سلمنا أنه مرسل مطلقا فنحن نحتج به.
وأما حمل الشافعي الوضوء على غسل بعض الأعضاء يدفعه ما جاء في الحديث المذكور أو المذي، فإن المذي يوجب الوضوء الشرعي ولا يكفي فيه غسل بعض الأعضاء بالإجماع، وقد يقال في دفعه أنه لو حمل هذا الوضوء في هذا الحديث على غسل الدم فقط لبطلت الصلاة التي

(1/264)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
هو فيها بالانصراف ثم بالغسل ولما جاز له أن يبني على صلاته بل يستقبلها.
وأما الجواب عن الثاني: فنقول إنه اعتمد بحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ولئن رددناه بالكلية فحديث عائشة كاف سواء كان مسندا أو مرسلا، ثم وجه الاستدلال بالحديث المذكور من وجوه:
الأول: أنه أمر بالبناء وأدنى درجات الأمر الإباحة، والجواز، ولا جواز للبناء إلا بعد الانتقاض فدل بعبارته على البناء وعلى الانتقاض بمقتضاه. والثاني: أنه أمر بالوضوء ومطلق الأمر للوجوب. والثالث: أنه أباح الانصراف وهو لا يباح بعد الشروع إلا به، فإن قلت: جاز أن يكون الأمر بالانصراف واقعا لغسل النجاسة الحقيقية كرعاف أصاب بدنه وثوبه لا للحدث، قلت: أخرج عليه بطريق المشاكلة لجواب السائل في قوله: ألا تتوضأ وضوءك للصلاة مع أن غسل النجاسة الحقيقية مبطل للصلاة، ومانع للبناء بها بالاتفاق ألا ترى أن فيه [مني] أو مذي، وعن المذي يجب الوضوء الشرعي فكذا بالقيء أو الرعاف كذا في " الأسرار ".
فإن قلت: البناء المعطوف على الانصراف غير واجب، فكذا الانصراف والتوضئ لتتناسب أحكام المعطوفات. قلت: هذا من الاستدلال بالأدلة الفاسدة فإن القران في النظم لا يوجب القران في الحكم، وقد يعطف الأمر المقتضي للوجوب على الأمر المقتضي للإباحة كما في قَوْله تَعَالَى: {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ} [سبأ: 15] (سبأ: الآية 15) فالأكل مباح والشكر واجب في قَوْله تَعَالَى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] (الأنعام: الآية 141) . فالثاني للوجوب لا الأول ولما أمر بالانصراف ظن ظان أن ذلك مفسد للصلاة فأمر بالبناء لنفي هذا الظن.
وقوله: رعف بضم العين، وقال السعدي: فتح العين هو الصحيح، يقال: رعف إذا سال رعافه، أو قلس بالتحريك، وقيل: بالسكون وهو ما يخرج من الجوف ملء الفم أو دونه، وليس بقيء فإن عاد فهو قيء، واعلم أن لنا أحاديث أخر في هذا الباب: حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: يا رسول الله إني أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة، قال: "لا إنما ذلك عرق، وليست بالحيضة فإذا أقبلت فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وتوضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت» فأخرجه أحمد وابن ماجه، «وتوضئي عند كل صلاة، وإن قطر الدم على الحصير» وهذا فيه دليل على وجوب الوضوء من الدم، ونبه على العلة بقوله: "عرق".

(1/265)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: قالوا: قوله: «وتوضئي لكل صلاة» من قول عروة. قلت: قد صححه الترمذي، ولا يمكن أن يقال هذا من قبيل نفسه، لأنه عطف الأمر بالتوضؤ على الأوامر المتقدمة من قوله: «فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم، وتوضئي لكل صلاة» فلما قال: " توضئي شيئا " كل ما قبله من أمره - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ولأن من أثبت الإسناد كان أولى.
فإن قلت: «فاغسلي عنك الدم» ، ثم صلي مشكل في ظاهره لأنه لم يذكر الغسل إلا بعد انقضاء الحيض من الغسل.
قلت: هذا مذكور في رواية أخرى صحيحة. قال فيها: «فاغتسلي» قوله " أستحاض " على بناء المفعول، قوله: «أفأدع الصلاة» سؤال قوله: " عرق " أي دم عرق، قوله: «وإذا أدبرت» المراد من الإدبار انقطاع الحيض وعلامة إدبار الحيض انقطاعه وحصوله في الطهر عندنا بالزمان والعادة وهو الفصل بينهما فإذا أظلت عادتها تحرت وإن لم يكن لها ظن أخذت بالأقل وهو اليقين، وعند الشافعي وأصحابه اختلاف الألوان هو الفصل فالأسود أقوى من الأحمر، والأحمر أقوى من الأشقر، والأشقر أقوى من الأصفر، والأصفر أقوى من الأكدر، إذا جعلا حيضا فتكون حائضا في أيام القوة مستحاضة في أيام الضعف.
وحديث سعد بن أبي طلحة عن أبي الدرداء أن «النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قاء فتوضأ فلقيته في مسجده فذكرت له ذلك، فقال: صدق أنا صببت وضوءه» رواه أحمد والترمذي وقال: حديث حسين المعلم أصح شيء في هذا الباب.
وحديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ليس في القطرة ولا القطرتين من الدم وضوء إلا أن يكون دما سائلا» رواه الدارقطني. وحديث سلمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد سال من القيء دم الحديث لما أحدث يكفي الوضوء» رواه البزار في "مسنده"، وسكت عنه.

(1/266)


ولأن خرج النجاسة مؤثر في زوال الطهارة وهذا القدر في الأصل وهو معقول والاقتصار على الأعضاء الأربعة غير معقول لكنه يتعدى ضرورة تعدي الأول
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وحديث ابن عباس قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا رعف في صلاته توضأ ثم بنى على صلاته» رواه الدارقطني وأعله بعمر بن رياح، والترجيح معنا لوجوه أربعة: الأول: أنه أكبر الصحابة. الثاني: أخبارنا مثبتة وأخبارهم نافية، والمثبت أولى بالقبول، الثالث: أن أخبارنا أكثر وأصح، وليس لهم خبر صحيح. الرابع: ما صرنا إليه أحوط في الدين في باب العبادة.

م: (ولأن خروج النجاسة مؤثر في زوال الطهارة) ش: هذا جواب لقول الشافعي حيث قال: غسل غير موضع الإصابة تعبدي ليس بمعقول، وفيه إثبات لصفة النجاسة لما يخرج من غير السبيلين بطريق القياس، ومعنى قوله: يؤثر في زوال الطهارة ظاهر لأن النجاسة إذا وجدت في محل تنفي الطهارة عن ذلك المحل، وإذا زالت عنه توجد الطهارة فيه لأن بينهما منافاة، وقال تاج الشريعة: النجاسة معنى إذا اختص بمكان يوجب الإخلال بالتقرب إلى المعبود ويمنع كمال التعظيم في العبادة، والطهارة يعني إذا اختصت بمحل يوجب كمال التقرب به إلى المعبود، وتمام التعظيم في العبادة، والنجاسة ضد الطهارة ومن الضرورات بتحقق أحد الضدين انتفاء الضد الآخر.
م: (وهذا القدر) ش: أي كون النجاسة تؤثر في زوال الطهارة م: (في الأصل وهو) ش: الخارج من السبيلين م: (معقول) ش: يعني يدركه العقل فيقاس عليه غيره، وهو الخارج من غير السبيلين م: (والاقتصار على الأعضاء الأربعة غير معقول) ش: لأنه غسل غير موضع الإصابة م: (لكنه يتعدى ضرورة تعدي الأول) ش: أي لكن الاقتصار على الأعضاء الأربعة يتعدى ضرورة تعدي المنصوص عليه وإن كان غير معقول إلى صورة النزاع حكما حتى يتعدى في ضمن الأول، وهو زوال الطهارة بخروج النجاسة.
وتحقيق هذا الكلام أن نقول: نحن لا نتعدى الحكم المخالف للقياس ضرورة أن ههنا حكمين:
أحدهما: ثبوت أحكام النجاسة، وهو المنع للصلاة ومن المضمضة وغيره أنه موافق للقياس لأنه محل تعظيم المعبود لأن القيام لعبادة الله ببدن نجس لا يكون مثل العبادة ببدن طاهر، والآخر الاقتصار على الأعضاء الأربعة وهو حكم مخالف القياس في الأصل، أعني السبيل فإذا تعدى الموافق للقياس تعدى إلى الفرع بصفة وأصل الحكم لما وافق القياس لا بد من تعديته لأنا أمرنا

(1/267)


غير أن الخروج إنما يتحقق بالسيلان إلى موضع يلحقه حكم التطهير
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالقياس فإذا عدي لا سبيل أنه تعدى وحده لأنه خلاف وضع القياس، إذ القياس مثل تعدي الحكم الثابت في الأصل إلى الفرع وإذا كان الحكم في الأصل موصوفا بصفة لا يجوز تعديته بدونه فتعين أن يتعدى بصفته وإن كانت مخالفة للقياس، وهذا لأن الشيء إذا ثبت في ضمن غيره لا يعطى له حكم نفسه، وإنما يعطى له حكم التضمن كالوكالة الثابتة في ضمن الرهن فإنها تلزم والجندي يصير مقيما في المغازي بنية إقامة السلطان في السفر، وقال الأترازي: يعني قوله "لكنه" أي لكن الخارج من غير السبيلين يتعدى حكمه إلى غير موضع الإصابة ويثبت فيه ضرورة تعدي الأول وهو الخارج من السبيلين لأن شمول العلة تستلزم شمول الحكم، والمراد من الأول الخارج من السبيلين لأنه مذكور أولا وغير الخارج من السبيلين مذكور آخرا.
فإن قلت: ما الأصل، وما الفرع، وما شروط القياس فإنا لم نعلم هذه من كلام المصنف قط.
نقول: أولا القياس إبانة مثل حكم أحد المذكورين بمثل علته في الآخر، فالمذكور الأول هو الأصل والثاني هو الفرع، وشرطه أن لا يكون الأصل مخصوصا بحكم آخر كشهادة خزيمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأن لا يكون معدولا به عن القياس كبقاء الصيام مع الأكل ناسيا، وإن تعدى الشرع الثابت بالنص بعينه إلى فرع هو نظيره ولا نص فيه والأصل ههنا هو الخارج من السبيلين أعني الغائط والبول، والفرع هو الخارج من غير السبيلين، وعلماؤنا استنبطوا أن الخارج من السبيلين كان حدثا لكونه نجسا خارجا من بدن الإنسان من قَوْله تَعَالَى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء: 43] (النساء: الآية 43) وهو نص من أنه معلول بذلك الوصف لظهور أثره في عين الحكم المعلل به، وهو انتقاض الطهارة بخروج دم الحيض والنفاس، ووجدوا مثل ذلك في الخارج من غير السبيلين فتعدى الحكم الأول إليه، وتعدى الحكم الثاني وهو الاقتصار على الأعضاء الأربعة أيضا ضرورة تعدي الأول لأنه لو لم يتعد إليه تغير حكم النص بالتعليل وذلك يفسد القياس.

م: (غير أن الخروج إنما يتحقق بالسيلان إلى موضع يلحقه حكم التطهير) ش: هذا جواب إشكال وهو أن يقول: إن الحكم في الفرع لا بد وأن يكون على وفق الحكم في الأصل كما عرف ثم في الأصل يستوي القليل والكثير ولا يستوي ذلك في الفرع، وتقدير الجواب أن المؤثر في نقض الطهارة إنما هو المخروج من الباطن إلى الظاهر، والخروج إنما يتحقق إذا وجد السيلان إلى موضع يلحقه حكم التطهير في البدن كله موضع النجاسة والرطوبات والدماء السائلة فإذا انقطعت البشرة كانت الدماء والرطوبات مادية لا خارجة بخلاف البول إذا ظهر على الإحليل ولم يسل لأنه وجد الخارج من الباطن إلى الظاهر لأن موضع تلك النجاسة هي المثانة لا الإحليل، والمراد من السيلان أن يعلو الشيء على رأس الجرح وينحدر.

(1/268)


وبملء الفم في القيء لأن بزوال القشرة تظهر النجاسة في محلها فتكون بادية لا خارجة بخلاف السبيلين؛ لأن ذلك الموضع ليس بموضع النجاسة فيستدل بالظهور على الانتقال والخروج
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وبملء الفم في القيء) ش: أي وغير أن الخروج يتحقق بملء الفم في القيء يعني إذا قاء ولم يكن ملء الفم لا ينتقض وضوؤه وإنما اشترط ذلك باعتبار أن الفم له شبهان شبه الداخل، وشبه الخارج فاعتبر الكثير خارجا، والقليل غير خارج عملا بشبهي الفم.
فإن قلت: كان القياس أن لا يكون القيء حدثا لأن الحديث خارج بقوة نفسه، والقيء يخرج بقوة غيره فإن من طبع السليمة أن لا تسيل إلى فوق إلا بدافع يدفعها أو جاذب يجذبها كالدم الظاهر على رأس الجرح فمسحه بخرقة.
قلت: ترك القياس بالآثار عند ملء الفم فبقي مأذونا على أصل القياس لأنه من القليل يكون فإن امتلأ معدته يعلو إلى حلقه إذا ركع فجعل عفوا م: (لأن بزوال القشرة تظهر النجاسة في محلها فتكون بادية) ش: أي ظاهرة م: (لا خارجة) ش: لأن حقيقة الخروج هو الانتقال من الباطن إلى الظاهر والنجس ما دام في محله لا يأخذ حكم النجاسة لعدم إمكان تطهيره فاشترط التجاوز إلى موضع آخر م: (بخلاف السبيلين لأن ذلك الموضع ليس بموضع النجاسة) ش: أي لأن موضع الطهر ليس محل النجاسة وهو الإحليل، وموضع النجاسة المثانة فبالظهور يعلم أنه قد انتقل عن محله إلى محل آخر وهو معنى قوله م: (ويستدل بالظهور على الانتقال والخروج) ش: بخلاف غير السبيلين فإنه لم يعلم مجبر والظهور والخروج لأن تحت كل جلد رطوبة ودما فلا ينتقض الطهارة ما لم يوجد السيلان الذي هو يحقق الخروج.
فروع - تورم رأس الجرح فظهر به قيح أو نحوه لا ينقض ما لم يجاوز الورم وعن محمد لو صار أكبر من رأس الجرح نقض.
والصحيح الأول ولو نزل الدم إلى ما لان من الأنف أو إلى صماخ الأذن نقض، وقال الحسن بن زياد: الماء والقيح والصديد طاهر بمنزلة الريق، والعرق، والدمع، والمخاط، والنخامة والبصق فلا ينقض الوضوء، والصحيح أن ذلك بمنزلة الدم لأنه دم رقيق لم يتم نضجه فكان لونه لون الماء وفي " المجتبى ": الدم، والقيح، والصديد، وماء الجرح، والسفطة، والبشرة، والقذي في العين والأذن كله سواء على الأصح، وهذا يدل على أن من رمدت عينه وسال منها الماء يجب الوضوء والناس عنها غافلون ويؤمر به لوقت كل صلاة لاحتمال أن يكون من جرح في الجفون. وعن الحسن أن ماء النفطة لا ينقض. قال الحلواني: وفيه توسعة لمن به جرب أو جدري أو حكة بيده، والدم إذا أخذ من غرز الإبرة أو قطع السكين أكثر من النقبة حديث على الأصح، وذكر الحسن فيه عن محمد أنه ينتقض وعن أبي يوسف أنه لا ينتقض وبه أخذ الزمخشري.

(1/269)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " المحيط " مص القرادة عضوا فامتلأ إن كان صغيرا لا ينقض كما لو مص الذباب والبعوض وإن كان كبيرا ينقض كما لو مصت العلقة، ولو سال من فمه ماء أصفر نقض ولو ظهر بول المجبوب إن كان يقدر على إمساكه متى شاء نقض وإلا لا ينقض إلا بالسيلان وفي " المحيط " توضأ فرأى بللا سائلا من ذكره أعاد وضوءه وإن لم يعلم ما هو مضى على صلاته لأنه من وساوس الشيطان وينضح فرجه بالماء لتحليله عليه وفي " الذخيرة " إذا تبين أن الخنثى رجل أو امرأة فالفرج أخر منه بمنزلة القرحة لا ينقض الخارج منه ما لم يسل.
قال: وفي الكتاب قال أحب أن يعيد الوضوء وهو إشارة إلى أنه غير واجب وهو اختيار محمد بن إبراهيم الميداني وأكثر المشايخ على إيجابه، والدم المساوي للريق ينقض استحسانا كالغالب بخلاف الناقض ولو كان لون الريق أحمر نقض وإن كان أصفر لا ينتقض خرج من أذنه قيح أو صديد بدون الوجع لا ينتقض ومع الوجع ينقض لأنه دليل الجرح هكذا أفتى الحلواني. باشر امرأته من غير حائل فاشتد ذكره لها انتقض وضوؤه عندهما استحسانا خلافا لمحمد إلا بخروج شيء ولم يشترط في ظاهر الرواية مماسة الفرج بالفرج واشترط في رواية الحسن وهو الأظهر الدم السائل من الجرح إذا لم يتجاوز إلى موضع يلحقه حكم التطهير طاهر في الأظهر وهو قول أبي يوسف وبه أخذ الكرخي، وكذا كل ما لا ينقض الوضوء من القيء وغيره خلا دم الاستحاضة وبه كان يفتي أبو عبد الله القلانسي، ومحمد بن سلمة، وأبو نصر، وأبو القاسم، وأبو الليث. وعن محمد بن الحسن أنه نجس وبه كان يفتي أبو بكر الإسكاف، وأبو جعفر، وعلى الأول لو امتلأ الثوب منه لا يمنع جواز الصلاة كما يكون لأصحاب القروح يصيب ثيابهم مرة بعد مرة من غير تجاوز لمكان العذر ولا يمنع وإن كثر، روى ذلك بعض أصحابنا عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وحكي عن أبي يوسف وعليه الفتوى، وفي " الينابيع " أقطر دهنا في إحليله ثم سال منه لا ينقض عند أبي حنيفة خلافا لأبي يوسف ومحمد. أدخل الحقنة في دبره ثم أخرجها لا وضوء عليه مع أنه لا يخلو من خروج شيء معها من النجاسة، وكل شيء غيبه في دبره ثم أخرجه أو خرج بنفسه نقض وأفسد الصوم وإن دخل بعضه وطرفه خارج لا ينقض ولا يفسد الصوم عمم ولم يفسد ومراده غير الذكر أما إذا لم يكن عليه بلة وفي " قاضيخان " روايتان والصحيح إذا لم تغب فيه تعتبر البلة والرائحة فإنه ليس بداخل من كل وجه حتى لا يفسد صومه ولا ينقض الوضوء بنزول البول إلى قصبة الذكر وإلى القلفة ينقض. والريح الخارج من ذكر الرجل وقبل المرأة لا ينقض الوضوء.
في " المحيط " هكذا حكاه الكرخي عن أصحابنا إلا أن يكون مفضاة وهي التي صار مسلك بولها ووطئها والتي صار مسلك الغائط والوطء منها واحد ولا يحل وطؤها إلا أن يعلم أنه لا

(1/270)


وملء الفم أن يكون بحال لا يمكن ضبطه إلا بتكلف لأنه يخرج ظاهرا فاعتبر خارجا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يجاوز قبلها فحينئذ يستحب لها الوضوء لاحتمال أنها خرجت من دبرها لا من قبلها، وفي " المفيد " و " الذخيرة " عن محمد أنه حدث من قبلها قياسا على دبرها وعن الكرخي أن الريح من الذكر لا ينقض وإنما هو اختلاج.
وقال أبو حفص الكبير: يجب في المفضاة، وقيل إن كانت الريح منتنة يجب وإلا فلا، وفي " الذخيرة " والدودة الخارجة من قبل المرأة على هذه الأقوال وفي " القدوري " يوجب وفي الذكر لا ينتقض، وإن خرجت الدودة من الفم، أو الأنف، أو الأذن، لا تنقض، حشى إحليله بقطنة أو ربط الجراحة إن تعدى البلل إلى خارجها نقض وإلا فلا، وإن حشت المرأة بقطنة فابتل داخلها إن كانت على الشفرين نقض وإن كانت داخل الفرج فلا وضوء عليها، وإن أدخلت أصبعها في فرجها انتقض وضوؤها لأنها لا تخلو عن بلة ولو وصل المائع إلى الدماغ بالسعوط، أو الوجوز، أو الأقطار ثم خرج لا ينقض لأنه خرج من مكان طاهر.
وعن أبي يوسف إن خرج من الفم نقض، ولو غرز إبرة في يده وظهر الدم أكثر من رأس الإبرة لم ينتقض، وكان محمد بن عبد الله يميل إلى القول بالنقض ويراد سائلا وكذا في " فتاوى النسفي " وإذا عصرت القرحة فخرج منها شيء كثير ولو لم يعصرها لا يخرج منها شيء ينقض وضوءه كذا في " مجموع النوازل "، وفيه أيضا جرح ليس فيه شيء من الدم والصديد فدخل الحمام أو الحوض فدخل الماء الجرح وسال منه الماء لا ينقض وذكر الإمام علاء الدين أن من أكل خبزا أو فاكهة ورأى أثر الدم فيه من أصول أسنانه ينبغي أن يضع إصبعه أو طرف كفه على ذلك الموضع فإن وجد فيه أثر الدم انتقض وضوؤه وإلا فلا.

م: (وملء الفم أن يكون بحال لا يمكن ضبطه إلا بتكلف) ش: هذا التعريف عن رواية الحسن بن زياد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقيل حد ملء الفم أن يمنعه من الكلام، وقيل: أن يزيد على نصف وقيل: أن يعجز عن تغطية الفم، وقيل: ما جاوز الفم، وقيل ليس فيه حد مقرر بل هو مفوض إلى رأي المبتلى به إن كان يراه ملء الفم انتقضت طهارته وإن لم يره لا ينقض وهذا أشبه مذهب أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيما لم يرد فيه من الشرع تقدير ظاهر وهو اختيار شمس الأئمة الحلواني م: (لأنه) ش: أي لأنه ملء الفم وهذا دليل لقوله "وبملء الفم من القيء" وليس بدليل لقوله: وملء الفم لمن يكون بحال اه.
حتى لا يقال التعرب لا يستدل عليها لأنه ما قبل تعريف ملء الفم م: (يخرج ظاهرا) ش: لأنه لا يقدر على ضبطه إلا بكلفة م: (فاعتبر خارجا) ش: فلا يكون تبعا لذلك بخلاف ما إذا قل فإنه تبع للريق فلا يقتضي وحاصل الكلام ههنا أن الفم تجارى فيه دليلان: أحدهما يقتضي كونه باطنا والآخر يقتضي كونه ظاهرا نظير ذلك في الصائم إذا أخذ الماء بفيه ثم مسحه لا يفسد صومه، وإذا

(1/271)


وقال زفر: قليل القيء وكثيره سواء، وكذا لا يشترط السيلان، اعتبارا بالمخرج المعتاد ولإطلاق قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «القلس حدث» ولنا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ليس في القطرة والقطرتين من الدم وضوء إلا أن يكون سائلا»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ابتلع ريقه فكذلك، فورد على الدليلين حكمها، فقيل إذا كثير ينقض وإذا قل لا ينقض.
م: (وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قليل القيء وكثيره سواء) ش: وبه قال الثوري والحسن البصري ومجاهد م: (وكذا لا يشترط السيلان) ش: أي في الخارج من غير السبيلين كالدم ونحوه م: (اعتبارا) ش: أي يعتبر اعتبارا وانتصابه بالمقدر م: (بالمخرج المعتاد ولإطلاق قوله «القلس حدث» ش: هذا قياس ظاهر لأنه لما كان الخارج من غير السبيلين حدثا بما دل عليه من الدليل، وجب أن يستوي فيه القليل والكثير.
قال الأترازي والأكمل أيضا هذا الحديث رواه سوار بن مصعب عن زيد بن علي عن بعض آبائه عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكره أبو بكر الرازي في شرحه لمختصر الطحاوي، وهذا عجز منهما من ثلاثة أوجه:
الأول: أن هذا أخرجه الدارقطني في "سننه " حيث لم يرجعا إليه.
والثاني: غير الإسناد إلى زيد بن علي غير سوار بن مصعب وهو متروك.
والقلس بفتح اللام وقيل بسكونها. قاله ابن الأثير واختلف فيه فقال المرغيناني القلس ما كان ملء الفم والقيء دونه، وقيل على العكس دل عليه قول محمد فإن قلس أقل من ملء الفم وقول مجاهد وطاووس لا وضوء في القلس حتى يكون القيء. ذكره النسائي وفي " المغرب " القلس ما خرج من الحلق ملء الفم أو دونه وليس بقيء فإن عاد فهو القيء. وقلس الكأس إذا قذف بالشراب لشدة الامتلاء.
وقال خواهر زاده: القلس ما يخرج من المعدة عند غثيان النفس واضطرابها والقيء ما يخرج منها عند سكون وقرار، فكان في القلس زيادة شدة ليست في القيء.
م: (ولنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ليس في القطرة والقطرتين من الدم وضوء إلا أن يكون سائلا» ش: رواه الدارقطني من حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من طريقين كلاهما ضعيف، لأن في أحدهما محمد بن الفضل وفي الأخرى حجاج بن نصير وهما ضعيفان، والقطرة والقطرتان عبار عن قلة الدم، وسماه قطرة لأنه لم يوجد السيلان والدليل على ذلك قوله: «إلا أن يكون سائلا» فإن كان السيلان سابقا على حال القطر، فإن زاد السيلان بازدياد الدم واجتمع في موضع لو حصل له صلاحية ازدياد السيلان يحصل القطرة، فإذا كان كذلك لو كانت القطرة على حقيقتها لا يصح استثناء حالة السيلان منها، لأن استثناء الشيء بمنزله غايته، فلا يجوز تقديم الغاية على المغيا لأن

(1/272)


وقول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين عد الأحداث جملة أو دسعة تملأ الفم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الغاية تعقب المغيا أبدا، فكذلك حالة القطرة تعقب حالة السيلان على ما ذكرنا، ولا يجوز أن تعقب حالة السيلان حالة القطرة كذلك وهذا كما إذا قال الرجل لامرأته وهي خارجة الدار إذا قعدت وسط الدار فأنت طالق إلا إذا دخلت تلك الدار أو دخلت فإنه لا يصح لأن حال الدخول سابقة على حال القعود، نظيره ليس في اللقمة واللقمتين من أكل الجزء، واختيار قطع الصلاة إلا أن يكون المصلي أدخله في فيه لا يصح.
وحاصل معنى الحديث ليس في القطرة والقطرتين بالقود من الدم وضوء لكن إذا سال الدم ففيه الوضوء.
وفي " المغني " لا وضوء في الدم القليل لكن في الكثير وضوء وهو السليل فالاستثناء منقطع، لأن حقيقته ليست بمرادة لحصولها بعد السيلان، والمجاز وهو القليل لا يتناول السائل فلا يكون متصلا، ولا يجوز أن يكون المراد قطر الدم من رأس الجرح من غير أن يسيل فإنه قول خارق للإجماع لعدم القائل بالفصل فلا يصح، لأن كل من قال بانتقاض الطهارة بالسيلان، فقائل بانتقاضها في هذه الصورة ومن قال بعدم الانتقاض مطلقا لا يقول بالانتقاض في هذه الصورة، فالقول بالتناقض بالسيلان وبعدم الانتقاض بالقطر قول لم يقل به أحد.
م: (وقول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين عد الأحداث جملة أو وسعة تملأ الفم) ش: هذا غريب لم يثبت عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، والعجب من الأكمل قال: الظاهر أنه قاله سماعا من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهذا بعد ثبوته عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وأعجب من هذا قول الأترازي أورده [......] أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عد الأحداث وقال: يعاد الوضوء من كذا ثم قال: أو وسعة تملأ الفم، ولم يقف على أصل الأثر كيف لفظه: ولا وقف على صحته، ولا عرف هل هو موقوف، أم مرفوع حتى يصرف فيه من عنده، ثم قال وذكر الناطقي في الأجناس وقال، روى زيد بن ثابت أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال «يعاد الوضوء من سبع: من نوم غالب، والقيء، وغائط، وبول، ودسعة تملأ الفم، ودم سائل، والقهقهة في الصلاة» الحديث.
قال "صاحب الدراية " روى البيهقي و "صاحب المحيط " عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال «يعاد الوضوء ... » إلى آخره، نحوه وليس فيه والحدث.
وذكر السروجي في شرحه كما ذكره صاحب " الدراية " وقال في آخره لا يصح وكلهم أظهروا العجز في ذلك والحديث أخرجه البيهقي في " الخلافيات " عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يعاد الوضوء في سبع: من إقطار البول، والدم السائل، والقيء، ومن وسعة تملأ الفم، ونوم المضطجع، وقهقهة الرجل في الصلاة، وخروج الدم» فأضعفه فإن فيه سهل بن عفان والجارود بن

(1/273)


وإذا تعارضت الأخبار، يحمل ما رواه الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على القليل، وما رواه زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - على الكثير، والفرق بين المسلكين ما قدمناه، ولو قاء متفرقا بحيث لو جمع يملأ الفم، فعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يعتبر اتحاد المجلس، وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يعتبر اتحاد السبب وهو الغثيان،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
زيد وهما ضعيفان.
وقال ابن الأثير في "النهاية ": الوسيع الدفع، ثم قال: ومنه حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وذكر ما يوجب الوضوء، وقال: ووسعة تملأ الفم يريد الدفع الواحدة من القيء. وجعله الزمخشري حديثا عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وقال: هي من ريع السرمومة إذا نزعها من كرشه وألقاها إلى فيه.
م: (وإذا تعارضت الأخبار، فيحمل ما رواه الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على القليل وما رواه زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - على الكثير) ش: وهذا إلى أن الأصل في تعارض الأخبار التوفيق، لأن الأصل في الأدلة الإعمال دون الإهمال. وههنا تعارض ما رواه الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ما رواه من «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قاء فلم يتوضأ» . وما رواه - رَحِمَهُ اللَّهُ - من قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «القلس حدث» . والعمل بهما ممكن فيحمل ما رواه الشافعي على القليل وما رواه زفر على الكثير، وذلك لأن القيء ملء الفم من كثرة الأكل. ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان عن ذلك بمعزل، والقياس مصدر قلس إذا قاء ملء الفم، كذا في الأسامي، ولأن ما رواه الشافعي إن صح فهو حكاية حال فلا عموم له أو أنه لم يتوضأ عن القيء في فوره ذلك.
م: (والفرق بين المسلكين ما قدمناه) ش: أي الفرق بين المخرج المعتاد وغيره وهو جواب لزفر عن اعتباره غير المعتاد بالمعتاد، وقال صاحب " الدراية " أراد بالمسلكين السبيلين وغيرهما أو الفم أو السبيل. قال السغناقي: والفرق بين المسلكين أي: بين الفم والسبيلين ويروى والفرق بين المسألتين قوله ما قدمناه يعني في مسألة الدم من كون القليل ناقضا في السبيلين غير ناقض في غير السبيلين أو عند قوله: غير أن الخروج إلى آخره. م: (ولو قاء متفرقا) ش: أي قيئا متفرقا. وانتصابه على أنه صفة لمصدر محذوف م: (بحيث لو جمع) ش: أي القيء. فإن قلت: القيء لم يذكر، قلت: دل عليه قوله قاء م: (يملأ الفم) ش: جواب لو.
م: (فعند أبي يوسف يعتبر اتحاد المجلس) ش: أي: مجلس القيء، لأن للمجلس أثرا في جمع المتفرقات، وكذا التلاوات المتعددة للسجدة متحد باتحاد المجلس.
م: (وعند محمد: اتحاد السبب) ش: أي: ويعتبر عند محمد اتحاد السبب في القيء المتفرق م: (وهو) ش: أي السبب م: (الغثيان) ش: وهو مصدر غثت نفسه إذا جاءت. وقال الجوهري:

(1/274)


ثم ما لا يكون حدثا لا يكون نجسا يروى ذلك عن أبي يوسف وهو الصحيح، لأنه ليس بنجس حكما حيث لم تنتقض به الطهارة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الغثيان خبث النفس وتدعت نفسه عينا وعناة وأما عل سبيل المرتع [......] عزا إذا جمع بعضه إلى بعض، ومنه الغثاء بالضم والمد وهو ما يحمل السيل من العمامين، وقال محمد: لأن الحكم يثبت على حسب ثبوت السبب من الصحة والفساد فيتحد باتحاده، ألا ترى أنه إذا جرح جراحات ومات منها قبل البرء يتحد الموجب، وإن تخلل البرء اختلف ويعتبر الاتحاد في الغثيان، وإن بقي ثانيا قبل سكون النفس عن الغثيان الأول فإن سكنت ثم قاء فهو حدث جديد، وقيل: قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أصح ثم المسألة على أربعة أوجه: إما أن يتحد السبب في المجلس، أو يتعدد، أو يتحد الأول دون الثاني، أو على العكس. ففي الأول: يجمع اتفاقا، وفي الثاني: لا يجمع اتفاقا، وفي الثالث: يجمع عند الثالث، وفي الرابع: يجمع عند الثاني.

م: (ثم ما لا يكون حدثا لا يكون نجسا) ش: الذي لا يكون حدثا هو القليل من القيء وغير السائل من الدم لا يكون نجسا، ألا ترى أنه لا تنقض به الطهارة فيكون طاهرا م: (يروى ذلك عن أبي يوسف) ش: وبه أخذ الكرخي وفي " جامع الكردري " هو مروي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأمر به أبو عبد الله الغساني ومحمد بن سلمة وأبو نصر وأبو القاسم وأبو الليث.
م: (وهو الصحيح) ش: أي ما روي عن أبي يوسف هو الصحيح، وهو اختيار المصنف أيضا. واحترز به عن قول محمد فإنه نجس عنده، واختاره بعض المشايخ احتياطا، وأفتى به أبو بكر الإسكاف، وأبو جعفر. وفائدة الخلاف تظهر فيما أخذه بقطنة وألقاه في الماء لا ينجس الماء عند أبي يوسف أرفق خصوصا في مثل أصحاب القروح والجدري، حتى لو أصاب الثوب منه كثير لا يمنع جواز الصلاة.
م: (لأنه) ش: تعليل وجه الصحة أي لأن ما لا يكون حدثا م: (ليس بنجس حكما) ش: أي من حيث الحكم الشرعي م: (حيث لم تنتقض به الطهارة) ش: معناه أن الخارج النجس من بدن الإنسان، أي يستلزم كونه حدثا معه انتفى اللازم، وانتفاؤه يستلزم انتفاء الملزوم قيل: فيه مصادرة على المطلوب، بناء على أن معنى كلامه ليس كذلك بل معناه ما لا يكون حدثا لا يكون نجسا، لأن ما لا يكون حدثا ليس بنجس حكما لأن حكمه بالنجاسة يستلزم كونه حدثا، وليس بحدث؛ لما دل عليه من الدليل، فلا يكون نجسا.
فإن قلت: ما لا يكون حدثا لا يكون نجسا ينعكس بأن يقال: ما يكون حدثا يكون نجسا. قلت: لا ينعكس فإن النوم والإغماء والجنون أحداث وليست بنجسة.
فإن قلت: يرد عليك دم الاستحاضة، والجرح السائل فإنه ليس بحدث، قلت: بل هو حدث لكن لا يظهر أثره حتى يخرج الوقت.

(1/275)


وهذا إذا قاء مرة أو طعاما أو ماء، فإن قاء بلغما فغير ناقض عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ناقض إذا قاء ملء الفم. والخلاف في المرتقي من الجوف، أما النازل من الرأس فغير ناقض بالاتفاق، لأن الرأس ليس بموضع النجاسة لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه نجس بالمجاوزة، ولهما أنه لزج لا تتخلله النجاسة وما يتصل به قليل والقليل في القيء غير ناقض
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: كيف يجوز الاستدلال بعدم نقض الطهارة على عدم النجاسة لأن عدم النقض يجوز أن يكون انتفاؤه لكونه غير خارج دون انتفاء الوصف الآخر.
قلت: غير الخارج لا يعطى له حكم النجاسة لكونها في محلها فإن من صلى، وهو حامل حيوانا غير نجس أو حامل بيضة حال محها، وما جازت صلاته فكان انتفاء الخروج مستلزما لانتفاء النجاسة.

م: (هذا) ش: إشارة إلى القيء ملء الفم م: (إذا قاء مرة) ش: بكسر الميم وتشديد الراء. قال الجوهري: المرة إحدى الطبائع الأربع، وقال: المراواة التي فيها المراة والمرة القوة أيضا. قلت: المراد بها الصفراء وهي إحدى الطبائع م: (أو طعاما) ش: أي: أو قاء طعاما م: (أو ماء) ش: أي: قاء ماء فإن هذه الأشياء ربما تنقض الطهارة إذا كانت ملء الفم.
م: (فإن قاء بلغما فغير ناقض) ش: للوضوء م: (عند أبي حنيفة ومحمد) ش: إذا كان بلغما صرفا لا يشوبه طعام، ولم يذكر ما إذا اختلط بالطعام، قالوا: تعتبر فيه الغلبة فإن كان الطعام غالبا ينقض وإلا فلا.
م: (وقال أبو يوسف ناقض إذا كان ملء الفم والخلاف) ش: أي الخلاف المذكور بين الثلاثة م: (في المرتقي) ش: أي الصاعد م: (من الجوف) ش: أي المعدة م: (أما النازل من الرأس فغير ناقض بالاتفاق لأن الرأس ليس بموضع النجاسة) ش: فالنازل منها رطوبة تنزل إلى أعلى الحلق فيرق فيصير بزاقا، وإذا استقر في أسفل الحلق يتخفف فيصير بلغما م: (لأبي يوسف أنه) ش: أي البلغم المرتقي من الجوف م: (ينجس بالمجاوزة) ش: أي مجاوزة ما في المعدة من النجاسة، وقد خرج إلى موضع يلحقه حكم التطهير، فيكون ناقضا للوضوء.
م: (ولهما) ش: أي لأبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - م: (أنه) ش: أي البلغم المرتقي من الجوف م: (لزج) ش: أي لصق. وهو بفتح اللام وكسر الزاي المعجمة م: (لا تتخلله النجاسة) ش: أي لا يتداخله النجاسة ولا يدخل في أجزائه م: (وما يتصل به قليل والقليل في القيء غير ناقض) ش: لأنه لا يحتمل السيلان، والسيلان في غير السبيلين أقيم مقام الخروج ولم يوجده.

(1/276)


ولو قاء دما وهو علق يعتبر فيه ملء الفم، لأنه سوداء محترقة، وإن كان مائعا فكذلك عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعتبارا بسائر أنواعه، وعندهما إن سال بقوة نفسه ينقض الوضوء، وإن كان قليلا؛ لأن المعدة ليست بمحل الدم فيكون من قرحة في الجوف.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قيل: ينتقض هذا ببلغم يقع في النجاسة، ثم يرفع عنها يحكم بنجاسته.
أجيب بأنه لا رواية في هذه المسألة، ولئن سلم فالفرق بينهما أن البلغم ما دام في البطن يزداد ثخانة فيزداد لزوجة، فإذا انفصل عن الباطن ثقل ثخانته فتقل لزوجته، فإذا قلت لزوجته ازدادت رقته، فجاز أن يقبل النجاسة. وكان الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يميل إلى قول أبي يوسف حتى روي عنه أنه يكره أن يأخذ الإنسان بلغمه بطرف ردائه ويصلي به، كذا في " الفوائد الظهيرية ".
وفي " جامع المحبوبي " هذا الاختلاف راجع إلى اختلافهم في أن البلغم طاهر أو نجس، فعند أبي يوسف نجس وعندهما لا.

م: (ولو قاء دما وهو علق) ش: أي والحال أنه علق بفتح العين واللام وهو المتجمدة.
م: (يعتبر فيه ملء الفم) ش: حتى إذا لم يكن ملء الفم لا ينقض م: (لأنه) ش: أي: لأن الدم العلق سوداء محترقة وليس بدم على الحقيقة.
فإن قلت: ما موصوف السواد فإنها صفة لا بد لها من موصوف. قلت: موصوفها المرة أي: مرة سوداء احترقت من شدتها، والسوداء المحترقة تخرج من المعدة وما يخرج منها لا يكون حدثا ما لم يكن ملء الفم م: (وإن كان) ش: أي: الدم م: (مانعا فكذلك) ش: أي فكان الحكم المذكور يعتبر فيه ملء الفم م: (عند محمد اعتبارا) ش: أي اعتبر محمد اعتبارا م: (بسائر أنواعه) ش: أي بسائر أنواع القيء وهي خمسة: الطعام، والماء، والمرة، والصفراء، والسوداء. كذا قال الأكمل أخذه من " الدراية "، وصاحب " الدراية " أخذه من المحبوبي وفيه نظر لأن المرة هي الصفراء كما ذكرنا، وهي السوداء أيضا، ولذلك قالت الأطباء الأخلاط أربعة: الدم، والمرة السوداء، والمرة الصفراء، والبلغم فطبع الأول حار رطب، والثاني بارد يابس، والثالث حار يابس، والرابع بارد رطب.
م: (وعندهما) ش: أي عند أبي حنيفة وأبي يوسف (إن سال بقوة نفسه ينتقض الوضوء وإن كان قليلا) ش: الاعتبار عندهما بالسيلان بقوة نفسه، لا بقوة المزاج م: (لأن المعدة ليست بمحل للدم) ش: يعني أنها ليست من مظان الدم ومواضعه م: (فتكون من قرحة في الجوف) ش: فالمعتبر هناك السيلان فكذلك هناك.
فإن قلت: لم اختص هذا الحكم بما يخرج من المعدة فينبغي أن يكون عاما ولا ينتقض الوضوء

(1/277)


ولو نزل من الرأس إلى ما لان من الأنف نقض الوضوء بالاتفاق، لوصوله إلى موضع يلحقه حكم التطهير فيتحقق الخروج.
والنوم مضطجعا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بخروج دم من قرحة في الفم ما لم يملأ الفم كالقيء، قلت: إنما اختص بالقيء لأن النص متعارض فيه، فإنه روي «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قاء ولم يتوضأ» وروى الترمذي من حديث حسين المعلم عن أبي الدرداء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قاء فتوضأ» . والمفهوم من الإطلاق الوضوء الشرعي لا غسل الفم منه لأن ذلك يسمى مضمضة. وروي أنه قال: «القلس حدث» . فعرفنا بذلك بأن الفم حكم الباطن في قليل القيء، وحكم الظاهر في كثيره، فأما في حق الدم، فلم يوجد دليل يدل على ذلك بل دل فيه على أن المعتبر فيه التجاوز إلى موضع يلحقه حكم التطهير.
فإن قلت: ما تقول في ماء فم النائم. قلت: النازل من الرأس أو المتخف من اللهوات طاهر، والصاعد من الجوف فإن كان أصفر أو منتنا كالقيء، وعن أبي الليث هو كالبلغم، وقيل: نجس عند أبي يوسف خلافا لمحمد. وعن أبي حنيفة إن قاء طعاما أو ماء أصاب إنسانا قيء يسير لا يمنع. قال الحسن: الأصح أنه لا يمنع ما لم يفحش وفي " القنية ": قاء دودا كبيرا لا ينقض وكذا لو قاء حية ملأت فاه.

م: (ولو نزل من الرأس إلى ما لان من الأنف) ش: أي الذي لان من الأنف وهو المازن.
م: (نقض الوضوء بالاتفاق لوصوله إلى موضع يلحقه حكم التطهير فيتحقق الخروج) ش: لأن هذا الموضع له حكم الظاهر في الشرع، ولهذا يخاطب بتطهيره في بعض الأحوال فصار النازل اليسير خارجا فيكون ناقضا، بخلاف ما إذا نزل البول إلى قصبة الذكر لأنه ليس له حكم الظاهر، ولهذا لم يخاطب بتطهيره.
فإن قلت: أليس هذا المكرر لأنه قد علم من قوله في أول الفصل والدم والقيح إذا خرجا من البدن. قلت: إنما ذكره ههنا بيانا لاتفاق أصحابنا، لأن عند زفر إذا وصل الدم إلى قصبة الأنف لا ينقض، وإنما ينقض إذا وصل إلى ما لان وإليه أشار المصنف بقوله بالاتفاق.

[النوم من نواقض الوضوء]
م: (والنوم مضطجعا) ش: برفع النوم عطفا على قوله: والقيء ملء الفم، أي: ومن نواقض الوضوء النوم مضطجعا، ولما فرغ من نواقض الوضوء بما خرج من البدن حقيقة كالبول والغائط، والدم، والقيح، والقيء شرع فيما ينقضه أيضا حكما كالنوم. ثم الأنف واللام في النوم بدل من المضاف إليه تقديره ونوم المتوضئ، وانتصاب مضطجعا على أنه حال منه، والاضطجاع أن يضع

(1/278)


أو متكئا أو مستندا إلى شيء لو أزيل عنه لسقط، لأن الاضطجاع سبب لاسترخاء المفاصل فلا يعرى عن خروج شيء عادة والثابت عادة كالمتيقن به،
والاتكاء يزيل مسكة اليقظة لزوال المقعد عن الأرض وبلغ الاسترخاء في النوم غايته بهذا النوع من الاستناد غير أن السند يمنعه من السقوط.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
النائم جنبه على الأرض، م: (أو متكئا) ش: أي وحال كونه متكئا على أحد وركيه، والاتكاء افتعال من وكا معتل العين مهموز اللام. ولما نقل من وكا إلى باب الافتعال صار أوتكا ثم أبدلت الواو تاء وأدغمت التاء في التاء وصار اتكا والمتكئ فاعل فيه وأصله المتوكئ م: (أو مستندا) ش: أي حال كونه مستندا م: (إلى شيء) ش: كجدار وعامود ونحوهما م: (لو أزيل عنه لسقط) ش: وهذا القياس ليس من رواية " المبسوط "، وإنما هو مما اختاره الطحاوي م: (لأن الاضطجاع سبب لاسترخاء المفاصل فلا يعرى) ش: أي فلا يخلو م: (عن خروج شيء) ش: أي الريح م: (عادة) ش: أي من عادة النائم المضطجع م: (والثابت بالعادة كالمتيقن به) ش: ألا ترى من دخل المستراح ثم شك في وضوئه فإنه يحكم بنقض وضوئه، لأن العادة جرت عند الدخول في الخلاء بالتبرز بخلاف ما إذا شك بدون الدخول.

م: (والاتكاء يزيل مسكة اليقظة) ش: أي التماسك الذي يكون لليقظان والمسكة بالضم اسم، قال الجوهري: عن أبي زيد، يقال فيه: مسكة من خير بالضم أي بقية، والمسكة أيضا من السير الصلبة التي لا تحتاج إلى طي، واليقظة بفتح الياء، وفتح القاف أيضا من استيقظ فهو يقظان. وفي دستور اللغة يقال: يقظ من باب علم يعلم، فعلى هذا هو مصدر. وقال الصاغاني في " العتابي ": يقظ بالكسر أي استيقظ يقظا، ويقظة بالتحريك فيهما، فإن قلت: إذا كان الأمر كذلك فما وجه إضافة المسكة إلى اليقظة سواء كان مصدرا أو اسما، قلت: هذا إسناد مجازي، والمراد مسكة صاحب اليقظة، والمعنى أن الاتكاء يزيل مسكة اليقظان حال قوي أن يزيل مسكة النائم، ولهذا علل المصنف بشيئين الأول أشار إليه بقوله: (لزوال المقعد عن الأرض) ش: لأن مقعده إذا زال عن الأرض لا يؤمن عن خروج شيء.
والثاني: أشار إليه بقوله: (وبلغ الاسترخاء غايته لهذا النوع من الاستناد) ش: أراد بهذا النوع الاتكاء م: (غير أن السند يمنعه من السقوط) ش: جواب عن سؤال مقدر وهو أن يقال: لا نسلم أن الاسترخاء يبلغ غايته إذ لو كان كذلك سقط فلما لم يسقط علم أنه لم يبلغ غايته، فأجاب عنه بالسنة تمنعه من أن يسقط فلولا هو لسقط.
واعلم أن النائم له ثلاث عشرة حالة: نوم المضطجع، والمتورك والمتكئ وهو ناقض، والقاعد، والمتربع، والماد رجليه، والمنحني، والمقعي شبه الكلب، والراكب، والماشي، والقائم، والراكع، والساجد، وهو ليس بناقض، والمستند وهو ناقض على ما ذكره الطحاوي أنه لو نام

(1/279)


بخلاف حالة القيام، والقعود، والركوع، والسجود في الصلاة وغيرها هو الصحيح لأن بعض الاستمساك باق، إذ لو زال لسقط فلم يتم الاسترخاء. والأصل فيه قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا وضوء على من نام قائما، أو قاعدا، أو ساجدا، إنما الوضوء على من نام مضطجعا فإنه إذا نام مضطجعا استرخت مفاصله» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مستندا إلى شيء أو متكئا على يديه ولو كان بحال لو زال السند أو ما اتكأ عليه لسقط فكان حدثا وإلا لا، واختاره القدوري وصاحب " الهداية " وبه أخذ كثير من المشايخ.
ولكن روى خلف عن أبي يوسف أنه سأل أبا حنيفة عمن استند إلى شيء فنام فقال: إذا كانت إليته مستوثقة من الأرض فلا وضوء عليه، كيف ما كان، وبه أخذ عامة المشايخ، وهو الأصح. ذكره في " البدائع " و " المحيط " وفي " الكافي "، وهو ظاهر المذهب في " الذخيرة " أن النوم مضطجعا إنما يكون حدثا إذا كان اضطجاعه على غيره وأما إذا كان على نفسه لا يكون لو نام واضعا إليته شبه على وجهه واضعا بطنه على فخذيه لا ينقض الوضوء. وعن محمد من نام متكئا لا ينقض وضوؤه. وقال أبو يوسف: اضطجاعه على غيره ونفسه سواء في انتقاض الوضوء ونوم المريض المضطجع في الصلاة ينقض الوضوء في الصحيح. وقال أبو يوسف: لا وضوء عليه وهو الأصح. ولو نام خارج الصلاة على هيئة المصلي فيه اختلاف المشايخ.

م: (بخلاف حالة القيام والقعود والركوع والسجود في الصلاة) ش: يعني لا ينقض النوم الوضوء في هذه الحالات، إذا كان على هيئة سجود الصلاة من تجافي البطن عن الفخذ وعدم افتراش الذراعين، فإذا كان بخلافه ينقض م: (وغيرها) ش: أي وغير الصلاة م: (وهو الصحيح) ش: يعني كون ذلك في الصلاة وغير الصلاة هو الصحيح وظاهر الرواية، واحترز بذلك عما ذكره ابن شجاع أنه ناقض للوضوء في غير الصلاة م: (لأن بعض الاستمساك باق) ش: وقدر ما بقي من الاستمساك يمنع الخروج م: (إذ لو زال) ش: أي الاستمساك م: (لسقط فلم يتم الاسترخاء) ش: وإذا لم يكن النوم في هذه الأحوال سببا لخروج شيء عادة فلا يقام مقامه، لأن السبب إنما يقام مقام السبب إذا كان غالب الوجود بذلك السبب، أما إذا لم يغلب فلا لأنه حينئذ يقع الشك في وجود الحدث، والوضوء كان ثابتا بيقين فلا يزال بالشك.
م: (والأصل فيه) ش: أي في كون النوم غير ناقض في هذه الأحوال م: (قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا وضوء على من نام قاعدا أو قائما أو راكعا أو ساجدا إنما الوضوء على من نام مضطجعا فإنه إذا نام مضطجعا استرخت مفاصله» ش: هذا الحديث بهذا اللفظ غريب.
وإنما رواه أبو داود والترمذي من حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ولفظه: «إن

(1/280)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الوضوء لا يجب إلا على من نام مضطجعا، فإنه إذا اضطجع استرخت مفاصله» .
ورواه أحمد في "مسنده "، الطبراني في "معجمه " وابن أبي شيبة في "مصنفه " والدارقطني في "سننه "، ورواه البيهقي في "سننه "، ولفظه: «لا يجب الوضوء على من نام جالسا أو قائما أو ساجدا حتى يضع جنبه فإنه إذا اضطجع استرخت مفاصله» .
ورواه عبد الله بن أحمد في "زياداته " ولفظه: «ليس على من نام ساجدا وضوء حتى يضطجع» ، وصاحب " الهداية " لم يتعرض إلى هذا الحديث أصلا، وإنما احتج به وسكت. وقال أبو داود: قوله في الحديث: «على من نام مضطجعا» وهو حديث منكر لا يرويه إلا أبو خالد الدالاني عن قتادة.
وقال الدارقطني: تفرد به أبو خالد الدالاني ولا يصح. وقال ابن حبان: كان يزيد الدالاني كثير الخطأ فاحش الوهم، لا يجوز الاحتجاج به إلا إذا وافق الثقات، فكيف إذا تفرد عنهم بالمعضلات. وقال الترمذي في " العلل الكبير ": سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث، فقال: لا شيء. وقال البيهقي في "السنن ": أنكره عليه جميع الحفاظ وأنكروا سماعه عن قتادة.
وقال في " الخلافيات ": أنكر عليه جميع أئمة الحديث.
قلت: أبو داود كيف يقول إنه حديث منكر، وقد استدل ابن جرير الطبري على أنه لا وضوء إلا من نوم اضطجاع وصحح هذا الحديث، وقال: الدالاني لا يرفع إلا عن العدالة والأمانة والأدلة تدل على صحة خبره.
وقول الدارقطني: تفرد به أبو خالد الدالاني ولا يصح غير صحيح، وقد تابعه فيه مهدي بن هلال عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا وضع جنبه فليتوضأ» .
وأخرجه ابن عدي عنه حدثنا يعقوب بن عطاء بن أبي رباح عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس على من نام قاعدا أو قائما وضوء حتى يضطجع جنبه إلى

(1/281)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأرض» .
وأخرج ابن عدي أيضا ثم البيهقي من جهته عن بحر بن كنيز عن ميمون الخياط عن ابن عباس عن «حذيفة اليماني قال: كنت في مسجد المدينة جالسا فاحتضنني رجل من خلفي فالتفت فإذا أنا بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقلت: يا رسول الله هل وجب علي وضوء. قال: "لا حتى تضع جنبك» . قال البيهقي تفرد به بحر بن كنيز السقا وهو ضعيف لا يحتج بروايته.
وقول ابن حبان: كان بحر إلى آخره يرده ما قاله يحيى بن معين وأحمد والنسائي: ليس به بأس. وقال أبو حاتم صدوق ثقة، وروى عنه سفيان الثوري، وسعيد، وزهير بن معاية وغيرهم. وقال ابن عدي: له أحاديث صالحة، ويروي الناس عنه وروى عنه عبد السلام بن حرب.
وقال الأكمل: فإن قيل هذا الحديث غير صحيح لأن مداره على أبي العالية وهو ضعيف عند الثقة روى ابن سيرين أنه قال: حدث عمن شئت إلا عن أبي العالية فإنه لا يبالي عمن أخذ، أي لا يبالي أن يروي عن كل أحد. أجيب بأن أبا العالية ثقة نقل عنه الثقات كالحسن وإبراهيم النخعي والشعبي، وكونه لا يبالي عمن أخذ، يؤثر في مراسيله دون مسانيده، وقد أسند هذا الحديث إلى ابن عباس، قلت: من العجب أن الأكمل كيف رفع رأسه لبيان حال الحديث ومع هذا قال في الحديث الذي ذكره المصنف: رواه الترمذي مسندا إلى ابن عباس عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وليس الحديث كذلك عند الترمذي، فقد ذكرنا وقوله لأن مداره على أبي العالية ليس كذلك وإنما مداره على يزيد الدالاني وعليه اختلف في ألفاظه ومع هذا كله ليس من عنده، وإنما نقله من تاج الشريعة برمته، ثم وجه الاستدلال بهذا الحديث من وجوه:
الأول: نفي الوضوء عمن نام قائما أو راكعا.
الثاني: فيه الحصر بإنما فيمن نام مضطجعا.
فإن قلت: لا حصر ههنا لأن الوضوء لم ينحصر على من نام مضطجعا، بل هو واجب على المستند والمتكئ كما مر.
قلت: لا نسلم أن إنما ههنا للحصر بل هو لتأيد الإثبات، ولئن سلمنا أنه للحصر فإنه حصر انتقاض الوضوء المتعلق بصفة الاضطجاع فإنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - علل باسترخاء المفاصل، وإنما وجب على المتكئ والمستند بدلالة النص لاستوائهما في المنصوص في المعنى وهو الاسترخاء قال صاحب " الدراية ": هذا نقل عن مولانا حميد الدين، وقال فخر الدين الرازي: إنما يحصر الشيء في الحكم. وينحصر الحكم في الشيء لأن إن للإثبات وما للنفي فيقتضي إثبات المذكور ونفي ما

(1/282)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عداه. واعترض عليه بأن ما في إنما كافة عند النحاة وليست بنافية لأنها قسيمة، وقسيم الشيء لا يكون عينه ولا قسيمه، وبأن دخول إن على ما النافية لا يستقيم لأن كلا منهما له صدر الكلام فلا يجمع بينهما.
والوجه الثالث: الحديث معلل وهو قوله: «فإنه إذا نام استرخت مفاصله» فإنه يدل على عدم الوجوب على من نام قائما أو راكعا أو ساجدا لعدم الاسترخاء، وعلى وجوبه على المضطجع ومن هو بمعناه لوجوده فيه، قال الأكمل: قيل معنى قوله: استرخت مفاصله يبلغ الاسترخاء غايته لأن الأصل الاسترخاء فيمن نام قائما فحينئذ ناقض أول الحديث آخره. قلت: نقل هذا الكلام عن قائله المجهول ولكنه ما بينه كما ينبغي وتحقيقه.
أما تفسير قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإنه إذا نام استرخت مفاصله» لأنه يبلغ الاسترخاء غايته بهذا النوع من الإسناد ولو لم يفسر الذي في الحديث بالاسترخاء النائم يلزم التناقض بين أول الحديث وآخره، لأن أصل الاسترخاء يوجد من النوم حالة القعود والركوع والسجود فإذا فسرنا الاسترخاء بالنوم في الحديث، وبأن المراد ليس الاسترخاء الناقض ولا هو علة فيه يندفع التعارض فافهم.
فروع: ذكر " المبسوط " في سجود المرأة والرجل إذا ألصق بطنه بفخذه اختلاف المشايخ، والجالس إذا نام وسقط على الأرض أو عضو منه فانتبه، ذكر في " البحر المحيط " ظاهر الجواب عند أبي حنيفة أنه إن انتبه قبل أن يزايل مقعد الأرض لا ينقض. وروى الحسن عنه أنه إن انتبه حتى يضع جنبه على الأرض لا ينتقض.
وعند أبي يوسف: لا ينقض يعني مستقرا قاعدا عليها بعد السقوط. وذكر السرخسي خلافه فقال: إن نام قاعدا فسقط، فعند أبي حنيفة إن انتبه قبل أن يصل جنبه إلى الأرض لا ينقض، وعن أبي يوسف ينقض حين سقط.
وعن محمد إن زايل مقعده الأرض ينقض وعنه إن استيقظ حال ما سقط لا ينقض، وعند السقوط لو وضع يده على الأرض لا ينقض، ويستوي فيه الكف وظهر الكف، وأما في أمالي " قاضيخان " نام جالسا وهو متمايل فزال مقعده عنها، قال: قال الحلواني: ظاهر المذهب أنه ليس بحدث والنوم متوركا كالنوم جالسا مضطجعا، ولو كان متكئا على ركبتيه لا ينقض، ولو كان مربق ورأسه على فخذيه ينقض وذكر الحلواني ولا ذكر للنعاس مضطجعا والظاهر أنه ليس بحدث لأنه نوم قليل. وقال أبو علي الرازي وأبو علي الدقاق: إن كان لا يفهم عامة ما قيل حوله كان حدثا، وإن كان يفهم حرفا أو حرفين فلا.
وسجدة التلاوة كالصلاتية وكذا سجدة الشكر عند محمد خلافا لأبي حنيفة، وفي النوم في

(1/283)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
سجود السهو اختلاف المشايخ فيه. ولو نام في سجوده معتمدا انتقض وضوؤه عند أبي يوسف، وقال: وضوؤه باق لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا نام العبد في السجود يباهي الله تعالى به ملائكته فيقول: انظروا إلى عبدي روحه عندي وجسده في طاعتي» . فإن قلت: ما حال هذا الحديث؟
قلت: قال في " الأسرار ": وهو من المشاهير. وقال في " البدائع " وفي المشهور من الأخبار ورد ذلك. وقال السروجي وكتب أصحابنا مشحونة به، وما وقعت له على أصل. قلت: الكلام في صحته وكونه من المشاهير زيادة درجة ويرد قول السروجي ما رواه البيهقي في "الخلافيات " من حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولكن في إسناده داود بن الزبير فإنه ضعيف، وروي من وجه آخر عن أبان عن أنس، وأبان متروك. ورواه ابن شاهين في " الناسخ والمنسوخ " من حديث المبارك بن فضالة.
وذكره الدارقطني في " العلل " من حديث عبادة بن راشد كلاهما عن الحسن عن أبي هريرة بلفظ: «إذا نام وهو ساجد يقول الله: انظروا إلى عبدي» قال وقيل عن الحسن تلقاه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: والحسن لم يسمع من أبي هريرة، ومرسل الحسن أخرجه أحمد في الزهد، ولفظه: «إذا نام العبد وهو ساجد يباهي الله به الملائكة، يقول: انظروا إلى روحه عندي وهو ساجد» وروى ابن شاهين عن أبي سعيد بمعناه وإسناده ضعيف.
فائدة: نوم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليس بحدث، وروى محمد عن أبي حنيفة بإسناده إلى «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه نام على جنبه وصلى بغير وضوء، وقال: "تنام عيني ولا ينام قلبي» وهو من خصائصه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقال النووي: من خصائصه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه لا ينتقض وضوؤه بالنوم مضطجعا للأحاديث الصحيحة ثم صلى ولم يتوضأ، وقال: «إن عيني تنام، ولا ينام قلبي»
ومنها حديث «ابن عباس قال: نمت عند خالتي ميمونة الحديث وفيه: "فنام حتى أتاه بلال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فآذنه بالصلاة فقام وصلى ولم يتوضأ» رواه البخاري في الدعوات، ومسلم في التهجد.
فإن قلت: هذا يعارضه الحديث الصحيح «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نام في الوادي عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس» ولو كان غير نائم القلب لما ترك صلاة الصبح.

(1/284)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: الجواب من وجهين:
أحدهما: يحسن بما يتعلق بالبدن من الحديث وغيره وسريه القلب وليس طلوع الفجر والشمس من ذلك ولا هو مما يدرك بالقلب، وإنما يدرك بالعين والعين نائمة.
والثاني: أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان له نومان: أحدهما ينام قلبه، ولا ينام عيناه. والثاني: تنام عينه دون قلبه وكان الوادي من النوع الأول.
فائدة أخرى: قال ابن القطان: أجمع الفقهاء أن النوم القليل لا ينقض الوضوء، إلا المزني فإنه خرق الإجماع وجعل قليله حدثا، وذكر في العارضي أن إسحاق بن راهويه حينئذ معه في هذا، قال: وأجمعوا على أن النوم المضطجع ينقض الوضوء.
قلت: وعند أبي موسى الأشعري والطعام لا ينقض، وبه قال لاحق بن حميد، وعبيدة. وعن سعيد بن المسيب أنه كان ينام مضطجعا وقت الصلاة، ثم يصلي ولا يعيد الوضوء.
ومذهب البعض أن كثيره ينقض بكل حال، وقليله لا ينقض بكل حال وبه قال الزهري وربيعة والأوزاعي ومالك وأحمد في رواية.
ومذهب البعض أنه لا ينقض إلا نوم الراكع والساجد، وروي هذا عن أحمد، ومذهب البعض أنه لا ينقض النوم في الصلاة بكل حال، وينقض خارج الصلاة وهو قول ضعيف للشافعية - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
وللشافعي في النوم خمسة أقوال: الصحيح منها أنه إن قام ممسكا مقعدته من الأرض أو نحوها لم ينقض سواء كان في الصلاة أو غيرها وسواء طال نومه أو لا. والثاني: أنه ينقض بكل حال وهذا نصه في البويطي، قال النووي: وتأول أصحابنا نصه في البويطي على أن المراد أنه نام غير متمكن. وقال إمام الحرمين قال الأئمة إنه غلط البويطي. وقال النووي: هذا الذي قاله ليس بجيد، والبويطي يرتفع عن الغلط والصواب تأويله.
قلت: المجتهد يخطئ، والغلط أدنى منه. الثالث: إن نام في الصلاة لم ينقض على أي هيئة كان، فإن نام في غيرها غير ممكن مقعدته من الأرض ينتقض، وإلا فلا. والرابع: إن نام ممكنا أو غير ممكن وهو على هيئة الصلاة سواء كان في الصلاة أو غيرها لم ينتقض، وإلا ينتقض، والخامس: إن نام ممكنا أو قائما لا ينتقض وإلا ينتقض. وقال: الصواب هو القول الأول، وما سواه ليس بشيء، وتحرير مذهب مالك على أربعة أقسام طويل ثقيل يؤثر في النقض بلا خلاف في المذهب، وقصير خفيف لا يؤثر على المعروف منه، وخفيف طويل يستحب فيه الوضوء، وثقيل خفيف في تأثيره في النقض قولان، وقيل قولان جائزان في الثالث أيضا.

(1/285)


والغلبة على العقل بالإغماء والجنون لأنه فوق النوم مضطجعا في الاسترخاء، والإغماء حدث في الأحوال كلها، وهو القياس في النوم إلا أنا عرفناه بالأثر، والإغماء فوقه فلا يقاس عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[الإغماء والجنون والقهقهة في الصلاة من نواقض الوضوء]
م: (والغلبة على العقل بالإغماء) ش: الغلبة مرفوع عطفا على قوله: والنوم مضطجعا أي ومن نواقض الوضوء الغلبة على العقل بالإغماء. وقال في المغرب: هو ضعيف القوى لطلب الإغماء امتلاء بطون الدماغ من بلغم بارد غليظ. وعند الكمت: هو سهو يعتري الإنسان مع فتور الأعضاء.
والإغماء من أغمي على المريض فهو مغمى عليه، وغمي عليه فهو مغمى عليه على معقوله، وأصله من غماء مثل قضاء مقصور، يقال: تركت فلانا غمي أو مغمى عليه، وكذلك الإنسان والجمع والموت وإن شئت قلت: همام غمان وهم إغماء م: (والجنون) ش: بالرفع عطف على قوله: والغلبة والجر خطأ لأن العقل في الإغماء مغلوب، وفي الجنون مسلوب. ولهذا جاز الإغماء على الأنبياء دون الجنون، والجنون زوال العقل وفساده.
ومن النواقض العشر: السكر إذا لم يعرف الرجل من المرأة وهو اختيار الصدر الشهيد، وذكر في " الملتقطات " للخوارزمي وفي " الذخيرة " الصحيح ما نقله عن شمس الأئمة الحلوائي أنه إذا دخل في مشيه اختلال ولهذا يحنث به إذا حلف لا يسكر.
وعن أحمد في رواية يجب الغسل بالإغماء والجنون، فظاهر مذهب الشافعي كمذهبنا، وقال الشيخ أبو حامد وابن الصباغ وجماعة من الشافعية: إن كان الغالب من حال من يجد الإنزال وجب الغسل إذا أفاق وإن لم يتحقق الإنزال، كما يوجب النوم مضطجعا الوضوء.
وقال الماوردي في الحاوي عن أصحابنا: إن كان الإغماء لا ينفك عن الإنزال وجب الغسل وإن كان قد ينفك فلا. وقال النووي: الصحيح أنه يستحب الغسل مطلقا. م: (لأنه) ش: أي لأن كل واحد من الإغماء والجنون م: (فوق النوم مضطجعا) ش: أي حال كون النائم مضطجعا والألف واللام في النوم بدل من المضاف إليه بالتنبيه دونما م: (والإغماء حدث في الأحوال كلها) ش: يعني حال القيام والقعود والركوع والسجود لوجود الاسترخاء م: (وهو القياس في النوم) ش: يعني أن القياس على الإغماء يقتضي أن يكون النوم حدثا في الأحوال كلها، لأن خروج النجاسة أمر مظنون فدار الحكم على السبب الظاهر بالأثر م: (إلا أنا عرفناه) ش: أي النوم.
م: (بالأثر) ش: وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا وضوء على من نام قائما» الحديث.
م: (والإغماء فوقه) ش: أي والحال الإغماء فوق النوم م: (فلا يقاس عليه) ش: أي على النوم

(1/286)


والقهقهة في صلاة ذات ركوع وسجود تنقض الوضوء، والقياس أنها لا تنقض وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، لأنه ليس بخارج نجس، ولهذا لم يكن حدثا في صلاة الجنازة، وسجدة التلاوة، وخارج الصلاة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في حكم يثبت بخلاف القياس ولا يلحق به دلالة إذ لا يلزم من أن لا يكون أدنى الغفلة ناقضا أن يكون أعلاه ناقضا، فإن قلت: لم لا يعلل المصنف للجنون، قلت: لأن كون الجنون ناقضا ليس لعلة الاسترخاء لأن المجنون أقوى من الصحيح. لكن باعتبار عدم مبالاته وتمييزه فيصير في الأحوال كلها حدثا، ومنهم من علله بعلة الاسترخاء وليس بوجه.

م: (والقهقهة) ش: بالرفع وليس بالعطف على ما قبله، بل هو مبتدأ وخبره قوله ينقض، أي من النواقض قهقهة المصلي م: (في كل صلاة ذات ركوع وسجود) ش: احترز به عن صلاة الجنازة فإنها لا ينتقض الوضوء وتبطلها م: (تنقض الوضوء) ش: جملة في محل الرفع لأنها خبر المبتدأ كما ذكرنا م: (والقياس أن لا تنقض) ش: لأنها ليست بخارج نجس بل هي صوت كالبكاء والكلام.
م: (وهو) ش: أي القياس فيها م: (قول الشافعي) ش: وبه قال مالك، وأحمد، وأبو ثور، وداود، وقول ابن مسعود، وجابر، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وسعيد بن المسيب، وأبي بكر بن عبد الرحمن بن خارجة بن زيد بن ثابت، وسليمان بن بشار، ومكحول م: (لأنها) ش: أي لأن القهقهة م: (ليس بخارج نجس ولهذا) ش: أي ولكونها ليست بخارج نجس م: (لم تكن حدثا في صلاة الجنازة وسجدة التلاوة وخارج الصلاة) ش: ولا هي حدث في حق الصبي، فلذلك قيد النفي في " الكافي " بقوله: وقهقهة المصلي البالغ، وقيد بعضهم بكونه يقظانا احتراز عن ققهقهة النائم في الصلاة. وذكر في " الذخيرة " أن قهقهة النائم لا تنقض لعدم الجناية منه. ويتعدى صلاته.
وفي " فتاوى المرغيناني " لو نام في الصلاة قائما أو راكعا أو ساجدا، ثم قهقه لا رواية لها في الأصول. وقال علام تفسد صلاته ووضوءه. وفي " المحيط ": لو قهقه بعد ما قعد قدر التشهد الأخير أو في سجود التشهد أو بعدما توضأ لحدث سبقه في الصلاة قبل أن يبني ينقض خلافا لزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وفي " فتاوى المرغيناني " الثاني في الحدث إذا جاء متوضئا وقهقه في الطريق بعد الصلاة ولا ينقض وضوؤه، اختلفوا في الصلاة المظنونة والأصح أنها تنقض قهقهة الإمام والقوم ثم بعد التشهد تنقض وضوءهم وإن تأخرت قهقهة القوم عنه فلا وضوء عليهم، ولو قهقه في الصلاة على الدابة خارج المصر نقضت اتفاقا، وفي المصر لا خلافا لأبي يوسف، وعلى هذا الخلاف، لو أتمها خارج المصر ثم دخلها راكبا ثم قهقه، ولو كان منهزما من عدو نقضت اتفاقا.

(1/287)


ولنا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إلا من ضحك منكم قهقهة، فليعد الوضوء والصلاة جميعا»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ولنا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إلا من ضحك منكم قهقهة، فليعد الوضوء والصلاة جميعا» ش: روي هذا الحديث عن ستة أنفس من الصحابة مرفوعا وهم أبو موسى الأشعري، وأبو المليح واسمه أسامة بن عمرو بن عامر بن قيس الهذلي الكوفي، وقال الزهري [......] روى عنه أبو المليح، ومعبد الجهني، ورجل من الأنصار.
أما حديث أبي موسى فرواه الطبراني في "معجمه " حدثنا أحمد بن زهير السدي حدثنا محمد بن عبد الملك الدمشقي حدثنا محمد بن أبي نعيم الواسطي حدثنا مهدي بن ميمون حدثنا هشام بن حسان عن حفصة بنت سيرين عن أبي العالية عن أبي موسى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «بينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي بالناس إذ دخل رجل فتردى في حفرة كانت في المسجد، وكان في بصره ضرر فضحك كثير من القوم وهم في الصلاة فأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من ضحك أن يعيد الوضوء والصلاة» وذكره البيهقي في " الخلافيات " نحوه ثم أعله بأن جماعة من الثقات رووه عن هشام عن حفصة عن أبي العالية عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قلت: لم يقدر البيهقي على رده إلا بكونه مرسلا، ولهذا يترك هذا، والمرسل حجة عندنا، ومرسل أبي العالية صحيح.
فإن قيل: إن أبا عمرو محمد بن سيرين مولى أنس بن مالك وكان عالما بأبي العالية والحسن البصري قال: لا تأخذوا بمراسيلهما لا يسألان عمن أخذ عنه.
الجواب: هذا لا يستقيم من وجوه ثلاثة: الأول: أن المرسل لا تقوم به حجة عندهم فلا فائدة في هذه الوصية، ولا فرق بين مرسلهما ومرسل غيرهما.
الثاني: لا تصح هذه الحكاية عن ابن سيرين، وذلك أن ابن دحية الكلبي حكي عنه أنه رأى في المنام كان الجواز أن قدمت على الزنا فأخذ في وصيته، وقال: يموت الحسن بن أبي الحسن وأموت بعده، وهو أشرف مني فمات في شوال سنة عشرة ومائة بعد الحسن بمائة يوم. ذكرها في العلم المشهور مع ثنائه على الحسن وترفعه على نفسه وزكيه.
الثالث: إن صح ذلك عنه لا يسمع منه مثل هذا الكلام في حق الحسن البصري، وأبي العالية من جلالتهما ومكانتهما من العلم والدين الذي لا يتفق لغيرهما مثله. ومخيرات يروي عمن يعرفه أنه غير مأمور به على دين الله ولا ثقة لا تعتمد روايته مرسلا ولا مسندا.
وقول ابن عدي إنما قيل في أبي العالية ما قيل لهذا الحديث وإلا فسائر أحاديثه صالحه، يرد قول ابن سيرين فيه، وإذا صلحت سائر أحاديثه فلا مانع من صلاح حديثه هذا، وهذا الحديث

(1/288)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قد رواه غيره كما ذكرناه ومن أسند الحديث إلى إنسان فقد شهد عليه أنه رواه، فإذا أرسله فقد شهد على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: لا يجوز الشهادة على غير رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كيف يجوز الشهادة على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالباطل، مع علمه لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده في النار» وإذا سمع ممن لا يكون قوله معتبرا في دين الله وملته. ذلك كان عاما للمسلمين عمدا في زمنهم وذلك قادح في دينه فضلا عن عدالته، والحسن وأبو العالية من أعلام الدين ولهما المكانة العالية في الدين، والفضل والعلم والتقدم، فلا يلتفت إلى قول ساحر أو صاحب هوى. والعجب من أحمد بن حنبل أن مذهبه تقديم المراسيل والضعيف من الحديث على هذا القياس، هكذا حكاه عنه ابن الجوزي في " التحقيق "، وقد أخذ بالقياس هنا وترك أحد عشر حديثا عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مسألة واحدة كلها حجة عنده، ولا يجوز المصير إلى القياس عنده مع وجود حديث واحد معها. وأما مالك فالمراسيل حجة عنده.
وأما حديث أبي هريرة فأخرجه الدارقطني في "سننه " عن عبد العزيز بن الحصين عن عبد الكريم أبي أمية عن الحسن عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا قهقه أعاد الوضوء والصلاة» .
فإن قلت: قال الدارقطني: عبد العزيز ضعيف وعبد الكريم متروك وفيه انقطاع بين الحسن وأبي هريرة، وأنه لم يسمع منه قلت: لما عد في " التهذيب " وغيره من روي عنه ممن قال وعن أبي هريرة، ثم قال: وقيل لم يسمع منه، ولا يضرنا هذا الخلاف، لأن المثبت يقدم على النافي، ولئن سلمنا فالمرسل حجة عندنا.
وأما حديث عبد الله بن عمر فرواه ابن عدي في " الكامل " من حديث بقية حدثنا أبي حدثنا عمرو بن قيس الكوفي عن عطاء عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ضحك في الصلاة قهقهة فليعد الوضوء والصلاة» .
فإن قلت: قال ابن الجوزي في " العلل المتناهية " هذا حديث لا يصح، فإن بقية من عادته التدليس كأنه سمعه من بعض الفقهاء، فحذف اسمه.

(1/289)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: هذا باطل لأنه قد صرح في هذه الرواية بقوله: حدثنا عمرو بن قيس المدلس متى صرح بالتحديث، وكان صدوقا زالت عنه تهمة التدليس وبقية من هذا القيد. وقد أخرج له مسلم وشرط المدلس إذا كان صدوقا أن يأتي بعبارة لا يصرح بالشرع وإلا كان كاذبا. وقال ابن عدي: وبعضهم يقول فيه عمرو بن قيس وإنما هو عمر.
وأما حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فأخرجه الدارقطني عن داود المحبر عن أيوب بن حوط عن قتادة عن أنس قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي بنا فجاء رجل ضرير البصر مثل الأول» .
فإن قلت: قال الدارقطني داود بن محبر متروك، وأيوب ضعيف، والصواب من ذلك قول من رواه عن قتادة عن أبي العالية مرسلا، ثم أخرج عن عبد الرحمن بن عمرو بن جيلة حدثنا سالم بن أبي مطيع عن قتادة عن ابن أبي العالية أن أعمى تردى فذكره.
قلت: له طريق أخرى رواه أبو القاسم حمزة بن يوسف السهمي في " تاريخ جرجان " عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قهقه في الصلاة قهقهة شديدة فعليه الوضوء والصلاة» .
وأما حديث جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فأخرجه الدارقطني أيضا عن محمد بن يزيد بن سنان حدثنا أبي حدثنا الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال: قال لنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ضحك منكم في صلاته فليتوضأ ثم يعيد الصلاة» .
فإن قلت: قال الدارقطني: يزيد بن سنان ضعيف، ويكنى بأبي قرة الرهاوي، وابنه ضعيف أيضا، وقد وهم في هذا الحديث في موضعين: أحدهما: في رفعه إياه، والآخر في لفظه والصحيح عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر من قوله: «من ضحك في الصلاة أعاد الصلاة ولم يعد الوضوء» .
كذلك رواه عن الأعمش جماعة من الثقات منهم سفيان الثوري، وأبو معاوية الضرير،

(1/290)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ووكيع، وعبد الله بن داود الخريبي وعمرو بن علي المقدمي وغيرهم، وكذلك رواه شعبة وابن جريج عن يزيد بن خالد عن أبي سفيان عن جابر ثم أخرج عن جابر أنه قال: «من ضحك في الصلاة أعاد الصلاة ولم يعد الوضوء» ، وزاد في لفظه: " إنما كان منهم ذلك حتى عجلوا خلف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ".
قلت: الحديث المرفوع يدل على ما ذهبنا إليه، إذا كان المراد من الضحك القهقهة، وكذلك إذا كان الضحك على أصل معناه، فإن الحكم عندنا أنه ينقض الصلاة ولا ينقض الوضوء، وهذا الحديث حجة لنا سواء كان مرفوعا أو موقوفا، ولا يمكن لجابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن يقول برأيه في مثل هذا الموضع. وأمره محمول على السماع على أنا نقول: وإن كان هذا الحديث ضعيفا فقد اعتضد بغيره من الأحاديث المروية في هذا الباب. وأما حديث عمران بن الحصين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فأخرجه الدارقطني أيضا عن إسماعيل بن عياش عن عمرو بن قيس الملائي عن عمرو بن عبيد عن الحسن عن عمران بن الحصين قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من ضحك في الصلاة فليعد الصلاة والوضوء» .
فإن قلت: قال الدارقطني عمرو بن قيس المكي المعروف بسندل ضعيف، ذاهب الحديث، وعمرو بن عبيد قيل فيه إنه كذاب.
قلت: كان عمرو بن عبيد جالس الحسن وحفظ عنه، واشتهر بصحبته وكان له شهرة وإظهار زهد، فالكذب عنه بعيد. والبيهقي أخرجه عن عبد الرحمن بن سلامة عن عمرو بن قيس عن الحسن عن عمران بن الحصين مرفوعا، وأخرجه ابن عدي من طريق آخر عن بقية عن محمد الخزاعي عن الحسن عن عمران بن حصين، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لرجل ضحك في الصلاة: "أعد وضوءك» . وقال: محمد الخزاعي مجهول من مشايخ بقية، ويروي محمد بن شداد عن الحسن وابن راشد مجهول، هذا مردود لأن محمد الخزاعي هو ابن راشد، وابن راشد هذا وثقه أحمد ويحيى بن معين، وقال عبد الرزاق: ما رأيت أحدا أورع في هذا الحديث منه.
وأما حديث أبي المليح عن أبيه فأخرجه الدارقطني أيضا من حديث محمد بن إسحاق حدثنا الحسن بن زياد عن الحسن البصري عن أبي المليح بن أسامة عن أبيه قال: «بينا نحن نصلي خلف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ اقبل رجل ضرير البصر باللفظ الأول» . وقال ابن إسحاق: حدثني الحسن بن عمارة عن خالد الحذاء عن أبي المليح عن أبيه مثل ذلك.

(1/291)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: قال الدارقطني: الحسن بن دينار والحسن بن عمارة ضعيفان.
قلت: قيل لابن عيينة كان الحسن بن عمارة يحفظ، قال: كان له فقيل وغيره أحفظ منه، وقال عيسى بن يونس الرملي الناخوري: سمعت ابن سويد يقول: كنت عند سفيان الثوري فذكر الحسن بن عمارة فغمزه، فقلت: يا أبا عبد الله هو عندي خير منك، قال: وكيف ذاك، قلت: جلست معه غير مرة فيجري ذكرك فيما يذكرك إلا بخير، قال أبو أيوب: قال سفيان ما ذكر الحسن بن عمارة بعد ذاك إلا بخير حتى فارقته.
وأما حديث معبد الجهني فرواه أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن منصور بن زاذان عن الحسن البصري عن معبد بن أبي معبد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قهقه في صلاته أعاد الوضوء والصلاة» .
فإن قلت: قال البيهقي: معبد لا صحبة له، وهو أول من تكلم بالبصرة في القدر.
قلت: في " معرفة الصحابة " لابن منده معبد بن أبي معبد رأى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو صغير، ثم ذكر ابن منده مرور النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخيمتي وأنه بعث معبدا وكان صغيرا. الحديث، ثم قال: روى أبو حنيفة عن منصور بن زاذان إلى آخر ما ذكرنا، ثم قال: وهو حديث مشهور عنده، رواه أبو يوسف القاضي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأسيد بن عمرو وغيرهما، فظهر من هذا أن معبدا المذكور في هذا الحديث ليس هو الذي تكلم فيه في القدر كما زعم البيهقي، ولم يذكر ذلك بسند ينظر فيه، ثم لو سلمنا أنه الجهني المتكلم في القدر فلا نسلم أنه لا صحبة له، قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب " الاستيعاب ": ذكره الواقدي في الصحابة وقال: أسلم قديما وهو أحد الأربعة الذين حملوا ألوية الجهنية يوم الفتح.
قال: وقال أبو أحمد في " الكنى " وابن أبي حاتم: كلاهما له صحبة. وقال الذهبي في " تجريد الصحابة ": معبد بن خالد الجهني أبو رفاعة شهد الفتح له رواية. وقال ابن حزم: إنه روى مرسلا عن الحسن بن معبد بن صبيح أيضا. وقال ابن عدي: قال لنا ابن حماد وهو معبد وهو الذي ذكره البخاري في كتاب " تسمية الصحابة ". وقال الذهبي: معبد بن صبيح بصري روى عنه إسحاق حديثه في الوضوء من القهقهة ولا يثبت.
وأما حديث رجل من الأنصار فرواه الطبراني بإسناده عن وهيب عن حامد بن عبد الله الواسطي عن هشام بن حسان عن حفصة عن أبي العالية عن رجل من الأنصار عن النبي عليه

(1/292)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
السلام. الحديث. قال الدارقطني: ولا يسميا الرجل ولا ذكرا له صحبة ولم يصنع خالد شيئا، وقد خالفه خمسة حفاظ.
قلت: زيادة خالد هذا الرجل الأنصاري زيادة عدل لا يعارضها نقصان من نقصها، وله خمسة مراسيل أيضا:
الأول: مرسل أبي العالية وهو أشهر ما روى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن أبي العالية، وهو عدل ثقة أن «أعمى تردى في بئر والنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يصلي بأصحابه فضحك بعض من كان يصلي معه فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من كان ضحك منهم أن يعيد الوضوء، ويعيد الصلاة» .
وأخرجه الدارقطني من جهة عبد الرزاق وعبد الرزاق من شيوخه من رجال الصحيحين.
الثاني: مرسل النخعي ورواه أبو معاوية عن الأعمش عن النخعي قال: جاء رجل ضرير البصر والنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يصلي. الحديث. وقال ابن رشد المالكي: وهذا مرسل صحيح.
الثالث: مرسل الحسن البصري رواه الدارقطني بإسناده عن ابن شهاب عن الحسن الحديث، وهو أيضا مرسل صحيح.
الرابع: مرسل الزهري، والخامس: مرسل قتادة، وقال ابن عدي في " الكامل ": روى هذا الحديث الحسن البصري، وقتادة، وإبراهيم النخعي، والزهري مرسلا.
فإن قلت: روى البيهقي في "سننه " قال الإمام أحمد: لو كان عند الزهري أو الحسن فيه حديث صحيح لما اختار القول خلافه. وقد صح عن قتادة عن الحسن أنه كان لا يرى من الضحك في الصلاة وضوءا، وعن شعيب بن أبي حمزة أو غيره من الزهري أنه قال في الضحك في الصلاة يعاد الصلاة ولا يعاد الوضوء.
قلت: مخالفة الراوي للحديث ليس فيه جرح. وقد روى الدارقطني بسند صحيح عن أبي هريرة أنه قال: «إذا ولغ الكلب في الإناء فأهرقه ثم اغسله ثلاثا» ولم يجعلوا ذلك حرجا في روايته مرفوعا الغسل سبعا.

(1/293)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: روى أحمد والترمذي وابن ماجه والبيهقي من حديث أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا وضوء إلا من صوت أو ريح» .
وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، فهذا يدل على أنه لا وضوء في القهقهة.
قلت: ظاهر هذا متروك بالإجماع لأن في البول والغائط يجب الوضوء وإن لم يوجد الصوت والريح، وكذا في الدم والقيح إن أخرجا من المخرج المعتاد، وخصوصا على مذهب الشافعي، فإن عنده يجب الوضوء في مس الذكر، ومس النساء، ولا صوت، ولا ريح، فلما لم يدل هذا الحديث على نفي الوضوء فيما ذكرنا من الصوت دل على أنه لا يدل على نفي الوضوء في القهقهة أيضا، على أنا نقول: إن هذا الحديث ورد في حق من شك في خروج الريح، والحكم فيه كذلك، أما في من تحقق الريح والصوت فلا.
فإن قلت: قال الشافعي: لو كانت القهقهة حدثا في الصلاة لكان حدثا خارجها، لأن نواقض الطهارة سوى فيها الصلاة وخارجها، كما في سائر الأحداث.
قلت: الفرق بينهما ظاهر، وهو أن المصلي في مناجاة الرب سبحانه، والمقصود بالصلاة إظهار الخشوع والخضوع والتعظيم لله تعالى، فالضحك قهقهة فيها جناية عظيمة فناسب ذلك انتقاض وضوئه زجرا له كتنجيس الخمر من الشرع إهانة لها، وزجرا للشاربين ليجتنبوها.
وهذه المعاني لا توجد خارج الصلاة ولأن من بلغ هذه الغاية من الضحك وربما غاب حسه، فأشبه نوم المضطجع فجعل حدثا في الصلاة لزيادة الجنابة على العبادة. ولأن النص إذ ورد على خلاف القياس لا لقياس على غيره بل يقتصر على مورده فلأجل هذا لم يجعل حدثا خارج الصلاة، ولا في صلاة الجنازة وسجدة التلاوة.
فإن قلت: لم يكن في مسجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بئر ولا ركية ولا حفرة، فكيف وقع فيه الضرير.
قلت: المراد بالبئر حفرة عند المسجد يجتمع فيه المطر، وليس في أكثر الحديث أنه كان يصلي في المسجد، فيجوز أن يقال: كان يصلي في غير المسجد، وفي الموضع الذي كان فيه ركية. والذي فيه ذكر المسجد رواية أبي موسى وهو عدل ثقة ثبت فهو أولى.

(1/294)


وبمثله يترك القياس، والأثر ورد في صلاة مطلقة فيقتصر عليها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: هذا لا يصح باعتبار أنه لا يتوهم على أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الضحك في الصلاة قهقهة خصوصا خلف النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. قلت: كان يصلي خلفه الصحابة ومن غيرهم من المنافقين والأعراب الجهال، وهذا من باب حسن الظن بهم، وإلا فليس الضحك كبيرة، وهم ليسوا من الصغار بمعصومين، ولا من الكبائر على تقدير كونه كبيرة.
فإن قلت: ذكر البيهقي عن الشافعي أنه لو ثبت حديث الضحك في الصلاة لقال به. وقال ابن الجوزي: قال أحمد: ليس في الضحك حديث صحيح. وقال الذهبي: لم يثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الضحك في الصلاة خبر. وقال أحمد: وحديث الأعمى الذي وقع في البئر مدرج، ومدار حديثه [على] أبي العالية، وقد اضطرب عليه فيه.
قلت: مذهب الشافعي أن المرسل إذا أرسل من وجه، وأسند من وجه آخر يقول به، وهذا الحديث أرسل من وجوه وأسند من طريق فيلزمه أن يقول به. وقال ابن حزم: كان يلزم المالكيين والشافعيين بشدة تواتره يخرج عن عدد مراسيله، قلت: ويلزم الحنابلة أيضا لأنهم يحتجون بالمراسيل، وعلى تقدير أنهم لا يحتجون به ما قيل إن أقل أحواله أن يكون ضعيفا والحديث الضعيف عندهم مقدم على القياس الذي اعتمدوا عليه في هذه المسألة، والعجب منهم أن يقولوا لعلمائنا أصحاب الرأي والقياس وينسبونهم إلى ترك كثير من الأحاديث بالقياس، وهم تركوا حديثا رواه جماعة من الصحابة ما بينا هذا عشرة فأرسله جماعة من التابعين الكبار وعملوا بالقياس. وأما قول أحمد والذهبي فنفي وما رواه أصحابنا إثبات وهو مقدم على النفي، على أنا نقول عدم علم الشخص بشيء لا يكون حجة على من علمه قبله.

م: (وبمثله) ش: أي وبمثل هذا الحديث الذي علمه الصحابة والتابعون. ولأن رواية من كان معروفا بالفقه والتقدم في الاجتهاد كأبي موسى وأصحابه م: (يترك القياس) ش: أي القياس الذي ذهب إليه الشافعي وغيره م: (والأثر) ش: أي الحديث المذكور م: (ورد في صلاة مطلقة) ش: أي كاملة م: (فيقتصر عليها) ش: أي على الصلاة المذكورة فلا يتعدى إلى صلاة الجنازة وسجدة التلاوة، وصلاة الصبي، وصلاة الباني بعد الوضوء على أحد الروايتين، وصلاة النائم؛ فإن الوضوء لا يفسد في جميع ذلك، وقوله: والأثر إلى آخره في الحقيقة جواب عن قياس الشافعي على صلاة الجنازة وسجدة التلاوة كما حققنا.

(1/295)


والقهقهة ما يكون مسموعا له ولجيرانه والضحك ما يكون مسموعا له دون جيرانه وهو على ما قيل يفسد الصلاة دون الوضوء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والقهقهة ما كان مسموعا له ولجيرانه) ش: وأشار بهذا إلى تعريف القهقهة التي تفسد الصلاة والوضوء جميعا م: (والضحك ما يكون مسموعا له) ش: أي للضاحك دل عليه قوله: لأنه لا يقوم إلا بالضحك م: (دون جيرانه) ش: أراد أن لا يسمعه من كان حوله م: (وهو) ش: أي الضحك م: (على ما قيل) ش: في حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن الضحك م: (يفسد الصلاة دون الوضوء) ش: يعني لا ينتقض ثم إنه فرق بين القهقهة والذكر، ولم يذكر التبسم لأنه ليس بمفسد للصلاة ولا للوضوء فليس له ههنا مدخل.
وروى الطبراني وأبو يعلى الموصلي والدارقطني من حديث جابر «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي بأصحابه العصر فتبسم في الصلاة، فلما انصرف، قيل: يا رسول الله تبسمت وأنت تصلي قال: "إنه مر بي ميكائيل وعلى جناحه غبار فضحك لي فتبسمت» . وهو راجع من طلب القوم.
وفي " معجم الطبراني " ذكر جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مكان ميكائيل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ثم يسوي في القهقهة العمد والنسيان والسهو سواء بانت أسنانه أو لا. ويبطل التيمم أيضا دون الاغتسال وقيل يبطل الوضوء في الغسل أيضا حتى لا يجوز الصلاة بغير وضوئه، وبقولنا قال أبو موسى الأشعري والحسن البصري وإبراهيم النخعي وسفيان الثوري ومحمد بن سيرين والأوزاعي وعبيد الله.
فروع: لواحق من النواقض التي عند غير أصحابنا لم يذكرها صاحب " الهداية " منها: مس الذكر معابة لا ينقض الوضوء عندنا، وهو قول عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، وعمار بن ياسر، وزيد بن ثابت، وحذيفة بن اليمان، وعمران بن الحصين، وأبي الدرداء، وسعد بن أبي وقاص عند أهل الكوفة وأبي هريرة في رواية عنه، هكذا حكاه أبو عمر بن عبد البر، ومن التابعين الحسن البصري، وسعيد بن المسيب وهو مذهب سفيان الثوري. وقال الطحاوي: لم يعلم أحد من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفتى بالوضوء منه غير ابن عمر، وقد خالفه في ذلك أكثر أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقال الشافعي وأحمد وداود: يجب الوضوء منه.
واختلف أصحاب مالك في ذلك: منهم من شرط اللذة وباطن الكف، ومنهم من أوجب

(1/296)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ذلك في العمد دون النسيان، مروي عن مالك وداود، وقيل: الوضوء منه سنة غير واجب وهو الذي استقر عليه قول مالك عند أهل العرب، والرواية عنه مضطربة فيه لهم من ذلك حديث بسرة بنت صفوان بن نوفل خالة مروان أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من مس ذكره فليتوضأ» . رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه وأحمد والترمذي وصححه، ولم يخرجه الشيخان، ورواه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وابن الجارود من حديثها، ونقل عن البخاري أنه أصح شيء في هذا الباب، وصححه أيضا يحيى بن معين فيما حكاه ابن عبد البر.
قال البيهقي: هذا الحديث لم يخرجه الشيخان لاختلاف وقع في سماع عروة عنها، أو من مروان فقد احتجا بجميع رواته واحتج البخاري بمروان بن الحكم في عدة أحاديث، فهو على شرط البخاري بكل حال.
والجواب عن ذلك أن طريق حديث أبي داود والنسائي عن مالك عن عبيد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عروة بن الزبير قال: دخلت على مروان فذكرت ما يكون عند الوضوء فقال مروان: أخبرتني بسرة بنت صفوان أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من مس ذكره فليتوضأ» . وطريق الترمذي وابن ماجه عن هشام بن عروة عن أبيه عن مروان عن بسرة وأن في الإسناد الأول أبي بكر بن عبيد الله، قال سفيان بن عيينة فيه: إنه من الجماعة الذين لم يكونوا يعرفون الحديث. وقد رأيناه يحدث عنهم سخرنا منه. رواه الطبراني بإسناده عن ابن عيينة، ثم أخرجه الأوزاعي حدثني الزهري حدثني أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال: فثبت انقطاع هذا الخبر وضعفه.
وفي السند الثاني: فإن النسائي قال: لم يسمع هشام من أبيه هذا الحديث، وقال الطحاوي: إنما أخذه هشام من أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم حدثني عروة فرجع الحديث إلى أبي بكر.
فإن قلت: يشكل عليه رواية الترمذي عن يحيى بن سعيد القطان عن هشام بن عروة قال: أخبرني أبي عن بسرة، وكذلك رواية أحمد في "مسنده " حدثنا يحيى بن سعيد عن هشام قال:

(1/297)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
حدثني أبي أن بسرة بنت صفوان أخبرته، قال البيهقي في "سننه ": رواه يحيى بن سعيد القطان عن هشام بن عروة عن أبيه، فصرح فيه بسماع هشام من أبيه.
قلت: أخرجه الطحاوي أيضا من خمس طرق عن هشام بن عروة عن أبيه عن بسرة ثم قال إن هشام بن عروة لم يسمع هذا الحديث عن أبيه، عروة ثقة ثبت لم ينكر عليه شيء إلا بعدما صار إلى العراق، فإنه انبسط في الرواية عن غير أبيه فأنكر ذلك عليه أهل بلده، وكان يشهد أنه أرسل عن أبيه مما كان يسمعه من غير أبيه. وقال ابن خراش: كان مالك لا يرضاه وكان هشام صدوقا يدخل أخباره في الصحيح، بلغني أن مالكا نقم عليه حديثه لأهل العراق، والبيهقي حط على الطحاوي ينسب هشاما إلى التدليس، فقال: وأين يكون إذا يرويه عن أبي بكر وأبو بكر ثقة حجة عند كافة أهل العلم بالحديث، وإنما يضعف الحديث بأن يدخل الثقة بينه وبين من فوقه مجهولا أو ضعيفا فإذا أدخل ثقة معروفا قامت به الحجة.
قلت: اعترف البيهقي بالتدليس في الحديث المذكور، ولكن تحامله على الطحاوي الذي دعاه إلى ما قاله، وكيف يقول هذا ولا يخلصه من التدليس أن يكون بين الراوي وبين المروي عنه واحد أو أكثر سواء كان الواسطة ثقة أو ضعيفا، فانظر إلى تمثيل ابن الصلاح في صورة التدليس ترى فيه صحة ما قلنا على أن البيهقي قال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: سمعت أبا منصور العناني يقول: سمعت الفضل بن محمد الشعراني يقول: سمعت أحمد بن حنبل يقول: حدثني يحيى بن سعيد عن شعبة قال: لم يسمع هشام بن عروة حديث أبيه في مس الذكر. قال يحيى: فسألت هشاما فقال أخبرني أبي بهذا. شعبة صرح بأن هشاما لم يسمع هذا الحديث من أبيه عروة، فكيف يكون قول يحيى سمع من أبيه معارضا لقول شعبة أنه لم يسمع أباه.
فإن قلت: رواه عن عروة أيضا غير الزهري وغير هشام، وهو ما رواه الطحاوي حدثنا محمد بن حجاج وربيع المؤذن قال: أخبرنا أسد، قال: حدثنا ابن لهيعة قال: حدثنا أبو الأسود أنه سمع عروة يذكر عن بسرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قلت: أجاب الطحاوي فقال: كيف يحتجون بابن لهيعة، وهو ليس دائما بمرضي لهذا يحتج به في مواضع، وإنه لا يجعلونه حجرا لخصمكم فيما احتج به عليكم. وفي هذا قلب الموضوع.
فإن قلت: ابن لهيعة مرضي عند الطحاوي، ولهذا يحتج به في مواضع من كتابه فيكون الحديث صحيحا عنده من هذا الطريق.
قلت: لا نسلم أنه يحتج به، ولكن يذكره في المتابعات. ولئن سلمنا أنه يحتج به وأنه ثقة عنده فالحديث ضعيف لاضطرابه ويكون المدار على عروة في طريق هذا الحديث، وأيضا إن عروة

(1/298)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لم يرفع بحديث بسرة يعني لم يعتبره ولم يلتفت إليه، وذلك إما لكون بسرة عنده ممن لا يوجد مثل ذلك الحكم عنها، ولو ذلك لكونها انفردت بهذه الرواية مع عموم الحاجة إلى معرفته، وما بال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يقل هذا بين يدي كبار الصحابة، ولم ينقله أحد منهم إنما قاله بين يدي بسرة وقد كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أشد حياء من العذراء في خدرها وإما لكون مروان ليس في حال من يجب القبول عن مثله فإنه خبر شرطي مروان عن بسرة دون خبره عنها فإن كان خبر مروان عنده غير مقبول، فخبر شرطية أخرى أن لا يكون مقبولا.
فإن قلت: مروان احتج البخاري به على ما ذكرنا.
قلت: لا يلزم من ذلك أن يكون ثقة عند عروة وإنما روى عروة خبره لعلة فيه قد ظهرت لعروة ولا سيما حين خرج على عبد الله بن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
فإن قلت: قال ابن حزم مروان لا يعلم له خروج قبل خروجه على ابن الزبير، ولم يكن قط لقي عروة إلا قبل خروجه على أخيه لا بعد خروجه.
قلت: لا دليل على هذه الدعوى، فإذا قام دليل ينظر فيه. والجواب عن تصحيح الترمذي هذا الحديث هو أنه يعارضه قول يحيى بن معين، قلت: ثلاثة أحاديث لا تصح عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منها هذا، ويحيى بن معين هو العمدة في هذا الشأن، وإليه المرجع في التصحيح والتضعيف.
فإن قلت: قال بعض من عنده تعصبا فاسدا من أهل هذا الزمان سئل بعض المخالفين عن يحيى بن معين أنه قال: ثلاثة أحاديث لا تصح: حديث مس الذكر، ولا نكاح إلا بولي، وكل مسكر حرام. وقال: يعرف هذا عن سفيان ولا يعرف هذا عن ابن معين.
قلت: لم يقم الدليل على ذلك حتى ينظر فيه على أن الإثبات مقدم على النفي، وبذلك يجاب عن قول ابن الجوزي أيضا أن هذا لا يثبت عن ابن معين، والجواب عن قول البخاري أنه أصح شيء في هذا الباب، أن مراده هو على كلامه أصح من غيره من أحاديث الباب، وقد اعتد ابن العربي بهذه العبارة فحكى عن البخاري تصحيحه، وليس كذلك، فإن البخاري لو رضي به لأخرجه في صحيحه ولم يخرجه هو، ولا مسلم، ولئن تنزلنا وسلمنا بثبوته فتأويله من بال فيحمل مس الذكر كناية عن البول، لان من يبول يمس ذكره عادة لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء: 43] (النساء: الآية 43) ولكنى به عن الحدث، أو يكون المراد من قوله: "فليتوضأ" غسل اليدين كما في قوله: «الوضوء قبل الأكل ينفي الفقر» .

(1/299)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: قال ابن حبان وليس المراد غسل اليدين وإن كانت العرب تسمي غسل اليدين وضوءا على أن في حديث بسرة فليتوضأ وضوءه للصلاة. قلت: استضعفه الطحاوي وجعله منقطعا كما ذكرنا، وعلى كل تقدير حديث بسرة معلول، وقال في " الإمام " هو عند البخاري معلول، وقال إبراهيم الحربي: حديث بسرة يرويه شرطي عن شرطي. وكان ربيعة يقول ويحكم بمثل هذا ما أخذ أحد ويعمل به لو شهدت بسرة على هذا البقل ما قبلت شهادتها. إنما قوام الدين الصلاة والصلاة بالطهور فلم يكن في أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من يقيم هذا الدين إلا بسرة، قال: حديث بسرة ضعفه جماعة. وقال ربيعة: لو وضعت يدي في دم أو حيض لم ينقض وضوئي فمس الذكر أيسر منه. وروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لحديث امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت، أحفظت أم نسيت. ويروى أن الأسود بن زيد أخذ كفا من حصى وحصب به الشعبي وقال: ويلك تحدث بمثل هذا.
فإن قلت: في هذا الباب عن أم حبيبة وأبي موسى، وأبي هريرة، روى ابنه أنيس وعائشة، وزيد بن خالد، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن عمر، وطلق بن علي، وابن عباس، وسعد بن أبي وقاص، وأم سلمة، والنعمان بن بشير، ومعاوية بن حيدة، وأبي بن كعب، وقبيصة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فحديث أم حبيبة عند ابن ماجه قالت: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من مس فرجه فليتوضأ» ، وأخرجه الطبراني أيضا، وصححه أبو زرعة والحاكم.
قلت: أعله البخاري لأن فيه مكحولا عن عتبة قال: لم يسمع عتبة بن أبي سفيان، وكذا قال يحيى بن معين، وأبو حاتم، والنسائي أخرجه الطحاوي وقال: منقطع.
وحديث أبي موسى عند ابن ماجه أيضا قال: سمعت النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يقول: «من مس فرجه فليتوضأ» . وفيه إسحاق بن أبي فروة متروك باتفاقهم واتهمه بعضهم بالوضع.
وحديث أبي هريرة عند ابن حبان قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أفضى أحدكم بيده إلى

(1/300)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فرجه وليس بينهما ستر، ولا حائل فليتوضأ» . ورواه الحاكم في "مستدركه " وصححه، ورواه أحمد في "مسنده "، والدارقطني في "سننه "، والبيهقي أيضا، ولفظه فيه: «من أفضى بيده إلى فرجه وليس دونها حجاب فقد وجب عليه وضوء الصلاة» . وفيه يزيد بن عبد الملك، وقد أغلظ العلماء القول فيه، فقال أبو زرعة: واهي الحديث، وقال النسائي: متروك الحديث، وقال ضعيف سند الحديث، واختلط بآخره، فإذا عرفت تساهل ابن حبان والحاكم في الصحيح.
وحديث أروى عند ابن المنذر وأبي نعيم الأصبهاني عن هشام بن عروة عن أبيه عن أروى بنت أنيس عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «من مس فرجه فليتوضأ» . وذكرها ابن الأثير في الصحابيات ثم ذكر هذا الحديث، ثم قال: وقيل أبو أروى الذؤابي حجازي، وهذا كما ترى فيه خلاف، وسئل الترمذي والبخاري عنه فقال: ما يصنع بهذا ألا تشتغل بغيره وحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عند الدارقطني في "سننه " عن عائشة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ويل للذين يمسون فروجهم ثم يصلون ولا يتوضؤون قالت عائشة بأبي وأمي هذا للرجال أفرأيت النساء قال إذا مست إحداكن فرجها فلتتوضأ للصلاة» وفيه عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن جعفر العمري، قال أحمد: كان كاذبا، وقال أبو حاتم وأبو زرعة: متروك، زاد أبو حاتم: وكان يكذب. وقد روى أبو يعلى في "مسنده " ما ينافيه من حديث «سيف بن عبد الله الحميري قال دخلت أنا ورجل معي على عائشة فسألناها عن الرجل يمس فرجه أو المرأة تمس فرجها فقالت سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول ما أبالي إياه مسست أو أنفي» .
وحديث زيد بن خالد الجهني عند أحمد في "مسنده " عن ابن إسحاق حدثني محمد بن

(1/301)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مسلم الزهري عن عروة بن الزبير عن زيد بن خالد الجهني سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من مس فرجه فليتوضأ» . ورواه البزار والطبراني، وقال ابن المديني: أخطأ فيه ابن إسحاق، وأخرجه الطحاوي أيضا، وقال: إنكم لا تجعلون محمد بن إسحاق حجة في شيء إذا خالفه فيه من خالفه في هذا الحديث ولا رضي إذا انفرد، ونفس هذا الحديث منكر، وأخلت به أن يكون غلطا، لأن عروة حين سأله مروان عن مس الفرج أجابه من رواية أن لا وضوء فيه، فلما قال له مروان عن بسرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما قال قال له عروة: ما سمعت به وهذا بعد موت زيد بن خالد بكم ما شاء الله فكيف يجوز أن ينكر عروة على بسرة ما قد حدثه إياه زيد بن خالد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال البيهقي في كتاب "المعرفة ": وروى الطحاوي حديث زيد بن خالد الجهني من جهة محمد بن إسحاق بن يسار، ثم أخذ في الطعن على ابن إسحاق، وأنه ليس بحجة ثم ذهب إلى أنه غلط.
قلت: فيها الطعن من البيهقي كيف يفهم كلام المحققين، وكيف طعن الطحاوي على ابن إسحاق، والذي ذكره الطحاوي ليس طعنا منه فيه، وإنما قال للخصم: أنتم لا تجعلون محمد بن إسحاق حجة، وهذا القول لا يستلزم الطعن منه فيه، وإنما اشتهر بذلك عسكر الخصم، حيث يجعل محمد بن إسحاق حجة عند كون الحديث له، ويتركه ويطعن فيه عند كون الحديث حجة عليه، ولئن سلمنا أنه طعن فيه فما هو بأول طاعن فإن مالكا قال فيه: من الدجاجلة. وقال الخطيب قد أمسك عن الاحتجاج بروايات ابن إسحاق غير واحد من العلماء، بأسباب منها: أنه كان يتشيع، وينسب إلى القدر، ويدلس في حديثه، فأما الصدق فليس بمرفوع عنه. وقال الذهبي فيما انفرد به نكارة وهو سيئ في حفظه.
وحديث جابر عند ابن ماجه عن جابر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ» . وأخرجه الطحاوي وأعله بالإرسال، وقد قال الشافعي: سمعت جماعة من الحفاظ غير أبي نافع يرويه، ولا يذكرون فيه جابرا وهم لا يحتجون بالمرسل.
وحديث عبد الله بن عمرو عند أحمد والبيهقي عن عتبة بن الوليد عن محمد بن الوليد

(1/302)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الزبيدي حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما رجل مس فرجه فليتوضأ وأيما امرأة مست فرجها فلتتوضأ» . وأخرجه الطحاوي وقال لهم: أنتم تزعمون أن عمرو بن شعيب لم يسمع من أبيه شيئا عنه، وإنما حديثه عن صحيفة فهذا غير قولكم منقطع، والمنقطع لا يجب أن ترونه حجة عندكم.
فإن قلت: إذا كان الطحاوي يحتج بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فما باله لم يقل لم يعمل بحديثه هذا.
قلت: لأنه عارضه حديث طلق بن علي فلم يكن العمل به لتأخر حديث طلق عنه، فثبت بذلك انتساخ أحاديث الانتقاض بمس الفرج.
فإن قلت: حديث أبي هريرة الذي ذكرناه في هذا الباب ناسخ لحديث طلق لأن طلقا قدم على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ابتداء الهجرة والمسجد على العريش وأبو هريرة أسلم سنة سبع من الهجرة فكان حديثه متأخرا والأخذ بأحد الأمرين واجب لأنه ناسخ. والطبراني أيضا مال إلى أن حديث طلق منسوخ. قلت: روى أبو داود «عن ابن طلق عن أبيه قال: قدمنا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجاء رجل كأنه بدوي فقال: يا نبي الله: ما ترى في مس الرجل ذكره بعدما توضأ، قال: "هل هو إلا بضعة منك أو بضعة منه» ففي قوله ما ترى إلى آخره، دلالة على أنه كان بلغه أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شرع فيه الوضوء فأراد أن يتيقن ذلك، وإلا فالمستقر عندهم أن الأحاديث إنما كان من الخارج النجس وإلا فالعقل لا يهتدي إلى أن مس الذكر يناسبه نقض الوضوء، فعلى هذا يكون حديث طلق هو آخر الأمرين. وكان أبو هريرة تأخر سمعه من بعض الصحابة ثم أرسله.
وجواب آخر: دعوى النسخ إنما يصح بعد ثبوت صحة الحديث ونحن لا نسلم صحة حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وحديث عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عند الدارقطني في "سننه " عن رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من مس ذكره فليتوضأ وضوء الصلاة» .

(1/303)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ورواه الطبراني في "الكبير " والبزار في "مسنده " ولفظهما: «من مس فرجه فليتوضأ» . وأخرجه الطحاوي أيضا وأعله بصدقة بن عبد الله في سنده، وفي سند الطبراني العلائي بن سليمان، وفي سند البزار هاشم بن زيد وكلاهما ضعيفان جدا، وحديث طلق بن علي عند الطبراني، وفي الكبير أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من مس ذكره فليتوضأ» .
قلت: يعارضه حديثه الآخر رواه أبو داود والترمذي والنسائي عن ملازم بن عمرو عن عبد الله بن زيد عن قيس بن طلق بن علي عن أبيه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أنه سئل عن الرجل يمس ذكره في الصلاة، فقال: "هل هو إلا بضعة منك» . وقال الترمذي: هذا الحديث أحسن شيء في هذا الباب. ورواه ابن حبان في "صحيحه ".
وحديث ابن عباس عند البيهقي من جهة ابن عدي في " الكامل " وفي إسناده الضحاك بن حمزة وهو منكر الحديث، وحديث سعد بن أبي وقاص عند الحاكم وحديث أم سلمة عند الحاكم. وحديث النعمان بن بشير عند ابن منده، وأما حديث معاوية بن حيدة وحديث أبي بن كعب، وحديث قبيصة هذه الأحاديث كلها لا تخلو عن علة، والحديث الذي عليه العمدة حديث طلق، وقد ذكرنا الآن عن الترمذي ما قاله.
وذكر عبد الحق في "أحكامه " حديث طلق وسكت عنه فهو صحيح عنده على إعادته، وروي عن عمرو بن علي الفلاس أنه قال: حديث طلق عندنا أثبت من حديث بسرة، وتضعيف الخصم حديث طلق من جهة الطريق الذي فيه أيوب بن عتبة ومحمد بن جابر وهما ضعيفان ولا يضر ذلك، لأن حديث طلق له أربعة طرق:
أحدها: عند أصحاب السنن عن ملازم بن عمرو. كما ذكرنا وهو صحيح.

(1/304)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والثاني: عن محمد بن جابر وهو ضعيف أخرجه ابن ماجه من هذا الطريق.
والثالث: عن عبد الحميد بن جعفر وهو ضعيف أخرجه ابن عدي.
والرابع: عن أيوب بن عتبة وهو ضعيف. وأخرجه الطحاوي بالطريق الأول: قال هذا حديث مستقيم الإسناد غير مضطرب في إسناده، ولا شبه ثم أسند عن علي بن المديني أنه قال: حديث ملازم بن عمرو أحسن من حديث بسرة.
ولنا حديث آخر ولكنه ضعيف رواه أبو أمامة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رجلا سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إني مسست ذكري وأنا أصلي فقال: "إنما هو حدبة منك» قال ابن الأثير، قيل: هي بالكسر ما قطع من اللحم طولا.
ومن نواقض الوضوء عند الشافعي: مس المرأة على ما نذكره مفصلا وهو يحتج بدلائل وحجج، ونحن نحتج كذلك فإذا قطعنا النظر عن الكل يكفينا حديث عائشة المشهور رواه البخاري ومسلم من حديث أبي سلمة «عن عائشة قالت: كنت أنام بين يدي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورجلاي في قبلته، وإذا سجد غمزني قبضت رجلي، فإذا قام بسطتها» والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح. وفي لفظ: «فإذا أراد أن يسجد غمز رجلي فضممتها إلي ثم سجد» . طريق آخر أخرجه مسلم عن أبي هريرة «عن عائشة قالت: "تقدمت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات ليلة فجعلت أطلبه بيدي فوقعت يدي على قدميه وهما منصوبتان وهو ساجد» . للحديث طريق آخر رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن عروة عن عائشة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل امرأة من نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ قال عروة، فقلت لها من هي إلا أنت فضحكت» .
طريق آخر أخرجه أبو داود والنسائي عن الثوري عن أبي روق عن إبراهيم التيمي عن عائشة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقبل بعض نسائه ثم يصلي ولا يتوضأ» .
ولحديث عائشة طريق آخر وما ذهب إليه الشافعي يروى عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وابن عمر وزيد بن أسلم ومكحول، والنخعي، وعطاء بن السائب، والزهري، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وربيعة، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن

(1/305)


والدابة تخرج من الدبر ناقض، فإن خرجت من رأس الجرح، أو سقط اللحم منه لا ينقض. والمراد بالدابة الدودة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عباس، وأبي موسى الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في الذي صححه أبو بكر بن الحربي، وابن الجوزي، ومذهب عبيدة السلماني بفتح العين المهملة، وعبيدة الضبي بالضم وعطاء وطاووس والحسن البصري، والشعبي، والثوري، والأوزاعي، أن اللمس والملامسة كناية عن الجماع، ولا يجب الوضوء على مس المرأة أو تقبيلها إذا تيقن بعدم خروج المذي، وبه قال أصحابنا. وذهب مالك إلى أنه إن لمس بشهوة ينتقض وإلا فلا، وهو مروي عن الحكم وحماد والليث وإسحاق، وعن أحمد ثلاث روايات بالمذاهب الثلاثة. وذهب داود إلى أنه إن لمس عمدا انتقض، وإلا فلا، وعن الأوزاعي إذا لمس بأعضاء الوضوء انتقض، وإلا فلا، وروي عنه أنه لا ينتقض إلا باللمس باليد.
وذهب عطاء إلى أنه إن لمس من يحل له انتقض وحجة الجمهور قَوْله تَعَالَى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] (النساء: الآية 43) فالملامسة واللمس الجماع. وقال ابن رشد المالكي: وإن كانت دلالته على المعنيين على السواء أو قريبا من اللمس المسمى الأظهر عندي في الجماع؛ لأن الله تعالى قد كنى بالمباشرة والمس بالجماع، ولا فرق بين اللمس والمس في اللغة، ولأن الملامسة ظاهرة في الجماع، والمس سبب الجماع؛ لأنه محرك للشهوة، وذكر السبب وإرادة المسبب من أقوى طرق المجاز. وقال القرطبي: يلزم على مذهب الشافعي أن من ضرب امرأته أو لطمها أن ينقض وضوءه، وهذا لا يقوله أحد فيما أعلم، وحديث عائشة في التقبيل قد مر بطرقه.
ومن النواقض أكل لحم الجزور عند أحمد وإسحاق وأبي ثور ومحمد بن إسحاق ويحيى بن يحيى. وعند الجمهور لا ينقض. ومنها غسل الميت عند أحمد.

م: (والدابة) ش: مبتدأ وهي الدودة التي نبتت في البطن قوله م: (تخرج من الدبر) ش: جملة في محل النصب لأنها حال من الدابة وقوله: م: (ناقض) ش: خبر المبتدأ، فإن قلت: المطابقة شرط بين المبتدأ والخبر في التذكير والتأنيث. قلت: التقدير ههنا خروج الدابة التي تخرج من الدبر ناقض لأن النقض بالخروج لا بنفس الدابة فافهم.
م: (فإن خرجت) ش: أي الدابة، والفاء في فإن خرجت تفسيرية م: (من رأس الجرح أو سقط اللحم منه لا ينقض) ش: لأن عين الخارج ليست بنجسة، وما عليها قليل وهو الناقض في السبيلين معفو عنه في غيرهما، فأشبه الخارج من الجرح الجشاء في عدم النقض، والخارج من الدبر الفساء في نقض الوضوء به.
م: (والمراد بالدابة الدودة) ش: إنما فسر الدابة بالدودة لأن الدابة ما تدب على الأرض، ربما

(1/306)


وهذا لأن النجس ما عليها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يتوهم أن المراد بها ما يدخل الجرح كالذباب فيخرج منه فإنه لا ينقض، ففسره بيانا لذلك.
وقال الأترازي: إنما فسر الدابة بعد أن ذكرها مجملة ولم يقل ابتداء دودة تخرج لأنه بغير لفظ محله، ثم فسرها دفعا لتشنيع البعض بأن الدابة وهي الفرس أو الحمار كيف يخرج من الدبر، أو رأس الجرح. وهذا لأن الدابة في أصل اللغة اسم لكل ماش في الأرض.
ثم قال الأترازي: قال بعض الشارحين: وجدت بخط ثقة إنما فسر الدابة بالدودة لأن الدابة اسم لما يدب على وجه الأرض، فلو لم يفسرها بها لكان لقائل أن يقول المراد بالدابة هي التي تدخل من الذباب في الجرح ثم تخرج، فأما التي تنشأ فيه كان منشأها من الدم وخروجا كخروج الدم، فينتقض بها الوضوء في غير السبيلين، كما إذا خرج من السبيلين وهو أوجه، لكني وجدت بخط ثقة إلى آخر ما ذكرنا.
قلت: نظر الأترازي إلى أول الكلام من غير أن يستوفي ما قاله السغناقي، ثم شنع عليه بهذا التشنيع، وليس له وجه، لأنه قال: ويريد صحة هذا التفسير ما ذكره شمس الأئمة السرخسي في تعليل هذه المسألة بعلتين في " الجامع الصغير " بعدما ذكر خروجها من الجرح، فقال: بخلاف الدابة التي تخرج من الدبر لا يخلو من قليل بلة فبالنظر إلى العلة الأولى يجب أن لا ينقض الوضوء بالدابة التي تدخل الدبر ثم يخرج لأنها لم تستحل من العذرة، وكذا بالنظر إلى العلة الثانية أيضا لأنه قيد بالبلة وتحتمل أن تخرج بغير بلة، والدليل عليه ما ذكره في " المحيط " أنه إذا دخل العود في دبره وطرفه بيده ثم أخرجه فيه البلة نقض، وإن لم تكن البلة فلا وضوء عليه.
فإذا كان الأمر كذلك كيف يوجه الأترازي أن يشنع تشنيعا غير موجه سعة الغير المعرفة بقوله لأن الذباب الداخل إلى آخره فيطلق كلامه ويسكت عن تفسيره، حتى يتوصل به إلى التشنيع البارد، وهذا أشار به إلى الفرق بين المسألتين وهو قوله.

م: (وهذا لأن النجس ما عليها) ش: أو ما على الدودة، لا يقال إن المصنف ناقض في كلامه، لأنه قال فيما مضى ما لا يكون حدثا لا يكون نجسا. وههنا قال لأن النجس ما عليها، لأنا نقول هذا على قول محمد والذي هناك على قول أبي يوسف، وجوابه وقال الأكمل ويجوز أن يقال أطلق النجس على ما يخرج من الجوف بطريق المشاكلة لما كان بالنسبة إلى الدبر نجسا، ذكر في الخروج لفظ النجس. وقال الأترازي: ويريد به حقيقته اللغوية لا الشرعية، فيكون معناه حينئذ ذلك النجس اللغوي قليله حدث في السبيلين دون غيرهما. قلت: هذا كلام عجيب فمن تأمله يقف على فساده، وذكر السغناقي هنا ثلاثة أوجه، منها على تقدير الشرطية وهي لو كان ثمة نجس فهو ما عليها، ورد عليه الأكمل فقال: وهو غير صحيح لأن على تقدير الشرطية إن كان على هذا الوجه لكن ثمة نجس فيكون ما عليها لم يستقم في الجرح، لأن ما لا يكون حدثا لا يكون نجسا،

(1/307)


وذلك قليل وهو حدث في السبيلين دون غيرهما؛ فأشبه الجشاء والفساء بخلاف الريح الخارجة من القبل والذكر، لأنها لا تنبعث عن محل النجاسة حتى لو كانت المرأة مفضاة فيستحب لها الوضوء احتياطا لاحتمال خروجها من الدبر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وهو ليس بحدث في الجرح فلا يكون نجسا.
وإن كان على هذا الوجه لكن لم يكن نجس ما عليها فلا يكون نجسا لم يستقم في الدبر لأنه نجس وحدث.

م: (وذلك) ش: أي الذي عليها م: (قليل وهو حدث في السبيلين دون غيرهما) ش: أي دون غير السبيلين فإن القليل ليس بحدث في غيرهما م: (فأشبه الجشاء والفساء) ش: هذا لف ونشر فإن قوله الجشاء يرجع إلى القليل على الدود من غير السبيلين، والفساء يرجع إلى السبيلين. والجشاء على وزن فعال. وقال الأصمعي: كأنه من باب العطاس والبوال والدوار.
قلت: هو مهموز اللام يقال: تجشى تجشية وتجشا، والاسم الجشية مثل الهمزة. والفساء بالمد أيضا على وزن فعال اسم من فسا يفسو فسوا وهو معتل اللام الواوي. والجشاء صوت مع الريح يخرج من الفم عند الشبع. والفساء ريح منتنة تخرج من الدبر بلا صوت وربما يكون الجشاء منتنا أيضا لكثرة الامتلاء وفساد المعدة م: (بخلاف الريح الخارجة من القبل) ش: أي من قبل المرأة والذكر م: (لأنها لا تنبعث من محل النجاسة حتى لو كانت المرأة مفضاة) ش: أي التي صارت سبيلاها واحدا، وفي " الكافي " المفضاة هي التي اتحد مسلكا بولها وغائطها وخرجت من قبلها ريح منتنة. وفي " البدائع " وهي التي صار مسلك البول والوطء واحدا م: (فيستحب لها الوضوء احتياطا لاحتمال خروجها من الدبر) ش: فيكون فساء، ولا يجب لأنها كانت على وضوء بيقين ولا يزول إلا بيقين مثله.
فإن قيل: ينبغي أن يجب الوضوء في الريح مطلقا كما قال الشافعي لعموم قوله «- عَلَيْهِ السَّلَامُ - حين سئل عن الحدث قال: ما يخرج من السبيلين» والعبرة في النصوص بعين النص لا بمعناه.
قلنا: عن محمد أنه يجب الوضوء. ومن المشايخ من قال في المفضاة إذا كان الريح منتنا يجب الوضوء وما لا فلا. والدودة الخارجة من قبل المرأة بمنزلة الريح على الخلاف المذكور. والخارجة من ذكر المرء لا وضوء فيها والخارجة من الفم قيل: لا ينقض وكذا الخارجة من الأنف والأذن لا ينقض الوضوء.
قلت: ينبغي أن يكون عدم النقض عند عدم البلة فافهم.
ثم اعلم أنهم اختلفوا في أن عين الريح نجس أو متنجس، فمن قال: متنجس وقال بنجاسة عينها، قال: يتنجس السراويل. ومن قال بطهارة عينها لم يقل به كما لو مرت الريح بنجاسة ثم

(1/308)


فإن قشرت نفطة فسال منها ماء أو صديد أو غيره إن سال عن رأس الجرح نقض الوضوء، وإن لم يسل لا ينقض، وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - ينقض في الوجهين. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا ينقض في الوجهين وهي مسألة الخارج من غير السبيلين. وهذه الجملة نجسة لأن الدم ينضج فيصير قيحا، ثم يزداد نضجا فيصير صديدا، ثم يصير ماء هذا إذا قشرها فخرج بنفسه، وأما إذا
هذا إذا قشرها فخرج بنفسه، وأما إذا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مرت بثوب مبتل فإنه لا ينجس بها. وفي قول المصنف لاحتمال خروجها من الدبر.
فائدة أخرى: وهي أن المفضاة إذا طلقها زوجها ثلاثا وتزوجت بآخر ودخل بها الزوج الثاني لا تحل للأول ما لم تحمل لاحتمال أن الوطء كان في دبرها لا في قبلها كذا في " الفوائد الظهيرية ".

م: (فإن قشرت نفطة) ش: إنما ذكرها بالفاء لأنها من فروع المسائل السابقة، والنفطة بالحركات الثلاث في نونها يخرج البدن ملآن من قولهم انتفط فلان أي امتلأ غضبا، ثم النفطة إذا قشرت م: (فسال منها ماء أو صديد أو غيره) ش: نحو القيح م: (إن سال عن رأس الجرح نقض الوضوء وإن لم يسل لا ينقض) ش: أراد إن لم يتجاوز عن رأس الجرح لا ينقض الوضوء.
وعن أبي حنيفة: إذا خرج ماء صاف لا ينقض، وإن سال. م: (وقال زفر ينقض في الوجهين) ش: يعني سال عن رأس الجرح أو لم يسل.
م: (وقال الشافعي لا ينقض في الوجهين) ش: بناء على أصله م: (وهي) ش: أي هذه المسألة هي م: (مسألة الخارج من غير السبيلين) ش: بالخلاف المذكور فيها فيما تقدم، وإنما أعادها ههنا وإن كانت تعلم مما تقدم ليعلم الفرق بين الخارج والمخرج، أو لأن الماء لم يذكر من قبل فأعادها ليعلم ههنا أن حكم الماء حكم غيره.
م: (وهذه الجملة) ش: أي الماء والصديد وغيرهما م: (نجسة لأن الدم ينضج فيصير قيحا، ثم يزداد نضجا فيصير صديدا، ثم يصير ماء) ش: أشار بهذا إلى أن اللون الأصلي هو الحمرة فيصير دما، ثم بالنضج يصير قيحا، ثم يترقى فيصير صديدا، ثم يزداد النضج فتزول صفته فيصير ماء.
وقال ابن الأثير: القيح المدة، يقال قاحت القرحة. وقال الجوهري: القيح المدة لا يخالطها دم.
وقال ابن الأثير: الصديد الدم وليس كذلك، بل الصديد ماء الجرح الرقيق المختلط بالدم قبل أن تغلظ المدة، يقال: أصد الجرح أي صار فيه المدة قاله الجوهري.

م: (وهذا) ش: أي الذي ذكرنا من النقض م: (إذا قشرها) ش: أي إذا قشر المتوضئ النفطة م: (فخرج بنفسه) ش: أي فخرج الماء أو الصديد أو القيح بنفسه من غير علاج من القاشر م: (وأما إذا

(1/309)


عصرها فخرج بعصره فلا ينقض، لأنه مخرج وليس بخارج والله أعلم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عصرها) ش: أي أما إذا عصر المتوضئ النفطة م: (فخرج) ش: أي أحد الأشياء المذكورة م: (بعصره) ش: أي بسبب عصره لا بنفسه م: (فلا ينقض لأنه مخرج) ش: بضم الميم م: (وليس بخارج) ش: والنقض بسبب الخارج كما عرفت. وهذا الذي ذكره اختيار بعض المشايخ واختاره المصنف أيضا.
وقال آخرون: ينقض. وقال الأكمل: قال بعض الشارحين: وهذا هو المختار عندي لأن الخروج لازم الإخراج، فلا بد من وجود اللازم عند وجود الملزوم، وفيه نظر، لأن الإخراج ليس بمنصوص عليه، وإن كان يستلزمه، فكان ثبوته غير قصدي ولا معتبر به.
قلت: أراد بقوله: قال بعض الشارحين الأترازي فإنه قال في شرحه: وقال في " الفتوى " و" الخلاصة " ينقض، وبعض مشايخنا على هذا، وهذا هو المختار عندي لأن الاحتياط فيه وإن كان الرفق بالناس في الأول، وتحقيقه من عندي أن الخروج لازم الإخراج إلى آخر ما ذكره، وجه النظر ما ذكره وفيه نظر، لأن ثبوت اللازم يستلزم ثبوت الملزوم غير قصدي، والاحتياط في كونه معتبرا لأنه من باب العبادة. وفي " النوازل " و " فتاوى العتابي " عصرت القرحة فخرج منها شيء ولو لم يعصر لا يخرج لا ينقض. ولكن قال: وفيه نظر.
وفي " الجامع" للإمام السرخسي: إذا عصرها فخرج الدم بعصرها انتقض، وهو حدث عمدا كالفصد والحجامة ولا يبني على صلاته، وفي " الكافي " الأصح أن المخرج ناقض.

(1/310)