البناية شرح الهداية

فصل في الغسل وفرض الغسل المضمضة والاستنشاق وغسل سائر البدن وعند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - هما سنتان فيه لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: عشر من الفطرة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في الغسل] [فرائض الغسل]
م: (فصل في الغسل) ش: أي هذا فصل في بيان أحكام الغسل وقد بينا معناه لغة واصطلاحا وإعرابا أيضا فيما تقدم. والغسل بضم الغين اسم من الاغتسال. وبفتح الغين مصدر غسل يغسل من باب ضرب يضرب. وبكسر الغين ما يغسل به من خطمي ونحوه. وقال ابن الأثير: الغسل بالضم الماء الذي يغتسل به كالأكل لما يؤكل، وهو الاسم أيضا من غسله، ويقال: الغسل بفتح الغين وضمها لغتان، والفتح أفصح وأشهر عند أهل اللغة، والضم هو الذي يستعملها الفقهاء أو أكثرهم.
وزعم بعض المتأخرين أن الفقهاء غلطوا في الضم وليس كما قال بل غلط هو في إنكاره ما لم يعرفه، وقيل: بالضم اسم الاغتسال الذي يعم البدن كله ذكره الأزهري. وقال عبد الحق: وقد أولع الفقهاء باتباع المضموم على فعل الغسل لا وجه له، وإنما قدم فصل الوضوء على الغسل لأن الحاجة إلى الوضوء أكثر، ولأن محل الوضوء جزء البدن ومحل الغسل كله والجزء قبل الكل، واقتداء بكتاب الله تعالى، فإنه وقع على هذا الترتيب، أو لأن الوضوء وظيفة الحدث الأصغر والغسل وظيفة الحدث الأكبر، والأصغر مقدم على الأكبر بمعنى أنه مقدمة الأكبر ثم ترتيب الغسل عليه باعتبار أنهما طهارتان تعلقتا بالبدن.
م: (وفرض الغسل) ش: بضم الغين أي مفروض الغسل، كما يقال: هذه الدراهم ضرب الأمير أي مضروبه. والواو فيه إما للاستئناف وإما للعطف على قوله: ففرض الطهارة م: (المضمضة والاستنشاق) ش: قد مر تفسيرهما في فصل الطهارة م: (وغسل سائر البدن) ش: أي باقي البدن، وغسل الشيء عبارة عن إزالة الوسخ عنه بإجراء الماء عليه. والحاصل أن فرض الغسل ثلاثة منها: المضمضة والاستنشاق وبه قال الثوري وابن سيرين والليث وابن عرفة وهو مذهب ابن عباس وغيره من الصحابة.
م: (وعند الشافعي هما سنتان فيه) ش: أي في الغسل، وبه قال مالك، وحكاه ابن المنذر عن الحسن البصري، والزهري والحاكم وقتادة وربيعة ويحيى بن سعيد الأنصاري ورواية عن عطاء وأحمد في رواية، وفي رواية أخرى وهي المشهورة أنهما واجبتان وشرطان لصحتهما، وهو مذهب ابن أبي ليلى وحماد وإسحاق، وقال أبو ثور وأبو عبيد وداود: الاستنشاق واجب في الوضوء والغسل دون المضمضة وهو رواية ثالثة عن أحمد. وقال ابن المنذر: وبه أقول.
م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «عشر من الفطرة» ش: هذا الحديث رواه الجماعة إلا البخاري ورواه

(1/311)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
مسلم وأبو داود وابن ماجه في الطهارة والترمذي في الاستئذان، وقال: حديث حسن. والنسائي في الزينة كلهم عن مصعب بن شبيب عن طلق بن حبيب عن عبد الله بن الزبير عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -. قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، والاستنشاق بالماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء، قال مصعب: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة» .
وأخرج أبو داود وابن ماجه من حديث علي بن زيد عن سلمة بن محمد بن عمار بن ياسر عن عمار بن ياسر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من الفطرة المضمضة، والاستنشاق، والسواك، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط، والاستحداد، وغسل البراجم، والانتضاح بالماء، والاختتان» ورواه أحمد في "مسنده " والطبراني في "معجمه " والبيهقي في "سننه "، وشراح الكتاب المشهورون لم يذكر أحد هذا الحديث بنصه ولا ذكروا من رواه، ولا كيف حاله، وأعجب من ذلك كله يفسرون العشر بقولهم خمس منها في الرأس، وخمس في الجسد، فالتي في الرأس الفرق، والسواك، والمضمضة، والاستنشاق، وقص الشارب، والتي في الجسد: الختان، وحلق العانة، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار، والاستنجاء بالماء. وذكروا الفرق ولم يذكروا الحديث المذكور وإعفاء اللحية. وذكر في الحديث المذكور وذكر الاختتان في حديث أبي داود.
وقوله: «عشر من الفطرة» مبتدأ وخبر.
فإن قلت: عشر كيف يكون وقع مبتدأ، وقد علم أن العدد إذا ذكر وأريد به المعدود فهو غير علم، وهو منصرف، كقولك: عندي ستة، لأن المراد بهذه الستة هو المعدود وليس العدد، لأن العدد ليس شيئا يكون وقع مبتدأ.
قلت: لأنه أريد به المعدود المعروف فيكون علما فيقع مبتدأ وقد علم أن العدد إذا ذكر وأريد به المعدود فهو غير علم فهو منصرف كقولك عندك ستة لأن المراد بهذه الستة هو المعدود لا العدد لأن العدد ليس شيئا يكون عندك، وإذا أريد به العدد فيحتمل أن يكون ستة من الدراهم، أو الدنانير أو غيرهما. فإذا كان كذلك يكون نكرة، وأما إذا أريد به العدد المعروف يكون علما غير منصرف للعلمية والتأنيث، تقول: عشرة ضعف خمسة، عشر، هنا منصرف لعدم التأنيث، ثم إنه يفسر باسم جمع وهو نحو خصال، والتقدير عشر خصال من الفطرة وقد علم أن عشر وأخواته إذا فسر باسم جنس أو اسم مؤنث لا يقال بالتاء، نحو ثلاث من التمر، وعشر من الإبل.

(1/312)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وإذا كان المعدود ما يذكر ويؤنث كحال ولسان وعين يجوز تذكيره، وتأنيثه نحو ثلاثة أحوال، وثلاث أحوال، ويمكن الوجهان في اسم جنس واحدة بالتاء كبقر ونخل فيقال ثلاث من البقر وثلاثة من البقر.
والفطرة: السنة وتأويله أن هذه العشرة من سنن الأنبياء - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - الذين أمرنا أن نقتدي بهم، وأول من أمر بها إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وكلمة من للتبعيض لأن السنن كثيرة. والإعفاء من أعفى وثلاثيه عفا، يقال: عفا الشيء إذا كثر وزاد من ذلك عفا الزرع، وإعفاء اللحية: إرسالها وتوفيرها.
قوله: " والسواك " أي واستعمال السواك.
قوله: " والانتقاص بالماء " بالقاف والصاد المهملة وقد فسره وكيع بأنه الاستنجاء، وقال أبو عبيد: معناه انتقاص البول بسبب استعمال الماء في غسل مذاكيره، وقيل: هو الانتضاح كما في رواية أبي داود والآخرين.
وقال الجمهور: الانتضاح نضح الفرج بماء قليل بعد الوضوء لينفي عنه الوسواس. وقال ابن الأثير أنه روي انتفاص بالفاء والصاد المهملة، وقال في فصل الفاء: قيل الصواب إنه بالفاء، قال: والمراد نضحه على الذكر من قولهم نضح الماء القليل بعضه وجمعهما نقض. وقال النووي في "شرح مسلم ": هذا الذي ذكره شاذ، والصواب هو الأول.
قوله: " ونسيت العاشرة " أي الخصلة العاشرة. والاستحداد: استعمال الحديدة وهي الموسي والمراد بها حلق العانة. وغسل البراجم بفتح الباء الموحدة وبالجيم جمع برجمة بضم الباء وهي عقد الأصابع ومفاصلها كلها، وغسلها تنظيفها من الوسخ، وقال الخطابي: إنه الواجب ما بين البراجم.
وأما الفرق الذي ذكره الشراح فقد وقع في رواية ابن عباس ورواه أبو داود عنه أنه قال: " خمس كلها في الرأس، وذكر فيها الفرق، ولم يذكر إعفاء اللحية " والفرق بالسكون مصدر من فرق شعره إذا جعله فرقتين وقد انفرق شعره في مفرقه وهو وسط رأسه، وأصله من الفرق بين الشيئين وفي " المطالع ": وكانوا يفرقون بالتخفيف أشهر، وقد شددها بعضهم. ثم اعلم أن الحديث المذكور وإن كان مسلم قد أخرجه فقد أثبت فيه ابن منده علتين:
إحداهما: من جهة مصعب فإنه قال النسائي فيه في "سننه " منكر الحديث، وقال أبو حاتم:

(1/313)


أي من السنة وذكر منها المضمضة والاستنشاق ولهذا كانتا سنتين في الوضوء ولنا قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ليس بقوي، ولا يوجد من وثقه.
والثاني: أن سليمان التيمي رواه عن طلق بن حبيب عن أبي الزبير مرسلا هكذا رواه النسائي في "سننه "، ولأجل هاتين العلتين لم يخرجه البخاري، ولم يلتفت مسلم إليهما لأن مصعبا عنده ثقة، والثقة إذا أوصل حديثه يقدم وصله على الإرسال.

م: (أي من السنة) ش: هذا تفسير الفطرة وليس من الحديث، وللفطرة معان بمعنى دين الإسلام وبمعنى الخلق، وبمعنى الاختراع والإبداع. وقال الخطابي فسرها أكثر العلماء بالسنة.
وقال ابن الصلاح: هذا فيه إشكال لبعد معنى السنة من معنى الفطرة في اللغة، فلعل وجهه أن أصله سنة الفطرة أراد بها فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وقال النووي: تفسيرها بالسنة هو الصواب، ففي " صحيح البخاري " عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: «من السنة قص الشارب، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار» ، م: (وذكر منها) ش: أي في الفطرة التي هي السنة م: (المضمضة والاستنشاق ولهذا) ش: أي ولأجل كونهما من السنة م: (كانتا سنتين في الوضوء) ش: عنده وعندنا أيضا وعند أحمد فرض في الوضوء والغسل جميعا.
م: (ولنا قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] ش: (المائدة: الآية 6) أي اغسلوا على وجه المبالغة، والجنب يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع والمذكر والمؤنث، لأنه اسم جرى مجرى المصدر الذي هو الإجناب، يقال: أجنب يجتنب. والجنابة الاسم وهي في اللغة العبد وسمي الإنسان جنبا لأنه نهي أن يقرب مواضع الصلاة ما لم يتطهر، وقيل: لمجانبة الناس حتى يتطهر. قال الجوهري: يقال: أجنب الرجل وجنب أيضا بالضم.
قلت: الجنب صفة مشبهة وهو الذي يجب عليه الغسل بالجماع وخروج المني ويجمع على أجناب وجنبين، قوله {فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] صيغة أمر الجماعة، أصله تطهروا فلما قصد الإدغام قلبت التاء طاء فأدغم في الطاء، واجتلبت همزة الوصل، ومعناه طهروا أبدانكم. قال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في شرحه: قوله: {فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] أمر بالإطهار فكان يجنبه لو كانت هكذا، (ولنا قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] (المائدة: الآية 6) أمر بالإطهار. ثم شرحه بقوله: قوله أمر بالتطهر بضم الهاء لأن أصله تطهروا فأدغمت التاء في الطاء لقرب المخرج، وحتى بهمزة الوصل ليتوصل بها إلى النطق فصار اطهروا.
قلت: غالب النسخ التي عثرنا عليها هكذا، ولنا قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]

(1/314)


وهذا أمر بتطهير جميع البدن
إلا أن ما تعذر إيصال الماء إليه خارج عن قضية النص
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(المائدة: الآية 6) وهو أمر بتطهير جميع البدن إلا ما يتعذر اه. فإن كان الذي نقله هو لفظ المصنف يكون قصده الإشارة إلى أن قوله: فاطهروا من باب التفعل لا من باب الافتعال، ليدل على التكلف والأعمال، ومعناه أن الفاعل تبعا في ذلك الفعل فيحصل ويصير معناه استعمل الشجاعة وكلف نفسه إياها، كذلك استعمل يصير بالتكلف، ثم شرح الأترازي ههنا بقوله: وبعض من لا خبرة له ولا دراية يقرؤه بالإطهار، وما ذلك إلا لحرمانه من العربية والمصنف بريء من عهدته.
قلت: هذا تشنيع بارد وهو تشنيع من لا خبرة له في قواعد العربية قرن الإطهار الذي قواه ذلك التشنيع عليه من باب الافتعال كان أصله الاطهار، فقلبت التاء طاء، وأدغمت الطاء في الطاء على ما هو القاعدة، وهذا الباب أيضا يدل على التكلف والاعتمال ما ليس في كسب فلذلك كما في قَوْله تَعَالَى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286] (البقرة: الآية 286) بكلمة: على وليست بكلمة اللام ما اكتسبت على وكسبت مشكلة اللام. ثم قوله: والمصنف بريء من عهدته أبرد من تشنيعه بغير وجه لأن الذي قرأه بالاطهار هل على أمر كسب خطيئة أنزل حفظه أو ذكر خلاف ما تقتضيه القواعد، وخالف المصنف بغير وجه حتى يبرأ عنه المصنف م: (وهذا أمر بتطهير جميع البدن) ش: أي قَوْله تَعَالَى {فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] أمر لتطهير سائر البدن في حق الجنب حتى تجب عليه المضمضة، والاستنشاق وإيصال الماء إلى باطن السرة، وتحريك الخاتم.
وقد روى أبو داود وابن ماجه من حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن تحت كل شعرة جنابة فاغسلوا الشعر، وأنقوا البشرة» هي ظاهر الجلد فيجب غسل جميعها ولهذا احتج أصحابنا على فريضة المضمضة والاستنشاق في الغسل. وشنع الخطابي ههنا على أصحابنا وقال من يحتج بفرضية المضمضة من الجنابة أن داخل الفم من البشرة، وهذا خلاف قول أهل اللغة لأن البشرة عندهم ما ظهر من البدن وداخل الفم والأنف ليس منها.
قلت: ليس كذلك فإن أصحابنا احتجوا بفريضة الاستنشاق في الجنابة بقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إن تحت كل شعرة جنابة» وفي الأنف شعور، وأما المضمضة فإن الفم من ظاهر البدن بدليل أنه لا يقدح في الصوم فيطلق عليه ما يطلق على البدن، فهذا باعتبار الفرضية لا باعتبار ما قاله الخطابي، ثم استثنى من ذلك ما يتعذر إيصال الماء إليه من البدن بقوله:

م: (إلا أن ما يتعذر إيصال الماء إليه خارج عن قضية النص) ش: أي مقتضى النص وتناوله

(1/315)


بخلاف الوضوء لأن الواجب فيه غسل الوجه والمواجهة فيهما منعدمة، والمراد بما روي حالة الحدث
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
لجميع البدن، لأن البدن اسم للظاهر والباطن سقط لأجل التعذر في إمكان غسله، لأن تكليف ما ليس في الوسع مستحيل كما يسقط الظاهر إذ كان به جراح أو عدم الماء، والأنف والفم يمكن غسلهما فإنهما يغسلان عادة وعبادة نفلا في الوضوء، وفرضها في النجاسة الحقيقية فيتناولهما الأمر وأما القياس فلتعذر إدخال الماء فيهما والعسر معنى كالتعذر لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] (الحج: الآية 78) وفي غسلهما من الحرج ما لا يخفى، ولهذا لا تغسل العين إذا تكحل بالكحل النجس.
وروى أبو داود والترمذي عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «تحت كل شعرة جنابة فبلوا الشعر وأنقوا البشر"، ويروى فاغسلوا الفرق» . وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من ترك موضع شعرة لم يصبه الماء فعل به كذا وكذا من النار" قال علي: فمن ثم عاديت شعري وكان يجزه» رواه أبو داود وأحمد وغيرهما بإسناد حسن.
وروى الدارقطني عن ابن سيرين عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالاستنشاق من الجنابة» .
وروي أيضا عن ابن عباس «أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمضمضة والاستنشاق إن كان جنبا أعاد المضمضة والاستنشاق واستأنف الصلاة عليه أن فرضها في الجنابة» م: (بخلاف الوضوء) ش: جواب عن قياس الشافعي الغسل بالوضوء م: (لأن الواجب فيه) ش: أي في الوضوء م: (غسل الوجه) ش: لا جميع البدن م: (والمواجهة فيهما) ش: أي محل المضمضة والاستنشاق م: (منعدمة) ش: أي معدومة وأهل التصريف يجعلون العدم خطأ مطاوعة، لأن الفعل للمطاوعة، وهو مختص بالعلاج والتأثير، وجوابه معدومة.
م: (والمراد بما روي حالة الحدث) ش: جواب عن حديث الشافعي يحمله على الوضوء أي

(1/316)


بدليل قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنهما فرضان في الجنابة سنتان في الوضوء»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المراد من كونهما سنتين في الوضوء م: (بدليل قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنهما فرضان في الجنابة سنتان في الوضوء» ش: لم يذكر أحد من الشراح أصل هذا الحديث، وإنما قال الأترازي وتبعه الأكمل بدليل ما روي عن ابن عباس وجابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إنهما فرضان في الجنابة نفلان في الوضوء» .
ولفظ الأكمل: سنتان في الوضوء.
وقال السروجي: وأما قول صاحب " الهداية ": (بدليل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنهما فرضان في الجنابة سنتان في الوضوء» فلا يعرف.
قلت: روى الدارقطني ثم البيهقي في "سننيهما " ما يقارب ذلك من حديث بركة بن محمد الجهني عن يوسف بن أسباط عن سفيان عن خالد الحذاء عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المضمضة والاستنشاق للجنب ثلاثا فريضة» .
ورواه الحاكم في المستدرك ولفظه قال: «جعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المضمضة والاستنشاق للجنب ثلاثا فريضة» وقال الحاكم في "المستدرك " وفي " المدخل ": بركة بن محمد الحلبي يروي عن يوسف بن أسباط أحاديث موضوعة.
وقال الدارقطني: حديث بركة باطل لم يحدث به غيره وهو يضع الحديث، وقال البيهقي: رواه الثقات عن سفيان الثوري عن خالد الحذاء عن ابن سيرين مرسلا. وقال الشيخ تقي الدين ابن الإمام: وقد روي هذا الحديث موصولا من غير حديث بركة أخرجه الإمام أبو بركة الخطيب من جهة الدارقطني حدثنا علي بن محمد بن يحيى بن مهران السواق حدثنا سليمان بن الربيع المهدي حدثنا حماد بن سلمة حدثنا سفيان الثوري عن خالد الحذاء عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المضمضة والاستنشاق ثلاثا للجنب فريضة» . قال الدارقطني: غريب تفرد به سليمان بن الربيع عن همام. وروى البيهقي من طريق الدارقطني بسنده عن أبي حنيفة عن عثمان بن راشد عن عائشة بنت محمد عن ابن عباس فيمن نسي المضمضة والاستنشاق قال لا يعيد إلا أن يكون جنبا.
وجواب آخر: عما استدل به الشافعي أن الختان فرض عنده وكذا انتقاص الماء وهو الاستنجاء فرض عنده، فكل جواب له عنهما فهو جواب لنا في المضمضة والاستنشاق.

(1/317)


وسننه أن يبدأ المغتسل فيغسل يديه وفرجه ويزيل النجاسة إن كانت على بدنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
1 -
فروع: جنب اغتسل ولم يتمضمض إلا أنه شرب الماء هل يقوم الشرب مقام المضمضة أجاب أبو الفضل وقال: نعم. وقال الفقيه أبو جعفر: إن بلغ البلل نواحي الفم كما يبلغ له تمضمضا يجوز وما لا فلا.
وقيل: إذا كان الرجل عالما أو مصريا لا يجوز له لأنه يشرب على وجه السنة يمص مصا وإن كان غير عالم أو بدويا يعب الماء عبا فيصل الماء جميع فمه فيجوز، لأن الجنابة تحولت إلى الفم فطهر الفم بشرب الماء.
فرع آخر: والأقلف لا يجب عليه إدخال الماء داخل الجلد لأنه خلقة له وهو المختار.

[سنن الغسل]
[البدء بغسل اليدين في الغسل]
م: (وسننه) ش: أي سنن الغسل م: (أن يبدأ المغتسل) ش: أي من يريد الاغتسال من قبل قَوْله تَعَالَى {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل: 98] (النحل: الآية 98) أي إذا أردت أن تقرأ القرآن والمعنى من شرع في الاغتسال م: (فيغسل يديه) ش: بنصب اللام عطف على قوله أن يبدأ، والفاء للعطف. وقال السروجي: الفاء للتفسير.
قلت: ليس في قوله أن يبدأ إبهام حتى يفسر على ما لا يخفى م: (وفرجه) ش: بنصب فرجه والفرج يتناول القبل والدبر م: (ثم يزيل النجاسة إن كانت على بدنه) ش: وقع في بعض النسخ ويزيل نجاسة إن كانت على بدنه بواو العطف وتنكير النجاسة.
قال السغناقي: قيل والأصح أن يقال ويزيل نجاسته لأن حرف التعريف لا يخلو إما أن يراد به العهد، أو الجنس ولا يجوز الأول؛ لأن قوله إن كانت كلمة الشك يأباه لأن العهد يقتضي التقرير إما ذكرا أو علما.
ولا يجوز الثاني، لأن كون النجاسة كلها في بدنه محال وأقل النجاسة التي ليس دونها أقل وهو الجزء الذي لا يتجزأ غير مرادة، لأنه علل ذلك في الكتاب بقوله كيلا يزداد بإصابة الماء، وهذا الذي ذكرناه لا يزداد عند إصابة الماء، لما أنه ذكر الإمام التمرتاشي في " الجامع الصغير " قال وفي التفاريق عن أبي عصبة لو أصابت النجاسة مثل رؤوس الإبر ثم أصاب ذلك الموضع ماء لم يتنجس.
قلت: هذا الذي ذكره منقول عن الإمام حميد الدين الضرير في شرحه ثم قال السغناقي قلت: إلا أن الرواية بالألف واللام قد ثبتت في النسخ فوجهه أن تحمل الألف واللام على تحسين النظم من غير اعتبار تعريف الجنس وتعريف العهد فكان ينبئ عن معنى التنكير نحو قَوْله تَعَالَى {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5] (الجمعة: الآية 5) ، وقَوْله تَعَالَى {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا} [يس: 33] (يس: الآية 33) ، وحيث وصفها بالجملة الفعلية لبقائها على معنى التنكير، فكانت من قبيل قول

(1/318)


ثم يتوضأ وضوءه للصلاة إلا رجليه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
القائل:
ولقد أمر على اللئيم يسبني
وقال بعض الشارحين: ربما يتعين التنكير إذا انحصرت اللام في التعريفين وليس كذلك، يجوز أن تكون اللام لتعريف الماهية.
فقلت: أراد ببعض الشارحين قوام الدين فإنه قال في شرحه ثم قال الأكمل: هذا ليس بشيء؛ لأن الماهية من حيث هي لا توجد في الخارج، فإما أن توجد في الأقل أو في غيره وذلك فاسد لما مر.
وقال تاج الشريعة: ويزيل نجاسته بدون الألف واللام أولى لأنها عست أن تكون وعست أن لا تكون فذكرها منونة أولى، ثم ذكر وجه الأولوية كما ذكرناه.
قلت: هذا كله تكلف منهم لأن مثل هذا إذا وقع في الكتاب أو في كلام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي هو أفصح الخلائق يستقل وفي غيرهما يوقف على الصواب وإن وقع على غير نهج الصواب يبدل بالصواب.

[الوضوء من سنن الغسل]
م: (ثم يتوضأ وضوءه للصلاة) ش: بالنصب عطفا على أن يبدأ أي مثل وضوئه للصلاة، إنما قاله هكذا كيلا يتوهم إذ يريد به غسل اليدين إلى المرفقين لأنه قد يسمى وضوءا، كما في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الوضوء قبل الطعام ينفي الفقر» ، وقيل احترز به عما روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أن الجنب يتوضأ ولا يمسح رأسه، لأنه لا فائدة فيه لوجود إسالة الماء من بعد وذلك بعدم معنى المسح بخلاف سائر الأعضاء لأن السيل هو الموجود فلم يكن السيل من بعد معدما له.
فإن قلت: لم يعلم من عبارته حال هذا الوضوء هل هو سنة أو فرض.
قلت: غير واجب عندنا فيدخل الوضوء في الغسل كالحائض إذا أجنبت يكفيها غسل واحد ومنهم من أوجبه إذا كان محدثا قبل الجنابة. وقال داود: يجب الوضوء والغسل في الجنابة المجردة بأن يأتي الغلام والبهيمة أو لف ذكره بخرقة فأنزل وفي أحد قولي الشافعي يلزمه الوضوء في الجنابة مع الحدث.
وفي قوله الآخر: يقتصر على الغسل لكن لا يلزم أن ينوي الحدث والجنابة في قوله وفي قول يكفي نية الغسل، ومنهم من أوجب الوضوء بعد الغسل وأنكره علي وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يتوضأ بعد الغسل» ، رواه مسلم والأربعة.
م: (إلا رجليه) ش: يعنى يؤخر غسل رجليه لأن في حديث ميمونة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - على ما

(1/319)


ثم يفيض الماء على رأسه وسائر الجسد ثلاثا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يأتي هكذا «ثم تنحى عن مقامه ذلك فغسل رجليه» .
وهذا يقتضي تأخير غسل الرجلين عن إكمال الوضوء، وبعضهم أجاز التكميل ومنهم الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بظاهر حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا اغتسل من الجنابة بدأ بغسل يديه ثم يتوضأ كما يتوضأ للصلاة ثم يدخل أصابعه في الماء فيخلل بها أصول شعره ثم يفيض الماء على جلده كله» ، رواه البخاري ومسلم.
والعجب من الشافعي كيف اختار التكميل فإن في حديث ميمونة النص على تأخير غسل الرجلين، وحديث عائشة مطلق ومن مذهبه حمل المطلق على المقيد في حادثتين فكيف في حادثة واحدة وهو نقض لأجله، والحديثان صحيحان وليس فيهما كلام.
فإن قلت: كيف التوفيق بين الروايتين عندنا.
قلت: عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أرجح بطول الصحبة والضبط في الحديث. وفي " شرح الوجيز " كلاهما سنة والكلام في الأولى وفي " المجتبى " والأصح أنه إن لم يكن في منبع الماء يتقدم بقدم وهو التوفيق بين الروايتين.
وفي " المبسوط " إنما يؤخر غسلهما إذا كانا فيه حتى لو كان على حجر أو لوح أو آجر لا يؤخر كما ذكره في المتن على ما يأتي م: (ثم يفيض الماء على رأسه وعلى سائر جسده ثلاثا) ش: ثم يفيض بالنصب عطفا على قوله ثم يتوضأ. قوله وسائر جسده أي الباقي أي باقي جسده.
قال أبو منصور الأزهري: وفي " تهذيب اللغة " اتفقوا على أن معنى سائر: الباقي. وقال ابن الصلاح: سائر بمعنى الجميع مردود عند أهل اللغة معدود من غلط ولا يلتفت إلى قول الجوهري أن سائر بمعنى الجميع فإنه ممن لا يقبل قوله فيما ينفرد به وقال السروجي «وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لغيلان الديلمي أسلم على أكثر من أربع اختر منهن أربعا وفارق سائرهن» يعني أن يكون سائر بمعنى الباقي دون الجميع للتناقض، فهذا يؤيد ما ذكره ابن الصلاح وحكم على الجوهري بالغلط في موضعين.
أحدهما: في تفسيره بالجميع، الثاني: في ذكره في سير وحقه أن يذكر في باب سئر مهموز العين لا في معتل العين. قال: لأنه من السؤر الذي هو مهموز العين بمعنى البقية، قلنا له والجوهري لم ينفرد به وقد وافقه أبو المنصور الجواليقي في " شرح أدب الكاتب " أنه بمعنى الجميع، وأنكر أبو علي أن يكون السائر بمعنى السؤر بمعنى البقية لأنها بمعنى الأقل والسائر لأن السائر يقتضى لما كثر والبقية لما قل.

(1/320)


ثم يتنحى عن ذلك المكان فيغسل رجليه هكذا حكت ميمونة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - اغتسال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال ابن سيرين: من جعله سائرا من سار يسير يجوز أن يقول نفيت سائر الأديان أي نفي جميع الأديان.
ثم قال السروجي: كون السائر لما كثر لا يمنع أن يكون من السؤر ويكون قد غلب في السؤر الخاص وهو الغالب في اليسير والكثير كالنجم، والبقية أيضا في القليل بالقلة لأنها فعلية من بقي تقول: ذهب زيد وبقي القوم بعده قلت: ذكره الصاغاني في العباب في سائر مهموز العين ثم قال: وسائر القوم بقيتهم وليس معناه جماعة الناس كما زعم من قصر في اللغة باعا وعناء ففي اختيار الغرائب باعه وهو مشتق من السؤر، فكما أن السؤر البقية والفضلة فكذلك السائر الباقي قوله ثلاثا بالنصب على أنه صفة لمصدر محذوف، أي ثم يفيض الماء ثلاثا أي ثلاث مرات. وكيفية الإفاضة أن يفيض الماء على منكبه الأيمن ثلاثا ثم الأيسر ثلاثا ثم على رأسه وسائر جسده ثلاثا، كذا قاله الحلوائي وقيل يبدأ به ثلاثا ثم الرأس ثم بالأيسر، وقيل يبدأ بالرأس كما أشار إليه القدوري، وهكذا قال في كتب أصحاب الشافعي.

م: (ثم يتنحى عن ذلك المكان) ش: أي ثم يتحول من المكان الذي اغتسل فيه م: (فيغسل رجليه) ش: بنصب اللام م: (هكذا حكت ميمونة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - اغتسال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ش: حديث ميمونة أخرجه الأئمة الستة في كتبهم مطولا ومختصرا عن عبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال حدثتني خالتي «ميمونة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: "أدنيت لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غسله من الجنابة فغسل كفيه مرتين أو ثلاثا ثم أدخل يده في الإناء، ثم أفرغ على فرجه وغسله بشماله، ثم ضرب بشماله الأرض فدلكها دلكا شديدا، ثم توضأ وضوءه للصلاة، ثم أفرغ على رأسه ثلاث حثيات من كفه، ثم غسل سائر جسده، ثم تنحى عن مقامه ذلك فغسل رجليه، ثم أتيته بالمنديل فرده» ، وفي رواية «وضعت للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وضوء الجنابة» . وفي الترمذي " غسلا"، وفي بعض طرقه ماء.
وفي رواية: «ثم دلك بيده الحائط أو الأرض» . وفي رواية «فأتيته بخرقة فلم يردها» . وفي غير رواية الترمذي «فجعل ينفض الماء بيده» . قولها: غسله بكسر الغين وهو ما يغتسل به. قاله الإمام، وقال غيره بضم الغين وهو الماء الذي يغتسل به. قولها: وضوء الجنابة بفتح الواو. وقوله: ثلاث حفنات جمع حفنة وهي ملء الفم.
وفي رواية عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ثلاث حثيات أي ثلاث غرفات، وهي جمع حثية، وفي رواية ثلاث غرفات، وجاء ثلاث غرفات فالغرفات جمع غرفة.
وفي الحديث دليل على استخدام الزوج لزوجته، وفيه تأخير الرجلين عن إكمال الوضوء،

(1/321)


وإنما يؤخر غسل رجليه لأنهما في مستنقع الماء المستعمل فلا يفيد الغسل حتى لو كان على لوح لا يؤخر، وإنما يبدأ بإزالة النجاسة الحقيقية كيلا تزداد بإصابة الماء. وليس على المرأة أن تنقض ضفائرها في الغسل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وروي عن مالك أنه إن أخر غسل الرجلين فيه استأنف الوضوء.
وعند أبي ثور يلزم الجمع بين الوضوء والغسل، واستدل بعضهم برده - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الخرقة على أنه لا ينشف أعضاء الوضوء، لا دليل فيه لأنه يحتمل أن يكون ذلك لمعنى في الخرقة أو غير ذلك. وقد ذكر: هذا نفض أعضاء الوضوء ولا فرق بين الوضوء والغسل، وتمسكهم [بحديث] «لا تنفضوا أيديكم فإنها مراوح الشيطان» وهو حديث ضعيف، وقد ذكرناه فيما مضى.

م: (وإنما يؤخر غسل رجليه لأنهما في مستنقع) ش: أي في مجتمع م: (الماء المستعمل فلا يفيد الغسل) ش: أي غسل الرجلين حينئذ م: (حتى لو كان على لوح لا يؤخر) ش: لعدم الماء المستعمل حينئذ.
وينبغي أن يكون هذا التعليل على رواية كون الماء المستعمل نجسا م: (وإنما يبدأ) ش: المغتسل م: (بإزالة النجاسة الحقيقية) ش: الظاهر أنه أراد بها النجاسة المعهودة في ذلك الحال وهي المني الرطبة؛ فإن ميمونة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: قالت في الحديث المذكور «ثم أفرغ على فرجه» . وفي رواية «وما أصابه من الأذى» وفيه دلالة على نجاسته.
قيل: هذا تكرار لأنه ذكره أولا وليس كذلك لأنه ذكره ههنا لبيان التعليل، لأن هذا الكتاب كالشرح على القدوري م: (كيلا تزداد) ش: أي النجاسة إن كانت م: (بإصابة الماء) ش: لأن الماء إذا أصاب النجاسة بسطت وانتشرت فيزداد عليه العمل.
م: (وليس على المرأة أن تنقض ضفائرها في الغسل) ش: الضفائر جمع ضفيرة وهي العقيصة، والضفرة بفتح الضاد المعجمة وسكون الفاء مسبح الشعر عريضا، وتحريك الفاء بالفتح بمعنى المضفور والتضفير مثله، وأضفرت المرأة شعرها ولها ضفيرتان وضفيران أي عقيصتان. ومذهب الجمهور لا يلزمها نقضه إلا أن يكون مليئة لا يصل الماء إلى أصوله فيجب نقضه. وقال النخعي: يجب نقضها بكل حال. وقال أحمد يجب في الحيض دون الجنابة وقيل: في تخصيص المرأة إشارة إلى أن حكم الرجل بخلافها.
وفي " المبسوط " إذا ضفر الرجل شعره كما يفعله العلويون والأتراك هل يجب إيصال الماء إلى انتهاء الشعر، فظاهر الحديث أنه لا يجب. وذكر الصدر الشهيد أنه يجب، والاحتياط إيصال الماء. وقال الشافعي: يجب نقضه إذا كان لا يصل الماء إلى باطنها إلا بالنقض وبل الشعر، وإن وصل بدون النقض فلا حاجة إليه. وعن مالك أنه لا يجب نقض الضفائر ولا إيصال الماء إلى

(1/322)


إذا بلغ الماء أصول شعرها «لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لأم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: "أما يكفيك إذا بلغ الماء أصول شعرك» ، وليس عليها بل ذوائبها هو الصحيح لأن فيه حرجا، بخلاف اللحية لأنه لا حرج في إيصال الماء إلى أثنائها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
منابت الشعور الكثيفة وما تحتها لدفع الحرج.
وفي " مبسوط بكر " في وجوب إيصال الماء إلى شعب عقاصها اختلاف المشايخ.
فإن قيل: الأصل في النساء أن لا يذكرن لأن مبنى حالهن على الستر، ولهذا يذكرن في القرآن حتى شكين فنزل {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [الأحزاب: 35] (الأحزاب: الآية 35) أجيب بأن الحكم إذا كان مخصوصا بهن يذكرن كهذه المسألة وكما في مسألة الحجاب، ثم إنهن مخصوصات بالضفائر ولهذا كره لهن الحلق وشرع لهن القصر في الحج.

م: (إذا بلغ الماء أصول شعرها) ش: لحصول المقصود حتى إذا لم يبلغ فعليها النقض م: «لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أما يكفيك إذا بلغ الماء أصول شعرك» ش: أم سلمة إحدى زوجات النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، واسمها هند بنت أبي أمية بن أبي حذيفة بن المغيرة هذا والراكب والحديث أخرجه الجماعة إلا البخاري من حديث عبد الله بن رافع مولى أم سلمة «عن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: "قلت يا رسول الله إني امرأة أشد ضفر رأسي فأنقضه لغسل الجنابة؟ فقال: لا، وإنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضي عليك الماء فتطهري، أو فإذا أنت قد طهرت» .
فإن قلت: هذا خبر واحد فلا تجوز به الزيادة على قَوْله تَعَالَى {فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] ، قلت الشعر ليس من كل وجه ببدن، والأمر بالتطهير للبدن، أو لأن مواضع التطهير مستثناة كتداخل العينين.
م: (وليس عليها) ش: أي على المرأة م: (بل ذوائبها) ش: هي جمع ذؤابة وكان الأصل في الجمع أن يقال ذوائب، لأن الألف التي في ذؤابة كالألف التي حقها أن تبدل همزة في الجمع، ولكنهم استثقلوا أن تقع ألف الجمع بين الهمزتين فأبدلوا من الأولى واوا وأصله أذئبة ذال معجمة وهمزة وباء م: (هو الصحيح) : احترز به عما روي من وجوب البل والعصر ثلاثا، رواه الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال إنها تبل ذوائبها ثلاثا مع عصر كل بل ليبلغ الماء شعب قرونها.
والأصح: أنه غير واجب ولهذا قال هو الصحيح م: (لأن فيه حرجا بخلاف اللحية لأنه لا حرج في إيصال الماء إلى أثنائها) .
وفي " المحيط " يجب إيصال الماء إلى إنبات شعرها إذا كان معقوصا ذكره أبو جعفر الهندواني، وإن كان مضفورا قيل يجب إيصال الماء إلى إنباته لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فبلوا الشعر» والصحيح عدمه واحتجوا بحديث أم سلمة وأخرج مسلم عن عبيد بن عمر قال «بلغ عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن عبد الله بن عمرو بن العاص كان يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهن فقالت: يا

(1/323)


قال: والمعاني الموجبة للغسل:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عجبا لابن عمرو هذا يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضهن رؤوسهن أفلا يأمرهن أن يحلقن رؤوسهن فقد كنت أغتسل أنا ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من إناء واحد وما أزيد أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات» . وفي " المبسوط " وغيرها بلغها عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مكان ابن عمرو وليس بصحيح، وإنما هو التباس وفي " الخلاصة " وفي شعر الرجال يفترض إيصال الماء إلى المترسل وإيصال الماء إلى البشرة فرض. وذكر الفقيه أبو الليث من اغتسل من الجنابة ينبغي أن يدخل أصبعه في سرته مبالغة في إيصال الماء إلى ما ظهر من بدنه، فإن لم يفعل إن علم أنه وصل إليها أجزأه وإلا فلا.

[المعاني الموجبة للغسل]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (والمعاني الموجبة للغسل) ش: أي العلل التي توجب الغسل، واختار لفظ المعاني لكون العلل من ألفاظ الفلاسفة وقد كره العلماء استعمالها وقد تقدم هذا فيما مضى ورد هذا بأن الأصوليين من أهل السنة استعملوا لفظ العلة والعلل في كتبهم كما قالوا استعارة العلة للمعلول وفي تخصيص العلة وتقسيمها إلى ما هو علة معنى وحكما واسما وغير ذلك، فإن كان استعمال هذا اللفظ مما يجتنب فينبغي أن يجتنب في جميع المواضع، ولكن الأولى أن يقال إنما استعمل لفظ المعاني اتباعا للسنة لورودها بلفظ المعاني في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى معان ثلاث» ، أراد بها العلل، ولهذا يأت بالباء. وقال الأترازي: قال بعض الشارحين: هذه معان موجبة للجنابة لا للغسل على المذهب الصحيح من علمائنا فإنها تنقضه فكيف توجبه.
قلت: أراد السغناقي فإنه قال في شرحه في هذا الموضع هكذا، ثم قال الأترازي لا شك أن معنى قوله المعاني الموجبة للغسل تجب لهذه المعاني على طريق البدل على معنى أن أي معنى من هذه المعاني إذا وجد يجب به الغسل فإن تجتمع العلة والمعلول بلا نقض. والذي قاله الشراح إنما يتوجه إذا كانت هذه المعاني موجبة لوجود الغسل لا لوجوبه ولم يتقيد المصنف بالوجود حتى يورد عليه مثلها. قلت: التحقيق في هذا الكلام أن العلل الشرعية لا تكون موجبة بذواتها، فإنما الموجب للحكم هو الله تعالى إلا أن ذلك الإيجاب غيب عنا في حقنا، وجعل الشرع الأسباب التي يمكننا الوقوف عليها علة لوجوب الحكم في حقنا تيسيرا علينا، ثم إن هذه العلل الثلاث موجبة للجنابة والجنابة موجبة للغسل فيكون المعاني الموجبة علة العلة، فكما أن الحكم يضاف إلى العلة يضاف إلى علة العلة. وذكر في " مبسوط شيخ الإسلام " أن سبب وجوب الاغتسال إرادة ما لا يحل فعله بسبب الجنابة.
وأجاب الأكمل: بسبب الجنابة واجبا بما لا يحل عن هذا بقوله ورد بأن الغسل يجب بأحد المعاني المذكورة سواء وجدت الإرادة أو لم توجد. قلت: هذا جواب الأترازي في شرحه.

(1/324)


إنزال المني على وجه الدفق والشهوة من الرجل والمرأة حالة النوم واليقظة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ثم قال الأكمل وفيه نظر ولم يبين وجه ذلك قلت: وجه ذلك أن فائدة الوجوب الأداء وهو أمر اختياري فإن إضافة الوجوب إلى الأداء بهذا المعنى وقيل السبب الجنابة قال الأكمل وأورد عليه الحيض والنفاس ولو زيد عليه أو ما في معناها لاندفع.
قلت: هذا لا يرد أيضا للأترازي، وجواب فيه أيضا له عند عامة المشايخ سبب وجوب الغسل القيام إلى الصلاة، وإرادة ما لا يحل فعله بسبب الجنابة، إما إضافة الحكم إلى الشرط فإن الحدث والجنابة من شرائطهما وجوب الوضوء والغسل وإما باعتبار أن بعضهم جعل الجنابة سببا لوجوب الغسل ولهذا ذكر في " الكافي " ويجب عند مني ذي دفق وشهوة فإن الحكم يجب عند الشرط بالعلة لا بالشرط، فإضافة الوجوب إلى الشرط مجاز كما يقال صدقة الفطر.
وقال تاج الشريعة: هذه المعاني منجسة للبدن لا موجبة للاغتسال، بل يجب الاغتسال بإرادة الصلاة لكن عند تنجس البدن بخروج هذه النجاسات منه فكانت شرطا بها فيصير البدن قابلا لوصف التطهير والوصف الذي يثبت به علة الحكم شرطا فإن المحال شروط لما يثبت به المحلية يكون شرطا أيضا فتكون إضافة الوجوب إلى الشرط مجاز، أو قيل هذه المعاني موجبة للغسل بواسطة الجنابة كما في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «شراء القريب إعتاقه» .

[إنزال المني من موجبات الغسل]
م: (إنزال المني) ش: المني ماء أبيض خاثر رائحته مثل الطلع يلتذ به الذكر ويتولد منه الولد م: (على وجه الدفق) ش: أي النفض م: (والشهوة) ش: وهذان قيدان لوجوب الغسل بخروج المني وسواء كان نزول المني م: (من الرجل والمرأة) ش: وسواء كان في م: (حالة النوم واليقظة) ش: فإن قيل خروج المني من النائم يوجب الغسل وإن لم يكن بشهوة، فكيف شرط المصنف الشهوة. قلت: كان القياس أن لا يجب لكنهم استحسنوا فأوجبوه، لأن الظاهر خروجه بالاحتلام.
وقال الأكمل قيل هذا اللفظ بإطلاقه يستقيم على قول أبي يوسف لاشتراطه الدفق والشهوة عند الخروج، ولا يستقيم على قولهما لأنهما لم يشترطا الدفق عند الخروج حتى قالا يجب الغسل إذا زايل المني عن مكانه بشهوة. وإن خرج من غير دفق قلت: أخذ هذا من السغناقي، وكذا قال الأترازي في شرحه.
قال بعض الشارحين: ثم ذكره ثم قال ليس كذلك بل هذا يستقيم على قول الكل، لأن إنزال المني على هذه الصفة إذا وجد يجب الغسل عند الجميع وأخذ منه الأكمل قال ورد بأنه يستقيم على قوله اه. ثم قال: ولكن كلام المصنف يوهم ترك بعض موجباته عندهما في مواضع بيانها، وربما بين قوله ثم المعتبر عند أبي حنفية ومحمد اه. لبعض بيان.
قلت: ليس من المتعين على المصنف أن يبين جميع ما تتعلق به المسألة التي هو في صددها ولا

(1/325)


وعند الشافعي: خروج المني كيفما كان يوجب الغسل، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الماء من الماء» أي الغسل من المني.

ولنا أن الأمر بالتطهير يتناول الجنب والجنابة في اللغة: خروج المني على وجه الشهوة، يقال: أجنب الرجل إذا قضى شهوته من المرأة، والحديث محمول على خروج
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
التزام ذلك. م: (وعند الشافعي خروج المني كيفما كان يوجب الغسل) ش: يعني سواء كان بشهوة أو بغير شهوة، مثل ما إذا حمل حملا ثقيلا وسقط من مكان مرتفع أو نحو ذلك م: (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الماء من الماء» ش: الحديث رواه مسلم وأبو داود من حديث أبي سلمة عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الماء من الماء» ولفظ مسلم «إنما الماء من الماء» .

م: (أي الغسل من المني) ش: أي وجوب استعمال الماء بسبب خروج الماء ومن للسببية. م: ولنا أن الأمر بالتطهير يتناول الجنب) ش: وهو الأمر الذي في قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] وهذا يتناول الجنب وهو صريح في تناوله إياه. م: (والجنابة في اللغة خروج المني على وجه الشهوة) ش: قال السروجي تفسيره الجنابة بقوله والجنابة في اللغة اه. ليس كذلك فإن الجنابة في اللغة البعد، وهو اسم إسلامي لأن فيها يجتنب المساجد والصلاة وقراءة القرآن حتى يغتسل. في " الجنازية " البعد قال الله تعالى {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [القصص: 11] (القصص: الآية، 11) أي عن بعد، ومنه سمي الأجنبي والغريب جنبا لبعد الأجنبي عن القرابة، والغريب عن وطنه. قلت: مجيء الجنابة في اللغة بمعنى البعد لا يمنع مجيئها أيضا خروج النجاسة على وجه الشهوة كما قاله المصنف. وقال السغناقي: في جنب الرجل أصابته الجنابة بعد أن قال جنبت إلى لقائك جنبا أي أشفقت. ويقال أيضا: أجنب الرجل في بني فلان يجنب جنابة إذا نزل فيهم غريبا فهو جانب والجمع جناب، فالأول بكسر النون، والثاني بفتح النون. وقال أيضا: رجل جنب من الجنابة يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث.
قال الفارابي في " ديوان الأدب ": أجنب الرجل إذا أصابته الجنابة بضم الهمزة وكسر النون. فهذا كله يدل على أن لفظ الجنابة مستعمل في اللغة لمعان كثيرة. واختلف النحاة في لفظ الجنب فقال الزجاج: إنه مصدر ولهذا أفرد في الجمع، وتبعه الرازي في " أحكام القرآن "، وكذا ذكره ابن مالك في " شرح الكافية " فإنه قال المصدر يجيء على وزن فعل كجنب. وقال الزمخشرى: هو اسم أجري مجري المصدر الذي هو الاجتناب وذكره ابن الحاجب في باب الصفة المشبهة وقال ابن عصفور لم يجئ فعل في الوصف إلا جنب وشكل.
م: (يقال: أجنب الرجل إذا قضى شهوته من المرأة) ش: لم يحرر أحد من الشراح هذا الموضع كما ينبغي فقوله: أجنب الرجل بضم الهمزة وكسر النون كما ذكرنا الآن عن الفارابي، وأما أجنب بفتح الهمزة وفتح النون فمعناه يدخل في الجنوب. وقوله: من المرأة وقع اتفاقا لوقوعه من المحتلم وقيل ذكره ليخرج شهوة البطن بأن ما فيها لا يسمى جنبا م: (والحديث محمول على خروج

(1/326)


المني عن الشهوة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
المني عن شهوة) ش: هذا جواب عن ما قاله الشافعي في الحديث الذي استدل به وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الماء من الماء» . وجه حمله على الخروج عن الشهوة للتوفيق بين الأدلة فإنه روي عن حسين بن قبيصة «عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال كنت رجلا مذاء فجعلت أغتسل حتى تشقق ظهري فذكرت ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو ذكر له فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا تفعل فإذا رأيت المذي فاغسل ذكرك» . أخرجه أبو داود، وأخرجه البخاري ومسلم من حديث محمد بن علي وهو ابن الحنفية عن أبيه بنحوه مختصرا. وأخرجه النسائي والترمذي وابن ماجه من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وأخرجه أحمد ولفظه: «إذا خذفت الماء فاغتسل، وإذا لم تكن خاذفا فلا تغتسل» فاعتبر الخذف والفضخ وذلك يكون مع المدفق والشهوة. انخذف بالخاء والذال المعجمتين والفضخ بالفاء والضاد والخاء المعجمتين الدفق والرحى.
وهذا الحديث مقيد وحديث «الماء من الماء» مطلق، والحادثة واحدة فيحمل المطلق على المقيد، كذا قال في " المفيد " و " المزيد " كذا قال في الزكاة، ثم الشافعي من أصله حمل المطلق على المقيد وإن كان في حوادث فخالف أصله.
وجه آخر في القيود الزائدة وهو أن قوله: «الماء من الماء» عام يتناول المني والمذي والودي ولم يكن إجراؤه على العموم لعدم وجوب الغسل في المذي والودي بالإجماع فيراد به الخصوص ويحمل على حال الشهوة «لحديث أم سليم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها جاءت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: إن الله لا يستحيي من الحق هل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟ قال: "نعم، إذا رأت الماء" فقالت لها أم سلمة: فضحت النساء.» أخرجه البخاري من حديث أم سلمة واللفظ للبخاري في الطهارة وله ألفاظ عندهما، ورواه مسلم من حديث أنس عن أم سليم.
وفي حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن امرأة سألت. ووقع في كلام الصيدلاني من الشافعية وإمام الحرمين والغزالي والروزباني وغيرهم أن أم سليم جدة أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وغلطهم ابن الصلاح والنووي ووقع في الصيد من كتب الشافعية أن القائلة فضحت النساء

(1/327)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وغلطهم بعض الناس، ولم يصب في ذلك فقد وقع ذلك في حديث مسلم وأخرجه الطبراني في " الأوسط " من حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وأخرجه النسائي من حديث خولة بنت حكيم. ووجه آخر أن الترمذي روى من حديث عكرمة عن ابن عباس قال: «إنما الماء من الماء في الاحتلام» .
وروى الطبراني حديث عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثنا محمد بن الصباح حدثنا شريك بن أبي الجحاف عن عكرمة عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: إنما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " حديث «الماء من الماء» ، لمني الاحتلام. واسم أبي الجحاف داود بن أبي عون. قال النووي: كان مرضيا.
ووجه آخر أن الحديث منسوخ لأن مفهومه عدم الغسل من الإكسال وقد ورد في " الصحيحين " صريحا من حديث «أبي بن كعب رواه البخاري ومسلم عنه قال: سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الرجل يصيب من المرأة ثم يكسل، قال: "يغسل ما أصابه من المرأة ثم يتوضأ ويصلي» .
ورويا أيضا من حديث أبي سعيد أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مر على رجل من الأنصار فأرسل إليه فخرج ورأسه تقطر ماء، فقال: لعلنا أعجلناك، فقال: نعم يا رسول الله، فقال: "إذا عجلت أو أقحطت فلا غسل عليك وعليك الوضوء» ".
وهذان أيضا منسوخان وقد ورد في ثلاثة أحاديث صريح النسخ أحدها: ما أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه عن يونس عن الزهري عن سهل بن سعيد عن أبي بن كعب قال: «إنما كان الماء من الماء رخصة في الإسلام» . الثاني: أخرجه ابن حبان في "صحيحه " عن الحسين بن عمران «عن الزهري قال سألت عروة في الذي يجامع ولا ينزل قال على الناس أن يأخذوا بالآخر من قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حدثتني عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فقالت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعل» .

(1/328)


ثم المعتبر عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - انفصاله عن مكانه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والثالث: رواه أحمد في "مسنده " عن بعض ولد رافع بن خديج عن «رافع بن خديج قال ناداني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا على بطن امرأتي فقمت ولم أنزل فاغتسلت وخرجت فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا غسل عليك إنما الماء من الماء» فقال رافع: ثم أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد ذلك بالغسل.
فإن قلت: الحديث الأول منقطع وقد جزم به البيهقي، فقال: وهذا الحديث لم يسمعه الزهري من سعد إنما سمعه بعض أصحابه عن سهل.
قلت: قال الشيخ تقي الدين: وقد وقع في رواية عن محمد بن جعفر من جهة أبي موسى عنه عن معمر عن الزهري وفيها قال: أخبرني سهل بن سعد.
والحديث الثاني فيه الحسين بن عمران قال المحاربي: هو كثيرا ما يأتي عن الزهري بالمناكير، وقد ضعفه غير واحد، قلت: حكم ابن حبان بصحته ونفس المحاربي قال بذلك.
والحديث الثالث فيه رشدين بن سعد أكثر الناس على ضعفه، ونفس رافع مجهول وبعض ولد رافع محمد مجهول.
قلت: ذكره الحارثي في كتابه، وقال: هذا حديث حسن، وقال الشيخ تقي الدين: وقد وقع في تسمية ولد رافع في أصل سماع الحافظ النسفي، وساقه الشيخ بسنده إلى رشدين بن سعد عن موسى بن أيوب عن سهيل بن رافع بن خديج فذكره.
ومن الاستدلال على النسخ هو أن بعض من يروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحكم الأول أفتى بوجوب الغسل ورجع عن الأول، فروى مالك عن يحيى بن سعيد بن عبد الله بن كعب مولى عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن محمود بن لبيد الأنصاري سأل زيد بن ثابت عن الرجل يصيب أهله ثم يكسل ولا ينزل فقال له زيد يغتسل فقال له محمد بن أبي بن كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان لا يرى الغسل فقال له زيد بن ثابت: إن أبي بن كعب رجع عن ذلك قبل أن يموت.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا وجه لتركه إلا أنه ثبت له أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال بعده ما نسخه.

م: (ثم المعتبر عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله تعالى - انفصاله) ش: أي انفصال المني م: (عن مكانه) ش: أي مكان المني وهو الصلب والترائب كما قال الله تعالى في كتابه. والمني في الأصل دم لكنه يبيض بتصفية الشهوة كما يبيض ماء الورد الأحمر بالنار، حتى إذا كثر الجماع. وقلت

(1/329)


على وجه الشهوة، وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ظهوره أيضا اعتبارا للخروج بالمزايلة،
إذ الغسل يتعلق بهما. ولهما أنه متى وجب من وجه فالاحتياط في الإيجاب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الشهوة خرج أحمر، والشرط إزالته عن مقره م: (على وجه الشهوة) ش: حتى إذا لم ينفصل عن مكانه بشهوة لا يجب الغسل عندهما م: (وعند أبي يوسف ظهوره أيضا) ش: أي المعتبر ظهور المني على وجه الشهوة أيضا م: (اعتبارا) ش: نصب على المصدرية أي يعتبره أبو يوسف اعتبارا م: (للخروج بالمزايلة) ش: أي بالانفصال وجه الاعتبار أن الغسل لا يجب إلا بهما فإذا وجد الانفصال ولم يوجد الخروج لا يجب الخروج بالإجماع، والشهوة حال الانفصال شرط بالاتفاق، فينبغي أن يشترط حال الخروج أيضا.

م: (إذ الغسل يتعلق بهما) ش: أي لأن الغسل يتعلق بالانفصال والظهور م: (ولهما) ش: أي لأبي حنيفة ومحمد م: (أنه) ش: أي أن الغسل م: (متى وجب من وجه) ش: أي متى وجب الغسل من جهة الانفصال دون الدفق، والشرط مطلق الشهوة لإكماله فباعتبار ما وجد يجب الغسل وباعتبار ما عدم لا يجب م: (فالاحتياط) ش: من باب العبادة م: (في الإيجاب) ش: أي الاحتياط واجب في إيجاب الغسل ترجيحا لجانبه.
وقال الأترازي: قال بعض الشارحين: الخروج على وجه الشهوة قد وجد، وإنما عدم الدفق لا غير فباعتبار ما وجد يجب الاغتسال، وباعتبار ما عدم لا يجب فيرجح حال الوجود احتياطا.
قلت: أراد ببعض الشارحين السغناقي ثم قال هذا الشرح من الشروح كالصب من البول لأن كلام المصنف إنما يساق لبيان أن الشهوة لا يشترط حال الخروج عندهما، وعند أبي يوسف تشترط وبيان التعليل من الطرفين لأجل هذا، قلت: الذي قاله السغناقي هو الصواب مع أنه نقل هذا عن " المبسوط "، قال الأترازي: محارق في التشنيع على الأكابر وكلام المصنف ما سبق للذي قاله الأترازي، وإنما الذي قاله من لوازم ما سبق له فافهم، نعم وقع في كلام السغناقي في بيان تعليلهما أن الخروج على وجه الشهوة قد وجد وإنما عدم الدفق، والظاهر أنه سهو لأنه لو كان كذلك لارتفع النزاع.
فإن قلت: دار الغسل بين الوجوب وعدمه فلا يجب بالشك، قلت إلا أن جهة الوجوب راجحة لأن الموجب أصل فالخروج بناء على المزايلة بالشهوة، وعدم الخروج بالشهوة بعد المزايلة من العوارض النادرة فلا اعتبار بهذا السؤال، والجواب لتاج الشريعة والأكمل أخذ منه.
وقال السغناقي: يشكل على هذا الريح الخارجة من المفضاة لأنه على هذا التعليل الذي ذكرناه ينبغي أن يجب عليها الوضوء بأن يقال إنها لو خرجت من القبل لا يجب، ولو خرجت من الدبر يجب فيرجح جانب الوجوب احتياطا لأمر العبادة، ولم ينقل هناك كذلك بل قيل بالاستحباب.

(1/330)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأجاب بقوله: جاءك الشك هناك من الأصل فعارض الدليل الذي هو موجب مع الدليل الذي هو غير موجب لتساويهما في القوة فتساقطا، فعملنا بالأصل الذي كان ثابتا لها متعين باقيا لها بيقين وهو الطهارة، وأما هنا جاء دليل عدم الوجوب من الوصف وهو الدفق، ودليل الوجوب في الأصل وهو نفس وجود الماء مع الشهوة فكان في إيجاب الاغتسال ترجيح لجانب الأصل على جانب الوضوء، وثمرة الخلاف تظهر في خمس مسائل:
أحدها: استمنى بكفه فزال المني عن مكانه بشهوة فأمسك ذكره حتى سكنت شهوته ثم سال عنه لا عن دفق فعليه الغسل عندهما خلافا لأبي يوسف.
الثانية: جامع امرأته فيما دون الفرج أو قبلها بشهوة فزال المني عن مكانه وحصل ما ذكرنا فعلى الخلاف.
والثالثة: احتلم فلما انفصل المني عن مكانه أخذ إحليله حتى سكنت شهوته ثم خرج المني فعلى الخلاف.
الرابعة: اغتسل بعد الجماع قبل النوم أو البول ثم أمنى يعيد الغسل عندهما خلافا لأبي يوسف، وفي " المبسوط " و " السير الكبير ": لو أمنى بعد البول أو النوم لا غسل عليه بالاتفاق وعند الشافعي: يجب في الحال، وعن مالك: لا يجب في الحالين، وقال أحمد: إن خرج قبل البول يجب وبعده لا يجب كذا في " شرح الوجيز ".
والخامسة: استيقظ فوجد بفخذه وثوبه بللا ولم يذكر الاحتلام فإن تيقن أنه مذي أو ودي لا غسل، وإن تيقن أنه مني عليه الغسل، وإن شك أنه مني أو مذي يجب عندهما خلافا له، ولو بال فخرج من ذكره مني فإن كان ذكره منتشرا فعليه الغسل وإن كان منكسرا فعليه الوضوء، ولو غشي عليه ثم أفاق أو سكر ثم صحا فوجد مذيا لا غسل عليه لأنه وجد سبب خروج المذي وهو الإغماء والسكر فيحال بالخروج عليه بخلاف النائم ولو مضطحعا أو قائما أو قاعدا أو ماشيا إذا استيقظ فإنه على ثلاثة أوجه التي ذكرناها الآن، وذكر هشام في "نوادره " عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه إذا استيقظ فوجد بللا في إحليله ولم يتذكر حلما، إن كان ذكره قبل النوم منتشرا فلا غسل عليه وإن كان غير منتشر فعليه الغسل، قال ينبغي أن يحفظ هذا فإن البلوى كثرت فيه والناس عنه غافلون، وقال في " الينابيع " يعمل بقول أبي يوسف في نفي وجوب الغسل إذا كان في بيت إنسان ويستحي منه أو يخاف أن تقع في قلبه ريبة بأنه طاف حول أهل بيته، والمرأة في الاحتلام كالرجل وعند محمد في غير رواية الأصول أنه إذا تذكرت الاحتلام والإنزال ولم تنزل فعليها الغسل، قال الحلوائي: لا يؤخذ بهذه الرواية، وقال أبو جعفر الفقيه: إن خرج إلى الفرج الخارج يجب وإلا فلا.

(1/331)


والتقاء الختانين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي " المحيط " لو احتلمت ولم يخرج الماء إلى ظاهر فرجها فعليها الغسل، لأن فرجها بمنزلة الفم فعليها تطهيره، فأعطى له حكم الخروج، حتى لو كان الرجل أقلف فخرج المني إلى القلفة يلزمه الغسل وإلا فلا، لأن ماءها لا يكون دافقا كماء الرجل، ولو نام رجل وامرأته فوجد على فراشهما بللا لا يعرف من أيهما واختلفا فيه ينظر إن كان أصفر فعليها الغسل وإن كان أبيض فعليه.
وقيل: إن وقع طولا فمنه وإن وقع عرضا فمنها، والاحتياط أن يغتسلا، والقياس أن لا يجب على واحد منهما لوقوع الشك ولا يجوز لها أن تقتدي به، وفي " القنية " منيها أصفر ومنيه أبيض، وفائدته تظهر فيما لو اغتسلت عن جماع ثم خرج منها فإن كان أصفر فعليها الغسل وإن كان أبيض فلا غسل عليها، ولو قالت: معي جني يأتيني في النوم مرارا وأجد في نفسي ما أجد إذا جامعني زوجي لا غسل عليها لعدم الإيلاج والاحتلام، ولو احتلم في المسجد وأمكنه الخروج من ساعته يخرج ويغتسل، وقيل يتيمم ويخرج وإن لم يمكنه الخروج بأن كان في وسط الليل فيستحب له التيمم حتى لا يبقى جنبا.

[التقاء الختانين من موجبات الغسل]
م: (والتقاء الختانين) ش: بالرفع عطفا على قوله إنزال المني على وجه الدفق والشهوة، والتقاؤهما كناية عن الإيلاج، فإن نفس الملاقاة لا يوجب الغسل ولكن يوجب الوضوء عندهما، خلافا لمحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقال السغناقي: والتقاء الختانين أي مع تواري الحشفة. قيل: لا يحتاج إلى هذا القيد لأن التقاءهما كناية عن الإيلاج كما ذكرنا.
قلت: لا حظ للشيخ في ذلك، لفظ الحديث «إذا التقى الختانات وغابت الحشفة» على ما يجيء إن شاء الله تعالى. وفي " فوائد القدوري " قوله وتوارت الحشفة ليس بقيد، بل ذكر تأكيدا لأن التقاء الختانين مستلزم لتواريها.
وقال صاحب " الدراية " قال شيخي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يحتمل أن ذكره للإشارة إلى المعنى المؤثر في إيجاب الغسل، كما أن ذكر في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ما أبقته الفرائض فلأولى رجل» ذكر إشارة إلى علة العصوبة أو نفي لقول الشافعي، فإن عنده يجب الغسل إذا تحاذى الفرجان، ولكن ذكر في كتبهم أن إيلاج الحشفة يوجب الغسل.
وقال بعضهم: لو قال تواري الحشفة في قبل أو دبر آدمي حي مشتهى أو قدر حشفة من مقطوعها لكان أولى، ليتناول الإيلاج في الدبر مع أنه ليس فيه التقاء الختانين، ويخرج الإيلاج في البهيمة والميتة والصغيرة التي لا تشتهى ولا يجامع مثلها في قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
قلت: لا يجب عليه شيء في ترك الأولى ولا يتعين عليه تعين العبارة ثم ختان الرجل موضع

(1/332)


من غير إنزال
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
القطع وما دون دورة الحشفة، وختان المرأة موضع قطع جلدة منها كعرف الديك في فم الرجل وذلك لأنه مدخل ومخرج الولد والمني والحيض، وفوق مدخل الذكر مخرج البول وبينهما جلدة رقيقة وفوق مخرج البول جلدة رقيقة تقطع منها في الختان، وهو ختان المرأة فإذا غابت الحشفة في الفرج فقد حاذى ختانه ختانها، والمحاذاة هي التقاء الختانين فإنه إذا تحاذيا التقيا ولهذا يقال التقى الفارسان إذا تحاذيا وإن لم يتصادفا والتصقا، ولكن يقال موضع ختان المرأة الخفاض فذكر الختانين بطريق التغليب كالعمرين والقمرين وفي " الدراية ": ذكر الختانين بناء على عادة العرب فإنهم يختنون النساء قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الختان للرجل سنة وللنساء مكرمة» ، أي في حق الزوج فإن جماع المختونة ألذ، قلت: لم يذكر راوي الحديث ولا من أخرجه.
وقال الأترازي: روى الخصاف في باب أدب القاضي في باب من قال لا يجوز شهادة الأقلف بإسناده إلى شداد بن أوس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الختان للرجل سنة وللنساء مكرمة» .
م: (من غير إنزال) ش: يعني الإنزال ليس بشرط في التقاء الختانين في وجوب الغسل، فإنه إذا أنزل يجب بالإجماع، إذ المعتبر أن نفس الالتقاء كاف في وجوب الغسل، والإنزال ليس بقيد أو هو يرد قول من يشترط الإنزال من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فمن المهاجرين قول ابن عمر وعلي وابن مسعود، ومن الأنصار أبي بن كعب وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل وأبو سعيد الخدري منهم من رجع إلى موافقة الجمهور، ومنهم من لم يرجع، وبقول هؤلاء قال داود وعطاء بن أبي رباح وأبو سلمة بن عبد الرحمن وهشام بن عروة والأعمش والجهني، وممن رأى أن لا غسل من الإيلاج في الفرج إن لم يكن الإنزال عثمان بن عفان والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص ورافع بن خديج وابن عباس والنعمان بن بشير وحمزة الأنصاري انتهى.
وجمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم على وجوب الغسل بالتقاء الختانين وإن لم ينزل، وروي ذلك عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أم المؤمنين وأبي بكر وعمر بن الخطاب وآخرين، وبه قال إبراهيم النخعي والثوري وأبو حنيفة والشافعي وأحمد، وفي " المغني " لابن قدامة تغييب الحشفة في الفرج هو الموجب للغسل سواء كانا مختتنين أو لا، وسواء أصاب موضع الختان منه موضع الختان منها أو لم يصب، ولو ألصق الختان بالختان من غير إيلاج فلا غسل بالاتفاق ويجب الغسل سواء كان الفرج قبلا أو دبرا من كل حيوان آدمي أو بهيمة حيا أو ميتا طائعا أو مكرها نائما أو مستيقظا.

(1/333)


لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذا التقى الختانان وغابت الحشفة وجب الغسل أنزل أو لم ينزل»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال أبو حنيفة: لا يجب الغسل بوطء البهيمة وقال أيضا فإن أولج بعض الحشفة أو وطئ دون الفرج أو في البشرة لم يجب الغسل لأنه لم يوجد التقاء الختانين، فإن انقطعت الحشفة وكان الباقي من ذكره قدر الحشفة فأولج يجب الغسل وتعلقت به أحكام الوطء من المهر وغيره، فإن أولج في قبل خنثى مشكل أو أولج الخنثى ذكره في فرج أو وطئ أحدهما الآخر في قبله فلا غسل على واحد منهما لأنه يحتمل أن يكون خلقة زائدة فلا يزول عن الطهارة بالشك، وإذا كان الواطئ صغيرا أو الموطوءة صغيرة فقال أحمد يجب عليهما الغسل، وإذا كانت الصبية بنت تسع سنين ومثلها يوطأ وجب عليها الغسل، وسئل عن الغلام يجامع مثله ولم يبلغ فجامع امرأة يكون عليهما جميعا الغسل، قال نعم قيل له أنزل أو لم ينزل؟ قال نعم، وحمل القاضي كلام أحمد على الاستحباب، وهو قول أصحاب الرأي وأبي ثور انتهي.
ولو لف على ذكره خرقة إن كان يجد حرارة الفرج يجب كإدخال ذكر الأقلف وإلا فلا، ولو أدخلت المرأة في فرجها ذكر بهيمة أو ميتة لا يجب إلا بالإنزال، خلافا للشافعي وأحمد وفي " المحيط " لو أتى امرأة وهي بكر فلا غسل ما لم ينزل لأن ببقاء البكارة يعلم أنه لم يوجد الإنزال، ولكن إذا جومعت البكر فيما دون الفرج فحبلت فعليها الغسل لوجود الإنزال لأنه لا حبل بدونه، ولو جامعها فيما دون الفرج فدخل منيه في فرجها لا يجب عليها الاغتسال منه، فإن حبلت منه يجب من وقت دخوله حتى يجب عليها قضاء الصلوات الماضية.
وعن محمد: مراهق له امرأة بالغة جامعها فعليها الغسل لأنها مخاطبة ولا غسل عليه لعدم الخطاب، وفي العكس الحكم بالعكس لانعكاس العلة، وإذا جومعت المرأة فاغتسلت ثم خرج منها مني الرجل لا غسل عليها لعدم نزول الماء منها، وجماع الخصي يوجب الغسل على الفاعل والمفعول به.
م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إذا التقى الختانان وغابت الحشفة وجب الغسل أنزل أو لم ينزل» ش: الحديث أخرجه الإمام أبو محمد عبد الله بن وهب في "مسنده " أخبرنا الحارث بن شهاب عن محمد بن عبيد الله عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سئل عما يوجب الغسل فقال "إذا التقى الختانان وغابت الحشفة وجب الغسل أنزل أو لم ينزل» .
وذكر عبد الحق في "أحكامه " من جهة ابن وهب وقال: إسناده ضعيف جدا، فالظاهر إنما

(1/334)


ولأنه سبب للإنزال ونفسه يتغيب عن بصره، وقد يخفى عليه لقلته
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ضعفه بالحارث بن نبهان، وقد يعضد هذا ما رواه الطبراني في " الأوسط " أخبرنا عبد الله بن عمر الصفار حدثنا يحيى بن غيلان حدثنا عبد الله بن سريع عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده إلى آخره نحوه، ومعناه في "الصحيحين" عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا قعد بين شعبها الأربع ومس الختان الختان فقد وجب الغسل» ، زاد مسلم في رواية وإن لم ينزل. وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذ جلس بين شعبها الأربع ومس الختان الختان فقد وجب الغسل» ، رواه مسلم. وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل، وفعلته أنا ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاغتسلنا» . رواه الترمذي وصححه. وعن عائشة قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا التقى الختانان اغتسل» . رواه الطحاوي، وعنها «إذا التقى الختانان وجب الغسل» . رواه الطحاوي موقوفا ومرفوعا. وعن عبد الله بن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «إذا اختلف الختان الختان فقد وجب الغسل.» رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه " والطحاوي. وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مثله رواه الطحاوي. وعن «عبد الرحمن بن الأسود قال كان أبي يبعثني إلى عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قبل أن أحتلم فلما احتلمت جئت فناديت فقلت ما موجب الغسل قالت إذا التقت المواسي» . أخرجه الطحاوي ومحمد بن سعد في " الطبقات ".
قوله شعبها: بضم الشين النواحي وهو جمع شعبة ويروى شعبها جمع شعب، واختلفوا في الشعب الأربع فقيل هي اليدان والرجلان والفخذان. وقيل الرجلان والشفران، واختار القاضي عياض أن المراد شعب الفرج الأربع أي نواحيه الأربع، والضمير يرجع إلى المرأة وإن لم يمض ذكرها لدلالة السياق، أما قوله اختلف الختان الختان أي إذا جاوز أحدهما موضع الآخر، وهو كناية عن مجاوزة أحدهما الآخر بعد الملاقاة.
قوله: إذا التقت المواسي كناية عن التقاء الختانين لأن الختان يكون بالموسى فذكرت المواسي، والمراد بها المواضع التي يختن فيها، وهذه من أحسن الكنايات حيث صدرت من امرأة عظيم الشأن ليتناول أول ما احتلم وكلاهما بصدد الحياء.
م: (ولأنه) ش: أي ولأن التقاء الختانين م: (سبب للإنزال) ش: أي إنزال المني، والشيء الذي يترتب عليه حكم إذا كان خفيفا وله سبب ظاهر يقام السبب الظاهر مقام الأمر الخفي ويرتب على الحكم وها هنا التقاء الختانين سبب للإنزال ونفسه خفي وهو معنى قوله:
م: (ونفسه) ش: أي نفس الإنزال الذي ترتب عليه الغسل م: (يتغيب عن بصره) ش: أي عن بصر المنزل م: (وقد يخفى عليه) ش: أي وقد يخفى الإنزال عن المنزل م: (لقلته) ش: أي لقلة المني م:

(1/335)


فيقام مقامه، وكذا الإيلاج في الدبر لكمال السببية، ويجب على المفعول به احتياطا
بخلاف البهيمة وما دون الفرج
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(فيقام) ش: أي التقاء الختانين م: (مقامه) ش: بضم الميم الأولى أي مقام الإنزال، كما في السفر مع المشقة التي ترتب عليها القصر في السفر، فقال الضمير يرجع في قوله إلى الخروج يعني على تقدير انحصار وجوب الغسل من المني، فالمني قائم في الالتقاء تقديرا والثابت في مثله الإنزال.
وقال الأترازي: قوله وقد يحقق عليه جواب سؤال مقدر وهو أن يقال سلمنا أن نفس المني يتغيب عن بصره ولكن لا نسلم الخفاء لعلم الرجل بخروج المني. فأجاب عنه بقوله وقد يخفى اه.
وقال تاج الشريعة: فإن قلت الماء من الماء يقتضي عدم وجوب الاغتسال بالالتقاء.
قلت: لا نسلم وهذا لأن قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الماء من الماء» أي من المني تحقيقا أو تقديرا إذ الغالب الإنزال. م: (وكذا الإيلاج في الدبر) ش: أي حكم الإيلاج في القبل حكم الإيلاج في الدبر م: (لكمال السببية) ش: أي لكمال سببية خروج المني، حتى إن الفسقة اللاطة يرجحون قضاء الشهوة من الدبر على قضاء الشهوة من القبل للين والحرارة والضيق، وعن هذا ذهب بعضهم أن محاذاة الأمرد في الصلاة يفسد صلاة غيره كالمرأة.
قلت: نقل ذلك عن محمد في " نوادر الصلاة " م: (ويجب) ش: أي الغسل م: (على المفعول به) ش: إن كان من أهل وجوب الاغتسال م: (احتياطا) ش: أي لأجل وجوب الاحتياط لأن من الناس صارت له تلك الفعلة الشنعاء طبيعة ويجد بها لذة كالمرأة. قلنا: بوجوب الاغتسال، كذا قاله تاج الشريعة.
قلت: هذا إنما يظهر بالمفعول به إذا كانت به أنبه، وإلا فالذي ذكره إلا في الفاعل، قال فخر الإسلام البزدوي في " شرح الزيادات ": من أتى امرأته أو أمته في غير ما أتاها لم يحد وإن كان محرما عليه لأن من الناس من يستحله بتأويل القرآن. واتفقوا على أن الغسل يجب على الفاعل والمفعول به إن كانا من أهل الاغتسال رجلا كان أو امرأة لتيقن الإيلاج عن غير إنزال أما عندهما فإنه للزنا.
وعند أبي حنيفة الاغتسال بنفس الإيلاج إنما يجب في الغسل لأنه مشتهى على الكمال، فالظاهر أنه عند انقضاء الشهوة فهو سببه نزول الماء فأقيم الإيلاج مقام الإنزال ولا خلل في الشهوة هنا فيصار تشبها للاشتباه مثل الوطء في القبل فوجب للاحتياط، ولما اعتبر الإيلاج دون الإنزال استوى الفاعل والمفعول فيه.

م: (بخلاف البهيمة وما دون الفرج) ش: هذا متصل بقوله فيقام مقامه، أي فيقام سبب الإنزال

(1/336)


لأن السببية ناقصة. وقال: والحيض
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] بالتشديد،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في المسألتين في الآدمي بخلاف البهيمة، فإنه لا يجب فيها الغسل بمجرد الإيلاج من غير إنزال وبخلاف ما دون الفرج كالفخذ والبطن لا يجب فيه الغسل أيضا. م: (لأن السببية ناقصة) ش: عند عدم الإنزال.
م: (والحيض) ش: بالرفع عطفا على قوله والتقاء الختانين أي ومن المعاني الموجبة للغسل الحيض واختلفوا في تفسيره فقال السغناقي: أي الخروج من الحيض لأن الحيض ما دام باقيا لا يجب الغسل لعدم الفائدة.
قال الأترازي: لا حاجة إلى هذا التكليف لأنا اقتبسنا من قبل أن نفس الحيض سبب للغسل بدليل الإضافة، فلا حاجة إذن إلى قوله: المراد منه الخروج، وهو لا يضاف الغسل إليه بأن يقال غسل الخروج من الحيض حتى يتكلف المتكلف، أما قوله لا فائدة في وجوب الغسل فلا نسلم بل فيه فائدة حيث يظهر الوجوب عند وجود الشرط وهو الطهر من الحيض، وفيه نظر لأن الحيض اسم لدم مخصوص والجوهر لا يصح أن يكون سببا للمعنى، فكيف يقول الحيض سبب للغسل؟
وقال صاحب " التوضيح ": معنى قوله والحيض أي انقطاعه والخروج عنه لأن نفس الحيض ما دام باقيا لا يجب الغسل لعدم الفائدة، وإنما يجب عند الانقطاع، وفيه نظر لأن الانقطاع طهر فلا يوجب الطهارة وقد شنع الأترازي على حافظ الدين النسفي في قوله المراد بالحيض انقطاعه؛ لأنه يلازمه فقال: وفي غاية العجب ذلك ورد عليه بمنع الملازمة بينهما لوجود الحيض قبل الانقطاع ووجوب الانقطاع بعده فكان أحدهما منفكا عن الآخر فلا ملازمة بينهما.
وقال تاج الشريعة: والحيض أي خروج دم الحيض وهو الدم المخصوص يوجب الغسل، وهو الذي فسره تاج الشريعة فيكون مجازا من باب الحذف كما في قول تعالى {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] (يوسف: الآية 82) لأن نفس الدم لا يوجب شيئا، وهذا أولى وأظهر مما نسب إلى حميد الدين الضرير حيث قال: الخروج من الحيض مستلزم للغسل فوجب الاتصال فصحت الاستعارة ولأن الخروج من الحيض عين انقطاعه، والانقطاع طهر والطهر لا يوجب الإطهار.

م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] بالتشديد) ش:، وجه التمسك به على وجوب الاغتسال هو أن الله تعالى منع الزوج من الوطء قبل الاغتسال والوطء تصرف واقع في ملكه فلو كان الاغتسال مباحا أو مستحبا لم يمنع الزوج من حقه، فيعلم أن واجب قوله حتى يطهرن بالتشديد معناه حتى يطهرن أي يغتسلن، وقرئ بالتخفيف معناه حتى ينقطع دمهن، وكلا القراءتين يجب العمل بهما، فذهب أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى أن له أن يقربها في أكثر الحيض بعد انقطاع الدم،

(1/337)


وكذا النفاس بالإجماع.
قال: وسن رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: الغسل للجمعة والعيدين وعرفة والإحرام
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وإن لم تغتسل وفي أقل الحيض لا يقربها حتى تغتسل أو يمضي عليها وقت صلاة كامل وذهب الشافعي إلى أنه لا يقربها حتى تطهر وتنظف فيجمع بين الأمرين.
م: (وكذا النفاس بالإجماع) ش: أي وكذا الخروج من النفاس يوجب الغسل بالإجماع، وسنده أنه لا نص ورد فيه واكتفوا به عن نقله أو قياس على الحيض لأنه أقوى، ونقل الإجماع ابن المنذر وابن جرير الطبري وغيرهما.

[الأغسال المسنونة]
[الغسل للجمعة والعيدين وعرفة والإحرام]
م: (وسن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الغسل للجمعة والعيدين وعرفة والإحرام) ش: أما الجمعة ففي " الصحيحين " من حديث عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا جاء أحدكم إلى الجمعة فليغتسل» وليس الأمر للوجوب كما أخذ به أهل الظاهر، لأن الأمر بالغسل ورد على سبب وقد زال السبب فزال الحكم بزوال علته، لما رواه البخاري ومسلم من «حديث يحيى بن سعيد أنه سأل عمرة عن الغسل يوم الجمعة فقالت سألت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فقالت: كان الناس في مهنة أنفسهم وكانوا إذا راحوا إلى الجمعة راحوا في هيئتهم فقيل لهم اغتسلوا» .
وأخرج مسلم عن عروة عنها قالت: «كان الناس يتناوبون يوم الجمعة في منازلهم ومن العوالي فيأتون الغبار ويصيبهم من الغبار فيخرج منهم الرجل فأتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو عندي فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لو أنكم تطهرتم» ، ويأتي الكلام عن قريب إن شاء الله تعالى.
وأما العيدان فروي عن الفاكه بن سعد أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان يغتسل يوم الفطر ويوم الأضحى ويوم عرفة» ، وكان الفاكه بن سعد يأمر أهله بالغسل في هذه الأيام، رواه ابن ماجه ورواه الطبراني في "معجمه " والبزار في "مسنده "، وزاد فيه يوم الجمعة قال ولا يعرف للفاكه بن سعد غير هذا الحديث، وهو صحابي مشهور، وفيه يوسف بن خالد السهمي قال في " الإمام ": تكلموا فيه.
وروى ابن ماجه من حديث ابن عباس قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يغتسل يوم الفطر ويوم الأضحى» . وفيه جبارة بن المغلس وهو ضعيف، وقال ابن عدي: لا بأس به. وروى البزار

(1/338)


نص على السنية وقيل: هذه الأربعة مستحبة، وسمى محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - الغسل في يوم الجمعة حسنا في الأصل، وقال مالك: وهو واجب لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من أتى الجمعة فليغتسل»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في "مسنده " عن مندل عن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه عن جده «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اغتسل للعيدين» . وذكر عبد الحق من جهة البزار وقال إسناده ضعيف.
وقال ابن القطان: وعلته محمد بن عبيد الله، قال ابن معين: ليس بشيء، وقال البخاري: منكر الحديث. وأما عرفة فقد تقدم في حديث الفاكه بن سعد.
وأما الإحرام فأخرج مسلم في الحج «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: نفست أسماء بنت عميس بمحمد بن أبي بكر بالشجرة فأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا بكر أن يأمرها أن تغتسل وتهل» . والشجرة اسم موضع.
وأخرج الترمذي أيضا في الحج «عن خارجة بن زيد بن ثابت أنه رأى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تجرد لإهلاله واغتسل» . وقال حديث غريب.

م: (نص) ش: أي القدوري م: (على السنية) ش: يعني في هذه الأربعة م: (وقيل) ش: قائله فما قيل مالك في رواية عنه وعن مالك أنه حسن على ما نذكره.
م: (هذه الأربعة) ش: يعني غسل الجمعة والعيدين وعرفة والإحرام م: (مستحبة) ش: وهو قول طائفة من العلماء م: (وسمى محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - الغسل يوم الجمعة حسنا) ش: نص محمد على ذلك. م: (في الأصل) ش: أي " المبسوط " م: (وقال مالك: هو واجب) ش: أي غسل الجمعة واجب وبه قال الحسن البصري وعطاء بن أبي رباح والمسيب بن رافع وجماعة الظاهر.
م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «من أتى الجمعة فليغتسل» ش: الحديث رواه الترمذي وابن ماجه من حديث ابن عمر باللفظ المذكور، وأخرجه البخاري ومسلم ولفظهما «من جاء منكم الجمعة فليغتسل» . وحديث آخر روياه يدل صريحا على الوجوب من حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم» .
وحديث آخر روياه أيضا من حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «حق الله

(1/339)


ولنا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فهو أفضل»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام زاد البزار والطحاوي وذلك يوم الجمعة» . ثم اعلم أن نقل صاحب " الهداية " عن مالك أن غسل الجمعة واجب غير صحيح، فإن ابن عبد البر قال في " الاستدراك " وهو أعلم بمذهب مالك: لا أعلم أحدا أوجب غسل الجمعة إلا أهل الظاهر، فإنهم أوجبوه، ثم قال: روى ابن وهب عن مالك أنه سئل عن غسل يوم الجمعة أواجب هو؟ قال هو سنة ومعروف، قيل في الحديث أنه واجب قال ليس كل ما جاء في الحديث يكون كذلك.
وروى أشهب عن مالك أنه سئل عن غسل يوم الجمعة أواجب هو؟ قال: حسن وليس بواجب، وهذه الرواية عن مالك تدل على أنه مستحب وذلك عندهم دون السنة.
م: (ولنا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت ومن اغتسل فهو أفضل» ش: روى هذا الحديث سبعة من الصحابة وهم سمرة بن جندب وأنس وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة وجابر وعبد الرحمن بن سمرة وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
فحديث سمرة أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي عن قتادة عن الحسن عن سمرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " من توضأ "، إلى آخره.
وقال الترمذي حديث حسن صحيح، واختلف في سماع الحسن عن سمرة فعن ابن المديني أنه سمع منه مطلقا وذكر عند البخاري وقال صاحب " التنقيح " قال ابن معين: الحسن لم يلق سمرة، وقال النسائي سمع منه حديث العقيقة فقط.
وحديث أنس عند ابن ماجه عنه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال «من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت يجزئ عنه الفريضة ومن اغتسل فالغسل أفضل» وسنده ضعيف وله طريق آخر عند الطحاوي والبزار في "مسنده " سندا ضعيفا من ذلك وله طريق آخر عند الطبراني.
وحديث الخدري رواه البيهقي في "سننه " والبزار في "مسنده " عن أسيد بن زيد الجمال عن شريك عن عون عن أبي نصرة عن أبي سعيد فذكره، قال البزار: لا نعلم رواه عن عوف إلا يزيد، ولا عن شريك إلا أسيد بن زيد، وأسيد كوفي قد احتمل حديثا عن شيعية شديدة

(1/340)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كانت فيه.
وقال ابن القطان: قال الدوري: عن ابن معين أنه كذاب. وقال الساجي: له مناكير.
وقال ابن حبان: يروي عن الثقات المنكرات ومع هذا فقد أخرج البخاري له وهو ممن عيب عليه الإخراج عنه.
وحديث أبي هريرة عن البزار في "مسنده " عن أبي بكر الهذلي عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة مسندا مرفوعا نحوه. ورواه ابن عدي في " الكامل " وأعله بأبي بكر الهذلي واسمه سلمى بن عبد الله.
وحديث جابر عند أبي جميل في "مسنده " وعبد الرزاق في "مصنفه " وإسحاق بن راهويه في "مسنده " وابن عدي في " الكامل ".
وحديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عند البيهقي في "سننه ".
قوله: "فبها ونعمت" جواب الشرط أي فبهذه الخصلة أو الفعلة ينال الفضل "ونعمت" الخصلة هي فعل الوضوء. وقيل: معناه فبالسنة أخذ ونعمت الخصلة هذه أي الأخذ بالسنة، وحذف المخصوص بالمدح.
قلت: جميع شراح كتب الحديث وكتب الفقه فسروا هذا الحديث هكذا، ولم يوفوا حقه لأن فيه أشياء وهي الباء فلا بد لها من متعلق، والضمير فلا بد له من مرجع وإلا يلزم الإضمار قبل الذكر، وضمير آخر وهو قوله: فهو والمخصوص بالمدح في قوله: "ونعمت" وتأنيث الفعل فيه وفيه أفعل التفضيل، واستعماله في أحد الأشياء الثلاثة كما علم في موضعه، فنقول وبالله التوفيق إن هذا الحديث يتضمن شيئين أحدهما: الإتيان بالوضوء وهو فعل المتوضئ، والوضوء في نفسه فاضل، والآخر الإتيان بالغسل وهو أفضل بالنسبة إلى الوضوء لأن فيه الوضوء، وأشار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى الأول بقوله: «من توضأ يوم الجمعة» ، يعني من فعل الوضوء يوم الجمعة فقد أتى بها أي بهذه الفعلة ونعمت هي، والمعنى: نعمت الفضيلة هي فصار قولنا أتى متعلقا بالباء

(1/341)


وبهذا يحمل ما رواه على الاستحباب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والضمير صار راجعا إلى الفعلة التي دل عليها قولنا: من فعل الوضوء.
وأما قولنا: يعني من توضأ من فعل الوضوء لأن كل فعل يفعله الشخص يأتي فيه هذا التقدير، فإذا قلت: قام زيد معناه فعل القيام، وإذا قلت: أكل معناه فعل الأكل، وعلى هذا سائر الأفعال لأن الفاء والعين واللام أعم الأفعال، ولهذا اختار الصرفيون هذه المادة في وزن الأشياء وتأنيث نعمت باعتبار أن الضمير يرجع إلى الفعلة المذكورة، والمخصوص بالمدح محذوف كما قلنا.
وأشار - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إلى الثاني بقوله: «ومن اغتسل» بمعنى ومن فعل الغسل يوم الجمعة فهو أفضل من الوضوء، والضمير في فهو يرجع إلى الفعل الذي يتضمن من فعل وهو الغسل، وفي نفس الأمر يرجع إلى الفعل الذي يدل عليه قوله اغتسل لأن كل فعل يدل على مصدره وهو من قبيل قَوْله تَعَالَى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] (المائدة: الآية 8) أي العدل أقرب. وقد علم أن أفعل التفضيل يستعمل مجردا كما في قولنا الله أكبر أي أكبر من كل شي فإن قلت: أفعلية التفضيل تدل على الوجوب ولا تثبت المساواة، قلت: السنة بعضها أفضل من بعض فجاز أن يكون الغسل من تلك السنن، فإن قلت: ما ذكرنا يقتضي وما ذكرتم ناف فالأول راجح، قلت: قوله فبها ونعمت نص على السنة وما ذكرتم يحتمل أن يكون أمر إباحة فالعمل بما ذكرنا أولى.

م: (وبهذا) ش: أي وبهذا الحديث المذكور م: (يحمل ما رواه) ش: أي ما رواه مالك وهو قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من أتى الجمعة فليغتسل» .
م: (على الاستحباب) ش: توفيقا بين الحديثين، فإن قلت: هذا الحديث ضعيف وحديث مالك صحيح فكيف التوفيق بين الصحيح والضعيف، قلت: قد روينا هذا الحديث عن سبعة أنفس من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كما ذكرنا، فحديث سمرة صحيح كما نص عليه الترمذي.
وحديث أنس المذكور إنما ضعف لأجل يزيد بن أبان الرقاشي، قال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به لرواية الثقات عنه، وقال ابن حبان: كان من خيار عباد الله القائمين بالليل، أو ضعفه لأجل الربيع بن صبيح، قال أبو زرعة: شيخ صالح صدوق، وقال ابن عدي: له أحاديث مستقيمة صالحة ولم أر له حديثا منكرا أرجو أنه لا بأس به. وصبيح بفتح الصاد. ولئن سلمنا ذلك فالأحاديث الضعيفة إذا ضم بعضها إلى بعض أخذت قوة فبها اجتمعت فيها من الحكم كذا قاله البيهقي وغيره.

(1/342)


أو على النسخ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (أو على النسخ) ش: أي أو يحمل حديث مالك على أنه منسوخ قاله الأترازي لئلا تلزم المعارضة بين القطعي والظني، وهما آية الوضوء وخبر الواحد، قلت: ليس هذا دليل النسخ على ما لا يخفى بل يكون فيه مخالفة الكتاب بخبر الواحد لأنه يوجب غسل الأعضاء الأربعة عند القيام إلى الصلاة مع الحدث، فلو وجب الغسل لكان زيادة عليه بخبر الواحد وهذا لا يسمى نسخا بل يصير كالنسخ فافهم.
وقال الأكمل قوله: أو على النسخ: بدليل ما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنهما قالا: كان الناس عمال أنفسهم، وكانوا يلبسون الصوف ويعرقون فيه ويأتون المسجد فكان يتأذى بعضهم برائحة بعض فأمروا بالاغتسال، ثم انتسخ حين لبسوا غير الصوف وتركوا العمل بأيديهم.
قلت: هذا بعينه ذكره السغناقي وهو نقله عن المبسوط وليس ما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على هذه الصورة.
أما ما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فقد ذكرناه عن قريب.
وأما ما روي عن ابن عباس فهو ما رواه أبو داود عن عكرمة أن ناسا من أهل العراق جاءوا فقالوا: يا ابن عباس أترى الغسل يوم الجمعة واجبا؟ قال: لا، ولكن أطهر وخير لمن اغتسل، ومن لم يغتسل فليس عليه بواجب، وسأخبركم كيف بدأ الغسل، كان الناس مجهودين يلبسون الصوف ويعملون على ظهورهم وكان مسجدهم ضيقا مقارب السقف إنما عريش فخرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في يوم حار وعرق الناس في ذلك الصوف حتى ثارت منهم رياح آذى بذلك بعضهم بعضا، فلما وجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تلك الريح قال: «يا أيها الناس إذا كان هذا اليوم فاغتسلوا وليمس أحدكم أفضل ما يجد من دهنه وطيبه» .
قال ابن عباس: ثم جاء الله بالخير ولبسوا غير الصوف، وكفوا العمل، ووسع مسجدهم، وذهب بعض الذين كان يؤذي بعضهم بعضا من العرق.
وأخرجه الطحاوي أيضا في " معاني الآثار "، ثم قال: فهذا ابن عباس يخبر أن ذلك الأمر الذي كان من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالغسل لم يكن للوجوب عليهم، وإنما كان لعلة، ثم ذهبت تلك العلة فذهب الغسل.
قوله: أطهر، وفي رواية الطحاوي ولكنه طهور أي مطهر وخير لمن اغتسل في الثواب.

(1/343)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قوله: كيف بدأ الغسل أي كيف كان ابتداؤه.
قوله: مجهودين من جهد الرجل فهو مجهود إذا وجد مشقة.
قوله: عريش وهو كان ما يستظل به والمراد أن سقفه كان من الجريد والسعف.
وقوله: ثارت أي هاجت من ثار يثور ثورا وثورانا إذا مطمع:
قوله: أفضل ما يجد، وفي رواية الطحاوي أمثل ما يوجد. قوله: ومن دهنه يتناول سائر الأدهان نحو الزيت ودهن السمسم وغير ذلك، وكذلك الطيب يتناول سائر أنواع الطيب نحو المسك والعنبر وغيرهما. قوله: ثم جاء الله بالخير إشارة إلى أن الله تعالى فتح الشام ومصر والعراق على أيدي الصحابة فكثرت أموالهم ومعاشهم وخدمهم، فغيروا السقف والبناء وغير ذلك.
فإن قلت: قال ابن حزم حديث ابن عباس روي من طريقين، أحدهما: من طريق محمد بن معاوية النيسابوري، وهو معروف بوضع الأحاديث والكذب، والثاني: من طريق عمرو بن أبي عمرة عن عكرمة وهو ضعيف لا يحتج به، ثم لو صح من طريق عمرو بن أبي عمرة فليس فيه لهم بل حجة لنا عليهم، لأنه ليس فيه من كلام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا الأمر بالغسل فإيجابه وكل يتعلقوا به في إسقاط وجوب الغسل فليس من كلامه عليه، وإنما هو من كلام ابن عباس وظنه ولا حجة لأحد دونه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
قلت: الحديث صحيح وعمرو بن أبي عمرة احتجت به جماعة، وعكرمة مولى ابن عباس، قال البخاري: ليس أحد من أصحابنا إلا وهو يحتج بعكرمة. وقال العجلي: مكي تابعي ثقة بريء مما يرميه الناس به من الحرورية فلا التفات إلى تضعيف ابن حزم إياه لترويج مذهبه وقوله: فليس فيه حجة لهم، كلام ساقط لأن ابن عباس لو لم يدر عدم وجوب الغسل يوم الجمعة لما قال: لا، حين سئل عنه، وكيف وقد روي عنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه كان يأمر به وهو أعلم الناس بما وافق النصوص وعللها ومواردها وما يتعلق بأحكامها، ولما كان الأمر كذلك حمل بعضهم الأمر على الاستحباب، ولفظ الوجوب على التأكيد للاستحباب، كما تقول: كان حقك واجبا علي والعدة دين وهو أضعف من الأول، ويدل عليه ما قرن به مما ليس بواجب وهو الدهن والطيب.
وقال تاج الشريعة: قوله: أو على النسخ لأنه وجد دلالة التقديم، وهي ما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها قالت: كان الصحابة في بدء الإسلام عمال أنفسهم ويلبسون الجلود والحرص الحجازي والمسجد قريب السقف فأمرهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالغسل دفعا للرائحة فلما ظهرت الثروة والغنى فيهم قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من توضأ يوم الجمعة» الحديث.

(1/344)


ثم هذا الغسل للصلاة عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو الصحيح لزيادة فضيلتها على الوقت واختصاص الطهارة بها، وفيه خلاف الحسن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: لم يرد هذا الحديث عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - على هذا الوجه، وإنما روي في " الصحيحين " أنها قالت: "كان الناس يتناوبون" الحديث وقد ذكرناه فيما مضى، واستدل تاج الشريعة بقولها: "فلما ظهرت الثروة" إلى آخره على النسخ، لأن قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: من توضأ الحديث يدل على أنه مؤخر بمقتضى ما في هذه الرواية، والمتأخر ينسخ المتقدم، ولكن هذا إنما يصح إذا ثبت هذا عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - على الوجه المذكور، على أن ابن الجوزي أنكر النسخ فقال: لا ناسخ معهم، ولكن سمعت حديث رواه ابن عدي في " الكامل " يدل على أنه ناسخ لأحاديث الوجوب، وهو ما رواه من حديث الفضل بن المختار عن أبان بن أبي عياش، عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من جاء منكم الجمعة فليغتسل فلما كان الشتاء قلت: يا رسول الله أخبرنا بالغسل للجمعة وقد جاء الشتاء ونحن نجد البرد، فقال: من اغتسل فبها ونعمت ومن لم يغتسل فلا حرج» قلت: قد شد بغيره.
فإن قلت: إذا ثبت النسخ ينبغي أن يرتفع الغسل يوم الجمعة.
قلت: المراد نسخ الوجوب لا كونه مشروعا، كما تقول نسخت الزكاة كل صدقة ونسخ صوم رمضان كل صوم.

م: (ثم هذا الغسل) : ش: أي غسل يوم الجمعة م: (للصلاة عند أبي يوسف) ش: أي لأجل الصلاة بمعنى لا يحصل له الثواب إلا إذا صلى يوم الجمعة بهذا الغسل حتى لو اغتسل أول اليوم وانتقض وضوؤه وتوضأ وصلى لا يكون مدركا لثواب الغسل. م: (وهو الصحيح) ش: أي ما ذهب إليه أبو يوسف هو الصحيح، واحترز به عن قول الحسن بن زياد فإنه قال لليوم على ما نذكره الآن. م: (لزيادة فضيلتها على الوقت) ش: أي لزيادة فضيلة الصلاة في يوم الجمعة على غيرها من الصلوات، لأنها تؤدي بجمع عظيم فلها من الفضيلة ما ليس لغيرها. م: (واختصاص الطهارة بها) ش: أي بالصلاة فإنها من شرائطها م: (وفيه) ش: أي وفي كون غسل يوم الجمعة للصلاة م: (خلاف الحسن) ش: فإنه يقول غسل يوم الجمعة لليوم إظهارا لفضيلته، قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «سيد الأيام يوم الجمعة» .
والجواب عنه: أن سيادة اليوم باعتبار وقوع هذه الصلاة فيه، ويقول الحسن: قال داود في

(1/345)


والعيدان بمنزلة الجمعة، لأن فيهما الاجتماع فيستحب الاغتسال دفعا للتأذي بالرائحة، وأما في عرفة والإحرام فسنبينه في المناسك إن شاء الله تعالى. قال: وليس في المذي والودي غسل، وفيهما الوضوء؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «كل فحل يمذي وفيه الوضوء»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
" المبسوط " وهو قول محمد وفي " المبسوط " وهو رواية عن أبي يوسف فعلى هذا عن أبي يوسف روايتان، وقيل: تظهر الفائدة من هذا الخلاف فيمن اغتسل بعد الصلاة قبل الغروب إن كان مسافرا أو عبدا أو امرأة ممن لا يجب عليه الجمعة، وهو بعيد لأن المقصود منه إزالة الروائح الكريهة لئلا يتأذى الحاضرون بها، وذلك لا يتأذى بعدها، ولو اتفق يوم الجمعة ويوم العيد أو يوم عرفة فاغتسل وقع عن الكل، وفي " صلاة الجلالي " لو اغتسل يوم الخميس أو ليلة الجمعة أتى بالسنة لحصول المقصود وهو قطع الرائحة.

م: (والعيدان) ش: أي عيد الفطر وعيد النحر م: (بمنزلة الجمعة لأن فيهما الاجتماع فيستحب الاغتسال دفعا للتأذي بالرائحة) ش: هذا التعليل يشعر أن كون الغسل في يومي العيدين سنة أو مستحب لدفع الرائحة الكريهة، فلا هو لليوم. ولا هو للصلاة، والمفهوم من كلام الجلالي أن العلة هي دفع الأذى من الروائح الكريهة في الجمعة أيضا.
م: (وأما في عرفة والإحرام فسنبينه في المناسك إن شاء الله تعالى) ش: قد بينا الأحاديث الواردة فيهما فيما مضى، واعلم أن صاحب " الخلاصة " ذكر للغسل أحد عشر نوعا: خمسة منها فريضة الغسل لالتقاء الختانين، ومن الإنزال، والاحتلام، والحيض، والنفاس، وأربعة سنة: غسل الجمعة، والعيدين، وعرفة، والإحرام، وواحد واجب: وهو غسل الميت، وواحد مستحب: وهو غسل الكافر إذا أسلم ولم يكن جنبا ولم يغتسل حتى أسلم ففيه اختلاف المشايخ.
وفي " المحيط " أنواع الغسل سبعة: ثلاثة فرض: غسل الجنابة، والحيض، والنفاس، وأربعة سنة: مثل ما ذكرنا، وواحد واجب: مثل ما ذكرنا، وواحد مستحب: وهو غسل الكافر إذا أسلم، والمجنون إذا أفاق والصبي إذا بلغ بالسن، وإن بلغ بالإنزال وجب.
وفي شرح " مختصر الطحاوي " نص على استحباب الثلاثة الكرماني في "مناسكه "، وينبغي أن يستحب الاغتسال لصلاة الكسوف والاستسقاء وكل ما كان في معنى ذلك لاجتماع الناس، وإن لم يذكر، وألا يجبر المسلم زوجته على غسل الجنابة لأنها غير مخاطبة بها ويمنعها من الخروج للكنائس.
م: (وليس في المذي والودي غسل) ش: لما روى مسلم «عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال كنت رجلا مذاء فكنت أستحي أن أسأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمكان ابنته عندي فأمرت المقداد بن الأسود فسأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال يغسل ذكره ويتوضأ» ، وفي رواية فيه الوضوء م: (وفيهما الوضوء لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «كل فحل يمذي وفيه الوضوء» ش: هذا خبر من حديث رواه ثلاثة من الصحابة - رضي الله

(1/346)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عنهم - وهم عبد الله بن سعد، ومعقل بن يسار وعلي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فحديث عبد الله بن سعد عن أبي داود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن معاوية بن صالح عن العلاء بن الحارث عن حزام بن حكيم «عن عبد الله بن سعد الأنصاري قال سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عما يوجب الغسل وعن الماء يكون بعد الماء فقال ذاك المذي وكل فحل يمذي فتغسل من ذلك فرجك وتوضأ وضوءك للصلاة» ، ورواه أحمد في مسنده.
وحديث معقل بن يسار عند الطبراني في "معجمه " من حديث إسماعيل بن عياش عن عطاء بن عجلان عن معاوية بن قرة عن معقل بن يسار أن «عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يلقى من المذي شدة فأرسل رجلا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسأله عن ذلك المذي، قال: "ذلك المذي وكل فحل يمذي، اغسله بالماء وتوضأ وصل» .
وحديث علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عند الطحاوي في " شرح معاني الآثار " عن صالح بن عبد الرحمن قال: "حدثنا سعيد بن منصور قال: أخبرنا هشيم قال: أخبرنا الأعمش عن منذر بن يعلى الثوري «عن محمد بن الحنفية قال سمعته يحدث عن أبيه قال كنت أجد مذيا فأمرت المقداد أن يسأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك واستحييت أن أسأله لأن ابنته عندي فقال إن كل فحل يمذي فيغسل فإذا كان» . ورواه إسحاق بن راهويه أيضا في "مسنده " ولفظه: «أنه سئل عن المذي فقال: "كل فحل بمذي فيغسل ذكره ويتوضأ» .
قوله: كل فحل أي كل ذكر من بني آدم يخرج من ذكره مذي.
قوله: يمذي من أمذى ومن مذا بالتخفيف ومن مذي بالتشديد.
وأشار إلى نفي وجوب الغسل بعلة كثرة الوقوع بقوله: «كل فحل يمذي» .
فإن قلت: إذا كان الواجب الوضوء كان الواجب أن يذكرهما في فصل نواقض الوضوء.
قلت: لما كانا يشابهان المني ذكرهما في فصل الغسل. وقال الأكمل: الأوجه أن يقال: إنما ذكره هاهنا لأن أحمد يقول: بوجوب الغسل في رواية، فذكر هاهنا نفيا لما قاله. قلت: لم تجر عادة المصنف أن يذكر شيئا ليدل على نفي قول أحمد.

(1/347)


والودي: هو الغليظ من البول يتعقب الرقيق منه خروجا فيكون معتبرا به
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: إذا كان حكمه الوضوء كان ذكره مستغنيا عنه بالكلية لأنه علم من قوله: «يخرج من السبيلين» .
قلت: لما ذكره هنا للتأكيد وإن كان فهم من ذاك هذا الجواب للأترازي وأخذ عنه الأكمل أيضا، وقال الأكمل أيضا: وقيل ذكره تصريحا بالنفي لقول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنه لا يقول بوجوب الغسل والوضوء بهما. وأجاب الأترازي بجواب آخر وهو أن يكون لبيان حكمها فيمن به سلس البول لأن طهارته لا تنقض بالبول في الوقت، وربما ينتقض.
وقال تاج الشريعة: إنما ذكرهما لكونهما متشابهين للبول والحال أن الغسل لا يجب بهما فمست الحاجة إلى الذكر.

م: (والودي) ش: بفتح الواو وسكون الدال المهملة، وفي " المطالع " وقد يقال معجمة وهو غير معروف ويقال أيضا بفتح الواو وكسر الدال وتشديد الياء من ودي بفتح العين، ويقال: من أودى بالألف م: (هو الغليظ من البول يتعقب الرقيق منه) ش: أي من البول م: (خروجا) ش: أي من حيث الخروج م: (فيكون معتبرا به) ش: أي بالبول.
وقال أحمد: فإن قيل: نقض الوضوء بالودي غير متصور على التفسير المذكور في الكتاب لأنه لما خرج على أثر البول وقد وجب الوضوء بالبول فلم يجب بالودي.
أجيب بأجوبة منها: إذا بال وتوضأ للبول ثم أودى فإنه يجب عليه الوضوء، ومنها أن من به سلس البول إذا توضأ للبول ثم أودى حال بقاء الوقت تنقض طهارته، ومنها أن الوضوء يجب في الودي لو تصور الانتقاض به وفيه ضعف.
قال الأكمل: قلت هذا نظير تفريع أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في مسائل المزارعة، لو كان يقول بجوازها كان ذلك قياسا، ومنها أن المراد "يوجب الوضوء" يعني لا يوجد الاغتسال، ذكره الحلوائي، ومنها أن الوجوب بالبول لا ينافي الوجوب بالودي بعده فالوضوء منهما جميعا حتى لو حلف لا يتوضأ من رعاف فرعف ثم بال أو بال ثم رعف فتوضأ فالوضوء منهما جميعا ويحنث، أو حلف لا يغتسل من امرأته فلانة من جنابة فأصابها ثم أصاب غيرها واغتسل فهو منهما، هكذا في " المنتقى " ويحنث. وكذا المرأة إذا حلفت لا تغتسل من جنابة أو حيض فأصابها زوجها وحاضت فاغتسلت فهو منهما، وتحنث، وعن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيمن قال إن اغتسلت من زينب فهي طالق، وإن اغتسلت من عمرة فهي طالق، فجامع زينب ثم جامع عمرة فهما طالقان.
وقال أبو عبد الله الجرجاني: الاغتسال من الأول دون الثاني.

(1/348)


والمني خاثر أبيض ينكسر منه الذكر عند خروجه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الفقيه أبو جعفر الهندواني إن اتحد الجنس بأن بال ثم رعف أو على العكس فالوضوء منهما جميعا، فعلى قول الجرجاني يكون الوضوء والغسل من الأول إن اتحد الجنس أو اختلف، وعلى قول الهندواني إن اتحد فمن الأول، وإن اختلف فمنهما جميعا، وعلى ظاهر الجواب الوضوء والغسل منهما جميعا كيف ما كان، وقيل: الودي ما يخرج بعيد الاغتسال من الجماع وبعد البول وهو من الزوج، فعلى هذا الإشكال ذكر الزوجة في الودي يخالف ما تقدم.

م: (والمني خاثر أبيض ينكسر منه الذكر عند خروجه) ش: وزاد غيره ويتولد منه الولد. قال الأترازي: يرد على هذا التعريف مني المرأة لأن منيها ليس بتلك الصفة فإذن يحتاج إلى التعريف الجامع بين مني الرجل والمرأة جميعا، وقال: فما وجدت فيما عندي من الكتب ولا كتب اللغة يوجد منه إلا أنه ذكر في كتاب الأجناس ناقلا عن المجرد ويقال: المني هو الماء الدافق يكون منه الولد وهذا حسن.
وقوله الماء الدافق احتراز عن الودي والمذي لأنه لا دفق فيهما. وقوله: المني يكون منه الولد، احترازا عن البول وعن ماء من الميزاب.
ثم قال: لا يقال: ماء المرأة ليس بدافق لأنا نقول: لا نسلم لأن الله تعالى أراد بالماء الدافق ماء الرجل والمرأة جميعا حيث قال: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 6] {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق: 7] (الطارق: الآية 7) قلت: هذا كلام عجيب صادر من غير روية. والتعريف الذي فسر المصنف المني به هو مني الرجل ولا يرد عليه، لأن مني كل منهما يعرف بتعريف، فمني الرجل ماء أبيض خاثر رائحته كرائحة الطلع فيه لزوجة ينكسر منه الذكر ويتولد منه الولد، ومني المرأة ماء أصفر رقيق فتعريف أحد الماهتين المختلفتين كيف يورد عليها بتعريف الماهية الأخرى، ثم استحسانه لما ذكر في " المجرد " بأن المني هو الماء الدافق الذي يكون منه الولد غير مساعد له لأن هذا أيضا مني الرجل، والدفق أيضا من صفات مني الرجل، وليس في مني المرأة دفق وقَوْله تَعَالَى: {مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 6] (الطارق: الآية 6) أي مدفوق في رحم المرأة.
قال الإمام أبو الليث السمرقندي في "تفسيره " في قَوْله تَعَالَى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ} [الطارق: 5] (الطارق: الآية 5) يعني فليعتبر الإنسان مم خلق، قال بعضهم: نزلت في شأن أبي طالب ويقال في جميع من أنكر البعث ثم بين أول خلقهم كي يعتبروا، فقال: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 6] يعني من ماء مهراق في رحم الأم.
ويقال: دافق يعنى مدفوقا فهذا يدل صريحا على أن الدفق صفة ماء الرجل، جعله الله دافقا ليصل بقوة الدفق إلى قعر الرحم الذي يتولد منه الولد، ولولا الدفق لعقمت النساء الغائرات الأرحام. قال الزمخشري: الدفق صب فيه دفع وهذا لا يوجد إلا في مني الرجل وقوله:

(1/349)


والمذي رقيق يضرب إلى البياض يخرج عند ملاعبة الرجل أهله،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
{يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق: 7] (الطارق: الآية 7) . قال أبو الليث: يعني خلق من ماء الأب ومن ماء الأم، فماء الأب يخرج من الصلب، وماء المرأة يخرج من الترائب، وهو موضع القلائد.
فإن قلت: كان ينبغي أن يقال من ماءين.
قلت: قال الزمخشري ولم يقل ماءين لامتزاجهما في الرحم واتحادهما حين ابتداء خلقه، وقال أيضا الدفق في الحقيقة لصاحبه، والإسناد مجازي وصاحب الدفق هو الرجل، والمرأة ليس لها دفق.
وقال أبو إسحاق العراقي: المني يخرج من الدماغ بعد نضجه ويصير دما أحمر في فقار الظهر إلى أن يصل إلى الكليتين فينضجانه، ثم يصبانه إلى أنثيين فينضجانه منيا أبيض، وهو خاثر رائحته كرائحة الطلع فيه لزوجة ينكسر الذكر عند خروجه وهذه صفة مني الرجل دون المرأة.
والعجب من الأكمل أنه رضي بما قال الأترازي فقال: والتعريف الجامع لمني الرجل والمرأة أنه ماء دافق يخرج من صلب الرجل وترائب المرأة، وقد قلنا: إن المرأة ليس لها دفق وهذا يمكن أن يكون تعريفا للمني المصبوب في رحم المرأة من جهتها الذي يتولد منه الولد إذا أراد الله.
أما المني الذي تتعلق به الأحكام فاثنان: أحدهما مني المرأة والثاني مني الرجل، فلكل واحد منهما تعريف وحده، وإلا فتعريف القسمين بما ذكره كتعريف الإنسان والفرس بأنهما حيوان. ثم الفعل من المني مني وأمنى ومنى بالتشديد. وفي " نكت ابن الصلاح " في المني لغتان تشديد الياء وتخفيفها ولم يحكه الجوهري.

م: (والمذي رقيق يضرب إلى البياض يخرج عند ملاعبة الرجل أهله) ش: المذي بفتح الميم وسكون الذال المعجمة، يقال: مذى الرجل بالفتح وأمذى بالألف وفي المطالع هو ماء رقيق يخرج عند التذكار والملاعبة بسكون الذال وكسرها يقال: مذى وأمذى ومذي. وقال عياض: فيه وجهان مذي بالتخفيف ومذي بالتشديد. ويقال: المذي من المرأة أيضا قال المبرد في " الكامل ": كل فحل يمذي وكل أنثى تمذي. قلت: من مذت الشاة إذا ألقت من رحمها بياضا.
وقال الأترازي: فإن قلت: لم ذكر تعريف الودي سابقا والمني ثانيا والمذي ثالثا.
قلت: لأن المصنف ذكر المذي والودي بعدما ذكر حكم المني سابقا، واستدل على عدم الغسل في المذي لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل فحل يمذي وفيه الوضوء» . ثم احتاج إلى الدليل في الودي فذكر

(1/350)


وهذا التفسير مأثور عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تعريفه لقربه بالبول لأنه يخرج عقيبه، فوقع تعريفه ثانيا ثم أراد أن يعرف المني والمذي، فقدم المني على المذي لقوة في المني دون المذي، فوقع تعريف المني ثانيا، والمذي ثالثا.
قلت: هذا الذي ذكره مطولا ليس فيه مزيد الفائدة، والفقهاء لا ينظرون إلى رعاية محاسن التراكيب وإنما نظرهم في بيان المقصود ولا يرى ذلك إلا في التراكيب التي تقع في كلام الشارع لبيان الإعجاز وبيان الفصاحة، وسترى تساؤلا في كلام المصنف وغيره في الألفاظ والعبارات على ما ستقف عليه في مواضع إن شاء الله تعالى.
م: (وهذا التفسير) ش: أي التفسير المذكور في المني والمذي والودي م: (مأثور عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -) ش: ثم لم يثبت هذا عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -. روى عبد الرزاق في "مصنفه " عن قتادة وعكرمة قالا: هي ثلاثة المني والمذي والودي، فالمني هو الماء الدافق الذي يكون فيه الشهوة، ومنه يكون الولد ففيه الغسل، وأما المذي فهو الذي يخرج إذا لاعب الرجل امرأته فعليه غسل الفرج والوضوء، وأما الودي فهو الذي يكون مع البول وبعده. وفيه غسل الفرج والوضوء.

(1/351)