البناية شرح الهداية

فصل في الأسآر وغيرها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في الأسآر وغيرها] [سؤر الآدمي وما يؤكل لحمه]
م: (فصل في الأسآر وغيرها)
ش: أي هذا فصل في بيان أحكام الأسآر وغير الأسآر والمناسبة بين الفصلين، أعني هذا الفصل والفصل الذي قبله، وهو فصل البئر هي أنه لما بين أحكام ماء البئر من حيث وقوع الحيوانات فيها استدعى ذلك ذكر الأحكام المستنبطة بسؤرها. وقال الأترازي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مناسبة هذا الفصل لما تقدم من حيث إن بعض الأسآر مما يجوز به الوضوء، فاحتاج إلى ذكر الأسآر ليفصل ذلك النقص منها.
قلت: ما تقدم هذا الفصل أنواع، وكان ينبغي أن يبين أي نوع منها يناسب ذكر هذا الفصل، والوجه ما ذكرناه. وقال السروجي: علم أن الماء القليل نجس بوقوع الحيوان النجس السؤر فيه فلا بد لنا من معرفة الأسآر وأنواعها وأحكامها.
قلت: هذا أبعد من الأول؛ لأن تنجيس الماء القليل لا يقتصر على وقوع الحيوان النجس السؤر، وأيضا وجه المناسبة لا يراعى إلا بين الفصلين دون أن يراعى بين فصل وبين مسألة فصل عليه فقط، ثم السؤر مهموز العين اسم للبقية بعد الشرب، يعني بقية الماء التي أبقاها الشارب في الإناء، ثم عم استعماله فيه وفي الطعم.
فإن قلت: إذا كانت السؤر اسما فما المصدر من هذا الباب، ومن أي باب هو؟
قلت: المصدر سأرا من سأر يسأر سأرا من باب فتح يفتح، ومعناه أفضل وهو فعل متعد، وفي " العباب " سئر يسأر إذ بقي، وسأر إذا أفضل فضلة والفعل على قوله الأول من باب علم يعلم والثاني من باب فتح يفتح كما ذكرنا. ثم قال في " العباب ": وأسأر بقية السؤر، يقال: إذا شربت فأسر أي أبق شيئا من الشراب في مغب الإناء، والفعل سأر على غير القياس سئر وأسأر وعلى هذا الوجه قول الأخطل:
شارب ريح بالكؤوس ما رمى ... لاقى بالحصور ولا فيها يسأر
ونظيره أخبره فهو خبار، وأدركه فهو دراك، وأقصر عن كفؤه نزع من القدرة فهو قصار، ويجوز من هذا كله مفعل على القياس. قلت: القياس مخبر ومدرك ومقصر ومنزع كما ذكره. وقال في " العباب " أيضا من همزة السورة من سؤر القرآن، فقال سؤرة جعلها بمعنى بقية من القرآن وقطعة.
فإن قلت: لم ذكر المصنف السؤر بالجمع؟
قلت: لأن السؤر على أنواع، قال في " المبسوط " و" المحيط " و" الينابيع " و" البدائع " و" التحفة "

(1/464)


وعرق كل شيء معتبر بسؤره، لأنهما يتولدان من لحمه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والأسآر عندنا أنواع أربعة. وقال الأسبيجابي على خمسة أوجه، قالوا: نوع متفق على طهارته من غير كراهة كسؤر بني آدم مسلمهم، وكافرهم، صغيرهم، وكبيرهم، ذكرهم، وأنثاهم، طاهرهم، ونجسهم، حائضهم، وجنبهم، إلا في حال شرب الخمر، فإن سؤره نجس، فإن بلع ريقه ثلاث مرات طهر فيه عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وكذا سؤر ما يؤكل لحمه كالإبل والبقر والغنم. وهو نوع نجس وهو سؤر سباع البهائم. ونوع مكروه: وهو سؤر النمر. ونوع مشكوك فيه: كسؤر الحمار والبغل، وقال الأسبيجابي: النوع الخامس: سؤر الخنزير فإنه متفق على نجاسته والخلاف فيما عداه.
قلت: هذا ممنوع، فإن مالكا وداود قالا بطهارته مع سؤر الكلب وكراهة سؤرهما. قوله: وغيرها أي وغير الأسآر كاللعاب والعرق وعرق كل شيء معتبر بسؤره. قال الأكمل: كان الواجب أن يقول: وسؤر كل شيء معتبر بعرقه؛ لأن الكلام في السؤر لا في العرق، وليس بصحيح؛ لأن المصنف أراد أن يبين في ضمن الأسآر العرق، فلو قال: وسؤر كل شيء معتبر بعرقه لوجب أن يقول بعده عرق الآدمي كذا وعرق الكلب كذا وعرق الخنزير كذا، وكان الفصل إذ ذاك للعرق لا للسؤر.
قلت: القائل في قوله: "قيل" هو السغناقي، فإنه قال في شرحه، فإن قلت: كان من حق الكلام أن يقول: وسؤر كل شيء معتبر بعرقه؛ لأن الكلام في السؤر لا في العرق، فحقه أن يجعل السؤر مقيسا عليه.
ثم قال: قلت: نعم كذلك إلا أنهما لما كانا متولدين من أصل واحد لا مفاضلة لأحدهما على الآخر، كان كل واحد منهما بنية الآخر مقيسا ومقيسا عليه، وذكر في " الإيضاح " هكذا، وتبعه صاحب " الهداية ".
وقال صاحب " الدراية ": م: (وعرق كل شيء معتبر بسؤره) ش: أي حكمهما واحد لا مفارقة بينهما إلا أن يكون أحدهما مقيسا والآخر مقيسا عليه.
م: (لأنها يتولدان من لحمه) ش: قلت: كلام المصنف ألطف من الأكمل؛ لأن المصنف أراد أن يبين في ضمن الأسآر العرق، فليس كذلك لأن المصنف بين العرق قصدا، وكيف بيانه في ضمن الأسآر وقد فتح هذا الفصل ببيان العرق حيث قال: وعرق كل شيء معتبر بسؤره، فجعل العرق مقيسا والسؤر مقيسا عليه، فلزم من ذلك بيان المقيس عليه حتى يعلم المقيس وبين ذلك بقوله: وسؤر الآدمي. . إلخ. ولا يرد عليه النقض بسؤر الحمار لأنه مشكوك فيه، وعرقه طاهر لأن الشك في طهوريته لا في طهارته، وقول الأكمل أيضا: وكان الفصل إذ ذاك للعرق لا

(1/465)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
للسؤر، ليس كذلك لأن الفصل غير مخصوص بالسؤر، ألا - ترى كيف قال المصنف: فصل في الأسآر وغيرها، أي وغير الأسآر وهو العرق واللعاب والدمع. وأما قول السغناقي: إلا أنهما لما كانا متولدين من أصل واحد. . إلى آخره، فليس كذلك.
وأما كون تولد العرق من اللحم فظاهر، وأما تولد السؤر منه فليس كذلك؛ لأن السؤر بقية الماء الذي يبقيها الشارب كما ذكرنا، فمن أين يتولد من اللحم. غاية ما في الباب أنه يمتزج باللعاب، والدليل عليه ما قاله صاحب " الهداية " على ما يجيء. وسؤر الآدمي ما يؤكل لحمه طاهر، لأن المختلط باللعاب أي: المختلط بالسؤر اللعاب وقد تولد من لحم طاهر، ولكن أيضا ناقض كلامه؛ لأنه ذكرها هنا أن السؤر مختلط به اللعاب وذكر فيما قبله على ما يجيء لأنهما متولدان من لحمه، والسؤر لا يتولد من اللحم وهذا لا خفاء فيه، وإنما يمتزج من اللعاب وهو متولد من اللحم.
وأما قول صاحب " الدراية ": إلا أن يكون أحدهما مقيسا والآخر مقيسا عليه؛ لأنهما متولدان من اللحم فغير موجه أصلا لما ذكرنا من أن السؤر لا يتولد من اللحم، فإذا كان كذلك صار حكم أحدهما مقيسا، وحكم الآخر مقيسا عليه. وقال تاج الشريعة: وعرق كل شيء معتبر بسؤره، يعني يقاس العرق على السؤر مرة، ويقاس السؤر على العرق مرة أخرى، وعلى هذا ينبغي أن يكون عرق الحمار مشكوكا فيه، لكن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما ركب الحمار معروقا حكم بطهارته.
وقال الأترازي: في هذا الموضع وكان الأولى أن يقول المصنف: "وسؤر كل شيء معتبر بعرقه" لأن الفصل بيان للسؤر لا للعرق. قلت: ادعاء الأولوية بطريق لا يجديه لما ذكرنا، وقال السروجي: قال في "المنافع" ثم الأصل أن ما يكون لعابه طاهرا يكون معتبرا به، وهذا أوجه من قول صاحب " الهداية ": وعرق كل شيء معتبر بسؤره، لوجوه ثلاثة:
أولها: أن الفصل في السؤر وهذا إنما يعتبر باللعاب بحسب طهارته ونجاسته، فلا يناسب ذكر العرق هاهنا.
ثانيا: أن حكمها مأخوذ من غيرها وهو اللحم. فلا يؤخذ حكم أحدهما من صاحبه.
وثالثها: أن عرق البغل أو الحمار طاهر في المختار بلا شك، وسؤرهما مشكوك فيه في الصحيح. قلت: في كل من الوجوه الثلاثة نظر: أما الأول، فقوله: "الفصل في السؤر" ليس كذلك، لأنا قلنا: إنه في السؤر والعرق. وأما الثاني: فقوله: إن حكمهما مأخوذ من غيرهما وهو اللحم، غير صحيح؛ لأن السؤر غير مأخوذ من اللحم كما ذكرناه. وأما الثالث: فلأن

(1/466)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
طهارة عرقهما للحرج كما ذكرنا في " المبسوط " و" الذخيرة ". عرق البغل والحمار ولعابهما طاهر في الصحيح. وذكر في " الذخيرة " عن أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله -: لو سقط لعابهما أو عرقهما في الماء أفسده، أراد أنه لا يبقى طهورا، وروى الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن عرق الحمار ينجس الماء، وعنه أن لعابهما وعرقهما نجس نجاسة حقيقية. وروى الكرخي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن سؤر الحمار نجس لأنه لا يخلو عن قليل دم لما يلحقه من التعب وحمل الأثقال. وفي " المفيد " أن لعابه ينجلب من لحمه فيكون فيه قليل دم لتخلله من اللحم الممتزج بالدم، إلا أنه سقط في حق الآدمي للحرج كيلا يتنجس مأكوله ومشروبه، وكذا ما يؤكل لحمه إلحاقا به.
ومن المشايخ من قال بنجاسة سؤر الحمار دون الأتان لأن الحمار يتنجس فمه بشم البول. قال في " البدائع ": هذا موهوم فلا يتنجس. قال قاضي خان: الأصح أنه لا فرق بينهما، وقال قاضي خان: في لعابه وعرقه ثلاث روايات عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية: نجس نجاسة غليظة، وفي رواية أخرى: حقيقة، وفي رواية أخرى: لا يمنع جواز الصلاة وإن فحش وعليها الاعتماد، وفي " جامع البرامكة " عن أبي يوسف أن أبا حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: لعاب ما لا يؤكل لحمه من الدواب وعرقه يفسد الثوب إذا زاد على قدر الدرهم، فجعل نجاسة غليظة، وهذا يوافق رواية الكرخي عنه، وعن أبي يوسف: لا يفسده حتى ينجس. وفي " المحيط ": عرقهما ولعابهما لا يفسدان الثوب وإن فحشا للشك. وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يفسدانه إذا فحشا للنجاسة اعتبارا بلحمهما. وفي " المنتقى " عن محمد أن لبن الأتان كلعابها وعرقها يفسدان الماء دون الثوب. وذكر أبو عبد الله البلخي أن سؤرهما نجس عند الحسن وزفر نجاسة خفيفة.
قال قاضي خان: هذه رواية عن زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقيل: إذا نزى الحمار على الرمكة لا يكره لحم البغل المتولد بينهما، عن محمد فعلى هذا لا يصير الماء بسؤره مشكوكا فيه لأنهما قال الشراح: أي لأن اللعاب والعرق. وقال السغناقي: ذكر ضمير اللعاب وإن لم يذكر قبله؛ لأن السؤر هو مخالطة اللعاب فكان ذكر السؤر ذكرا له فصلح ذكر ضميره، وتبعه الأكمل في هذا وقال الأترازي: لا يقال كيف رجع الضمير إليهما واللعاب غير مذكور؛ لأن الشهرة قائمة مقام الذكر لأن السؤر لما كان ممتزجا باللعاب صار ذكر السؤر كذكر اللعاب.
قلت: هو ولأنه من إعادة الضمير إلى العرق والسؤر المذكورين مما قبله لأجل أن السؤر لا يتولد من اللحم، وقد صرح السغناقي وغيره أن السؤر متولد من اللحم على ما ذكرنا من قريب. وقولهم: إن ذكر السؤر ذكر اللعاب غير ظاهر لأن هذا بطريق اللزوم والاقتصار أو بطريق أن السؤر يطلق على اللعاب. وقول الأترازي: لأن الشهرة قائمة مقام الذكر. أقله ظهورا من

(1/467)


فأخذ أحدهما حكم صاحبه،
قال: وسؤر الآدمي، وما يؤكل لحمه طاهر؛ لأن المختلط به اللعاب وقد تولد من لحم طاهر فيكون طاهرا ويدخل في هذا الجواب الجنب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ذلك، وأي شهرة موجودة من ذلك حتى يقوم مقام الذكر بل ظاهر التركيب يدل على أن الضمير يرجع إلى العرق والسؤر، ولكن يلزم التناقض في كلامه، وقد ذكرناه عن قريب ويمكن دفع ذلك بأن نقول: إن قوله: لأنهما يتولدان من اللحم أي إطلاق تولد السؤر من اللحم يكون بطريق أن السؤر يمتزج به اللعاب، فبهذا الاعتبار كأنه يتولد من اللحم.
م: (فأخذ أحدهما حكم صاحبه) ش: أي أخذ العرق والسؤر، وهاهنا لم يقل أحد منهم إن الضمير في أحدهما يرجع إلى اللعاب والعرق.

م: (وسؤر الآدمي وما يؤكل لحمه طاهر لأن المختلط به) ش: أي بالسؤر م: (اللعاب وقد تولد من لحم طاهر فيكون طاهرا) ش: فيقال: سؤر الآدمي وما يؤكل لحمه طاهر، لأنه مختلط بلعاب متولد من طاهر، وكل لعاب متولد من طاهر طاهر فالسؤر المختلط به طاهر.
م: (ويدخل في هذا الجواب) ش: أي في جواب المسألة المذكورة، وهو ثبوت طهارة سؤر الآدمي م: (الجنب) ش: لأنه آدمي، والجنابة لا تؤثر في ذلك.
قال الشراح: لما «روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتى حذيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فمد يده ليصافحه فقبض يده، وقال: إني جنب، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "المؤمن لا ينجس» ولم يبين أحد منهم مخرج هذا الحديث. والحديث أخرجه أبو داود وابن ماجه ولفظ مسلم «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقيه وهو جنب فحار عنه فاغتسل ثم جاء، فقال: كنت جنبا، قال: "إن المسلم ليس بنجس» ، ولفظ أبي داود «أن رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لقاه فأهوى إليه، فقال: إني جنب، فقال: "إن المسلم ليس بنجس» .
وفي الباب عن أبي هريرة وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. أما حديث أبي هريرة فأخرجه الجماعة بألفاظ مختلفة، ولفظ البخاري عن أبي هريرة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقيه في بعض طرق المدينة وهو جنب قال فاستحييت منه فذهبت فاغتسلت ثم جئت فقال أين كنت يا أبا هريرة قال كنت جنبا فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة قال سبحان» . ولفظ النسائي كذلك، ولفظ مسلم: «المؤمن لا ينجس» ، وكذا ابن ماجه، ولفظ أبي داود والترمذي: «إن المسلم لا ينجس» .
وأما حديث ابن عباس فأخرجه الحاكم عنه قال: قال النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا تنجسوا موتاكم،

(1/468)


والحائض، والكافر

وسؤر الكلب نجس، ويغسل الإناء من ولوغه ثلاثا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن المسلم ليس بنجس حيا ولا ميتا» . وقال الحاكم: صحيح على شرطهما ولم يخرجاه.

[سؤر الحائض]
م: (والحائض) ش: بالرفع عطفا على قوله الجنب، والدليل على ذلك حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قالت: «كنت أشرب وأنا حائض فأناول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيضع فاه على موضع في فيشرب» . أخرجه مسلم، وأبو داود وابن ماجه.
وممن قال بطهارة سؤر الجنب: الحسن البصري، ومجاهد، والزهري، ومالك، والأوزاعي، والثوري، والشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وروي عن النخعي أنه يكره فضل شرب الحائض، وقد روي عن جابر أنه سئل عن سؤر الحائض هل يتوضأ منه للصلاة فقال: لا. ذكر ذلك كله ابن المنذر في " الأشراف ".
فإن قلت: كان ينبغي أن ينجس الماء بشرب الجنب عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لسقوط الفرض به.
قلت: هذا تعليل في مقابلة النص، فلا يجوز على أنه في مكان الضرورة، فلا يصير مستعملا للحرج. وقال خواهر زاده: ولأنه يشربه ولا محذور في السؤر.
م: (الكافر) ش: طاهر أيضا لما ثبت في " الصحيحين «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكن ثمامة بن أثال من أن يمكث في المسجد قبل إسلامه» فلو كان نجسا لما مكنه من ذلك.
فإن قلت: قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28] (التوبة: الآية 27) ، قلت: النجاسة في اعتقادهم لا في ذاتهم. وقال ابن المنذر: وكان ممن لا يرى بسؤر الكافر بأسا: الأوزاعي، والشافعي، والثوري، وأبو ثور، ولا أعلم أحدا كره ذلك إلا أحمد، والحسن، فإنهما قالا: لا ندري ما سؤر المشرك.

[سؤر الكلب]
م: (وسؤر الكلب نجس) ش: وقال مالك وداود: طاهر، وإن ولغ في لبن أو سمن فلا بأس بأكله. ونقل الطحاوي: وعن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في اختلاف العلماء أنه كان يرى الكلب من أهل البيت.
م: (ويغسل الإناه من ولوغه ثلاثا) ش: أي ثلاث مرات. والولوغ من ولغ الكلب في الإناء بفتح اللام فيهما إذا شرب بأطراف لسانه. وعن ثعلب أنه يقال: يالغ بكسر اللام، ولكنها غير الصحيح، وتبعه على ذلك أبو علي وابن سيده، وابن القطان عنه، وأبو حاتم الأسبيجابي وسكن بعضهم اللام، وقال ابن جني: مستقبله يلغ بفتح اللام وكسرها، وفي مستقبل ولغ بالكسر يلغ

(1/469)


لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «يغسل الإناء من ولوغ الكلب ثلاثا»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالفتح، وزاد ابن القطان: ويلغ بكسر اللام كما في الماضي. وقال ابن خالويه: ولغ يلغ ولغا ولغانا، وولغ ولغا وولوغا ولغانا، قال أبو زيد: يقال ولغ الكلب بشرابنا وفي شرابنا ومن شرابنا. قال ابن الأثير: وأكثر ما يكون الولوغ في السباع. وابن فورك: كل ولغ شرب وليس كل شرب ولوغا والشرب أعم، ولا يكون الولوغ إلا للسباع، وكل من يتناول الماء بلسانه دون شفتيه، فإذن الولوغ صفة من صفات الشرب يختص بها اللسان، والشرب عبارة عن توصيل المشروب إلى محله من داخل الفم، ألا ترى أنه يقال: شربت الماء الشجر والأرض، والمصدر من ولغ الكلب الولوغ بالضم. قال الخطابي: وإذا أكثر فهو الولوغ بالفتح. وقال الترمذي: الولوغ الولغ من الكلاب والسباع كلها، هو أن يدخل لسانه في الماء وغيره من كل مائع يحركه تحريكا قليلا أو كثيرا، وقال مكي في شرحه: فإن كان غير مائع يقال: لعقته ولحسته، قال المطهر: فإن كان الإناء فارغا يقال له لحس، وإن كان فيه شيء يقال: ولغ، وقال ابن درستويه معنى ولغ قطعه بلسانه شرب منه أو لم يشرب، كان فيه ماء أو لم يكن، ولا يقال: ولغ في شيء من جوارحه سوى لسانه.
م: (لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: يغسل الإناء من ولوغ الكلب ثلاثا) ش: هذا الحديث رواه أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من طريقين الأول أخرجه الدارقطني في "سننه" عن عبد الوهاب ابن الضحاك عن إسماعيل بن عياش عن هشام بن عروة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يغسل الإناء من ولوغ الكلب ثلاثا أو خمسا أو سبعا» .
الثاني: أخرجه ابن عدي في "الكامل" عن الحسين بن علي الكرابيسي حدثنا إسحاق الأزرق حدثنا عبد الملك عن عطاء عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليهرقه وليغسله ثلاث مرات» .
فإن قلت: قال الدارقطني: تفرد به عبد الوهاب بن الضحاك عن ابن عياش وهو متروك وغيره يروى عن ابن عياش بهذا الإسناد «فاغسلوه سبعا» وهو الصواب، وقال البيهقي: في

(1/470)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
إسناده إسماعيل بن عياش وهو لا يحتج به وأنه إذا روى عن أهل الحجاز. قلت: ظاهر هذا الكلام، وإطلاق القول وأنه لا يصح الاحتجاج به وأنه إذا روى عن أهل الحجاز كان أشد في عدم الاحتجاج به، وعلى هذا قد خالف البيهقي ما ذكره هاهنا في باب ترك الوضوء من الدم، وقال: ما روى عن الشاميين صحيح، وقال القدوري في "تجريده": إن قولهم عبد الوهاب بن الضحاك عن إسماعيل بن عياش وهما ضعيفان غير معتد به حتى يبينوا صفة الضعف، فإن الجرح المبهم غير معتبر.
قلت: يلزم من كلام البيهقي أيضا أن يكون الراوي ثقة من وجه دون وجه، وهذا لا يصح، ومع هذا روى الدارقطني هذا الحديث بسند صحيح من حديث عبد الملك عن عطاء عن أبي هريرة: «إذا ولغ الكلب في إناء فأهرقوه، ثم اغسلوه ثلاث مرات» . وروي أيضا من حديث عطاء عن أبي هريرة أنه كان إذا ولغ الكلب في الإناء يهرقه ويغسله ثلاث مرات. وروى الطحاوي أيضا بإسناد صحيح.
فإن قلت: قال البيهقي: تفرد به عبد الملك من بين أصحاب أبي هريرة والحفاظ الثقات من أصحاب عطاء وأصحاب أبي هريرة يروونه سبع مرات وعبد الملك لا يقبل منه؛ لأنه يخالف فيه الثقات، ولمخالفة أهل الحفظ والثقة في زمانه تركة ربيعة ولم يحتج به البخاري في " صحيحه ".
وقد اختلف عليه في هذا الحديث فمنهم من يرويه عنه مرفوعا، ومنهم من يرويه عنه موقوفا على أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من قولهم: ومنهم من يرويه عنه من فعله، وقد اعتمد الطحاوي على الرواية المتواترة فيه في نسخ حديث السبع، وأن أبا هريرة لا يخالف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما يرويه عنه، وكيف يجوز ترك رواية الحفاظ الأثبات من أوجه كثيرة لا يكون مثلها غلطا رواية واحد قد عرفت مخالفته الحفاظ في بعض الأحاديث. قلت: هذا تحامل منه؛ لأن الحديث الذي رواه الطحاوي صحيح، وكذلك رواه الدارقطني عنه صحيح، وقال في " الإمام ": هذا مسند صحيح، ورواه ابن عدي أيضا عن عبد الملك كما ذكرناه، وعبد الملك قد أخرج له مسلم في "صحيحه". وقال أحمد والثوري: زين الحفاظ. وعن الثوري: هو ثقة متفق عليه. وقال أحمد بن عبد الله: ثقة ثبت في الحديث. ويقال: كان الثوري يسميه الزمان، ولا يلزم من ترك

(1/471)


ولسانه يلاقي الماء دون الإناء، فلما تنجس الإناء من ولوغه فالماء أولى،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الاحتجاج به أن يترك قوله وتشنيعه على الطحاوي بأنه اعتمد على الرواية الموقوفة في نسخ حديث السبع باطل؛ لأنه لما صح عنده هذه الرواية حمل رواية السبع على النسخ توفيقا بين الكلامين وتسحينا للظن في حق أبي هريرة ولا سيما وقد تأكدت الرواية الموقوفة بالرواية المرفوعة.
وروى عبد الرزاق في "مصنفه" أيضا عن ابن جريج قال: قال لي عطاء: يغسل الإناء الذي ولغ فيه الكلب، قال: كل ذلك لك سبعا وخمسا وثلاث مرات.
فإن قلت: قال البيهقي: وقد روى حماد بن زيد عن أبيه عن ابن سيرين عن أبي هريرة فتواه بالسبع كما رواه، وفي ذلك دليل على خطأ رواية عبد الملك عن عطاء عن أبي هريرة في الثلاث، بل يحتمل أن يكون فتواه بالسبع قبل ظهور النسخ عنده أو يكون ذلك بطريق الندب و [من] يخطئ عبد الملك مخطئ.
وقد روي عن أبي هريرة مرة واحدة أيضا. قال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة في الهر يلغ في الإناء قال: غسله مرة واحدة، وإسناده صحيح ورجاله رجال الصحيح. فهذا أدل دليل على ثبوت انتساخ السبع عنده، وأن مراده في رواية الثلاث هو أن يكون على الندب والاستحباب. وقال الطحاوي: ولو وجب أن يعمل بحديث السبع ولا يجع منسوخا لكان ما روى «فليغسله سبع مرات وعفروا الثامنة بالتراب» ، فهذا زاد على أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - والزائد أولى من الناقص فكان ينبغي لهذا المخالف أن يقول: لا يطهر الإناء حتى يغسل ثمان مرات السابعة بالتراب والثامنة كذلك لما أخذنا بحديثين جميعا، فإن يترك هذا الحديث فقد لزمه ما ألزمه خصمه في ترك السبع، وإلا فقد بينا أن أغلظ النجاسات يطهر فيها الإناء بغسل ثلاث مرات فما دونها أحق من أن يطهره ذلك.
فإن قلت: قال ابن الجوزي في " العلل المتناهية " في حديث الكرابيسي بعد أن رواه هذا حديث لا يصح لم يرفعه غير الكرابيسي، وهو ممن لا يحتج بحديثه.
قلت: قال ابن عدي بعد أن رواه: لم أجد له حديثا منكرا غير هذا، وإنما عليه أحمد بن حنبل من جهة اللفظ بالقرآن، فأما في حديث فلم أر به بأسا؟
م: (ولسانه يلاقي الماء دون الإناء، فلما تنجس الإناء من ولوغه فالماء أولى) ش: أي لسان الكلب يلاقي الماء الذي في الإناء ولا يلاقي الإناء فلا ينجس الإناء من ولوغه، وقد انعقد الإجماع على

(1/472)


وهذا الحديث يفيد النجاسة والعدد في الغسل،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وجوب غسل الإناء بولوغه، فالماء أولى بالتنجس بدلالة الإجماع. وقال الأكمل: قيل يجوز أن يكون المراد بولوغ الكلب في الإناء لحسه فيكون لسانه ملاقيا للإناء، فلا يتم الاستدلال، وأجيب بأن الولوغ حقيقة في شرب الكلب وأشباهه المائعات بأطراف لسانه، والكلام في الحقيقة إذا لم تصرف عنها قرينة.
قلت: هذا السؤال والجواب للسغناقي ولكن فيه نظر، لأن الولوغ هو اللط بلسانه شرب أو لم يشرب، وكان في الإناء مائع أو لم يكن.
م: (وهذا الحديث) ش: أي قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «يغسل الإناء من ولوغ الكلب ثلاثا» م: (يفيد النجاسة) ش: أي نجاسة سؤر الكلب، وفيه نفي قول مالك، لأن سؤر الكلب طاهر عنده لكون الكلب طاهرا عنده. وذكر أصحابه عنه أربعة أقوال: طهارته، ونجاسته، وطهارة سؤر المأذون في الكلب ودوده وغيره، والرابع لابن الماجشون يفرق بين البدوي والحضري.
ثم اختلف أصحابنا في الكلب، هل هو نجس العين كالخنزير أو لا، والأصح أنه ليس بنجس العين كذا في " البدائع "، وفي " الإيضاح ": فأما عين الكلب، فقد روي عن محمد أنه نجس، وكذا عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وبعضهم قالوا: طاهر لأن طهارة جلده بالدباغ، وقال في فصل مسائل البئر: فأما الحيوان النجس كالكلب والخنزير والسباع ينزح كله لأنه نجس العين، ولهذا قالوا في كلب إذا ابتل وانتضح به على ثوب أكثر من قدر الدرهم لم تجز الصلاة فيه، وذكر في " قنية المنية ": الذي صح عندي من الروايات في " النوادر " و" الأماني " أن الكلب نجس العين عندهما، وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ليس بنجس العين، وفائدته تظهر في كلب وقع في بئر وخرج حيا فأصاب ثوب إنسان ينجس الماء والشرب عندهما خلافا لأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، والظاهرية يفعلون بظاهر الألفاظ الواردة في هذا الباب وحكموا بأشياء مخالفة للإجماع. فقال ابن حزم: فإن أكل الكلب في الإناء ولم يلغ فيه أو أدخل رجله أو ذنبه أو وقع كله فيه لم يلزم غسل الإناء ولا يهراق ما فيه البتة وهو طاهر حلال أكله، وكذا لو وقع الكلب في بقعة في الأرض، أو في يد إنسان أو لا مما لا يسمى إنسانا فلا يلزمه غسل شيء من ذلك ولا يهراق ما فيه.
م: (والعدد في الغسل) ش: أي يقبل للعدد في غسل الإناء لأنه نص على الثلاث.
فإن قلت: إفادة العدد بطريق الوجوب أو الاستحباب؟
قلت: بطريق الاستحباب لأن راوي الحديث المذكور هو أبو هريرة كما ذكرناه، وقد روي عنه بإسناد صحيح أنه قال: اغسله مرة واحدة، فدل على أن مراده في رواية الثلاث الندب والاستحباب؛ ويدل على هذا انتساخ السبع للعدد على ما نذكره إن شاء الله تعالى.

(1/473)


وهو حجة على الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في اشتراط السبع، ولأن ما يصيبه بوله يطهر بالثلاث،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقد شنع ابن حزم هاهنا على أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأساء الأدب وقد قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يغسل الإناء من ولوغ الكلب إلا مرة واحدة، وأن كل ما في الإناء يهراق أي شيء كان، وهذا قول لا يحفظ عن أحد من الصحابة ولا من التابعين، واحتج له بعض مقلديه بأن أبا هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قد روي عنه أنه خالفه، وهو باطل؛ لأنه روى هذا الخبر الساقط عبد السلام بن حرب وهو ضعيف، وعلى صحة رواية شرط الثلاث فلم يحصلوا إلا على خلاف السنة وخلاف ما أعرضوا به عن أبي هريرة فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتبعوا ولا أبا هريرة الذي احتجوا به قلدوا.
قلت: هذا كلام في غاية السخافة والتفاهة، لأن السخافة والتفاهة لم يقل فيه بالرأي ولا أحد من أصحابه، بل مذهبه أن يغسل ثلاث مرات كما أفتى به أبو هريرة، وكيف يقول: هذا قول لا يحفظ عن الصحابة، والحكم عن حديث عبد السلام بالسقوط ساقط باطل، وعبد السلام ثقة مأمون حافظ أخرج له الجماعة واعترض أيضا ابن قدامة [في المغني] علينا حيث قال: قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يجب العدد في شيء من النجاسة إنما يغسل حتى يغلب على الظن نقاؤه من النجاسة، وفي الحديث الصحيح نص على السبع، وفي آخر خير بين الثلاث والخمس والسبع وحديثهم يرويه عبد الوهاب بن الضحاك وهو ضعيف.
قلت: قد مر الجواب عن هذا في حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - المذكور فيما مضى.
م: (وهو حجة على الشافعي في اشتراط السبع) ش: أي حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - المذكور حجة على الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في اشتراط السبع مرات في ولوغ الكلب في الإناء، وقد ذكرنا وجه ذلك، وقال بعضهم: وكان ينبغي أن يقول: وعلى مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في عدم تنجيس الماء. قلت: لم يقل ذلك لأنه روي عنه ما يقتضي أنه النجاسة، وقال أصحابه: وإذا فرضنا الغسل بعد النجاسة فهل هو على الندب أو الوجوب، فيه روايتان، وكذلك في إلحاق الخنزير، وكذلك في اختصاص ذلك بالنهي عن اتخاذ الكلب أو تعميمه في جنس الكلاب، وأيضا هل يختص هذا الحكم بالماء أو بغيره أيضا؟ ففي رواية ابن القاسم في الماء خاصة، وفي رواية ابن وهب: إن إناء الطعام بمنزلة إناء الماء، وأيضا هل يراق الماء والطعام؟ فيه ثلاثة أقوال، إراقتها، وترك الإراقة فيها، وتخصيصها بالماء دون الطعام. وهل يغسل الإناء بالماء الذي ولغ فيه الكلب؟ فقال الغزوني من علمائهم: لا أعلم من أصحابنا نصا فيه، وحكى الشيخ أبو طاهر عن بعض أشياخه أنه ذكر أن المذهب على قولين في ذلك ثم عندهم: يغسل بجماعة الكلاب سبعا وللكلب الواحد إذا تكرر منه سبعا وقيل: سبعا سبعا.
م: (ولأن ما يصيبه بوله يطهر بالثلاث) ش: أي: ولأن ما يصيبه بول الكلب من الثياب وغيرها

(1/474)


فما يصيبه سؤره وهو دونه أولى، والأمر الوارد بالسبع محمول على ابتداء الإسلام.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يطهر بالغسل ثلاث مرات. قال الأترازي: أي بالإجماع وفيه نظر؛ لأن عند الشافعي بوله ودمه نجس منه لا يطهر إلا بالغسل سبعا، ذكره في " التهذيب " وفي " شرح الوجيز ": سائر فضلاته وأجزائه كلعابه، وفي وجه كسائر النجاسات.
فإن قلت: الحديث لا يدل على نجاسة لعابه لجواز أن تكون نجاسة الإناء باستعمال النجاسة غالبا لأكله الجيف والميتات.
قلت: إذا فرضنا لتطهر دمه بماء كثير فوقع في الإناء فإما أن يثبت وجوب غسله أو لا، فإن لم يثب وجب تخصيص العموم، وإن ثبت لزم ثبوت الحكم بدون علته وكلاهما على خلاف الأصل.
م: (فما يصيبه سؤره وهو دونه) ش: أي والحال أن سؤره دون بوله م: (أولى) ش: أي بالتطهير م: (والأمر الوارد بالسبع محمول على ابتداء الإسلام) ش: هذا جواب عما استدل به الشافعي بالأمر الوارد بالسبع. قال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أراد بهذا ما رواه عبد الله بن مغفل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فكذا قال غيره من الشراح مع عدم تعيين الراوي، وعن قريب نذكر ما رواه ابن المغفل، والوجه أن يقال: أراد بالأمر الواقع الوارد بالسبع ما رواه أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «يغسل الإناء إذا ولغ فيه الكلب سبع مرات أولاهن وآخرهن بالتراب» . والحديث أخرجه الأئمة الستة في كتبهم، أو وجه ذلك أن مراد المصنف بيان نسخ الأمر الوارد بالسبع، والخصم ما استدل إلا بحديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هذا.
وفي حديث ابن المغفل ما هو حجة على ما بينه وهو أنه «روي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه أمر بقتل الكلاب ثم قال: "مالي وللكلاب" ثم قال: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات وعفروا الثامنة بالتراب» أخرجه الطحاوي هكذا، ولفظه: «أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقتل الكلاب ثم قال: "ما بالهم وبال الكلاب"، ثم رخص في كلب الصيد وكلب الماشية» وقال: «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فاغسلوه سبع مرات وعفروا الثامنة بالتراب» . ورواه أبو داود نحوه والنسائي أيضا إلا أنه ليس في روايته: «مالي وللكلاب» ، وابن ماجه رواه مقتصرا على قوله: إذا ولغ الكلب. . إلخ، وهذا فيه الأمر بالغسل سبع مرات وتعفير الثامنة بالتراب، وقد تركه الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولزمه ما ألزم هو خصمه في ترك السبع، وقد خصصنا فيه فيما مضى قوله: "عفروا"، قال صاحب " المطالع ": معناه اغسلوه بالتراب وهو من العفر بالتحريك وهو التراب، يقال: عفره بالتراب يعفره عفرا، وعفره تعفيرا أي إذا مرغته بشيء معفور ومعفر أي ترب. فإن قلت: ما الدليل على

(1/475)


وسؤر الخنزير نجس لأنه نجس العين على ما مر، وسؤر سباع البهائم نجس خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيما سوى الكلب والخنزير،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قوله محمول على الابتداء إي ابتداء الإسلام. قلت: هو أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان يشدد في أمر الكلاب حتى يمنعوا من الاقتناء، ونهاهم عن مخالطتهم كما أمر بكسر دنان الخمر، ثم ترك ذلك وقال: مالي وللكلاب، ثم رواية أبي هريرة وجه النسخ وقد ذكرناه.
فإن قلت: لم لا يجوز أن يكون المراد بغسل الإناء التعبد لا إزالة النجاسة كما ذهب إليه مالك قلت: الجمادات لا يلحقها حكم التطهير بعد إذ لا يوجب في غير موضع الإصابة كما في الحديث.
فإن قلت: الحجر الذي يستعمل به في رمي الجمار أنه يغسل إذا رمي به ثانيا. الحجر آلة الرمي فجاز أن تعين الآلة بنقل نجاستها والآثام إليها كالماء المستعمل وما الزكاة.
فإن قلت: لو كان للنجاسة لما احتيج إلى السبع، فإن لعابه لا يكون أنجس من العذرة وبول الإنسان والحمار. قلت: الحمل على التنجيس أولى لأنه متى دار الحكم بين كونه تعبدا أو معقول المعنى كان جعله معقول المعنى هو الوجه لندرة التعبد وكثرة العقل.

[سؤر الخنزير وسباع البهائم]
م: (وسؤر الخنزير نجس) ش: خلافا لمالك وداود، فإنه عندهما طاهر، ولكنهما ألحقاه بالكلب في العدد مع كونه تعبدا عندهما م: (لأنه نجس العين) ش: أي لأن الخنزير نجس العين فصار لحمه نجسا وللعاب يتولد منه والسؤر يمتزج به م: (على ما مر) ش: في باب الماء الذي يجوز به الوضوء عند قوله: "بخلاف الخنزير لأنه نجس العين".

م: (وسؤر سباع البهائم نجس) ش: سباع البهائم كالأسد والنمر والذئب، والدب والفهد ونحوها م: (خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي خالفنا نحن خلافا فيه للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (فيما سوى الكلب والخنزير) ش: وما يتولد منهما، وبقوله قال مالك، وأحمد - رحمهما الله - ورواية ثم إن المصنف لم يذكر مستند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا من حيث النقل ولا من حيث العقل ولا مستند أصحابنا من حيث النقل. وأما مستند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - من حيث النقل في أحاديث:
أحدها: ما أخرجه ابن ماجه عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الحياض التي بين مكة والمدينة، فقيل له: إن الكلاب والسباع ترد عليها، فقال: "لها ما أخذت في بطونها، ولنا ما بقي شراب وطهور» .

(1/476)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الثاني: ما أخرجه الدارقطني في " سننه " عن داود بن الحصين عن أبيه عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «قيل: يا رسول الله أنتوضأ بما أفضلت الحمر؟ قال: "نعم وبما أفضلت السباع» ورواه البيهقي، والشافعي، وعبد الرزاق عن إبراهيم بن أبي يحيى عن داود بن الحصين عن أبيه. ورواه الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضا من حديث ابن أبي ذئب عن داود بن الحصين عن جابر بن عبد الرحمن من غير ذكر أبيه.
ثالثها: ما أخرجه ابن ماجه عن أبي مصعب المدني عن عبد الرحمن بن زيد عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بعض أسفاره فسار ليلا فمر على رجل عند مقراة له، فقال له عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يا صاحب المقراة أولغت السباع الليلة في مقراتك؟ فقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: "يا صاحب المقراة لا تخبرنا هذا تكلف، لها ما حلمت في بطونها» .
الرابع: ما رواه ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سئل عن الحياض التي بين مكة والمدينة تردها السباع والكلاب والحمر وعن الطهارة بها، فقال: "لها ما حملت في بطونها ولنا ما بقي طهور".
والخامس: ما رواه مالك عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خرج في ركب فيهم عمرو بن العاص حتى وردوا أحواضا فقال عمرو بن العاص: يا صاحب الحوض هل ترد حوضك السباع؟ فقال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: "يا صاحب الحوض لا تخبره فإنا نرد على السباع وترد السباع علينا".
وأما سند الشافعي من حيث العقل فهو أنها طاهرة جلدها وحرمة أكل لحمه لصون طباع بني آدم عن تعدي طباعها بواسطة التعدي دون النجاسة.
وأما مستند أصحابنا من حيث النقل فما رواه مسلم من حديث جابر بن عبد الله «أنه عليه

(1/477)


لأن لحمهما نجس ومنه يتولد اللعاب، وهو المعتبر في الباب،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
السلام نهى عن كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطيور» والمراد بها الجوارح، فدل على أن كل ذي ناب حرام، نهي عن أكل كل ذي ناب حرام مع صلاحيته للغذاء لا لكرامته فيكون نجسا ولعابه متولد من اللحم النجس فيمزج بسؤره.
وقد استدل السغناقي وصاحب " الدراية " لأصحابنا بحديث مالك المذكور فقالا: ولولا أنهما - يعني أن عمر بن الخطاب وعمرو بن العاص - كانا يريان التنجيس بورودهما وإلا لم يكن لسؤال عمرو ولا عمر لنهي. والمعنى في المسألة أنها في سؤر السباع يمكن الاحتراز عنه فكان نجسا قياسا على الخنزير. وقد استدل بعض الشراح للشافعي بهذا الحديث كما ذكرناه. ولنا من حيث العقل، فقد أشار المصنف إليه بقوله:
م: (لأن لحمهما) ش: أي لحم الكلب والخنزير م: (نجس ومنه يتولد اللعاب) ش: فيمتزج به السؤر، وفيه إيراد على المصنف وهو أنه يرى طهارة لحم الكلب وجلده بالذكاة وهو قول جماعة أيضا، وهاهنا تمسك بنجاسة السؤر بنجاسة اللحم، وقد ذكر أنه يطهر بالذكاة وكان نجسا بالمجاورة من الدماء والرطوبات النجسة فلزم أن يكون لعابه طاهرا، فإن لحم الشاة نجس أيضا بالمجاورة حتى لو لم يذك حكم بعدم تطهيرها.
وأجيب عنه بأن اللحم وإن كان نجس العين يحتمل أن يتبدل إلى الطهارة بأمر شرعي، فإن جلد الميتة نجس العين حتى لم يجز بيعه بالاتفاق، ولو كان نجسا بالمجاورة لجاز بيعه كالثوب النجس والدهن النجس، ثم الدباغ أثر فيه وطهره كتخليل الخمر، فعلم أن ما هو نجس العين يحتمل التبدل إلى الطهارة بأمر شرعي، ثم الذكاة تؤثر في الجلد الذي هو نجس العين إلى الطهارة، فيجوز أن يؤثر في اللحم أيضا فيكون اللحم نجس العين قبل الذكاة وبعدها طاهر كالخمر قبل التخليل نجس العين وبعده طاهر، ولا يلزم على هذا الخنزير؛ لأن الذبح لما لم يؤثر في جلده لإخراج الشرع إياه عن قبوله ولم يؤثر في لحمه أيضا، فثبت أن طهارة اللحم بالذبح لا تنافي النجاسة قبله، وفيه نظر لأنه يؤدي إلى تخصيص العلة، لأن نجاسة اللحم إنما عرفت من حرمة الأكل لا للكرامة مع صلاحية الغذاء وهي باقية بعد الذكاة، فلو قلنا بطهارة اللحم مع بقاء الحرمة المستدعية للتنجيس كان نقضا وتخصيصا، وحرمة بيع جلد الميتة ليست بنجاسة العين بل باعتبار اتصال الرطوبات النجسة بالجلد.
م: (وهو المعتبر في الباب) ش: أي الاستدلال بنجاسة اللعاب وطهارته المعتبرة في هذا الباب، وأراد بالباب نفس فقه هذا الموضع.
وأما الجواب عن أحاديث الشافعي، فحديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - معلول

(1/478)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بعبد الرحمن بن زيد، فعن أحمد والنسائي وأبي زرعة ضعيف، وعن أبي حاتم: ليس بقوي في الحديث، وكان في نفسه صالحا وفي الحديث أنه رواه، قال أبو داود: أولاد زيد بن أسلم كلهم ضعفاء وأمثلهم عبد الله، وأيضا يلزم الشافعي طهارة سؤر الكلب ولم يقل به.
وحديث جابر فيه داود بن الحصين ضعفه ابن حبان، وهو لم يلق جابر أيضا، وحديثه عن طريقين: أحدهما: عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن إبراهيم بن يحيى عن داود بن الحصين. والثاني: عن إبراهيم بن إسماعيل عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن داود. قال النووي: الإبراهيمان ضعيفان عند أهل الحديث لا يحتج بهما، ثم قال: وإنما ذكرنا الحديث وإن كان ضعيفا لكونه مشهورا في كتب الأصحاب، وربما اعتمده بعضهم [ولذلك] نبهت عليه.
وحديث أبي سعيد فيه عبد الرحمن هذا أيضا.
وحديث مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيه أيوب بن خالد الحراني، قال ابن عدي: حدث عن الأوزاعي بالمناكير.
قوله: "يا صاحب المقراة"، بكسر الميم غير المهموز مأخوذ من قريت الماء الحوض قريا وقرى إذا أجمعته.
وقال ابن الأثير: المقري والمقراة الحوض الذي يجتمع فيه الماء. وقال ابن سيال: هي الحوض العظيم يجمع الماء فيه. وقال الجوهري: المسيل والموضع الذي يجتمع فيه ماء المطر من كل جانب.
وقوله: "ولنا ما غبر": بفتح الغين المعجمة والباء الموحدة أي ما بقي.
ثم إنا ولئن سلمنا بثبوت هذه الأحاديث فهي محمولة على الماء الكثير، أوهي محمولة على ما قبل تحريمها، أو المراد به حمر الوحش وسباع الطير.
وأما الجواب عن دليل الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - من حيث العقل فهو أن الله تعالى حرم أكل كل نجس بنفسه كالخمر أو للمجاورة كما وقعت فيه نجاسة، أو للاحترام كما في الآدمي، ولا احترام للسباع ولا خبث فيها فإنها كانت تؤكل قبل التحريم، فلم يبق إلا النجاسة، ولا يجوز أن تكون الحرمة لتعدي الطبع، فإن الطبائع نفرت عنها بخلاف الخمر، ولما حرم أكلها علم أنها نجس، فعلى هذا ينبغي أن لا يجوز بيعها؛ لأنها نجس العين كالخنزير، ولكن الحرمة غير شاملة للجلد، والعظم، والشعر، والعصب، وما لا يؤكل منه طاهر فأشبه دهنا نجسا والمجاورة وجلده إنما يطهر بالدباغ؛ لأن بين الجلد وللحم جلدة يمنع مماسة اللحم للجلد.

(1/479)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقد رد على الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بعضهم بقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في الحياض التي تكون في الفلوات وما استوى بها من السباع، فقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا» أخرجه الأربعة، فلو كان سؤر السباع طاهرا لم يكن لذكر هذا الشرط فائدة، وكان التقييد به ضائعا.
وأجاب النووي عن هذا بأجوبة:
أحدها: أنه تمسك بدليل الخطاب، قال: وهم لا يقولون به. وقال السروجي: ما قاله صحيح نحن لا نقول به، ولا نعتقد صحة هذا الحديث أيضا؛ لأنه مطعون فيه لكنهم زعموا أنه صحيح ومفهوم الشرط حجة عندهم، فنحن نلزمهم ما هو حجة عليهم عندهم.
الثاني: أن السؤال كان الماء الذي ترده الدواب والسباع فتشرب منه وتبول فيه غالبا، وأجيب أنه لا يجوز تقييد التنجيس ببولها وحده لوجهين: أحدهما: أن ورود السباع على الماء للشرب لا للتبول فيه فلا يجوز ترك هذا الذي سبق الحديث لأجله. الثاني: أن كلمة "ما" عامة فلا تخصيص بالبول ويصرف عن غيره بلا دليل.
الجواب الثالث: أن الكلاب من جملة ما يردهما فالتنجيس بسببها، ويدل على دخولها في ذلك أوجه: أحدها: أنه جاء في رواية الدواب، ورد عليه السروجي بأن لو كان التنجيس بسبب الكلاب دون السباع لم يكن لذكر السباع وترك الكلاب التي منها يفسد الماء عندهم معنى إذ الكلاب لم تذكر في المشهور، وأيضا لو سلم ذكرها في بعض الطرق لما كان لضم السباع فيها فائدة إذ كان فساد الماء بسبب الكلاب لا غير عندهم، وقوله: إنها من جملة الكلاب لا يصح، فإن من قال: فلان قتل سبعا لا يفهم منه قتل كلب، والأصل عدم الاشتراك والترادف. وقوله إنها داخلة في الدواب لذوات الحوافر كالفرس والبغل والحمار كانت داخلة فيها لا يجوز إخراج غيرها بلا دليل.
قلت: إنكاره الكلب من السباع غير موجه؛ لأن السبع في اللغة كل حيوان مفترس، ولهذا ورد في الحديث: «السنور سبع» مع أن الكلب أقوى منه وأشد افتراسا، واستشهاده بقوله: فإن من قال. . إلخ، ليس تحته طائل؛ لأن هذا نجسا يعرف بين الناس، ودعواه بان قوله: "دخول الكلب في الدواب باطل" غير صحيحة، لأن الدابة في اللغة ما دب على الأرض. قال الجوهري: كل ما مشى على الأرض دابة ودبيب، والدابة التي تركب.
وقوله: "لأن لذوات الحوافر كالفرس، والبغل، والحمار" غير موجه، لأن التخصيص لهذه الثلاثة من أين، والدابة منقولة عما يدب على وجه الأرض على ذوات الأربع من الحيوان،

(1/480)


وسؤر الهرة طاهر مكروه وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه غير مكروه؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فيشمل الجمل وغيره.
ثم اعلم أن محمدا - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكر نجاسة سؤر السباع، ولم يبين أن نجاسته حقيقية حتى يعتبر فيه الكثير أو غليظة يعتبر فيه أكثر من قدر الدرهم. وقد روى عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في غير رواية " الأصول " أنه نجس نجاسة غليظة. وروى عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن سؤر ما لا يؤكل لحمه من السباع كبول ما لا يؤكل لحمه.

[سؤر الهرة]
م: (وسؤر الهرة طاهر مكروه) ش: عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - هذا لفظ " الجامع الصغير "، وأما لفظ "كتاب الصلاة": وإن توضأ بغيره كان أحب إلي. قال الأترازي: وفائدته أنه إذا توضأ به يجوز مع الكراهة إن كان يجد ماء مطلقا، وإن لم يجد فلا كراهة، وبقولهما قال طاووس وابن سيرين وابن أبي ليلى ويحيى الأنصاري، وهو المروي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
فإن قلت: أهي كراهة تحريمية أم تنزيهية، قلت: قال الطحاوي: كراهة سؤرها لحرمة لحمها؛ وهذا يدل على أنه إلى التحريم أقرب. وقال الكرخي: كراهة سؤرها لأنها تتناول الجيف، فلا يخلو فمها عن نجاسة عادة، وهذا يدل على أنه كراهة تنزيهية وهو الأصح والأقرب إلى موافقة الآثار، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - غير مكروه، وبه قال الشافعي، ومالك، وأحمد، والثوري، والأوزاعي، وإسحاق، وأبو عبيدة، - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -. وفي " المغني " لابن قدامة: السنور وما دونها في الخلقة كالفأرة وابن عرس وغيرهما من حشرات الأرض سؤرها طاهر يجوز شربه والوضوء به ولا يكره، وهذا قول أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين من أهل المدينة والشام وأهل الكوفة وأصحاب الرأي إلا النعمان فإنه كره الوضوء بسؤر الهرة فإن فعل أجزأه.
وفي " المبسوط " و" الذخيرة " تكره أن تلحس الهرة كف إنسان ثم يصلي قبل غسلها أو يأكل من بقية الطعام الذي أكلت منه لقيام ريقها بذلك. وفي " البدائع " لو أكلت فأرة وسكتت ثم شربت الماء تنجس عند أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - كشارب الخمر، وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا ينجسه، وقال قاضي خان: مكثت ساعة أو ساعتين. وفي " المفيد" أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم ينقل بطهارة فمها إذا غسلته بلعابها لاشتراط الصب في الأبدان عدة. وفي " الجامع الصغير " أسقط الصب للحرج م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه غير مكروه) ش: وعنه أنه لا يجوز الوضوء به، ذكره المرغيناني، ثم إن أكثر أصحابنا ذكروا قول مدحم مع أبي حنيفة رحمهما الله وكذا ذكر صاحب " المنظومة " وصاحب " الإيضاح " والمصنف، الأصح أن محمدا مع أبي يوسف، وروى محمد حديث مالك الذي يأتي ذكره إن شاء الله في " موطئه "، ثم قال محمد لا بأس بأن يتوضأ بفضل سؤر وغيره أحب إلينا منه، وهذا قول أبي حنيفة -

(1/481)


«لأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان يصغي لها الإناء فتشرب منه ثم يتوضأ به» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
- رَحِمَهُ اللَّهُ -، وذكر في " المحيط " و" التحفة" و"قاضي خان " قول أبي يوسف مع أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصغي لها الإناء منه ثم يتوضأ به) ش: رواه الدارقطني في "سننه" من طريقين عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أحدهما عن يعقوب بن إبراهيم الأنصاري عن عبد ربه بن سعيد عن أبيه عن عروة بن الزبير عن عائشة أنها قالت «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تمر به الهرة فيصغي لها الإناء فتشرب منه ثم يتوضأ بفضلها» قال: ويعقوب هذا هو أبو يوسف القاضي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعبد ربه هو عبد الله بن سعيد العنبري وهو ضعيف.
والثاني: عن محمد بن عمر الواقدي بإسناده وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -. . إلخ وفي الواقدي مقال، وأخرجه الطحاوي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أيضا، ولفظه «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "كان يصغي الإناء للهرة ويتوضأ بفضله» وفي إسنادة صالح بن حيان البصري المدني ضعيف متروك. وأخرجه الطبراني في "الأوسط" عن عائشة برجال موثقين، وروى أبو داود من «حديث داود بن صالح التمار عن أمة أن مولاتها أرسلتها بهريسة إلى عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فوجدتها تصلي فأشارت إلي ضعيها، فجاءت هرة فأكلت منها، فلما انصرفت أكلت من حيث أكلت الهرة، فقالت "إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم، وقد رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتوضأ بفضلها» ورواه الدارقطني وقال: تفرد به عبد العزيز الدراوردي عن داود بن صالح عن أمه بهذه الألفاظ. وروى ابن ماجه والدارقطني من حديث حارثة عن عمرة عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت «كنت أتوضأ أنا ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من إناء واحد قد أصابت منه الهرة قبل ذلك» وقال الدارقطني وحارثة لا بأس به، وأخرج ابن خزيمة في " صحيحه " عن سليمان بن مسافع بن شيبة الحجبي قال: سمعت منصور بن صفية بنت شيبة يحدث عن أمه صفية عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إنها ليست بنجس إنها كبعض أهل البيت» يعني الهرة. وروى أبو

(1/482)


ولهما قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الهرة سبع»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
داود عن مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن حميدة بنت عبيد بن رفاعة عن كبشة بنت كعب بن مالك وكانت تحت ابن أبي قتادة «أن أبا قتادة دخل عليها فسكبت له وضوءا فجاءت هرة تشرب فأصغى لها الإناء حتى شربت قالت كبشة فرآني أنظر إليه، فقال: أتعجبين يا ابنة أخي؟ فقلت نعم، فقال: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات» وأخرجه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. ورواية أبي داود والترمذي "بالواو"، ورواية الدارمي. وروي الوجهان عن مالك، وروى هذا الحديث أيضا ابن حبان، والحاكم، والدارقطني، والبيهقي، والشافعي، وأبو يعلى، وحميدة بضم الحاء، وقيل: بفتحها بنت عبد بن رفاعة الأنصارية وابن أبي قتادة اسمه عبد الله، وأبو قتادة الحارث بن ربعي.
فإن قلت: ابن مندة أعل هذا الحديث بأن حميدة وخالتها كبشة محلهما محل الجهالة ولا يعرف لهما إلا هذا الحديث. قلت: لا نسلم ذلك لأن لحميدة حديثا آخر تشميت العاطس رواه أبو داود، ولها ثالث رواه أبو نعيم وأما خالتها فإن حميدة روى عنها إسحاق بن عبد الله وهو ثقة عند ابن معين، وأما كبشة فقال: إنها صحابية، فإن ثبت فلا يضر الجهل بها. قوله: "فيصغي لها" أي أماله ليسهل عليها الشرب. قال الجوهري: صغى يصغو يصغى صغوا أي أمال، وكذلك صغى بالكسر يصغي صغا وصغاء وصغت النجوم مالت للغروب وأصغيت أنا أملت قوله: «ليست بنجس» بفتح النون والجيم يقال: فكل المستقذر نجس سبعة الجن.
قوله: "فسكبت له وضوءا" بفتح الواو وهو الماء الذي يتوضأ به. قوله، "من الطوافين - " هم بنو آدم ويدخل بعضهم على بعض بالتكرار، والطوافات هي المواشي التي يكثر وجودها عند الناس مثل الغنم والبقر والإبل جعل النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الهرة من القبيلين، لكثرة طوافها واختلاطها بالناس، وأشار إلى الكثرة بصيغة التفضيل؛ لأنه للتكثير والمبالغة، وموصوف كل واحد من الطوافين والطوافات محذوف أقيمت الصفة مقامه تقديره من الخدم الطوافين والحيوانات الطوافات.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة ومحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الهرة سبع) ش:

(1/483)


والمراد بيان الحكم دون الخلقة والصورة إلا أنه سقطت النجاسة لعلة الطواف فبقيت الكراهة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
رواه أبو هريرة أخرجه عند الحاكم في " مستدركه " وقال: حديث صحيح ولم يخرجاه، ولكن لفظه «السنور سبع» ، وأخرجه الدارقطني أيضا بهذا اللفظ، ورواه أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وابن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه في مسانيدهم بلفظ " الهرة سبع "، وكذا في رواية مختصرة للدارقطني قال وكيع: " الهرة سبع ".
م: (والمراد به) ش: أي بهذا الحديث م: (بيان الحكم دون الخلقة والصورة) ش: لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث لبيان الأحكام لأن الحقيقة لا يحتاج فيها إلى البيان النبوي لعلم كل أحد من الحاكة والرعاة أن ذلك الشيء حجر وذاك مدر وذلك شجر إلى غير ذلك، وسبعية الهرة حقيقة ظاهرة يصبو بها الحشرات، فصار المراد منه أن الهرة حكمها حكم السبع فكان ينبغي أن يكون سؤرها نجسا كسؤر سائر السباع.
م: (إلا أنه سقطت النجاسة لعلة الطواف) ش: المؤثر في التخفيف الدافع للحرج بقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الهرة ليست بنجسة إنما هي من الطوافين والطوافات» م: (فبقيت الكراهة) ش: ولا يلزم من سقوط النجاسة سقوط الكراهة، وقد بين المصنف ذلك بقوله: "إلا أنه سقطت النجاسة لعلة الطواف" هذا كأنه جواب عن سؤال مقدر تقديره أن يقال: لما كانت الهرة سبعا كان ينبغي أن يكون سؤرها نجسا كسؤر سائر السباع، فأجابت بقوله: إلا أنه ... إلخ وقوله: "لعلة الطواف" يجوز أن يكون إشارة إلى ضرورة، فإن حكم النجاسة يسقط بها، ويجوز أن يكون إشارة إلى ما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - المذكور عن قريب الذي رواه أبو داود والدارقطني، وذكره السغناقي في شرحه، ولفظه روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها كانت تصلي وفي بيتها قصعة من هريسة فجاءت هرة وأكلت منها، فلما فرغت من صلاتها دعت جارات لها فكن يتحابين عن موضع فمها، فمدت يدها وأخذت موضع فمها وأكلت، وقالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم - يقول: "الهرة ليست بنجسة إنما هي من الطوافين والطوافات عليكم"، فما لكن لا تأكلن» .
وهكذا ذكره الأكمل، وصاحب " الدراية " في شرحيهما ولم يتعرض أحد منهم إلى راويه ولا إلى مخرجه، ولا إلى هذه العبارة من ذكرها من أصحاب الحديث وليس عندهم إلا روى على أي وجه كان.
وقال الأكمل: فإن قيل: حديث أبي هريرة يدل على النجاسة فهو محرم فلا يرجح، فالجواب أن حديث أبي هريرة معلول دون حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فيقوى حديث عائشة بقوة حالها وقوة دلالته تعارض الحرمة.

(1/484)


وما رواه محمول على ما قبل التحريم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: حديث أبي هريرة أقوى لأن الحاكم وغيره من أئمة الحديث صححوه، وحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - رواه الدارقطني وقال: تفرد به داود بن صالح، وكذا قال الطبراني والبزار وقال: لا يثبت، والذي ذكره خارج عن صنعة أهل الحديث وعن اصطلاح الفقهاء أيضا.
وكان ينبغي أن يرتب هذا السؤال والجواب من حديث أبي هريرة وحديث أبي قتادة، والذي رواه الإمام مالك وأخرجه الأربعة وصححه الترمذي.
فنقول وبالله التوفيق: إن حديث أبي هريرة لا يلحق حديث أبي قتادة في القوة فلا يخرج عليه.
فإن قلت: قال بعضهم قوله: «ليست بنجس» من قول أبي قتادة. قلت: قال ابن عبد البر هذا غلط، وروى الطبراني في " الصغير " من طريق جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن علي بن الحسين عن أنس قال: «خرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أرض بالمدينة يقال لها بطحان فقال: "يا أنس اسكب لي وضوءا"، فسكبت له فلما قضى حاجته أقبل إلى الإناء وقد أتى هر فولغ في الإناء فوقف له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى شرب فذكرت له ذلك، فقال: " يا أنس إن الهر من متاع البيت لن يقذر شيئا ولن ينجسه» قال: تفرد به عمر بن حفص فبقيت الكراهة لأنه لا يلزم عن سقوط النجاسة سقوط الكراهة.
فإن قلت: إنما يكون كذلك لورود ذلك النص قبل هذا النص.
قلت: يراد من ذلك النص حرمة اللحم لكونه صريحا فيها ومن هذا النص كراهة السؤر.
م: (وما رواه) ش: أي ما رواه أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - من فعله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان يصغي له الإناء ... الحديث م: (محمول على ما قبل التحريم) ش: أي تحريم الهرة، وذلك في وقت تحريم السباع.
فإن قلت: من أين علم أن ما رواه أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - كان قبل التحريم.
قلت: إذا اجتمع المبيح والمحرم في قضية ولا يعلم التاريخ فالعمل للمحرم، وقيل: إذا لم يعلم التاريخ يجعل كأنهما وردا أيضا وإضافة الحرمة إلى ما هو صريح في التحريم أولى، وبقيت الكراهة لقصور العلة؛ لأنه يمكن أن تحفظ الأواني عنها بحيلة بأن تسد أفواهها، ويقال: يحمل ما رواه أبو يوسف على أن الهرة التي كانت في بيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما كانت تأكل الفأرة كرامة للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأما غيرها فيحمل على أنها شربت عقيب أكل الفأرة، ويحتمل غير ذلك فكان مكروها، وكراهة

(1/485)


ثم قيل: كراهته لحرمة لحمه، وقيل: لعدم تحاميها النجاسة وهذا يشير إلى التنزه، والأول إلى القرب من التحريم، ولو أكلت الفأرة ثم شربت على فوره الماء تنجس الماء إلا إذا مكثت ساعة لغسلها فمها بلعابها، والاستثناء على مذهب أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
سؤر الهرة يروى عن ابن عمر وسعيد بن المسيب والحسن وابن سيرين وعطاء ومجاهد ويحيى بن سعيد وابن أبي ليلى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
م: (ثم قيل: كراهته لحرمة لحمه) ش: قائله الإمام أبو جعفر الطحاوي أي كون كراهة سؤر الهرة لأجل أن لحمها حرام لأنها عدت من السباع.
م: (وقيل لأجل عدم تحاميها النجاسة) ش: قائله الكرخي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يعني كراهة سؤرها لأجل عدم احترازها عن النجاسة؛ لأنها تأكل الفأرة والجيفة وفمها لا يخلو عن النجاسة عادة.
م: (وهذا يشير إلى التنزه) ش: أي ما قاله الكرخي يدل على أن سؤرها مكروه كراهة تنزيهية وهو الأصح والأقرب إلى موافقة الحديث حيث قال فيه إنها ليست بنجس م: (والأول) ش: أي ما قاله الطحاوي م: (إلى القرب من التحريم) ش: وكلام المصنف أولا يدل على أنه أقرب إلى التحريم وبينهما تناقض ظاهر ويمكن دفعه بأن يقال: إن الحديث الذي فيه أنها ليست بنجس يدل على الطهارة.
وقوله: - الهرة سبع - يدل على النجاسة فدار أمر سؤرها بين الشيئين فالكرخي قال: كراهة تنزيه أخذا بالحديث الأول ولم يقل بالطهارة مطلقا من غير كراهة لعدم تجانبها النجاسة والطحاوي أخذ بالثاني ولم يقل بحرمته مطلقا لمعارضة الحديث الأول إياه، وأشار بهذا إلى أن الحرمة الأصلية باقية لنهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أكل كل ذي ناب من السباع.
فإن قلت: كيف تقول الحرمة الأصلية باقية لنهيه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إنها ليست بنجس؟ قلت: إنما قال ذلك للضرورة؛ لأن لها حق الشرب من الأواني، ولهذا قال: إنها من الطوافين والطوافات وهم الخدم والمماليك ومن يخدم أهل البيت كما ذكرناه، وقد سقط الحجاب في حقهم للضرورة ومع قيام الحرمة الأصلية.
م: (فلو أكلت فأرة ثم شربت على فورها الماء) ش: أي لو أكلت الهرة فأرة ثم شربت على فورها الماء يعني قبل أن يسكن، قال الجوهري: يقال أتيت فلانا من فوري أي قبل أن أسكن، وفي بعض النسخ على فوره أي على فور الأكل أي عقبه من غير تراخ.
م: (يتنجس الماء بالإجماع) ش: وفي " المجتبى " وكذا لو شربت الخمر ثم شربت الماء على الفور يتنجس الماء بالإجماع م: (إلا إذا مكثت ساعة لغسلها فمها بلعابها والاستثناء) ش: من قوله: يتنجس الماء ولكنه م: (على مذهب أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: لأن عند محمد وزفر

(1/486)


ويسقط اعتبار الصب للضرورة.
وسؤر الدجاجة المخلاة مكروه لأنها تخالط النجاسة، ولو كانت محبوسة بحيث لا يصل منقارها إلى ما تحت قدميها لا يكره لوقوع الأمن عن المخالطة، وكذا سؤر سباع الطير
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لا تجوز إزالة النجاسة بالمائعات الطاهرة غير الماء فلا يطهر فمها وفم السكران عندهم، ولو شربت الماء أو شربه السكران يطهر حينئذ فمه. وقيد المصنف المكث بالساعة وفي " المفيد" ساعة أو ساعتين، قال المرغيناني: هو الأصح. م: (ويسقط اعتبار الصب للضرورة) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر تقديره أن يقال: كيف يصح الاستثناء على قول أبي يوسف؛ لأن من مذهبه الصب شرط يعني صب الماء في الأبدان وتقرير الجواب: نعم الصب شرط عنده ولكنه هاهنا للضرورة. وفي " المفيد" أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يقل بطهارة فمها إذا غسلته بلعابها لاشتراط الصب في الأبدان.

[سؤر الدجاجة المخلاة وسباع الطير وما يسكن البيوت]
م: (وسؤر الدجاجة المخلاة مكروه) ش: المخلاة بالخاء المعجمة وهي الثيبة الدائرة في عذرات الناس، وقيل بالجيم وهي التي تأكل الجلة بفتح الجيم. وقال الجوهري: هي النعم، وقال أيضا هي الجلالة التي تأكل العذرة، وفي ذلك نظر، فمن يقول مجلاة بالجيم لأنه إن كان من جل البقرة يجل أي التقط من باب نصر ينصر يكون الفاعل منه جال للذكر وجالة للأنثى، والمجلاة من باب جلى يجلي تجلية واستوى الفاعل والمفعول فيه في تقدير مختلف، ولكن معنى هذا الباب لا يساعد من يدعي ذلك، وأما المخلاة بالخاء فهو من خلا يخلو تخلية ومعناه صحيح في هذا الباب م: (لأنها تخالط النجاسة) ش: أي لأن المخلاة تخالط النجاسة فيكره سؤرها لأن منقارها لا يخلو عن قذر وشك في نجاستها والشك لا يعارض اليقين فأثبت الكراهة للاحتمال.
م: (ولو كانت محبوسة) ش: أي ولو كانت الدجاجة محبوسة للمقيمين ويكون أكلها وشربها خارج البيت أشار إليه بقوله م: (بحيث لا يصل منقارها إلى ما تحت قدميها لا يكره لوقوع الأمن عن المخالطة) ش: أي من مخالطة النجاسة، وإن كانت محبوسة في بيت أو في قفص فإنها تجول في عذرات نفسها فلا تؤمن من مخالطة النجاسة فيكره حينئذ سؤرها، وهذا الذي ذكره المصنف هو الذي ذكره الإمام الحاكم عبد الرحمن.
وفي " مبسوط شيخ الإسلام " لو كانت محبوسة لا يكره لعدم النجاسة على منقارها من حيث الحقيقة ولا من حيث الاعتبار لأنها لا تجد عذارت غيرها حتى تجول فيها وهي في عذرات نفسها لا تجول وكذا سؤر الإبل الجلالة والبقر الجلالة مكروه لاحتمال نجاسة الفم.
م: (كذا سؤر سباع الطير) ش: هذا عطف على قوله - وسؤر الدجاجة المخلاة - فيكون داخلا في حكم الكراهة وسباع الطيور كالصقر والبازي والشاهين والعقاب وكل مالا يؤكل لحمه من الطيور، وهذا الذي ذكره الاستحسان والقياس بنجسه فيه كسباع البهائم والجامع حرمة اللحم،

(1/487)


لأنها لا تأكل الميتات فأشبه الدجاجة المخلاة، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنها إذا كانت محبوسة يعلم صاحبها أنه لا قذر على منقارها، ولا يكره لوقوع الأمن عن المخالطة، واستحسن المشايخ هذه الرواية
وسؤر ما يسكن البيوت كالحية والفأرة مكروه؛ لأن حرمة اللحم أوجبت نجاسة السؤر إلا أنه سقطت النجاسة لعلة الطواف فبقيت الكراهة، والتنبيه على العلة في الهرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وجه الاستحسان ما ذكره في " المبسوط " و" المحيط " لأنها تشرب بمنقارها وهو عظم جاف بخلاف البهائم فإنها تشرب بلسانها وهو رطب لعابها، ولأن في سباع الطير ضرورة وعم بلوى فإنها تنقض من علو وهوي، ولا يمكن حول الأواني عنها لا سيما في البراري والصحاري فأشبهت الفأرة والحية، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن ما يقع على الجيف منها فسؤره نجس؛ لأن منقارها لا يخلو عن نجاسة في العادة والحية نجس والبازي والصقر ونحوهما إذا كانت تأكل اللحم الذي لا يكره، ذكره في " المحيط ".
م: (لأنها لا تأكل الميتات فأشبهت الدجاجة المخلاة) ش: أي لأنها سباع الطير تأكل الجيف والميتات فأشبه الدجاجة المخلاة فيكون سؤرها مكروها وباقي فيها تقسيم المخلاة كما ذكرنا م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنها إذا كانت محبوسة يعلم صاحبها أنه لا قذر على منقارها لا يكره لوقوع الأمن عن المخالطة) ش: أي أن سباع الطير، وفي " المحيط " وكأن أبا يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعتبر الكراهة لتوهم إيصال النجاسة إلى منقارها لا وصول لعابها إلى الماء وقال: إذا لم يكن على منقارها نجاسة لا يكره التوضؤ بسؤرها م: (واستحسن المشايخ هذه الرواية) ش: أي المذكورة عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأفتوا بها.
م: (وسؤر ما يسكن البيوت كالحية والفأرة مكروه لأن حرمة اللحم أوجبت نجاسة السؤر) ش: أي سؤر ما يسكن في البيوت م: (إلا أنه) ش: أي إلا أن الشأن م: (سقطت النجاسة لعلة الطواف فبقيت الكراهة) ش: لأن سقوط النجاسة لا يستلزم عدم الكراهة. م: (والتنبيه على العلة في الهرة) ش: قال الأكمل: قيل معناه وبقي التنبيه على العلة التي كانت في الهرة: قلت: قائله السغناقي، وتمام كلامه يعني أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علل سقوط النجاسة في سؤر الهرة بعلة الطواف بقوله: «إنها من الطوافين والطوافات عليكم» دفعا للحرج، فكان مقتضى ذلك التعليل أن يوجد الحكم المرتب على تلك العلة فيما وجدت تلك العلة فقد وجدت تلك العلة وهي الطواف في سواكن البيوت بعينها بل أزيد منها فيثبت ذلك الحكم المرتب عليها أيضا وهو سقوط النجاسة في سواكن البيوت كما في الهرة.
وقال الأكمل أيضا: قيل: هو جواب سؤال. قلت: قائله الأترازي فإنه قال: هذا جواب سؤال مقدر وهو أن يقال: كيف عللتم سقوط نجاسة سؤرها في سواكن البيوت بعلة الطواف، فمن أين نبهتهم هذه العلة وهل لها أثر شرعي حتى يعتبر، فأجاب عنه وقال التنبيه على علة سقوط النجاسة في سؤر سائر سواكن البيوت حاصل في الهرة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نبهنا عليها وعللها في الهرة

(1/488)


قال: وسؤر الحمار والبغل مشكوك فيه، وقيل: الشك في طهارته؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال: «الهرة ليست بنجسة إنما هي من الطوافين والطوافات عليكم» وأشار بتعليله إلى قول الله عز جل: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النور: 58] (النور: الآية 58) سقط الاستئذان بعلة الطواف دفعا للحرج وسقط النجاسة في سؤر الهرة بعلة الطواف دفعا للحرج أيضا.
قلت: كل منهما أطال الكلام من غير حصول المراد فأقول: قوله والتنبيه مبتدأ وخبره متعلق قوله في الهرة، والتقدير والتنبيه على علة كراهة سؤر سواكن البيوت هي المذكورة في حكم الهرة، وهي علة الطواف التي أسقطت النجاسة فيها فكما أن الطواف علة في حكم سؤر الهرة فكذلك في سواكن البيوت فنبه المصنف على العلة في سؤر الهرة حتى يسقط البدل في علة سؤر سواكن البيوت فافهم.

[سؤر الحمار والبغل والفرس]
م: (وسؤر الحمار والبغل مشكوك فيه) شك وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - طاهر وطهور وفي "المغني" لابن قدامة، والنوع الثاني: ما اختلف فيه وهو سؤر السباع إلا السنور وما دونها في الخلقة، وكذلك جوارح الطير والحمار الأهلي والبغل، فعن أحمد أن سؤرها نجس إذا لم يجد غيره تيمم وتركه، وروي عن ابن عمر أنه كره سؤر الحمار وهو قول الحسن وابن سيرين والشعبي والأوزاعي وحماد وإسحاق، وعن أحمد: إذا لم يجد غير سؤر البغل والحمار يتيمم معه، ثم قال: والصحيح عندي طهارة البغل والحمار؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يركبهما في زمنه وفي عصر الصحابة، فلو كان نجسا لبين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهم ذلك. وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في الخمر: إنها رجس أراد بها محرمة كقوله تعالى في الميسر والأنصار والأزلام: {رِجْسٌ} [المائدة: 90] . وفي " المبسوط " وكان أبو طاهر الدباس ينكر هذا ويقول: لا يجوز أن يكون في شيء من حكم الشرع مشكوكا فيه ولكن معناه يحتاط فيه فلا يجوز أن يتوضأ به في حالة الاختيار، وإذا لم يجد غيره يجمع بينه وبين التيمم احتياطا.
قلت: المشايخ قالوا بالشك لتعارض الأدلة في طهارته وعدم طهارته لا أن يعني أن يكون شيء من أحكام الشرع مشكوكا للجهل بحكم الشرع. وفي " شرح القدوري " القول بالوقف عند تعارض الأدلة دليل العلم وغاية الورع. .
م: (وقيل الشك في طهارته) ش: فلو وقع في الماء القليل يفسده، وقال قاضي خان: ولو أصاب الثوب أو البدن لا يفسده، وروى الكرخي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن سؤر الحمار نجس إلا أنه سقط في حق الآدمي للحرج، ومن المشايخ من قال بنجاسة سؤر الحمار دون الأتان؛ لأن الحمار نجس فمه لشبه البول، وفي " البدائع " هذا موهوم فلا ينجس، وقال قاضي خان: والأصح أنه لا فرق بينهما. وقال السروجي: الإجود أن يكون قيل بغيره أو لأنه أول القولين فلا عطف، وكذا قاله صاحب " الدراية ".

(1/489)


لأنه لو كان طاهرا لكان طهورا ما لم يغلب اللعاب على الماء. وقيل: الشك في طهوريته لأنه لو وجد الماء المطلق لا يجب عليه غسل رأسه، وكذا لبنه طاهر، ولا يؤكل وعرقه لا يمنع جواز الصلاة وإن فحش
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: لا فساد في العطف، وكيف ينفي العطف بكونه أول القولين حتى يدعى الأجودية. م: (لأنه) ش: أي لأن سؤر الحمار والبغل م: (لو كان طاهرا لكان طهورا ما لم يغلب اللعاب على الماء) ش: لأن اختلاط الطاهر بالماء لا يخرجه عن الطهورية ما لم يغلب كما إذا اختلط ماء الورد بالماء لكن ينبغي أن يمنع من شربه؛ لأن لعاب ما لا يؤكل لحمه موجود فيه كلبن الأتان. وقال الوتري: الشك في حكم الطهارة، وفي حق الشرب وغيره طاهر وكذا لو شرب الحمار من لبن أو عصر. م: (وقيل الشك في طهوريته) ش: في كونه طاهرا لغيره م: (لأنه) ش: أي لأن الذي يراد الوضوء م: (لو وجد الماء) ش: المطلق م: (لا يجب عليه غسل رأسه) ش: يعني بعد ما مسح رأسه بسؤر الحمار وجد ماء مطلقا لا يجب عليه غسل رأسه، فلو كان الشك في طهارته لو جب وإنما عين الرأس دون غيره من الأعضاء؛ لأن غيره من الأعضاء يطهر بصب الماء عليه حقيقة وحكما.
فإن قلت: هذا غير لازم لأن الرأس قبل المسح عليه بالماء المشكوك في طهارته فلا يدفع بالشك. قلت: مراده بعد ما توضأ به، فإن الحدث قد حل بالرأس فإذا مسح عليه بالمطلق يكون حكم البلة حكم الماء المشكوك في كونه طاهرا وعلى تقدير كونه نجسا يتنجس البلة فلا يرتفع به الحدث فلا يرفع الشك فيجب غسل رأسه لهذا المعنى، فلما لم يجب دل على أن الشك في طهوريته لا في طهارته.
م: (وكذا لبنه طاهر) ش: قال السروجي كان ينبغي أن يقول وكذا لبنها؛ لأن اللبن من الأتان دون الحمار. قلت: الحمار يتناول الذكر والأنثى ويقال: الأنثى خاصة حمارة، وقيل: هذا ليس بظاهر الرواية. وظاهر الرواية أنه نجس والذي ذكره هو رواية عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وفي " المحيط " لبنة نجس في ظاهر الرواية، واعتبر التمرتاشي والبزدوي فيه الكثير الفاحش هو الصحيح، وعن شمس الأئمة أنه نجس نجاسة غليظة؛ لأنه حرام بالإجماع وفي " فتاوى قاضي خان " في طهارته روايتان. م: (ولا يؤكل) ش: أي اللبن، وقال السروجي: والأحسن أن يقول: لا يشرب قلت: اللبن يؤكل ويشرب، وإنما اختار لفظ الأكل؛ لأنه إذا كان حراما فالشرب بطريق الأولى والأكل في الألبان أكثر من الشرب عادة، ثم الطهارة على قول محمد لا تستلزم جواز الأكل كالتراب ونحوه.
م: (وعرقه) ش: أي عرق الحمار طاهر م: (لا يمنع جواز الصلاة وإن فحش) ش: هذه إحدى الروايات عن أبي حنيفة وفي أخرى نجس مخفف، وفي أخرى مغلظ قال القدوري: إن عرق الحمار طاهر في الروايات المشهورة، كذا في " المحيط "، وفي " المنتقى " عن محمد لبن الأتان

(1/490)


فكذا سؤره وهو الأصح ويروى نص عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - طهارته. وسبب الشك تعارض الأدلة في إباحته وحرمته
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كلعابها وعرقها يفسدان الماء دون الثوب. وفي المغني لابن قدامة كل حيوان حكم الحيوان حكم جلده وشعره وعرقة ودمعه ولعابه حكم سؤره في الطهارة والنجاسة.
م: (فكذا سؤره) ش: أي كذا سؤره طاهر؛ لأن العرق لا يتولد منه، وكذا لبنه فإذا كانا طاهرين فالسؤر كذلك م: (وهو الأصح) ش: أي القول بأن الشك في طهوريته هو الأصح، فإذا كان الشك في طهوريته على الأصح كان بقاؤه على الطهارة بلا شك.
م: (ويروى نص عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - على طهارته) ش: أي على طهارة سؤره وقال الأترازي: أي على طهارة عرقه والأول أوجه؛ لأن الذي نص عن محمد ليس فيه ذكر العرق على ما يجيء الآن وكان العرق كالسؤر. وقال السغناقي: وهو ما روي عن محمد أنه قال: أربع لو غمس فيهن الثوب لم ينجس وهو سؤر الحمار والماء المستعمل ولبن الأتان وبول ما أكل لحمه كذا في " المبسوط " لشيخ الإسلام، وذكر قاضي خان وغيره في " شرح الجامع الصغير "، قال: لو غمس الثوب فيه يجوز الصلاة مع الماء المستعمل وسؤر الحمار وبول ما يؤكل لحمه.
قلت: كان ينبغي أن يقال: ثلاثة لو غمس الثوب فيها لأن الماء والسؤر والبول كل منها مذكور فتحت تأويلات لا يعود الضمير إليها مفردا مذكورا، وكذا الكلام في قوله أربعا.
م: (وسبب الشك تعارض الأدلة في إباحته وحرمته) ش: لم يتعرض أحد من الشراح إلى بيان عود الضمير في إباحته وحرمته وبيانه.
فإن قلت: يرجع إلى السؤر كما هو الظاهر فالأدلة لم تتعارض فيه وإنما تعارضها في لحم الحمار، وإن قلت: إلى اللحم فهو غير المذكور، فأقول إنه يرجع إلى الحمار لأن الاختلاف فيه فيكون المعنى تعارض الأدلة في إباحة لحم الحمار وحرمته، وأراد بالأدلة الأخبار والآثار.
واختلف المشايخ فيه فمنهم من قال: سبب الشك في سؤر الحمار تعارض الأدلة الواردة في الأحاديث، ومنهم من قال: اختلاف الصحابة في طهارته فالقسم الأول الأحاديث الواردة، أما الحرمة ففي " الصحيحين " عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر وأذن في لحم الخيل» أخرجه البخاري.
وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن لحوم الخيل والبغال والحمر» وأخرجه

(1/491)


أو اختلاف الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في نجاسته وطهارته.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أبو داود والنسائي وابن ماجه.
أما الإباحة ففي " سنن أبي داود " من «حديث غالب بن أبجر أصابتنا سنة فلم يكن في مالي شيء أطعم أهلي إلا شيء من حمر، وقد كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حرم لحوم الحمر الأهلية فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلت: يا رسول الله أصابتنا السنة ولم يكن في مالي ما أطعم أهلى إلا سمان حمر وإنك حرمت الحمر الأهلية، فقال: "أطعم أهلك من سمين حمرك فإنما حرمتها من أجل جوال القرية» .
وأشار إلى القسم الثاني بقوله م: (أو اختلاف الصحابة في نجاسته وطهارته) ش: أي في نجاسة سؤر الحمار وطهارته وعطف اختلاف الصحابة على تعارض الأدلة يوهم أن اختلاف الصحابة غير الأدلة وليس كذلك فإن أقوال الصحابة من جملة الأدلة واختلافهم في سؤره هو ما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يقول: تعلف القت والطين فسؤره طاهر.
وروي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يقول: إنه رجس تعارض القولان فصار سؤر الحمار مشكوكا فيه؛ لأن التوفيق عند تعارض الأدلة واجب، والتعارض يقابل الدليلين والمعارضة المقابلة على سبيل الممانعة وذلك أن يوجب أحد الدليلين الحل والآخر الحرمة أو غير ذلك، ولما كان الأمر في سؤر الحمار وقع كذلك أو وقع الشك فقلنا: إنه لا يطهر النجس ولا ينجس الطاهر.
فإن قلت: ينبغي أن يرجح دليل الحرمة. قلت: الأصل في التعارض الجمع، وقد أمكن كما قلنا، كذا قاله تاج الشريعة، وقال شيخ الإسلام في " مبسوطه ": هذا لا يقوى، لأن لحمه حرام بلا إشكال؛ لأنه اجتمع المحرم والمبيح فغلب المحرم عليه كما لو أخبر عدل بأن هذا اللحم ذبيحة مجوسي والآخر أنه ذبيحة مسلم فإنه لا يحل أكله لعلة الحرمة فكان لحمه حراما بلا إشكال ولعابه مولد منه فيكون نجسا بلا إشكال.
وقال الأكمل: وفيه نظر؛ لأنه مستلزم نجاسة لبنه وقد تقدم من قول المصنف أنه طاهر. والجواب بالإلزام فإنه في ظاهر الرواية نجس كما تقدم.
قلت: ما تعرض شيخ الإسلام إلى لبنه حتى يستلزم ما يقوله بنجاسته فالنظر ضعيف فكذلك أجاب بالالتزام. والجواب الواضح ما قاله شيخ الإسلام أن الأصل في التعارض الجمع إلا إن لم يكن ولم يمكن في اللحم للتضاد وفي السؤر ممكنة بأن يكون واجب الاستعمال عملا بدليل الطهارة، ووجب التيمم عملا بدليل النجاسة.

(1/492)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: المرجح هنا المحرم. قلت: يقوى المبيح بقوله تعالى {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] (الحج: الآية 78) ولأن المحرم لا يرجح عند تعارض الحاجة والضرورة كما في الهرة.
فإن قلت: لا يصير الماء مشكوكا بتعارض الخبرين كما في مسألة خبر العدلين أحدهما: أخبر بطهارة الماء، والآخر بنجاسته. قلت: لا تعارض ثمة لأنه أمكن ترجيح أحدهما، فإن المخبر عن طهارته لو استقصى ذلك وقال: أخذته من البئر وسددت فم الماء ولم يخالطه شيء ورجحنا خبره لفائدة بالأصل وإن كان مبنى خبره على الاستصحاب رجحنا خبر النجاسة؛ لأنه أخبر عن محسوس مشاهد، فأما في سؤر الحمار فالتعارض قائم؛ لأن لحمه نجس وعرقه طاهر، والبلوى فيه من وجه دون وجه فلا يمكن إلحاقه بأحدهما فوجب المصير إلى ما كان ثابتا فلا يطهر به نجس ولا ينجس به طاهر، فإن عرف الماء طاهرا فوجب أن يبقى كذلك، فإن اليقين لا يزول بالشك.
قلت: وجب أن يكون مشكوكا فيه كلعاب الحمار؛ لأن الماء إذا أصابه شيء يوصف بصفة بصنعة ذلك الشيء، والأصح في التمسك أن دليل الشك هو تردد في الضرورة، فإن الحمار يربط في الدور والأبنية ويشرب من الأواني وللضرورة أثر في إسقاط النجاسة كما في الهرة والفأرة إلا أن الضرورة دون الضرورة فيهما لدخولهما تضايق البيت بخلاف الحمار، ولو لم تكن الضرورة ثابتة أصلا كما في الكلب والسباع لوجب الحكم بالنجاسة بلا إشكال، ولو كانت الضرورة فيهما لوجب الحكم بإسقاط النجاسة، فلما ثبتت الضرورة من وجه دون وجه واستوى موجب النجاسة والطهارة تساقطا للتعارض فوجب المصير إلى الأصل، والأصل هاهنا بيان الطهارة في جانب الماء والنجاسة في جانب اللعاب؛ لأن لعابه نجس كما بينا وليس أحدهما بأولى من الآخر فبقي الأمر مشكلا نجسا من وجه طاهرا من وجه، فكان الإشكال عند علمائنا بهذا الطريق لا للإشكال في لحمه ولا لاختلاف الصحابة في سؤره، وبهذا التقدير يندفع كثير من الأسئلة.
وقال الأكمل: وهاهنا نكتة لا بأس بالتنبيه عليها وبناءها على كون المراد بالنجاسة إما قبل الذبح أو بعده ثم بعد التطويل، قال: نعلم من هذا أن اللعاب المتولد من اللحم مأكول بعد الذبح طاهر بلا كراهة دون غيره إضافة الحكم إلى الفأر في صيانة حكم الشرع عن المناقضة ظاهرا هذا ما سنح لي والله أعلم.
قلت: لا دخل في الذبح وتفصيله هاهنا، والكلام في حكم السؤر وهو لا يتصور بعد الذبح والأصل في هذا الباب اللعاب، فإن كان من حيوان مأكول كان طاهرا فسؤره طاهر، وإن كان من حيوان غير مأكول كان نجسا فسؤره نجس إلا أنه خولف فيه في سؤر الحمار مع كونه غير مأكول وسؤره طاهر كما ذكرنا من الوجوه فيه.

(1/493)


وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه نجس ترجيحا للحرمة والنجاسة، والبغل من نسل الحمار فيكون بمنزلته
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه نجس) ش: أي روي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن سؤر الحمار نجس رواه عنه وقد ذكرناه مرة م: (ترجيحا للحرمة والنجاسة) ش: ترجيحا نصب على المصدرية تقديره رجح أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ترجيحا، ويجوز أن يكون حالا أي حكم أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - بنجاسة سؤر الحمار حال كونه مرجحا للحرمة لتعارض الأدلة [ ... ] لاختلاف الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ويجوز أن يكون المعنى ترجيحا للحرمة؛ لأن المحرم مرجح للنجاسة، لأنه إذا ترجح المحرم تترجح النجاسة أيضا لامتناع الطهارة مع الحرمة قاله الأكمل، وفيه نظر؛ لأن الطهارة لا تمتنع بالحرمة وكم من طاهر حرام.
وقال الأكمل أيضا في هذا الموضع واستشكل بما إذا أخبر عدل بحل طعام وآخر بحرمته فإنه يترجح خبر الحل كما إذا أخبر عدل بطهارة الماء وآخر بنجاسته ترجح الطهارة.
قلت: هاهنا إشكالان أحدهما: لحافظ الدين ذكره في " الكافي " عند قوله والنجاسة، والآخر لصاحب " الدراية " عن شيخه عند قوله للحرمة. والجواب عن الأول أن تعارض الخبرين في الطعام يوجب التهاتر والعمل بالأصل وهو الحل، ولا يجوز ترجيح الحرمة بالاحتياط لاستلزامه تكذيب الخبر بالحل عن غير دليل، وأما تعارض أدلة الشرع في حل الطعام وحرمته فيوجب الترجيح بدليل وهو تعليل النسخ الذي هو خلاف الأصل.
والجواب عن الثاني: أن تعارض الخبرين في الماء يوجب التهاتر والعمل بالأصل لوقوع الشك في اختلاط النجاسة، والأصل عدمه فبقي الماء على أصلة وهو الطهارة. أم هاهنا فقد اختلط اللعاب المتولد من اللحم بالماء بيقين. وقد ترجح الحرمة فيه باتفاق الروايات عن أصحابنا وهي مبنية على النجاسة على ما بينا فيجب ترجيح النجاسة بهذا الدليل.
م: (والبغل من نسل الحمار) ش: هذا جواب عما يقال قد يثبت حكم سؤر الحمار وما فيه من الأمور المذكورة وما حكم البغل وحكم سؤره في ذلك مع أنك قلت: وسؤر الحمار والبغل مشكوك فيه؟ فأجاب بقوله: والبغل من نسل الحمار م: (فيكون بمنزلته) ش: بمنزلة الحمار في أحكامه. وقال السروجي: فيه نظر، فإن البغل متولد بين الحمار والفرس فعلى قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يحتاج إلى جعله من نسل الحمار بل نسل أيهما كان يحرم، وأما على قوليهما فمشكل، فإن المنظور إليه الأم فإن كانت الأم مأكولة اللحم حل أكل ما تولد منهما، وإن كان الأب غير مأكول اللحم ويدل عليه أن الذئب إذا نزى على شاة فولدت ذئبا حل أكله ويجزئ في الأضحية ذكره صاحب " الكافي " في الأضحية.

(1/494)


فإن لم يجد غيرهما يتوضأ بهما ويتيمم، ويجوز أيهما قدم. وقال زفر: لا يجوز إلا أن يقدم الوضوء؛ لأنه ماء واجب الاستعمال فأشبه الماء المطلق، ولنا أن المطهر أحدهما فيفيد الجمع دون الترتيب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: في قوله فإن البغل متولد بين الحمار والفرس؛ لأن البغل قد يتولد بين الحمار والبقر فإنه يؤكل بلا خلاف وإن كان متولدا بين الحمار والفرس فيجري فيه الخلاف.
م: (فإن لم يجد غيرهما) ش: هذا تفريع على ما قبله فكذلك ذكر بالفاء أي فإن لم يوجد غير سؤر الحمار وسؤر البغل م: (يتوضأ بهما) ش: أي سؤر الحمار والبغل وينبغي أن يقول. . فإن لم تجد غيره أي غير سؤر الحمار والبغل م: (يتوضأ بهما ويتيمم ويجوز أيهما) ش: أي الاثنين أعني التوضؤ بالسؤر والتيمم م: (قدم) ش: وكلمة أي هنا شرطية كما في قَوْله تَعَالَى: {أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ} [القصص: 28] (القصص: الآية 28) .
م: (وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يجوز إلا أن يقدم الوضوء) ش: فيجب أن يؤخر التيمم وبه قال أحمد في رواية م: (لأنه) ش: أي لأن سؤر الحمار والبغل م: (ماء واجب الاستعمال) ش: وهذا قول ابن تيمية ووافقنا زفر عليه، ووجهه أن التيمم إنما يجوز عند عدم الماء نتيجة الواجب الاستعمال، وهذا ما وجب استعماله بالإجماع، فصار كالماء المطلق به وهو معنى قوله م: (فأشبه الماء المطلق) ش: هذه نتيجة قوله: ماء واجب الاستعمال، فإذا كان واجب الاستعمال شبه الماء المطلق فوجب استعماله حتى إنه إذا تيمم ولم يتوضأ به لا يجوز.
فإن قلت: هل الجمع بينهما واجب أم لا؟
قلت: قال قاضي خان وقال في كتاب الصلاة رجل لم يجد إلا سؤر الحمار فإنه يتوضأ به والأفضل أن يتيمم معه، فإن تيمم ولم يتوضأ به لا يجوز، وقال: وهذا اللفظ لا يوجب الجمع بينهما، وجه الجمع بينهما أنه مشكوك في طهوريته على الصحيح فلا بد من التيمم لاحتمال أنه لا يرفع الحدث وحده.
م: (ولنا أن المطهر أحدهما) ش: أي أحد سؤر الحمار والتيمم م: (فيفيد الجمع دون الترتيب) ش: الضمير في - فيفيد - يرجع إلى قوله مطهر أحدهما، وقوله: - الجمع - منصوب به، وقال الأكمل: الضمير في - فيفيد - راجع إلى قوله: يتوضأ بهما ويتيمم. قلت: كان ينبغي على قوله أن يقول: - فيفيدان الجمع -، لأن المذكور اثنان سؤر الحمار والتيمم، وهذا على تقدير أن يكون قوله الجمع منصوبا، وأما إذا قرئ مرفوعا بأن يكون فاعل - فيفيد - فلا حاجة إلى هذا التكلف بل الأولى الرفع؛ لأن المفيد هو الجمع بين سؤر الحمار والتيمم والترتيب غير مفيد؛ لأن الماء إن كان طهورا فلا معنى للتيمم تقدم أو تأخر وإن لم يكن طهورا فالمطهر هو التيمم تقدم أو تأخر وجود

(1/495)


وسؤر الفرس طاهر عندهما، لأن لحمه مأكول، وكذا عنده في الصحيح؛ لأن الكراهة لإظهار شرفه
فإن لم يجد إلا نبيذ التمر.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
هذا الماء وعدمه سواء، وإنما يجمع بينهما لعدم العلم بالمطهر بهما عينا، وفي " النهاية " المراد بالجمع أن لا تخلو صلاة واحدة عنهما حتى لو توضأ بالسؤر وصلى ثم أحدث وتيمم وصلى تلك الصلاة جاز، لأنه جمعهما في صلاة واحدة.
فإن قيل: هذا الطريق مستلزم أداء الصلاة بغير طهارة في أحد المرتين لا محالة وهو مستلزم الكفر لتأديته إلى الاستخفاف بالدين فينبغي أن لا يجوز، ويجب الجمع في أداء واحد، قلت: إذا كان فيما أدى بغير طهارة بيقين، فأما إذا كان أداؤه بطهارة من وجه فلا استخفاف؛ لأنه عمل بالشرع من وجه وهاهنا كذلك لأن واحدا من السؤر والتراب مطهر من وجه دون وجه فلا يكون الأداء بغير طهارة من كل وجه، فلا يلزم منه الكفر كما لو صلى حنفي بعد الفصد والحجامة لا تجوز صلاته ولا يكون كافرا لمكان الاختلاف وهذا أولى بخلاف ما لو صلى بعد البول في " جامع المستوفى " عن نصير في رجل لم يجد إلا سؤر حمار يهرق ذلك حتى يصير عادما للماء ثم يتيمم، واختار الصفار ذلك وعن محمد "في النوادر ": توضأ بسؤر الحمار وتيمم ثم أصاب ماء نظيفا ولم يتوضأ به حتى ذهب الماء ومعه سؤر الحمار أعاد التيمم دون الوضوء؛ لأنه إذا كان مطهرا فقد توضأ به، وإن كان نجسا فليس عليه الوضوء في المرة الأولى ولا في المرة الثانية.

م: (وسؤر الفرس طاهر عندهما) ش: أي عند أبي يوسف، ومحمد - رحمهما الله - م: (لأن لحمه مأكول) ش: عندهما، وذكر في الأصل لا بأس بسؤر الفرس من غير ذكر خلاف. وفي " المبسوط " سؤر الفرس طاهر في ظاهر الرواية م: (وكذا عنده في الصحيح) ش: أي وكقولهما طاهر عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في المروي الصحيح وهو ورواية كتاب الصلاة. وفي " المحيط ": وفي سؤر الفرس عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أربع روايات، روى البلخي عنه: أحب إلي أن يتوضأ بغيره. وروى الحسن عنه: أنه مكروه كلحمه، وروي أنه: مشكوك كسؤر الحمار، وفي رواية: طاهر كقولهما.
م: (لأن الكراهة) ش: أي كراهة لحمه م: (لإظهار شرفه) ش: لأنه يرهب به عدو الله فيقع إعزاز الدين وإعلاء كلمة الله كما يقع بالآدمي لهذا اختص من بين الحيوانات بإفراد السهم كالآدمي فلا يؤثر تحريمه في سؤره كما في الآدمي.

[حكم الطهارة بنبيذ التمر]
م: (فإن لم يجد إلا نبيذ التمر) ش: أي فإن لم يجد من يريد الصلاة وهو محدث إلا نبيذ

(1/496)


قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يتوضأ به ولا يتيمم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
التمر، وجه المناسبة في ذكره هذه المسألة هاهنا هو أن له شبها خاصا بسؤر البغل والحمار على قول محمد، فإنه يقول بضم التيمم إلى الوضوء به احتياطا كما يجيء عن قريب، فلذلك قال: فإن لم يجد بالفاء فإن فيه بيان الجمع بين التيمم والسؤر وهذا أحسن من ذكره بالواو؛ لأنه لمجرد العطف بخلاف الفاء، فإنه يدل على معان مختلفة مع العطف كما ذكر في موضعه.
ثم إن النبيذ فعيل بمعنى مفعول في نبذت الشيء إذا طرحته وهو الماء الذي نبذ فيه تمرات لتخرج حلاوتها إلى الماء، وفي " النهاية" لابن الأثير: النبيذ ما يعمل من الأشربة من التمر والزبيب والعسل والحنطة والشعير وغير ذلك، يقال: نبذت التمر والعنب إذا نزلت عليه الماء ليصير نبيذا مصرف من مفعول إلى فعيل، وأنبذته إذا اتخذته نبيذا وسواء كان مسكرا أو غير مسكر فإنه يقال له: نبيذ ويقال للخمر المعتصر من العنب نبيذ كما يقال للنبيذ خمر، وقال ابن فارس في " المجمل ": نبذت الشيء أنبذه إذا ألقيته من يدك، ونبيذ التمر يلقى في الآنية ويصب عليه الماء.
قلت: هو من باب فعل بالفتح في الماضي والكسر في المضارع كضرب يضرب وكذا ذكره صاحب " الدستور "، وقال ابن سيده: النبيذ طرحك الشيء وكل طرح نبيذ، والنبيذ التمر المطروح، والنبيذ ما نبذته من عصير ونحوه، وقد نبذ وانتبذ ونبذ، وفي " الصحاح " العامة تقول: أنبذت وكذا ذكره في كتاب " الشرح " لابن درستويه، وذكر الخيالي في " نوادره " ومن خط الحافظ أنبذت لغة لكنها قليلة وذكره أيضا في كتاب فعلت وأفعلت، وفي " الجامع " للفراء وكثرة الناس يقولون: نبذت النبيذ بغير ألف. وحكى الفراء عن الرازي: أنبذت النبيذ قال: ولم أسمعها أنا من العرب، وفي " الكافي " أنبذت النبيذ لغة عامة ونبذت الشيء نبذا شدة للمبالغة.
م: (قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يتوضأ به) ش: أي نبيذ التمر م: (ولا يتيمم) ش: لتعيين نبيذ التمر، وقال أبو بكر الرازي في كتابه " أحكام القرآن " عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيه ثلاث روايات، وهذه هي المشهورة، قال قاضي خان: وهي قوله الأول وهو قول زفر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. قال الرضي وقاضي خان: ذكر في كتاب الصلاة إن تيمم معه أحب إلي وروي عنه الجمع بين سؤر الحمار وبه قال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وروى عنه نوح بن أبي مريم وأسد بن عمر والحسن أنه يتيمم ولا يتوضأ، قال قاضي خان: هو الصحيح وهو قوله الأخير، وقد رجع إليه وبه قال أبو يوسف ومالك والشافعي وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وغيرهم من العلماء وهو اختيار الطحاوي.
وروى الحسن والمعلى عن أبي يوسف الجمع بينهما وذكر قاضي خان ولو وجد نبيذ التمر

(1/497)


(لحديث ليلة الجن)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والماء المشكوك فيه والتراب يتوضأ بالنبيذ لا غير، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجمع بين المشكوك والتيمم. وعند محمد يجمع بين الثلاث، ولو ترك واحدا منهما لا تجوز ذكر ذلك المرغيناني والأسبيحابي والتقديم والتأخير في ذلك سواء. وحكي عن ابن طاهر الدباس - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال: إنما اختلفت أجوبة أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لاختلاف الأسئلة فإنه سئل عن التوضؤ إذا كانت الغلبة للحلاوة، قال: يتيمم ولا يتوضأ، وسئل عنه أيضا إذا كان الماء والحلاوة سواء ولم يغلب أحدهما على الآخر، قال: يجمع بينهما، وقال السغناقي: وعلى هذه الطريقة لا يختلف الحكم بين نبيذ التمر وسائر الأنبذة، وسئل عنه أيضا إذا كانت الغلبة للماء فقيل يتوضأ به ولا يتيمم.
وذكر القدوري في شرحه عن أصحابنا التوضؤ بنبيذ التمر لا يجوز إلا بالنية كالتيمم؛ لأنه بدل عن الماء كالتيمم حتى لا يجوز التوضؤ به حال وجود الماء، ولو توضأ بالنبيذ ثم وجد ماء مطلقا ينتقض وضوءه كما ينتقض التيمم بوجود الماء.
قلت: وبقول أبي حنيفة قال عكرمة والأوزاعي وحميد بن حبيب والحسن بن جني وإسحاق فإنهم ذهبوا إلى جواز التوضؤ بنبيذ التمر عند عدم الماء المطلق، وقال ابن قدامة في " المغني " وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان لا يرى بأسا بالوضوء بنبيذ التمر وبه قال الحسن. وفي " الحلية " النبيذ نجس عندنا. وفي " شرح الوجيز " والجمادات كلها على الطهارة إلا الخمر والنبيذ، والمسكر، والحيوانات كلها على الطهارة إلا الكلب والخنزير وفروعهما.
م: (لحديث ليلة الجن) ش: قال السغناقي: حديث الجن هو ما روى أبو رافع وابن المغيرة عن ابن عباس «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب ذات ليلة ثم قال: "ليقم معي من لم يكن في قلبه مثقال ذرة من كبر" فقام ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فحمله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع» نفسه، وقال عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «خرجنا من مكة فخط رسول الله حولي خطا وقال لا تخرج عن هذا الخط فإنك إن خرجت لم تلقني إلى يوم القيامة ثم ذهب يدعو الجن إلى الإيمان ويقرأ عليهم القرآن حتى طلع الفجر ثم رجع بعد طلوع الفجر» .

(1/498)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال تاج الشريعة في شرحه: حديث ليلة الجن هو ما روي عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ذات ليلة إني أمرت أن أقرأ على الجن الليلة فمن يتبعني قالها ثلاثا وأطرقوا إلا أنا قال فانطلقنا حتى إذا كنا على مكة في شعب الحجون خط لي خطا وقال لا» .
وقال صاحب " البدائع ": حديث ليلة الجن ما روي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنا أصحاب النبي جلوسا في بيته فدخل علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليقم منكم من ليس في قبله مثقال ذرة من كبر» فقمت، وفي رواية: «فلم يقم منا أحد فأشار إلي بالقيام فقمت ودخلت البيت فتزودت إداوة من بيته فخرجت فخط لي خطا فقال إن خرجت من هذا لم ترني إلى يوم القيامة فقمت قائما حتى انفجر الصبح فإذا أنا برسول الله صلى» فأخذ ذلك وتوضأ وصلى الفجر.
قلت: روي حديث ابن مسعود هذا من أربعة عشر طريقا وليس فيها ما يوافق ما ذكر هؤلاء لا متنا ولا إسنادا [كما] يلي:
روى ابن ماجه في "سننه" من طريق ابن لهيعة حدثنا قيس بن الحجاج عن حنش الصنعاني عن عبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ليلة الجن: "أمعك ماء؟ " قال: لا إلا نبيذ التمر في سطيحة، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تمرة طيبة وماء طهور صب علي" فصب عليه فتوضأ به» .
وأخرجه الطحاوي: حدثنا ربيع بن المؤذن قال: أخبرنا ابن لهيعة قال: أخبرنا قيس بن الحجاج عن حابس الصبابي عن ابن عباس «عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - خرج مع النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ليلة الجن، فسأله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: "اصبب علي" فتوضأ به وقال: "شراب طهور» ورجاله ثقات غير أن عبد الله بن لهيعة فيه مقال على ما نذكره، وظاهر هذا الفظ يقتضي أنه من سند ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لكن الطبراني في معجمه جعله من سند ابن مسعود.

(1/499)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وكذا البزار في مسنده ولفظهما بالإسناد المذكور عن ابن عباس عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه خرجنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة الجنب بنبيذ فتوضأ وقال: "ماء طهور" قال البزار: هذا حديث لا يثبت؛ لأن ابن لهيعة كان كتبه قد احترقت وبقي يروي من كتب غيره نصا في أحاديثه مناكير. ورواه الدارقطني في "سننه " وقال: تفرد به ابن لهيعة وهو ضعيف.
ورواه أبو داود: حدثنا هناد وسليمان بن داود العبكي قال: حدثنا شريك عن أبي فزارة عن أبي زيد عن «عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ليلة الجن: "ماذا في إداوتك؟ " فقال: نبيذ، فقال: "تمرة طيبة وماء طهور".» وقال أبو داود: قال سليمان بن داود عن أبي زيد قال: كذا قال شريك ولم يذكر هناد ليلة الجن.
وأخرجه الترمذي من حديث أبي زيد مولى عمرو بن حريث عن «عبد الله بن مسعود قال: سألني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما في إداوتك؟ " قلت: نبيذ التمر، فقال: "تمرة طيبة، وماء طهور" قال: فتوضأ منه» . ووهم الشيخ علاء الدين في عزوه هذا الحديث إلى النسائي أيضا فإنه لم يخرجه، وقد ضعفوا هذا الحديث بثلاث علل: أحدها: جهالة أبي زيد، والثاني: التردد في أبي فزارة هل هو راشد بن كيسان أو غيره. والثالث: أن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لم يكن مع النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ليلة الجن.
بيان الأول: قال الترمذي أبو زيد رجل مجهول لا يعرف له غير هذا الحديث، وقال ابن حبان في "كتاب الضعفاء ": أبو زيد شيخ يروي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ليس يدرى من هو، ولا يعرف له أبوه ولا بلده ومن كان بهذا النعت ثم لم يرو إلا خبرا واحدا خالف فيه الكتاب والسنة والإجماع والقياس استحق مجانبة ما رواه.
وقال ابن أبي حاتم في "كتاب العلل ": سمعت أبا زرعة يقول: حديث أبي فزارة في الوضوء بالنبيذ ليس بصحيح وأبو زيد مجهول، وذكر ابن عدي عن البخاري قال: أبو زيد الذي روى حديث ابن مسعود في الوضوء بالنبيذ مجهول لا يعرف بصحبته عبد الله ولا يصح هذا الحديث عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو خلاف القرآن.
وبيان الثاني: وهو التردد في أبي فزارة فقيل: هو راشد بن كيسان وهو ثقة أخرج له مسلم، وقيل: هما رجلان، وأن هذا ليس براشد بن كيسان وإنما هو رجل مجهول.

(1/500)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وبيان الثالث: وهو إنكار كون ابن مسعود مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة الجن، وروى مسلم من حديث الشعبي عن «علقمة قال: سألت ابن مسعود هل شهد منكم أحد مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال: لا ولكن كنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات ليلة فافتقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب فقلنا: استطير أو اغتيل قال: فبتنا ليلة بات بها قوم، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء، فقلت: يا رسول الله فقدناك فطلبناك فلم نجدك فبتنا بشر ليلة قال: أتاني داعي الجن فذهبت معهم فقرأت عليها القرآن وانطلق بنا فأرانا آثارهم وأثار نيرانهم وسألوه الزاد فقال: "لكم كل عظم، ولكم كل بعرة علقا لدوابكم، ثم قال: لا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم"، وفي لفظ مسلم، قال: لم أكن مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة الجن ووددت أني كنت معه. وفي لفظ: وكانوا من جن الجزيرة» .
ورواه أبو داود مختصرا لم يذكر القصة ولفظه عن علقمة قال: قلت لعبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: من كان منكم مع النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قال: ما كان معه منا أحد.
ورواه الترمذي بتمامه في " الجامع " في تفسير سورة الأحقاف. وقال البيقهي في دلائل النبوة وقد دلت الأحاديث الصحيحة على أن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لم يكن مع النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ليلة الجن، وإنما كان معه حين انطلقوا به وبغيره يريه آثارهم وآثار نيرانهم.
والجواب عن العلة الأولى أن أبا بكر بن العربي ذكر في شرحه للترمذي وأبو زيد مولى عمرو بن حريث روى عنه راشد بن كيسان العبسي الكوفي وأبو روق وبهذا يخرج عن حد الجهالة ولا يعرف إلا بكنيته، فيجوز أن يكون الترمذي أراد به أنه مجهول الاسم، ولا يضر ذلك، فإن جماعة من الرواة لا تعرف أسماؤهم وإنما عرفوا بالكنى.
وعن العلة الثانية: أن صاحب " الإمام " قال أبو فزارة روى عنه جماعة من أهل العلم مثل سفيان الثوري وشريك بن عبد الله والجراح بن مليح الرؤاسي، ووكيع وقيس بن الربيع، وزاد ابن العربي جعفر بن برقان وجرير بن حازم وعلي ابن عائشة، فإين الجهالة بعد هذا فبطل دعوى الجهالة، وقال أبو أحمد بن عدي: أبو فزارة ثقة ثقة، وقال ابن عبد البر: أبو فزارة مشهور ثقة عندهم، وقال أبو حاتم: صالح روى له مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه.
فإن قلت: قيل هو فيها، فهما رجلان وأن هذا ليس براشد بن كيسان وإنما هو رجل مجهول، وذكر البخاري أن أبا فزارة العبسي غير مسمى فجعلهما اثنين، وقالوا: إن أبا فزارة كان نباذا بالكوفة، وروى هذا الحديث لنفق سلعته.
قلت: روى هذا الحديث عن أبي فزارة جماعة فرواه عنه شريك كما أخرجه أبو داود والترمذي وكما رواه عنه الجراح كما أخرجه ابن ماجه ورواه عنه إسرائيل كما أخرجه البيهقي

(1/501)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ورواه عنه قيس بن الربيع كما أخرجه عبد الرزاق فأين الجهالة بعد ذلك؟ وقد جزم ابن عدي بأنه راشد بن كيسان وحكي عن الدارقطني أنه قال: أبو فزارة في حديث النبيذ اسمه راشد بن كيسان، وقولهم: كان نباذا بالكوفة باطل وهم لا يجوزون الرواية عن المستور فكيف يروي هؤلاء الأعلام عن الخمار وفساده ظاهر لا يخفى على أحد.
وعن الثالثة: بأن أربعة عشر رجلا رووه عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كما رواه أبو زيد عنه مصرح فيها أن ابن مسعود كان مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة وله سبع طرق مصرح فيها أن ابن مسعود كان معه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
الأول: عن أحمد في " مسنده " والدارقطني في " سننه " من حديث يونس عن أبي رافع عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ليلة الجن: "أمعك ماء؟ " قال: لا، قال: "أمعك نبيذ؟ " قال: أحسبه قال: نعم فتوضأ به» .
الثاني: عن الدارقطني من حديث أبي عبيدة وابن الأحوص «عن ابن مسعود قال: مر بي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "خذ معك إداوة من ماء" ثم انطلق وأنا معه. فذكر حديث ليلة الجن، ثم قال: فلما أفرغت عليه من الإداوة إذ هو نبيذ، فقلت: يا رسول الله أخطأت بالنبيذ فقال: "ثمرة حلوة وماء عذب» .
الثالث: عن الدارقطني أيضا من حديث ابن غيلان الثقفي أنه سمع «عبد الله بن مسعود يقول دعاني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة الجن بوضوء فجئته بإداوة فإذا فيها نبيذ فتوضأ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة الجن فأتاهم فقرأ عليهم القرآن فقال لي رسول» .
الرابع: عنه أيضا من حديث أبي وائل قال: سمعت ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: كنت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
الخامس: عن الطحاوي من حديث قابوس عن أبيه قال: «انطلق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى برار فخط خطا وأدخلني فيه وقال لا تبرح حتى أرجع إليك ثم انطلق فما جاء حتى السحر وجعلت أسمع أصواتا ثم جاء فقلت أين كنت يا رسول الله قال أرسلت إلى» قال الطحاوي: ما علمنا لأهل الكوفة حديثا أثبت أن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمعك ماء؟ " قال: لا، إلا النبيذ في إداوة قال: "تمرة طيبة وماء طهور» .
السابع: عن أبي داود من حديث أبي زيد عن عبد الله بن مسعود وقد ذكرناه.

(1/502)


فإن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: توضأ به حين لم يجد الماء. وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يتيمم ولا يتوضأ به، وهو رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - عملا بآية التيمم لأنها أقوى، أو هو منسوخ بها لأنها مدنية، وليلة الجن كانت مكية.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: هذه الطرق كلها مخالفة لما في " صحيح مسلم " أنه لم يكن معه كما ذكرناه عن قريب.
قلت: التوفيق بينها أنه لم يكن معه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حين المخاطبة وإنما كان بعيدا عنه، وقد قال بعضهم إن ليلة الجن كانت مرتين، ففي أول مرة خرج إليهم ولم يكن مع النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ابن مسعود ولا غيره كما هو ظاهر حديث مسلم.
ثم بعد ذلك خرج معه ليلة أخرى كما روى ابن أبي حاتم في تفسيره في أول سورة الجن من حديث ابن جريح قال: قال عبد العزيز بن عمر: أما الجن الذين لقوه بنخلة فمن نينوى، وأما الجن الذين لقوه بمكة فهم من نصيبين.
قال القدوري في " شرح مختصر الكرخي ": وروي كونه يعني ابن مسعود مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في خبر أجمع العلماء على العمل به وهو أنه طلب منه ثلاثة أحجار فأتاه بحجرين وروثة، الحديث، وقال ابن العربي صحته في البعض استوقفه وبعد عنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ثم عاد إليه فصح أنه لم يكن معه عند الجن لا نفس الخروج، وروى ابن شاهين بسنده عن ابن مسعود أنه قال: كنت مع النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ليلة الجن، والإثبات مقدم على النفي.
م: (فإن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - توضأ به) ش: أي بنبيذ التمر م: (حين لم يجد الماء) ش: أي الماء المطلق.
م: (وقال أبو يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يتيمم ولا يتوضأ به) ش: أي بالنبيذ م: (وهو) ش: أي قول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (رواية عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: وقد ذكرنا أنه روي عنه ثلاث روايات م: (وبه) ش: أي وبقول أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: ومالك وأحمد والطحاوي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - م: (عملا بآية التيمم) ش: أي عمل أبو يوسف عملا بآية التيمم فإنها تنقل التطهير من الماء ونبيذ التمر من وجه فيرد الحديث بها م: (لأنها أقوى) ش: أي لأنها أقوى من هذا الحديث م: (أو هو منسوخ بها) ش: أي أو هو هذا الحديث منسوخ بآية التيمم م: (لأنها مدنية) ش: لأن آية التيمم نزلت بالمدينة م: (وليلة الجن كانت مكية) ش: يعني قضية ليلة الجن التي ورد فيها الحديث المذكور كانت وقعت بمكة.
فإن قلت: نسخ السنة بالكتاب لا يجوز عند الشافعي فكيف يستقيم قوله: أو هو منسوخ بآية التيمم قلت: على هذا رواية رويت عنه أنه يجوز ذلك.

(1/503)


وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يتوضأ به ويتيمم، لأن في الحديث اضطرابا وفي التاريخ جهالة، فوجب الجمع احتياطا، قلنا: ليلة الجن كانت غير واحدة فلا يصح دعوى النسخ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقال الأكمل: ذلك جواب أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - خاصة والمشترك بينهما هو قوله: عملا بآية التيمم. قلت: هذا جواب عن سؤال لصاحب " الدراية " فالأكمل أخذهما منه.
م: (وقال محمد يتوضأ به) ش: أي بالنبيذ م: (ويتيمم) ش: يعني يجمع بينهما احتياطا م: (لأن في الحديث اضطربا) ش: أي مقالا في ثبوته. قال الأترازي في معنى الاضطراب: بعضهم قالوا بتنجسه وبعضهم قالوا: بعدم تنجسه، وبعضهم قالوا: كان ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ليلة الجن، وبعضهم قالوا: لم يكن، فوقع الشك، فوجب الضم احتياطا.
وقال السغناقي: معنى الاضطراب وذلك لأن مداره على أبي زيد مولى عمرو بن الحريث روى أنه كان نباذا روى هذا الحديث ليهون على الناس أمر النبيذ وتبعه على هذا المعنى الشنيع صاحب " الدراية " و" الأكمل "، وقد قلنا: إنه روى عنه الأعلام الأثبات والأئمة الثقات، فكيف يستحسن هذا الكلام فيه طعن على الذين ردوا منهم.
م: (وفي التاريخ جهالة) ش: فيه نظر لأن أهل السير ذكروا أن قدوم وفد جن نصيبين كان قبل الهجرة بنحو ثلاث سنين، وفي " جامع قاضي خان ": تمسكوا في انتساخ هذا الحديث بجهالة التاريخ. قال بعضهم: نسخ ذلك بآية التيمم. وقال بعضهم: لم ينسخ؛ لأنها نزلت في شأن الأسفار والنبيذ يستعمل في المفازات فيما قرب من الأمصار فيجب الجمع احتياطا. ويحتمل أن تكون ليلة الجن بعد آية التيمم.
قلت: فيه نظر لأن الآية مدنية وليلة الجن مكية اللهم إلا إذا كانت غير واحدة كما ذكره المصنف م: (فوجب الجمع) ش: أي بين السور والنبيذ م: (احتياطا) ش: أي لأجل الاحتياط في أمر الدين، قلنا إشارة إلى الجواب عما قال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله -.
م: (قلنا: ليلة الجن كانت غير واحدة) ش: يعني تكررت، وذكر النسفي في تفسيره أن الجن أتوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دفعتين فيجوز أن تكون الدفعة الثانية في المدينة بعد آية التيمم م: (فلا يصح دعوى النسخ) ش: قال السروجي: قوله قلنا: ليلة الجن كانت غير واحدة يوهم أنها كانت بالمدينة أيضا، ولم ينقل ذلك في كتب الحديث فيما علمته.
قلت: حفظ شيئا وغابت عنه شيئا، وقد روى أبو نعيم في كتاب " دلائل النبوة " بإسناده إلى عمرو بن غيلان الثقفي قال: «أتيت ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقلت حدثت أنك كنت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة وفد الجن فقال أجل قلت حدثني كيف كان قال إن أهل الصفة أخذ كل رجل منهم رجلا يعشيه إلا أنا فإنه لم

(1/504)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يأخذني أحد، فمر بي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م، فقال: "من هذا" قلت: أنا ابن مسعود، فقال: "ما أجدك أحد يعشيك" قلت: لا يا رسول الله، قال: "فانطلق لعلي أجد لك شيئا" فانطلقنا حتى أتى حجرة أم سلمة رضي الله عنها فتركني ودخل إلى أهله، ثم خرجت الجارية، فقالت: يا ابن مسعود إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يجد لك عشاء، فارجع إلى مضجعك، فرجعت إلى المسجد فجمعت حصى المسجد فتوسدته، والتففت بثوبي فلم ألبث إلا قليلا حتى جاءت الجارية وقالت: أجب رسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فاتبعتها حتى بلغت مقامي فخرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفي يده عسيب نخل، فعرض به على صدري، فقال: "انطلق أنت معي حيث أنطلقت" فانطلقنا حتى أتينا بقيع الغرقد، فخط بعصاه خطة، ثم قال: "اجلس فيها ولا تبرح حتى آتيك" ثم انطلق يمشي وأنا أنظر إليه حتى إذا كان من حيث لا أراه ثارت مثل العجاجة السوداء، ففزعت وقلت في نفسي هذه هوازن مكروا برسول الله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ليقتلوه فهممت أن أسعى إلى البيوت فأستغيث الناس، فذكرت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوصاني أن لا أبرح وسمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفزعهم بعصاه، ويقول "اجلسوا" فجلسوا حتى كاد ينشق عمود الصبح، ثم ثاروا وذهبوا، فأتاني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "أنمت بعدي"؟ قلت: لا والله، ولقد فزعت الفزعة الأولى حتى هممت أن آتي البيوت فأستغيث الناس، حتى سمعتك تفزعهم بعصاك، فقال: "لو أنك خرجت من هذه الحلقة ما أمنت عليك أن يخطفك بعضهم، فهل رأيت من شيء منهم"؟ قلت: رأيت رجالا سودا مستفزين عليهم ثياب بيض، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أولئك وفد جن نصيبين، فسألوني المتاع الزاد والمتاع، فمتعتهم بكل عظم حائل أو روثة أو بعرة" فقلت: وما يغني عنهم ذلك؟ قال: "إنهم لا يجدون عظما، إلا وجدوا لحمه الذي كان عليه يوم أكل، ولا روثة إلا وجدوا فيها حبة الذي كان فيها يوم أكلت، فلا يستنقي أحد منكم بعظم ولا روثة» .
وأخرج أبو نعيم أيضا عن بقية بن الوليد: حدثني نمير بن يزيد القيني حدثنا أبي حدثنا قحافة بن ربيعة حدثني الزبير بن العوام - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «صلى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الصبح في مسجد المدينة، فلما انصرف قال: "أيكم يتبعني إلى وفد الجن الليلة فأمسك القوم ثلاثا، فمر بي فأخذ بيدي فجعلت أمشي معه حتى خنست عنا جبال المدينة كلها وأفضينا إلى أرض براز فإذا رجال طوال كأنهم الرماح مستنفرين ثيابهم من بين أرجلهم، فلما رأيتهم غشيتني رعدة شديدة» ، ثم ذكر نحو حديث ابن مسعود، فلا يصح دعواه النسخ يعني وإذا كانت ليلة الجن غير واحدة فلا

(1/505)


والحديث مشهور عملت به الصحابة وبمثله يزاد على الكتاب وتمسكه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يصح دعواه النسخ. م: (والحديث مشهور) ش: أي الحديث المذكور مشهور ثبت بطرق مختلفة شتى م: (عملت به الصحابة) ش: مثل علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود، وأما الذي روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان لا يرى بأسا بالوضوء بالنبيذ وضوء من لم يجد الماء.
وأما الذي روي عن ابن مسعود فظاهر، وعن عكرمة: النبيذ وضوء من لم يجد الماء، وقال إسحاق: حلو أحب إلي من التيمم وجمعهما أحب إلي، ولهذا الذي ذكرنا، غير أن الحديث ورد مورد الشهرة والاستفاضة حتى عمل به الصحابة وتلقوه بالقبول. فصار موجبا علما استدلاليا كخبر المعراج والقدر خيره وشره من الله تعالى وأخبار الرواية والشفاعة وغير ذلك مما كان الراوي في الأصل واحدا ثم اشتهر وتلقاه العلماء بالقبول وهذا معنى قول المصنف والحديث مشهور. وقال صاحب " الدراية ": وفي كون الحديث مشهورا تأمل.
قلت: ليس التأمل إلا في قول من يقول: إنه غير مشهور، أفلا يكفي شهرته عمل هؤلاء الكبار من الصحابة، وهم أئمة كبار ونبلاء الصحابة فكان قولهم معمولا به؟
م: (وبمثله) ش: أي بمثل هذا الحديث (يزاد على الكتاب وتمسكه) ش: أي وتمسك هذا الحديث مبني على الكتاب كما في المطلقة ثلاثا فإنه يراد الدخول عليه بالحديث المشهور، وقال السروجي: فيه نظر كبير؛ لأن المشهور عندنا ما تلقته الأئمة بالقبول وعملت به.
وقال البزدوي: ما كان من الآحاد ثم انتشر بنقل قوم لا يمكن تواطؤهم على الكذب، وهذا الحديث إن عمل به واحد واثنان من الصحابة لم يعمل به الباقون فكيف يكون مشهورا.
قلت: قال شيخ الإسلام: شرط كون الخبر مشهورا أن يكون آحادا في الأصل بأن يكون الراوي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من مرتبة الآحاد متواتر النقل بأن ينقله في القرن الثاني وما بعده قوم لا يتوهم تواطؤهم على الكذب.
وهذا الحديث كذلك ويعرف بالتأمل ويؤيد ذلك ما روي من فتاوى نجباء الصحابة في زمان أشد فيه باب الوحي. وقال أبو بكر الرازي في " أحكام القرآن ": يستدل بقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] (المائدة: الآية 6) على جواز الوضوء بنبيذ التمر من وجهين: أحدهما: بقوله: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] عموم في جميع المائعات؛ لأنه يسمى غاسلا بها إلا ما قام الدليل فيه، ونبيذ التمر ما شمله العموم.
الثاني: قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] (المائدة: الآية 6) ، فإن ما أباح إلا عند عدم كل جزء من الماء لأنه لفظ منكر يتناول كل جزء منه سواء كان مخالطا بغيره أو منفردا بنفسه ولا يمنع

(1/506)


وأما الاغتسال به فقد قيل: يجوز عنده اعتبارا بالوضوء استحسانا، وقيل: لا يجوز لأنه فوقه، والنبيذ المختلف فيه الذي يجوز الوضوء به أن يكون حلوا رقيقا يسيل على الأعضاء كالماء، وما اشتد منها صار حراما لا يجوز التوضؤ به وإن غيرته النار فما دام حلوا فهو على الخلاف، وإن اشتد فعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجوز التوضؤ به لأنه يحل شربه عنده، وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يتوضأ به لحرمة شربه عنده،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أحد أن يقول في نبيذ التمر ماء فلما كان كذلك وجب أن لا يجوز التيمم مع وجوده بالظاهر، ويدل على ذلك أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ بمكة قبل نزول الآية في التيمم
م: (وأما الاغتسال به) ش: أي بنبيذ التمر فكأن هذا جواب عن سؤال مقدر تقديره أن يقال: قد ذكرت عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - جواز الوضوء بالنبيذ فهل حكم الاغتسال به مثل الوضوء أم لا فقال: وأما الاغتسال ... إلخ، ولا نص عن أبي حنيفة في الاغتسال به ولكنهم اختلفوا م: (فقد قيل: يجوز عنده) ش: أي عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (اعتبارا بالوضوء) ش: وهو الأصح؛ لأن الخصوص عن القياس بالنص ملحق به ما هو في معناه من كل وجه وأشار إلى ذلك م: (استحسانا) ش: أي استحسنه استحسانا.
م: (وقد قيل: لا يجوز) ش: أي الاغتسال به م: (لأنه فوقه) ش: أي لأن الاغتسال فوق الوضوء؛ لأن الحديث ورد في الوضوء والاغتسال فوقه فلا يلحق به، لأن الجنابة أغلظ الحدثين والضرورة فيه دون الوضوء. وقال في " المبسوط ": الأصح فيه أنه يجوز الاغتسال به، وقال في المفيد: لا يجوز به وهو الأصح.
م: (والنبيذ المختلف فيه) ش: أشار به إلى بيان نبيذ م: (الذي يجوز الوضوء به) ش: الذي اختلفنا فيه م: (أن يكون حلوا رقيقا يسيل على الأعضاء كالماء) ش: قد بينا في أول المسألة حقيقة النبيذ وحاصله أنه لا يجوز الوضوء به إلا بشرطين: أحدهما: أن يكون رقيقا، والآخر: أن يكون سائلا كالماء ولا يكون مشتدا. وشرط آخر: أن لا يكون مسكرا أشار إليه بقول: (وما اشتد منه صار حراما لا يجوز التوضؤ به) ش: أي لا يجوز الوضوء به إجماعا لأنه صار مسكرا حراما.
م: (وإن غيرته النار) ش: وإن غيرت النبيذ النار بأن طبخوه فيها م: (فما دام حلوا فهو على هذا الخلاف) ش: أي الخلاف المذكور وهو جواز الوضوء إجماعا عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه لم يخرج عن كونه طهورا كالماء، وعند أبي يوسف يتيمم، وعند محمد: يجمع بينهما م: (وإن اشتد) ش: أي وإن اشتد النبيذ الذي غيرته النار وصار مسكرا م: (فعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجوز التوضؤ به لأنه يحل شربه عنده وعند محمد لا يتوضأ به لحرمة شربه عنده) ش: يعني شربه حرام عند محمد.
وفي " المفيد " " والمزيد ": الماء الذي ألقي فيه تمرات فصار حلوا ولم يزل عنه اسم الماء وهو رقيق يجوز الوضوء به بلا خلاف بين أصحابنا، وإن طبخ أدنى طبخة لا يجوز الوضوء به حلوا

(1/507)


ولا يجوز التوضؤ بما سواه من الأنبذة جريا على قضية القياس.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كان أو مرا أو مسكرا، قال: وهو الأصح لأن المتنازع فيه المطبوخ الذي زال عنه اسم الماء بالحديث.
وقال الكرخي: وهو المطبوخ وأدنى طبخه يجوز الوضوء به حلوا كان أو مسكرا إلا عند محمد في المسكر. وقال أبو طاهر الدباس: لا يجوز، قال في " المحيط ": وهو الأصح كمرق الباقلاء، وقال المرغيناني والأسبيجابي: منع محمد على أبي يوسف في الزيادات فقال: يجوز التوضؤ به بسؤر الحمار، ولم يرو فيه أثرا ويمنع بنبيذ التمر، وقد ورد فيه الأثر.
قلت: ناقض المصنف كلامه الذي في باب الماء الذي يجوز به الوضوء فإنه قال هناك: وإن تغير بالطبخ بعدما خلط به غيره لا يجوز التوضؤ به لأنه لم يبق في معنى المنزل من السماء إذ النار غيرته.
م: (ولا يجوز التوضؤ بما سواه من الأنبذة) ش: أي بما سوى نبيذ التمر كنبيذ الزبيب والتين والحنطة والذرة ونحوها هذا عند عامة العلماء. وقال الأوزاعي: يجوز التوضؤ بالأنبذة كلها حلوا كان أو غير حلو، مسكرا أو غير مسكر، نيئا كان أو مطبوخا إلا الخمر خاصة. وقال ابن أبي ليلى: يجوز التوضؤ بماء العنب إذا لم يكن مشتدا كما في التمر.
م: (جريا على قضية القياس) ش: لأن القياس كان يقتضي أن لا يجوز استعمال النبيذ في إزالة الأحداث ولكنه خص بالأثر على خلاف القياس، فيقتصر على مورد النص ويبقى الباقي على موجبه؛ ولأنه في الحديث علل باسمه وصفته فقال: «تمرة طيبة» وهو من العلل القاصرة، فلما لم يوجد في غيره لم يجز غيره.
قلت: ينبغي أن يجوز التوضؤ بسائر الأنبذة كما قاله الأوزاعي إما بدلالة الأنبذة بالنص، وإما أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نبه على العلة حيث قال: «تمرة طيبة» وهذا المعنى موجود في نبيذ الزبيب وغيره، فصار كالهرة الطائفة على العلة فيها بقوله: «فإنها من الطوافين والطوافات» قيس عليها سائر سواكن البيوت لوجود المعنى.
فإن قلت: جريا منصوب بماذا. قلت: الجري مصدر من جرى الماء وغيره لازم والمتعدي أجري وانتصابه على التعليل أي لأجل الجري على قضية القياس، ويجوز أن جريا بمعنى جاريا ويكون منصوبا على الحال والتقدير في الأول: عدم جواز التوضؤ بما سواه من الأنبذة لأجل الجري على قضية القياس، وفي الثاني: حالة كونه جاريا على قصية القياس.

(1/508)