البناية شرح الهداية

فصل في البئر وإذا وقعت في البئر نجاسة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[فصل في البئر] [حكم وقوع النجاسة في البئر]
م: (فصل في البئر) ش: أي هذا فصل في بيان أحكام ماء البئر، ولما كان أحكام مياه الآبار داخلة في باب الماء الذي يجوز به الوضوء ذكرها فيه، ولكن لما كان في هذا الفصل أحكام كثيرة تخالف أحكام ما ذكر في الباب ذكرها بفصل على حدة، فلذلك أفرد أحكام الآبار وغيرها أيضا فذكرها بفصل على حدة. وقد تكلف الشارحون في هذا الموضع وذكروا أشياء بلا فائدة زائدة.
فقال السغناقي: لما ذكر حكم الماء بأنه يتنجس كله عند وقوع النجاسة فيه حتى يراق كله، ورد عليه حكم ماء البئر نقضا أنه لا ينزح كله في بعض الصور، استدعى هو ذكر ماء البئر على حدة مرتبا عليه، لأن كونه من الماء القليل يقتضي أن يكون متصلا به من غير فصل، لكن يخالفه في الحكم، ففصله بفصل على حدة رعاية للمعنى، وتبعه صاحب " الدراية "، وساق ما ذكره بعينه، ثم ذكر الأكمل كذلك، وهذا كله لا طائل تحته، وتشويش على المحصلين بزيادة كلام لا يتعلق بالمسائل المذكورة في هذا الباب.
على أنا نقول: ما كان ينبغي أن يذكروا فيه المناسبة بين هذا الفصل وبين المسألة التي ذكرت قبلها مسألة شعر الميت وعظمها، وشعر الآدمي وعظمه، وبين هذا الفصل وبين مسألة الماء القليل مسافة بعيدة فيها مسائل كثيرة، فمن هذا عرفت أن الصواب ما ذكرناه.
م: (وإذا وقعت في البئر نجاسة) ش: الكلام أولا في التركيب ومعاني ألفاظه، فنقول: الواو فيه تسمى واو الاستفتاح يستفتح بها كلام مبتدأ، وسمعته من مشايخي الأثبات؛ منهم الشيخ العلامة حسام الدين صنف البخاري وغيره، ومع هذا لا يخرج هاهنا عن كونها عاطفة على ما قبلها، ويكون ذكر الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بمعنى الذي ذكرناه مثل الجملة المعترضة، ومعنى الوقوع السقوط، والبئر يجمع في القلة على أبؤر وأبأر بهمزة بعد الباء، ومن العرب من يقلب الهمزة فيقول: آبار فإذا كثرت فهي البئار وقد بارت بئرا، والبؤرة الحفرة. وقال أبو زيد: بارت آبارا حفرت بؤرة يطبخ فيها وهي الأرض، والبئيرة على وزن فعيلة وخبره قوله م: (نزحت) ش: من نزح البئر نزحا وهو استقاء مائها، يقال: نزحت البئر ونزحتها لازم ومتعد، وفي الحديث نزل الحديبية وهي بئر نزح بالتحريك، يعني أخذ ماؤها وإذا أخذ ماء البئر يقال: بئر نزوح.
وقال الأترازي: قال الشارحون: أي نزحت البئر إطلاقا لاسم المحل على الحال، وقالوا: لأن نزح النجاسة لا يتم الجواب. أقول هذا تكلف ناشئ عن عدم البصر؛ لأن قوله: نزحت ليس بجواب وحده بل الجواب هو وما بعده من قوله:

(1/431)


نزحت وكان نزح ما فيها من الماء طهارة لها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: وكان نزح ما فيها من الماء طهارة لها) ش: لأن قوله: وكان عطف على قوله: نزحت أي نزحت النجاسة وكان. . إلخ، فيكون بمعنى ما قالوا من التأويل بعد التكلف بعد هو ما قاله المصنف تصريحا؛ لأنهم قالوا: نزحت أي البئر أي ما فيها من النجاسة والماء، وبقي قوله - وكان ما فيها من الماء زائدا - فما أحسن قول من قال: في حقهم، رأى الأمر يقتضي إلخ. قصر آخره أولا.
وقال الأكمل: بل نزحت أي ماؤها بحذف المضاف بعدم الالتباس كما أن نزح العين غير ممكن، ونزح النجاسة لا يتم جواب المسألة فتعين ما قلنا، والتأنيث اعتبار للإسناد الظاهري؛ لأن قوله: وكان نزح ما فيها دليل على ما قلنا، فكان هذا من قبيل إطلاق اسم المحل على الحال كقولهم جرى النهر.
قلت: هذا بعينه كلام السغناقي، وأشار إليه بقوله: قيل والقائل هو السغناقي قال الأكمل: وفيه نظر لأنه حينئذ لم يمكن لإخراج النجاسة ذكر ولا تطهر البئر إلا بإخراجها، وعن هذا ذهب بعض الشارحين إلى أن ضمير نزحت النجاسة وجواب إذا هو المجموع من قوله: نزحت إلى قوله: طهارة لها، ويكون تقديره نزحت النجاسة. فكان نزح ما فيها من الماء طهارة لها.
يقول: أراد الأترازي بقوله: أراد الشارحون - السغناقي والكاكي وغيرهما، ثم قوله -: هذا تكلف ناشئ عن عدم التبصر إلخ - وهو بعينه عدم التبصر، بيان ذلك أن قوله: "نزحت" ليس بجواب وحده، بل الجواب هو وما بعده. . . إلخ. ليس كذلك بل الجواب هو قوله: نزحت، والضمير في نزحت لا يرجع إلى قوله نجاسة بل يرجع إلى البئر، والتقدير نزح ماء البئر من قبيل جرى النهر، وسال الميزاب ونزح ما فيها إفراغه عنها، فإذا خرج جميع ما فيها من الماء يخرج معه النجاسة بالضرورة.
وقوله: وبقي: قوله "وكان نزح ما فيها من الماء زائدا" غير صادر عن تبصر، لأن قول المصنف - فكان نزح ما فيها. . إلخ لبيان أنه لا يحتاج إلى غسل حيطانها، وإخراج ما فيها من التراب والأحجار.
ثم قول الأكمل: وفيه نظر غير سديد؛ لأن المراد من إسناد الترح إلى البئر إفراغ ما فيها، وما فيها يشمل الماء والنجاسة.
وقوله: ذهب بعض الشارحين، أراد به الأترازي؛ لأنه جعل الضمير في نزحت للنجاسة، وقوله: (والتركيب والجواب ... إلخ) محصل ما ذكرت وقررته، غير أن قوله: - والتقدير أن يقال: نزحت النجاسة والماء - ليس مقتضى التركيب، ومقتضاه ما قلنا، وكان نزح ما فيها من الماء

(1/432)


بإجماع السلف
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
طهارة لها إشارة بهذا إلى أن البئر تطهر بمجرد النزح من غير توقف على غسل الحيطان ونقل الأوحال، وقد علمت أن هذا الكلام مستقل بذاته بهذا المعنى من غير اشتراك بما قبله في المعنى.
م: (بإجماع السلف) ش: أراد بهم الصحابة والتابعين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ولم أر أحدا من الشراح مع كثرتهم ودعوى بعضهم التحقيق في هذا الكتاب تعرض إلى متعلق الباء في قوله: بإجماع السلف، وهي متعلقة بقوله: (طهارة لها) ، أي للبئر، والمعنى أن طهارة البئر التي وقعت فيها النجاسة نزح ما فيها ثبت بإجماع السلف.
فإن قلت: كيف إجماع السلف في هذا؟
قلت: الإجماع من الصحابة في هذا هو أن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أمر بنزح جميع ماء بئر زمزم حين وقع فيه زنجي، وكان ذلك في خلافة عبد الله بن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فلم ينكر عبد الله بن الزبير ولا أحد من الصحابة في ذلك الزمان على ابن عباس، فوقع الإجماع منهم على طهارة البئر بالنزح، وكذلك روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في هذا الباب على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وأما الإجماع من التابعين فقد روي في هذا الباب عن الشعبي وإبراهيم النخعي وعطاء والزهري والحسن البصرى وغيرهم، ولم ينقل عن أحد منهم خلافه فصار إجماعا، وسأذكر ذلك مفصلا عن قريب إن شاء الله تعالى.
وسقط قول السروجي في شرحه وقوله: بإجماع السلف وفيه نظر، وبعض من لا خبرة له من أصحاب الشافعي طعن في هذا الموضع، وقال: ما أكيس دلو أبي حنيفة حيث ميز الماء النجس من الطاهر، وهذا في الحقيقة تشنيع على الصحابة والتابعين حيث أجمعوا على طهارة البئر بالنزح فيقال لهم: ما أكيس قرعته حيث ميزت بين الحر والرقيق، وكذلك في تعارض البنيان تميز الحق من الباطل بالقرعة، وقرعتهم هذه أكيس من دلونا.
وفي " المبسوط " هم قالوا بالرأي ما هو أشد من هذا، فقالوا في بئر فيها قلتان، أي ماتت فيه فأرة فنزحت منها دلو، فإن حصلت الفأرة في الدلو فالماء الذي في الدلو نجس، والذي يبقى في البئر طاهر، وإن بقيت الفأرة في البئر فالدلو طاهر وما بقي في البئر نجس، ودلوهم هذا أكيس من دلونا. وقال الأترازي: فيا للدلو أيدته الشافعية كيف طهرت ظاهرها من مرة دون باطنها وعكست أخرى، وكيف طهرت البئر تارة ونجستها أخرى، وكيف وردت الجواب بقياسها على المشنعين علينا؟!

(1/433)


ومسائل الآبار مبنية على اتباع الآثار دون القياس، فإن وقعت فيها بعرة أو بعرتان من بعر الإبل أو الغنم لم يفسد الماء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (ومسائل الآبار مبنية على اتباع الآثار دون القياس) ش: لأن القياس أحد الأمرين، إما أن لا يطهر البئر طهارة ينتفع بها لاختلاط النجاسة بما فيها من الأوحال والحجارة والجدران ولا يمكن غسلها، وهو قول بشر المريسي، وإما أن لا ينجس أبدا كالماء الجاري إذا نبع الماء من أسفله وكحوض الحمام إذا سقط من جانب ويؤخذ من جانب آخر لم ينجس بإدخال يد جنب فيه، ولهذا نقل عن محمد أنه قال: اجتمع رأيي ورأي أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن ماء البئر في حكم الجاري، إلا أنا تركنا القياس واتبعنا الآثار. ففي " مصنف عبد الرزاق " عن معمر قال: سألت الزهري عن فأرة وقعت في البئر، فقال: إن أخرجت مكانها فلا بأس، وإن ماتت فيها نزحت، رواه عبد الرزاق عن معمر، قال: أخبرني من سمع الحسن يقول: إذا ماتت الدابة في البئر أخذ منها، وإن نفخت فيها نزحت أربعون دلوا.
وفي " مصنف ابن أبي شيبة " قال: حدثنا وكيع قال: حدثنا عبد الله بن شبرمة عن الشعبي في دجاجة ماتت في بئر قال: تعاد منها الصلاة وتغسل الثياب. وقال ابن المنذر في " الأشراف " في الإنسان يموت في البئر تنزح كلها. وذكر أبو عبيد أن هذا قول الثوري وأصحاب الرأي. وقال الأوزاعي في ماء معين وجد فيه ميتة لم تغير الماء، قال: تنزح منها الدلاء، وإن غيرت ريح الماء وطعمها نزح بصفوف يطيب، وكذلك قال الليث بن سعد، وقال ابن القاسم عن مالك في الفأرة والوزغة يستقى حتى يطيب.
وروى قتيبة بن سعيد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبو مصعب عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الفأرة والوزغة تموت في البئر قال: تنزف كلها، ذكره في " العارضة "، وذكر في " البدائع " " والمحيط " و" قاضي خان " أنه «روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه أمر في الفأرة تموت في البئر أن ينزح منها عشرون دلوا أو ثلاثون» . وفي " المبسوط " عن أنس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مثله. وقال السغناقي: رواه أبو علي الحافظ السمرقندي بإسناده.
قلت: لم يثبت شيء من ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
م: (فإن وقعت فيها بعرة أو بعرتان من بعر الإبل أو الغنم لم يفسد الماء) ش: أشار بالفاء التفسيرية إلى ما يجب نزحه من الماء بحيث ما يقع فيها النجاسة وما لا يجب، والبعر بسكون العين وفتحها، وعند الكوفيين فتح عين الكلمة إذا كانت حرف حلق قياسي، وعند البصريين سماعي فإنه لم ينقل في وعد، وعدو البعر للإبل والغنم، وهو يشمل الضأن والمعز، والروث للفرس والحمار، من راث الفرس من باب نصر، والخثي بكسر الخاء للبقر من خثي خثيا من باب ضرب.

(1/434)


استحسانا والقياس أن تفسده لوقوع النجاسة في الماء القليل، وجه الاستحسان أن آبار الفلوات ليست لها رؤوس حاجزة، والمواشي تبعر حولها فتلقيها الريح فيها،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م (استحسانا) ش: أي من حيث الاستحسان، أو التقدير استحسن ذلك استحسانا، فعلى الأول تمييز وعلى الثاني مفعول مطلق.
م: (والقياس أن تفسده) ش: أي أن تفسد الماء م: (لوقوع النجاسة في الماء القليل) ش: فصار كالوعاء إذا وقعت فيه بعرة أو بعرتان فإنها تنجس لعدم الضرورة وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن الإناء كالبئر في حق البعرة والبعرتين، وكذا الحوض الصغير، لإمكان صون الماء عنها فإن كانت النجاسة جامدة، وما وقع فيها جامد كالسمن ونحوه رميت النجاسة وما حولها وأكل الباقي، لما روى البخاري عن ميمونة زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أنه سئل عن فأرة سقطت في سمن، قال: "إن كان جامدا فألقوها وما حولها وكلوا"، وإن وقعت في المائع نجسته» لحديث أبي هريرة قال: «سئل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الفأرة في السمن، فقال: "إن كان جامدا فألقوها وما حولها، وإن كان مائعا فلا تقربوه» . رواه أبو داود وأحمد.
ويجوز استعماله في دباغ الجلد، ودهن الدواب، والسفن، والاستصباح، ويجوز بيعه، ويجب عليه البيان، وروي «فانتفعوا به» . وقال البخاري: رواية أبي داود " "وإن كان مائعا فلا تقربوه"، خطأ، والصحيح الأول، يعني روايته، وذكر في " التوشيح " وفي الشاة تبعر في اللبن بعرة أو بعرتين، قال: ترمى البعرة ويشرب اللبن، روي ذلك عن خلف بن أيوب، ونصر بن يحيى، ومحمد بن مقاتل الرازي لمكان الضرورة، فإن الغنم لا تحلب من غير أن تبعر عند الحلب، وهو يحكى عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
م: (وجه الاستحسان أن آبار الفلوات) ش: جمع فلاة وهي المفازة، ويجمع على فلاة أيضا، وأصل فلاة فلوة قلبت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، والجمع يرد الشيء إلى أصله، م: (ليست لها رؤوس حاجزة) ش: أي مانعة وقوع النجاسة من حجزه يحجزه حجزا إذا منعه، فالحجز وهو من باب نصر ينصر.
م: (والمواشي) ش: جمع ماشية وهي اسم يقع على الإبل والبقر والغنم، وأكثر ما يستعمل في الغنم م: (تبعر حولها) ش: أي حول الآبار خصوصا وقت إيرادها للسقي، وتبعر من باب بعر البعير والشاة بفتح العين وسكونها، وهو من باب منع يمنع م: (فتلقيها الريح فيها) ش: أي تلقي

(1/435)


فجعل القليل عفوا للضرورة، ولا ضرورة في الكثير وهو ما يستكثره الناظر إليه في المروي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعليه الاعتماد. ولا فرق بين الرطب واليابس، والصحيح والمنكسر،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الريح البعرات حول الآبار.
م: (فجعل القليل عفوا للضرورة) ش: أي فإذا كان كذلك جعل القليل من البعر عفوا لأجل الضرورة، فلو أفسده القليل أدى إلى الحرج {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] (الحج: الآية 78) ، وهو الذي ذكره هو أحد وجهي الاستحسان. قال في " المبسوط " و" المفيد ": للاستحسان وجهان أحدهما: أن في القليل ضرورة، ووجها ما ذكره المصنف. والوجه الثاني: لم يذكره المصنف وهو أن البعر شيء صلب وعلى ظاهرها رطوبة في الأمعاء كالغلاف له، وفيها لزوجة تمنع دخول الماء في أثنائه.
م: (ولا ضرورة في الكثير) ش: من البعر م: (وهو) ش: أي الكثير م: (ما يستكثره الناظر إليه) ش: بأن يقول هذا كثير م: (في المروي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي في الذي روي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
فإن قلت: الجار والمجرور بماذا متعلق، وما محلهما من الإعراب؟
قلت: تعلقهما بمحذوف تقديره الكثير هو الذي يستكثره الناظر المعتمد عليه في المروي عن أبي حنيفة، دل عليه قوله م: (وعليه الاعتماد) ش: أي هذا المروي العمدة في هذا الباب، إنما قال ذلك لأن أبا حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يقدر شيئا بالرأي في مثل هذه المسائل التي يحتاج إلى التقدير، ولما كان هذا موافقا لمذهبه قال: وعليه الاعتماد، ولهذا قال في " البدائع " و" قاضي خان ": هو الصحيح، وأما محلهما من الإعراب فالنصب على الحال وذو الحال هو المقدر الذي ذكرناه.
وقيل: الكثير أن يغطي ربع وجه الماء. وقيل: أن لا يخلو دلو عن بعرة، وقال في " المبسوط ": هو الصحيح. وقيل: أن يأخذ جميع وجه الماء فدل على أن الثلاث يفسده، وهذا فاسد لأنه ذكر في الكتاب: إن وقعت فيها بعرة أو بعرتان لا يفسد الماء حتى يفحش، والثلاث ليس بفاحش هكذا ذكره في " المبسوط " و" المحيط " و" المفيد ".
وقال الأسبيجابي في " شرح مختصر الطحاوي ": والأول أظهر؛ لأن محمدا جعل الرجعة في البعرة والبعرتين لا غير، وجعل الرطب واليابس المنكسر نجسا وإن قل، وروى الحسن أن اليابس لا ينجس للضرورة.
م: (ولا فرق) ش: في هذا الحكم م: (بين الرطب واليابس والصحيح والمنكسر) ش: هذا على الوجه الذي ذكره المصنف من وجهي الاستحسان. وأما على الوجه الثاني: فإنه يفرق بين الرطب

(1/436)


والروث والخثي والبعر؛ لأن الضرورة تشمل الكل،
وفي شاة تبعر في المحلب بعرة أو بعرتين، قالوا: ترمى البعرة ويشرب اللبن لمكان الضرورة، ولا يعفى القليل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
واليابس والصحيح والمنكسر م: (والروث والخثي والبعر) ش: فجعل الرطب نجسا لوجهين: أنه ثقيل يلتصق بالأرض فلا يرفعه الريح فلا ضرورة فيه، يروى ذلك عن أبي حنيفة. والثاني: أن رطوبة الأمعاء لم تنصب عليه لعدم يبسه ذكره في " النوازل " والحاكم في " الإشارات "، والمنكسر ينجسه لدخول الماء باطنه بخلاف الصحيح.
قلنا: الضرورة في المنكسر أشد لخفته. وعن أبي يوسف: الروث اليابس إذا خرج من ساعته لا ينجس، والرطبة ينجسه. وفي " المحيط ": السرقين والروث قليله وكثيره رطبه ويابسه سواء؛ لأنه يتشقق فينتشر في الماء، وكان قليله كالكثير، وخثي البقر قيل: ينجسه وإن كان صلبا فكالبعر.
ثم اعلم أنه يفرق بين آبار الفلوات وبين آبار الأمصار، قال شيخ الإسلام في " المبسوط ": فأما إذا كان في الأمصار اختلف مشايخنا فيه؛ قال بعضهم: ينجس إذا وقع فيها بعرة أو بعرتان؛ لأنها لا تخلو عن حائط بتابوت أو حائط، فلا يتحقق فيها الضرورة. وقال بعضهم: لا ينجس اعتبارا للوجه الآخر من الاستحسان.
قال شيخ الإسلام: والصحيح أن الكل والنصف سواء فلا ينجسه، وذكره الحاكم الشهيد في كتابه " الإشارات "، فقال: إن كان رطبا نجسه، وإن كان يابسا لا ينجس، والروث والخثي والبعر هذه المجرورات عطف على قوله: والمنكسر، أراد أنه لا يفرق أيضا بين هذه الأشياء، كما لا يفرق بين الرطب واليابس، والصحيح والمنكسر، وفي الخثي خلاف ما ذكرناه آنفا.
وفي " المبسوط " في روث الحمار والفرس القليل والكثير سواء؛ لأنه ليس صلابة فيتداخل الماء في أجزائه فينجس، وكذلك المنفتة من البعر في ظاهر الرواية، إلا أنه روي عن أبي يوسف قال: القليل من الروث عفو، وهو الأوجه كذا ذكره الإمام المحبوبي.
م: (لأن الضرورة تشمل الكل) ش: أراد جميع ما ذكره من قوله: ولا فرق ... إلخ.

م: (وفي الشاة تبعر في المحلب بعرة أو بعرتين) ش: كلمة في قوله: وفي الشاة تتعلق بقوله: قالوا، والمحلب بكسر الميم آلة للحلب بفتح اللام وهو مصدر م: (قالوا) ش: أي المشايخ م: (ترمى البعرة ويشرب اللبن) ش: معناه لا ينجس إذا رميت قبل أن يتغير لونه. قال شيخ الإسلام في " مبسوطه ": لا ينجس إذا رميت من ساعته ولم يبق لها لون.
م: (لمكان الضرورة) ش: لأن الغنم يتعين حلبها بلا بعر ومن عادتها أنها تبعر عن الحلب م: (ولا يعفى القليل) ش: وهو الذي يستقله الناظر.

(1/437)


في الإناء على ما قيل لعدم الضرورة، وعن أبي حنيفة أنه كالبئر في حق البعرة والبعرتين، فإن وقع فيها خرء الحمام أو العصفور لا يفسده، خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وله أنه استحال إلى نتن وفساد فأشبه خرء الدجاج، ولنا إجماع المسلمين على اقتناء الحمامات في المساجد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وفي الإناء على ما قيل) ش: قول بعض المشايخ، وكلمة على بمعنى في، وما مصدرية والمعنى: ولا يعفى القليل في الإناء في قوله - وجاءت على بمعنى في - كما في قولهم كان كذا على عهد فلان أي في عهده.
م: (لعدم الضرورة) ش: لإمكان صون الإناء بالتغطية م: (وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه) ش: أي أن الإناء م: (كالبئر) ش: أي بمنزلة البئر في الحكم م: (وفي البعرة والبعرتين) ش: أي في عدم تنجس الماء بالبعرة والبعرتين تسهيلا للأمر.
م: (فإن وقع فيها) ش: أي في البئر م: (خرء الحمام) ش: بضم الخاء وضم الراء العذرة وجمعه خروء مثل جند وجنود، والحمامة عند العرب ذوات الأطواق من نحو الفواخت والقماري وساق جرو القطا والوراشين وأشباه ذلك يقع على الذكر والأنثى؛ لأن الهاء إنما دخلت على أنه واحد من جنس لا للتأنيث.
وعند العامة الحمام هي الدواجن فقط، الواحد: الحمامة ويجمع على حمامات وحمائم أيضا، وربما قالوا: حمام للواحدة. وقال الفرزدق:
تساقط ريش غادية وغاد ... وحماما نقره قطط وقطارا
م: (أو العصفور) ش: بضم العين والأنثى عصفورة وقوله: (لا يفسده) ش: جواب إن أي لا يفسد ماء البئر م: (خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي خالفنا فيه الشافعي م: (وله) ش: أي للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يعني دليله م: (أنه) ش: أي أن خرء الحمام والعصفور م: (استحال) ش: أي متحول م: (إلى نتن) ش: ش: هو الرائحة الكريهة م: (وفساد) ش: هو خروجه عن الصلاحية فصار كالبول والغائط. والتحقيق فيه أن الذي يحيله الطبع من الغذاء على نوعين نوع يحيله إلى نتن وفساد كالبول والغائط وهو نجس، ونوع يحيله إلى صلاح كالبيض واللبن والعسل، وخرء الحمام والعصفور من النوع الأول.
م: (فأشبه خرء الدجاج) ش: وهو نجس بالاتفاق. وقال السروجي وكان الأنسب تقديم خرء العصفور؛ لأن خرء الحمام إذا لم يفسد فالعصفور بالطريق الأولى فلا فائدة في ذكرها، لكن لما كان خرؤهما طاهرا فلا فرق بينهما يقدم أيهما شاء.
قلت: لا فائدة في ذكر هذا الاستغناء عنه وليس فيه مزيد فائدة.
م: (ولنا إجماع المسلمين على اقتناء الحمامات في المساجد) ش: أراد بهذا الإجماع أن الصدر

(1/438)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأول ومن بعدهم أجمعوا على اقتناء الحمامات في المساجد حتى المسجد الحرام، فدل هذا الإجماع على طهارة خرء الحمام، وفي قوله: - على اقتناء الحمامات - نظر؛ لأن الاقتناء والاتخاذ من قولهم قنوت الغنم وغيرها قنوة، وقنيتها قنية أيضا إذا اقتنيتها لا للتجارة واقتناء المال وغيره اتخاذه، ولم ينقل عن أحد من الصدر الأول أو ممن بعدهم بأنه اتخذ حماما في مسجد من مساجد الله أو في مسجد الكعبة، غاية ما في الباب أنها كانت تأوي إلى المساجد، ولم يكن أحد منهم يمنعه ويسكت عند، فحينئذ يكون هذا نوعا من أنواع الإجماع السكوتي.
فإن قلت: ما كان سبب سكوتهم عن هذا حتى جعل إجماعا منهم؟
قلت: حديث أخرجه الطبراني في " معجمه " والبزار في " مسنده " والبيهقي في " دلائل النبوة " من حديث عون بن عمرو القيسي قال: سمعت أبا مصعب المكي قال: أدركت أنس بن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - زيد بن أرقم والمغيرة بن شعبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يتحدثون أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال «أمر الله تعالى شجرة ليلة الغار فنبتت في وجهي، وأمر الله العنكبوت فنسجت فسترني الله وأمر الله تعالى حمامتين وحشيتين فوقفتا بفم الغار، وأقبل فتيان من قريش بعصيهم وهراواتهم وسيوفهم حتى إذا كانوا من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدر أربعين ذراعا، فجعل بعضهم ينظر في الغاز فرأى حمامتين بفم الغار فرجع إلى أصحابه فقالوا: مالك لم تنظر في الغار، قال: رأيت بفمه حمامتين فعرفت أنه ليس فيه أحد فسمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما قال فعرف أن الله قد درأ عنه بهما، فدعا لهما وشمت عليهن وأقررن في الحرم، وفرض خروجهن» وقال البزار لا نعلم روايته إلا عون بن عمر وهو بصري مشهور وضعفه العقيلي، ويقال عون بن عمرو. قوله: شمت بالشين المعجمة وتشديد الميم يقال: شمت فلانا وشمت عليه، إذا دعا له بالخير والبركة في حديث زواج فاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فأتاهما فدعا لهما وشمت عليهما ثم خرج.
فإن قلت: لا ينعقد الإجماع إلا بدليل يوجب العلم قطعا ولا ينعقد بخبر الواحد والقياس.
قلت: هذا من مذهب الشيعة والقاشاني من المعتزلة وابن جريج، ومذهب أهل السنة والجماعة الحكم بالإجماع بطريق القطع، وكون الإجماع حجة قطعية لم يثبت من دليل، فنسبه الداعي إليه بل إنما ثبت من قبل ذا إن الإجماع رفعه وكرامة لهذه الأمة خاصة وأشد أمة لحجة الله

(1/439)


مع ورود الأمر بتطهيرها واستحالته لا إلى نتن رائحة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تعالى في الأحكام إلى يوم القيامة. وقال السغناقي: وأصله هذا الإجماع حديث أبي أمامة الباهلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شكر الحمامة فقال:» «إنها أوكرت على باب الغار حتى تلمت فجازاها الله تعالى بأن يجعل المساجد مأواها» وتبعه على هذا صاحب " الدراية " ثم الأكمل في شرحيهما، فالعجب من هؤلاء يذكرون حديثا ولا يعزونه إلى مخرجه ولا إلى حاله.
م: (مع ورود الأمر بتطهيرها) ش: أي بتطهير المساجد والأمر هو قوله عز وجل: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ} [البقرة: 125] (البقرة: الآية 125) ، وأما الأمر في الحديث فقد قال الأكمل قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «جنبوا مساجدكم صبيانكم» ، قلت: هذا قطعة من حديث لم يذكر تمامه ولا الصحابي الذي رواه ولا من أخرجه، وروي فيه عن عائشة وسمرة بن جندب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
أما حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فأخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه في كتاب الصلاة عن هشام بن عروة عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت «أمر الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب» ورواه ابن حبان في " صحيحه " وأحمد في " مسنده ".
وأما حديث سمرة فأخرجه أبو داود عن حبيب بن سليمان بن سمرة عن أبيه سليمان عن أبيه سمرة «أنه كتب إلى ما بعد فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأمرنا أن نضع المساجد في دورنا ونصلح صنعتها ونظرها» وسكت عنه، وقال سفيان بن عيينة الدور القبائل، وذكر الخطابي أنها البيوت وحكى أيضا أراد بها المحال التي فيها الدور.
قلت: الظاهر أنه أراد بها البيوت مثله فقد ورد النهي عن اتخاذ البيوت مثل المقابر.
م: (واستحالته) ش: أي استحالة خرء الحمام والعصفور هذا جواب عن قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه استحال إلى نتن وفساد وجهه أن موجب التنجيس أمران النتن والفساد، والنتن هاهنا غير موجود وهو معنى قوله م: (لا إلى نتن رائحة) ش: بل إلى فساد وانتفاء الخرء يستدعي انتفاء الكل.
فإن قلت: الفساد وحده مما يوجب التنجيس، قلنا: ينقص هذا بالمني فإنه قد فسد وهو طاهر عنده وسائر الأطعمة فسد بطول المكث ولا تنجس، ولئن سلمنا ما قاله فإن سقط للضرورة.

(1/440)


فأشبه الحمأة، فإن بالت فيها شاة نزح الماء كله عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وأبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا ينزح إلا إذا غلب على الماء فيخرج من أن يكون طهورا، وأصله أن بول ما يؤكل لحمه طاهر عنده نجس عندهما. له أن «النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أمر العرنيين بشرب أبوال الإبل وألبانها»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (فأشبه الحمأة) ش: أي إذا كان الأمر كذلك فأشبه خرء الحمام والحمأة هو الطين الأسود في قعر البئر، فإنه منتن في الغالب مع أنه طاهر، والحمأة بفتح الحاء وسكون الميم وفتح الهمزة وفي آخره هاء. وأما الحمأة فهو بفتح الميم، قال الله تعالى: {من حمأ مسنون} [الحجر: 26] (الحجر: الآية 26) ، تقول منه حمأت البئر حمأ بالتسكين إذا نزحت حمأتها وحمأت البئر بالكسر حمأة بالتحريك كثرت حمأتها واحمأتها احمأ ألقيت فيها الحمأة.
م: (فإن بالت فيها) ش: أي في البئر م: (شاة نزح الماء كله عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله -) ش: وبه قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبو ثور وميمون والحسن بن أبي الحسن وحماد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
م: (وقال محمد لا ينزح) ش: وبه قال عطاء والنخعي والزهري والشعبي والثوري ومالك وأحمد رحمهما الله إلا إذا غلب على الماء فيخرج من أن يكون طهورا لغيره م: (إلا إذا غلب) ش: بول الشاة م: (على الماء) ش: فحينئذ م: (فيخرج من كونه طهورا) ش: لغيره، وأما إنه طاهر في نفسه عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (وأصله) ش: أي وأصل الحكم في هذه المسألة م: (أن بول ما يؤكل لحمه طاهر عنده) ش: أي عند محمد فعلى هذا قوله: فإن بالت فيه شاة من باب التمثيل لا من باب التمثيل لا من باب التقييد فافهم م: (أنه) ش: أي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - م: (أمر العرنيين بشرب أبوال الإبل وألبانها) ش: هذا الحديث أخرجه الأئمة الستة في كتبهم، فالبخاري ومسلم في الصلاة وأبو داود وابن ماجه رحمهما الله في الحدود والترمذي في الطهارة والنسائي في تحريم الدم كلهم من حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن أناسا من عرينة أصيبوا بالمدينة فوصف لهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يأكلوا إبل الصدقة فيشربوا من ألبانها وأبوالها فقتلوا الراعي واستاقوا الذود فأرسل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأسرهم فأتي بهم وقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركهم بالحرة يعضون الحجارة» .
ولفظ أبي داود والترمذي والنسائي «وأمرهم أن يشربوا من ألبانها وأبوالها» وفي لفظ البخاري عن أنس قال: "قدم «أناس من عكل أو عرينة اجتووا المدينة فأمر لهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بلقاح أن يشربوا من أبوالها وألبانها فانطلقوا فلما صحوا قتلوا راعي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واستاقوا الإبل فجاء الخبر في أول النهار فبعث في آثارهم، فلما ارتفع النهار جيء بهم فأمر بقطع أيديهم وأرجلهم وسمرت أعينهم ثم ألقوا في الحرة يستسقون فلا يسقون» نقول: وجه الاستدلال بتسويته عليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين لبنها وبولها، وتقيم بولها

(1/441)


ولهما قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
على لبنها مع أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يأمر بشرب النجس، فإن كان بول ما يؤكل لحمه نجسا لما أمرهم بشربه.
فإن قيل: لعله أمر بذلك للشفاء والضرورة.
قلنا: لا شفاء في النجس المحرم يدل عليه ما رواه الطحاوي مرفوعا أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «في الخمر ذلك داء ليس بشفاء» . وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ما كان الله ليجعل في رجس أو فيما حرمه شفاء وأخرجه الطحاوي.
وقوله: - عرينة - بضم العين المهملة وفتح الراء والنون بينهما ياء آخر الحروف ساكنة قال الجوهري: عرينة بالضم اسم قبيلة ورهط من العرنيين ارتدوا فقتلهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قلت: هو تصغير عرينة وهو بحذاء عرفات. والعرنيون جمع عرني، وكان القياس العرينيون بالياء بعدها الواو، ولكنها حذفت كما في قولهم الجهنيون، والقيام الجهينيون لأن ياء فعليه تحذف في النسبة كما يقال: جهني في جهينة، وكذلك ياء فعيلة كحنيفة يقال في النسب: حنفي. وفي القياس حنيفي. العكل بضم العين وسكون الكاف اسم قبيلة.
قوله: اجتووا المدينة بالجيم أي استوجبوها، افتعال من الجوي تقول جويت نفسي إذا لم توافقك، واجتويته إذا كرهت المقام معه وبه، وإن كنت في نعمة هكذا ذكره الجوهري. قال السروجي: وهذا لا يناسب الحديث، وقال أبو الحسن في شرح البخاري: أجويت البلاد إذا كرهتها، وإن وافقك في الحديث بدنك.
قلت: هذا مثل الأول قوله: بلقاح، اللقاح جمع لقوح وهو الناقة اللبون الحديثة العهد بالولادة التي يكثر لبنها. والذود بفتح الذال المعجمة وسكون الواو وفي آخره دال مهملة وهو من الإبل ما بين الثلاث إلى التسع وقيل ما بين الثلاث إلى العشرة واللفظة مؤنثة ولا واحد لها من لفظها كالنعم. وقال أبو عبيد: الذود من الإناث دون الذكور.
وقوله: بالحرة بفتح الحاء المهملة وتشديد الراء وهي في الأصل الأرض ذات الحجارة السود، والمراد هاهنا حرة المدينة وهي أرض فيها حجارة سود كبيرة، وتجمع على حرر وحرار وحرات وحرار وهو من الجموع النادرة. وقيل: إن واحد أحريرا حرة.
قوله: - وسمر أعينهم - أي أحمى لهم مسامير الحديد ثم كحلهم بها. ويروى سمل أعينهم باللام موضع الراء أي فقأها بحديدة محماة أو غيرها، وقيل: نقرها بالشوك وهو معنى الثمر.
م: (ولهما) ش: أي لأبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله م: (قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه» ش:، هذا الحديث رواه ثلاثة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.

(1/442)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخرجه الدارقطني من حديث قتادة عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه» ثم قال: المحفوظ مرسل، وفي رواية أبي جعفر الرازي وهو متكلم فيه قال ابن المديني: كان يخلط، وعن أحمد ليس بالقوي، وعن أبي زرعة يهم كثيرا.
وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال «استنزهوا» ... " إلخ مثل لفظ الكتاب رواه الدارقطني أيضا ورواه الحاكم في "مستدركه" من طريق أبي عوانة عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أكثر عذاب القبر من البول» ، وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين، ولا أعرف له علة ولم يخرجاه.
وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - من حديث مجاهد عنه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن عذاب القبر من البول فتنزهوا منه» ، رواه الطبراني في معجمه والدارقطني والبيهقي وكلهم سكتوا عنه.
وروى البزار عن عبادة بن الوليد عن أبيه عن جده قال: «سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن البول فقال: "إذا أمسكتم منه شيئا فاغتسلوه فإني أظن أن منه عذاب القبر» وفيه الاستدلال به أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أمر باستنزاه البول من غير فصل، والأمر للوجوب، ولأن البول محلى بالألف واللام فيعم جميع البول، ويروى - عن البول - مكان - من البول - وفي "المغرب": وأما قولهم: استنزهوا من البول فقال تاج الشريعة في شرحه: تنزهوا عن البول. يقال: تنزه عن الأقذار إذا انصرف عنها واجتنبها، وأما الاستنزاه فلم يوجد في قوانين اللغة، فإن صح ما روي فوجهه أن استفعل فعل يشاركه تفعل نحو استكبر واستقدم بمعنى تكبر وتقدم.
قلت: قد بينا الآن أن لفظ الدارقطني تنزهوا، وقوله: إن استفعل قد يشارك تفعل، معناه أن من جملة معاني استفعل تفعل، وأصل هذا الباب للطلب، ومعناه نسبة الفعل إلى فاعله لإرادة تحصيل المشتق هو منه، ولا يعني أن يكون استفعل هاهنا على بابه والمعنى اطلبوا التنزه من

(1/443)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
البول.
فإن قلت: المعنى الذي ذكرته لا يتأتى هاهنا.
قلت: هو يكون صريحا نحو استكتبه أي طلب منه الكتابة، وقد يكون تقديرا نحو استخرجت الزيد من الحائط، فليس هاهنا طلب صريح، بل المعنى لم أزل أتلف وأتحيل حتى خرج ونزل ذلك منزلة الطلب هاهنا كذلك فافهم. وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومما يؤيده أي ومما يؤيد ما ذهب إليه أبو حنيفة وأبو يوسف - رحمهما الله - ما روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيع جنازة سعد بن معاذ وكان يمشي على رؤوس الأصابع من زحام الملائكة التي حضرت للصلاة عليه فلما وضع في القبر ضغطته الأرض ضغطة كادت أضلاعه تختلف فسئل رسول» .
وقال تاج الشريعة: لما توفي سعد بن معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تولى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دفنه، فلما فرغ خرج من قبره متغير اللون وقال: «الله تعالى أكبر لا إله الله والله أكبر لو نجا أحد من ضغطة القبر لنجا سعد بن معاذ، ولقد رأيت القبر ضمه حتى سمعت صوت أعضائه» قال الراوي: كان قميص رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منخرقا فسئل عن ذلك فقال: إن سبعين من الحور العين تعلقن بي. وقالت كل واحدة منهن زوجني من سعد، ثم سئل النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن سبب هذه الضغطة فقال: إنه كان لا يستنزه عن البول.
قلت: كل من الحديثين لم يذكره أحد بهذه الألفاظ، بل روى الإمام - رَحِمَهُ اللَّهُ - من حديث جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «لما دفن سعد ونحن مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سبح رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسبح الناس معه ثم كبر فكبر الناس معه فقالوا يا رسول الله لم سبحت قال لقد تضايق على هذا البعد الصالح» .
وروى البزار بإسناد جيد من حديث نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لقد هبط يوم مات سعد بن معاذ سبعون ألف ملك إلى الأرض لم يهبطوا قبل ذلك، ولقد ضمه القبر ضمة» " ثم بكى نافع وكانت وفاته بعد انصراف الأحزاب بنحو من خمس وعشرين ليلة، وكان قدوم الأحزاب في شوال سنة خمس، فأقاموا قريبا من شهر، وذكر في " المبسوط " في قوله: إنه كان لا يستنزه، لم يرد به بول نفسه، فإن من لا يستنزه منه لا تجوز صلاته، وإنما أراد أبوال الإبل عند تعالجها. وذكر السغناقي هذا في شرحه ثم أخذ عنه الأكمل.
قلت: يؤيد ذلك ما رواه البيهقي حدثنا أبو عبد الله الحافظ أخبرنا أبو العباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حدثنا أحمد بن عبد الجبار حدثنا موسى بن بكير عن ابن إسحاق حدثني أمية بن عبد الله أنه

(1/444)


ولأنه يستحيل إلى نتن وفساد فصار كبول ما لا يؤكل لحمه وتأويل ما روي أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عرف شفاءهم فيه وحيا؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
سأل بعض آل سعد ما بلغكم من قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا؟ فقالوا ذكر لنا أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن ذلك فقال: كان يقصر في بعض الطهور من البول، وكان سعد كبير الأوس وكان حامل لوائهم يوم بدر ومعالجة الإبل وطبقة الغلمان.
وقال السغناقي وجه مناسبة عذاب القبر مع ترك استنزاه البول هو أن القبر أول منزل من منازل الآخرة، والطهارة أول منزل من منازل الصلاة، والصلاة أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة كما جاء في الحديث، وكانت الطهارة أول ما يعذب بتركها في أول منزل من منازل الآخرة وليس ذلك إلا القبر. م: (ولأنه) ش: أي ولأن بول الشاة، هذه إشارة إلى دليل معقول وهو أن بول ما يؤكل لحمه م: (يستحيل إلى نتن وفساد فصار كبول ما لا يؤكل لحمه) ش: والاستحالة إلى النتن والفساد حقيقة النجاسة، وقد مضى عن قريب تفسير النتن والفساد.
فإن قلت: قد اتفقوا على طهارة لعاب ما يؤكل لحمه وعلى طهارة عرقه، فوجب أن يكون بوله مثلهما. قلت: هذا يبطل بالآدمي فإن ريقه وعرقه طاهران، وبوله نجس بإجماع المسلمين، نقل الإجماع ابن المنذر، وبول الكبير والصغير سواء عند سائر العلماء، إلا ما يروى عن داود أن بول الصغير طاهر، وأما بول باقي الحيوانات التي لا يؤكل لحمها فينجس عند العلماء قاطبة كالأئمة الأربعة وغيرهم، إلا ما نقل عن النخعي أنه طاهر، وحكى ابن حزم عن داود أن الأبوال والأرواث طاهرة من كل حيوان إلا الآدمي، وهذا في نهاية الفساد.
م: (وتأويل ما روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عرف شفاءهم فيه وحيا) ش: هذا جواب عن الحديث الذي احتج به محمد. قوله تأويل مرفوع بالابتداء مضاف إلى قوله ما روي، ويجوز الوجهان في روي أحدهما أن يكون صيغة معلوم أي تأويل ما رواه محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -. والثاني أن يكون صيغة مجهول أي تأويل ما روي في الحديث المذكور، وقوله "أنه" خبر المبتدأ أي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عرف شفاءهم أي شفاء العرنيين فيه، أي في بول الإبل وحيا، أي من حيث الوحي وهو نصب على التمييز. فإذا كان من حيث الحكم يكون حكما ولا يوجد مثله في زماننا، فلا يحل شربه لأنه لا يتيقن بالشفاء فيه فلا يعرض من الحرمة. وقال السغناقي أيضا حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عنه فقد ذكر قتادة عن أنس أنه رخص لهم في شرب ألبان الإبل، ولم يذكر الأبوال، وإنما ذكره في حديث حميد عن أنس، فإذا دار بين أن يكون حجة وبين أن لا يكون سقط الاحتجاج به وتبعه الأكمل على ذلك، وكذلك صاحب " الدراية ".
قلت: هذا كلام واه جدا، فإن البخاري قال حدثنا مسدد وحدثنا يحيى عن شعبة حدثنا قتادة عن أنس أن أناسا من عرينة اجتووا المدينة ... الحديث وفيه فيشربوا من ألبانها وأبوالها، وقد

(1/445)


ثم عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لا يحل شربه للتداوي ولا لغيره؛ لأنه لا يتيقن بالشفاء فيه فلا يعرض عن الحرمة. وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يحل للتداوي للقصة، وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يحل للتداوي وغيره لطهارته عنده.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ذكرناه عن قريب، أخرجه البخاري في آخر الزكاة، وروى الزكاة في باب المحاربة وفيه من أبوالها وألبانها، وهذا عن أبي قلابة عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وقال في آخر حديث قتادة عن أنس تابعه أبو قلابة حميد وكاتب عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فإذا كان كذلك فكيف يقول هؤلاء ذكر قتادة عن أنس أنه رخص لهم في شرب ألبان الإبل ولم يذكر الأبوال، وفي إحدى روايات البخاري ذكر الأبوال ثم الألبان، وفي الأخرى بالعكس، وفي رواية تقديم الأبوال ما يوهم تأكيد إباحة شرب بول ما يؤكل لحمه.
وقال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وقيل: إنه منسوخ، ولم يبين ذلك، وجهه أنه كان في أول الإسلام ثم نسخ بعد أن نزلت الحدود، ألا ترى أن فيه قطع الأيدي والأرجل وتسميل الأعين لكونهم ارتدوا، كما أشار إليه أبو قلابة في رواية الحديث عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بقوله - لكونهم قتلوا وسرقوا وحاربوا الله ورسوله وسعوا في الأرض فسادا، ولم يكن جزاء المرتد إلا القتل، فعلم أن إباحة البول كالمثلة م: (ثم عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يحل شربه) ش: شرب بول الغنم م: (للتداوي) ش: أي لأجل التداوي م: (ولا غيره) ش: أي ولا لأجل غير التداوي م: (لأنه) ش: أي لأن الشأن م: (لا يتيقن بالشفاء فيه) ش: أي في شربه للتداوي.
م: (فلا يعرض عن الحرمة) ش: أي فإذا كان كذلك فلا تعرض عن كون شربه حراما إلا بتيقن الشفاء فلا يوجد ذلك، والمرجع إلى ذلك بقول الأطباء وقولهم ليس بحجة قطعية، فيجوز أن يكون شفاء لقوم دون قوم لاختلاف الأمزجة.
م: (وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يحل) ش: أي يحل شربه م: (للتداوي) ش: لأنه لو كان حراما مطلقا لما أحله بالحديث وهو أن الله تعالى لم يجعل الشفاء في الحرام م: (للقصة) ش: يعني قصة العرنيين التي دلت على إباحة شرب بول الإبل لأجل التداوي.
م: (وعند محمد يحل للتداوي وغيره) ش: أي يحل شربه لأجل التداوي ولغير التداوي أراد أنه سوى بينه وبين اللبن، وقوله منقوض بلبن الأتان فإنه طاهر بالاتفاق ولا يحل شربه، وفي "الملتقط" لبن الأتان وعرقها، وشحمها ولحمها بعد الذبح طاهرة بالاتفاق، إلا أنها لا تؤكل، ثم من أصحابنا من منع الانتفاع بلحمها وشحمها كالأكل، ومنهم من جوزه كالزيت يخالطه دهن الميتة، والزيت غالبا ينتفع به ولا يؤكل، وإذا لم يجز التداوي بلبن الأتان باتفاق أصحابنا فبالخمر أولى؛ لأن لبنها طاهر بالاتفاق، والخمر نجس بإجماع المسلمين إلا ما حكى القاضي أبو الطيب

(1/446)


وإن ماتت فيها فأرة أو صعوة أو عصفورة أو سودانية أو سام أبرص نزح منها ما بين عشرين دلوا إلى ثلاثين بحسب كبر الدلو أو صغرها،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عن ربيعة وداود أنهما قالا بطهارتها واعتبرها بالنبات القاتل.
قال النووي ولا يظهر من الآية دلالة ظاهرة على نجاسة الخمر؛ لأن الرجس عند أهل اللغة القذر ولا يلزم منه النجاسة، وكذا الأمر بالاجتناب كما في أجزائها في الآية، قال: وقول صاحب " المهذب " لأنه يحرم تناوله من غير ضرر فكان نجسا كالدم ولا دلالة فيه لوجهين:
أحدهما: أنه ينتقض بالمخاط عند الكل والمني عند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
والثاني: العلة مختلفة فلا يصح القياس عليه؛ لأن المنع من الدم من استخباثه، ومن الخمر كونه سببا للعداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة. وقال الغزالي: يحكم بنجاستها تغليظا وزجرا عنها قياسا على الكلب وما دبغ فيه.
قلت: قد انعقد الإجماع على نجاستها وداود لا يعتبر خلافه في الإجماع ولا يصح ذلك عن شريعة.

م: (وإن ماتت فيها) ش: أي في البئر م: (فأرة أو عصفورة) ش: بضم العين، قال الجوهري: العصفور طائر والأنثى عصفورة م: (أو صعوة) ش: هي عصفورة صغيرة حمراء الرأس، وقال المطرزي: الصعو صغار العصافير. قلت: ويجمع على صعاء فرائضا م: (أو سودانية) ش: هي طويلة الذنب على قدر قبضة، ويسمى العصفور الأسود.
وقيل: الزرزر الأسود وأكلها العنب والجراد م: (أو سام أبرص) ش: هو من كبار الوزغة وجمعه سوام أبرص. ولم يتعرض أحد من الشراح فيما رأيته إلى إعراب هذا فهو معرفة إلا أنه تعريف جنس وهم اسمان جعلا واحدا، وإن شئت أعربت الأول وأضفته إلى الثاني، وإن شئت بنيت الأول على الفتح وأعربت الثاني بإعراب ما لا ينصرف، وتقول في تثنية هذا: ساما أبرص، وفي الجمع سوام أبرص، وإن شئت قلت: هؤلاء السوام ولا تذكر أبرص، وإن شئت قلت: هؤلاء البرصة ولا تذكر سام، قال الشاعر:
والله لو كنت بهذا خالصا ... لكنت عبدا يأكل الأبارص
ويسمى بالفارسية سمار.
م: (نزح منها) ش: أي من البئر م: (ما بين عشرين دلوا إلى ثلاثين بحسب كبر الدلو وصغرها) ش: يجوز في سين حسب الفتح والسكون والقدر وكبر الدلو بكسر الكاف وفتح الباء، والصغر بكسر الصاد وفتح الغين.

(1/447)


يعني بعد إخراج الفأرة، لحديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال في الفأرة إذا ماتت في البئر وأخرجت من ساعتها ينزح منها عشرون دلوا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وقيل: قدر الصاع كبير وما دونه صغير، فإذا نزح بالكبير ينقض، وإن نزح بالصغير يزدد. وقيل: الكبير عشرة أرطال ذكره الأسبيجابي.
وقيل: الكبير ما زاد على الصاع والصغير دون الصاع والوسط الصاع، ولو نزح بدلو عظيم مرة واحدة قدر عشرين دلوا أو أربعين دلوا جاز. وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يجوز وهو من رواية، والدلو مؤنثة واحدة الدلاء، والدلاء بالفتح واحد دلو.
م: (يعني بعد إخراج الفأرة) ش: إشارة بهذا إلى أن المنزوح إنما يكون معتبرا إذا كان بعد إخراج الفأرة؛ لأن سبب نجاسة البئر حصول الفأرة فيها الميتة فلا تحكم بالطهارة مع بقاء السبب الموجب للنجاسة.
م: (لحديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: «في الفأرة إذا ماتت في البئر وأخرجت من ساعتها ينزح منها عشرون دلوا» ش: لم يذكر هذا في كتب الأحاديث المشهورة، غير أن السغناقي ذكر في شرحه رواه أبو علي الحافظ السمرقندي بإسناده، ولكن فيه عن أنس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: ... إلخ، وتبعه الأكمل في ذلك حيث نقله في شرحه هكذا، وقال صاحب " الدراية " كذا أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك في رواية أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وأما الأترازي فإنه لم يذكره أصلا، وقال الشيخ علاء الدين: روى الطحاوي هذا الأثر بطرق.
قلت: فإن كان مراده أنه رواه في " معاني الآثار " فليس له وجود فيه، وإن كان في غيره فالبيان على مدعيه، وعن قريب نذكر وجه قول المصنف عشرون دلوا إلى ثلاثين دلوا، وكذا وجه التردد في الأثر وعشرون دلوا أو ثلاثون.
فروع: عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الفأرة إلى أربع فأرات عشرون دلوا، وفي الخمس إلى التسع أربعون دلوا، وفي العشر ينزح ماء البئر كله. وعن محمد في الفأرتين عشرون وفي الثلاث أربعون، وإن كان هيئة الفأر كهيئة الدجاج ينزح أربعون وإذا فرت الفأرة من الهرة أو كانت بها جراحة أو قطع ذنبها ينزح جميع مائها سواء أخرجت حية أو ميتة.
وفي " النوادر " هرة أخذت فأرة فوقعت في البئر ولم يخرجها، وماتت الفأرة وخرجت الهرة حية ينزح عشرون، وإن ماتت الهرة وخرجت الفأرة حية ينزح أربعون، وإن خرجتا حيتين لا ينزح شيء إلا على القول بأنها تبول من الخوف.
وإن صب الدلو الأخير في بئر طاهر ينزح دلو، وفي الثاني: تسع عشر دلوا ماتت في كل واحدة منهما فأرة فينزح من إحداهما عشرون، وصب في الأخرى ينزح من الأخرى

(1/448)


والعصفور ونحوها تعادل الفأرة في الجثة فأخذت حكمها ثم العشرون بطريقة الإيجاب والثلاثون بطريق الاستحباب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
عشرون، ولو ماتت فأرة في بئر ثالثة فنزح من الأولين أربعون فصب في الثلاث ينزح أربعون، وإن صب فيها من إحدى البئرين عشرون ومن الأخرى عشر ينزح ثلاثون.
وفي " شرح المختصر الكرخي ": لو صب دلو العاشرة في بئر طاهرة فينزح منها عشر دلاء في رواية أبي سليمان، وفي رواية أبي حفص إحدى عشر دلوا وهو الأصح، وبعضهم وفق فقال: عشر سوى المصبوبة، وإحدى عشرة مع المصبوبة، وفي " الذخيرة " عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإن ماتت في جب وصب ماؤه في بئر ينزح ماء الجب وثلاثون وعنه وعشرون، وعن محمد: ينزح الأكثر من المصبوب ولو وجب نزح عشرين فنزح عشرة فبعد الماء ثم نبع نزح عشرة عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يحتاج إلى نزح شيء آخر.
م: (والعصفورة ونحوها تعادل الفأرة في الجثة فأخذت حكمها) ش: أي حكم الفأرة، وأشار بهذا إلى أن الأثر إلى ذكره وإن كان ورد في الفأرة يشمل كل حيوان قدر الفأرة فيأخذ حكمها، فيجب عشرون دلوا إلى ثلاثين.
فإن قلت: مسائل الآبار مبنية على اتباع الآثار والنص ورد في الفأرة والدجاجة والآدمي قيس بما عاد بها. قلت: بعد أن استحكم هذا الأصل صار كالذي يبنى على وفاق القياس في حق التفريع عليه كما في الإجارة وسائر العقود التي يأبى القياس جوازها، هكذا قرره في " المستصفى "، والمختارة والأولى أن يقول: هذا الإلحاق بطريق الدلالة لا بالقياس.
م: (ثم العشرون بطريق الإيجاب والثلاثون بطريق الاستحباب) ش: أي العشرون من الدلاء في الفأرة إنما يتعلق بالإيجاب، فالزيادة عليه إلى الثلاثين بطريق الاستحباب، وإنما فعل ذلك لاختلاف الروايات فيه متعددة، فروى قيس أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال في بئر وقعت فيها فأرة فماتت قال: ينزح ماؤها، رواه الطحاوي بإسناد صحيح.
وروى عبد الرزاق في " مصنفه " ما يخالف ذلك، فقال: حدثنا إبراهيم بن محمد عن جعفر بن محمد عن أبيه أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: إذا سقطت الفأرة في البئر فتقطعت نزح منها تسعة دلاء، فإن كانت الفأرة كهيئتها لم تقطع ينزح منها دلوا ودلوين، فإن كانت ميتة أعظم من ذلك فلينزح من البئر ما يذهب الريح، وروى عبد الرزاق عن معمر أخبرني من سمع الحسن يقول: إذا ماتت الدابة في البئر أخذنا منها وإن تفسخت فيها نزحت.
وروى ابن أبي شيبة في " مصنفه " عن ابن عيينة عن ليث عن عطاء قال: إذا وقع الجرذ في البئر نزح منها عشرون. والجرذ بضم الجيم وفتح الراء وفي الآخر ذال معجمة وهو الذكر الكبير

(1/449)


قال: فإن ماتت فيها حمامة أو نحوها كالدجاجة والسنور نزح منها ما بين أربعين دلوا إلى ستين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
من الفأر، وجمعها الجرذان، وروي أيضا عن حفص عن عاصم عن الحسن في الفأرة تقع في البئر قال: يسقى منها أربعون دلوا.
وروى يوسف بن مالك عن ابن عباس في الفأرة أربعون، فلما وقع هذا الاختلاف اختار أصحابنا قول من يقول بالعشرين التي هي الوسط بين القليل والكثير، ثم زادوا عليه مقدار نصفه بطريق الاستحباب لأجل الاحتياط. وقال الأكمل: وفيه نظر لأن هذا المعنى موجود في الثلاثين فلم يتعين عشرون للوجوب.
قلت: في نظره لأن هذا المعنى موجود نظر لأنهم اختاروا الوسط الذي هو خير الأمور، ولم يرد عن أحد ستون دلوا حتى يتعين الثلاثون، ثم قال الأكمل: والأولى ما قيل أن السنة جاءت في رواية أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال في الفأرة:...... الحديث، وقد مر عن قريب وأو لأحد الشيئين وكان الأقل ثابتا بيقين وهو معنى الوجوب والأكثر يؤتى به لئلا يترك اللفظ المروي، وإن كان مستغنى عنه في العمل وهو معنى الاستحباب.
قلت: سنده فيما قاله الحديث المذكور وهو غير ثابت ولا هو موجود عند أهله فمن أين تأتي الأولوية، ثم قال: - وأو لأحد الشيئين - قلنا: نعم، ولكن ما بينه هل هي للشك أو للتنويع حتى يبني عليه ما ذكره. وقال تاج الشريعة: قيل، شك الراوي في لفظ الحديث فاكتفى في حكم المسألة بلفظ الحديث المروي في الباب توفيقا للزيادة على الشرع أو النقص منه.
قلت: فعلى هذا ينبغي أن يكون الثلاثون واجبا على ما لا يخفى.

م: (فإن ماتت فيها) ش: أي في البئر م: (حمامة أو نحوها كالدجاجة والسنور نزح منها ما بين أربعين دلوا إلى ستين) ش: فهذا يشير إلى أنه نزح بعد الأربعين دلوا أو دلوين أو ثلاثة إلى أن ينتهي إلى ستين كان يكفي، أما الدليل على نفس الأربعين فما رواه الطحاوي عن أبي بكر حدثنا أبو عامر العقدي قال: حدثنا سفيان عن زكريا عن الشعبي في الطير والسنور ونحوهما يقع في البئر ينزح منها أربعون دلوا، ومن جملة ما بين أربعين إلى ستين خمسون دلوا، لأن الزيادة على الأربعين غالبا، يكون على رأس عقدة وهو الخمسون، والدليل عليه ما رواه الطبراني حدثنا ابن خزيمة قال: حدثنا حجاج قال: حدثنا حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان أنه قال في دجاجة وقعت في البئر فماتت، قال: ينزح منها قدر أربعين درهما دلوا أو خمسين ثم يتوضأ منها.
وأما الدليل على الستين فما رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه " قال: حدثنا هشيم عن عبد الله بن سبرة عن الشعبي أنه قال: يدلي منها سبعين دلوا بقي من الدجاجة والستون داخل في

(1/450)


وفي " الجامع الصغير " أربعون أو خمسون وهو الأظهر لما روي عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال في الدجاجة إذا ماتت في البئر ينزح منها أربعون دلوا والأربعون بطريق الإيجاب، والخمسون بطريق الاستحباب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
السبعين، قوله: "يدلي" من دلوت الدلو نزعتها.
م: (وفي " الجامع الصغير " أربعون أو خمسون) ش: أراد بهذا " الجامع الصغير " المنسوب إلى محمد بن الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وهو الأظهر) ش: أي ما ذكر في " الجامع الصغير " هو الأظهر في المذهب لأنه آخر تصانيف محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فيكون القول المذكور فيه هو المرجوع إليه.
م: (لما روي عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال في الدجاجة إذا ماتت في البئر: ينزح منها أربعون دلوا) ش: ذكر المصنف هذا كما يروى موقوفا، وذكر في " مبسوط فخر الإسلام " مرفوعا وتبعه على هذا صاحب " الدراية " وليس له أصل بل ذكره الطحاوي هكذا عن حماد بن أبي سليمان وقد ذكرناه عن قريب.
م: (والأربعون بطريق الإيجاب، والخمسون بطريق الاستحباب) ش: قلت: هذا إنما يتأتى إذا كانت كلمة أو للشك على ما لا يخفى.
وفي " البدائع " وغيره أراد "بأو" أن الأقل بطريق الوجوب والأكثر بطريق الاستحباب دون التخيير إذ التخيير بين القليل والكثير لا يعتبر مع اتحاد المعنى.
وقيل: إنما قال ذلك لاختلاف الحيوان في الصغر والكبر، ففي الصغير ينزح الأقل، وفي الكبير ينزح الأكثر.
وفي رواية الحسن عنه جعله على خمس مراتب، ففي الجملة وهو القراد العظيم وولد الفأرة ونحوها عشر دلاء، وفي الفأرة والعصفور ونحوها عشرون، وفي الحمامة والفاختة ونحوهما ثلاثون ثلاثون، وفي الدجاجة والسنور ونحوهما أربعون، وفي الآدمي والشاة ونحوهما ماء البئر كله ذكره في " المبسوط " و" المحيط " و" البدائع " و" الينابيع ". وعن أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - أنهما جعلاها على ثلاث مراتب في الجملة، والفأرة عشرون، وفي الحمامة، والورشان أربعون، وفي الآدمي والشاة كلها.
فإن قلت: قد قام أن مبنى مسائل الآبار على الآثار دون القياس والرأي، وما ذكرتم لا يخلو عن رأي.
قلت: للمقادير بالرأي إنما يمنع في الذي يثبت لحق الله تعالى دون المقادير التي ترد بين القليل والكثير، فإن المقادير في الحدود والعادات لا مدخل للرأي فيها أصلا، وكذا ما يكون بتلك الصفة.

(1/451)


قال: وإن ماتت فيها شاة أو آدمي أو كلب نزح جميع ما فيها من الماء؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وأما الذي يكون من باب الفرق بين القليل والكثير فيما يحتاج إليه فللرأي فيه مدخل، ولما عرف في آثار الصحابة حكم طهارة البئر في الفصول كلها مع اختلاف الأقوال عنهم وعن غيرهم من التابعين في القليل والكثير من النزح، صار ذلك من باب الفرق، فدخل فيه الرأي لاختيار عدد دون عدد سبب صفة القضية ألا ترى أن محمدا - رَحِمَهُ اللَّهُ - حكم في البئر المعين بمائتي دلو إلى ثلاثمائة، بناء على كثرة الماء في آبار بغداد، فهذا رأي ولكنه عن دليل، وذلك لأن الشرع لما أمرنا بإخراج جميع ما فيها صار الواجب نزح ذلك الماء الذي وقعت فيه النجاسة، وغالب مياه الآبار لا تزيد على مائتي دلو فبنزح ذلك المقدار يحصل المطلوب، وأما قوله: إلى ثلاثمائة فللاحتياط في باب الطهر.

م: (وإن ماتت فيها شاة أو آدمي أو كلب نزح جميع ما فيها من الماء) ش: أي هذا حكمها في الموت، فإن أخرجت بالحياة، فإن كان نجس العين كالخنزير ينجس الماء، فإنه كالدم والبول.
واختلفوا في الكلب بناء على نجاسة عينه وعدمها، والأصح أنه لا ينجسه إذا لم يصل فيه إلى الماء. وفي " الذخيرة " لو خرج الكلب من البئر حيا نجسها عندهما. وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا بأس به، وإن كان آدميا وخرج حيا ولم يكن ببدنه نجاسة حقيقية أو حكمية لا ينزح في ظاهر الرواية، وروى الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه ينزح عشرون دلوا وإن كان كافرا ينزح ماؤها، يروى عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن بدنه لا يخلو عن نجاسة حقيقية أو حكمية، حتى لو اغتسل ثم وقع في الماء فخرج من ساعته لا ينزح.
وأما سائر الحيوانات فإن علم أن ببدنه نجاسة نجس الماء، وإن لم يعلم قيام النجاسة بمخرجه أو غيره من بدنه اختلف المشايخ فيه، وقيل: العبرة لإباحة الأكل وحرمته إن كان مأكول اللحم لا ينزح شيء لطهارته، وإن لم يكن مأكولا لا ينجس، وقيل: العبرة بسؤره إن كان نجسا نجس الماء، وإن كان مكروها يستحب أن ينزح عشر دلاء، ولو كان مشكوكا فيه ينزح كله والماء مشكوك فيه.
وفي " التحفة ": الصحيح أنه لا يصير مشكوكا فيه، وكذا في " المحيط "، و" المفيد "، وعن أبي الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "خزانته" ينزح ماء البئر كله في البغل، والحمار، والكلب، والخنزير، والفهد، والنمر، والأسد، والذئب وكل ذي ناب من السباع وإن أخرج حيا. وفي " المحيط ": في الحيوان الذي لا يؤكل لحمه كسباع الطير والوحش الصحيح أنه لا ينجس الماء. وروي عن أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - في الإبل والبقر ينجسان الماء لبقاء النجاسة في أفخاذهما، غير أن عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ينزح عشرون، وفي الشاة: عشر لأن نجاسة بولها حقيقية. وعند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ينزح كلها لاستواء الخفيفة والغليظة في الماء. وقيل: لا ينزح شيء ذكره في " الينابيع ".

(1/452)


لما روي أن ابن عباس وابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أفتيا بنزح الماء كله حين مات زنجي في بئر زمزم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وذكر القدوري في " شرح مختصر الكرخي " أن في الحيوان المكروه السؤر كالسنور والدجاجة المخلاة والصقر والباز والفأرة والحية والعقارب، في رواية الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ينزح منها دلاء على وجه الاستحباب، وكذا في الفرس والبرذون.
وأما النجس كالخنزير والكلب والسباع والحمار والبغل ينزح جميع الماء منه، وإن لم يمت م: (لما روي أن ابن عباس وابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أفتيا بنزح الماء كله حين مات زنجي في بئر زمزم) ش: أما الذي روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" حدثنا عباد بن العوام عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن ابن عباس أن زنجيا وقع في زمزم فمات فأنزل إليه رجلا ثم قال: انزحوا ما فيها من الماء.
وأخرج عبد الرزاق في "مصنفه" عن معمر قال: سقط رجل في زمزم فمات فيها؛ فأمر ابن عباس أن تسد عيونها وتنزح، قيل له: إن فيها عينا فد غلبتنا، قال: إنها من الجنة فأعطاهم مطرفا من عنده فحشره فيها ثم نزح ماؤها حتى لم يبق فيها شيء. وأخرجه البيقهي في كتاب " المعرفة " من طريق ابن لهيعة عن عمرو بن دينار أن زنجيا وقع في زمزم فمات فأمر به ابن عباس فأخرج وسد عيونها ثم نزحت.
وأخرج البيهقي أيضا من طريق جابر الجهني عن أبي الطفيل عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال فذكره قال: ورواه جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مرة أخرى عن أبي الطفيل معه أن غلاما وقع في زمزم فنزحت، لم يذكر فيه ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهذه الرواية عند الدارقطني أيضا. وأخرج الدارقطني أيضا في "سننه " حدثنا عبد الله بن محمد بن زياد وعن أحمد بن منصور عن محمد بن عبد الله الأنصاري عن هشام عن محمد بن سيرين أن زنجيا وقع في زمزم يعني فمات فأمر ابن عباس فأخرج، وأمر بها أن تنزح قال: فغلبتهم عين جاءت من الركن، قال: فأمر بها فسدت بالقباطي والمطارف حتى تنزحوها، فلما لم ينزحوها انفجرت عليهم.
وأما الذي روي عن ابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فأخرجه الطحاوي حدثنا صالح بن عبد الرحمن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: حدثنا سعيد بن منصور قال: حدثنا هشيم قال: أخبرنا منصور عن عطاء أن حبشيا وقع في بئر زمزم فمات فأمر ابن الزبير بنزحها فنزح ماؤها فجعل الماء لا ينقطع فنظر فإذا عين تجري من قبل الحجر الأسود، فقال ابن الزبير: حسبكم.
وأخرجه ابن أبي شيبة في " مصنفه " قال: حدثنا هشيم عن منصور عن عطاء ... إلخ نحوه.

(1/453)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: قال البيهقي في " المعرفة ": رواه قتادة عن ابن عباس مرسلا لم يلقه ولا سمع منه إنما هو بلاغ بلغه، وقال أيضا: وجابر الجهني لا يحتج به، وابن لهيعة ضعيف لا يحتج به.
قلت: المراسيل عندنا حجة ولا سيما [إذا] أرسلت من طرق مختلفة، فينبغي أن يكون حجة عند الكل على أنه ذكر البيهقي في " الخلافيات " عن شعبة أنه قال: حدثنا ابن سيرين عن ابن عباس والصحيح أن بينهما عكرمة، فإذا أرسل ابن سيرين وكان بينهما ثقة وهو عكرمة كان الحديث صحيحا محتملا به. وفي " التهذيب " لابن عبد البر مراسيل ابن سيرين عندهم حجة صحيحة كمراسيل سعيد بن المسيب.
وأما جابر فإن له أحاديث صالحة، وقد روى عنه الثوري في الكبير مقدار خمسين حديثا وقتيبة أقل رواية عنه من الثوري وقد احتمله الناس وردوا عنه ولم يختلف أحد في الرواية عنه، وعن الثوري ما رأيت أورع في الحديث من الجعفي، وعن شعبة قال: هو صدوق في الحديث، وأما عبد الله بن لهيعة فإن حسن الحديث يكتب حديثه، وقال: حدثت عنه الثقات، وقتيبة وعمرو بن الحارث والليث بن سعد، وعن أحمد من كان مثل ابن لهيعة بمصر في كثرة حديثه في ضبطه وإتقانه، وحدث عنه أحمد بحديث كثير، وقال ابن وهب: كان ابن لهيعة صادقا، ولئن سلمنا ما قاله البيهقي فإن نزح زمزم قد روي من طرق صحاح منها رواية الطحاوي وابن أبي شيبة التي ذكر.
فإن قلت: اعتمد البيهقي في تضعيف هذه القصة بأثر رواه عن سفيان بن عيينة، قال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ عن أبي الوليد الفقيه عن عبد الله بن شبرمة قال: سمعت أبا قدامة يقول: سمعت سفيان بن عيينة بقول: أنا بمكة منذ سبعين سنة لم أر صغيرا ولا كبيرا يعرف حديث الزنجي، قالوا: إنه وقع في زمزم، ولا سمعت أحدا يقول: نزحت زمزم. ثم أسند عن الشافعي أنه قال: لا يعرف هذا عن ابن عباس، وكيف يروى عن ابن عباس وهو قد روى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الماء لا ينجسه شيء» ، ويترك وإن كان قد جعل فالنجاسة ظهرت على وجه الماء أو نزحا للتنظيف لا للنجاسة فإن زمزم للشرب.
قلت: قد عرفت هذا الأمر وأثبته أبو الطفيل عامر بن واثلة أي الصحابي، ومحمد بن سيرين وقتادة ولو أرسلاه، وعمرو بن دينار وعطاء بن أبي رباح ومعمر، والمثبت مقدم على النافي خصوصا مثل هؤلاء الأعلام، ولا يلزم من عدم سماع من لم يدرك ذلك الوقت وعدم من يعرفه عدم هذا الأمر في نفسه وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لم يترك بل خصصه كما خصصت أنت أيها الشافعي، وقلت بنجاسة ما دون القلتين بالنجس ولم يعتبر نجاسته ما بلغ قلتين فصاعدا.
وأما الذي قاله ابن عيينة فيجوز أن لا يكون الذي قالوا ما قالوا أدركوا الوقت الذي وقعت

(1/454)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فيه القضية أو كانوا غائبين في معايشهم ومصالحهم؛ ولأن البئر إذا نزحت لا يحضره جميع أهل البلد ولا أكثرهم، وإنما يحضره من له بصارة في أمر البئر وبعض من يستعان به على نزحه، ألا ترى أنك لو سألت الآن هل نزحت بئر بالقاهرة لعله ما عرفه أحد، وفيها أكثر من عشرة آلاف بئر أكثر من عين الأدبر فكيف ينزح بئر لم يكن على عهدهم ولا عهد آبائهم، ومع أن بين الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وبين هذه الكائنة أكثر من مائة وخمسين سنة، فمن أين لهم ذلك، وكذا الكلام فيما قال ابن عيينة.
فإن قلت: قال الثوري بهذا أكثر أهل مكة فكيف يتوهم بعد هذا صحة هذا القضية؟
قلت: هذا مردود من وجوه:
الأول: أن قول ابن عيينة ما سمعت لا يفيد؛ الأشياء التي ما سمعها هو ولا غيره لا تعد ولا تحصى ولا يدل ذلك على عدم وقوعها.
الثاني: أن الذي شاهد هذه القضية لا يلزم أن يجيء إلى ابن عيينة ويخبره بها حتى يستدل بعدم إخباره على عدم وقوعها.
الثالث: أنه لم يقل: إني سألت عن هذا الأمر جميع أهل مكة، وسألت عنه ثم كشف فلم أجده وقع.
الرابع: ما ذكرنا من أن نقل الإثبات إثبات، وهو مقدم على النفي، ولا سيما في ابن عيينة فإنه زائد، فالإثبات مقدم على النفي بإجماع الفقهاء والأصوليين والمحدثين، ولا سيما إذا كان المنكر الثاني لم يدرك بسبب الحادثة التي ينكرها وينفيها.
فإن قلت: قال النووي: وكيف يصل هذا إلى الكوفة ويجهله أهل مكة؟
قلت: هذه غفلة عظيمة منه، وهذا القول منه مخالف لقول إمامه، فإنه حكى عنه ابن القاسم ابن عساكر أنه قال لأحمد وغيره: أنتم أعلم بالأخبار الصحاح منا، فإن كان خبر صحيح فأعلموني حتى أذهب إليه كوفيا كان أو بصريا أو شاميا، فهل قال: كيف إمامه ويقتضي ما قال ينبغي أن لا يكون خبره حجة حتى يعرض على أهل مكة والمدينة، فإذا لم يعرض لا يكون حجة، وهذا خلاف الإجماع مع ما فيه من مخالفة نص إمامه.
والذي يدل على بطلان قوله أن عليا وأصحابه وعبد الله بن مسعود وأصحابه وأبا موسى الأشعري وأصحابه وعبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وجماعة من أصحابه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وسلمان الفارسي وعامة أصحابه، والتابعين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - انتقلوا إلى الكوفة

(1/455)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
والبصرة ولم يبق بمكة إلا القليل وانتشروا في البلاد للولايات والجهاد وسمع الناس منهم ونشر العلم على أيديهم في جميع البلاد الإسلامية، ولا ينكر هذا إلا مكابر أو صاحب بدعة وعصبة.
فإن قلت: قد قال النووي أيضا: فإن صح هذا فإنه يحمل على أن دمه غلب على الماء فغيره.
قلت: هذا أيضا فاسد من وجوه.
الأول: الغالب أن من وقع في الماء يموت من حينه ولا يخرج منه دم، فضلا عن أن يغلب على الماء فيغيره ولا سيما ماء زمزم لكثرته.
الثاني: أنها لما نزحوها جاءتهم عين من الركن فغلبتهم فسدوها ونزحوها حتى انفجرت العين فقال: حسبكم، فكيف يتصور أن يغلب دم شخص واحد ماء زمزم حتى نزحوها مرة بعد أخرى.
الثالث: قال الراوي: فمات فيها زنجي، فأمر ابن عباس بأن تنزح فجعل علة نزحها موته دون غلبة دمه كقولهم: زنى ماعز فرجم، علة قتله زناه وليست ردة ولا قتل نفس.
فإن قلت: يحمل الأمر على الاستحباب.
قلت: مطلق الأمر للوجوب.
فإن قلت: جاءت الآثار في بئر زمزم لا تنزح ولا تردم.
قلت: ليس في حديث ابن عباس وابن الزبير أنهما قدرا على استعمال الماء بالنزح حتى يكون مخالفا للآثار التي جاءت بأنها لا تنزح بل تنزح في رواية ابن أبي شيبة بأن الماء يقطع، وفي رواية البيهقي بأن العين غلبتهم حتى سدت بالقباطي والمطارف، وجعل السهيلي حديث الحسن مؤيدا لما روي في صفتها أنها لا تنزح.
ثم نذكر تفسير ما وقع في هذا الموضع من الألفاظ التي يحتاج إلى تفسيرها، قوله: زنجي نسبة إلى الزنج، وهم خيل من السودان، وجاء فيه كسر الزاي، وفي رواية الطحاوي وغيره حبشي منسوب إلى الحبش وهم جنس من السودان مشهور. وقال السهيلي: بنو حبش بن كوش ابن حام بن نوح - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وجاءني في رواية الطحاوي: فوقع غلام في زمزم ويمكن أن يكون هذا الغلام زنجيا أو حبشيا.
وزمزم بئر بمكة أصلها مزبير وهو أهل المصر ركضه جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. والمطرف بكسر الميم وفتح الراء وتضم أيضا، والجمع على مطارف، وهي أردية من حزمة لعدلها أعلام. والقباطي جمع قبط وهي الثوب من ثياب مصر رقيقة بيضاء، وكأنه منسوب إلى القبط، وضم القاف من

(1/456)


ثم المعتبر في كل بئر دلوها التي يسقى بها منها، وقيل: دلو يسع فيه صاع، ولو نزح منها بدلو عظيم مرة مقدار عشرين دلوا جاز لحصول المقصود، فإن انتفخ الحيوان فيها أو تفسخ نزح جميع ما فيها صغر الحيوان أو كبر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تفسير ابن وهب، في الثاني: وأما الناس فقبطي بالكسر. وقد فسر السروجي قبطية بالبرود وما عرفت هذا التفسير والذي ذكره أهل اللغة، وبه فسرها ابن الأثير في " النهاية ". وذكر السروجي أيضا الحديث الذي رواه الدارقطني والطحاوي الذي مر ذكره وفيه فدست بالقباطي، ثم قال: ومعنى دست أي سدت، قيل: الظاهر أنه تصحيف منه أو من الناسخ؛ لأن في روايتهما فدست من الدس لا أنه دسمت من الدسم.
قلت: إنه ليس بتصحيف؛ لأنه جاء في اللغة ذكره الجوهري وغيره أن الدسم هو السد ومنه الدسام بالكسر وهو ما تسد به الأذن والجرح ونحو ذلك، تقول منه: دسمته أدسمه بالميم دسما والدسام السداد وهو ما يسد به رأس القارورة ونحوها. قوله: لا تذم أي لا يوجد ماؤها قليلا من قولهم بئر ذمة بكسر الذال المعجمة إذا كانت قليلة الماء.
م: (ثم المعتبر في كل بئر دلوها التي يسقى بها منها) ش: أشار به إلى تفسير الدلو، فإنه ذكر مبهما فاحتاج إلى تفسيره وفسره بهذا لأنه أيسر عليهم ولأن الإطلاق في الآبار ينصرف إلى الدلاء المتعارفة في كل بئر لأنه أعدل وأهون.
م: (وقيل: دلو يسع فيه صاع) ش: هذه رواية الحسن عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقيل: دلو يسع خمسة أمناء، وقيل: أربعة، وقيل: منوين، وذكر الدلو أبين وإن لم تكن لها دلو يعتبر بدلو ثمانية أرطال في رواية. قلت: الصاع مكيال يسع أربعة أمداد، والمد مختلف فيه، فقيل: رطل وثلث بالعراقي، وبه يقول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفقهاء الحجاز. وقيل: هو رطلان وبه أخذ أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفقهاء العراق فيكون الصاع خمسة أرطال وثلاث أو ثمانية أرطال وسيجيء مزيد الكلام فيه في كتاب الزكاة.
م: (ولو نزح منها بدلو عظيم مرة مقدار عشرين دلوا جاز لحصول المقصود) ش: وهو نزح المقدار الذي قدره الشرع. وفي الأصل: إذا وقع في البئر فجاءوا بدلو عظيم تسع وعشرين دلوا فاستقوا به مرة واحدة أجزأهم، وهو أحب إلي، لأن القطر الذي يعود منه إلى البئر أقل، وعن الحسن أنه لا يطهر بمرة واحدة؛ لأن بتواتر الدلاء يصر الماء في المعنى الجاري. فقال: إن المعتبر القدر المنزوح ومعنى الجريان ساقط.
م: (فإن انتفخ الحيوان أو تفسخ أخرج جميع ما فيها صغر الحيوان أو كبر) ش: يعني الحيوان الواقع في البئر إذا انتفخ أو تفسخ حتى تمزقت أعضاؤه نزح جميع ما فيها من الماء قوله: صغر بضم الغين ومضارعه كذلك فهو صغير وصغار، كبر بضم الباء أي عظم ومضارعه يكبر بالضم أيضا فهو كبير، وكبير كفعيل، وهو صفة مشبهة باسم الباء على ما إذا أفرط قيل: كبار بالتشديد، وما

(1/457)


لانتشار البلة في أجزاء الماء، فإن كانت البئر معينا لا يمكن نزحها أخرجوا مقدار ما كان فيها من الماء، وطريق معرفته أن تحفر حفرة مثل موضع الماء من البئر ويصب فيها ما ينزح منها إلى أن تمتلئ أو ترسل فيها قصبة وتجعل لمبلغ الماء علامة ثم ينزح منها مثلا عشر دلاء، ثم تعاد القصبة فينظر كم انتقص فينزح لكل قدر منها عشر دلاء،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كبر بكسر الباء فمعناه يكبر بالفتح وهذه المسألة يحاجج فيقال في أي موضع الحمل مع الحمل.
م: (لانتشار البلة في أجزاء الماء) ش: البلة بكسر الباء الموحدة وتشديد اللام النداوة، والبلة بالفتح البلل وكلاهما يجوزها هنا وهو من باب نصر ينصر، وهذه تعليل لقوله: نزح جميع ما فيها، وذلك أن الحيوان عند الانتفاخ تنفصل منه بلة نجسة مائعة تنشر في الماء بمنزلة قطرة خمر أو بول تقسمها، ولهذا قال محمد: لو وقع فيها ذنب فأرة نزح جميع الماء؛ لأن موضع القطع لا ينفك عن نجاسة مائعة.
م: (فإن كانت البئر معينا) ش: أي ذات عين جارية من قولهم: عين معيونة، وكان القياس أن يقال: معينة كما في بعض النسخ كذلك لأن البئر مؤنثة، وإنما ذكر بلفظ التذكير نظرا إلى اللفظ أو توهم أن فعيل بمعنى مفعول. وفي " الصحاح " ماء معين أي معيون من مفعول من عنيت الماء إذا حفرت واستنبطت وبلغت العيون.
فإن قلت: الميم أصلية أو زائدة.
قلت: ما ذكرته عن " الصحاح " يدل على أن الميم زائدة، ومنه يقال: بماء معين معيون وعان الماء أي بان، ولكنه ذكر في فصل الميم معنت الأرض أي رويت، وماء معين أي جار فعلى هذا الميم أصلية.
م: (لا يمكن نزحها) ش: تفسير لقوله: معين، قاله تاج الشريعة: ويقال: صفة وهو الأصوب م: (أخرجوا مقدار ما كان فيها من الماء) ش: هذا جواب المسألة، وأشار بقوله مقدار ما كان فيها من الماء إلى أن الاعتبار للماء الذي كان زمن وقوع النجاسة.
م: (وطريق معرفته) ش: أي طريق معرفة إخراج ما فيها من الماء م: (إن تحفر حفرة مثل موضع الماء من البئر، ويصب فيها ما ينزح منها إلى أن تمتلئ) ش: أراد من موضع الماء من البئر طولا وعرضا وعمقا، ويجصص على قول بعض المشايخ حتى لا تشرب الأرض الماء المصبوب فيها.
م: (أو ترسل فيها) ش: أي في البئر م: (قصبة وتجعل لمبلغ الماء علامة ثم ينزح منها عشر دلاء ثم تعاد القصبة فينظر كم انتقص) ش: من ماء البئر م: (فينزح لكل قدر منا عشر دلاء) ش: حتى لا يبقى من القصبة شيء، حتى إذا كان طول الماء عشر قصبات انتقص عشر دلاء قصبة واحدة يعلم أن كل الماء بمائة دلو فينزح تسعون دلوا أخرى.

(1/458)


وهذان عن أبي يوسف، وعن محمد نزح مائتا دلو إلى ثلاثمائة فكأنه بنى قوله على ما شاهده في بلده. وعن أبي حنيفة في " الجامع الصغير " في مثله ينزح حتى يغلبهم الماء ولم يقدر الغلبة بشيء كما هو دأبه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وهذان عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي هذان الوجهان مرويان عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (وعن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - نزح مائتا دلو إلى ثلاثمائة) ش: أي عند محمد ينزح مائتا دلو إلى ثلاثمائة دلو م: (فكأنه) ش: أي فكأن محمدا - رَحِمَهُ اللَّهُ - بنى جوابه في المسألة المذكورة م: (بنى قوله على ما شاهد في بلده) ش: وهو ببغداد من كثرة الماء في آبارها لمجاورة دجلة، فالمائتان تكون من طريق الوجوب، والمائة الأخرى بطريق الاستحباب للاحتياط في أمور الدين، ولو قيل هذا نصب المقدر بالرأي، فجوابه قد مر في هذا الباب.
م: (وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الجامع الصغير " في مثله) ش: أي روي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في مثل هذا الحكم المذكور (ينزح حتى يغلبهم الماء) ش: أي حتى يعجزوا والماء لا يبقى فحينئذ يسقط التكليف، لأنه يعتمد الإسقاط عنه. وفي " فتاوى الثعالبي " عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذا نزح مائتا دلو أو ثلاثمائة فقد غلبهم الماء وهو المختار، وقدره أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في اشتراط الغلبة [على] قول علي وابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ذكره ابن المنذر قاله بعض الشراح.
قلت: قال الطحاوي: حدثنا محمد بن حميد بن هشام الرعيني قال: حدثنا علي بن معبد قال: حدثنا موسى بن أعين عن عطاء وزاذان عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سقطت الدابة في البئر فانزحها حتى يغلبك الماء. ورواه ابن أبي شيبة في " مصنفه ": حدثنا وكيع عن حمزة عن عطاء بن السائب عن زاذان عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الفأرة تقع في البئر قال: تنزح إلى أن يغلبهم الماء.
م: (ولم يقدر) ش: أي أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (الغلبة بشيء) ش: لأنها متفاوتة، وهذا هو ظاهر الرواية. قال قاضي خان: الصحيح عنه العجز وعنه التفويض إلى رأي المبتلى به، وعنه مائتا دلو، وعنه مائة دلو أفتى به في آبار الكوفة لقلة مائها. وفسر الأسبيجابي بالغلبة بمائتي دلو وثلاثمائة ذكره في " المحيط " وقاضي خان. وفي " المحيط " وفي رواية: مائتان وخمسون دلوا؛ لأن ماءها غالبا لا يتجاوز ذلك.
م: (كما هو دأبه) ش: أي رأي أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أي عادته، فإن عادته أن يفوض مثل هذا إلى رأي المبتلى به، كما فعل كذلك في تفسير البعرة الواقع الكثير حيث قال: هو ما يستكثره الناظر، وكما في حبس الغريم، وحد التقادم، وانقطاع حق الحضانة.

(1/459)


وقيل: يؤخذ في هذا الحكم بقول رجلين لهما بصارة في أمر الماء، وهذا أشبه بالفقه، وإن وجدوا في البئر فأرة أو غيرها ولا يدرى متى وقعت في البئر ولم تنتفخ أعادوا صلاة يوم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قيل: قدر أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - مدة البلوغ بالسن ثمانية عشر للغلام، وسبع عشرة للجارية بالرأي، وكذا قدر موت الفأرة الواقعة في البئر يوم وليلة وقدر تفسخها ثلاثة أيام بالرأي.
أجاب عنه السرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بأن الممنوع في المقادير التي تثبت لحق الله تعالى ابتداء دون المقادير المتردد بين القليل والكثير كالميل في التيمم كما ذكر في هذا الباب.
فإن قلت: ما نحن فيه من قبيل ما تردد فيه بين القليل والكثير فكيف يتم ما ذكرتم من التعليل؟
قلت: أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنما يقدر ما تردد بين القليل والكثير بالرأي إذا لم تمكن معرفته بالرجوع إلى أحوال بالاستقلال والاستكثار. أما إذا أمكن فلا كما فيما نحن بصدده، ألا ترى أنه جعل الشهر فيما فوق كثيرا وما دونه قليلا وصرف الحين والزمان إلى ستة أشهر والأيام والشهور والأعياد والسنين إلى عشر من صنف.
م: (وقيل) ش: قائله أبو نصر بن محمد بن سلام م: (يؤخذ في الحكم بقول رجلين) ش: إذا قالا: ماء هذا البئر مائة دلو، أو مائتا دلو ولو نزح ذلك القدر؛ لأن الأخذ بقول الغير هو المرجح فيما لم يشتهر من الشرع فيه تقدير، قال الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] (النحل: الآية 43) كما في جزاء الصيد حيث قال: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] (المائدة: الآية 95) ، والشهادة حيث قال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] (الطلاق: الآية 2) .
م: (لهما بصارة في أمر الماء) ش: هذه جملة من المبتدأ المتقدم والخبر وقعت صفة لرجلين و" البصارة" بفتح الباء الموحدة، وهو مصدر من بصر يبصر بضم الصاد وبصر بالشيء علمه، والبصير العالم، والمعنى لهما بصارة أي علم بأمر البئر وحذاقة وخبرة.
م: (وهذا أشبه بالفقه) ش: أي بالمعنى المستنبط من الكتاب وسننه ففي الكتاب، الاثنان نصاب الشهادة الملزمة لما ذكرها، وفي البينة شاهدان أو يمينه، ويقال: معنى قوله: وهذا أشبه بالفقه، أي بقول الفقهاء حيث اعتبروا قول رجلين في قيم الأشياء.
م: (وإن وجدوا) ش: أي أصحاب البئر أو المصلون م: (في البئر فأرة أو غيرها) ش: من الحيوان م: (ولا يدرى متى وقعت في البئر) ش: وهي جملة وقعت حال من الفأرة، والأوجه أن تكون صفة لفأرة، وقيد به لأنهم إذا علموا زمان الوقوع يحكم بالنجاسة من ذلك الوقت بالاتفاق، م: (ولم ينتفخ) ش: جملة وقعت حالا والواو فيه واو الحال. وقوله: ولم تنتفخ عطف على الجملة الحالية م: (أعادوا) ش: جواب المسألة أي أعاد أصحاب البئر والمصلون م: (صلاة يوم

(1/460)


وليلة إذا كانوا توضئوا منها وغسلوا كل شيء أصابه ماؤها، وإن كانت قد انتفخت أو تفسخت أعادوا صلاة ثلاثة أيام ولياليها، وهذا عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالا: ليس عليهم إعادة شيء حتى يتحققوا أنها متى وقعت؛ لأن اليقين لا يزول بالشك وصار كمن رأى في ثوبه نجاسة، ولا يدري متى أصابته،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وليلة إن كانوا توضئوا منها وغسلوا) ش: عطف على أعادوا، وليس بعطف على توضئوا م: (كل شيء) ش: كلام إضافي منصوب؛ لأنه مفعول غسلوا م: (أصابه ماؤها) ش: أي ماء هذه البئر والجملة صفة شيء.
م: (وإن كانت الفأرة قد تفسخت أو انتفخت) ش: فإن قلت: إذا كان الحكم في الانفساخ م: (أعادوا صلاة ثلاثة أيام) ش: ففي التفسخ بطريق الأولى فما فائدة ذكره؟ قلت: لا شك أن مدة التفسخ تزيد على مدة الانتفاخ، فالفائدة في ذكره نفي الزيادة على ثلاثة أيام م: (ولياليها) ش: أعادوا صلاة أيام ولياليها لا غير.
م: (وهذا) ش: أي هذا الحكم في الصورتين م: (عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ش: وهذا لم يذكره في ظاهر الرواية، وإنما رواه الحسن عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - كذا في " البدائع ".
م: (وقالا: ليس عليهم إعادة شيء حتى يتحققوا أنها متى وقعت) ش: هذه الفأرة في البئر، وقوله: شيء، يتناول عدم إعادة الصلاة وعدم غسل كل شيء أصابه ماؤها م: (لأن اليقين لا يزول بالشك) ش: اليقين هو كون الماء طاهرا، والشك في نجاسته فيما مضى، واليقين لا يزول به فلا يحكم بالنجاسة إلا زمن اليقين بوقوعها؛ لأن اليقين يزول بيقين مثله، وهو الذي ذكره هو القياس؛ لأنه يحتمل موتها في البئر ويحتمل أن تقع فيها وهي ميتة بأن ألقتها الريح العاصف أو بعض السفهاء أو الصبيان أو ألقتها بعض أعداء الدين، أو بعض من لا يعتقد تنجيس ما بها لكثرته أو لعدم تغير لون الماء وطعمه وريحه بها أو بعض الطيور كما حكي عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه كان يقول بقوله يعني أبا حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى أن رأى حدأة وهو جالس في بستانه في منقارها فاختة فطرحتها في بئر فرجع عن قوله، والأصل في الحوادث أن يضاف إلى أقرب الأوقات للشك في الاستناد، وذلك قبل وجودها في البئر.
فإن قلت: هلا حكمتم الحال كما في جريان ماء الطاحون.
قلت: مدة إجارة الطاحون معلومة فيجعل الماء حاجزا من أول مدة العقد إلى انقضاء المدة، وهاهنا ما قبله مجهول، وأيضا قد عارضة استصحاب الحال؛ لأن البئر كانت طاهرة، وأيضا ما ذكرناه ظاهر للدفع، وما ذكر من التحكيم للإيجاب والطاهر للدفع دون الاستحقاق والإيجاب.
م: فصار كمن رأى في ثوبه نجاسة ولا يدري متى أصابته) ش: فإنه لا يلزم إعادة شيء من

(1/461)


ولأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن للموت سببا ظاهرا وهو الوقوع في الماء فيحال به عليه إلا أن الانتفاخ والتفسخ دليل التقادم فيقدر بالثلاث، وعدم الانتفاخ والتفسخ دليل قرب العهد فقدرناه بيوم وليلة؛ ما دون ذلك ساعات لا يمكن ضبطها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الصلاة بالاتفاق على الأصح ذكره الحاكم الشهيد وهو رواية بشر المريسي عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكره في " البدائع "، وكذا لو دخل المصلي حمامة في كمه ميتة ولا يدري متى ماتت أو رأت المرأة في كرسفها وما تدري متى نزل، وكذا لو مات المسلم وله امرأة نصرانية فجاءت مسلمة بعد موته وقالت: أسلمت قبل موته، وقال الورثة بعده فالقول لهم.
م: (ولأبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن للموت سببا ظاهرا وهو) ش: أي السبب الظاهر لموت الفأرة الواقعة في البئر م: (وهو الوقوع في الماء فيحال) ش: أي فصار الحكم وهو نجاسة الماء م: (به) ش: أي بالموت م: (عليه) ش: أي الوقوع، وإن احتمل أن يكون الموت بغيره؛ لأن السبب الموهم لا يضر في مقابلة السبب الظاهر كمن رأى إنسانا في عنقه حية ملفوفة يغلب على الظن أنها نهشته فقتلته كذا ذكره شمس الأئمة الكردري، وكمن جرح إنسانا فلم يزل صاحب فراش حتى مات، فإن الموت يضاف إلى الجرح، وإن احتمل أن يكون بسبب آخر كذا في " المبسوط "، وكذا لو وجد قتيل في محل يضاف القتل إلى أهلها، وإن احتمل أنه قتل في محل آخر ثم حمل إليها.
م: (إلا أن الانتفاخ دليل التقادم) ش: هذا كأنه جواب عن سؤال مقدر تقديره أن يقال: لما كان الحكم يضاف إلى سبب ظاهر ما وجه التفصيل قريبا بالانتفاخ وعدمه، فأجاب عن ذلك بقوله: الانتفاخ دليل التقادم؛ لأن الحيوان لا يموت بمجرد الوقوع في البئر بل يضطرب ساعات ثم يموت فقدر يوم وليلة، في غير المنتفخ؛ لأن ما دون ذلك لا يتصور دركه، وبالثلاث في المنتفخ؛ لأن الانتفاخ دليل بعد العهد وتقادمه، وأدنى التقادم ثلاثة أيام ولياليها كما في الصلاة على الميت الذي دفن بلا صلاة عليه فإنه يصلى عليه قبل الثلاثة، وبعد الثلاثة لا يصلى؛ لأن التقادم يورث انتفاخ الميت.
فإن قلت: ما هذا الاستثناء، وما المستثنى منه.
قلت: ما تقدم وهو اليوم.
م: (فيقدر بالثلاث) ش: أي بثلاثة أيام ولياليها م: (وعدم الانتفاخ والتفسخ دليل قرب العهد) ش: أي الزمان.
م: (فقدرناه بيوم وليلة؛ لأن ما دون ذلك) ش: أي ما دون اليوم والليلة م: (ساعات لا يمكن ضبطها) ش: المراد من الساعات الأوقات لا الساعة الرملية فإنها مضبوطة بالرمل، والساعات جمع ساعة ويجمع على سياع أيضا والساعات عند أهل اللغة الوقت الحاضر، وأصلها سوعة،

(1/462)


وأما مسألة النجاسة فقد قال المعلى: هي على هذا الخلاف فيقدر بالثلاث في البالي وبيوم وليلة في الطري، ولو سلم فالثوب بمرأى عينه والبئر غائبة عن بصره فيفترقان.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلبت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها.

م: (وأما مسألة النجاسة) ش: جواب عن قولهما في قياس مسألة البئر على مسألة من رأى في ثوبه نجاسة لا يدري متى أصابته، فأجاب أولا بطريق المنع وهو نظير قوله: وأما مسألة النجاسة المذكورة م: (فقد قال المعلى) ش: أي منصور الرازي تلميذ أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - روى عنهما "الست: و" الأمالي " وسمع هشاما وحماد بن زيد وغيرهما، وروى عنه محمد بن عبد الرحيم وعلي بن الهيثم في تفسير الأحزاب والبيوع و [......] في " صحيح البخاري " قال البخاري: مات ببغداد في شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة ومائتين، ودخلت عليه سنة عشر ومائتين، ولم يتحدث عنه في الجامع بشيء، وأنا حدثت عن رجل عنه وكان في الورع وحفظ الفقه والحديث على جانب عظيم - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
م: (هي على هذا الخلاف) ش: أي الخلاف المذكور في مسألة الفأرة م: (فيقدر بالثلاث في اليابس) ش: أي يقدر بثلاثة أيام ولياليها في العتيق، وأراد به النجاسة اليابسة م: (وبيوم وليلة في الطري) ش: أي يقدر يوم وليلة في النجس الطري قيل: إن المعلى قال هذا من ذات نفسه تفريقا على قياس قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقيل: رواه عن أبي يوسف عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وذكر ابن رستم في " نوادره " أن من وجد ميتا في ثوبه أعاد من آخر نومة نامها فيه للشك فيما قبله، ذكره في " المحيط " و" البدائع " يعيد من آخر ما احتلم فيه.
وقيل في البول: يعتبر من آخر ما بال. وفي الدم من آخر ما رعف. وفي " المحيط " في الدم لا يعيد حتى يتيقن؛ لأن الدم قد يصيبه في الطريق بخلاف المني، فإن كان الثوب يلبسه هو وغيره فهو كالدم. وفي " البدائع " لو فتح حقة فوجد فيها فأرة ميتة ولم يعلم متى دخلت فيها، فإن لم يكن لها ثقب يعيد الصلاة من يوم وضع القطن منها، وإن كانت لها ثقب يعيدها ثلاثة أيام ولياليها عنده كما في مسألة البئر: قلت: مراده إذا كانت يابسة.
م: (ولو سلم) ش: جواب بطريق التسليم بأن يقال: سلمنا أن الأمر كما قلتم، لكن بين الثوب والبئر فرق، أشار إليه بقوله: (فالثوب بمرأى عينه) ش: أي عينه، فلو كانت النجاسة أصابته قبل ذلك لعلم، والمرأى على وزن مفعل بالفتح اسم مكان الرواية م: (والبئر غائبة عن بصره فيفترقان) ش: أي حكم الثوب وحكم البئر أراد أن قياس البئر على النجاسة قياس بالفارق فلا يصح.

(1/463)