البناية
شرح الهداية باب الأنجاس وتطهيرها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[باب الأنجاس وتطهيرها]
[حكم تطهير النجاسة]
م: (باب الأنجاس وتطهيرها) ش: أي هذا باب بيان أحكام الأنجاس وبيان أحكام
تطهيرها، وارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هذا، ويجوز نصبه بتقدير: خذ
باب الأنجاس، قال تاج الشريعة: قد يحذف المضاف كما في قَوْله تَعَالَى:
{فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ} [طه: 96] (طه: الآية 36)
وقوله: باب الأنجاس: من قبيل القسم الثاني، أي باب بيان أنواع الأنجاس.
قلت: لا حاجة إلى هذا التعسف، لأن لفظ الأنجاس يشمل الأنواع، وكونه من
القسم الأول أولى.
ولما فرغ من بيان النجاسة الحكمية وتطهيرها شرع في بيان النجاسة الحقيقية
وتطهيرها، ولما كانت الأولى أقوى وأكثر قدمها على الثانية، والأنجاس جمع
نجس بفتح النون وكسر الجيم وبسكونها مع فتح النون، وبكسر النون مع سكون
الجيم وكلها مستعملة في اللغة، قاله على بعض الشراح.
قال: الأكمل: والأنجاس جمع نجس بفتحتين وهو كل مستقذر وهو في الأصل مصدر ثم
استعمل اسما، قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة:
28] (التوبة: الآية 28) ، وقال تاج الشريعة: الأنجاس جمع نجس بكسر الجيم
وهو الشيء الذي أصابته النجاسة، والنجس بالفتح كل ما استقذرته، وقال صاحب "
الدراية ": وهو في الأصل مصدر، والمراد هاهنا الاسم.
قلت: قد رأيت ما بين أحد منهم حقيقة هذه المادة، وهو من باب علم يعلم،
تقول: نجس ينجس نجساً بفتح فهو نجس بكسر الجيم وفتحها، وفي دستور اللغة:
نجس بكسر الجيم ينجس بفتح النون وسكون الجيم وهو مصدر، وكذلك نجس نجاسة.
وكذلك ذكره في باب فعل يفعل بالضم فيهما. وفي " العباب ": والنجَس والنجِس
والنَجْس والنِجْس والنجُس ضد الطهارة، ونجس ينجس مثال سمع يسمع، ونجس ينجس
مثال كرم يكرم، وإذا قلت: رجل نجس بكسر الجيم ثنيت وجمعت، وإذا قلت: نجس
بفتحها لم تثن ولم تجمع وقلت: رجل نجس ورجلان نجس ورجال نجس وامرأة نجس
ونساء نجس، ويقال: أنجسه ونجسه تنجيسا فعن هذا أن قول الأكمل: الأنجاس جمع
نجس بفتحتين غير صحيح والصحيح ما قاله تاج الشريعة فافهم.
ثم الخبث يطلق على الحقيقي والحدث على الحكمي والنجس يطلق عليهما.
قوله: وتطهيرها: أي وفي بيان تطهير الأنجاس، والتطهير إن فسرها بالإزالة
فحسن إضافة التطهير إليها، وإن فسر بإثبات الطهارة فالمراد طهارة محلها
كالبدن والثوب والمكان، لأن نجاسة هذه الأشياء مجاورة النجاسة، فإذا زالت
ظهرت الطهارة الأصلية، وهذا لأنه لا يمكن تطهير عين
(1/699)
تطهير النجاسة واجب من بدن المصلي وثوبه
والمكان الذي يصلي عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
النجاسة فلا بد من التأويل فذكر الحال وأراد به المحل عكس قوله في البئر
نزحت فإنه ذكر المحل وأراد به الحال، والنجاسة محل معنى إذا حلت بالمحل
يوجب الاختلال بالثوب إلى المعبود ويمنع كمال التعظيم له سبحانه وتعالى.
[حكم تطهير النجاسة]
م: (تطهير النجاسة) ش: أي تطهير محل النجاسة، لأن النجاسة لا تثبت فيها صفة
الطهارة أصلاً بل تثبت في محلها بإزالتها عنه، فحذف المضاف وأقام المضاف
إليه مقامه، وإنما أنشأ الضمير لأنه إضافة إلى ضمير الأنجاس. م: (واجب) ش:
أي فرض، وهذا كما قالوا: الزكاة واجبة، وإنما ذكر لفظ الواجب ليشمل الكل إذ
الفرض هو الأصل م: (من بدن المصلي وثوبه والمكان الذي يصلي عليه) ش: كلمة
من تتعلق بقوله: تطهير النجاسة وهو في الأصل لابتداء الغاية، لكن اللائق
هاهنا أن تكون للمجاورة، وهذه ثلاثة أشياء:
الأول: بدن المصلي، فإن كان عليه نجاسة أكثر من قدر الدرهم لا تجوز صلاته
وفيما دونه تجوز وتكره.
الثاني: الثوب كذلك ويحتسب بغلظ النجاسة وتخفيفها، وقال أبو عمر: ذهب مالك
وأصحابه [إلى] أن إزالة النجاسة من البدن والثوب سنة وليست بفرض، وقال
هشام: يعيد صلاته في النجاسة والجنابة في الوقت وبعده، وهو قول أبي قلابة
والشافعي وأحمد وأبي ثور والطبري.
وقال أبو عمر: روى ابن عمر وسعيد بن المسيب وعطاء وطاوس ومجاهد والشعبي
والزهري ويحيى بن سعيد في الذي يصلي في الثوب النجس ولا يعلم إلا بعد
الصلاة أنه لا إعادة عليه، وبه قال إسحاق بن راهويه، وعن الحسن في الثوب
يعيد في الوقت وفي جسده في الوقت وبعده.
الثالث: المكان، والمعتبر في طهارة المكان [ما] تحت قدم المصلي، حتى لو
افتتح الصلاة وتحت قدميه أكثر من قدر الدرهم من النجاسة فصلاته فاسدة، فكذا
إذا كان تحت إحدى قدميه وهو الأصح، وقيل يجزئه، وإذا كان في موضع السجود
دون القدم ففي رواية محمد عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه لا يجوز،
وهو الأصح وهو قولهما.
وفي رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة: أنه يجوز، وإن كان في موضع يديه أو
ركبتيه يجزئه عندنا خلافاً للشافعي وزفر - رحمهما الله -، ولو صلى على مكان
طاهر، وسجد عليه، لكن إذا سجد وقعت ثيابه على الأرض النجسة جازت صلاته ولو
افتتحها على مكان طاهر ثم تحول إلى مكان نجس ثم تحول منه إلى مكان طاهر
جازت صلاته، إلا أن يمكث. ولو صلى على بساط
(1/700)
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ
فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] (المدثر: الآية 4) ، وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -:
«حتيّه ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء ولا يضرك أثره»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وفي طرف منه نجاسة، قيل: يجوز في الكبير دون الصغير وحده إذا رفع أحد طرفيه
لا يتحرك الطرف الآخر وإن تحرك الصغير، والأصح أنه يجوز مطلقاً. ولو قام
على النجاسة وفي رجله جوربان أو نعلان لم تجز صلاته، ولو فرش نعليه وصلى
عليهما جازت لأنه بمنزلة ما لو بسط الثوب الطاهر على الأرض النجسة وصلى
عليها جازت واللبنة والآجر إذا كان أحد وجهيها نجساً وقام على الوجه الطاهر
وصلى عليها إن كانت مفروشة جازت، وإن لم تكن مفروشة روي عن محمد أنه لا
يجوز. وعن أبي يوسف أنه يجوز، ولو سجد على مكان نجس ثم أعاد السجدة على
مكان طاهر جاز، وعن محمد: لو سجد على ميت وعليه لبد إن كان لا يجد حجم
الميت جاز، وإن وجد حجمه لا يجوز:
م: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] (المدثر:
الآية 4) ش: أي طهرها من النجاسة، والأمر للوجوب، وقال ابن عباس - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا - وابن زيد والحسن وابن سيرين: اغسلها بالماء ونقها من
الدرن ومن القذر. وقال الأكمل: فإن قيل: قال المفسرون: معناه فقصر فلا يتم
دليلاً على إزالة النجاسة.
أجيب بأن ذلك مجاز والأصل هو الحقيقة، على أن تقصير الثياب يستلزم الطهر
عادة فيكون أمراً بتطهير الثوب اقتضاء: قلت: أخذ هذا من " الدراية "،
وقوله: قال المفسرون، من هم هؤلاء المفسرون حتى يؤخذ هذا عنهم؟ ثم يحتاج
إلى الجواب مع أنه قيل: وما نقل من هذا في تفسير الآية لا يوافق ظاهر
اللغة.
فإن قلت: نقل ذلك عن الفراء ذكره أبو الليث في تفسيره. قلت: الأصل في
التفسير تفسير ابن عباس و [من] مثله من الصحابة ومن بعدهم من التابعين
الكبار كالحسن وابن سيرين وغيرهما، والفراء ومثله أئمة اللغة والنحو، مع أن
تفسيره هذا خلاف اللغة.
م: (وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حتيه اقرصيه ثم
اغسليه بالماء ولا يضرك أثره» ش: هذا أصل [له] في الحديث الصحيح، ولكن ما
روي بهذا اللفظ، و [إنما] روى الأئمة الستة في "كتبهم" واللفظ لمسلم من
حديث هشام بن عروة عن امرأته فاطمة بنت المنذر بن الزبير عن جدته أسماء بنت
أبي بكر قالت: «جاءت امرأة إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- فقالت: إحدانا يصيب ثوبها من دم الحيضة كيف تصنع به؟ قال: "تحته ثم تقرصه
بالماء ثم تنضحه ثم تصلي فيه» وفي رواية لأبي داود: «حتيه ثم اقرصيه بالماء
ثم انضحيه» .
وفي رواية له: «فإن رأت فيه دماً فلتقرصه بشيء من ماء ولتنضح ما لم تر
وتصلي فيه» . رواه
(1/701)
إذا وجب التطهير في الثوب وجب في البدن
والمكان، لأن الاستعمال في حالة الصلاة يشتمل الكل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ابن أبي شيبة في "مصنفه "، وفيه قال: «اقرصيه بالماء واغسليه وصلي فيه» ،
ورواه الإمام أبو محمد عبد الله بن علي بن الجارود في كتاب " المنتقى ":
«حتيه واقرصيه ورشيه بالماء» .
قوله: حتيه: من حت يحت من باب نصر ينصر إذا قشر بيده. قوله: واقرصيه، من
قرص يقرص من باب نصر ينصر أيضا، وهو الدلك بأطراف الأصابع والأظفار مع صب
الماء عليه حتى يذهب أثره وهو أبلغ في غسل الدم من غسله بجميع يده.
وقال الخطابي: أصل القرص أن يقبض بأصبعيه على الشيء ثم يغمزه غمزاً جيدا.
وقال أبو عمر في " التمهيد ": ويروى: "فلتقرصه" بفتح التاء وضم الراء
وكسرها، ويروى فلتقرصه بالتشديد على التكثير أي فلتقطعه بالماء، ومنه تقريص
الطحين، والنضح الرش. وقال الخطابي: وقد يكون بمعنى الصب والغسل، وقال
المهلب: النضح: كثرة الصب وهو بالحاء المهملة، هي الرواية، ولو قال: بالخاء
المعجمة لكان أقرب إلى معنى الغسل لأنه أكثر من المهملة، وقيل: النضح هو
الرش في موضع الشك لدفع الوسوسة.
وجه الاستدلال بالحديث المذكور: أنه يدل على وجوب الطهارة في الثياب، وفيه
دلالة على نجاسة الدم، وهو إجماع المسلمين ودلالة على أن العدد لا يشترط في
إزالة النجاسات، بل المراد الإنقاء.
فإن قلت: استدل به البيهقي في "سننه " على أصحابنا في وجوب الطهارة بالماء
دون غيره من المائعات الطاهرة. قلت: هو مفهوم لقب لا يقول به إمامه.
فإن قلت: الحدث ورد في أسماء بنت أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حين
سألت عن دم الحيض يصيب الثوب فيقتصر عليه. قلت: قال في " الدراية ": العبرة
بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ثم قال: كذا قيل، وفيه تأمل ظاهر، والأوجه أن
يقال: الموجب لوجوب تطهير الحيض كونه نجساً فلا خصوصية له بذلك فكل من كان
نجساً يلحق به. ثم إن المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - استدل بالآية والحديث
المذكور على وجوب طهارة ثياب المصلي ويأتي وجه وجوب طهارة البدن والمكان.
م: (إذا وجب التطهير) ش: أي تطهير المصلي بما ذكرنا م: (في الثوب) ش: أي في
اشتراط طهارة ثوب المصلي بما ذكره من الآية والحديث م: (وجب في البدن) ش:
أي وجب التطهير في بدن المصلي م: (والمكان) ش: أي وفي المكان الذي يصلي
عليه م: (لأن الاستعمال) ش: أي استعمال المصلي م: (في حالة الصلاة يشتمل
الكل) ش: أي الثوب والبدن والمكان، وجه ذلك أن التمسك بالنص يكون بطرق
أربعة: بالعبارة والدلالة والإشارة والاقتضاء، ثم وجوب تطهير الثوب ثبت
(1/702)
ويجوز تطهيرها بالماء وبكل مائع طاهر يمكن
إزالتها به
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بالعبارة والبدن والمكان بالدلالة، وهذا لأن تطهير الثوب إنما وجب للصلاة
لأنها مناجاة مع الرب وهي أعلى حالة العبد، فيجب أن يكون المصلي على أحسن
حاله وذلك في طهارته وطهارة ما حل به، وقد وجب عليه تطهير الثوب بالنص مع
قصور اتصاله به وتصور الصلاة بدونه في الجملة فلأن يجب عليه تطهير بدنه
ومكانه مع كمال اتصالهما به لقيامه بهما وعدم تصور الصلاة بدونهما بطريق
الأولى.
ويستدل أيضاً في وجوب طهارة الثوب بما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
- قال - حين أجنب في ثوبه -: أغسل ما رأيت وأنضح ما لم أره، ومثله عن أبي
هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ذكرهما أبو عمر في " التمهيد ". واستدل في
وجوب طهارة بدن المصلي بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في
الذي [أمذى] : «توضأ وانضح فرجك» رواه مسلم، والمراد من النضح الغسل،
والدليل عليه ما رواه البخاري: «اغسل ذكرك وتوضأ» ، وقد ذكرنا أن النضح
كثرة الصب مستدل في وجوب طهارة المكان بما رواه عن أنس عن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «جعلت لي كل أرض طيبة مسجدا وطهورا»
. قال في " الإمام ": هذا حديث صحيح أخرجه الإمام أبو بكر بن [أبي شيبة في
"مصنفه "] ، فدل على اشتراط طهارة مكان الصلاة كطهارة الثياب للمتيمم ونهى
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة في الأماكن
السبعة، رواه ابن ماجه لأنها مظنة النجاسات، ولما حمل عمر - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - عن صخرة بيت المقدس التراب والزبل الذي كان عليها نهى الناس أن
يصلوا عليها حتى يصبها ثلاث مطرات، رواه حرب بإسناده، فأفاد نجاسة الزبل
وأنها مانعة من جواز الصلاة عليها.
[ما يجوز التطهير به وما لا يجوز]
م: (ويجوز تطهيرها) ش: أي تطهير النجاسة، وقد ذكرنا أن المراد به إما المحل
أو الإزالة، وإنما قال: ويجوز ولم يقل ويجب لأن استعمال عين الماء ليس
بواجب عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - بل إزالة النجاسة واجبة بأي
مائع طاهر مزيل كان على ما يأتي الآن م: (بالماء) ش: الباء متعلق بالتطهير
م: (وبكل مائع طاهر يمكن إزالتها به) ش: أي إزالة النجاسة بالمائع الطاهر،
وشرط ثلاثة أشياء في جواز استعمال غير الماء في إزالة النجاسة:
الأول: كونه مائعا يسيل كالخل ونحوه، لأنه إذا كان نجسا ليبقا كالدبس ونحوه
لا يجوز.
الشرط الثاني: أن يكون المائع طاهرا لأن النجس لا يزيل النجاسة، وقال
الأكمل: قوله طاهرا، احتراز من بول ما يؤكل لحمه فإن الأصح أن التطهير لا
يحصل به، وقيل: يحصل حتى لو غسل الدم بذلك رخصنا فيه ما لم يفحش. قلت: لا
وجه لتخصيص الاحتراز بالطاهر عن بول
(1/703)
كالخل وماء الورد ونحو ذلك مما إذا عصر
انعصر وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وقال محمد وزفر
والشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: لا يجوز إلا بالماء؛ لأنه يتنجس بأول
الملاقاة، والنجس لا يفيد الطهارة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ما يؤكل لحمه، فإن الماء المستعمل أيضاً مائع، ولكنه غير طاهر على إحدى
الروايات عن أبي حنيفة كما مر بيانه فيما مضى.
الشرط الثالث: أن يكون المائع الطاهر مزيلاً كالخل وماء الورد ونحوهما،
واحترز به عن الدهن والدبس واللبن ونحوها، فإن بها يبسط النجاسة ولا تزول،
وفي " الذخيرة ": روى الحسن عن أبي يوسف لو غسل الدم من الثوب بدهن أو سمن
أو زيت حتى أذهب أثره جاز، ومثله رواية بشر عنه في اللبن، وفي بول ما يؤكل
لحمه اختلف المشايخ فيه، والصحيح أنه لا يطهر، ذكره السرخسي.
وفي " المحيط ": في اللبن روايتان، وفي بعض نسخ " المحيط ": والماء
المستعمل ولا حجة له إلا على رواية عن أبي حنيفة أنه طاهر. وفي " شرح أبي
ذر " ويجوز إزالة النجاسة بالماء المستعمل ونحو ذلك مما إذا عصر انعصر
كشراب التفاح وسائر الثمار والأشجار والبطيخ والقثاء والصابون والباقلاء
والأنبذة وماء الخلاف والبنوفة واللبسان وكل ما اختلط به طاهر وغلب عليه
وأخرجه عن طبع الماء وصار مقيداً فهو في حكم المائع ذكره الطحاوي.
وفي " المغني ": عن أحمد ما يدل على ذلك، وعن أبي يوسف أنه لا يجوز في
البدن إلا الماء ومثله عن أبي حنيفة ذكره في " العيون ".
ثم إن المصنف ذكر هاهنا ما ذكره القدوري وهو أنه لم يفرق بين الثوب والبدن،
قال: ويجوز تطهيرها بالماء وبكل مائع على ما يأتي الآن.
م: (كالخل وماء الورد) ش: والماء المستعمل بين به الطاهر المائع المزيل م:
(ونحو ذلك) ش: بالجر عطف على قوله: كالخل وإنما أفرد الضمير وإن كان
المعطوف عليه اثنان باعتبار كل واحد منهما م: (مما إذا عصر انعصر) ش: كماء
البطيخ وسائر الثمار وقد ذكرناه. وقوله: وانعصر من باب الانفعال وهو
للمطاوعة بقوله عصر مطاوع بفتح الواو، وقوله: انعصر مطاوع بالكسر لأنه طاوع
الأول وهو بالفتح لأنه طاوعه الثاني.
م: (وهذا) ش: أي جواز تطهير النجاسة بالمائع الطاهر المزيل م: (عند أبي
حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله -، وقال محمد وزفر والشافعي - رَحِمَهُمُ
اللَّهُ -: لا يجوز إلا بالماء) ش: وبه قال مالك وعامة الفقهاء م: (لأنه)
ش: أي لأن الماء م: (يتنجس بأول الملاقاة) ش: يعني لاختلاطه بالنجاسة م:
(والنجس لا يفيد الطهارة) ش: لأن الماء صار نجساً بملاقاته النجاسة، فلم
يبق له قوة الإزالة. م:
(1/704)
إلا أن هذا القياس ترك في الماء للضرورة،
ولهما أن المائع قالع والطهورية في الماء بعلة القلع والإزالة والنجاسة
للمجاورة،
فإذا انتهت أجزاء النجاسة يبقى طاهرا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(إلا أن هذا القياس ترك في الماء للضرورة) ش: هذا جواب عما أورد على ما
قاله محمد تقرير الإيراد أن يقال: إن الذي قلته هو القياس في الماء أيضاً
وينبغي أن لا يجوز إزالة النجاسة بالماء أيضاً.
وتقرير الجواب أن الحكم في الماء ثبت بخلاف القياس؛ لأجل الضرورة وللنظافة
وسرعة اتصاله. وسائر هذه المائعات لا نص فيها فبقي على أصل القياس يؤيده
قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اغسليه بالماء" فلا يجوز
بغيره لأن الأمر للوجوب، ولأن الله تعالى ذكر الماء في معرض الامتنان
والإنعام فقال: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11] (الأنفال: الآية 11) ، فدل على اختصاص
الطهر به، ولأن النجاسة الحقيقية تمنع جواز الصلاة فلا تزول بغير الماء
قياسا على النجاسة الحكمية.
م: (ولهما) ش: أي لأبي حنيفة وأبي يوسف م: (أن المائع قالع) ش: من قلع
الشيء واقتلعه إذا أزاله من موضعه من باب فعل يفعل بالفتح فيهما، وكانت
العلة في الماء الإزالة م: (والطهورية في الماء بعلة القلع والإزالة) ش:
وغير الماء كالخل يشاكله في الإزالة بل أولى وأقوى: لأن الخل أقلع للنجاسة
من الماء لأنه يزيل اللون والدسومة لما فيه من الشدة والحموضة، وفي الألوان
ما لا يزول بالماء وماء الورد يزيل العين والرائحة.
م: (والنجاسة للمجاورة) ش: هذا جواب عن استدلال محمد ومن معه بقولهم: لأن
الماء [يتنجس] بأول الملاقاة، تقديره: أن النجاسة لم تنجس المحل بعينه بل
كانت للمجاورة وإن كانت نجسة بأول الملاقاة.
م: (فإذا انتهت أجزاء النجاسة) ش: بانتهاء أجزائها المتناهية لتركبها من
جواهر لا يتجزأ م: (يبقى) ش: أي المحل م: (طاهراً) ش: لزوال النجاسة
بالعصر، لأنه إذا عصر يخرج منه ويصحبه ما يلاقيه من أجزاء النجاسة هكذا في
المرة الثانية والثالثة إلى أن يزول محل الأجزاء فيبقى المحل طاهراً
لانتقال النجس إلى الماء جزءاً فجزء، لأن الشيء الواحد محال أن يكون في
محلين في حالة واحدة، والحكم إذا ثبت لمعنى يزول بزوال ذلك المعنى، ولهذا
لو قلع محل النجاسة بقي الثوب طاهراً.
وقال الأكمل: لا يقال التعليل بالقلع لا يجوز، لأن النص يقتضي الغسل
بالماء، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اغسليه بالماء"، قلت:
هذا السؤال للأترازي، وتقرير الجواب أن يقال: إن اقتضاء النص الغسل بالماء
لذاته أم لغيره؟
(1/705)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: لذاته فلا نسلم لأن المصلي إذا قرض موضع النجاسة وصلى بذلك الثوب
جاز، فعلم أن استعمال عين الماء ليس بواجب، وإن قلت: لغيره وهو التطهير
فنقول نعم، ولكن يحصل الطهارة بغيره كالخل، فإنه إذا استعمل مكررا يحصل
التطهير كما يحصل بالماء. وقال تاج الشريعة: فإن قلت: لو كان القلع علة
لوجب أن يجوز بشيء نجس. قلت: ولهذا إذا زالت النجاسة الغليظة ببول ما يؤكل
لحمه يكون حكم ذلك الشيء بعد الغسل حكم بول ما يؤكل لحمه حتى لا يمنع جواز
الصلاة ما لم يبلغ ربع الثوب.
فإن قلت: محمد ومن معه احتجوا بالحديث أيضاً وهما لا يحتجا إلا بالمعقول.
قلت: ما اكتفيا بذلك بل احتجا بالحديث أيضاً وهو ما رواه البخاري في "صحيحه
" عن مجاهد قال: قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ما كان لإحدانا إلا
ثوب واحد تحيض فيه، فإذا أصابه شيء من دم الحيض قالت بريقها فقصعته بظفرها.
وروى أبو داود عن مجاهد قال: قالت: ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد فيه تحيض،
فإذا أصابه شيء من دم بلته بريقها ثم قصعته بظفرها، ولو كان الدم بالدلك
بريقها لا يطهر لكان ذلك تكثراً للنجاسة، ومع الكثرة لا تصفى والمضغ
والقصع: الحك بالظفر، ومنه قصع القملة.
فإن قلت: يعد قوله بالأمر في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
"اغسليه" وقالوا الأمر للوجوب، قلت: لا نسلم أنه أمر بالغسل بالماء بل
الأمر متعلق بنفس الغسل والإباحة بوصف الماء، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} [النساء: 25] (النساء: الآية 25) ،
فعلق الأمر بالإذن والإباحة بنفس النكاح فثبت بهذا أن يجوز أن يكون أحدهما
واجباً والآخر مباحاً.
فإن قلت: نص على الغسل بالماء. قلت: هو مفهوم اللقب وهو غير حجة، ولأنه خرج
مخرج الغالب في الاستعمال لا الشرط، ولأن تخصيص الشيء بالذكر لا ينفي الحكم
عما عداه عندنا.
فإن قلت: غسله بالخل وماء الورد والخلاف إضاعة للمال وهي منهي عنها. قلت:
إنفاق المال لغرض صحيح يجوز فلا يكون إضاعة، والماء بعد الإحراز في الأواني
يكون مملوكاً، وقال: فلا يجوز استعمال إضاعة المال ويفرض المال فيما إذا
كان للماء عزة فوق الخل، ولو سلم منع استعمال الخل في إزالة النجاسة فإذا
استعمل فيها [ما] يزيلها كالماء الممنوع من استعماله لأجل العطش لو توضأ به
وترك التيمم جاز، وكذا المغصوب.
[الماء القليل إذا ورد على النجاسة]
فروع: الماء القليل إذا ورد على النجاسة تنجس بها الماء، وقال أحمد: إن كان
أرضاً فهو طاهر، وفي غير الأرض وجهان، وقال الإمام مالك: لا فرق بين ورود
الماء على النجاسة وورود النجاسة على الماء، لا ينجس فيهما إلا بالتغيير،
وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن ورود الماء على النجاسة يوجب
تنجيسه، وورود النجاسة على الماء دون القلتين ينجسه وإن كانت النجاسة
(1/706)
وجواب الكتاب لا يفرق بين الثوب والبدن،
وهذا قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وإحدى الروايتين عن أبي يوسف -
رَحِمَهُ اللَّهُ -، وعنه أنه فرق بينهما فلم يجز في البدن بغير الماء،
وإذا أصاب الخف نجاسة لها جرم كالروث والعذرة والدم والمني فجفت فدلكه
بالأرض جاز، وهذا استحسان.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وجواب الكتاب) ش: أي " مختصر القدوري " وهو قوله: ويجوز تطهيرها بالماء
وبكل مائع ... إلخ م: (لا يفرق بين الثوب والبدن) ش: لأنه أطلق في قوله:
ويجوز
إلخ. ولم يقيد الثوب م: (وهذا) ش: أي عدم الفرق م: (قول أبي حنيفة -
رَحِمَهُ اللَّهُ - وإحدى الروايتين عن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ -
وعنه) ش: أي وعن أبي يوسف م: (أنه فرق بينهما) ش: أي بين الثوب والبدن بغير
الماء م: (فلم يجز في البدن بغير الماء) ش: وهو راوية لخبر ابن أبي مالك
عنه لأن غسل البدن طريقة العبادة، فاختص بالماء كالوضوء وغسل الثوب، طريقه
إزالة النجاسة لإبعاده فلا يختص بالماء. وقال الأترازي: وذكر في بعض نسخ
القدوري الماء المستعمل فقال: كالخل وماء الورد والماء المستعمل، وقال أبو
نصر البغدادي في " الشرح الكبير " للقدوري: وأما جوازه بالماء المستعمل
فلأنه طاهر على رواية محمد عن أبي حنيفة بمنزلة الخل.
[كيفية تطهير الخف الذي لحقته نجاسة]
م: (وإذا أصاب الخف نجاسة لها جرم) ش: أي حبسته والجملة حالية وقعت بدون
الواو وهو جائز على العلة م: (كالروث والعذرة) ش: بفتح العين المهملة وكسر
الذال المعجمة وهي الغائط التي لقيها الناس م: (والدم والمني فجفت) ش: أي
يبست م: (فدلكه بالأرض جاز) ش: وهنا قيود:
الأول: قيد بالخف لأن الثوب لا يطهر إلا بالغسل إلا في المني.
الثاني: قيد بالجرم لأن ما لا جرم له لا يطهر بالدلك، وإن جف إلا إذا التصق
به من التراب أو رمل فجف بعد ذلك.
الثالث: قيد بالجفاف لأن ما له جرم من النجس إذا أصاب الخف ولم يجف لا يطهر
بالدلك إلا في رواية عن أبي يوسف.
الرابع: قيد بالدلك لأنه بالغسل يطهر اتفاقاً. وقال محمد: لا يطهر بالدلك
إلا في المني على ما يجيء.
م: (وهذا استحسان) ش: أي الجواز في الصورة المذكورة استحسان، أي مستحسن
بالأثر على ما يأتي. وفي " المحيط ": ذكر في " الجان ": النجاسة التي لها
جرم إذا أصابت الخف فحكها أو حتها بعدما يبست بطهر في قولهما، قال القدوري:
هذا في حق الصلاة، وأما لو أصاب الماء بعد ذلك يعود نجسا في رواية، وفي
الأصل إذا مسحها بالتراب تطهر، وقيل: الدلك رواية
(1/707)
وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يجوز
وهو القياس إلا في المني خاصة، لأن المتداخل في الخف لا يزيله الجفاف
والدلك بخلاف المني على ما نذكره، ولهما قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -:
«فإن كان بهما أذى فليمسحهما بالأرض فإن الأرض لهما طهور»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الأصل.
م: (وقال محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يجوز) ش: وبه قال زفر والشافعي في
الجديد، ومالك في العذرة والبول. وأما في أرواث الدواب له روايتان إحداهما:
الغسل، والثانية: يمسح، وقال الشافعي في القديم: إذا دلكه بالأرض كان
عفواً. وقال أحمد: يجب غسل جميع النجاسات إلا الأرض إذا أصابها نجاسة.
واختلف أصحابه في ضم التراب. وفي " المحيط ": والصحيح أن محمدا رجع عن هذا
القول لما رأى من كثرة السرقين في الطرق.
م: (وهو القياس) ش: أي قول محمد هو القياس كما في الثوب م: (إلا في المني
خاصة) ش: الاستثناء من قوله: لا يجوز، فإنه قال: يطهر في المني بالدلك
والفرك إذا جف على الثوب.
فإن قلت: لفظ خاصة منصوب بماذا وما [في] معناه. قلت: خاصة اسم بمعنى
اختصاصاً من قولهم: خص بالشيء يختصه خصاً وخصوصاً بفتح الخاء وخصوصاً بالضم
وخصوصية وخصيصي وخصيصاً عن ابن الأعرابي وخصه يخصه عن ابن عباد إذا فضله
واختار ثعلب الخصوصية بفتح الخاء وخصه بالرد لذلك، وأما انتصابه فعلى أنه
قائم مقام المصدر.
م: (لأن المتداخل في الخف لا يزيله الجفاف والدلك) ش: لأن الجلد يتشرب
فيصير كالثوب والبدن فإنهما لا يطهران إلا بالغسل فكذلك الخف م: (بخلاف
المني على ما نذكره) ش: لأنه خص بالنص على القياس فلا يقاس عليه غيره.
م: (ولهما) ش: أي ولأبي حنيفة وأبي يوسف م: (قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ -: «فإن كان بهما أذى فليمسحهما بالأرض فإن الأرض لهما طهور»
ش: هذا الحديث روي عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ -.
أما حديث أبي هريرة فرواه أبو داود من طريقين: أحدهما: عن محمد بن كثير
الصنعاني عن الأوزاعي عن ابن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن
أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: «إذا وطئ أحدكم الأذى بخفيه فطهورهما التراب» ، رواه ابن
حبان في
(1/708)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
"صحيحه ". وقال: حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، وقال النووي في "
الخلاصة ": رواه أبو داود بإسناد صحيح.
الثاني: عن عمر بن عبد الواحد عن الأوزاعي قال: أنبئت أن سعيدا المقبري حدث
عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قال: «إذا وطئ أحدكم بنعله الأذى فإن التراب له طهور» .
فإن قلت: قال ابن القطان في "كتابه" عن الطريق الأول: هذا الحديث رواه أبو
داود من طريق لا يظن بها الصحة، فإنه رواه من حديث محمد بن كثير عن
الأوزاعي، ومحمد بن كثير: الصنعاني الأصل المصيصي الدار أبو يوسف ضعيف،
وأضعف ما هو من الأوزاعي، قال عبد الله بن أحمد: قال أبي: هو منكر الحديث
يروي أشياء منكرة. وقال صالح بن محمد بن حنبل: قال أبي: هو عندي ليس بثقة.
وقال المنذري في "مختصره ": الأول: فيه محمد بن عجلان، وفيه مقال لم يحتجا
به، والثاني: فيه مجهول. قلت: محمد بن كثير سئل عنه يحيى بن معين فقال: كان
صدوقاً ثقة، وقال ابن سعد: كان ثقة، ومحمد بن عجلان وثقه يحيى وأبو زرعة
وأبو حاتم والنسائي وصحح الطريق من ذكرناهم، والثاني قائل بالأول. ولنا
حديث أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فرواه أبو داود أيضاً في "
الصلاة " عن موسى بن إسماعيل عن حماد بن سلمة عن أبي نعامة السعدي عن أبي
نضرة عن أبي سعيد الخدري قال: «بينما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره، فلما رأى القوم
ذلك ألقوا نعالهم، فلما قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- قال: "ما حملكم على إلقائكم نعالكم" قالوا: رأيناك ألقيت نعليك فألقينا
نعالنا، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن جبريل
- عَلَيْهِ السَّلَامُ - أتاني فأخبرني أن فيهما قذراً، وقال: إذا جاء
أحدكم إلى المسجد فلينظر، فإن رأى في نعليه قذراً أو أذى فليمحه وليصل
فيهما» ورواه ابن حبان أيضاً في "صحيحه "، ولم يقل: "وليصل فيهما"، ورواه
عبد بن حميد وإسحاق بن راهويه وأبو يعلى الموصلي في "مسانيدهم " بنحو أبي
داود - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأبو نعامة اسمه [......] ، وأبو نضرة اسمه
المنذر بن مالك البصري.
وأما حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فرواه أبو داود أيضاً عن محمد
بن الوليد أخبرني
(1/709)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
سعيد بن أبي سعيد عن القعقاع بن حكيم عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -
عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمعناه ولم يذكر لفظه،
ورواه ابن عدي في " الكامل " عن عبد الله بن زياد بن سمعان القرشي مولى أم
سلمة عن سعيد المقبري عن القعقاع بن حكيم عن أبيه «عن عائشة - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا - سألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
الرجل يطأ بنعله في الأذى، قال: "التراب لهما طهور» ، وعبد الله بن زياد
ضعفه البخاري ومالك وأحمد وابن معين، ورواه الدارقطني مسنداً إلى ابن سمعان
وهو ضعيف، وقال ابن الجوزي: قال مالك: هو كذاب، وقال أحمد: متروك الحديث.
قوله: الأذى، أراد به النجاسة، وينحل النعل: الحذاء مؤنثة وتصغيرها فعيلة،
وقال ابن الأثير: وهي التي تلبس في المشي مملوة.
وجه الاستدلال بالأحاديث المذكورة ظاهر، فإنه قال فإن طهورهما التراب أي
يزيل نجاستهما، وكان الأوزاعي يستعمل هذا الحديث على ظاهره وقال: يجزئه أن
يمسح القذر في نعله أو خفه بتراب ويصلي فيه، وروي مثله عن عروة بن الزبير
وكان النخعي يمسح النعل والخف يكون فيه السرقين عن باب المسجد ويصلي
بالقوم.
وقال أبو ثور في الخف والنعل: إذا مسحهما بالأرض حتى لا يجد له ريحاً ولا
أثراً رجوت أن يجزئه.
فإن قلت: الحديث مطلق فلم قيده أبو حنيفة بقوله النجاسة التي لها جرم؟ قلت:
التي لا جرم لها خرجت بالتعليل، وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «فإن التراب لهما طهور» أي مزيل نجاسته، ونحن نعلم يقيناً أن
النعل والخف إذا شرب البول أو الخمر لا يزيله المسح ولا يخرجه من أجزاء
الجلد فكان الخلاف في الحديث مصروفاً إلى الأذى الذي يقبل الإزالة بالمسح
حتى إن البول أو الخمر لو استجر بالرمل أو التراب فجف فإنه يطهر أيضاً
بالمسح على ما قال شمس الأئمة وهو الصحيح فلا فرق بين أن يكون جرر النجاسة
منهما أو من غيرهما، هكذا ذكر الفقيه أبو جعفر والشيخ الإمام أبو بكر بن
محمد ابن الفضل عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعن أبي يوسف مثل ذلك
إلا أنه لم يشترط الجفاف.
فإن قلت: لعل الأذى المذكور في الحديث كان طيناً. قلت: الأذى في لسان الشرع
يحمل على النجاسة كناية عن عينها، ولو كان طيناً لصرح باسمه ولم يذكره
بالكناية لما فيه من اللبس، ويدل عليه قوله: «فإن الأرض لهما طهور» .
(1/710)
ولأن الجلد لصلابته لا يتداخله أجزاء
النجاسة إلا قليلا، ثم يجتذبه الجرم إذا جف، فإذا زال زل ما قام به،
وفي الرطب لا يجوز حتى يغسله لأن المسح بالأرض يكثره ولا يطهره. وعن أبي
يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه إذا مسحه بالأرض حتى لم يبق أثر النجاسة
يطهر لعموم البلوى، وعليه مشايخنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وإطلاق ما يروى:
فإن أصابه بول فيبس لم يجز حتى يغسله
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت: لم يفصل بين النجاسة التي لا جرم لها وبين التي لها جرم، فإن اسم
الأذى يطلق عليهما وكذلك لم يفصل بين الرطب واليابس وأنتم قد فصلتم؟ قلت:
بل فصل الحديث بين الرطب واليابس بالتعليل الذي ذكرناه أيضاً.
فإن قلت: حديث أبي سعيد ساقط العبرة لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لم
يستقبل الصلاة. قلت: يحتمل أن الحظر مع النجاسة ترك في ذلك الوقت ويحتمل أن
يكون لأقل من قدر الدرهم كذا في " المبسوط " و " الأسرار ".
م: (ولأنه الجلد لصلابته لا يتداخله أجزاء النجاسة إلا قليلاً) ش: لأن صلبة
الجلد وكثافة النجاسة يمنعان شربها فيه، ورخاوتها بعد اليسير، حذف إليها،
فلا يبقى فيها إلا قليل وهو معفو م: (ثم يجتذبه الجرم إذا جف) ش: يعني
يجذبه الجرم إلى نفسه م: (فإذا زال) ش: أي الجرم م: (زال ما قام به) ش: أي
بالجرم، لأنه لما جذبه إلى نفسه فيبس مع الجرم فلا يبقى إلا اليسير وهو عفو
بخلاف البدن، لأن رطوبته ولينه وما به من العرق يمنع من الجفاف، وبخلاف
الثوب لأن النجاسة متداخلة فلا يخرجها إلا الماء والاحتراز عن النجاسة فيه
ممكن.
م: (وفي الرطب) ش: أي وفي النجس الرطب م: (لا يجوز حتى يغسله، لأن المسح
بالأرض يكثره) ش: أي يكثر النجس بالرطب، لأنه ينشر ويتلوث ما لم يصبه أيضاً
م: (ولا يطهره) ش: أي لا يطهر الخف لانتشار النجس فيه.
م: (وعن أبي يوسف أنه إذا مسحه بالأرض) ش: أي إذا مسح النجس بالأرض يعني
إذا دلكه على سبيل المبالغة م: (حتى لم يبق أثر النجاسة يطهر لعموم البلوى)
ش: أي البلية، وكذلك البلية بكسر الباء وسكون اللام، والبلوى بالكسر أيضاً،
والبلاء كلها أسماء وهذه من المواد الناقصة الواوية م: (وعليه مشايخنا) ش:
أي على قول أبي يوسف مشايخ ما وراء النهر م: (وإطلاق ما يروى) ش: يعني
إطلاق قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإن كان بهما أذى، حيث
لم يفصل بين الرطب واليابس، والجواب عن هذا الإطلاق قد مر آنفاً. وفي "
فتاوى أهل المصر " ذكر الجلائي في صلاته لو أصابت النجاسة الخف أو الكعب أو
الجرموق فأمر الماء عليه ثلاث مرات تطهر من جفاف.
م: (فإن أصابه بول) ش: أي فإن أصاب الخف بول م: (فيبس لم يجز حتى يغسله) ش:
لتمكن
(1/711)
وكذا كل ما لا جرم له كالخمر، لأن الأجزاء
تتشرب فيه ولا جاذب يجذبها، وعن أبي يوسف أن ما يتصل به من الرمل، والرماد
والتراب الناعم جرم له،
والثوب لا يجزئ فيه إلا الغسل وإن يبس، لأن الثوب لتخلخله يتداخله كثير من
أجزاء النجاسة فلا يخرجها إلا الغسل،
والمني نجس يجب غسله رطبا فإذا جف على الثوب أجزأ فيه الفرك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
البول فيه بالجفاف م: (وكذا كل ما لا جرم له) ش: أي وكذا لا يجوز إذا أصاب
الخف كل ما لا يجرم له م: (كالخمر لأن الأجزاء) ش: لأن أجزاء الخمر أو
البول م: (تتشرب فيه) ش: أي في الخف م: (ولا جاذب يجذبها) ش: أي يجذب أجزاء
النجاسة [......] .
م: (وعن أبي يوسف أن ما يتصل به) ش: أي بالخف الذي أصابته النجاسة الرطبة
م: (من الرمل والرماد والتراب الناعم جرم له) ش: أي الذي أصابه، فإذا جف
فدلكه بالأرض طهر كالتي لها جرم.
[كيفية تطهير الثوب الذي لحقته نجاسة]
م: (والثوب لا يجزئ فيه إلا الغسل وإن يبس؛ لأن الثوب لتخلخله) ش: أي لكون
فرج في خلاله، وقولهم - أجزاء الثوب يخلخله - أي في خلالها فرج لرخاوتها
وتكون مجوفة غير يسيرة م: (يتداخله كثير من أجزاء النجاسة فلا يخرجها) ش:
أي أجزاء النجاسة م: (إلا الغسل) ش: بالماء أو بمائع طاهر مزيل. وقال
النسفي: الخف الخرساني الذي ضرمه توسخ فالقول حكمه حكم الثوب لا يطهر
بالدلك بل يغسل ثلاثاً ويجفف في كل مرة.
[حكم المني وكيفية تطهيره]
م: (والمني نجس) ش: وبه قال مالك والثوري والأوزاعي والحسن بن حي وأحمد في
رواية.
إلا أن مالكا قال: يغسل رطبه ويابسه، وهو قول الحسن البصري، وقول بعض مشايخ
بلخ مثل: محمد بن الأزهري وأبي معاذ البلخي م: (يجب غسله رطباً) ش: أي حال
كونه رطباً.
م: (فإذا جف على الثوب أجزأ فيه الفرك) ش: أي كفى فيه الدلك والحك، وقوله -
أجزأ - من الإجزاء، يقال أجزأني الشيء أي كفاني وهي لغة بني تميم، وعن
الأزهري: [قال] بعض الفقهاء: أجزى بمعنى قضى، والمعنى على هذا أجزى الفرك
عن الغسل أي ناب عنه وأغنى.
قلت: الأول مهموز، والثاني ناقص.
وقال أبو إسحاق الحافظ: المني اليابس إنما يطهر بالفرك إذا كان رأس الذكر
طاهراً وقت خروجه بأن كان بال واستنجى، أما إذا لم يكن طاهراً فلا.
وهكذا روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقال الفقيه
أحمد بن إبراهيم: وعندي أن المني إذا خرج في رأس الإحليل عل سبيل الدفق ولم
ينشر على رأسه فإنه يطهر بالفرك، لأن البول الذي هو داخل الإحليل غير
معتبر، ومرور المني عليه غير مؤثر.
(1/712)
لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لعائشة -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «فاغسليه إن كان رطبا وافركيه إن كان يابسا»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فأما إذا انتشر المني على رأس الإحليل لا يكتفي بالفرك، فعلى هذا القول إذا
بال ولم يتجاوز البول ثقب الإحليل حتى لم يصل رأس الإحليل شيء من البول ثم
احتلم يكفي فيه الفرك. قيل: أيضاً إذا كان رأس الإحليل طاهراً وإنما يطهر
المضاف بالفرك إذا خرج المذي قبل خروج المني على رأس الإحليل ثم خرج المني
لا يطهر الثوب بالفرك إلا أن يقال إنه مغلوب بالمني فيجعل تبعاً له، وروي
عن محمد: إن كان المني غليظاً فجف يطهر بالفرك أعلاه، و [أما] أسفله فلا
يطهر إلا بالغسل.
كذا في " المبسوط ". وفي " فتاوى قاضي خان ": الثوب إذا أصابه المني ويبس
وفرك يحكم بطهارته في قولهما، وعن أبي حنيفة روايتان، وأظهرهما أن بالفرك
فعل النجاسة تجوز الصلاة فيه. وإذا أصابه الماء يعود نجساً في أظهر
الروايتين عن أبي حنيفة، وعندهما لا يعود نجسا، وعن الفضل أن مني المرأة لا
يطهر بالفرك لأنه رقيق، وعن محمد: أن المني إذا كان غليظاً فجف يطهر
بالفرك، وإن كان رقيقاً لا يطهر إلا بالغسل، وعن محمد: أن المني إذا كان
غليظاً فجف يطهر بالفرك، وإن كان رقيقاً لا يطهر إلا بالغسل، والصحيح أنه
لا فرق بين مني المرأة ومني الرجل كذا لو نفذ المني إلى البطانة يطهر
بالفرك قال المرغناني: هو الصحيح.
واختلف المتأخرون في الطار الباقي من الثوب، والصحيح أنه يطهر بالفرك
كالأعلى بخلاف لعابة الخف، ذكره في " المبسوط ".
وفي " شرح بكر ": أصاب الثوب دم عبيط فجف [فحينئذ] طهر الثوب كالمني.
م: «لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا -: "فاغسليه إن كان رطباً وافركيه إن كان يابساً» ش: هذا الحديث
بهذا اللفظ غريب، قال ابن الجوزي في " التحقيق ": والحنفية يحتجون على
نجاسة المني بحديث رووه «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أنه قال: لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - "اغسليه إن كان رطباً وافركيه
إن كان يابساً» قال: هذا الحديث لا يعرف، وإنما روي نحوه من حديث عائشة -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -.
قلت: عدم المعرفة منه أو من غيره لا يستلزم نفي معرفة غيره مع أن أصل
الحديث في الصحاح، وقد روى مسلم والأربعة «من حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا - قالت: كنت أغسل الجنابة من ثوب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فيخرج إلى الصلاة وإن بقع الماء في ثوبه، وقالت أيضاً: كنت
أفرك المني من ثوب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيصلى
فيه» . أخرجه مسلم وأبو داود.
(1/713)
وقال الشافعي: المني طاهر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وروى الدارقطني والبيهقي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: "كنت
أغسل المني من ثوب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا
كان رطباً وأفركه إذا كان يابساً» ، ورواه البزار في "مسنده " وقال: لا
نعلم أحداً أسنده عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - إلا عبد الله بن
الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ورواه غيره عن حمزة مرسلاً، ومن الناس
من حمل فرك الثوب على غير الثوب الذي يصلى فيه.
ورد هذا ما وقع في صحيح مسلم «كنت أفركه من ثوب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيصلي فيه» وعند أبي داود - ويصلي فيه - والفاء ترفع
احتمال غسله بعد الفرك، وحمله بعض المالكية على الفرك بالماء، ويرده ما صح
أيضاً: لقد رأيتني وإن لأحكه من ثوب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يابساً بظفري.
وأما الآثار في ذلك فكثيرة روى ابن أبي شيبة في "مصنفه " سأل رجل عمر بن
الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال إني احتلمت على طنفسة، فقال: إن كان
رطباً فاغسله، وإن كان يابساً فاحككه، وإن خفي عليك فارششه [بالماء] .
وعن عمر وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنهما يغسلان المني من الثوب،
وعن أبي هريرة في المني يصيب الثوب: إن رأيته فاغسله وإلا فاغسل الثوب كله،
ورواه الطحاوي، وعن جابر بن سمرة أنه سئل عن الثوب الذي يجامع أهله فيه قال
صل فيه إلا أن ترى منه شيئاً فتغسله ولا تنضحه، قال لأن النضح لا يزيل
الأثر، وسئل أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن قطيفة أصابها نجاسة لا يدري
موضعها قال: اغسلها، وعن الحسن أن المني بمنزلة البول، فهؤلاء الصحابة
والتابعون قد غسلوا المني، وأمروا بغسل الثياب منه، وهذا لإزالة النجاسة.
م: (وقال الشافعي المني طاهر) ش: هذا نص الشافعي، وحكى صاحب " البيان "
وبعض الخراسانيين قولين، ومنهم من قال قولين في مني المرأة فقط، قال
النووي: الصواب الجزم بطهارة منيه ومنيها والمسلم والكافر فيه سواء ينجس
منيها برطوبة فرجها إن قلنا بنجاستها، كما لو بال الرجل ولم يغسل ذكره، وفي
مني غير الآدمي ثلاثة أوجه أحدها: الجميع طاهر إلا مني الكلب والخنزير.
الثاني: أن الجميع نجس.
الثالث: أن مني ما يؤكل لحمه طاهر وغيره نجس. وأحمد مع الشافعي في أصح
قوليه. واحتج الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بما روي «عن عائشة -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: "كنت أفرك المني من ثوب رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم يصلي فيه ولا يغسله» ، رواه الطحاوي
وأخرجه البزار [عنها] ،
(1/714)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قالت: كنت أفرك المني من ثوب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وما أغسله، وروى أبو بكر بن خزيمة «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا - قالت: كنت أفرك المني من ثوب رسول الله، وهو يصلي» «وعن عائشة -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كانت تحت المني من ثيابه وهو في الصلاة» قال
البيهقي: ولو كان المني نجساً لما جازت الصلاة معه، «وكان - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "يسل المني من ثوبه بعرق الإذخر ثم يصلي فيه» رواه
أحمد. وعن ابن عباس، قال: «سئل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- عن المني يصيب الثوب فقال: هو بمنزلة المخاط والبصاق وإنما يكفيك أن
تمسحه بخرقة أو بإذخرة» رواه الدارقطني وقال: ولم يرفعه غير إسحاق الأزرق
عن شريك - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وقال الأترازي في المني عند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - طاهر لأنه
أصل الأنبياء، ولم يذكر له شيئاً غير ذلك من حديث أو أثر. ثم قال في جوابه
قلنا: أصل الأعداء أيضاً فنمرود وفرعون وغيرهما. وهذا ليس بشديد، والذي
قاله غيره، أن المني أصل البشر والطين خلق منه البشر فكان طاهراً كالطين
وأيضاً هو في بني آدم كماء البيض في الطيور وهو خارج من حيوان فكان المني
طاهراً كالبيض، وأيضاً أن حرمة الرضاع شبهت بحرمة النسب كاللبن الذي يحصل
به الرضاع طاهر، والمني الذي يحصل به النسب أولى لأنه أصل، والرضاع مجلوبة،
ومن ذلك قالت المالكية: المني [......] الشافعية. وقال النووي في " شرح
المهذب " أن المني يحل أكله في وجه، فعارضهم فقالوا: الكلب يحلله بعض
المالكية. [و] الجواب عن هذه الأشياء فنقول:
أما حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - الذي فيه: ولا يغسله، فقد قال
الطحاوي: وليس في هذا عندنا دليل على طهارته، وقد يجوز أن يكون كانت تفعل
به هذا فيطهر بذلك الثوب والمني في نفسه نجس.
كما قد روي فيما أصاب الفعل من الأذى حيث قال: فطهورهما التراب فكان ذلك
التراب يجري في غسلها وليس في ذلك دليل على طهارة الأذى في نفسه فكذلك ما
روي في المني على أنه قد روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ما يدل
على أن المني كان عندها نجساً وهو ما رواه الطحاوي ثنا ابن أبي داود قال:
ثنا منذر قال: ثنا يحيى بن سعيد عن شعبة عن عبد الرحمن بن قاسم عن أبيه عن
عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها قالت في المني إذا أصاب الثوب: إذا
رأيته فاغسله وإن لم تره فانضح، وهذا إسناد صحيح.
قلت: هذا لا يجري دعوى [الطحاوي] ، لأن الطحاوي بعد أن روى هذا الحديث قال:
ما
(1/715)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في ذلك دليل لأنه لو كان حكمه عندها حكم سائر النجاسات من الغائط والبول
والدم لأمرت بغسل الثوب كله، ولما كان الحكم عندها إذا كان موضعه من الثوب
غير معلوم النضح، ثبت بذلك أن حكمه كان عندها بخلاف سائر النجاسات. قلت: قد
روي في ذلك آثار كثيرة من الصحابة وهي التي ذكرناها عن قريب فكلها تدل على
نجاسته كما ذكرنا على أنا نقول أن النضح يأتي بمعنى الصب والغسل، وفي حديث
دم الحيض: «تقرصيه بالماء ثم تنضحيه» أي تغسله.
فإن قلت: لما اختلفت الأحاديث والآثار في حكم المني لم يدل دليل قطعاً على
نجاسته ولا على طهارته.
قلت: في مثل ذلك يرجع إلى النظر والقياس، فنقول المني حدث لأنه خارج عن
السبيل وكل خارج عن سبيل نجس، فالمني نجس.
فإن قلت: إذا ثبت كونه نجساً كان الواجب غسله مطلقاً رطباً كان أو يابساً
كسائر النجاسات. قلت: نعم كان القياس يقتضي ذلك، ولكنه ترك، بالأحاديث
الواردة بالفرك في يابسه.
وأما حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - الذي فيه «إنما هو بمنزلة
المخاط والبزاق» فالجواب عنه أنه موقوف، ولئن ثبت أنه مرفوع، فإنه يشهد لنا
من وجه لأنه أمر بالإماطة، ومطلق الأمر للوجوب، والتشبيه بالبزاق والمخاط
يشهد له فسقط الاحتجاج به.
وأما الجواب عن كونه أصل البشر فإنه لا ينفي النجاسة كالمضغة والعلقة.
وقال النووي: المني يستحيل في الرحم فيصير علقة وهي الدم الغليظ، ففي
نجاستها وجهان، قال أبو إسحاق: نجسة، وقال الصيرفي: طاهرة، فإذا استحال
بعده وصار قطعة لحم وهي المضغة فالمذهب عندهم القطع بطهارتها كالولد، وقيل
فيها الوجهان.
فإن قلت: لم يسمع هذا الذي ذكرتم في الجواب ولا يلزم إلزامكم بالعلقة
والمضغة قطعاً.
قلت: قال أبو إسحاق العراقي: المني يجري من الدماغ بعد نضجه ويصير دماً
أحمر في فقار الظهر إلى أن يصل إلى الكليتين فتنضجانه ثم تبعثانه إلى
الأنثيين فينضجانه منياً أبيضاً، فإذا كان كذلك ثبت أنه متولد من الدم وهو
نجس، والنجس لا ينقلب عندهم طاهراً إلا الماء النجس إذا صار قلتين، والخمر
إذا تخللت بنفسها، وذكر الأكمل للشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حديث ابن
عباس أنه قال: المني كالمخاط فأمطه عنك ولو بإذخرة، لم يحصل جوابه أنه
موقوف فلا يصح الاحتجاج به. قلت: يعني عند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
- وكان ينبغي أن يستدل بحديث من الأحاديث المرفوعة الصحيحة التي ذكرها، ثم
يجيب عنه، فكيف يذكر له أثر وهو لا يقول به؟ وهذا عجيب وقصور ممن يتصدى
لترجيح مذهبه.
(1/716)
والحجة عليه ما رويناه، وقال - عَلَيْهِ
السَّلَامُ -: «إنما يغسل الثوب من خمس، وذكر منها: المني»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (والحجة عليه) ش: أي على الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (ما
رويناه) ش: وهو حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - المذكور، وقال
الأكمل: فإن قيل: إذا استدل الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بحديث ونحن
بحديث فما وجه قول المصنف والحجة عليه ما رويناه. فالجواب أن وجه ذلك أن
حديثه لا يدل عليه، لأن قوله كالمخاط لا يقتضي أن يكون طاهراً لجواز أن
يكون التشبيه في اللزوجية وقلة التداخل وطهارته بالفرك والأمر بالإماطة مع
كونه للوجوب يستدعي أن يكون نجساً لأن إزالة ما ليس بنجس ليست بواجبة.
قلت: هذا السؤال إنما يرد لو كان الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يرى
بالأثر المذكور، ويقول به، نعم لو ذكر له حديثاً من الأحاديث كان يتوجه
السؤال، وتشبيه ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - له بالمخاط إنما كان
في النظر والبشاعة لا في الحكم بدليل ما ذكرنا من أدلة نجاسته، والأمر
بالإماطة ليتمكن من غسل محله.
م: (وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما يغسل الثوب من خمس
وذكر منها المني» ش: هذا دليل آخر عل نجاسة المني، وهذا قطعة من حديث رواه
الدارقطني من حديث ثابت بن حماد عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب «عن عمار
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: مربي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وأنا أسقي راحلة لي في ركوة إذ انتخمت فأصابت نخامتي ثوبي،
فأقبلت أغسلها، فقال: "يا عمار ما نخامتك ولا دموعك إلا بمنزلة الماء الذي
في ركوتك إنما يغسل الثوب من خمس: من البول، والغائط، والمني، والدم،
والقيء» وفي " الأسرار ": الخمر مكان القيء، وجه الاستدلال به ظاهر وهو أنه
يدل على نجاسة المني.
فإن قالت: الاستدلال به يقتضي غسله رطباً ويابساً، ولستم قائلين به فكان
متروكاً.
قلت: حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - في جواز فرك اليابس، ويحمل هذا
على الرطب توفيقاً بين الحديثين، والنخامة بضم النون ما يخرج من الخيشوم.
فإن قلت: قال الدارقطني: لم يرو حديث عمار غير ثابت بن حماد وهو ضعيف جداً،
ورواه ابن عدي في " الكامل " قال: لا أعلم روى هذا الحديث عن علي بن زيد
غير ثابت بن حماد، وله أحاديث في أسانيد الثقات يخالف فيها وهي مناكير
ومقلوبات.
وقال البيهقي: هذا حديثه باطل، إنما رواه ثابت بن حماد، وهو متهم بالوضع عن
علي بن زيد وهو غير محتج به.
(1/717)
ولو أصاب المني البدن قال مشايخنا -
رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: يطهر بالفرك لأن البلوى فيه أشد وعن أبي حنيفة -
رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يطهر إلا بالغسل، لأن حرارة البدن جاذبة فلا
يعود إلا الجرم، والبدن لا يمكن فركه،
والنجاسة إذا أصابت المرآة والسيف اكتفي بمسحهما لأنه لا تتداخلهما
النجاسة. وما على ظاهره يزول بالمسح
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: علي بن زيد روى له مسلم مقروناً به، وقال العجلي: لا بأس به، وفي موضع
آخر قال: يكتب حديثه، وروى له الحاكم في " المستدرك ".
وقال الترمذي: صدوق، وأما ثابت فلم يتهمه أحد بالوضع غير البيهقي مع أنه
ذكره في كتابه " المعرفة " ولم ينسبه إلى الوضع، وإنما حكى فيه قول
الدارقطني وابن عدي، وقال البزار: وثابت بن حماد: كان ثقة ولا يعرف أنه روى
غير هذا الحديث، وله متابع، رواه الطبراني في معجمه الكبير " حدثنا الحسن
بن إسحاق التستري ثنا علي بن بحر ثنا إبراهيم بن زكريا العجلي ثنا حماد بن
سلمة عن علي بن زيد به سنداً ومتناً.
فإن قلت: كلمة إنما تخصيص ولا حصر فيها، لأن الغسل يجب في غيرها كالخمر.
قلت: غيرها في معناها فيلحق بها كما في قوله: لا قود إلا بالسيف، وقد ألحق
الخنجر وغيره لما أنه في معناه.
[الحكم لو أصاب المني البدن]
م: (ولو أصاب المني البدن قال مشايخنا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -) ش: أراد بهم
مشايخ بخارى وسمرقند م: (يطهر بالفرك لأن البلوى فيه أشد) ش: أي لأن البلية
في البدن أشد من البلية في الثوب، فلما طهر الثوب بالفرك طهر البدن بطريق
الأولى دفعاً للحرج.
م: (وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: ورواه الحسن عنه م: (أنه) ش:
أي أن البدن م: (لا يطهر إلا بالغسل) ش: ذكر هذا شمس الأئمة السرخسي في "
المبسوط " م: (لأن حرارة البدن جاذبة) ش: تجذب رطوبة المني م: (فلا يعود
إلى الجرم) ش: [......] فلا يزول بالفرك مثل ما يزول في الثوب، لأن المني
لزج لا يتداخل أجزاء الثوب منه إلا قليل، فإذا يبس يجذبه إلى نفسه فإذا فرك
زال بالكلية. فإن بقي بقي منه قليل وإنه ممنوع بخلاف رطبه لأنه لم يوجد فيه
الجذب كذا في " جامع الكردري " م: (والبدن لا يمكن فركه) ش: لأنه متعذر
فاحتيج إلى الماء لاستخراجه.
[النجاسة إذا أصابت المرآة والسيف]
م: (والنجاسة إذا أصابت المرآة والسيف اكتفي بمسحهما لأنه لا تتداخلهما
النجاسة) ش: لصقل تام لأنه صقيل بل بقي على ظاهره م: (وما على ظاهره يزول
بالمسح) ش: ولا يبقى إلا القليل، وهو
(1/718)
وإن أصابت الأرض النجاسة فجفت بالشمس وذهب
أثرها جازت الصلاة على مكانها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
غير معتبر، ولا فرق بين الرطب واليابس والعذرة والبول، ذكره الكرخي في
"مختصره ".
وذكر في الأصل: أن السيف والسكين إذا أصابه بول أو دم لا يطهر إلا بالغسل،
وإن أصابه عذرة إن كانت رطبة فكذلك، وإن كانت يابسة طهرت بالحت عندهما، وبه
قال مالك، وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يطهر إلا بالغسل، وبه قال زفر
والشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - والإمام مالك، وقال الأترازي قال
شيخي برهان الدين الحريفعي: إنما وضع المسألة في المرآة والسيف احترازاً عن
الحديد الذي عليه الجار بأنه لا يطهر إلا بالغسل.
قلت: ذكر في " البدرية " و " الذخيرة " و " المنافع ": خصهما بالذكر
لكونهما مصقولين ولا مدخل للشرب فيهما حتى لو كانت قطعة غير مصقولة
وأصابتها نجاسة لا يكتفي بمسحها، وفي " جامع الكردري ": الشرط أن يمسح
مخففاً من غير مشقة للرطوبة، وعن أبي القاسم: ذبح شاة ومسح السكين على
صوفها أو ما يزيل تطهر.
وفي " الحلية ": ذكر القاضي حسين: لو سقى السكين بماء نجس ثم غسل يطهر
ظاهره دون باطنه، والحد في تطهيره أن يسقيه بماء طاهر مرة أخرى، ومجرد
الغسل يكفي في تطهير الذهب والفضة وزبر الحديد وهذا عند الشافعي - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - وعند أبي يوسف يمر السكين بالماء الطاهر ثلاثاً ويجفف في
كل مرة.
وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يطهر أبداً، وفي " الإيضاح ": السيف
يطهر بالمسح، لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كانوا يقتلون الكفار
بسيوفهم ثم يمسحونها ويصلون معها، ولأن الغسل يفسدها فكان في تركها ضرورة.
وفي " الفتاوى " أيضاً: وكذا لو لحس السكين بلسانه حتى ذهب أثر الدم طهر.
وعند أبي يوسف: السيف إذا أصابه دم أو عذرة فمسحه بخرقة أو تراب حتى لو قطع
به بطيخة أو غيره كان طاهراً وأباح أكله.
وفي " المبسوط ": وسكين القصاب تطهر بالمسح بالتراب. وفي " المحيط " و"
القنية ": ما دامت النجاسة رطبة لا تطهر إلا بالغسل، فإن جفت أو جففها
بالمسح بالتراب أو غيره تطهر بالحت أو تطهر بالمسح.
[كيفية تطهير الأرض التي أصابتها نجاسة]
م: (وإن أصابت الأرض النجاسة فجفت بالشمس وذهب أثرها) ش: قيد الجفاف بالشمس
وقع اتفاقاً، لأن الغالب جفاف الأرض بالشمس، وليس باحتراز على الجفاف بأمر
آخر، لأن الأرض إذا جفت بالنار أو بالريح م: (جازت الصلاة على مكانها) ش:
أي مكان النجاسة التي جفت، وهذا الكلام يشير إلى أنه لا يجوز التيمم به وهو
ظاهر الرواية. وروى ابن طاوس والنخعي عن أصحابنا أنه يجوز التيمم به لأنه
حكم بطهارته كذا في " المبسوط "، ومذهب علمائنا
(1/719)
وقال زفر والشافعي - رحمهما الله - لا تجوز
لأن لم يوجد المزيل. ولهذا لا يجوز التيمم بها، ولنا قوله - عَلَيْهِ
السَّلَامُ -: «زكاة الأرض يبسها»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الثلاثة وهو قول أبي قلابة والحسن البصري ومحمد بن الحنفية.
وقال النووي: إذا جف لا بأس بالصلاة عليه.
م: (وقال زفر والشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا تجوز) ش: وبه قال مالك
وأحمد، وللشافعي قولان في القديم، وفي " الإملاء ": يطهر، وفي " الأم ": لا
يطهر، وقيل: القطع بأنها تطهر، والقولان فيما إذا لم يبق للنجاسة طعم ولا
ريح ولا لون، وعند أحمد: لا يطهر، وقال إمام الحرمين: إنهم أطردوا القولين
في الثوب كالأرض، وهل يطهر الثوب بالجفاف. وفي الظل وجهان ذلك كله للنووي
في " شرح المهذب ".
واختلفوا في الشجر، والكلام [معناه أنه] ما دام قائماً على الأرض يطهر
بالجفاف وبعد القطع لا يطهر إلا بالغسل م: (لأنه لم يوجد المزيل) ش:
للنجاسة إذا أصابت فلا يطهر م: (ولهذا) ش: أي ولأجل عدم المزيل م: (لا يجوز
التيمم بها) ش: أي بمكان النجاسة التي أصابت وجفت.
م: (ولنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «زكاة الأرض يبسها»
ش: هذا لم يرفعه أحد إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
وإنما هو مروي عن أبي جعفر محمد بن علي أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه "
عنه، قال: "زكاة الأرض يبسها "، وأخرج عن ابن الحنفية وأبي قلابة قال: "إذا
جفت الأرض فقد زكت".
وروى عبد الرزاق في "مصنفه " أخبرنا معمر عن أيوب عن أبي قلابة، قال: "جفوف
الأرض طهورها "، في " الأسرار ": الحديث المذكور موقوف على عائشة - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا -. وقال صاحب " الدراية ": هذا الحديث لم يوجد في كتب
الحديث، وهذا لا أصل له لأنه [لم] يثبت بنقل العدل أو يكون ذلك النقل
بالمعنى عند من جوزه.
وقال الأكمل: ولقائل أن يقول: معناهما واحد فيجوز أن يكون نقلاً بالمعنى
فيكون مرفوعاً. قلت: إنما يجوز نقل الحديث بالمعنى عند من يجوزه إذا كان
حديثان معناهما واحد، وكيف يقال فيكون مرفوعاً والمنقول عنه لم يعرف، ولكن
يقال: محمد بن الحنفية الذي انتصب مفتياً في زمان الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ - تقلد عنه بعض مشايخنا كذا في " التقويم ".
وعند ابن إسحاق [......] ثم يروي في كتاب " طبقات الفقهاء " عن محمد بن
الحنفية من فقهاء التابعين بالمدينة.
وقال فيه: روي عن محمد بن الحنفية أنه قال: الحسن والحسين خير مني وأنا
أعلم بحديث
(1/720)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
أبي منهما، وذلك لأن الصحابة لما قرروه على الفتوى منهم صار كواحد منهم [
... ] ، كما إذا فعل فعل بين يدي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وسكت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما روي
عنه أن زكاة الأرض يبسها ولم يرو عن غيره خلافه حل محل الإجماع ولا سيما
وقد وافقه أبو جعفر محمد بن علي وأبو قلابة وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ -، ومحمد بن الحنفية مات سنة ثمانين. وقيل: سنة إحدى وثمانين وهو
ابن خمس وستين سنة.
ولد في خلافة أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ومع هذا استدل
أكثر أصحابنا في هذه المسألة بما رواه أبو داود عن أحمد بن صالح قال: حدثنا
عبد الله بن وهب، قال: أخبرني يونس عن ابن شهاب قال: حدثني حمزة بن عبد
الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال ابن عمر - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - كنت أبيت في المسجد على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكنت فتى شاباً، عزباً، فكانت الكلاب تبول وتقبل
وتدبر في المسجد فلم يكونوا يرشون شيئاً من ذلك، وأخرجه أيضاً أبو بكر بن
خزيمة في "صحيحه ".
فإن قلت: قال الخطابي: يتأول على أنها كانت تبول خارج المسجد في مواطنها
وتقبل وتدبر في المسجد [......] وإنما كان إقبالها وإدبارها في أوقات
نادرة، ولم يكن على المسجد أبواب حتى تمنع عن عبورها فيه.
قلت: هذا تأويل بعيد جداً، لأن قوله في المسجد ليس ظرفاً لقوله: تقبل
وتدبر، بل إنما هو ظرف لقوله: تبول وتقبل وتدبر، كلها وأيضاً قوله: يكونوا
يرشون شيئاً من ذلك، يمنع التأويل لأنها كانت تبول في موطنها ما كان يحتاج
إلى ذكر الرش وغيره إذ لا فائدة فيه.
وأبو داود بوب على هذا بقوله: باب طهور الأرض إذا يبست، فهذا أيضاً يرد
عليه هذا التأويل الظاهر أنها كانت تبول في المسجد، ولكنها تنشف فتطهر فلا
يحتاج إلى رش الماء، وإنما حمل الخطابي على هاذ التأويل الفاسدة منعه هذا
الحديث أن لا يكون حجة للحنفية عليهم.
فإن قلت: احتجوا علينا بما رواه مسلم «عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مه مه، فقال رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تزرموه" فتركوه حتى بال، ثم أمر رجلاً
فدعا بدلو من ماء فسنه عليه» . وأخرجه البخاري أيضاً ولفظه: «فبال في طائفة
من المسجد فزجره الناس فنهاهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما
قضى بوله، أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذنوب من ماء
فأهريق عليه» . وأخرجه النسائي وابن ماجه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -
أيضاً.
قوله: مه، أمر فعل من مونة، ومعناه اكفف، [و] مه الثاني تأكيد له. وقوله:
لا تزرموه
(1/721)
وإنما لا يجوز التيمم لأن طهارة الصعيد
ثبتت شرطًا بنص الكتاب فلا تتأدى بما ثبت بالحديث
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بتقديم الزاي على الراء المهملة أي لا تقطعوا عليه بوله. فسنه بالسين
المهملة، ويروى بالمعجمة، فمعنى الأول الصب المتصل، ومعنى الثاني: الصب
المنقطع، قوله: في طائفة من المسجد أي قطعة منه، والذنوب بفتح الذال
المعجمة الدلو الكبير، وقيل: لا يسمى ذنوباً إلا إذا كان فيه ماء. قلت: نحن
ما تركنا العمل، ونحن نقول أيضاً بصب الماء إذا كانت الأرض رخوة حتى ينتقل
منها، فإذا لم يبق على وجهها شيء من النجاسة وانتقل الماء يحكم بطهارتها
ولا يعتبر فيه العدد، فإن كانت الأرض صلبة، أو كانت صعبة الحفر [حفر] في
أسفلها حفيرة ويصب عليها ثلاث مرات، وينقل [التراب] إلى الحفيرة حتى تيبس
الحفيرة، وإن كانت مستوية بحيث لا يزول عنها الماء لا يغسل لعدم الفائدة بل
يحفر. وعند أبي حنيفة لا تحفر الأرض حتى تجف الأرض إلى الموضع الذي وصلت
إليه النداوة، وينقل التراب.
ودليلنا على الحفر ما رواه الدارقطني بإسناده إلى عبد الله بن الزبير قال:
«جاء أعرابي فبال في المسجد، فأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بمكانه فاحتفر فصب عليه دلو من ماء» وما رواه عبد الرزاق في
"مصنفه " عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن طاوس: قال: «بال أعرابي في
المسجد فأرادوا أن يضربوه، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
"احفروا مكانه واطرحوا عليه من ماء علموا ويسروا ولا تعسروا» ".
فإن قلت: الأول مرفوع ضعيف لأن في إسناده سمعان بن مالك ليس بالقوي، وقال
ابن خراش مجهول. والثاني مرسل وتركتم الحديث الصحيح.
قلت: لا نسلم ذلك فإنا قد عملنا بالكل، فعملنا بالصحيح كما إذا كانت الأرض
صلبة، وعملنا بالضعيف على زعمكم فيما إذا كانت الأرض رخوة، والعمل بالكل
أولى من العمل بالبعض والإجمال بالبعض.
فإن قلت: كيف تحملون الأرض فيه على الصلب، وقد ورد الأمر بالحفر يدل على
أنها كانت رخوة.
قلت: يحتمل أن يكون يصبان في الواحدة كانت الأرض صلبة وفي الأخرى كانت
رخوة.
م: (وإنما لا يجوز التيمم، لأن طهارة الصعيد ثبتت شرطاً بنص الكتاب فلا
تتأدى بما ثبت بالحديث) ش: هذا جواب عن قول زفر والشافعي ولهذا لا يجوز
التيمم به، تقرير الجواب أن طهارة الصعيد الذي هو وجه الأرض تثبت ببعض
الكتاب وهو قَوْله تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء:
43] (النساء:
(1/722)
وقدر الدرهم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الآية 43) . فلا يتأدى بما ثبت بخبر الواحد، كما لا يجوز التوجه إلى
الحطيم. وإن كان ورد فيه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«الحطيم من البيت» ولأن التيمم قائم مقام الوصف، فلما كان قليل النجاسة
مانعاً بلا خلو صار مانعاً للخلو بطريق الأولى، والمراد من النص عبارة
الكتاب فلا يعارض ما ثبت بخبر الواحد، بخلاف اشتراطه طهارة، فإن ذلك ثبت
بدلالة النص فحينئذ يعارض بما ثبت بخبر الواحد، لأن العبارة فوق الدلالة.
فإن قلت: الثابت بها قطعي كالثابت بالعبارة فكيف يجوز معارضة خبر الواحد
للدلالة.
قلت: النص الوارد في طهارة المكان مخصوص، لأنه خص من النجاسة القليلة
بالإجماع فعارضه خبر الواحد بخلاف النص الوارد في التيمم قطعي بلا معارضة
خبر الواحد.
وقال الأكمل: فإن قلت: أليس قد تقدم أن طهارة المكان ثبتت بدلالة قَوْله
تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] والثابت بالدلالة كالثابت
بالعبارة في كونه قطعياً حتى ثبت الحد والكفارات بدلالة النصوص فوجب أن لا
تجوز الصلاة عليها كما يجوز التيمم بها. أجيب بأن الآية هنا ظنية، لأن
المفسرين اختلفوا في تفسيرها، فقيل: المراد به تطهير الثوب، وقيل: تقصيره
للمنع عن التكبر والخيلاء، فإن العرب كانوا يجرون أذيالهم تكبرا، وقيل
المراد تطهير النفوس عن المعائب. والأخلاق الرديئة، وإذا كان كذلك كان ظني
الدلالة ولهذا لا يكفر من أنكر اشتراط طهارة الثوب وهو خطأ، وتكون الدلالة
لذلك.
قلت: لا يوافق معنى الآية هاهنا، لأن من فسر بتطهير الثوب وهو الذي تقتضيه
اللغة وبقية التفاسير لا تساعدها اللغة بل فيها تفسير أهل التصوف، فكيف
يكون هذا ظني الدلالة، وكل واحد من هذه المعاني خلاف المعنى اللغوي غير
قطعي، فكيف يصير القطعي بهذا ظنياً.
والجواب السديد أن يقال: خص من هذه الآية غير حالة الصلاة والنجاسة القليلة
والثياب التي أعدت للدخول والبروز وإعمام المخصوص ظني فيجوز تخصيصه بخبر
الواحد.
فإن قلت: النص لا عموم له في الأحوال، لأنها غير داخلة فيه وإنما يثبت
ضرورة ولا عموم لما ثبت في الضرورة والخصوص يستدعي بسبق العموم. قلت: لا
عموم له في الأحوال لأنه لما قال: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4]
(المدثر: الآية 4) تناول تطهير الثياب في كل حالة يلحقها الخصوص بعد ذلك
فصارت ظنية الدلالة فافهم.
[ما يعفى عنه من النجاسات]
م: (وقدر الدرهم) ش: كلام إضافي مبتدأ وخبره يأتي، والمراد به الدرهم
الشهليلي نسبة إلى موضع يسمى الشهليل، وفي " المغرب ": الشهليلي من
الدراهم: مقدار عرض الكف، وفي " المحيط ": الدرهم ما يكون مثل عرض الكف،
وفي "صلاة الأحد": الدرهم الكبير المثقال،
(1/723)
وما دونه من النجس المغلظ كالدم والبول
والخمر وخرء الدجاج وبول الحمار جازت الصلاة معه، وإن زاد لم تجز. وقال زفر
والشافعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - قليل النجاسة وكثيرها سواء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ومعناه ما يبلغ وزنه مثقالاً، وفي بعض الكتب: قدره بالدرهم البغلي.
وعند السرخسي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يعتبر بدرهم زمانه، وفي " الأسرار ":
دون الدرهم لا يمنع جواز الصلاة لكن تكره الصلاة معها م: (وما دونه) ش: أي
ما دون قدر الدرهم وهذا الخبر لا يخفى م: (من النجس المغلظ) ش: كلمة من
للبيان.
م: (كالدم والبول والخمر وخرء الدجاج وبول الحمار) ش: وخرء الحية وبولها
ومرارة كل شيء كبوله م: (جازت الصلاة معه) ش: جازت الصلاة جملة فعلية في
محل الرفع على أنها خبر المبتدأ، لا عن قوله: وقدر الدرهم، قوله: معه، أي
مع قدر الدرهم وما دونه م: (وإن زاد لم تجز) ش: يعني: وإن زاد النجس المغلظ
على قدر الدرهم لم تجز صلاته.
م: (وقال زفر والشافعي: قليل النجاسة وكثيرها سواء) ش: وفي " المبسوط ":
وقال الشافعي: إذا كانت النجاسة بحيث يقع البصر عليها يمنعه، وفي " الحلية
": النجاسة دم وغير دم، فغير الدم إذا لم يدركه البصر فيه ثلاثة طرق:
أحدها: يعفى، والثاني: لا يعفى، والثالث: قولان: أما الدم فيعفى عن القليل
من دم البراغيث والكثير فيه وجهان: أصحهما أنه يعفى عنه.
وقال الإصطخري: لا يعفى، وفي دم غيرها ثلاثة أقوال، أصحها: أنه يعفى عن
المقدار الذي يتعافاه الناس بينهم. والثاني: لا يعفى عن شيء منه، وفي
القديم: يعفى عما دون الكف، وعن مالك: يعفى عن يسير الدم ولا يعفى عما
تفاحش، وغيره في دم الحيض روايتان، إحداهما: أنه كغيره، والثانية: أنه
يستوي فيه قليله وكثيره.
وحكي عن أحمد أنه قال: الكثير ما تفاحش وحكي عنه أيضاً أنه يعفى عن النقطة
والنقطتين، واختلف عنه فيما بين ذلك.
وقال النووي: اتفق أصحابنا أنه يعفى عن قليل الدم، وفي كثيره وجهان
مشهوران، أحدهما: قاله الإصطخري: لا يعفى عنه، وأصحهما باتفاق الأصحاب يعفى
عنه، وهو قول ابن شريح وأبي إسحاق وسائر أصحبانا، والقليل ما يعفوه الناس
أي عدوه عفواً، والكثير ما غلب على الثوب وطبعه، وقيل في القليل قدر ما دون
الكف، وفي الجديد وجهان: أحدهما: الكثير ما يظهر للناظر من غير تأمل،
والقليل دونه وأصحهما الرجوع إلى العادة، وهذه الأقاويل في دم غيره، وأما
في دم نفسه فضربان: أحدهما: ما يخرج من بثره فله حكم دم البراغيث بالاتفاق،
والثاني: ما يخرج من الفصد ففيه طريقان.
(1/724)
لأن النص الموجب للتطهير لم يفصل، ولنا أن
القليل لا يمكن التحرز عنه فيجعل عفوا، وقدرناه بقدر الدرهم أخذا عن موضع
الاستنجاء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (لأن النص الموجب للتطهير) ش: النص هو قَوْله تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ
فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] (المدثر: الآية 4) ، وغيره من الأحاديث م: (لم
يفصل) ش: بين القليل والكثير، إلا أن الشافعي ومن معه لم يعتبروا إلا ما
تراه العين لعدم إمكان الاحتراز عنه.
م: (ولنا أن القليل لا يمكن التحرز عنه فيجعل عفواً) ش: إجماعاً لأن ما عمت
بليته سقطت قضيته. وأما الحدث فإنه لا يتجزأ ولا حرج في تكليف إزالته م:
(وقدرناه) ش: أي القليل الذي هو خلاف الكثير م: (بقدر الدرهم) ش: المثقالي
إن كان النجس ذا جرم وقدر عرض الكف إن كان مائعاً على ما يأتي م: (أخذا عن
موضع الاستنجاء) ش: أخذاً منصوب، لأنه مفعول مطلق، قال الأكمل: مفعول مطلق
من قدرناه، لأن فيه معنى الأخذ، قلت: الأحسن أن يقول: تقديره وقدرناه حال
كوننا آخذين أخذاً في موضع الاستنجاء، والمراد من مواضع الاستنجاء موضع
خروج الحدث، روي عن إبراهيم النخعي أرادوا أن يقولوا مقدار المقعد،
واستقبحوا ذلك فقالوا مقدار الدرهم.
فإن قلت: النص، وهو قَوْله تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4]
(المدثر: الآية 4) ، لم يفصل بين القليل والكثير فلا يعفى عن القليل، قلت:
القليل غير مراد منه بالإجماع، بدليل عفو موضع الاستنجاء فيتعين الكثير.
وأجاب بعضهم بما روي عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أنه قال في الدم إذا كان أكثر من قدر الدرهم أعاد الصلاة، فشرط
إعادتها في الزيادة على قدر الدرهم.
قلت: هذا الحديث أخرجه الدارقطني في "سننه " عن روح بن غطيف عن الزهري عن
أبي سلمة عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تعاد الصلاة من قدر الدرهم من الدم» .
وفي لفظ: «إذا كان في الثوب قدر الدرهم غسل الثوب وأعيدت الصلاة» .
وقال البخاري: هذا حديث باطل، وروح هذا منكر الحديث. وقال ابن حبان: هذا
حديث موضوع لا شك فيه، لم يقله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، ولكن اخترعه عنه أهل الكوفة وكان روح ابن غطيف يروي الموضوعات
عن الثقات.
ذكره ابن الجوزي في " الموضوعات " من طريق نوح بن أبي مريم عن يزيد
الهاشمي، وأغلط في نوح بن أبي مريم.
وروى البيهقي عن ابن عمر: أنه رأى دماً في ثوبه وعليه ثياب فرمى بالثوب
الذي فيه الدم وأقبل على صلاته، وروي عن القاسم بن محمد أنه رأى دماً في
ثوبه وهو في الصلاة فخلعه ولم يستقبل، فدل على أن منع الدم دون القليل منه.
(1/725)
ثم يروى اعتبار الدرهم من حيث المساحة وهو
قدر عرض الكف في الصحيح، ويروى من حيث الوزن وهو الدرهم الكبير المثقال وهو
ما يبلغ وزنه مثقالا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وذكر في " الأسرار " عن علي وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنهما
قدرا النجاسة بالدرهم. وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «صلى
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في كساء فقال رجل: يا رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذه لمعة من دم، فقبض رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ما يليها، فبعث بها إلي
مصرورة في يد الغلام فقال: "اغسلي هذه ولم يعد صلاته» " فدل على أن القليل
من النجاسة محتمل، وأمر بغسلها لأنه يستحسن إزالة القليل منها وإيضاعه بنظر
الدم.
وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قدرها بظفره، قال في " المحيط ":
وكان ظفره قريباً من كفنا، فدل على أن ما دونه لا يمنع، قال: وقول عمر يبطل
قول الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في منع التقدير.
م: (ثم يروى اعتبار الدرهم من حيث المساحة) ش: أشار بهذا إلى بيان اختلاف
عبارات عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في اعتبار الدرهم، فروي عن محمد أن
اعتباره بالمساحة م: (وهو قدر عرض الكف) ش: أي ما وراء مفاصل الأصابع، وهذا
الاعتبار يروى عن الكرخي عن محمد م: (في الصحيح) ش: أشار به إلى أن هذا
الاعتبار هو الصحيح ذكره محمد في " النوادر "، وقال: الدرهم الكبير هو ما
يكن مثل عرض الكف.
م: (ويروى من حيث الوزن وهو الدرهم الكبير المثقال) ش: أي اعتبار الوزن في
الدرهم، هو الدرهم الكبير المثقال، ذكر هذا عن محمد أنه ذكره في كتاب "
الصلاة " إلى اعتبار الدرهم الكبير المثقال.
قال الأترازي: وقوله: الكبير المثقال يجوز برفع اللام على أنه صفة بعد صفة،
أي الدرهم الموصوف بأنه مثقال، ويجوز بجر اللام للإضافة كما في الحسن
الوجه، فافهم. و [قال] بعض المتقلدين الفقه في الدين: الأحسن لم [ ... ] ،،
ومن لا يعلم الإعراب يظن أن المثقال لا يجوز جره لأنه يلزم حينئذ دخول
اللام في المضاف ولهذا [ذلك] إلا من سوء فهمه وقلة علمه وعدم إدراكه؛ لأن
الإضافة اللفظية يجوز فيها دخول اللام في المضاف م: (وهو ما يبلغ وزنه
مثقالاً) ش: أي الدرهم الكبير هو الذي يبلغ وزنه مثقالاً وانتصاب مثقالاً
على أنه مفعول يبلغ ومعناه ما يصل إليه كما في قولك: بلغت لمكان كذا،
معناه: وصلت إليه، وكذلك إذا شارفت عليه، ومنه قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا
بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} [البقرة: 234] (البقرة: الآية 234) ، أي قاربنه
وشارفن عليه.
(1/726)
وقيل في التوفيق بينهما أن الأولى في
الرقيق والثاني في الكثيف، وإنما كانت نجاسة هذه الأشياء مغلظة لأنها ثبتت
بدليل مقطوع به
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
م: (وقيل) ش: قائله أبو جعفر الهندواني م: (في التوفيق بينهما) ش: أي بين
الروايتين المذكورتين م: (أن الأولى في الرقيق) ش: أي أن الرواية الأولى
وهي اعتبار الدرهم من حيث المساحة في النجس الرطب والمائع م: (والثانية في
الكثيف) ش: أي: والرواية الثانية، وهي اعتبار الوزن في النجس [في] المسجد
كالعذرة، وهو الصحيح نص عليه في " المحيط "، لأن التقدير بالعرض في المسجد
قبيح.
وفي جامع " الكردري " وهو المختار في " المبسوط " و " الخلاصة " الدرهم
يكون من القدر المعروف في البلد، وأما النقود المنقطع عملها كالبشهيلي
وغيره، قيل: يعتبر، وهو ضعيف.
م: (وإنما كانت نجاسة هذه الأشياء) ش: يعني الأشياء المذكورة كالدم والبول
والخمر ونحوها م: (مغلظة) ش: يعني موصوفة بالتغليظ م: (لأنها) ش: أي لأن
هذه الأشياء أي نجاستها م: (ثبتت بدليل مقطوع فيه) ش: أي بنص وارد فيه بلا
معارضة نص آخر كالخمر مثلاً، فإن نجاسته بنص القرآن لقوله (رجس) أي نجس ولم
يعارضه نص آخر.
فإن قلت: لا يظهر من الآية دلالة ظاهرة على نجاسة الخمر، لأن الرجس عند أهل
اللغة القذر، ولا يلزم ذلك النجاسة. وكذا الأمر الوارد بالاجتناب لا يلزمه
فيه النجاسة.
قلت: لما رمى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالروثة
وقال: "إنها رجس، أو ركس) دل على أن الرجس النجس.
فإن قلت: حكي عن ربيعة وداود أنهما قالا: الخمر طاهرة فأقل [ ... ] أن يكون
نجساً مخففاً.
قلت: نقل أبو جسامة الإجماع على نجاستها وأراد بها النجاسة المغلظة.
فإن قلت: يلزم بما ذكرت أن يكون ما عطف على الخمر في الآية نجساً.
قلت: القران في النظم لا يوجب القران في الحكم، ويكون المراد من قوله بدليل
مقطوع به الإجماع، كالدم مثلاً فإنه حرمه فأشبه بنص القرآن، ونجاسته مجمع
عليها بلا خلاف وهو حجة قطعية. والمراد من الدم: الدم المسفوح، وفي "
الجنازية ": والمراد بكونه قطعياً أن يكون سالماً عن الأسباب الموجبة
للتخفيف من معارض النصين، [ ... ] الاجتهاد والضرورات المحققة.
قلت: لا يلزم منه سلامته عما ذكر أن يكون مقطوعاً به، لأن خبر الواحد
السالم عن ذلك لا يكون الحكم الثابت به وحده متطوعاً به، وعلى هذا الأصل
الاختلاف بين أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
(1/727)
وإن كان مخففا كبول ما يؤكل لحمه جازت
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وصاحبيه، فإن التغليظ عند أبي حنيفة يثبته بنص، فعلى نجاسته من غير معارضة
نص آخر في طهارته، والتخفيف يثبت بتعارض النصين، وعندهما التغليظ يثبت بما
وقع الإجماع على نجاسته، والتخفيف بما وقع الاختلاف.
وفائدة الخلاف تظهر في مثل الروث، فعنده نجس مغلظ لحديث ابن مسعود - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - ليلة الجن، ولم يعارضه غيره، وعندهما: مخفف لأنه عند مالك
- رَحِمَهُ اللَّهُ - طاهر، ومن الأشياء المذكورة فيما مضى البول وهو على
أنواع أربعة:
الأول: بول الآدمي الكبير فحكمه أنه نجس مغلظ بإجماع المسلمين من أهل الحل
والعقد، وابن المنذر نقل الإجماع عن أصحابنا وأصحاب الشافعي - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ -.
الثاني: بول الصبي الذي لم يطعم فكذلك عند جميع أهل العلم قاطبة إلا ما نقل
عن داود الظاهري بطهارتها ولا يعتبر خلافه، وعند الشافعي نجاسة خفيفة، وقال
الأوزاعي: لا بأس ببول الصبي ما دام يشرب اللبن ولا يأكل الطعام، وهو قول
عبد الله بن وهب صاحب الإمام مالك، واحتجوا في ذلك بأحاديث منها: ما رواه
البخاري ومسلم واللفظ له عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «كان
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يؤتى بالصبيان فيبرك
عليهم ويحنكهم، فأتي بصبي فبال عليه فدعى بماء فأتبعه بوله ولم يغسله» .
قلنا: لم يغسله محمول على نفي المبالغة فيه، وما ورد في الأحاديث من النضح
المراد به الصب، وقال في " المعلم في شرح صحيح مسلم ": بال في ثوبه - عائد
إلى الصبي - وهو في حجره - عَلَيْهِ السَّلَامُ - على ثوب نفسه فنضح ثوبه
خوفاً من أن يكون طار منه على ثوبه، وهو بعيد، لأن الآثار جاءت صريحة بأن
المراد به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
والثالث: بول الحيوان الذي لا يؤكل لحمه، فحكمه أنه نجس مغلظ عندنا، وعند
الشافعي وعند الإمام مالك والفقهاء كافة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - بعموم قوله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "استنزهوا" وحكي عن النخعي طهارته،
وهو مردود، وحكى ابن حزم الظاهري عن داود: أن الأبوال كلها والأرواث كلها
طاهرة من كل حيوان إلا الآدمي، وهذا في نهاية الفساد.
والرابع: بول الحيوان الذي يؤكل لحمه فحكمه أنه نجس عند أبي حنيفة وأبي
يوسف والشافعي وغيرهم - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - على ما يأتي تفصيله في
"النجاسة". وقال مالك وعطاء والثوري والنخعي وزفر وأحمد: بوله وروثه
طاهران، واختاره الروياني وابن خزيمة من أصحاب الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - هكذا حكاه النووي، والصواب في مذهب زفر: أن روثه نجس مخفف كمذهب
أبي يوسف ومحمد، وعند محمد والليث بوله طاهر وروثه.
م: (وإن كان) ش: النجس م: (مخففاً كبول ما يؤكل لحمه) ش: كالإبل والبقر
والغنم م: (جازت
(1/728)
الصلاة معه حتى يبلغ ربع الثوب، يروى ذلك
عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن التقدير فيه بالكثير الفاحش والربع
يلحق بالكل في بعض الأحكام، وعنه ربع أدنى ثوب تجوز فيه الصلاة كالمئزر،
وقيل: ربع الموضع الذي أصابه كالذيل والدخريص، وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ
اللَّهُ - شبر في شبر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الصلاة معه حتى يبلغ ربع الثوب) ش: أي إلى أن يبلغ النجس المخفف ربع الثوب
م: (يروى ذلك عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ش: أي يروى جواز الصلاة
مع النجس المخفف ما لم يبلغ ربع الثوب، رواه أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن
أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (لأن التقدير فيه) ش: أي في النجس
المخفف م: (بالكثير الفاحش) ش: في منع الصلاة، وذلك لأن الكثير ما يستكثره
الناظر ويستفحشه م: (والربع يلحق بالكل في بعض الأحكام) ش: كمسح الرأس
وانكشاف العورة، وفي حق المحرم وغيرها.
م: (وعنه) ش: أي عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - م: (ربع أدنى ثوب
تجوز فيه الصلاة كالمئزر) ش: لأنه أقصر الثياب، وفيه الاحتياط، ويقرب منه
ما قال أبو بكر الرازي: يعتبر السراويل احتياطاً م: (وقيل ربع الموضع الذي
أصابه كالذبل والدخريص) ش: قال في " المحيط ": وهو الأصح، وكذا قال في "
التحفة ".
م: (وعن أبي يوسف: شبر في شبر) ش: أي شبر طولاً، وشبر عرضاً، أخذا في باطن
الخفين يعني ما يلي الأرض من الخف، فإن باطنهما يبلغ شبراً في شبر، فيجوز
تقديم الكثير الفاحش به، وعن محمد: مقدار القدمين يعني قدم في قدم، قاله في
" شرح الطحاوي "، وعن أبي يوسف: ذراع في ذراع ذكره في " المفيد ".
وفي " الذخيرة ": ما روى إبراهيم عن محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن الكثير
الفاحش في الخف [ ... ] ، وإنما خص الخف والقدمين لاستدامة الضرورة في ذلك،
لاسيما في حق [
] .
وفي " المبسوط ": روي عن محمد: أن الروث لا يمنع إن كان كثيراً فاحشاً،
وقال في آخر أقواله: يمنع حتى كان بالري مع الخليفة هارون الرشيد -
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فرأى في الطرق والخانات الأرواث، وللناس فيها
بلوى عظيمة، وقال: سواء عليها طين بخارى، وإنما خصها لأن شني الناس والدواب
يختلط فيها مثل ديار مصر، بخلاف المدائن وغيرها في أزقها يمشي على حدة ابن
آدم، فإن البلوى فيها أقل. وعن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه كره أن
يحد لذلك حداً، وقال: الفاحش يختلف باختلاف طباع الناس، [و] توقف الأمر فيه
على العادة وما يستفحشه المتبلى به كما هو دأبه.
م:
(1/729)
وإنما كان مخففا عند أبي حنيفة وأبي يوسف -
رحمهما الله - لمكان الاختلاف في نجاسته أو لتعارض النصين على اختلاف
الأصلين،
وإذا أصاب الثوب من الروث أو من أخثاء البقر أكثر من قدر الدرهم لم تجز
الصلاة فيه عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن النص الوارد في نجاسته
وهو ما روي «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رمى بالروثة وقال هذا رجس أو»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
(وإنما كان) ش: يعني بول ما يؤكل لحمه م: (مخففاً عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ
اللَّهُ - وأبي يوسف لمكان الاختلاف في نجاسته) ش: على أصل أبي يوسف -
رَحِمَهُ اللَّهُ - فإن تخفيفها عنده إنما ينشأ من سوغ الاجتهاد م: (أو
لتعارض النصين) ش: على أصل أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وهاهنا حديث
الاستنزاه من البول وحديث العرنيين، فإن تخفيفها عنده ينشأ من تعارض النصين
م: (على اختلاف الأصلين) ش: أي أصل أبي يوسف وأصل أبي حنيفة في بول ما يؤكل
لحمه تعارض النصين، وأصل أبي يوسف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اختلاف
العلماء وكل منهما على أصله في تخفيف بول ما يؤكل لحمه.
فإن قلت: أصل محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضاً مثل أصل أبي يوسف - رَحِمَهُ
اللَّهُ - فلم لم يذكر محمداً معه؟
قلت: لأن الكلام في بول ما يؤكل لحمه وهو ليس بنجس عند محمد - رَحِمَهُ
اللَّهُ - فكان أصل أبي يوسف وحده في هذه المسائل، فلذلك لم يذكره معه،
وقال السغناقي: وإنما أخر أصل أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - رعاية لفواصل
الألفاظ، فإنها ما تراعى، ألا ترى أن الله تعالى أخر خلق السموات عن خلق
الأرض في سورة طه في قوله: {تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ
وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا} [طه: 4] وفي غيرها استمر ذلك، وذكر خلق السموات
فتدخل الأرض نحو: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ} [الأنعام: 1] (الأنعام: الآية 1) وغير ذلك من الآيات.
وقال الأكمل: وأرى أن تقديمه ما كان ينافي ذلك، ولعله من باب الترقي.
قلت: هذا الذي ذكره إنما يراعى في كلام الفصحاء البلغاء ولا يراعى ذلك في
عبارات الفقهاء، بل هم مسامحون في عباراتهم بذكر ألفاظ مخالفة لقواعد الصرف
واصطلاحات النحاة، [......] على ذلك في مواضع من الكتاب إن شاء الله تعالى.
[حكم الروث أو أخثاء البقر]
م: (وإذا أصاب الثوب من الروث أو من أخثاء البقر) ش: والأخثاء جمع خثي بكسر
الخاء المعجمة وسكون المثلثة. قال الجوهري: الخثي للبقر.
قلت: ولكل حيوان ذو ظلف، والخثي بالفتح مصدر خثي البقر يخثي خثياً من باب
ضرب يضرب ضرباً م: (أكثر من قدر الدرهم لم تجز الصلاة فيه عند أبي حنيفة
لأن النص الوارد في نجاسته) ش: أي نجاسة الخثي م: (وهو) ش: أي النص م: (ما
روي «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رمى بالروثة وقال: هذا رجس
أو
(1/730)
ركس لم يعارضه غيره ولهذا يثبت التغليظ
عنده والتخفيف بالتعارض، وقالا يجزئه حتى يفحش، لأن للاجتهاد فيه مساغا
وبهذا يثبت التخفيف عندهما، ولأن فيه ضرورة لامتلاء الطرق بها وهي مؤثرة في
التخفيف، بخلاف بول الحمار،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
ركس» ش: الحديث أخرجه البخاري، وتمامه عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه عن
ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أتى الغائط فأمرني أن آتيه بثلاث أحجار فوجدت حجرين والتمست
الثالث فلم أجد، فأخذت روثة فأتيته بها، فأخذ الحجرين وألقى الروثة، وقال:
"هذا ركس» . ورواه ابن ماجه وقال: "هذا رجس" بالجيم. ورواه الدارقطني ثم
البيهقي فزاد فيه: "ائتني بحجر" محتجين بذلك على وجوب الاستنجاء بثلاثة
أحجار، وسيأتي عن قريب إن شاء الله تعالى.
م: (لم يعارضه غيره) ش: جملة في محل الرفع لأنها خبر إن في قوله: لأن النص
قوله: غيره ما روي من الحديث المذكور م: (ولهذا) ش: أي بورود نص على
التنجيس لم يعارضه نص آخر م: (يثبت التغليظ عنده) ش: في النجاسة فحينئذ
يكون الروث والخثي من النجاسة الغليظة عند أبي حنيفة بناء على أصله م:
(والتخفيف بالتعارض) ش: أي يثبت التخفيف في النجاسة بتعارض النصين كما في
حديث الاستنزاه عن البول بحديث العرنيين.
م: (وقالا) ش: أي أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله - م: (يجزئه) ش: أي يجزئ
المصلي إن أصاب ثوبه من الروث والخثي أكثر من قدر الدرهم م: (حتى يفحش) ش:
أي حتى يصير فاحشاً وهو أن يبلغ ربع الثوب كما ذكرنا م: (لأن للاجتهاد فيه)
ش: أي التخفيف م: (مساغاً) ش: أي جوازاً، حاصله أن الاجتهاد كالنص، قال
الله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2] (الحشر:
الآية 2) . فلما ثبت التخفيف بالنص ثبت بالاجتهاد أيضاً، فالروث عند مالك -
رَحِمَهُ اللَّهُ - طاهر وعند ابن أبي ليلى السرقين ليس بشيء قليله وكثيره
لا يمنع الصلاة لأنه وقود أهل الحرمين، ولو كان نجساً لما استعملوه
كالعذرة.
م: (وبهذا) ش: أي ويجوز الاجتهاد في هذا الحكم م: (يثبت التخفيف عندهما) ش:
أي يثبت تخفيف النجاسة عند أبي يوسف ومحمد م: (ولأن فيه ضرورة) ش: إشارة
إلى التخفيف يثبت عندهما بشيء آخر وهو الضرورة، والضمير فيه يرجع إلى الروث
م: (لامتلاء الطرق بها) ش: هذا بيان الضرورة أي لأجل امتلاء طرق الناس بها،
أي بالروث والخثي م: (وهي) ش: أي الضرورة م: (مؤثرة في التخفيف) ش: أي في
تخفيف النجاسة، ألا ترى أنها مؤثرة في سقوط النجاسة في الهرة، إلا أن
الضرورة هاهنا دون الضرورة هناك فأوجبنا التخفيف دون الإسقاط.
[بول الحمار]
م: (بخلاف بول الحمار) ش: هذا جواب عن سؤال مقدر تقديره أن يقال: أن
الضرورة في
(1/731)
لأن الأرض تنشفه. قلنا الضرورة في النعال
وقد أثرت في التخفيف مرة حتى تطهر بالمسح فيكتفى بمؤنتها
ولا فرق بين مأكول اللحم وغير مأكول اللحم، وزفر - رَحِمَهُ اللَّهُ - فرق
بينهما، فوافق أبا حنيفة في غير المأكول، ووافقهما في المأكول، وعن محمد -
رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لما دخل الري
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
بول الحمار كالضرورة في روثه، وقد قلتم بتغليظه، وتقرير الجواب أنا لا نسلم
ذلك م: (لأن الأرض تنشفه) ش: أي تشربه من تنشف الثوب العرق، تنشف بكسر
الشين في الماضي وفتحها في المستقبل فإذا كان كذلك قد يبقى على وجه الأرض
منه شيء يبتل به الماء بخلاف الروث.
م: (قلنا إن الضرورة) ش: التي ذكرها في الروث إشارة إلى الجواب عما قالا في
ثبوت التخفيف في الروث إنما هي م: (في النعال وقد أثرت في التخفيف مرة حتى
تطهر بالمسح فيكتفي بمؤنتها) ش: أي بمؤنة الضرورة فلا يخفف في نجاستها
ثانياً إلحاقاً للروث بالعذرة، فإن الحكم فيها كذلك بالاتفاق.
فإن قلت: هذا التعليل يخالف التعليل الذي ذكره في قدر القراءة في السفر في
فصل القراءة وهو قوله لأن للسفر أثر في إسقاط الصلاة، فلأن يؤثر في تخفيف
القراءة أولى حيث يستدل بوجود التخفيف مرة على تخفيفه ثانياً هناك، ومنعه
هاهنا فما وجه. قلت: لا مخالفة بينهما في المعنى بل كل منهما في نجس، وذلك
لأن سقوط شرط الصلاة في السفر من قبل رخصة الإسقاط والحكم فيها وهو أن لا
يبقى العزيمة مشروعة أصلاً لسقوط العينية في المسلم، فلما كان كذلك الساقط
كأن لم يكن أصلاً شيء لو أتى بالأربع كان الفرض هو الركعتين فقط، فكان في
القراءة حينئذ ابتداء لا ثانياً، فلذلك راعى المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -
لفظ الإسقاط في الركعتين، ولفظ التخفيف في قدر القراءة إشارة إلى ما قلنا.
م: (ولا فرق بين مأكول اللحم وغير مأكول اللحم) ش: أراد بيان [أن] الأرواث
كلها نجسة نجاسة خفيفة، وحال ذلك أنه لا فرق بين علمائنا الثلاثة في أصل
نجاسة الروث، غير أن اختلافهم في الصفة، ولم يفرق في ذلك إلا زفر أشار إليه
بقوله م: (وزفر فرق بينهما) ش: أي بين مأكول اللحم وغير مأكول اللحم م:
(فوافق) ش: أي زفر وافق م: (أبا حنيفة في غير المأكول) ش: أي غير مأكول
اللحم حيث قال: إن الروث إن كان من غير مأكول اللحم فهو نجس مغلظ كما قال
أبو حنفية مطلقاً م: (ووافقهما) ش: أي وافق أبا يوسف ومحمداً - رحمهما الله
- م: (في المأكول) ش: أي في مأكول اللحم، حيث قال: إن الروث إن كان من
مأكول اللحم فهو نجس مخفف كما قالا مطلقاً، لأن حل الأكل مؤثر في حق
النجاسة كما في الأبوال، ولنا ما مر.
م: (وعن محمد أنه لما دخل الري) ش: بفتح الراء وتشديد الياء اسم مدينة في
عراق العجم
(1/732)
ورأى البلوى أفتى أن الكثير الفاحش لا يمنع
أيضا، وقاسوا عليه طين بخارى أو عند ذلك رجوعه في الخف يروى
وإن أصابه بول الفرس لم يفسده حتى يفحش عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما
الله -. وعند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يمنع وإن فحش لأن بول ما يؤكل
لحمه طاهر عنده مخفف نجاسته عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولحمه مأكول
عندهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
كبيرة، ويكون قدر عمارتها فرسخاً ونصفاً في مثله، وفيها نهران جاريان وهي
أيضاً بها قبر محمد بن الحسن والكسائي وبها ولد الرشيد، لأن المهدي تركه في
خلافة المنصور [......] . فلذلك سمى الري المحمدية، والنسبة إليها الرازي
بزيادة الزاي في آخرها على غير القياس، وكان دخول محمد الري مع هارون
الرشيد م: (ورأى البلوى) ش: أي بلية الناس في الأرواث م: (أفتى بأن الكثير
الفاحش لا يمنع أيضاً) ش: لما فيه من البلوى م: (وقاسوا عليه) ش: أي قياس
مشايخ بخارى على قياس قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (طين بخارى) ش: وإن
فحش لما فيه من الضرورة، وإن كان ترابه مختلطاً بالعذرات، ويبتنى على هذا
مسألة معروفة وهي أن الماء والتراب إذا اختلطا وصارا طيناً وأحدهما نجس،
فقيل: العبرة فيه بالماء، وقيل: بالتراب، وقيل: بالغالب، وقيل: أيهما كان
طاهراً فالطين طاهر، وبه قال الأكثر، وقيل: إن كانا نجسين فالطين طاهر،
لأنه صار شيئاً آخر كالخمر إذا تخللت، والكلب والخنزير إذا صارا ملحاً في
المملحة م: (أو عند ذلك) ش: أي عند دخول محمد الري وقرينة البلوى م: (رجوعه
في الخف يروى) ش: أي رجوعه عن قوله في الخف بأنه لا يطهر به بالدلك يروى
عنه وقد تقدم أن مذهبه أن النجاسة التي لها جرم إذا أصابت الخف لا يجزئ
فيها الدلك، بل يشترط فيها الغسل فرجع عن قوله هذا إلى قولهما فقال: لا
يجزئ فيها الدلك، ولا يحتاج إلى الغسل لما رأى من كثرة السرقين في طريق
الري وكثر الزحام.
[حكم بول الفرس]
م: (وإن أصابه) ش: أي الثوب م: (بول الفرس لم يفسده) ش: أي الثوب يعني لم
يضره م: (حتى يفحش) ش: أي حتى يصير فاحشاً بأن يبلغ ربع الثوب م: (عند أبي
حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله -) ش: وكل واحد منهما مشى على أصله، أما عند
أبي حنيفة فالفرس غير مأكول وبوله نجس مخفف لتعارض الآثار، ولولا التعارض
لكان نجساً مغلظاً على أصله، وأما عند أبي يوسف فلأنه مأكول وبوله مخفف
وبقي الكلام في قول محمد فعنده بول الفرس طاهر.
أشار إليه بقوله م: (وعند محمد لا يمنع) ش: أي لا يمنع جواز الصلاة م: (وإن
فحش) ش: يعني وإن صار فاحشاً بأن زاد على الربع م: (لأن بول ما يؤكل لحمه
طاهر عنده) ش: أي عند محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - م: (فخفف نجاسته) ش: أي
نجاسة بول الفرس م: (عند أبي يوسف) ش: على ما ذكرنا، وأشار إلى مبنى كلامهم
بقوله م: (ولحمه مأكول عندهما) ش: أي لحم الفرس مأكول عند أبي يوسف ومحمد
وكل منهما على أصله.
(1/733)
وأما عند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -
فالتخفيف لتعارض الآثار.
وإن أصابه خرء ما لا يؤكل لحمه من الطيور أكثر من قدر الدرهم أجزأت الصلاة
فيه عند أبي حنيفة وأبي يوسف - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -وقال محمد - رَحِمَهُ
اللَّهُ - لا يجوز، وقد قيل أن الاختلاف في النجاسة وقد قيل في المقدار.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وبقي الكلام في قول أبي حنيفة أشار إليه بقوله (وأما عند أبي حنيفة
فالتخفيف) ش: في بول الفرس م: (لتعارض الآثار) ش: فإن حديث العرنيين يدل
على طهارة البول في الجملة، وحديث: استنزهوا من البول، يدل بعمومه على
نجاسة البول مطلقاً.
فإن قلت: التعارض إنما يتحقق إن جهل التاريخ، وفي حديث العرنيين دلالة
التقدم، لأن فيه المثلة فيكون منسوخاً، فلا تعارض بين الناسخ والمنسوخ.
قلت: أجاب الأكمل أخذاً من كلام السغناقي بقوله: سلمنا أن فيها تعارضاً
ولكنه في بول ما يؤكل لحمه، والفرس عنده غير مأكول، والكراهة فيه كراهة
التحريم فيكون بوله نجساً مغلظاً، ثم أجاب عنه بما ملخصه بأن حرمة الفرس لم
تكن لنجاسته، بل تحرزاً عن تقليل مادة الجهاد فكان لحمه طاهراً، ولهذا قال
بطهارة سؤره، ولكن يتحقق التعارض في بوله فيكون مخففاً.
قلت: طول الأكمل بما يشوش الناظر وخلاصة الجواب أن يقال: ذكر فخر الإسلام
في الجامع الصغير: أن الفرس يؤكل لحمها، وهو قولهم جميعاً يعني عند أبي
حنيفة أيضاً يؤكل، وإنما كره للتنزيه وهو المحابي عن قطع مادة الجهاد،
والكراهة لا تمنع الإباحة كأكل لحم البقرة الجلالة قبل التنقية، فإن بوله
كبول ما يؤكل لحمه. وقيل: أراد بالتعارض تعارض الآثار في لحمه، فإنه روي
«أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن لحوم الخيل والبغال»
وروي «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أذن في لحوم الخيل» فهذا
يوجب قولاً في تخفيف بوله لأنه مأكول من وجه فلا يكون كبول الكلب والحمار.
[حكم خرء ما لا يؤكل لحمه من الطيور]
م: (وإن أصابه خرء ما لا يؤكل لحمه من الطيور) ش: أي وإن أصاب الثوب خرء ما
لا يؤكل لحمه من الطيور مثل الصقر والبازي والشاهين ونحوها م: (أكثر من قدر
الدرهم) ش: أكثر منصوب، لأنه حال من الخرء م: (أجزأت الصلاة فيه) ش: أي في
ذلك الثوب م: (عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد: لا يجوز، وقد قيل) ش:
قائله الكرخي م: (أن الاختلاف في النجاسة) ش: يعني أنه طاهر عندهما ونجس
عند محمد كاللحوم.
م: (وقد قيل) ش: قائله أبو جعفر الهندواني م: (في المقدار) ش: يعني أنه نجس
بالاتفاق، لكنه خفيف عند أبي حنيفة غليظ عندهما، وأبو يوسف مع أبي حنيفة -
رحمهما الله - على رواية
(1/734)
وهو الأصح هو يقول إن التخفيف للضرورة، ولا
ضرورة هاهنا لعدم المخالطة فلا تخفف، ولهما أنها تذوق من الهواء والتحامي
عنه متعذر فتحققت الضرورة، ولو وقع في الإناء قيل: يفسده وقيل لا يفسده
لتعذر صون الأواني عنه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الكرخي ومع محمد على رواية الهندواني كما هو صريح في " المنظومة "، و "
المختلف " ولا يفهم هذا من لفظ " الهداية "، بل الذي يفهم منه أن أبا يوسف
في " الجامع الصغير " مع أبي حنيفة على الروايتين جميعاً، وجعل فخر الإسلام
قول أبي يوسف في " الجامع الصغير " مع أبي حنيفة على رواية خفة نجاسة
الخرء.
وعلى رواية طهارته م: (وهو الأصح) ش: أي كون الاختلاف في المقدار هو الأصح،
نص عليه في " جامع قاضي خان " و " المحيط "، لأنه مما حاله طبع الحيوان إلى
نتن وفساد، ولكن ذكر في " المبسوطين " و " محيط السرخسي " خلاف هذا فقال:
ليس لما ينفصل من الطيور نتن وخبث رائحة ولا ينحى شيء من الطيور عن
المساجد، فعرفنا أن خرء الجميع طاهر، ولأنه لا فرق في الخرء بين ما يؤكل
لحمه وبين ما لا يؤكل لحمه.
وفي " المجتبى " قيل: خرء الحمار نجس إن كان سلطاً لكثرة علفها. وقال
النووي: خرء الدجاج طاهر للبلوى، وخرء دود القز والفأرة وبولها نجس، وعن
محمد: لا بأس ببولها وبول السنور الذي يعتاد من البول على الثياب لا بأس به
للبلوى، وعن محمد: بوله طاهر وبه قال أبو نصر، وقيل: خفيفه، وفي " الإيضاح
": وبول الخنافس وخرؤها ليس بشيء لتعذر الاحتراز عنه، وخرء الحمام والعصفور
طاهر.
م: (هو يقول أن التخفيف للضرورة) ش: أي محمد يقول بتخفيف النجاسة إنما يكون
للضرورة م: (ولا ضرورة هاهنا لعدم المخالطة) ش: أي لعدم مخالطة هذه الطيور
التي لا يؤكل لحمها مع الناس ولا تأوي البيوت م: (فلا تخفف) ش: بل تغلظ
بخلاف الحمام والعصفور لوجود المخالطة فيهما.
م: (ولهما) ش: أي لأبي حنيفة وأبي يوسف م: (أنها) ش: أي أن هذه الطيور م:
(تذرق من الهواء) ش: بالذال المعجمة، من ذرق يذرق، ويذرق من باب نصر ينصر
وضرب يضرب، ومعناه [رمى بسَلحِه] ، وذرق الطائر خرؤه (والتحامي عنه متعذر)
أي التحفظ عنه صعب، لأنه يأتي بغتة من غير روية (فتحققت الضرورة) فتحققت
للبلوى.
م: (ولو وقع) ش: خرء طير من هذه الطيور م: (في الإناء قيل: يفسده) ش: أي
يفسد ما في الإناء، سواء كان ماء أو غيره من المائعات، وقال هذا أبو بكر
الأعمش لإمكان صون الإناء بالتغطية ونحوها م: (وقيل: لا يفسده) ش: قائله
الكرخي م: (لتعذر صون الأواني عنه) ش: أي عن
(1/735)
وإن أصابه من دم السمك أو لعاب البغل أو
الحمار أكثر من قدر الدرهم أجزأت الصلاة فيه، أما دم السمك فليس بدم على
التحقيق. فلا يكون نجسا. وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه اعتبر فيه
الكثير الفاحش فاعتبره نجسا.
وأما لعاب البغل والحمار فلأنه مشكوك فيه فلا يتنجس به الطاهر،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
الخرء المذكور، ولهذا قالوا يفسده خرء الدجاج لأنه لا ضرورة فيه حيث يمكن
صون الأواني عنه.
[قدر الدرهم من دم السمك أو لعاب البغل أو
الحمار]
م: (وإن أصابه) ش: أي الثوب م: (دم السمك أو لعاب البغل أو الحمار أكثر من
قدر الدرهم أجزأت الصلاة فيه) ش: أي في ذلك الثوب م: (أما دم السمك فليس
بدم على التحقيق) ش: لأن الدم على التحقيق يسود إذا شمس، ودم السمك يبيض،
ولهذا يحل تناوله من غير ذكاة، ولأن طبع الدم حار وطبع الماء بارد، فلو كان
للسمك دم لم يدم سكونه في الماء.
وفي " مبسوط شيخ الإسلام " أنه ما أخذ أي ما يتغير، وقال بعضهم: هو دم
ولكنه طاهر، لأنه لو كان نجساً لأمر بالطهارة فصار حكمه حكم الكبد والطحال
ودم يبقى في العروق كذا في " الإيضاح "، وفيه: أنه ما يلون، لأن الدم لا
يمكن فيه.
فإن قلت: أثبت المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أولاً أنه دم ثم نفاه وهذا
تناقض. قلت: أجاب الأترازي بأنه أراد بالإثبات صورة الدم وبالنفي حقيقة
الدم، قلت: يجوز أن يقال إن الإثبات بالنسبة إلى قول من قال: إنه دم حقيقة
والنفي بالنسبة إلى قول الجمهور: أنه ليس بدم على التحقيق.
وقال أبو يوسف في قول الشافعي: هو نجس إلحاقاً بسائر الدماء، وهو ضعيف، ودم
البق والبراغيث ليس بشيء، وبه قال مالك وأحمد في رواية لأنه ليس بمسفوح،
ودم الحدأة والأوزاغ نجس؛ لأنه دم سائل وما يبقى في العروق واللحم طاهر لا
يمنع جواز الصلاة وإن كثر لأنه ليس بمسفوح، ولهذا حل تناوله. وعن أبي يوسف
أنه معفو عنه في الثياب لعدم الاحتراز فيه دون الثوب.
م: (فلا يكون نجساً) ش: هذا نتيجة قوله - فلأنه ليس بدم على التحقيق - فإذا
لم يكن دماً حقيقة فلا يكون نجساً فلا يمنع الصلاة.
م: (وعن أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه اعتبر فيه) ش: أي في السمك م:
(الكثير الفاحش فاعتبره نجساً) ش: مخففاً للضرورة، وهذه رواية المعلى عنه.
[لعاب البغل والحمار]
م: (وأما لعاب البغل والحمار فلأنه مشكوك فيه) ش: كسؤرها، ومعنى الشك تقدم
م: (فلا يتنجس به الطاهر) ش: أي لا يتنجس بالمشكوك فيه الثوب الطاهر، فلا
يمنع جواز الصلاة وإن كثر، وعن أبي يوسف أن لعاب البغل والحمار يمنعان جواز
الصلاة إذا كثر، لأن اللعاب يتولد من
(1/736)
وإن انتضح عليه البول مثل رءوس الإبر فذلك
ليس بشيء، لأنه لا يستطاع الامتناع عنه.
قال: والنجاسة ضربان: مرئية وغير مرئية، فما كان منها مرئيا فطهارتها بزوال
عينها، لأن النجاسة حلت المحل باعتبار العين فتزول بزوالها إلا أن يبقى من
أثرها ما يشق إزالته لأن الحرج مدفوع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
اللحم النجس.
م: (وإن انتضح) ش: أي وإن ترشرش، وهو بالضاد المعجمة والحاء المهملة م:
(عليه) ش: أي على المصلي م: (البول) ش: أراد به البول الذي أجمع على نجاسته
بالتغليظ م: (مثل رءوس الإبر) ش: بكسر الهمزة وفتح الباء الموحدة جمع إبرة
الخياط م: (فذلك ليس بشيء) ش: أي ليس بشيء معتبر، ولا مانع من جواز الصلاة
معه.
فإن قلت: هذا شيء موجود فكيف يصح نفيه؟
قلت: من التفسير يعلم جوابه. وفي " الكافي " أما لو انتضح مثل رءوس المسلة
يمنع لعدم الضرورة، وعن الفقيه أبي جعفر ما قاله محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -
في الكتاب مثل رءوس الإبر دليل على أن الجانب الآخر من الإبر معتبر، وغيره
من المشايخ لا يعتبر الجانبين دفعاً للحرج. ولو انتضح ويرى أثره لا بد من
غسله، وإن لم يغسل حتى صلى به وهو بحال لو جمع كان أكثر من الدرهم أعاد كذا
ذكر البقالي والمحبوبي في "جامعه ".
م: (لأنه) ش: أي لأن الشأن م: (لا يستطاع الامتناع عنه) ش: خصوصاً في مهب
الرياح.
[أنواع النجاسة]
م: (قال) ش: أي القدوري م: (والنجاسة ضربان) ش: أي نوعان م: (مرئية) ش: أي
يرى بالعين ويدرك بالنظر كالدم والعذرة، والآخر لا يرى ولا يدرك بالنظر وهو
معني قوله م: (وغير مرئية) ش: كالبول ونحوه م: (فما كان منها) ش: أي من
النجاسة م: (مرئياً فطهارتها بزوال عينها) ش: أي عين النجاسة من غير اشتراط
عدد فيه م: (لأن النجاسة حلت المحل باعتبار العين فتزول بزوالها) ش: أي
بزوال العين، وفي بعض النسخ بزواله بالضمير المذكر، أي بزوال العين أيضاً.
م: (إلا أن يبقى من أثرها ما يشق إزالته لأن الحرج مدفوع) ش: الكلام فيه في
مواضع: الأول: في الاستثناء. قال السغناقي ما ملخصه: أن المستثنى منه محذوف
غير مذكور لفظاً، لأن استثناء الأثر من العين لا يصح، لأنه ليس من جنسه
فكان تقديره؛ فطهارته زوال عينه وأثره، إلا أن يبقى من أثره ما يشق إزالته،
ثم استشكل بأن حذف المستثنى منه في المثبت فلا يجوز، فلا يقال: ضربني إلا
زيد، ثم استدرك ذلك بأن هذا لا يجوز عند استقامة المعنى، وعند عدم
الاستقامة يجوز بقولك: قرأت إلا يوم كذا، لأنه يجوز أن يقرأ الأيام كلها
إلا يوماً، بخلاف: ضربني إلا زيد، فإنه لا يستقيم أن يضربه كل ويستثني
زيداً، وهذا من قبيل ما يستقيم فيه المعنى، فإن قولك: فطهارته زوال عينه
وأثره في جميع الصور إلا في صورة تشق إزالة أثره، مستقيم، وهو
(1/737)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
صاحب " الدراية " أخذ هذا يومئذ في شرحه. وأما الأكمل فإنه قال: وهذا
استثناء العرض من العين فيكون منقطعاً.
قلت: لم يكن له حاجة إلى ادعاء حذف المستثنى منه ولا الاستشكال، والجواب
عنه بل الأوجه هنا أن يقول: إلا هاهنا استثناء من قوله: فتزول بزوالها.
والمعنى: فالنجاسة لا تبقى بزوال عينها كما حمل لفظ يأبى في قَوْله
تَعَالَى {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} [التوبة: 32]
(التوبة: 32) ، على معنى: لا يريد بهما بمعنى واحد، وكذلك هنا معنى قوله:
فتزول، فلا تبقى، فحينئذ وجد الشرط في هذا الاستثناء وهو كون الكلام غير
إيجاب، فيكون معنى فتزول النجاسة فلا تبقى النجاسة فتزول عنها إلا بقاء
أثرها الذي يشق إزالته، فإنه معنوي فيجيء كلام الأكمل وهو استثناء العرض من
العين فانتفى قول السغناقي، لأن استثناء الأثر من العين لا يصح.
الثاني: أن المراد من الأثر هو اللون والرائحة وتعريفهم المشقة بالاحتياج
في قلعه إلى شيء أخر نحو الصابون والحرص وغيرها، ومنه قال الأكمل: ما يشق
إزالته بالاحتياج إلى الإزالة إلى غير الماء كالصابون والأشنان.
قلت: هذا التفسير ليس بشيء لأن المعنى ليس على هذا، بل المعنى الذي يقتضيه
التركيب؛ عدم إزالة الأثر بالماء لا يضر، والدليل عليه «حديث خولة بنت يسار
سألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن دم الحيض، فقال:
"اغسليه" فقلت: فإن لم يخرج الدم؟، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "لا يضرك أثره» ، أخرجه أبو داود في رواية ابن الأعرابي
والبيهقي من طريقين.
وقال إبراهيم الحربي: لم يسمع بخولة بنت يسار إلا في هذا الحديث.
ورواه الطبراني في "الكبير " من حديث خولة بنت حكيم، ووهم ابن الأعرابي حيث
عزاه إلى أبي داود، وليس كذلك، فإن أبا داود إنما رواه من حديث خولة بنت
يسار كما ذكرنا، ولأن الأثر إذا لم يزل كان ذلك ضرورة فيسقط بهم حكم
النجاسة، ولأن الأثر عبارة عن اللون والنجاسة ما كانت باعتبار اللون بل
باعتبار العين والنتن وقدر الأقل.
فإن قلت: روى أبو داود عن معاذة قالت: سألت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
- عن الحائض يصيب ثوبها الدم، قالت: تغسله، فإن لم يذهب أثره فلتغيره بشيء
من صفرة، وفي رواية الدارمي: باصفرار الزعفران، فهذا يدل أن الاحتياج إلى
شيء غير الماء.
قلت هذا موقوف، وأيضاً فلا يدل على أن الاحتياج المذكور ضروري، وإنما أمرت
عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بذلك لتغيير اللون لا للإزالة، فإن ذلك
يشق وفيه حرج وهو مدفوع.
(1/738)
وهذا يشير إلى أنه لا يشترط الغسل بعد زوال
العين وإن زالت بالغسل مرة واحدة، وفيه كلام، وما ليس بمرئي فطهارته أن
يغسل حتى يغلب على ظن الغاسل أنه قد طهر، لأن التكرار لا بد منه للاستخراج
ولا يقطع بزواله فاعتبر غالب الظن كما في أمر القبلة، وإنما قدروا بالثلاث
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
فإن قلت روى أبو داود وغيره من «حديث أم قيس بنت محصن تقول: سألت النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن دم الحيض يكون في الثوب، قال:
"حكيه بضلع واغسليه بماء وسدر" ففيه إضافة سدر إلى الماء» .
قلت: إنما أمرها مبالغة في الإنقاء وقطع أثر دم الحيض لا غير، واسم أم قيس:
أميمة، قاله السهيلي، وقيل خزامة، ويعفى بقاء ريحه بعد زوال العين، قال
الكرخي في " شرح الجامع الصغير ": الثوب أصابته نجاسة كثيرة فغسل وبقيت
رائحتها لم يكن لها حكم، وقال الأترازي: في هذا الموضع إلا إذا بقي ما في
إزالته مشقة بأن لا يزول بالماء الصرف كاللون فيعفى عن ذلك «لقوله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في دم الحيض: "حتيه ثم اقرصيه ثم اغسليه
بالماء ولا يضرك أثره» .
قلت: ولم يبين أحد هذا الحديث ولا من خرجه ويحتج به تماماً. والحديث رواه
أبو داود من «حديث أسماء بنت أبي بكر، قالت: سألت امرأة رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرأيت إحدانا إذا أصاب ثوبها الدم من الحيضة كيف
تصنع؟ قال: "إذا أصاب إحداكن الدم من الحيض فلتقرصه ثم لتنضحه بالماء ثم
لتصل» " وليس فيه ولا يضرك أثره.
الموضوع الثالث: فيه إشارة إلى أن عين النجاسة إذا زالت بمرة واحدة لا
يحتاج إلى غسل بعده، أشار إليه بقول م: (وهذا) ش: أي لفظ القدوري م: (يشير
إلى أنه لا يشترط الغسل بعد زوال العين) ش: أي عين النجاسة م: (وإن زالت
بالغسل مرة واحدة) ش: كلمة إن واصلة بما قبله، والمعطوف عليه في الحقيقة
محذوف تقديره إن لم يزل وإن زالت م: (وفيه كلام) ش: أي اختلاف المشايخ.
وقال الهندواني والطحاوي: يغسل مرتين بعد زوال العين، وقال بعضهم: يطهر وإن
كانت بمرة واحدة كذا في " المبسوط " وفي " الجامع الكردري ": يغسل ثلاثاً
بعده، وكذا في فخر الإسلام: يغسل ثلاثاً بعد زوال العين، ذكره في " الجامع
الكبير " م: (وما ليس بمرئي) ش: أي النجس الذي لا يرى بالعين م: (فطهارته
أن يغسل حتى يغلب على ظن الغاسل أنه قد طهر) ش: لأن الظن أصل في الشرع.
فإن قلت: لو غسل الصبي أو المجنون طهر ولا ظن.
قلت: غسلهما مثل الماء الذي جرى على الثوب النجس وغلب على ظنهما زوال
نجاسته بزوال استعماله ولا نجاسة هاهنا.
م: (لأن التكرار لا بد منه للاستخراج ولا يقطع بزواله) ش: يعني لا يعلم
قطعاً ويقيناً بزوال ما ليس بمرئي م: (فاعتبر غالب الظن كما في أمر القبلة)
ش: إذا اشتبهت م: (وإنما قدروا بالثلاث) ش:
(1/739)
لأن غالب الظن يحصل عندهم فأقيم السبب
الظاهر مقامه تيسيرا، ويتأيد ذلك بحديث المستيقظ من منامه ثم لا بد من
العصر في كل مرة في ظاهر الرواية لأنه هو المستخرج
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
يعني إنما قدر المشايخ المتقدمون بالثلاث م: (لأن غالب الظن يحصل عندهم) ش:
أي عند الثلاث م: (فأقيم السبب الظاهر) ش: وهو الثلاث م: (مقامه) ش: بضم
الميم، أي مقام غالب الظن م: (تيسيراً) ش: أي جرى التيسير لأجل التيسير وهو
منصوب لأنه مفعول م: (ويتأيد ذلك) ش: أي يتأيد تقدير الثلاث م: (بحديث
المستيقظ من منامه) ش: وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
«إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً» وقد
مر هذا مع ما فيه من الأحكام والأبحاث في أول الكتاب، وقد شرط ثلاث في
النجاسة الموهومة، ففي النجاسة المتحققة أولى.
م: (ثم لا بد من العصر في كل مرة) ش: لأن العصر له قوة الاستخراج م: (في
ظاهر الرواية) ش: احترز به عما روي عن محمد في غير رواية الأصول أنه إذا
غسل ثلاثاً وعصر في الثالثة يطهر.
ثم اعلم أن اشتراط العصر فيما ينعصر بالعصر، أما فيما لا ينعصر كالحنطة إذا
تنجست بمائع والجرد والحديد والسكين المموه مما ينجس والحصير إذا تنجس فعند
أبي يوسف يغسل ثلاثاً ويجفف في كل مرة فيطهر، وقال محمد: لا يطهر أبداً لأن
النجاسة لا تزول إلا بالعصر، ولأبي يوسف أن التجفيف يقوم مقام العصر في
الاستخراج إذ لا طريق سواه. م: (لأنه هو المستخرج) ش: أي لأن العصر هو الذي
يستخرج النجاسة.
1 -
فروع: إذا انتضح من الغسالة المنفصلة من المرة الأولى وجب غسله ثلاثاً في
ظاهر المذهب، وفي رواية الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يغسل مرتين، وفي
المرة الثانية يغسل مرتين بعصر، وفي الثالثة مرة، وعند الشافعي والحنابلة
على اعتبار العدد، والنفع شرط عندهم في جميع النجاسات، ذكره ابن قدامة في "
المغني " والنووي.
وفي " شرح المهذب ": اغتسل جنب في عشر آبار أفسدها ولا يجزئه غسله عند أبي
يوسف، وعند محمد يخرج من الثانية طاهراَ سواء كان على بدنه نجاسة حقيقية،
أو لم يكن، فإن كانت على بدنه منها شيء فالمياه الثلاثة نجسة وما بعدها
مستعملة، وإن لم يكن فالمياه الثلاثة مستعملة، وكذا لو أدخل يده في عشر
أواني فطهر عندهما ولا يطهر عند أبي يوسف، وفي عشر جرار خل يطهر عند أبي
حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولا يطهر عند محمد.
كذا في " المحيط " وقعت فأرة في خمر وماتت ثم صارت خلاً، قيل يباح أكله،
وقيل: لا، وقيل: إن انتفخت لا يحل وإلا حل، هذا إذا أخرجت قبل أن يصير
الخمر خلاً، ولو صارت خلاً والفأرة فيها لا تحل.
ولو وقع الكلب في العصير ثم تخمر ثم تخلل يجب أن يكون نجساً، ولو وقع خرء
الفأرة
(1/740)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
في قفيز حنطة وطحنت لم يجز أكلها، ويفسد الدهن عند الحسن بن زياد.
وقال محمد بن مقاتل الرازي: لا يفسد الدهن ولا الحنطة ما لم يتغير طعمه.
وفي " المرغيناني ": يرمى خرء الفأرة من الخبز ويؤكل إذا كان صلباً. ولو
وقع في الدهن أو الماء لا يفسده، وكذا في الحنطة إذا كان قليلاً، وفي "
مسائل الشيخ الزاهد أبي حفص ": لا يفسد الخل ولا الزيت، وعن أبي إسحاق
الضرير: لو كان لي لشربته.
وبول الهرة نجس إلا قولاً شاذاً، والدودة الساقطة من السبيلين نجسة، وذكر
الفقيه أبو حفص في "غرائب الرواية ": أنها طاهرة، وإن سقطت من اللحم فهي
طاهرة أيضاً.
وجرة البعير بكسر الجيم وتشديد الراء ما يخرج من جوفه من الاجترار نجسة،
وبه قال الشافعي، والحمار لو شرب من العصير لا يجوز شربه، وقال محمد بن
مقاتل: لا بأس بشربه، وقال أبو الليث: هذا خلاف قول أصحابنا، وبخار النجاسة
إذا تجمد ثم سال نجس.
وقال في " المرغيناني ": لا ينجس في الصحيح. موضع الحجامة يمسح بثلاث خروق
رطاب، ويجزئه عن الغسل ذكره أبو الليث وعن أبي يوسف: يشترط غسله. الحصير
النجس إن كانت نجاسته يابسة دلكه، وإن كانت رطبة أجرى عليه الماء ثلاث
مرات، وفي " الذخيرة ": يطهر عند أبي يوسف - رَحِمَهُ اللَّهُ - خلافاً
لمحمد.
والبساط يجعل في نهر جار ليلة ليطهر العذرة إذا صارت تراباً، قيل: تطهر
كالحمار الميت إذا وقع في المملحة حتى صار ملحاً عند محمد. قال في الذخيرة:
عندهما وعند قول أبي يوسف نجس، وكذا السرقين والعذرة إذا أحرقت بالنار
وصارت رماداً فهي على هذا الخلاف.
وفي " الفتاوى ": رأس الشاة إذا أحرق حتى زال الدم تطهر، وكذا بلة التنور
النجسة تزول بالإحراق، وعند الشافعي: الأعيان النجسة لا تطهر بالإحراق
بالنار. وقال في الحضري منهم: رماد هذه الأشياء طاهرة، وفي دخان النجاسة
وجهان مشهوران عندهم.
وفي " الذخيرة ": لا توقيت في إزالة النجاسة إذا أصابت الحجر أو الآجر أو
الأواني بل يغسل حتى يغلب على ظن الغاسل طهارتها ولا يبقى لها رائحة ولا
طعم ولا لون وسواء كانت الآنية من خذف أو غيره أو كانت قديمة أو حديثة، وعن
محمد أن الخذف الجديد لا يطهر أبداً.
وفي " المرغيناني " حانة الخمر لو غسلت ثلاث مرات تطهر إذا لم تبق لها
رائحة الخمر، وإن بقيت فلا. ولو صب الماء في الخمر ثم صارت خلاً تطهر في
الصحيح.
الحنطة المتنجسة قبل أن تنتفخ تغسل ثلاثاً وتؤكل إذا لم يبق لها رائحة، ولا
طعم.
وفي " شرح الطحاوي ": لا يحل وهو قول محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وإن طبخت
بالخمر حتى
(1/741)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[ ... ] يطبخ بعده ثلاث مرات تنتفخ في كل مرة ويجفف بعد كل طبخة. وعند أبي
حنيفة: إذا طبخت بالخمر لا تطهر أبداً لقول محمد. ولو وقعت الحنطة في الخمر
ثم قلبت لا تطهر أبداً.
والدقيق إذا أصابته الخمر لا يؤكل وليس له حيلة.
وفي " الذخيرة ": صب خمر في قدر [به لحم] قبل الغليان يطهر اللحم بالغسل
ثلاثاً وبعده لا يطهر، وقيل: يغلى ثلاث مرات كل مرة بماء طاهر، ويجفف في كل
مرة ويجففه بالزبد. والخبز الذي عجن بالخمر لا يطهر بالغسل، ولو صب فيه
الخل وذهب أثرها يطهر. ولو صبغ يده بحناء نجس أو شعره بأن خلط ببول أو خمر
أو دم فغسله فزالت العين وبقي اللون فهو طاهر وهو الصحيح.
قال صاحب " الحاوي ": فإن قلنا: لا يطهر وكان عليها شعر كاللحية لا يلزمه
حلقها بل يصلي، فإذا اتصل أعاد الصلاة وكذا على البدن، وإن كان مما لا يصل
كالوسم فإن أمن التلف يلزمه قطعه، وإن جاوز وكان غيره أكرهه عليه تركه، وإن
كان هو الذي فعل فوجهان، ولو غسل يده من دهن نجس طهرت ولا يضره أثر الدهن
على الأصح.
ولو تنجس العسل يكفأ ويصب عليه الماء ويغلى حتى يعود إلى المقدار الأول،
هكذا يفعل ثلاثاً، وعلى هذا الدبس [ ... ] إذا اتزر في الحمام وصب الماء
على جسده ثم صب الماء على الإزار يحكم بطهارته.
امرأة سجرت التنور ثم مسحته بخرقة مبتلة نجسة ثم حرقت فيه، فإن أكلت حرارة
النار البلة قبل إلصاق الخبز بالتنور لا ينجس الخبز.
المسك حلال على كل حال يؤكل في الطعام ويجعل في الأدوية وإن كان أصله دماً
على ما قيل بعد. وأما الزناد إن كان لبن سنور، وفي " البحر ": طاهر عرق
سنور بري كما قيل: فهو عرق غير مأكول اللحم.
الذي صلى ومعه جلد حية أكثر من قدر الدرهم لا تجوز صلاته وإن كانت مذبوحة،
وأما قميص الحية ففيه اختلاف المشايخ، فقيل: إنه نجس، وقيل: إنه طاهر.
وأشار شمس الأئمة إلى الصحيح أنه طاهر. الماء الذي يسيل من فم النائم طاهر
في الأصح.
(1/742)
|