البناية شرح الهداية

كتاب الصلاة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
[كتاب الصلاة] [تعريف الصلاة]
م: (كتاب الصلاة)
ش: أي: هذا كتاب في بيان أحكام الصلاة، فارتفاع كتاب على أنه خبر مبتدأ محذوف، ويجوز أن يكون مبتدأ محذوف الخبر، أي كتاب الصلاة هذا، ويجوز نصب الكتاب على تقدير: خذ كتاب الصلاة. وقد مضى تفسير الكتاب في أول الكتاب.
ولما فرغ من بيان الطهارات التي فيها شروط الصلاة، شرع في بيان الصلاة التي هي مشروطة، فلذلك أخرها عن الطهارات لأن شرط الشيء يسبقه وحكمه تبع، ثم معنى الصلاة في اللغة العامة: الدعاء؛ قال الله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103] (التوبة: الآية 103) أي ادع لهم، وفي حديث إجابة الدعوة: «وإن كان صائما فليصل» أي فليدع بالخير والبركة، ومنه قول الأعشى:
وصهباء طاف يهود بها ... وأبرزها وعليها ختم
وقابلها الريح في دنها ... وصلى على دنها وارتسم
يصف الخمرة ودعا لها بالسلامة والبركة، والصهباء اسم من أسماء الخمر سميت بها للونها في الشعر، فإن الصهبة [حمرة] بين الشعر، قوله أبرزها أي أظهرها، قوله: وارتسم ضبطه الأترازي بالشين المعجمة وهو غلط، وإنما هو بالسين المهملة. قال الجوهري: في فصل: ارتسم الرجل كبر ودعى.
ثم قال الأعشى: وقابلها الريح إلى آخره، ومادته من الرسوم بالمهملة، وأما الرشم بالمعجمة فمعناه الختم، وهو قريب من معنى الرسم بالمهملة، ولكن هاهنا لا يصلح أن يكون قوله ارتشم بالمعجمة لأن معناه دعا عطفا على قوله: وصلى، ومضى أيضا معنى الختم في آخر البيت الأول، وسميت الصلاة الشرعية صلاة؛ لاشتمالها عليه، قالوا: هذا هو الصحيح، وبه قال الجمهور من أهل اللغة.
وقيل هي مشتقة من صليت العود على النار إذا قومته، قال النووي: وهذا باطل لأن لام الكلمة من الصلاة واو؛ بدليل الصلوات، وفي صليت ياء فكيف يصح الاشتقاق مع اختلاف الحروف الأصلية.
قلت: دعواه بالبطلان غير صحيحة لأن اشتراط اتفاق الحروف الأصلية في الاشتقاق الصغير دون الكبير والأكبر، وأيضا فإن الجوهري ذكر مادة صلى ثم قال: الصلاة الدعاء هو اسم يوضع موضع المصدر، تقول صليت صلاة، ولا يقال تصلية، وصليت على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،

(2/3)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
وصليت العصا بالنار إذا لينتها وقومتها، وقال قيس بن هير:
فلا تعجل بأمرك واستدمه ... فما صلى عصاك المستقيم
والمصلي تالي السابق، وصليت اللحم وغيره أصليه صليا مثال رميته رميا إذا شويته، وصلي فلان بالنار بالكسر يصلي صليا أحرق واصطليت بالنار وتصليت بها، وذكر غير ذلك، ولم يفرق بين الواوية والمادة اليائية، وفي الحقيقة ما يفرق بينهما إلا برد الكلمة إلى الجمع والتصغير.
فإن قلت: الصلاة لو كانت واوية كان ينبغي أن يقال صلوات ولم يقل ذلك.
قلت: هذا لا ينبغي أن تكون واوية لأنهم يقلبون الواو ياء إذا وقعت رابعة.
وقيل: الصلاة مشتقة من الصلوين تثنية الصلاة وهو ما عن يمين الذنب وشماله. قال الجوهري: قلت: هما العظمان الناتئان عن العجيزة. وقال المطرزي: الصلا هو العظم الذي عليه الأليتان، لأن المصلي يحرك صلويه في الركوع والسجود.
وقيل: مشتقة من المصلي وهو الفرس الثاني من خيل السباق، لأن رأسه قد تكون [عند صلا] السابق، وقيل: إن أصلها في اللغة التعظيم، وسميت المادة المخصوصة صلاة لما فيها من تعظيم الرب عز وجل، وقيل: من الرحمة، وقيل: من الشواء من قولهم شاة مصلية وهي التي قربت إلى النار، وقيل: من اللزوم.
قال الزجاج: يقال صلي واصطلى إذا لزم. وقيل: هي الإقبال على الشيء وأنكر غير واحد بعض هذه الاشتقاقات لأن لام الكلمة في الصلاة واو. وفي بعض هذه الأقوال ياء فلا يصح الاشتقاق مع اختلاف الحروف.
قلت: الجواب عنه ما ذكرته.
وأما معناها الشرعي: فهو أنها عبارة عن الأركان المعهودة والأفعال المخصوصة. قال الأكمل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: سميت بالصلاة لاشتمالها على المعنى اللغوي فهو من المنقولات الشرعية.
قلت: إذا كان فيها زيادة مع بقاء اللغة تكون تفسيرا لا نقلا لأنه لا يراعى المعنى اللغوي في النقل، وفي المعنيين يكون باقيا ولكنه زيد عليه شيء آخر.
1 -
وسبب وجوب الصلوات الخمس أوقاتها، وشرائطها ستة، الطهارة وستر العورة واستقبال القبلة، والوقت، والنية، وتكبيرة الإحرام. وإنما عد الوقت من الشروط مع أنه سبب لأنه شرط للأداء وسبب للوجوب. وأركانها، القيام والقراءة والركوع والسجود والقعدة الأخيرة مقدار

(2/4)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
التشهد، وحكمها سقوط الواجب بالأداء في الدنيا، وحصول الثواب الموعود في الآخرة.
وحكمتها تعظيم الله تعالى بجميع الأركان بالأعضاء ظاهرها وباطنها تنزها عن عبادة الأوثان قولا وفعلا وهيئة وثبوت نفس الصلاة بالكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب فقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] (النساء: الآية 102) ، أي فرضا مؤقتا، وغيرها من الآيات.
وأما السنة: فحديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا» . متفق عليه.
وأما الإجماع، فقد أجمعت الأمة من زمن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى يومنا هذا من غير نكير منكر ولا رد راد، فمن أنكر شرعيتها فقد كفر بلا خلاف.
وأما فرضية الخمس فقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] (البقرة: الآية 238) ، وهذه الآية قاطعة الدلالة على فرضية الخمس لأنه تعالى فرض جمعا من الصلوات والصلاة الوسطى معها وأقل جمع صحيح معه وسطى هو الأربع دون الثلاث، وما قيل: إن اللام إذا دخلت على الجمع يراد بها الجنس، لا يستقيم هاهنا لأنه إنما يراد به الجنس إذا لم يكن ثمة معهودة فهو منه، وهاهنا يرجع إلى المفروضات في الشرع. ولئن سلم حمله على الجنس لا يمكن حمله على أقل الجنس، هاهنا بالإجماع ولا على كله بالإجماع، فعلم أن المراد أقل الجمع الذي يصح به الوسطى خمس، وعلى قول أكثر أهل اللغة لا تصير للجنس بدخول اللام بل يبقى جمعا عاما في أنواع الجموع، وهو اختيار صاحب " الكشاف " و " المفتاح "، فحينئذ لا يرد الإشكال وهو قَوْله تَعَالَى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ} [الروم: 17] (الروم: الآية 17) أراد به المغرب والعشاء، وحين تصبحون أراد به الصبح وعشيا أراد به صلاة العصر وحين تظهرون الظهر.
وأما من السنة، فحديث طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب قال: «جاء إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجل من أهل نجد ثائر الرأس يسمع دوي صوته ولا يفهم ما يقول حتى دنى من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإذا هو يسأل عن الإسلام فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " خمس صلوات في اليوم والليلة "، فقال: هل علي غيرها؟ قال: " لا، إلا أن تطوع.» رواه البخاري ومسلم. قوله ثائر الرأس أي منتفش الشعر، وطلحة بن عبيد الله أحد العشرة المبشرة بالجنة، قتل يوم الجمل لعشر خلون من جمادى الأولى سنة ست وثلاثين، ودفن بالبصرة.
1 -
فإن قلت: متى فرضت الصلاة؟ وكيف فرضت؟

(2/5)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
قلت: جاء في " مسند الحارث بن أبي أسامة " من حديث أسامة بن زيد «أن جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أتاه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في أول ما أوحي إليه فعلمه الوضوء والصلاة» . وابن ماجه بلفظ: «علمني جبريل الوضوء» . وذكر الحربي أن الصلاة قبل الإسراء كانت صلاة قبل غروب الشمس، وصلاة قبل طلوعها. قال الله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [غافر: 55] (غافر: الآية 55) . وذكر الحكيم الترمذي: أن أول فرض كتب على هذه الأمة الصلاة، وأهلها مسئولون عنها يوم القيامة، في أول حشر من الحشور السبعة.
وفي " صحيح البخاري " عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «الصلاة حين فرضها ركعتين ركعتين في الحضر والسفر، فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر» . وفي " الصحيح «فرضت الصلاة بمكة ركعتين ركعتين فلما هاجر فرضت أربعا وأقرت في صلاة السفر ". وفي رواية " بعد الهجرة بسنة» ، وفي " مسند أحمد ": «فرضت ركعتان ركعتان إلا المغرب فإنها كانت ثلاثا» ". وقال ابن عمر وروي «عن ابن عباس أن الصلاة فرضت في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين» وبذلك قال نافع، وابن جبير، والحسن، وابن جريج، ولا خلاف في أن فرض الصلوات الخمس كانت ليلة المعراج، وروي البيهقي من طريق موسى بن عقبة عن الزهري أنه قال: أمر بها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل خروجه إلى المدينة بسنة، وعن [......] : فرض على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الخمس ببيت المقدس ليلة أسري به قبل ثمانية عشر شهرا، وقال القرطبي، وعياض: لا خلاف أن خديجة صلت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد فرض الصلاة وأنها توفيت قبل الهجرة بثلاث سنين، وقيل بخمس سنين. والعلماء مجمعون أن فرض الصلاة كان ليلة الإسراء.

فإن قلت: ما الحكم في كون الظهر والعصر والعشاء أربع ركعات، والصبح ركعتين، والمغرب ثلاثا؟
قلت: كل صلاة صلاها نبي؛ فالفجر صلاها آدم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حين خرج من الجنة، وأظلمت الدنيا عليه وجن الليل، فلما انشق الفجر صلى ركعتين الأولى: شكرا للنجاة من ظلمة الليل، والثانية: شكرا لرجوع ضوء ذلك النهار، فكان متطوعا عليه وفرضا علينا. والظهر صلاها إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حين أمر بذبح الولد وذلك عند الزوال. الأولى: شكرا لزوال غم الولد، والثانية لمجيء الفداء، والثالثة لرضى الله تعالى، والرابعة شكرا لصبر ولده، وكان متطوعا وفرض علينا. والعصر صلاها يونس - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حين أنجاه الله تعالى من أربع ظلمات: ظلمة الذلة، وظلمة البحر، وظلمة الحوت، وظلمة الليل. والمغرب صلاها عيسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الأولى لنفي الألوهية عن نفسه، والثانية: لنفي الألوهية عن أمه، والثالثة: لإثبات الألوهية لله

(2/6)


..
....
....
....
..
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[البناية]
تعالى. والعشاء صلاها موسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حين خرج من اليابس ودخل الطريق، وكان في غم المرأة، وغم أخيه هارون، وغم غرق فرعون، وغم أولاده، وشكرا لله تعالى حيث نجاه من الغرق وأغرق عدوه، فلما نجاه الله من ذلك كله، ونودي من شاطئ الوادي صلى أربعا شكرا تطوعا، فأمرنا بذلك لينجينا الله من شر الشيطان.

(2/7)